خطبه 3 صبحی صالح
3- و من خطبة له ( عليه السلام ) و هي المعروفة بالشقشقية و تشتمل على الشكوى من أمر الخلافة ثم ترجيح صبره عنها ثم مبايعة الناس له
أَمَا وَ اللَّهِ لَقَدْ تَقَمَّصَهَا فُلَانٌ وَ إِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنَّ مَحَلِّي مِنْهَا مَحَلُّ الْقُطْبِ مِنَ الرَّحَى
يَنْحَدِرُ عَنِّي السَّيْلُ وَ لَا يَرْقَى إِلَيَّ الطَّيْرُ
فَسَدَلْتُ دُونَهَا ثَوْباً وَ طَوَيْتُ عَنْهَا كَشْحاً
وَ طَفِقْتُ أَرْتَئِي بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بِيَدٍ جَذَّاءَ أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طَخْيَةٍ عَمْيَاءَ
يَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ وَ يَشِيبُ فِيهَا الصَّغِيرُ وَ يَكْدَحُ فِيهَا مُؤْمِنٌ حَتَّى يَلْقَى رَبَّهُ
ترجيح الصبر
فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى هَاتَا أَحْجَى
فَصَبَرْتُ وَ فِي الْعَيْنِ قَذًى وَ فِي الْحَلْقِ شَجًا
أَرَى تُرَاثِي نَهْباً
حَتَّى مَضَى الْأَوَّلُ لِسَبِيلِهِ فَأَدْلَى بِهَا إِلَى فُلَانٍ بَعْدَهُ
ثُمَّ تَمَثَّلَ بِقَوْلِ الْأَعْشَى
شَتَّانَ مَا يَوْمِي عَلَى كُورِهَا وَ يَوْمُ حَيَّانَ أَخِي جَابِرِ
فَيَا عَجَباً بَيْنَا هُوَ يَسْتَقِيلُهَا فِي حَيَاتِهِ إِذْ عَقَدَهَا لِآخَرَ بَعْدَ وَفَاتِهِ
لَشَدَّ مَا تَشَطَّرَا ضَرْعَيْهَا
فَصَيَّرَهَا فِي حَوْزَةٍ خَشْنَاءَ يَغْلُظُ كَلْمُهَا وَ يَخْشُنُ مَسُّهَا وَ يَكْثُرُ الْعِثَارُ فِيهَا وَ الِاعْتِذَارُ مِنْهَا
فَصَاحِبُهَا كَرَاكِبِ الصَّعْبَةِ إِنْ أَشْنَقَ لَهَا خَرَمَ وَ إِنْ أَسْلَسَ لَهَا تَقَحَّمَ
فَمُنِيَ النَّاسُ لَعَمْرُ اللَّهِ بِخَبْطٍ وَ شِمَاسٍ وَ تَلَوُّنٍ وَ اعْتِرَاضٍ
فَصَبَرْتُ عَلَى طُولِ الْمُدَّةِ وَ شِدَّةِ الْمِحْنَةِ
حَتَّى إِذَا مَضَى لِسَبِيلِهِ جَعَلَهَا فِي جَمَاعَةٍ زَعَمَ أَنِّي أَحَدُهُمْ
فَيَا لَلَّهِ وَ لِلشُّورَى مَتَى اعْتَرَضَ الرَّيْبُ فِيَّ مَعَ الْأَوَّلِ مِنْهُمْ حَتَّى صِرْتُ أُقْرَنُ إِلَى هَذِهِ النَّظَائِرِ
لَكِنِّي أَسْفَفْتُ إِذْ أَسَفُّوا وَ طِرْتُ إِذْ طَارُوا
فَصَغَا رَجُلٌ مِنْهُمْ لِضِغْنِهِ وَ مَالَ الْآخَرُ لِصِهْرِهِ مَعَ هَنٍ وَ هَنٍ
إِلَى أَنْ قَامَ ثَالِثُ الْقَوْمِ نَافِجاً حِضْنَيْهِ بَيْنَ نَثِيلِهِ وَ مُعْتَلَفِهِ
وَ قَامَ مَعَهُ بَنُو أَبِيهِ يَخْضَمُونَ مَالَ اللَّهِ خِضْمَةَ الْإِبِلِ نِبْتَةَ الرَّبِيعِ
إِلَى أَنِ انْتَكَثَ عَلَيْهِ فَتْلُهُ وَ أَجْهَزَ عَلَيْهِ عَمَلُهُ وَ كَبَتْ بِهِ بِطْنَتُهُ
مبايعة علي
فَمَا رَاعَنِي إِلَّا وَ النَّاسُ كَعُرْفِ الضَّبُعِ إِلَيَّ يَنْثَالُونَ عَلَيَّ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ
حَتَّى لَقَدْ وُطِئَ الْحَسَنَانِ وَ شُقَّ عِطْفَايَ
مُجْتَمِعِينَ حَوْلِي كَرَبِيضَةِ الْغَنَمِ
فَلَمَّا نَهَضْتُ بِالْأَمْرِ نَكَثَتْ طَائِفَةٌ وَ مَرَقَتْ أُخْرَى وَ قَسَطَ آخَرُونَ
كَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَ لا فَساداً وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ
بَلَى وَ اللَّهِ لَقَدْ سَمِعُوهَا وَ وَعَوْهَا وَ لَكِنَّهُمْ
حَلِيَتِ الدُّنْيَا فِي أَعْيُنِهِمْ وَ رَاقَهُمْ زِبْرِجُهَا
أَمَا وَ الَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَ بَرَأَ النَّسَمَةَ لَوْ لَا حُضُورُ الْحَاضِرِ وَ قِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ وَ مَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَى الْعُلَمَاءِ أَلَّا يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ وَ لَا سَغَبِ مَظْلُومٍ لَأَلْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا وَ لَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِهَا وَ لَأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هَذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ
قَالُوا وَ قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ السَّوَادِ عِنْدَ بُلُوغِهِ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ خُطْبَتِهِ فَنَاوَلَهُ كِتَاباً قِيلَ إِنَّ فِيهِ مَسَائِلَ كَانَ يُرِيدُ الْإِجَابَةَ عَنْهَا فَأَقْبَلَ يَنْظُرُ فِيهِ (فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَتِهِ) قَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَوِ اطَّرَدَتْ خُطْبَتُكَ مِنْ حَيْثُ أَفْضَيْتَ فَقَالَ هَيْهَاتَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ تِلْكَ شِقْشِقَةٌ هَدَرَتْ ثُمَّ قَرَّتْ
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَوَاللَّهِ مَا أَسَفْتُ عَلَى كَلَامٍ قَطُّ كَأَسَفِي عَلَى هَذَا الْكَلَامِ أَلَّا يَكُونَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ( عليهالسلام )بَلَغَ مِنْهُ حَيْثُ أَرَادَ
قال الشريف رضي اللّه عنه قوله ( عليهالسلام ) كراكب الصعبة إن أشنق لها خرم و إن أسلس لها تقحم يريد أنه إذا شدد عليها في جذب الزمام و هي تنازعه رأسها خرم أنفها و إن أرخى لها شيئا مع صعوبتها تقحمت به فلم يملكها يقال أشنق الناقة إذا جذب رأسها بالزمام فرفعه و شنقها أيضا ذكر ذلك ابن السكيت في إصلاح المنطق و إنما قال أشنق لها و لم يقل أشنقها لأنه جعله في مقابلة قوله أسلس لها فكأنه ( عليه السلام ) قال إن رفع لها رأسها بمعنى أمسكه عليها بالزمام
شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج2
المقصد الثاني فى الادلة العقليّة الدالة على إمامته عليه السّلام و هي كثيرة.
منها أنّ الامام يجب أن يكون معصوما و غير عليّ عليه السّلام لم يكن معصوما فتعين أن يكون هو الامام، أمّا الكبرى فبالاجماع منّا و من العامة، و أمّا الصغرى أعني وجوب عصمة الامام فلما قد مرّ في الاستدلال بقوله: «أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ» و محصل ما ذكرناه هناك أن طاعة اولى الامر واجبة مطلقا فلو لم يكن معصوما لم يؤمن منه الخطاء، فاما أن يجب متابعته عند صدوره منه، و إما أن يجب ردعه عنه و إنكاره منه، فعلى الاوّل يلزم أن يكون قد أمرنا اللّه سبحانه بالقبيح و هو محال، و على الثاني فيكون الانكار له مضادّا لوجوب طاعته، و أيضا الحاجة إلى الامام إنما هو لاقامة الحدود و الاحكام و حمل الناس على فعل الواجب و الكفّ عن الحرام و انتصاف حقّ المظلوم من الظالم و منع الظالم من الظلم، فلو جازت عليه المعصية و صدرت عنه انتفت هذه الفوائد و افتقر إلى إمام آخر و تسلسل، و يأتي في شرح الفصل الثامن من الخطبة المأة و الحادية و التسعين تقرير آخر لوجوب عصمة الامام إن شاء اللّه تعالى.
و منها أنّ الامام يجب أن يكون منصوصا و غير عليّ عليه السّلام لم يكن منصوصا بالاجماع فهو المتعينو إنما قلنا بوجوب التنصيص لما عرفت من انّ شرط الامام العصمة و هي من الامور الخفية التي لا يعلمها إلا اللّه تعالى و ايضا سيرة النبىّ صلّى اللّه عليه و آله تقتضى التنصيص، لانه اشفق بالامة من الوالد بولده و لهذا لم يقصر في إرشاد امور جزئية مثل ما يتعلّق بدخول المسجد و الخروج منه و لم يترك شيئا مما يحتاج إليه الامة إلا بيّنه حتى ارش الخدش و الجلدة و نصف الجلدة، و مع ذلك كيف يهمل أمرهم فيما هو من أهمّ الواجبات و أعظم المهمات و لا ينصّ على من يتولى أمرهم بعده و يأتي تقرير آخر إنشاء اللّه لوجوب النّص و لزومه في شرح الكلام المأة و الحادي و السّتين من النّقيب أبي جعفر البصري، و هو ألطف كلام و أمتن دليل نقله الشارح المعتزلي عن النّقيب هناك فليراجع ثمة.
هذا مضافا إلى أنّ اللّه تعالى قد أخبرنا باكمال الدّين و إتمام النعمة، و من المعلوم أنّ الامامة من تمام الدّين فمن زعم أن اللّه لم يكمل دينه فقد ردّ كتاب اللّه و من ردّ كتاب اللّه فهو كافر، و توضيح هذا الدّليل يظهر من رواية الكافي عن الرّضا عليه السّلام التي سبقت في آخر فصول الخطبة السّابقة عند شرح قوله عليه السّلام: و لهم خصايص حقّ الولاية، فارجع إليها تجدها في إثبات هذه الدّعوى كنزا مشحونا بأنواع الدّرر و الجواهر، و بحرا موّاجا ليس له ساحل.
و منها أنّ الامام لا بدّ أن يكون أفضل من رعيته
و غير عليّ عليه السّلام من الثلاثة لم يكن أفضل فتعين عليه السّلام، أمّا أنّ الامام لابدّ أن يكون أفضل فلأنّه لو لم يكن أفضل لا يخلو إمّا أن يكون مساويا أو مفضولا، أما المساوي فيستحيل تقديمه لأنّه يفضي إلى التّرجيح بلا مرجح، و أمّا المفضول فترجيحه على الفاضل يبطله العقل لحكمه بقبح تعظيم المفضول و إهانة الفاضل و رفع مرتبة المفضول و خفض مرتبة الفاضل،و هو بديهي عند العوام فضلا عن الخواص فانظر إلى عقلك هل يحكم بتقديم المبتدي في الفقه على مثل ابن عباس، و قد نصّ على إنكاره القرآن أيضا فقال تعالى: «أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ».
و قال «هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ».
و أمّا أنّ غير عليّ عليه السّلام لم يكن أفضل منه فبتسليم الخصم أعني الشّارح المعتزلي الذي عمدة مقصودنا من تمهيد هذه المقدّمة إبطال مذهبه الذي أشرنا إليه في صدر المقدّمة، حيث ذهب إلى كونه أفضل منهم، و قد قال في أوائل شرحه بعد ذكر اختلاف العامة في تفضيل الأربعة ما هذا لفظه: و أمّا نحن فنذهب إلى ما يذهب إليه شيوخنا البغداديّون من تفضيله عليه السّلام، و قد ذكرنا في كتبنا الكلاميّة ما معنى الأفضل و هل المراد به أكثر ثوابا أم الأجمع لمزايا الفضل و الخلال الحميدة، و بيّنا أنه عليه السّلام أفضل على التفسيرين معا، و ليس هذا الكتاب موضوعا لذكر اللّجاج في ذلك أو فى غيره من المباحث الكلاميّة لنذكره و لهذا موضع هو أليق به انتهى.
أقول: و لا بأس بأن نبسط الكلام في المقام ايضاحا للمرام و نذكر يسيرا من مناقب أمير المؤمنين و فضائله عليه السّلام رغما لانوف النّواصب اللّئام إذ الاستقصاء غير ممكن، كما روى الخطيب الخوارزمي و هو من أعيان علماء العامة باسناده إلى ابن عباس قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لو أنّ الرّياض أقلام و البحر مداد و الجنّ حسّاب و الانس كتاب ما أحصوا فضائل عليّ بن أبي طالب عليه السّلام.
و روى مثله من طريق الخاصة، و هو ما عن الصّدوق في أماليه باسناده عن سعيد بن جبير قال: أتيت عبد اللّه بن عبّاس فقلت: يابن عمّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إنّي جئتك أسألك عن عليّ بن أبي طالب عليه السّلام و اختلاف النّاس فيه، فقال ابن عباس: جئت تسألني عن خير خلق اللّه من الامة بعد محمّد صلّى اللّه عليه و آله جئت تسألنى عن وصيّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و وزيره و خليفته و صاحب حوضه و لوائه و شفاعته، و الذي نفس ابن عبّاس بيده لو كانت بحار الدّنيا مدادا و أشجارها أقلاما و أهلها كتّابا فكتبوا مناقب عليّ بن أبي طالب عليه السّلام و فضائله من يوم خلق اللّه عزّ و جلّ الدّنيا إلى أن يفنيها ما بلغوا معشار ما آتاه اللّه تبارك و تعالى.
فمن يقول عنه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ابن عباس مثل هذا كيف يمكن درك فضائله لكن ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه، و الميسور لا يسقط بالمعسور. فينبغى أن نورد شطرا منها ليعلم بذلك أفضليّته على غيره المقتضية لأحقيّته بالخلافة و الوصاية و استحقاقه عليه السّلام لها فقط دون غيره، لقبح ترجيح المرجوح على الرّاجح، و المفضول على الفاضل.
فأقول و باللّه التّوفيق: إنّ أمير المؤمنين عليه السّلام أفضل جميع امّة النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله بل أفضل جميع من فى الأرض بعد النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله من حيث كثرة الثّواب و من حيث جمعه للخصال الحميدة و الكمالات الذّاتيّة و الفضائل النّفسانية.
أمّا كثرة الثّواب فلظهور أنّ الثّواب مترتب على العبادة و بكثرتها و قلتها تتفاوت الثّواب و الجزاء زيادة و نقصانا، و ستعرف أنّه أعبد من الكل فيكون أكثر مثوبة و لو لم يكن له من العبادات إلّا ضربته يوم الخندق التي قال فيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّها أفضل من عبادة الثقلين، لكفى في إثبات هذا المرام فضلا عن ساير عباداته التي لا يضبطها الصّحف و الدّفاتر، و لا يحصيها الزّبر و الطوامير.
و أمّا الخصال الحميدة و الفضائل و الفواضل النّفسانية و ساير جهات الفضل فكثيرة جمّة.
منها سبقه إلى الاسلام
و قد صرّح به نفسه فى المختار السّابع و الثّلاثين بقوله أ ترانى أكذب على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لأنا أوّل من صدّقه، و فى المختار السّادس و الخمسين بقوله: فانّى ولدت على الفطرة و سبقت إلى الايمان و الهجرة، و تعرف تفصيل سبقته عليه السّلام إليه و تحقيقه فى شرح المختار إن شاء اللّه تعالى.
و أقول هنا: قد اعترف أبو بكر أيضا بمسابقته عليه السّلام إلى الاسلام منه فيما رواه أبو ذرعة الدّمشقى و أبو اسحاق الثعلبى فى كتابيهما أنّه قال ابو بكر: يا أسفا على ساعة تقدّمنى فيها عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، فلو سبقته لكان لى سابقة الاسلام.
و فى مناقب ابن شهر آشوب من أنساب الصّحابة عن الطبري التّاريخي، و المعارف عن القتيبى انّ أوّل من أسلم خديجة ثمّ عليّ ثمّ زيد ثمّ أبو بكر، يعقوب النسوي في التّاريخ، قال الحسن بن زيد: كان ابو بكر الرّابع فى الاسلام، تاريخ الطبري انّ عمر اسلم بعد خمسة و اربعين رجلا واحدى و عشرين امرأة و فى هذا المعنى قال الحميرى.
من كان وحّد قبل كلّ موحّد
يدعو الآله الواحد القهارا
من كان صلّى القبلتين و قومه
مثل النّواهق تحمل الأسفارا
و قال أيضا
من فضله انّه قد كان اول من
صلى و آمن بالرّحمن اذ كفروا
سبع سنين و اياما محرّمة
مع النّبى على خوف و ما شعروا
و له أيضا
ا لم يؤت الهدى و النّاس حيرى
فوحّد ربّه احد العليّا
و صلّى ثانيا فى حال خوف
سنين بحريث سبعا اسيّا
و قال آخر
ا ما لا يرون اقام الصّلاة
و توحيده و هم مشركونا
و يشهد ان لا اله سوى
ربّنا احسن الخالقينا
سنين كوامل سبعا ببيت
يناجى الاله له مستكينا
بذلك فضّله ربّنا
على اهل فضلكم اجمعينا
و منها المسابقة بالصّلاة
و ستعرف تفصيلها أيضا فى شرح المختار إن شاء اللّه تعالى.
و اقول هنا روى فى المناقب عن المرزبانى عن الكلبى عن ابى صالح عن ابن عباس فى قوله تعالى: «وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ».
نزلت فى عليّ عليه السّلام خاصّة و هو أوّل مؤمن و أوّل مصلّ بعد النّبىّ صلّى اللّه عليه و آله و فيه عن السّدى عن ابى مالك عن ابن عبّاس فى قوله: «وَ السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ».
فقال: سابق هذه الامة عليّ بن أبي طالب عليه السّلام.
و فيه من كتاب ابى بكر الشيرازى عن مالك بن انس عن سمى عن ابى صالح عن ابن عباس قال: «وَ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ».
نزلت في أمير المؤمنين عليه السّلام سبق النّاس كلّهم بالايمان و صلّى القبلتين و بايع البيعتين بيعة بدر و بيعة الرّضوان، و هاجر الهجرتين: مع جعفر من مكّة إلى حبشة و من حبشة إلى المدينة، و في هذا المعنى قال الحميري:
وصيّ رسول اللّه و الاول الذي
أناب الى دار الهدى حين أيفعا
غلاما فصلّى مستسرّا بدينه
مخافة ان يبغى عليه فيمنعا
بمكّة اذ كانت قريش و غيرها
تظلّ لاوثان سجودا و ركعا
و له ايضا
أ لم يصلّ عليّ قبلهم حججا
و وحّد اللّه رب الشّمس و القمر
و هؤلاء و من في حزب دينهم
قوم صلاتهم للعود و الحجر
و له أيضا
فانك كنت تعبده غلاما
بعيدا من اساف و من منات
و لا وثنا عبدت و لا صليبا
و لا عزى و لم تسجد للات
و منها السّبقة إلى البيعة
روى في المناقب عن ابن جبير أنّه لما نزل قوله تعالى: «وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ».
جمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بني هاشم و هم يومئذ أربعون رجلا و أمر عليّا أن ينضج رجل شاة و خبز لهم صاعا من طعام و جاء بعسّ من لبن ثمّ جعل يدخل إليه عشرة عشرة حتّى شبعوا، و إنّ منهم لمن يأكل الجذعة«» و يشرب الفرق.
و في رواية مقاتل عن الضّحاك عن ابن عباس أنّه صلّى اللّه عليه و آله قال: و قد رأيتم هذه الآية ما رأيتم و في رواية براء بن عازب و ابن عباس أنّه بدرهم أبو لهب فقال: هذا ما سحركم به الرّجل، ثمّ قال النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إني بعثت على الأسود و الأبيض و الأحمر إنّ اللّه أمرني أن أنذر عشيرتك الأقربين، و إني لا أملك لكم من اللّه شيئا إلا أن تقولوا لا إله إلا اللّه، فقال أبو لهب لهذا دعوتنا، ثمّ تفرّقوا عنه فنزلت: «تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَ تَبَّ».
ثمّ دعاهم دفعة ثانية و أطعمهم و سقاهم، ثمّ قال لهم يا بني عبد المطلب أطيعوني تكونوا ملوك الأرض و حكامها، و ما بعث اللّه نبيّا إلّا جعل له وصيّا أخا و وزيرا فأيكم يكون أخي و وزيري و وصيّي و وارثي و قاضي ديني، و في رواية الطبري عن ابن جبير عن ابن عباس فأيكم يوازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي و وصيّي و خليفتي فيكم، فأحجم القوم.
و في رواية أبي بكر الشيرازي عن مقاتل عن الضّحاك عن ابن عباس، و في سند العشرة و فضايل الصّحابة عن أحمد باسناده عن ربيعة بن ناجد عن علي عليه السّلام فأيكم يبايعني على أن يكون أخي و صاحبي فلم يقم إليه أحد و كان عليّ أصغر القوم يقول: أنا فقال في الثّالثة: أجل و ضرب بيده على يد أمير المؤمنين عليه السّلام و في تفسير الخركوشي عن ابن عباس و ابن جبير و أبي مالك، و في تفسير الثعلبى عن البراء بن عازب فقال عليّ عليه السّلام و هو أصغر القوم: أنا يا رسول اللّه، فقال أنت فلذلك كان وصيه قالوا: فقام القوم و هم يقولون لأبي طالب أطع ابنك فقد امر عليك، و قد نظمه السّيد الحميري بقوله:
و يوم قال له جبريل قد علموا
انذر عشيرتك الادنين ان بصروا
فقام يدعوهم من دون امّته
فما تخلّف عنهم منهم بشر
فمنهم آكل فى مجلس جذعا
و شارب مثل عسّ و هو محتقر
فصدّهم عن نواحى قصعة شبعا
فيها من الحبّ صاع فوقه الوزر
فقال يا قوم انّ اللّه ارسلنى
اليكم فاجيبوا اللّه و ادّكروا
فايكم يجتبى قولى و يؤمن بى
انى نبىّ رسول فانبرى«» عذر
فقال«» تبا أ تدعونا لتلفتنا
عن ديننا ثمّ قال القوم فانشمروا
من الذي قال منهم و هو أحدثهم
سنا و خيرهم فى الذكر اذ سطروا
آمنت باللّه قد اعطيت نافلة
لم يعطها احد جنّ و لا بشر
و انّ ما قلته حقّ و انّهم
ان لم يجيبوا فقد خانوا و قد خسروا
ففارقه تايها و اللّه اكرمه
فكان سبّاق غايات اذا ابتدروا
و قال آخر
فلمّا دعا المصطفى اهله
الى اللّه سرّا دعاه رفيقا
و لاطفهم عارضا نفسه
على قومه فجزوه عقوقا
فبايعه دون اصحابه
و كان لحمل اذاه مطيقا
و وحّد من قبلهم سابقا
و كان على كلّ فضل سبوقا
و اما العلم
فهو عليه السّلام ينبوعه و مصدره و مورده و مأواه و عنه اخذ العلوم جميعها و هو أبو عذرها و سابق مضمارها و النّاس كلهم عياله فى جميع فنونها و هو البحر المتراكم الزّخار و المتلاطم التّيار، و قد أشار عزّ و جلّ إلى غزارة علمه عليه السّلام بلسان الرّمز و الاشارة فى قوله: حمّ عسق، روى الصّفوانى فى الاحن و المحن عن الكلبى عن أبى صالح عن ابن عباس قال حم اسم من أسماء اللّه عسق علم علي سبق كلّ جماعة و تعالى عن كل فرقة بالكناية، و فى قوله: «قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً» الآية.
قال ابن شهر آشوب فى المناقب ما لفظه: محمّد بن مسلم و أبو حمزة الثّمالى و جابر بن يزيد عن الباقر عليه السّلام، و عليّ بن فضّال و الفضيل بن يسار عن الصّادق عليه السّلام، و أحمد بن محمّد الحلبى و محمّد بن الفضيل عن الرّضا عليه السّلام، و قد روى عن موسى ابن جعفر عليه السّلام، و عن زيد بن علي عليه السّلام، و عن محمّد بن الحنفيّة، و عن سلمان الفارسى و عن أبى سعيد الخدري، و عن إسماعيل السّدى أنّهم قالوا فى قوله: «قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ».
هو عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، فاذا انضمّ إلى ذلك قوله تعالى: «وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ».
يثبت كونه عليه السّلام عالما بجميع فنون العلم، قال العونى:
و من عنده علم الكتاب و علم ما
يكون و ما قد كان علما مكتما
و شهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أيضا له بالعلم فى قوله: عليّ عيبة علمى، و قوله صلّى اللّه عليه و آله عليّ أعلمكم علما و أقدمكم سلما، و قوله صلّى اللّه عليه و آله أعلم امّتى من بعدى عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، رواه فى المناقب عن عليّ بن هاشم و ابن شيرويه الدّيلمى باسنادهما إلى سلمان، و قال صلّى اللّه عليه و آله أيضا باجماع المخالف و المؤالف: أنا مدينة العلم و عليّ بابها فمن أراد العلم فليأت الباب، فى المناقب رواه أحمد من ثمانية طرق، و إبراهيم الثّقفى من سبعة طرق، و ابن بطة من ستّة طرق، و القاضى الجعابى من خمسة طرق، و ابن شاهين من أربعة طرق، و الخطيب التّاريخى من ثلاثة طرق، و يحيى بن معين من طريقين، و قد رواه السّمعانى و القاضى الماوردى و أبو منصور السّكرى و أبو الصلت الهروي و عبد الرّزاق و شريك عن ابن عباس و مجاهد و جابر، و نعم ما قيل:
هذا الامام لكم بعدي يسدّدكم
رشدا و بوسعكم علما و آدابا
إنّى مدينة علم اللّه و هو لها
باب فمن رامها فليقصد البابا
قال ابن شهر آشوب بعد روايته هذا الحديث: و هذا يقتضى وجوب الرّجوع إلى أمير المؤمنين عليه السّلام لأنّه صلّى اللّه عليه و آله كنّى عنه بالمدينة و أخبر أنّ الوصول إلى علمه من جهة علىّ عليه السّلام خاصة، لأنّه جعله كباب المدينة الذي لا يدخل إليها إلّا منه، ثمّ أوجب ذلك الأمر به بقوله: فليأت الباب، و فيه دليل على عصمته، لأنّه من ليس بمعصوم يصحّ منه وقوع القبح، فاذا وقع كان الاقتداء به قبيحا فيؤدّي إلى أن يكون صلّى اللّه عليه و آله قد أمر بالقبيح، و ذلك لا يجوز، و يدلّ أيضا أنّه أعلم الامة انتهى، أقول: و مثل هذا الحديث قوله تعالى: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَ الْحَجِّ وَ».
و قد مضى فى شرح الفصل الرّابع من الخطبة الاولى حديث شريف فى تفسير هذه الآية فليراجع ثمّة، و قد روى المخالف و المؤالف أيضا أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فتح له ألف باب من العلم يفتح من كلّ باب ألف باب، و إليه أشار الحميري بقوله:
عليّ أمير المؤمنين أخو الهدى
و أفضل ذى نعل و من كان حافيا
اسرّ اليه احمد العلم جملة
و كان له دون البرية داعيا
و دوّنه فى مجلس منه واحد
بألف حديث كلّها كان هاديا
و كلّ حديث من اولئك فاتح
له الف باب فاحتواها كما هيا
و فى المناقب النّقاش فى تفسيره قال ابن عباس: عليّ علم علما علمه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و رسول اللّه علمه اللّه، فعلم النّبيّ علم اللّه و علم عليّ من علم النّبيّ، و ما علمي و علم أصحاب محمّد فى علم عليّ إلّا كقطرة فى سبعة أبحر، الضّحاك عن ابن عباس قال: اعطي عليّ بن أبي طالب عليه السّلام تسعة أعشار العلم و أنّه لأعلمهم بالعشر الباقي فامّا قول عمر بن الخطاب و اعترافه بعلمه عليه السّلام فكثير رواه الخطيب في الأربعين قال: قال عمر: العلم ستّة أسداس لعليّ من ذلك خمسة أسداس، و للناس سدس، و لقد شاركنا في السّدس حتّى لهو أعلم به منّا، ابانة بن بطة كان عمر يقول فيما يسأله عن عليّ فيفرّج عنه: لا أبقاني اللّه بعدك، تاريخ البلادري لا أبقاني اللّه لمعضلة ليس لها أبو الحسن الابانة و الفايق أعوذ باللّه من معضلة ليس لها أبو الحسن، في المناقب و قد ظهر رجوعه إلى عليّ عليه السّلام في ثلاث و عشرين مسألة حتّى قال: «لَوْ لا عَليٌّ لَهَلَكَ عُمَرُ» و قد رواه الخلق منهم أبو بكر بن عبّاس «عياش ظ» و ابو المظفر السّمعاني قال الصّاحب:
هل في مثل فتواك اذ قالوا مجاهرة
لو لا عليّ هلكنا فى فتاوينا
خطيب خوارزم:
اذا عمر تخطأ في جواب
و نبّهه عليّ بالصّواب
يقول بعدله لو لا عليّ
هلكت هلكت في ذاك الجواب
هذا و قد مضى في شرح الفصل الرّابع من الخطبة السّابقة عند شرح قوله عليه السّلام: و عيبة علمه الاشارة الاجماليّة إلى ميزان علمه عليه السّلام.
و قد أفصح عن غزارة علمه بما رواه في التّوحيد عن الصّادق عن الباقر عليه السّلام في حديث طويل قال: و لم يجد جدّى أمير المؤمنين عليه السّلام حملة لعلمه حتّى كان يتنفس الصّعداء و يقول على المنبر: سلوني قبل أن تفقدوني فانّ بين الجوانح منّي علما جما هاه هاه ألا لا أجد من يحمله.
و أفصح عنه أيضا بقوله عليه السّلام في هذه الخطبة التي نحن في شرحها: ينحدر عنّي السيل و لا يرقى إلىّ الطير.
و عن إحاطته و كونه غير فاقد لشيء من فنون العلوم بقوله الذي ما زال عليه السّلام يقول: سلوني قبل ان تفقدوني.
و عن إحاطته بالاخبار الارضيّة بما يأتي في الخطبة الثّانية و التّسعين من قوله عليه السّلام: فاسالوني قبل أن تفقدونى فو الذي نفسي بيده لا تسألوني عن شيء فيما بينكم و بين السّاعة و لا عن فئة تهدى بآية و تضل بآية إلّا أنبئتكم بناعقها و قائدها و سائقها و مناخ ركابها و محط رحالها و من يقتل من اهلها قتلا و يموت منهم موتا.
و عن علمه بالأخبار السّماوية بل كونه عليه السّلام أخبر بها من الأخبار الأرضية بقوله في الخطبة المأة و الثّامنة و الثّمانين: أيّها النّاس سلوني قبل أن تفقدوني فلأنا بطرق السّماء أعلم منّي بطرق الأرض.
و عن إحاطته بالأخبار الغيبيّة خطبه المتضمّنة للاخبار عن الملاحم، و هى كثيرة مثل كلامه السّادس و الخمسين و يأتي إنشاء اللّه فى شرحه جملة من أخباره الغيبية، و هكذا الخطبة الثّانية و التّسعون و مثل الخطبة المأة و الخطبة المأة و الثمانية و العشرين إلى غير هذه ممّا لا نطيل بتعدادها.
و عن إحاطته بالكتب المنزلة بما رواه فى المناقب عن ابن البختري من ستّة طرق، و ابن المفضّل من عشر طرق، و إبراهيم الثقفى من أربعة عشر طريقا أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام قال بحضرة المهاجرين و الأنصار و أشار إلى صدره كيف ملاء علما لو وجدت له طالبا سلوني قبل أن تفقدوني هذا سفط العلم هذا لعاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هذا ما زقّنى رسول اللّه زقّا فاسألونى فانّ عندي علم الأولين و الآخرين، أما و اللّه لو ثنيت لي الوسادة ثمّ اجلست عليها لحكمت بين أهل التّوراة بتوراتهم و بين أهل الانجيل بإنجيلهم و بين أهل الزّبور بزبورهم و بين أهل الفرقان بفرقانهم حتّى ينادى كلّ كتاب بأنّ عليّا حكم فىّ بحكم اللّه، و فى رواية حتّى ينطق اللّه التّوراة و الانجيل، و فى رواية اخرى حتّى يزهر كلّ كتاب من هذه الكتب و يقول: يا ربّ إنّ عليّا قضى بقضائك ثمّ قال: سلونى قبل ان تفقدونى فو الذي فلق الحبّة و برء النسمة لو سألتمونى عن آية آية فى ليلة انزلت او فى نهار مكيها و مدنيها و سفريها و حضريها ناسخها و منسوخها و محكمها و متشابهها و تأويلها و تنزيلها لأخبرتكم هذا مجمل ما يتعلّق بجهات علمه عليه السّلام.
و أمّا التفصيل فاستمع لما يملاء عليك إن كنت طالبا للهدى مبتغيا رشدا، فأقول و باللّه التّوفيق: أمّا العلم الالهى فيظهر سبقه عليه السّلام فيه على الجميع من خطبه الشّريفة المتضمّنة للتّوحيد و المعرفة و تمجيد الحقّ الأوّل عزّ و جل باعتبار نعوت جلاله و صفات جماله لا سيّما الخطبة التسعون المعروفة بالأشباح، و الخطبة المأة و الخامسة و الثمانون التي تجمع من اصول العلم ما لا تجمعه خطبة، فراجع المقامين و انظر كيف خاض فى غمار عمّانه و غاص على فرائده و جمانه.
و أمّا علم التفسير و القرائة فيصحّ مسابقته فيه بما مرّ آنفا و بما تقدّم فى ثالث تذييلات الفصل السّابع عشر من الخطبة الاولى، و أقول: هنا مضافا إلى ما سبق: قال الشّارح المعتزلي: إذا رجعت إلى كتب التفسير علمت صحّة ذلك لأنّ أكثره عنه عليه السّلام و عن عبد اللّه بن عباس و قد علم الناس حال ابن عباس فى ملازمته له و انقطاعه إليه و أنّه تلميذه و خريجه و قيل له أين علمك من علم ابن عمّك، قال: كنسبة قطرة من المطر إلى البحر المحيط انتهى.
و قد روى عن ابن عباس أنّه قال: حدّثنى أمير المؤمنين عليه السّلام فى باء بسم اللّه الرّحمن الرّحيم من أوّل اللّيل إلى الفجر و لم يتمّ، و عن قوّة قال عليّ عليه السّلام لو شئت لأوقرت سبعين بعيرا فى تفسير فاتحة الكتاب، و عن فضائل العكبرى قال الشعبى: ما أحد أعلم بكتاب اللّه بعد نبيّ اللّه من عليّ بن أبي طالب عليه السّلام.
و فى المناقب القراء السّبعة إلى قراءته يرجعون، فأمّا حمزة و الكسائى فيقولان على قراءة علي و ابن مسعود و ليس مصحفهما مصحف ابن مسعود فهما إنّما يرجعان إلى علي عليه السّلام و يوافقان ابن مسعود فيما يجرى مجرى الاعراب، و قد قال ابن مسعود ما رأيت أحدا أقرء من عليّ بن أبي طالب للقرآن، و أمّا نافع و ابن كثير و أبو عمرو فمعظم قراءاتهم يرجع إلى ابن عباس، و ابن عباس قرء على ابى بن كعب و عليّ عليه السّلام و الذي قرأه هؤلاء القراء يخالف قراءة ابىّ فهو إذا مأخوذ عن علي عليه السّلام و أمّا عاصم فقرأ على أبى عبد الرّحمن السّلمى، و قال أبو عبد الرّحمن قرأت القرآن كله على عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، فقالوا: أفصح القراءات قراءة عاصم لأنه أتى بالأصل و ذلك أنّه يظهر ما ادغمه غيره و يحقّق من الهمز ما ليّنه غيره و يفتح من الالفات ما أماله غيره، و العدد الكوفي فى القرآن منسوب إلى عليّ عليه السّلام و ليس فى الصّحابة من ينسب إليه العدد غيره، و إنّما كتب عدد ذلك كلّ مصر من التّابعين.
و أمّا علم الفقه و الفروع فهو عليه السّلام مرجع الفقهاء كلهم فيه و عنه عليه السّلام تلقوه أمّا فقهاؤنا الامامية أنار اللّه برهانهم فحالهم ظاهر، و أمّا فقهاء العامة فقد قال الشارح المعتزلي كلّ فقيه فى الاسلام فهو عيال و مستفيد من فقهه، أمّا أصحاب أبى حنيفة كأبى يوسف و محمّد و غيرهما فأخذوا عن أبي حنيفة، و أمّا الشّافعى فقرأ على محمّد ابن الحسن فيرجع فقهه أيضا إليه، و أمّا أحمد بن حنبل فقرأ على الشافعي فيرجع فقهه أيضا إلى أبى حنيفة و قرء أبو حنيفة على جعفر بن محمّد عليهما السّلام، و قرء جعفر على أبيه و ينتهى الأمر إلى عليّ عليه السّلام، و أما مالك بن أنس فقرأ على ربيعة، و قرء ربيعة على عكرمة، و قرء عكرمة على عبد اللّه بن عباس، و قرء عبد اللّه بن عباس على علي عليه السّلام انتهى ما قاله الشارح.
و أقول: ما عند فقهاء العامة من الحقّ فى الفروع الفقهية فقد خرج من أمير المؤمنين و أولاده المعصومين عليهم السّلام، و ما عندهم من الباطل فقد نسجتها استحساناتهم العقلية و أقيستهم الباطلة و آراؤهم الفاسدة.
و قال في المناقب: إنّ جميع فقهاء أهل الأمصار إليه يرجعون و من بحره يغترفون أمّا أهل الكوفة و فقهاؤهم سفيان الثّوري و الحسن بن صالح بن حيّ و شريك بن عبد اللّه و ابن أبي ليلى و هؤلاء يقرعون المسائل و يقولون هذا قياس قول عليّ عليه السّلام و يترجمون الأبواب بذلك، و أمّا أهل البصرة و فقهاؤهم الحسن و ابن سيرين و كلاهما كانا يأخذان عمّن أخذ عن عليّ عليه السّلام، و ابن سيرين يفصح بأنه أخذ عن الكوفيّين، و عن عبيدة بن السّمانى و هو أخصّ النّاس بعليّ عليه السّلام، و أما أهل مكّة فأخذوا عن ابن عباس و عن عليّ عليه السّلام و قد أخذ عبد اللّه معظم علمه عنه عليه السّلام و امّا أهل المدينة فعنه عليه السّلام أخذوا، و قد صنّف الشّافعي كتابا مفردا في الدّلالة على اتّباع أهل المدينة لعليّ عليه السّلام و عبد اللّه، و قال محمّد بن الحسن الفقيه لو لا عليّ بن أبي طالب عليه السّلام ما علمنا حكم أهل البغى.
و أمّا علم المناظرة ففي الأخبار أنّ أوّل من سنّ دعوة المبتدعة بالمجادلة إلى الحقّ عليّ عليه السّلام، و قد ناظره الملاحدة و الزّنادقة في متناقضات القرآن فأجاب لهم بأجوبة متينة، و أجاب مشكلات مسائل الجاثليق حتّى أسلم، و قال عليه السّلام لرأس الجالوت لما قال له: لم تلبثوا بعد نبيّكم إلّا ثلاثين سنة حتّى ضرب بعضكم وجه بعض بالسّيف، فقال عليه السّلام: و أنتم لم تجف أقدامكم من ماء البحر حتّى قلتم لموسى عليه السّلام: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، روى أبو بكر بن مردويه في كتابه عن سفيان أنّه قال ما حاجّ عليّ عليه السّلام أحدا إلّا حجّه«» أقول: و يشهد بذلك الرّجوع إلى احتجاجاته المروية في كتاب الاحتجاج لأحمد بن أبي طالب الطبرسي و في مجلّد احتجاجات الأئمة عليه السّلام و مجلّد الفتن و المحن من البحار للمحدّث العلامة المجلسي (ره).
و أمّا القضاء و الفصل بين الخصوم فيدل على سبقه عليه السّلام فيه على الكلّ شهادة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله في حقه و قوله: أقضاكم عليّ، و يفصح عنه ما أخبر به عن نفسه فيما رويناه عنه قريبا من قوله لو ثنيت لي الوسادة ثم اجلست عليها لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم الحديث، و من قوله عليه السّلام الآتي في الكلام المأة و التاسع عشر: و عندنا أهل البيت أبواب الحكم و ضياء الأمر، و يدلّ عليه قضاياه عليه السّلام في الوقايع الاتفاقيّة بما يحتار في أكثرها العقول و سيأتي شطر منها في شرح هذه الخطبة و غيرها إنشاء اللّه تعالى و رجوع الصّحابة إليه عليه السّلام فيها مأثور مسطور، و قول عمر في مواطن كثيرة: لو لا عليّ لهلك عمر، معروف مشهور.
و أمّا علم الفصاحة و البلاغة فهو بارعه و حائز قصب السّبق في مضماره حتى قيل في وصفه: إنّ كلامه عليه السّلام فوق كلام المخلوق و دون كلام الخالق، و قد تقدم من الرّضي في ديباجة المتن وصفه بأنّه مشرع الفصاحة و موردها و منشأ البلاغة و مولدها و منه ظهر مكنونها و عنه اخذت قوانينها، و يشهد بذلك خطبته البارعة المدونة في هذا الكتاب و سنشير إلى بعض مزايا كلامه عليه السّلام في تضاعيف الشّرح إنشاء اللّه تعالى، و قد تقدم في ديباجة الشّرح الاشارة إلى بعضها على ما ساعد المجال قال ابن نباتة: حفظت من كلامه عليه السّلام ألف خطبة ففاضت ثمّ فاضت.
و أمّا علم النّجوم فيدل على براعته عليه السّلام فيه ما يأتي منه في الكلام الثامن و السّبعين و شرحه إنشاء اللّه تعالى من الأحكام النّجومية العجيبة لم يهتد إليها المنجمون.
و أمّا علم النّحو و الأدبيّة فقد اتّفق العلماء على أنّه عليه السّلام هو واضعه و مخترعه، قال أبو القاسم الزّجاجي في محكي كلامه عن أماليه: حدثنا أبو جعفر محمّد بن رستم الطبري، حدثنا أبو الحاتم السجستانيّ حدثنا يعقوب بن إسحاق الحضرمي حدثنا سعيد بن مسلم الباهلي حدّثنا أبي عن جدي عن أبي الأسود الدّئلي، قال: دخلت على عليّ بن أبي طالب عليه السّلام فرأيته متفكرا فقلت له: فيم تفكريا أمير المؤمنين قال عليه السّلام إنّي سمعت ببلدكم هذا لحنا فأردت أن أصنع كتابا في اصول العربيّة، فقلت: إن فعلت هذا أحييتنا و بقيت فينا هذه اللّغة، ثمّ أتيته بعد ثلاث فألقى إلىّ صحيفة فيها: بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الكلام اسم و فعل و حرف، فالاسم ما انبأ عن المسمّى، و الفعل ما انبأ عن حركة المسمّى و الحرف ما انبأ عن معنى ليس باسم و لا فعل، ثمّ قال عليه السّلام لي تتبعه و زد فيه ما وقع لك، و اعلم يا أبا الأسود أنّ الأشياء ثلاثة: ظاهر و مضمر و شيء ليس بظاهر و لا مضمر و إنّما تتفاضل العلماء فيما ليس بظاهر و لا مضمر قال أبو الأسود، فجمعت منه اشياء و عرضتها عليه عليه السّلام، فكان من ذلك حروف النّصب فذكرت منها إنّ و أنّ و ليت و لعل و كأنّ و لم أذكر لكنّ فقال عليه السّلام: لم تركتها: فقلت: لم أحسبها منها، فقال عليه السّلام: بلى هي منها فزدها فيها انتهى.
و أمّا علم الحساب فيدل على وفور علمه عليه السّلام فيه ما رواه في المناقب عن ابن أبي ليلى أنّ رجلين تغدّيا في سفر و مع أحدهما خمسة أرغفة و مع الآخر ثلاثة و واكلها ثالث فأعطاهما ثمانية دراهم عوضا فاختصما و ارتفعا إلى أمير المؤمنين عليه السّلام فقال هذا أمر فيه دنائة و الخصومة فيه غير جميلة و الصّلح فيه أحسن، فأبى صاحب الثّلاثة الّا مرّ القضاء فقال عليه السّلام: إذا كنت لا ترضى إلّا بمرّ القضاء فانّ لك واحدة من ثمانية و لصاحبك سبعة أليس كان لك ثلاثة ارغفة و لصاحبك خمسة قال: بلى قال: فهذه أربعة و عشرون ثلثا اكلت منها و الضّيف ثمانية فلما أعطاكما الثّمانية الدراهم كان لصاحبك سبعة و لك واحدة، و يأتي رواية هذه القضيّة بطريق آخر في تضاعيف الشّرح في موقعه بأبسط وجه إنشاء اللّه تعالى.
و أمّا علم الكيميا فهو أكثرهم حظا منه، قال في المناقب و قد سئل عن الصّنعة فقال عليه السّلام: هي اخت النّبوة و عصمة المروة و النّاس يتكلمون فيها بالظاهر و انا أعلم ظاهرها و باطنها، ما هي و اللّه إلّا ماء جامد و هواء راكد و نار جائلة و أرض سائلة، قال: و سئل في أثناء خطبته هي الكيميا يكون فقال عليه السّلام: كان و هو كائن و سيكون، فقيل من أيّ شيء هو فقال عليه السّلام: من الزيبق الرّجراج و الاسرب و الزّاج و الحديد المزعفر و زيخار النحاس الاخضر الحور «الحبور خ» الا توقف على عابرهن، فقيل فهمنا لا يبلغ إلى ذلك فقال عليه السّلام اجعلوا البعض أرضا و اجعلوا البعض ماء و افلحوا الأرض بالماء و قدتم فقيل زدنا يا أمير المؤمنين، فقال عليه السّلام لا زيادة عليه فانّ الحكماء القدماء ما زادوا عليه كيميا «كيماظ» يتلاعب به النّاس.
و أمّا زهده و طلاقه للدّنيا و رغبته بالكليّة عنهافهو من المتواترات القطعيّة أظهر و أبهر من الشّمس في رابعة النّهار، و يفصح عن ذلك و يبيّن عنه و تأتيك من سبإبنبإ يقين الخطب و الكلمات المدونة عنه فى هذا الكتاب و غيره المتضمنة لزهده عليه سلام اللّه ربّ العالمين ملأ السماوات و الأرضين و قد أقسم فيما يأتي من كلماته القصار بالقسم البارّ و قال: و اللّه لدنياكم هذه أهون فى عينى من عراق«» خنزير فى يد مجذوم، و قال فى الكلام المأتين و الثّانى و العشرين: و إنّ دنياكم عندى لأهون من ورقة فى فم جرادة تقضمها، ما لعليّ و لنعيم يفنى و لذة لا تبقى.
و فى المناقب المعروفون من الصّحابة بالورع عليّ و أبو بكر و عمرو بن مسعود و أبو ذر و سلمان و مقداد و عثمان بن مظعون و ابن عمر، و معلوم أنّ ابا بكر توفى و عليه بيت مال المسلمين نيف و أربعون ألف درهم، و عمر مات و عليه نيف و ثمانون ألف درهم، و عثمان مات و عليه ما لا يحصى كثرة، و عليّ مات و ما ترك إلا سبعمائة درهم فضلا عن عطائه أعدّها لخادم.
امالى الطوسي في حديث عمّار يا عليّ إنّ اللّه قد زينك بزينة لم يزين العباد بزينة أحبّ إلى اللّه منها، زيّنك بالزّهد في الدنيا و جعلك لا تزرء منها شيئا و لا تزرء منك شيئا، و وهبك حبّ المساكين فجعلك ترضى بهم أتباعا و يرضون بك إماما.
اللّؤلوئيات قال عمر بن عبد العزيز: ما علمنا أحدا كان في هذه الامة أزهد من عليّ بن ابي طالب عليه السّلام بعد النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و يروى أنه كان عليه وقت لا يكون عنده ثلاثة دراهم يشترى بها إزارا و ما يحتاج إليه ثمّ يقسم كلّ ما في بيت المال على النّاس ثمّ يصلّي فيه و يقول: الحمد للّه الذي أخرجني منه كما دخلته، و اتي إليه بمال فكوم كومة من ذهب و كومة من فضّة و قال يا صفراء اصفري يا بيضاء ابيضي و غرّي غيري،
هذا خباى «جناى خ» و خياره فيه و كلّ جان يده إلى فيه
الأشعث العبد قال: رأيت عليّا عليه السّلام اغتسل في الفرات يوم جمعة ثم ابتاع قميصا كرابيس بثلاثة دراهم فصلّى بالنّاس الجمعة و ما خيط جربانه بعد، و في فضائل أحمد راى على عليّ عليه السّلام إزار غليظ اشتراه بخمسة دراهم، و راي عليه إزار مرقوع فقيل له في ذلك فقال عليه السّلام يقتدي به المؤمنون و يخشع له القلب و تذل به النّفس و يقصد به المتابع، مسند أحمد و كان كمّه لا يجاوز أصابعه و يقول ليس للكمين على اليدين فضل، و نظر إلى فقير انخرق كمّ ثوبه فخرق كمّ قميصه و ألقاه إليه، مسند الموصلي الشّعبي عن الحارثي عن عليّ عليه السّلام قال: ما كان لي ليلة اهدى لي فاطمة شيء ينام عليه إلا جلد كبش، و اشترى ثوبا فأعجبه فتصدق به.
و أمّا العبادة و صالح الأعمال
فقد علم إجمالا بما قدّمناه في كونه أكثر ثوابا و أقول مضافا إلى ما سبق: إنّه عليه السّلام قد كان بالغا فيها غايتها، و كفى به شهيدا أنّه كان يؤخذ النّشاب من جسده عند الصّلاة و هو غير شاعر له لاستغراقه في شهود جمال الحق و فنائه في اللّه و انقطاعه لكليّته عمّن سواه، و كان السّجاد عليّ بن الحسين عليهما السّلام يصلي في اليوم و الليلة ألف ركعة ثم يأخذ صحف عبادات أمير المؤمنين عليه السّلام و ينظر ما فيها سيرا، ثم يتركها من يده كالمتضجر المتأسّف على تقصير نفسه في العبادة، و يقول: من يقدر على عبادة عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، و فيه نزل قوله تعالى: «تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَ رِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ».
روى ابن شهر آشوب في المناقب عن النّيسابوري في روضة الواعظين أنّه قال عروة بن الزّبير: سمع بعض التّابعين أنس بن مالك يقول: نزلت في عليّ بن أبي طالب عليه السّلام: «أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَ قائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَ يَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ» الآية.
قال الرّجل: فأتيت عليّا عليه السّلام وقت المغرب فوجدته يصلّي و يقرأ القرآن إلى أن طلع الفجر، ثمّ جدد وضوءه و خرج إلى المسجد و صلّى بالنّاس صلاة الفجر، ثم قعد في التّعقيب إلى أن طلعت الشّمس، ثم قصده النّاس فجعل يقضي بينهم إلى أن قام إلى صلاة الظهر فجدّد الوضوء ثم صلى بأصحابه الظهر، ثم قعد في التّعقيب إلى أن صلى بهم العصر، ثم كان يحكم بين النّاس و يفتيهم إلى أن غابت الشّمس، و فيه عن الباقر عليه السّلام في قوله تعالى: «إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ» قال: ذاك أمير المؤمنين عليه السّلام و شيعته «فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ» و فيه عن محمّد بن عبد اللّه بن الحسن عن آبائه عليهم السّلام و سدى عن أبي مالك عن ابن عباس و محمّد بن علي الباقر عليه السّلام في قوله تعالى: «وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ» و اللّه لهو عليّ بن أبي طالب عليه السّلام.
قال بعض السادات
مفرق الاحزاب ضرّاب الطلى
مكسّر الاصنام كشاف الغمم
الزّاهد العابد في محرابه
السّاجد الرّاكع في جنح الظلم
صام هجيرا و على سائله
جاد بافطار الصّيام ثمّ نم
و قال العبدى
و كم غمرة للموت للّه خاضها
و لجة بحر في الحكوم اقامها
و كم ليلة ليلا و للّه قامها
و كم صبحة مسجورة الحرّ صامها
و فيه أيضا عن عروة الزّبير قال تذاكرنا صالح الاعمال فقال ابو الدرداء اعبد النّاس عليّ بن ابي طالب عليه السّلام سمعته قائلا بصوت حزين و نغمة شجيّة في موضع خال الهى كم من موبقة حملتها «حلمتها خ» عني فقابلتها بنعمتك و كم من جريرة تكرمت علىّ بكشفها بكرمك الهى إن طال في عصيانك عمرى و عظم في الصحف ذنبى فما انا مؤمّل غير غفرانك و لا انا براج غير رضوانك ثمّ ركع ركعات فاخذ في الدّعاء و البكاء فمن مناجاته: الهى افكر في عفوك فتهون علىّ خطيئتى ثمّ اذكر العظيم من اخذك فيعظم علىّ بليتي ثم قال آه ان انا قرئت في الصحف سيئة انا ناسيها و انت محصيها فتقول خذوه فيا له من مأخوذ لا تنجيه عشيرته و لا تنفعه قبيلته يرحمه البلاء اذا اذن فيه بالنداء آه من نار تنضج الاكباد و الكلى آه من نار لواعة للشواء آه من غمرة من لهبات لظى ثمّ أنعم«» في البكاء فلم اسمع له حسا فقلت غلب عليه النوم اوقظه لصلاة الفجر فاتيته فان هو كالخشبة الملقاة فحركته فلم يتحرك فقلت انا للّه و انا اليه راجعون مات و اللّه عليّ بن ابي طالب عليه السّلام قال فأتيت منزله مبادرا انعاه اليهم فقالت فاطمة عليها السّلام ما كان من شأنه فاخبرتها فقالت هي و اللّه الغشية التي تأخذه من خشية اللّه تعالى، ثم اتوه بماء فنضحوه على وجهه فأفاق و نظر الىّ و انا ابكى فقال: مم بكائك يا ابا الدرداء فكيف و لو رأيتني و دعي بي إلى الحساب و ايقن اهل الجرائم بالعذاب و احوشتنى«» ملائكة غلاظ و زبانية فظاظ فوقفت بين يدي ملك الجبار قد أسلمتنى الاحبّاء و رحمنى اهل الدّنيا اشدّ رحمة لى بين يدي من لا يخفى عليه خافية.
و منها الشجاعة
و لقد كان أشجع النّاس و أنسى شجاعة من كان قبله و محا اسم من كان يأتي بعده و تعجّبت الملائكة من حملانه، و فيه قال النّبى صلّى اللّه عليه و آله لما خرج لقتال عمرو بن عبدود: برز الايمان كله إلى الشّرك كله، فلما قتله قال صلّى اللّه عليه و آله له: ابشر يا علي فلو وزن عملك اليوم بعمل امّتى لرجح عملك بعملهم، رواه فى المناقب لأحمد بن حنبل و النسائى عن ابن مسعود، و أنزل اللّه تعالى.
«وَ كَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ» بعليّ الآية، كما عن مصحف ابن مسعود، قال ربيعة السّعدي: أتيت حذيفة اليمان فقلت يا أبا عبد اللّه: إنا لنتحدث عن عليّ و مناقبه فيقول أهل البصرة: إنكم لتفرّطون فى عليّ فهل تحدثنى بحديث فقال حذيفة و الذي نفسى بيده لو وضع جميع أعمال امّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله فى كفّة الميزان منذ بعث اللّه محمّدا إلى يوم القيامة و وضع عمل عليّ عليه السّلام فى الكفّة الاخرى لرجح عمل عليّ على جميع أعمالهم، فقال ربيعة هذا الذي لا يقام له و لا يقوم، فقال حذيفة: يا لكع و كيف لا يحمل و إن كان أبو بكر و عمر و حذيفة و جميع أصحاب النّبي صلّى اللّه عليه و آله يوم عمرو بن عبدود و قد دعا إلى المبارزة فأحجم النّاس كلهم ما خلا عليّا، فانّه نزل إليه فقتله و الذي نفس حذيفة بيده لعمله ذلك اليوم أعظم أجرا من عمل أصحاب محمّد إلى يوم القيامة.
قال الشّارح المعتزلي: و كانت العرب تفتخر بوقوفها فى الحرب فى مقابلته، فأما قتلاه فافتخار رهطهم بأنّه عليه السّلام قتلهم أظهر و أكثر قالت اخت عمرو بن عبدود ترثيه
لو كان قاتل عمر و غير قاتله
بكيته ابدا ما دمت فى البلد
لكنّ قاتله من لا نظير له
و كان يدعى ابوه بيضة البلد
و فى غزاة احد انهزم المسلمون و خشى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ضربه المشركون بالسيوف و الرّماح و عليّ يدافع عنه فنظر إليه النّبي صلّى اللّه عليه و آله بعد إفاقته من غشيته و قال صلّى اللّه عليه و آله: ما فعل المسلمون فقال: نقضوا العهد و ولّوا الدّبر، فقال: اكفني أمر هؤلاء فكشفهم عنه و صاح صايح بالمدينة قتل رسول اللّه، فانهلعت القلوب و نزل جبرئيل قائلا لا سيف الا ذو الفقار و لا فتى إلا عليّ، و قال للنّبي صلّى اللّه عليه و آله يا رسول اللّه لقد عجبت الملائكة من حسن مواساة عليّ لك بنفسه، قال النّبي صلّى اللّه عليه و آله ما يمنعه عن ذلك و هو مني و أنا منه، إلى غير ذلك ممّا لا يحكيه قلم و لا يضبطه رقم، و ستطلع على فتوحاته و مجاهداته تفصيلا في مواقعها إنشاء اللّه، كما ستطلع على ساير مكارم أخلاقه و محاسن خصاله على حسب الاستطاعة و التمكن في مقاماته المناسبة، و لو أردنا شرح معشار فضايله و خصائصه لاحتجنا إلى افراد كتاب يماثل حجم هذا الكتاب بل يزيد.
قال الجاحظ في محكي كلامه و نعم ما قال حالكونه من أعظم النّاس عداوة لأمير المؤمنين عليه السّلام: صدق عليّ عليه السّلام في قوله: نحن أهل البيت لا يقاس بنا أحد كيف يقاس بقوم. منهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و الأطيبان عليّ و فاطمة، و السبطان الحسن و الحسين، و الشهيدان أسد اللّه حمزة و ذو الجناحين جعفر، و سيّد الورى عبد المطلب و ساقي الحجيج العباس و حامي النّبي و معينه و محبه أشدّ حبّا و كفيله و مربيه و المقر بنبوته و المعترف برسالته و المنشد في مناقبه أبياتا كثيرة، و شيخ قريش أبو طالب و النّجدة و الخير فيهم، و الأنصار من نصرهم، و المهاجرون من هاجر لهم و معهم، و الصّديق من صدّقهم، و الفاروق من فارق بين الحقّ و الباطل فيهم، و الحواري حواريهم، و ذو الشّهادتين لأنّه شهد لهم، و لا خير إلا فيهم و لهم و منهم و معهم، و أبان رسول اللّه أهل بيته بقوله: إنّي تارك فيكم الخليفتين كتاب اللّه حبل ممدود من السّماء إلى الأرض، و عترتي أهل بيتي نبأني اللّطيف الخبير أنّهما لن يفترقا حتّى يرد اعلىّ الحوض، و لو كانوا كغيرهم لما قال عمر لما طلب مصاهرة علي عليه السّلام إني سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول كل سبب منقطع يوم القيامة إلا سببي و نسبي فأمّا عليّ فلو أفردنا لفضائله الشّريفة و مقاماته الكريمة و درجاته الرّفيعة و مناقبه السّنية لأفنينا في ذلك الطوامير الطوال و الدّفاتر، العرق صحيح، و النّسب صريح، و المولد مكان معظم، و المنشأ مبارك مكرم، و الشّأن عظيم، و العمل جسيم و العلم كثير، و ليس له نظير، و البيان عجيب، و اللسان خطيب، و الصّدر رحيب، و أخلاقه وفق اعراقه، و حديثه يشهد على تقديمه انتهى.
و أنت اذا أحطت خبرا بما مهدناه في هذه المقدّمة عرفت فساد ما توهّمه النّواصب اللئام من عدم وجود النّص على إمامة أمير المؤمنين و سيد المتقين و يعسوب الدين و قائد الغرّ المحجلين عليه و على أولاده آلاف التّحية و السّلام، كما عرفت فساد القول بتفضيل غيره عليه، كما اتّفق لجماعة منهم، و كذا القول بتفضيله على غيره مع القول بصحة خلافة الثّلاثة و تقديمهم عليه كما هو مذهب الشّارح المعتزلي و من يحذو حذوه من معتزلة بغداد و غيرهم على ما حكي عنهم في أوائل الشّرح، و عمدة ما أوقعه كغيره في هذا الوهم الفاسد و الرّأى الكاسد ما ذكره في تضاعيف شرح هذهالخطبة و لا بأس أن نذكر كلامه بطوله ثم نتبعه بما يلوح عليه من ضروب الكلام و وجوه الملام.
فأقول: قال الشّارح خذله اللّه عند شرح قوله عليه السّلام: أما و اللّه لقد تقمصها إلى قوله: أرى تراثي نهبا، ما لفظه: إن قيل بيّنوا لنا ما عندكم في هذا الكلام أليس صريحه دالا على تظليم القوم و نسبتهم إلى اغتصاب الأمر فما قولكم في ذلك إن حكمتم عليهم بذلك فقد طعنتم فيهم، و إن لم تحكموا عليهم بذلك فقد طعنتم في المتكلم عليهم قيل: أمّا الاماميّة من الشّيعة فتجرى هذه الألفاظ على ظواهرها و تذهب إلى أن النّبيّ نصّ على أمير المؤمنين و أنّه غصب حقّه، و أمّا أصحابنا رحمهم اللّه قلهم أن يقولوا إنّه لما كان أمير المؤمنين هو الأفضل و الأحقّ و عدل عنه الى من لا يساويه في فضل و لا يوازيه فى جهاد و علم و لا يماثله في سودد و شرف ساغ اطلاق هذه الألفاظ و إن كان من وسم بالخلافة قبله عدلا تقيا و كانت بيعته بيعة صحيحة، ألا ترى أنّ البلد قد يكون فيه فقيهان أحدهما أعلم من الآخر بطبقات كثيرة فيجعل السّلطان الأنقص علما منهما قاضيا فيتوجد الأعظم و يتألم و ينفث احيانا بالشكوى و لا يكون ذلك طعنا في القاضي و لا تفسيقا له و لا حكما منه بأنّه غير صالح، بل للعدول عن الأحق و الأولى، و هذا أمر مركوز في طباع البشر و مجبول في أصل الغريزة و الفطنة، فاصحابنا لما أحسنوا الظن بالصّحابة و حملوا ما وقع منهم على وجه الصواب و أنّهم نظروا إلى مصلحة الاسلام و خافوا فتنة لا يقتصر على ذهاب الخلافة فقط، بل و يفضي إلى ذهاب النّبوة و الملة، فعدلوا عن الأفضل الأشرف الأحق إلى فاضل آخر دونه فعقدوا له، احتاجوا إلى تأويل هذه الألفاظ الصّادرة عمّن يعتقدونه في الجلالة و الرّفعة قريبا من منزلة النّبوة، فتأوّلوها بهذا التّأويل و حملوها على التألم للعدول عن الأولى، و ليس هذا بأبعد من تأويل الاماميّة قوله تعالى: «وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى»
و قولهم: معنى عصى انّه عدل عن الأولى، لأنّ الأمر بترك أكل الشّجرة كان أمرا على سبيل الندب فلما تركه آدم كان تاركا للأفضل و الأولى فسمّي عاصيا باعتبار مخالفة الأولى، و حملوا غوى على خاب لا على الغواية بمعنى الضّلال، و معلوم أنّ تأويل كلام أمير المؤمنين عليه السّلام و حمله على أنّه شكا من تركهم الأولى أحسن من حمل قوله تعالى: و عصى آدم، على أنّه ترك الأولى.
إن قيل: لا يخلو الصّحابة أن يكون عدلت عن الأفضل لعلة و مانع في الأفضل أولا لمانع فان كان لا لمانع كان ذلك عقدا للمفضول بالهوى فيكون باطلا، و إن كان لمانع و هو ما يذكرونه من خوف الفتنة و كون النّاس كانوا يبغضون عليّا و يحسدونه فقد كان يجب أن يعذرهم أمير المؤمنين عليه السّلام في العدول عنه و يعلم أنّ العقد لغيره هو المصلحة للاسلام، فكيف حسن منه أن يشكوهم بعد ذلك و يتوجد إليهم و أيضا فما معنى قوله: فطفقت أرتاي بين أن أصول بيد جذّاء، على ما تأوّلتم به كلامه فانّ تارك الأولى لا يصال عليه بالحرب.
قيل: يجوز أن يكون أمير المؤمنين لم يغلب على ظنّه ما غلب على ظنون الصّحابة من الشّغب و ثوران الفتنة، و الظنون يختلف باختلاف الامارات فربّ انسان يغلب على ظنّه أمر يغلب على ظنّ غيره خلافه، و أمّا قوله: أرتاي بين أن أصول، فيجوز أن يكون لم يعن به صيال الحرب، بل صيال الجدل و المناظرة، يبين ذلك أنّه لو كان جادلهم و أظهر ما في نفسه لهم فربما خصموه بأن يقولوا له: قد غلب على ظنوننا أنّ الفساد يعظم و يتفاقم إن وليت الأمر، و لا يجوز مع غلبة ظنوننا لذلك أن نسلّم الأمر إليك، فهو عليه السّلام قال: طفقت أرتاي بين أن أذكر لهم فضائلي عليهم و احاجّهم بها فيجيبوني بهذا الضّرب من الجواب الذي يصير حجتي بهم جذّاء مقطوعة و لا قدرة لى على تشييدها و نصرتها، و بين أن أصبر على ما منيت به و وقعت إليه.
إن قيل: إذا كان لم يغلب على ظنّه وجود العلّة و المانع فيه و قد استراد الصّحابة و شكاهم لعدولهم عن الأفضل الذي لا علة فيه عنده، فقد سلمتم أنّه ظلم الصّحابة و نسبهم إلى غصب حقّه فما الفرق بين ذلك و بين أن يظلمهم لمخالفة النّص و كيف هربتم من نسبته لهم إلى الظلم لدفع النّصّ و وقعتم في نسبته لهم إلى الظلم الخلاف الأولى من غير علّة في الأولى و معلوم أن مخالفة الأولى من غير علة في الأولى كتارك النّص، لأن العقد في كلا الموضعين يكون فاسدا قيل: الفرق بين الأمرين ظاهر لأنّه لو نسبهم إلى مخالفة النّص لوجب وجود النص، و لو كان النص موجودا لكانوا فساقا أو كفّارا لمخالفته، و أمّا إذا نسبهم إلى ترك الأولى من غير علة في الأولى فقد نسبهم إلى أمر يدعون فيه خلاف ما يدعي عليه السّلام واحد الأمرين لازم، و هو إمّا أن يكون ظنّهم صحيحا أو غير صحيح، فان كان ظنهم هو الصّحيح فلا كلام في المسألة، و إن لم يكن ظنهم صحيحا كانوا كالمجتهد إذا ظن و أخطأ، فانّه معذور و مخالفة النّص خارج عن هذا الباب لأنّ مخالفه غير معذور بحال فافترق المحملان، انتهى كلامه.
أقول: لا يخفى ما فيه من وجوه الجهل و ضروب التّجاهل اما أولا فلأنّ قوله: و إن كان من وسم بالخلافة عدلا تقيا، أوّل الكلام و ستطلع على فسق أسلافه عند التّعرّض لمطاعنهم حيثما بلغ الكلام محله إنشاء اللّه.
و اما ثانيا فلأنّ قوله: و كانت بيعته بيعة صحيحة، ممنوع إذ خلافة ابي بكر لم تنعقد إلّا باعتبار متابعة عمر بن الخطاب له برضاء أربعة: أبي عبيدة و سالم مولى حذيفة و بشر بن سعد و اسيد بن حصين لا غير، و قد تخلف عنها وجوه الصّحابة حسبما تعرفه في محله، و قد صرّح الشّارح في شرح قوله عليه السّلام: فصيرها في حوزة خشناء بأنّ استقرار الخلافة له لم يحصل إلّا بوجود عمر حيث قال: و عمر هو الذي شيّد بيعة أبي بكر و رقم المخالفين فيها فكسر سيف الزّبير لما جرّده و دفع في صدر المقداد و وطأ في السّقيفة سعد بن عبادة و قال: اقتلوا سعدا قتل اللّه سعدا و حطم أنف الحباب ابن المنذر الذي قال يوم السّقيفة: أنا جذيلها المحكك و عذيقها المرجب، و توعد
من لجأ إلى دار فاطمة من الهاشميين و أخرجهم منها، و لولاه لم يثبت لأبي بكر أمر و لا قامت له قائمة انتهى.
و هذا الكلام كما ترى صريح في أنّ عقد البيعة لأبي بكر لم يكن من إجماع الكلّ و اجتماعهم عن طوع و رغبة، و إنّما حصل عن تشييد عمر و تأسيسه، و على تقدير تسليم أن يكون أهل البيعة جماعة كثيرة فنقول: لاخفاء في أنّهم تابعون لتصرف الشّرع فيهم لا تصرف لهم في أنفس غيرهم من آحاد الامة و في أقل مهمّ من مهماتهم، فكيف يولون الغير على أنفس الخلايق منهم و من غيرهم، فانّ من لا يعقل له التّصرف في أقلّ الامور لأدنى الأشخاص كيف يكون له القدرة على جعل الغير متصرّفا في نفوس أهل الشّرق و الغرب و في دمائهم و أموالهم و فروجهم.
و هذا الذي ذكرناه إنّما هو على سبيل المماشاة و إلّا فقد صرّح صاحب المواقف و شارحه السيّد الشّريف بانعقاد البيعة بالواحد و الاثنين حيث قال: و إذا ثبت حصول الامامة بالاختيار و البيعة فاعلم أنّ ذلك الحصول لا يفتقر إلى الاجماع من جميع أهل الحلّ و العقد إذ لم يقم عليه أى على هذا الافتقار دليل من العقل أو السّمع، بل الواحد و الاثنان من أهل الحلّ و العقد كاف في ثبوت الامامة و وجوب اتباع الامام على أهل الاسلام، و ذلك لعلمنا بأنّ الصّحابة مع صلابتهم في الدين و شدّة محافظتهم على امور الشّرع كما هو حقها اكتفوا في عقد الامامة بذلك المذكور من الواحد و الاثنين كعقد عمر لأبي بكر و عقد عبد الرّحمان بن عوف لعثمان، و لم يشترطوا في عقدها اجتماع من في المدينة من أهل الحلّ و العقد فضلا عن إجماع الامة من علماء أمصار الاسلام و مجتهدي جميع أقطارها على هذا كما مضى و لم ينكر عليهم أحد، و عليه أى و على الاكتفاء بالواحد و الاثنين في عقد الامامة انطوت الأعصار بعدهم إلى وقتنا هذا انتهى.
و مع ذلك كله كيف يمكن أن يقال، ان: بيعة أبي بكر كانت بيعة صحيحة شرعيّة، و كيف يحلّ لمن يؤمن باللّه و اليوم الاخر ايجاب اتباع من لم ينص اللّه و رسوله، و لا اجتمعت الامة عليه على جميع الخلق لأجل مبايعة رجل واحد، و هل يرضى العاقل لنفسه الانقياد إلى هذا المذهب و أن يوجب على نفسه ذل الطاعة لمن لا يعرف عدالته و لا يدرى حاله من الايمان و عدمه و لا يعرف حقّه من باطله لأجل أن شخصا لا يعرف عدالته و معرفته بايعه، إن هو إلّا محض الجهل و الحمق و الضّلال عن سبيل الرّشاد.
و اما ثالثا فانّ قوله: ألا ترى أنّ البلداه، ظاهر هذا المثال بملاحظة تطبيقه مع الممثل يعطي أنّ تقديم أبي بكر إنّما حصل بفعل اللّه سبحانه، و هو ظاهر ما ذكره في خطبة الشّرح من قوله: و قدّم المفضول على الأفضل لمصلحة اقتضاها التكليف، و حينئذ فيتوجه عليه أولا أنّه مناف لما صرّح به بعد ذلك: من أنّ الصّحابة نظروا إلى مصلحة الاسلام فعدلوا من الأفضل الأشرف، حيث إن المستفاد منه أنّ تقديمه إنّما كان بفعل الصّحابة لا بفعل اللّه و ثانيا أنّه يستلزم أن يقدم اللّطيف الخبير المفضول المحتاج إلى التكميل على الفاضل الكامل و هو مع أنّه قبيح عقلا و نقلا افتراء عليه سبحانه، و قد قال تعالى: «أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ» و قال: «أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَ قائِماً» و ثالثا أنّه لو كان هذا التّقديم من اللّه لم يصحّ لعليّ عليه السّلام الشكاية مطلقا لانّها حينئذ يكون ردّا على اللّه و الرّد على اللّه على حدّ الشرك باللّه.
و اما رابعا فانّ قوله: و أنّهم نظروا إلى مصلحة الاسلام اه، ممنوع بل نقول إنّ تقديمهم له إنّما نشأ من حبّ الجاه و الرّياسة و عداوة لامام الامة كما يكشف عنه قول طلحة حين كتب أبو بكر وصيّة لعمر بالولاية و الخلافة: و ليته أمس و لاك اليوم.
و قال الغزالي في كتابه المسمّى بسرّ العالمين على ما حكاه عنه غير واحد في مقالة الرّابعة التي وضعها لتحقيق أمر الخلافة بعد عدة من الأبحاث و ذكر الاختلاف ما هذه عبارته: لكن اسفرت الحجة وجهها و أجمع الجماهير على متن الحديث من خطبته صلوات اللّه عليه في يوم غدير باتّفاق الجميع و هو يقول: من كنت مولاه، فعلي مولاه، فقال عمر: بخّ بخّ يا أبا الحسن لقد أصبحت مولاى و مولى كل مؤمن و مؤمنة فهذا تسليم و رضاء و تحكيم، ثمّ بعد هذا غلب الهوى لحبّ الرّياسة و حمل عمود الخلافة و عقود البنودو خفقان الهواء في قعقعةالرّايات و اشتباك ازدحام الخيول و فتح الامصار سقاهم كأس الهوى فعادوا إلى الخلاف الأول فنبذوا الحقّ وراء ظهورهم و اشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون.
و اما خامسا فلأنّ تمثيله بالآية لا وجه له، إذ ارتكاب التّأويل في الآية الشّريفة بحمل العصيان فيها على ترك الأولى و حمل الغيّ على الخيبة إنّما هو من أجل قيام الأدلة القاطعة و البراهين السّاطعة من العقل و النّقل على عصمة الأنبياء عليهم السّلام حسبما عرفت تفصيلا في التذنيب الثّالث من تذنيبات الفصل الثّاني عشر من فصول الخطبة الاولى، و أمّا فيما نحن فيه فمجرّد حسن الظن بالصّحابة لا يوجب ارتكاب التّأويل و رفع اليد عمّا هو ظاهر في التّظلم و التشكّي بل صريح في الطعن و اغتصاب الخلافة.
و اما سادسا فانّ الجواب عن الاعتراض الذي ذكره بقوله: قيل: يجوز أن يكون أمير المؤمنين عليه السّلام لم يغلب على ظنه ما غلب على ظنون الصّحابة، تكلف بارد إذ كيف يمكن أن يجهل عليّ الذي هو باب مدينة العلم و دار الحكمة بما عرفه عامة الخلق مع جهالتهم و انحطاط درجاتهم منه في العلم من الثرى إلى الثريا و لا سيّما انّ هذه الخطبة ممّا خطب عليه السّلام بها في أواخر عمره الشّريف كما يشهد به مضمونها، فهب أنّه لم يغلب على ظنه في أوّل الأمر ما غلب على ظنون الصّحابة إلّا أنّه كيف يمكن أن يخفى عليه في هذه السّنين المتطاولة ما ظهر على الصّحابة في بادي الرّأي.
فان قلت: هذه الخطبة منه حكاية حال ماضية و لا تنافي اطلاعه على ما اطلع عليه الصحابة بعد هذه الحال.
قلت: المنافاة واضحة إذ اللّازم عليه بعد اطلاعه بما ظنوه أن يعذرهم و يعتذر عنهم و لا يتكلم بمثل هذا الكلام الحاكي عن سوء فعالهم و الكاشف عن قبح أعمالهم، و يأتي لهذا إن شاء اللّه مزيد تحقيق في شرح الكلام المأتين و الرّابع عشر.
و أما سابعا فانّ ما أجاب به بقوله: و أما قوله: أرتأي بين أن أصول، فيجوز أن يكون لم يعن به صيال الحرب بل صيال الجدل و المناظرة، فاسد جدّا.
أما أولا فلأنّ ظاهر الكلام هو الصيّال بالحرب مؤيدا بما هو صريح كلامه عليه السّلام في الخطبة السّادسة و العشرين و هو قوله: فنظرت فاذا ليس لي معين إلّا أهل بيتي فضننت بهم عن الموت و اغضيت على القذى و شربت على الشّجى و صبرت على أخذ الكظم و على أمرّ من طعم العلقم، و قد قال الشّارح هناك: فأمّا قوله: لم يكن لي معين إلّا أهل بيتي فضننت بهم عن الموت، فقول ما زال عليه السّلام يقوله: و لقد قاله: عقيب وفاة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله، قال: لو وجدت أربعين ذوي عزم، ذكر ذلك نصر بن مزاحم في كتاب صفّين و ذكره كثير من أرباب السّيرة انتهى.
و أمّا ثانيا فلأنّه عليه السّلام قد ذكر فضائله و مناقبه و النّصوص الواردة فيه و احتج بها يوم السّقيفة كما ستعرفه في محلّه، فلم يصبر عن الاحتجاج بها حتّى يقول فصبرت و في العين قذى و في الحلق شجى، و كيف كان فقد تحصل ممّا ذكرنا كله أنّ تكلّفات الشّارح و تأويلاته فاسدة جدّا و تطلع على فسادها زيادة على ما ذكر في تضاعيف الكتاب إن ساعدنا التّوفيق و المجال إنشاء اللّه.
إلى هنا تم الجزء الثاني من هذه الطبعة النفيسة البهية، و قد تصدى لتصحيحه و تهذيبه العبد «السيد ابراهيم الميانجى» عفى عنه و وقع الفراغ فى اليوم الخامس عشر من شهر رجب الاصب سنة 1378 و يليه الجزء الثالث، و اوله: «المقدمة الثالثة» و الحمد للّه كما هو أهله
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»