google-site-verification: googledc28cebad391242f.html
1-20 خطبه شرح وترجمه میر حبیب الله خوئیخطبه ها شرح و ترجمه میر حبیب الله خوئی

نهج البلاغه خطبه ها خطبه شماره 3/1 (شرح میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»)معروفة بالشقشقية قسمت اول مقدمه

خطبه 3 صبحی صالح

 و من خطبة له ( عليه‏ السلام ) و هي المعروفة بالشقشقية و تشتمل على الشكوى من أمر الخلافة ثم ترجيح صبره عنها ثم 

مبايعة الناس له

أَمَا وَ اللَّهِ لَقَدْ تَقَمَّصَهَا فُلَانٌ وَ إِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنَّ مَحَلِّي مِنْهَا مَحَلُّ الْقُطْبِ مِنَ الرَّحَى
يَنْحَدِرُ عَنِّي السَّيْلُ وَ لَا يَرْقَى إِلَيَّ الطَّيْرُ
فَسَدَلْتُ دُونَهَا ثَوْباً وَ طَوَيْتُ عَنْهَا كَشْحاً
وَ طَفِقْتُ أَرْتَئِي بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بِيَدٍ جَذَّاءَ أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طَخْيَةٍ عَمْيَاءَ
يَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ وَ يَشِيبُ فِيهَا الصَّغِيرُ وَ يَكْدَحُ فِيهَا مُؤْمِنٌ حَتَّى يَلْقَى رَبَّهُ

ترجيح الصبر

فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى هَاتَا أَحْجَى
فَصَبَرْتُ وَ فِي الْعَيْنِ قَذًى وَ فِي الْحَلْقِ شَجًا
أَرَى تُرَاثِي نَهْباً
حَتَّى مَضَى الْأَوَّلُ لِسَبِيلِهِ فَأَدْلَى بِهَا إِلَى فُلَانٍ بَعْدَهُ
ثُمَّ تَمَثَّلَ بِقَوْلِ الْأَعْشَى

شَتَّانَ مَا يَوْمِي عَلَى كُورِهَا
وَ يَوْمُ حَيَّانَ أَخِي جَابِرِ

فَيَا عَجَباً بَيْنَا هُوَ يَسْتَقِيلُهَا فِي حَيَاتِهِ إِذْ عَقَدَهَا لِآخَرَ بَعْدَ وَفَاتِهِ
لَشَدَّ مَا تَشَطَّرَا ضَرْعَيْهَا
فَصَيَّرَهَا فِي حَوْزَةٍ خَشْنَاءَ يَغْلُظُ كَلْمُهَا وَ يَخْشُنُ مَسُّهَا وَ يَكْثُرُ الْعِثَارُ فِيهَا وَ الِاعْتِذَارُ مِنْهَا
فَصَاحِبُهَا كَرَاكِبِ الصَّعْبَةِ إِنْ أَشْنَقَ لَهَا خَرَمَ وَ إِنْ أَسْلَسَ‏ لَهَا تَقَحَّمَ
فَمُنِيَ النَّاسُ لَعَمْرُ اللَّهِ بِخَبْطٍ وَ شِمَاسٍ وَ تَلَوُّنٍ وَ اعْتِرَاضٍ
فَصَبَرْتُ عَلَى طُولِ الْمُدَّةِ وَ شِدَّةِ الْمِحْنَةِ
حَتَّى إِذَا مَضَى لِسَبِيلِهِ جَعَلَهَا فِي جَمَاعَةٍ زَعَمَ أَنِّي أَحَدُهُمْ
فَيَا لَلَّهِ وَ لِلشُّورَى مَتَى اعْتَرَضَ الرَّيْبُ فِيَّ مَعَ الْأَوَّلِ مِنْهُمْ حَتَّى صِرْتُ أُقْرَنُ إِلَى هَذِهِ النَّظَائِرِ
لَكِنِّي أَسْفَفْتُ إِذْ أَسَفُّوا وَ طِرْتُ إِذْ طَارُوا
فَصَغَا رَجُلٌ مِنْهُمْ لِضِغْنِهِ وَ مَالَ الْآخَرُ لِصِهْرِهِ مَعَ هَنٍ وَ هَنٍ
إِلَى أَنْ قَامَ ثَالِثُ الْقَوْمِ نَافِجاً حِضْنَيْهِ بَيْنَ نَثِيلِهِ وَ مُعْتَلَفِهِ
وَ قَامَ مَعَهُ بَنُو أَبِيهِ يَخْضَمُونَ مَالَ اللَّهِ خِضْمَةَ الْإِبِلِ نِبْتَةَ الرَّبِيعِ
إِلَى أَنِ انْتَكَثَ عَلَيْهِ فَتْلُهُ وَ أَجْهَزَ عَلَيْهِ عَمَلُهُ وَ كَبَتْ بِهِ بِطْنَتُهُ

مبايعة علي‏

فَمَا رَاعَنِي إِلَّا وَ النَّاسُ كَعُرْفِ الضَّبُعِ إِلَيَّ يَنْثَالُونَ عَلَيَّ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ
حَتَّى لَقَدْ وُطِئَ الْحَسَنَانِ وَ شُقَّ عِطْفَايَ
مُجْتَمِعِينَ حَوْلِي كَرَبِيضَةِ الْغَنَمِ
فَلَمَّا نَهَضْتُ بِالْأَمْرِ نَكَثَتْ طَائِفَةٌ وَ مَرَقَتْ أُخْرَى وَ قَسَطَ آخَرُونَ
كَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَ لا فَساداً وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ‏
بَلَى وَ اللَّهِ لَقَدْ سَمِعُوهَا وَ وَعَوْهَا وَ لَكِنَّهُمْ‏حَلِيَتِ الدُّنْيَا فِي أَعْيُنِهِمْ وَ رَاقَهُمْ زِبْرِجُهَا
أَمَا وَ الَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَ بَرَأَ النَّسَمَةَ لَوْ لَا حُضُورُ الْحَاضِرِ وَ قِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ وَ مَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَى الْعُلَمَاءِ أَلَّا يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ وَ لَا سَغَبِ مَظْلُومٍ لَأَلْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا وَ لَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِهَا وَ لَأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هَذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ
قَالُوا وَ قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ السَّوَادِ عِنْدَ بُلُوغِهِ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ خُطْبَتِهِ فَنَاوَلَهُ كِتَاباً قِيلَ إِنَّ فِيهِ مَسَائِلَ كَانَ يُرِيدُ الْإِجَابَةَ عَنْهَا فَأَقْبَلَ يَنْظُرُ فِيهِ (فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَتِهِ) قَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَوِ اطَّرَدَتْ خُطْبَتُكَ مِنْ حَيْثُ أَفْضَيْتَ فَقَالَ هَيْهَاتَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ تِلْكَ شِقْشِقَةٌ هَدَرَتْ ثُمَّ قَرَّتْ

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَوَاللَّهِ مَا أَسَفْتُ عَلَى كَلَامٍ قَطُّ كَأَسَفِي عَلَى هَذَا الْكَلَامِ أَلَّا يَكُونَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ( عليه‏السلام )بَلَغَ مِنْهُ حَيْثُ أَرَادَ
قال الشريف رضي اللّه عنه قوله ( عليه‏السلام ) كراكب الصعبة إن أشنق لها خرم و إن أسلس لها تقحم يريد أنه إذا شدد عليها في جذب الزمام و هي تنازعه رأسها خرم أنفها و إن أرخى لها شيئا مع صعوبتها تقحمت به فلم يملكها يقال أشنق الناقة إذا جذب رأسها بالزمام فرفعه و شنقها أيضا ذكر ذلك ابن السكيت في إصلاح المنطق و إنما قال أشنق لها و لم يقل أشنقها لأنه جعله في مقابلة قوله أسلس لها فكأنه ( عليه ‏السلام ) قال إن رفع لها رأسها بمعنى أمسكه عليها بالزمام

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج2  

و من خطبة له عليه السّلام و هى الخطبة الثالثة المعروفة بالشقشقية

نسبة لها إلى ما عبر به عنها و هو لفظة الشّقشقية، حيث قال عليه السّلام: تلك شقشقة هدرت اه، و ربّما تعرف بالمقمصة أيضا من حيث اشتمالها على لفظ التقمّص الوارد في أوّلها، و هو نظير التّعبير عن السّور بأشهر ألفاظها كالبقرة و آل عمران و الرّحمن و الواقعة و غير ذلك،

و لا بدّ قبل الشروع في المقصود من تمهيد مقدّمات

الاولى إنّه قد وقع الخلاف بين علماء الخاصة و كثير من علماء العامة في أنّ هذه الخطبة من كلام الامام عليه السّلام أو من كلام الرّضيّ رضي اللّه عنه.

أمّا الخاصّة فالظاهر اتّفاقهم على الأوّل، و لم يظهر لى إلى الآن من ينكر كونها منه عليه السّلام، و قد نقلها جمع كثير من المحققين من الفقهاء و المتكلّمين و المحدّثين و غيرهم في مؤلفاتهم من دون إشارة إلى خلاف فيها منهم.

و أمّا العامة فكثير منهم ذهبوا إلى الثّاني و أنكروا كونها من كلامه عليه السّلام نظرا إلى ما اشتملت عليه من التّظلم و الشكاية في أمر الامامة و دلالتها على اغتصاب الخلافة، و قد أفرط بعضهم و قال: إنّه عليه السّلام لم يصدر منه شكاية قط و لا كلام في هذا الأمر أصلا.

و منهم من أذعن بكونها منه عليه السّلام إلّا أنّه على زعمه الفاسد أوّل المطاعن المشتملة عليها على وجه لا يوجب القدح في سلفهم، و من هؤلاء الفرقة القاضي عبد الجبار البغدادي و الشّارح المعتزلي حسبما تعرفه في كلامه الذي نحكيه.

أقول: و الحقّ أنّه لا غبار على كونها منه عليه السّلام و لا معنى لانكار ذلك.

أمّا أولا فلشهادة فصاحتها و حسن اسلوبها و بديع نظمها على أنّها كلام فوق كلام المخلوق و دون كلام الخالق، فهي بنفسها شاهد صدق على أنّها صادرة من مصدر الامامة و معدن الولاية.

و أمّا ثانيا فلضعف مستند المنكر إذ الألفاظ المشتملة على التّظلم و الشكاية قد صدرت منه عليه السّلام فوق حد الاحصاء، كما يشهد به ملاحظة أخبار السقيفة و غيرها، و المناقشة بينه عليه السّلام و بين المتخلّفين في أمر الخلافة ممّا صارت من الضروريات لا ينكره إلّا جاهل أو متجاهل.

و أمّا ثالثا فلأنّ هذه الخطبة قد وجدت في كتب جماعة من العامة و الخاصة صنّفت قبل زمن الرّضي.

قال الشّارح البحراني: قد وجدتها في موضعين تاريخهما قبل مولد الرّضيّ بمدّة أحدهما أنّها مضمنة كتاب الانصاف لأبي جعفر بن قبة تلميذ أبي القاسم الكعبي أحد شيوخ المعتزلة و كانت وفاته قبل مولد الرّضيّ الثاني أني وجدتها بنسخة عليها خط الوزير أبي الحسن عليّ بن محمّد بن الفرات، و كان وزير المقتدر باللّه و ذلك قبل مولد الرّضيّ بنيف و ستين سنة، و الذي يغلب على ظني أنّ تلك النسخة كانت كتبت قبل وجود ابن الفرات بمدة انتهى.

و قال الشّارح المعتزلي حدّثني شيخي أبو الخير مصدّق بن شبيب الواسطي في سنة ثلاث و ستمائة، قال: قرأت على الشّيخ أبي محمّد عبد اللّه بن أحمد المعروف بابن الخشاب هذه الخطبة، فقلت له: أتقول إنّها منحولة فقال: لا و اللّه، و إنى لأعلم أنّه كلامه كما أعلم أنّك مصدّق، قال: فقلت: له إنّ كثيرا من النّاس يقولون: إنّها من كلام الرّضيّ، فقال: أنى للرضيّ و لغير الرّضيّ هذا النّفس و هذا الاسلوب، قد وقفنا على رسايل الرّضيّ و عرفنا طريقته و فنّه في المنثور و ما يقع مع هذا الكلام في خلّ و لا خمر، قال: و اللّه لقد وقفت على هذه الخطبة في كتب صنّفت قبل أن يخلق الرضيّ بمأتي سنة، و لقد وجدتها مسطورة بخطوط أعرفها و أعرف خطوط من هي من العلماء و أهل الأدب قبل أن يخلق النّقيب أبو محمّد والد الرّضىّ.

قال الشّارح: قلت: و قد وجدت أنا كثيرا من هذه الخطبة فى تصانيف شيخنا أبى القاسم البلخى إمام البغداديين من المعتزلة و كان فى دولة المقتدر قبل أن يخلق‏الرضيّ بمدة طويلة، و وجدت أيضا كثيرا منها فى كتاب أبي جعفر بن قبة أحد متكلّمي الاماميّة و هو الكتاب المشهور المعروف بكتاب الانصاف، و كان أبو جعفر هذا من تلامذة الشيخ أبى القاسم البلخى و مات فى ذلك العصر قبل أن يكون الرضيّ (ره) موجودا، انتهى.

و قال المحدّث العلامة المجلسى (ره) فى البحار و من الشواهد على بطلان تلك الدعوى الواهية الفاسدة أنّ القاضى عبد الجبار الذي هو من متعصبي المعتزلة قد تصدّى فى كتابه المبنى لتأويل بعض كلمات الخطبة و منع دلالتها على الطعن فى خلافة من تقدّم عليه و لم ينكر استناد الخطبة إليه، و ذكر السيّد المرتضى رضي اللّه عنه كلامه فى الشّافى و زيّفه و هو أكبر من أخيه الرضيّ (ره) و قاضى القضاة متقدّم عليهما، و لو كان يجد للقدح فى استناد الخطبة إليه مساغا لما تمسك بالتّأويلات الرّكيكة فى مقام الاعتذار و قدح كما فعل فى كثير من الروايات المشهورة، و كفى للمنصف وجودها في تصانيف الصّدوق (ره) و كانت وفاته سنة تسع و عشرين و ثلاثمأة، و كان مولد الرضيّ سنة تسع و خمسين و ثلاثمأة، انتهى كلامه (ره) و يشهد به أيضا رواية المفيد لها في كتاب الارشاد، و هو (ره) شيخ الرّضيّ و استاده.

فقد ظهر و استبان ممّا ذكرنا كله أنّه لا وجه لانكار كون الخطبة منه عليه السّلام، و ظني أنّ من أنكر ذلك إنّما أنكره من حيث إنّه رأى صراحتها في الطعن على المنتحلين للخلافة لا جرم بادر إلى الانكار كي لا يلتزم بمقتضاها كما هو دأبهم و ديدنهم في اكثر النّصوص المفيدة لانحصار الخلافة فيه عليه السّلام، أو للطعن في غيره و كفى بذلك إنكار بعضهم حديث الغدير المتواتر الذي قاله النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله بمحضر سبعين ألفا من المهاجر و الأنصار و الحاضر و الباد، و ليت الشّارح المعتزلي أنكرها أيضا من أصلها كي يستريح من تكلّفاته الفاسدة و تأويلاته الباردة التي ارتكبها لرفع العار و الشّناعة عن الثلاثة و لن يصلح العطار ما أفسد الدّهر.

الثانية اعلم أنّه قد طال التّشاجر بين الخاصّة و العامة في مسألة الامامة

فاختلفوا تارة في أنّ نصب الامام بعد انقراض زمن النّبوة هل هو واجب على اللّه أم علينا عقلا أو سمعا و ثانية في أنّ العصمة هل هي لازمة للامام أم لا و ثالثة في أنّ الامام هل يجب أن يكون أفضل من رعيّته و رابعة في أنّ الامام بعد الرّسول صلّى اللّه عليه و آله من هو إلى غير ذلك من المسائل التي صارت معركة للارآء بين علماء الاسلام، و تفصيلها موكول إلى علم الكلام و لا حاجة لنا إلى إشباع الكلام فيها.

و إنّما المقصود بالبحث في هذه المقدّمة هو انّ الشّارح المعتزلي مع قوله بأفضليّة أمير المؤمنين عليه السّلام و اختياره تفضيله على المتخلّفين الثلاثة بأىّ معنى حمل الأفضل أعنى الأكثر ثوابا أم الاجمع لمزايا الفضل و الخلال الحميدة و مع مبالغته و مزيد اصراره في ديباجة الشّرح في تشييد مبانى هذا الأصل و تاسيس اساسه أنكر فرع ذلك الأصل كشيوخه البغداديّين، و ضاعت منه ثمرة هذه الشّجرة و التزم بترجيح المرجوح على الرّاجح، و تقديم المفضول على الأفضل مع كونه قبيحا عقلا و نقلا.

و أسند ذلك القبيح تارة إلى اللّه سبحانه و تعالى كما قال في خطبة الشّرح: و قدّم المفضول على الأفضل لمصلحة اقتضاها التكليف، و أسنده اخرى إلى أنّ الامام عليه السّلام بنفسه قدّم غيره على نفسه لما تفرّس من اضطراب دعائم الاسلام مع عدم التّقديم له من حيث ضغن العرب و حقدهم له و وجود السخايم في صدورهم.

و قد كرّر ذلك الكلام في تضاعيف الشّرح و بالغ فيه شدّة المبالغة كمبالغته في إنكار النّصّ الجليّ على إمامة أمير المؤمنين عليه السّلام و ذهابه إلى أنّ استحقاقه عليه السّلام الخلافة إنّما كان من أجل الأفضلية لا من جهة التّنصيص و وجود النّص به من اللّه أو من النّبي صلّى اللّه عليه و آله من حيث قصور النّصوص عن الدّلالة على رأيه الفاسد و نظره الكاسد أو التزامه بتأويلها مع تسليمه صراحتها نظرا إلى قيام الدّليل القطعي على زعمه على خلافها و هو الاجماع المنعقد على خلافة الأوّل و كون بيعته بيعة صحيحة شرعيّة إلى غير ذلك من المزخرفات التي طوس منها شرحه و شيّد بها مذهبه.

و قد ذكر منها شطرا يسيرا في ذيل الخطبة السّابقة حسبما عرفت هناك و لفّق منها كثيرا في شرح هذه الخطبة و غيرها من الخطب الآتية، و قد التزمنا في شرحنا ذلك أن ننبّه على هفواته و نكشف عن خطاياه و زلّاته بقدر الامكان على حسب ما يقتضيه المقام.

و لما كان بسط الكلام في كلّ ما زلّ فيه قدمه أو طغى فيه قلمه يوجب الاطالة و الاطناب أحببنا أن نذكر في هذه المقدّمة أصلا كافيا يرجع إليه، و دليلا وافيا يعتمد عليه في إبطال جميع ما ذهب إليه ينتفع به في شرح هذه الخطبة و سابقتها، و يسهل الحوالة إليه في شرح الخطبة التّالية ممّا احتيجت إلى الاحالة فيها، فالمقصود في هذه المقدّمة هو إثبات خلافة أمير المؤمنين عليه السّلام و إقامة الدّليل على انحصار الخلافة بالنّقل و العقل كليهما. فأقول و باللّه التكلان و هو المستعان: إنّ هنا مقصدين.

المقصد الاول في الأدلة النّقلية و النّصوص اللّفظية

و هي على قسمين.

القسم الاول الآيات القرآنية

و هي كثيرة لا تحصى و نحن نذكر منها طايفة ممّا هي اقوى دلالة و أثبت حجة.

منها آية الولاية

قوله تعالى: «إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ». تقريب الاستدلال أنّ الوليّ قد جاء في اللّغة تارة بمعنى النّاصر و المعين، كقوله تعالى: «الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ».

و اخرى بمعنى المتصرف و الأحقّ به و الأولى بذلك، و من ذلك السلطان وليّ من لا وليّ له و قوله صلّى اللّه عليه و آله: أيّما امرأة نكحت بغير إذن وليها، و لا يجوز أن يراد به في الآية

المعنى الأول، إذ الولاية بذلك المعنى عامة لجميع المؤمنين كما يشهد به الآية السّابقة، فلا بدّ أن يكون المراد به المعنى الثّاني كي يستقيم الحصر المستفاد من كلمة إنّما، فاذا ثبت أنّ المراد به الأولى بالتصرف فالمراد به أمير المؤمنين عليه السّلام لا غير.

أما أولا فللاجماع المركب. إذ كلّ من قال: إنّ المراد بالآية هو الشخص الخاص بمقتضى كلمة الحصر فقد قال: إنّ المراد به هو عليّ عليه السّلام.

و أمّا ثانيا فللاجماع على أنّ ايتاء الزكاة في حال الرّكوع لم يكن إلّا في حقّ عليّ عليه السّلام، فتكون الآية مخصوصة به و دالة على إمامته.

و أمّا ثالثا فلاتفاق المفسرين على ما حكاه شارح التّجريد القوشجي على أنها نزلت في حقه عليه السّلام حين أعطى السّائل خاتمه و هو راكع في صلاته، و مثله ابن شهرآشوب في كتاب الفضائل حيث قال في محكي كلامه: اجتمعت الامة على أنّ هذه الآية نزلت في أمير المؤمنين عليه السّلام انتهى.

و أمّا رابعا فلدلالة الأخبار المتظافرة بل المتواترة من العامة و الخاصة على نزولها فيه عليه السّلام، و قد نقل السيّد المحدّث العلامة السيّد هاشم البحراني في كتاب غاية المرام من طرق العامة أربعة و عشرين حديثا في نزولها فيه عليه السّلام، و من طريق الخاصّة تسعة عشر حديثا، من أراد الاطلاع فليرجع إليه و في ذلك قال حسان بن ثابت:

أبا حسن تفديك نفسي و مهجتى
و كلّ بطي‏ء في الهواء و مسارع‏

أ يذهب مدحي و المخبر ضايع‏
و ما المدح فى جنب الاله بضايع‏

فأنت الذي اعطيت اذ كنت راكعا
فدتك نفوس القوم يا خير راكع‏

فأنزل فيك اللّه خير ولاية
و بيّنها فى محكمات الشّرايع‏

هذا، و أورد النّاصب الفخر الرّازي فى التّفسير الكبير على الاستدلال بالآية تارة بعدم إمكان أن يكون المراد بها عليّ عليه السّلام، و أخرى بأنّها على تقدير أن يكون المراد بها هو ذلك لا دلالة فيها على ولايته عليه السّلام، لأنّه إنّما يتمّ إذا كان المراد

بلفظ الولي هو المتصرف لا النّاصر و المحبّ، و هو ممنوع بل حمله على الثّانى أولى.

و استدل على الأوّل أعنى عدم امكان كون المراد بها أمير المؤمنين سلام اللّه عليه بوجوه: الاوّل أنّ الزكاة اسم للواجب لا للمندوب بدليل قوله تعالى: و آتوا الزكاة، فلو أنه أدّى الزكاة الواجبة فى حال كونه فى الرّكوع لكان قد أخّر أداء الزكاة الواجب عن أول أوقات الوجوب، و ذلك عند أكثر العلماء معصية و أنّه لا يجوز إسناده الى عليّ عليه السّلام، و حمل الزكاة على الصّدقة النافلة خلاف الأصل لما بينا أنّ قوله: و آتوا الزكاة، ظاهره يدلّ على أنّ كل ما كان زكاة فهو واجب.

الثاني هو أنّ اللائق بعليّ عليه السّلام أن يكون مستغرق القلب بذكر اللّه حال ما يكون فى الصلاة، و الظاهر أنّ من كان كذلك فانه لا يتفرغ لاستماع كلام الغير و لفهمه، و لهذا قال تعالى: «الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى‏ جُنُوبِهِمْ وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» و من كان قلبه مستغرقا في الفكر كيف يتفرّغ لاستماع كلام الغير.

الثّالث أنّ دفع الخاتم في الصّلاة للفقير عمل كثير و اللّايق بحال عليّ عليه السّلام أن لا يفعل ذلك.

الرّابع أنّ المشهور أنّه عليه السّلام كان فقيرا و لم يكن له مال تجب فيه الزّكاة، و لذلك فانّهم يقولون: إنّه لما أعطى ثلاثة أقراص نزل فيه سورة هل أتى، و ذلك لا يمكن إلّا إذا كان فقيرا، فأمّا من كان له مال تجب فيه الزّكاة يمتنع أن يستحقّ المدح العظيم المذكور في تلك السّورة على اعطاء ثلاثة أقراص و إذا لم يكن له مال تجب فيه الزّكاة امتنع حمل قوله: و يؤتون الزكاة و هم راكعون، عليه.

أقول: و يتوجه على الأوّل منع كون الزكاة اسما للواجب فقط، بل هو كساير أسامي العبادات موضوع للواجب و المندوب كليهما، و إلّا لزم أن يكون للمندوبات اسم تختصّ به وراء أسامي الواجبات، و هو خلاف ما اتّفق عليه الكلّ إذ لم نطلع إلى الآن على أحد يفرّق بين الواجب و المندوب في الاسم، و لم نجد للمندوبات أسامي مستقلّة غير أسماء الواجبات في كتبهم الفقهية و الأصوليّة، و لا في شي‏ء من الكتاب و السنّة، و كون الزكاة في الآية واجبة من حيث تعلّق الأمر بها لا يدلّ على كون مطلق التّسمية للواجب، إذ التّسمية مقدّمة على الحكم ذاتا و رتبة فلا دلالة فيها على أنّ كلّ ما كان زكاة فهو واجب و لو في غير مقام تعلّق الأمر كما في الآية التي نحن بصددها، و كما في قولنا الزّكاة عبادة، و نحو ذلك، و على فرض التنزل و المماشاة نمنع كون تأخير أدائها عن وقت الوجوب مطلقا معصية إذ ربّما يجوز تأخيرها لعدم وجود المستحقّ، أو لعذر آخر و لا إثم على ذلك بوجه، بل يجوز التّأخير مع العزل أيضا على مذهب البعض، بل و مع عدم العزل أيضا إلى شهرين على مذهب أبي حنيفة و غيره من العامة، و كيف كان فلا خفاء في فساد ما توهّمه.

و على الثّاني أنّ استغراق القلب بالذكر فى الصلاة إنما ينافي التّوجه إلى الامور الدّنيوية الشّاغلة عن الذكر، و أمّا إعطاء الخاتم للفقير المستحقّ ابتغاء لمرضاته سبحانه و التّوجه إلى سؤاله فلا ينافي الاستغراق، بل هو عين الذكر.

يعطي و يمنع لا تلهيه سكرته
عن النّديم و لا يلهو عن الكاس‏

أطاعه سكره حتّى تمكّن من‏
فعل الصّحات فهذا أفضل النّاس‏

و لو كان مطلق التوجّه إلى الغير منافيا للاستغراق لم يتصوّر ذلك في حقّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مع أنّه قد حصل ذلك في حقّه كما يدلّ عليه: ما استدلّ به الشّافعيّ على جواز التّنبيه في الصّلاة على الحاجة بتسبيح و نحوه، بأنّ عليّا عليه السّلام قال: كانت لي ساعة أدخل فيها على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فان كان في الصّلاة سبّح و ذلك إذنه، و إن كان في غير الصّلاة، أذن، و ما استدلّ به أبو حنيفة على عدم جواز ردّ جواب‏ السّلام في الصّلاة بأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله دخل مسجد بني عمرو بن عوف يصلي و دخل معه صهيب، فدخل معه رجال من الأنصار يسلّمون عليه، فسألت صهيبا كيف كان يصنع إذا سلّم عليه قال: يشير بيده، و لو كان استماع كلام الغير مطلقا منافيا للاستغراق كيف يستمع السّلام و يشير بيده على ما مرّ أو يردّ الجواب، علي ما رواه الباقر عليه السّلام من أنّ عمّارا سلّم عليه صلّى اللّه عليه و آله فردّ عليه السّلام و يأتي على ذلك دليل آخر«» فانتظر و على الثّالث منع كون ذلك فعلا كثيرا اولا إذ ليس ذلك بأزيد من خلع النّبي صلّى اللّه عليه و آله نعليه في الصّلاة و هما فعلان و ليس بأكثر من حمله صلّى اللّه عليه و آله أمامة بنت أبي العاص، و كان إذا سجد وضعها و إذا قام رفعها، و قتل عقربا و هو يصلّي، و أخذ بأذن ابن عباس و أداره عن يساره إلى يمينه، و أمر بقتل الأسودين في الصّلاة: الحيّة و العقرب و ثانيا على فرض التنزل و المماشاة أنّ الكثرة إنّما يسلم لو كان عليه السّلام مباشرا للخلع و الاعطاء، و أمّا إذا كان خلعه بفعل السّائل باشارة منه عليه السّلام فلا.

و هو الذي رواه الحمويني من علماء العامة باسناده عن أنس بن مالك أن سائلا أتى المسجد و هو يقول: من يقرض المليّ الوفيّ، و عليّ صلوات اللّه عليه راكع يقول بيده خلفه للسّائل أن اخلع الخاتم من يدي، قال: فقال النّبي صلّى اللّه عليه و آله: يا عمرو جبت قال: بأي و أمي يا رسول اللّه ما وجبت قال: وجبت له الجنّة، و اللّه ما خلعه من يده حتّى خلعه من كلّ ذنب و من كل خطيئة، و قال الزّمخشري في الكشّاف: إنّ الآية نزلت في عليّ عليه السّلام حين سأله سائل و هو راكع في صلاته فطرح له خاتمه كأنّه كان مرحبا «مرخيا ظ» في خنصره فلم يتكلّف لخلعه كثير عمل تفسد بمثله صلاته و في هذا المعنى قال دعبل الخزاعي:

اذا جاءه المسكين حال صلاته
فامتدّ طوعا بالذّراع و باليد

فتناول المسكين منه خاتما
هبط الكريم الاجودي الاجود

فاختصّه الرّحمن في تنزيله
من حاز مثل فخاره فليعدد

انّ الاله وليّكم و رسوله
و المؤمنين فمن يشأ فليجحد

يكن الاله خصيمه غدا
و اللّه ليس بمخلف فى الموعد

و على الرّابع أنّ المراد بالزكاة فى الاية الصّدقة النّافلة لما عرفت من صحة إطلاقها عليها كصحّة اطلاقها على الواجبة و كونه فقيرا لم يكن له مال يجب فيه الزّكاة فلا ينافي إعطاء الزّكاة تطوعا كما قال الفرزدق:

لا يقبض العسر بسطا من اكفهم
سيّان ذلك ان أثروا و ان عدموا

كلتا يديه غياث عمّ نفعهما
يستوكفان و لا يعروهما العدم‏

هذا، و غير خفيّ أنّ فقره عليه السّلام لم يكن من عجزه و عدم تمكنه من جمع المال بل إنّما هو من كثرة الجود و السّخاء، و كفى بذلك أنّه لم يخلّف ميراثا و كانت الدّنيا كلّها بيده إلّا ما كان من الشّام و نحوه، و شاهد صدق على ما ذكرنا الخاتم الذي أعطاه للسّائل و قد ذكر الغزالى فى محكي كلامه عن كتاب سرّ العالمين أن ذلك الخاتم كان خاتم سليمان بن داود عليه السّلام و فى رواية عمّار بن موسى السّاباطى عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّ الخاتم الذي تصدّق به أمير المؤمنين عليه السّلام وزن أربعة مثاقيل حلقته من فضّة و فصّه خمسة مثاقيل و هو من ياقوتة حمراء و ثمنه خراج الشّام، و خراج الشام ثلاثمأة حمل من فضة و أربعة أحمال من ذهب و كان الخاتم لمرّان بن طوق قتله أمير المؤمنين عليه السّلام و أخذ الخاتم من اصبعه و أتى به إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله من جملة الغنائم و أمره النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله أن يأخذ الخاتم فأخذ الخاتم و أقبل و هو فى اصبعه و تصدّق به على السّائل فى أثناء صلاته خلف النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

و كيف كان فقد ظهر ممّا ذكرنا أنّ عدم وجوب الزّكاة عليه لم يكن من أجل عدم تملكه للنّصاب كما يتوهّم من ظاهر كلام النّاصب بل قد تملّك نصبا كثيرة و بذل نصبا كثيرة و إنّما المانع من تعلّق الوجوب هو أنّه لم يكن حريصا على جمع المال حتى يحول عليه الحول، يمنعه من الادّخار ملكة الجود و السخاء و الزهد، و لأنّ اللازم على‏ أئمة العدل أن يقدروا أنفسهم بضعفة النّاس كيلا يتبيغ«» بالفقير فقره، و حاصل الكلام منع كونه فقيرا بالمعنى الذي يتوهّم من كلام الناصب أوّلا، و منع امتناع حمل الآية عليه على تقدير كونه عادما لمال يجب فيه الزكاة ثانيا فافهم جيّدا هذا.

و استدل على الثاني أعنى أولوية إرادة الناصر و المحب من لفظ الوليّ بالنسبة إلى المتصرف بوجوه.

الأول أنّ اللايق بما قبل هذه الآية و ما بعدها ليس إلّا هذا المعنى، أمّا ما قبل هذه الآية فلأنه تعالى قال: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصارى‏ أَوْلِياءَ».

و ليس المراد لا تتخذوا اليهود و النصارى أئمة متصرّفين فى أرواحكم و أموالكم، لأنّ بطلان هذا كالمعلوم بالضّرورة، بل المراد لا تتخذوا اليهود و النصارى أحبابا و أنصارا و لا تخالطوهم و لا تعاضدوهم، ثمّ لما بالغ في النّهي عن ذلك قال: إنّما وليكم اللّه و رسوله و المؤمنون الموصوفون، و الظاهر أنّ الولاية المأمور بها هاهنا هي المنهىّ عنها فيما قبل، و لما كانت الولاية المنهيّ عنها فيما قبل هي الولاية بمعنى النّصرة كانت الولاية المأمور بها هي الولاية بمعنى النّصرة، و أمّا ما بعد هذه الآية فهي قوله: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَ لَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ الْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ».

فأعاد النّهي عن اتخاذ اليهود و النصارى و الكفّار أولياء، و لا شك أنّ الولاية المنهيّ عنها هي الولاية بمعنى النّصرة فكذلك الولاية في قوله: إنّما وليكم اللّه، يجب أن يكون هي بمعنى النصرة، و كلّ من أنصف و ترك التعصب و تأمل في مقدمة الآية و في مؤخرها قطع بأنّ الوليّ في قوله: إنّما وليكم اللّه، ليس إلّا بمعنى النّاصر و المحبّ، و لا يمكن أن يكون بمعنى الامام، لأنّ ذلك يكون القاء الكلام الأجنبي فيما بين كلامين مسوقين لغرض واحد، و ذلك يكون في غاية الركاكة و السّقوط و يجب تنزيه كلام اللّه تعالى عنه.

الثّاني أنّا لو حملنا الولاية بمعنى التّصرف و الامامة لما كان المؤمنون المذكورون في الآية موصوفين بالولاية حال نزول الآية، لأنّ عليّ بن أبي طالب كرم اللّه وجهه ما كان نافذ التّصرف حال حياة الرّسول، و الآية تقتضي كون هؤلاء المؤمنين موصوفين بالولاية في الحال، أمّا لو حملنا الولاية على المحبة و النصرة كانت الولاية حاصلة فى الحال، فثبت أنّ حمل الولاية على المحبة أولى من حملها على التّصرف، و الذي يؤكد ما قلناه أنّه تعالى منع من اتخاذ اليهود و النصارى أولياء، ثم أمرهم بموالاة هؤلاء المؤمنين، فلا بدّ و أن تكون موالاة هؤلاء المؤمنين حاصلة فى الحال حتّى يكون النّفى و الاثبات متواردين على شي‏ء، و لما كانت الولاية بمعنى التصرّف غير حاصلة فى الحال امتنع حمل الآية عليها.

الثّالث أنّه تعالى ذكر المؤمنين الموصوفين في هذه الآية بصيغة الجمع في سبعة مواضع، و هى قوله: و الذين آمنوا الذين يقيمون الصّلاة و يؤتون الزّكاة و هم راكعون، و حمل الألفاظ الجمع و إن جاز على الواحد على سبيل التّعظيم لكنّه مجاز لا حقيقة و الأصل حمل الكلام على الحقيقة.

الرّابع انّا قد بيّنا بالبراهين البيّن أن الآية المتقدّمة و هي قوله: يا أيها الذين آمنوا من يرتدّ منكم عن دينه إلى آخر الآية من أقوى الدّلالة على صحّة إمامة أبي بكر، فلو دلت هذه الآية على صحة إمامة عليّ بعد الرّسول صلّى اللّه عليه و آله لزم التناقض بين الآيتين و ذلك باطل، فوجب القطع بأنّ هذه الآية لا دلالة فيها على أنّ عليّا هو الامام بعد الرّسول.

الخامس انّ عليّ بن أبي طالب كان أعرف بتفسير القرآن من هؤلاء الرّوافض، فلو كانت هذه الآية دالة على إمامته لاحتجّ بها في محفل من المحافل، و ليس للقوم‏ أن يقولون إنّه تركه للتقية، فانّهم ينقلون عنه أنّه تمسك يوم الشّورى بخبر الغدير و خبر المباهلة و جميع فضائله و مناقبه و لم يتمسّك البتة بهذه الآية في إثبات إمامته، و ذلك يوجب القطع بسقوط قول هؤلاء الرّوافض لعنهم اللّه.

السّادس هب أنّها دالة على إمامة عليّ لكنّا توافقنا على أنّها عند نزولها ما دلت على حصول الامامة في الحال، لأنّ عليّا ما كان نافذ التّصرف في الامة حال حياة الرّسول عليه الصّلاة و السّلام، فلم يبق إلّا أن تحمل الآية على أنّها تدلّ على أنّ عليّا سيصير إماما بعد ذلك، و متى قالوا ذلك فنحن نقول بموجبه و نحمله على إمامته بعد أبي بكر و عمر و عثمان، إذ ليس في الآية ما يدلّ على تعيين الوقت، فان قالوا: الامة في هذه الآية على قولين، منهم من قال: إنّها لا تدلّ على إمامة عليّ، و منهم من قال إنّها تدلّ على إمامته و كلّ من قال بذلك قال: إنّها تدلّ على إمامته بعد الرّسول من غير فصل: فالقول بدلالة الآية على إمامة عليّ لا على هذا الوجه قول ثالث، و هو باطل، لأنا نجيب عنه، فنقول: و من الذي أخبركم أنّه ما كان أحد في الامة قال هذا القول، و من المحتمل بل من الظاهر أنّه منذ استدلّ مستدلّ بهذه الآية على إمامة عليّ فانّ السائل يورد على ذلك الاستدلال هذا السؤال، فكان ذكر هذا الاحتمال و هذا السّؤال مقرونا بذكر هذا الاستدلال.

السّابع أنّ قوله: إنّما وليكم اللّه و رسوله لا شك أنّه خطاب مع الامة، و هم كانوا قاطعين بأنّ المتصرف هو اللّه و رسوله، و إنّما ذكر اللّه هذا الكلام تطييبا لقلوب المؤمنين و تعريفا لهم بأنّه لا حاجة بهم إلى اتخاذ الأحباب و الانصار من الكفار، و ذلك لأنّ من كان اللّه و رسوله ناصرا له و معينا فأىّ حاجة له إلى طلب النصرة و المحبة من اليهود و النصارى، و إذا كان كذلك كان المراد بقوله: إنّما وليكم اللّه و رسوله، هو الولاية بمعنى النّصرة و المحبة، و لا شك أنّ لفظ الوليّ مذكور مرّة واحدة، فلما اريد هاهنا معنى النصرة امتنع أن يراد به معنى التصرف، لما ثبت أنّه لا يجوز استعمال اللفظ المشترك في مفهوميه معا.

الثامن أنّه تعالى مدح المؤمنين في الآية السابقة بقوله:«يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ» فاذا حملنا قوله: إنّما وليكم اللّه و رسوله، على معنى المحبّة و النصرة كان قوله: إنما وليكم اللّه و رسوله، يفيد فايدة قوله: يحبهم و يحبّونه أذلة على المؤمنين أعزّة على الكافرين، و قوله: يجاهدون في سبيل اللّه، يفيد فايدة قوله: يقيمون الصّلاة و يؤتون الزّكاة و هم راكعون، فكانت هذه الآية مطابقة لما قبلها مؤكّدة لمعناها فكان ذلك أولى، فثبت بهذه الوجوه أنّ الولاية المذكورة في هذه الآية يجب أن تكون بمعنى النصرة لا بمعنى التصرف.

ثم قال الناصب أمّا الوجه الذي عوّلوا عليه و هو أنّ الولاية المذكورة في الآية غير عامة و الولاية بمعنى النصرة عامة فجوابه من وجهين.

الاوّل أنّا لا نسلّم أنّ الولاية المذكورة في الآية غير عامة و لا نسلّم أنّ كلمة إنّما، للحصر و الدّليل عليه قوله: «إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ» و لا شك أنّ الحياة الدّنيا لها أمثال اخرى سوى هذا المثل، و قال: «إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ» و لا شك أنّ اللّعب و اللّهو قد يحصل في غيرها.

الثاني لا نسلّم أنّ الولاية بمعنى النصرة عامة في كلّ المؤمنين و بيانه أنّه تعالى قسم المؤمنين قسمين أحدهما الذين جعلهم موليا عليهم و هم المخاطبون بقوله إنما وليكم اللّه و الثاني الأولياء، و هم المؤمنون الذين يقيمون الصّلاة و يؤتون الزّكاة و هم راكعون، فاذا فسرنا الولاية هاهنا بمعنى النصرة كان المعنى أنّه تعالى جعل أحد القسمين أنصارا للقسم الثّاني، و نصرة القسم الثاني غير حاصلة لجميع المؤمنين و لو كان كذلك لزم في القسم الذي هم المنصورون أن يكونوا ناصرين لأنفسهم، و ذلك محال، فثبت أن نصرة أحد قسمى الامة غير ثابتة لكلّ الامة، بل مخصوصة بالقسم‏

الثاني من الامة، فلم يلزم من كون الولاية المذكورة في هذه الآية خاصّة أن لا تكون بمعنى النصرة، و هذا جواب حسن دقيق لا بدّ من التّأمل فيه، انتهى كلامه هبط مقامه.

أقول: و الجواب عن الوجه الأوّل أوّلا أنّ كون الولي في الآية السابقة و اللاحقة بمعنى الناصر لا دلالة فيه على كون المراد به في هذه الآية ذلك المعنى أيضا باحدى من الدلالات، و ما استدلّ به عليه من أنّه لو لا ذلك لزم إلقاء الكلام الأجنبيّ بين كلامين مسوقين لغرض واحد و ذلك في غاية الركاكة، ففيه منع الأجنبيّة أولا إذ الولاية بمعنى النصرة شأن من شئونات الولاية المطلقة، فحيث إنه سبحانه نهى عن اتخاذ الكفار أولياء أى أنصارا أثبت الولاية المطلقة لنفسه و لرسوله و للمؤمنين الموصوفين، و من المعلوم أنّ الولاية المطلقة أعني التصرف في امور المؤمنين على وجه الاطلاق شاملة على التصرف بالنصرة، فعلى ذلك يكون في الآية دلالة على كون اللّه و رسوله و المؤمنين الموصوفين ناصرين لساير المؤمنين على وجه الكمال، فعلى ذلك التئم أجزاء الكلام على أحسن اتساق و انتظام، و منع كون هذه الاجنبية موجبة للركاكة ثانيا، إذ المجانبة بينها ليست بأزيد من المجانية بين الشّرط و الجزاء في قوله تعالى: «وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى‏ فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى‏ وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ» و على تقدير تسليم الرّكاكة فيكون ذلك اعتراضا على خليفتهم عثمان ثالثا، لظهور أنّ هذه الآيات الثلاث لم تنزل دفعة واحدة، بل قد نزلت تدريجا و نجوما، و قد جمعها عثمان بهذا الوجه و حرّف الكلم عن مواضعها و لم يرتّب الآيات كما هو حقّها.

و ثانيا أنّ توافق الآيات و جريها على نسق واحد و إن كان مقتضيا لحمل الوليّ هاهنا على النّاصر و موجبا لظهوره فيه، إلّا أنّه إذا امتنع حمله عليه بمقتضى‏كلمة الحصر و الجملة الوصفيّة الظاهرتين في المعنى الآخر حسبما عرفت في تقريب الاستدلال و ستعرفه أيضا، فلا بدّ من رفع اليد عن ذلك الظهور، و بعبارة اخرى ظهور التّناسق يوجب حمله على النّاصر إلّا أنّه معارض بظهور الحصر و الوصف في المعنى الآخر ان لم يكونا نصّين فيه، و الثّاني أقوى من الأوّل فيجب المصير اليه.

و عن الثّاني بأنّه إنّما يتمّ على مذهب من يجعل المشتقّ حقيقة في الحال كما هو الأشهر، و أمّا على مذهب من يجعله حقيقة في مطلق ما اتّصف بالمبدإ سواء كان في الماضي أو في الحال أو الاستقبال إذا كان محكوما عليه فلا، فيكون ذلك مثل قوله تعالى: «السَّارِقُ وَ السَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما» حيث إنّهم يستدلّون بهذه الآية على وجوب قطع يد السّارق، و لو لم يكن سارقا حين نزول الآية إلّا أنّ هذا القول لما كان غير مرضيّ عندنا على ما حقّقناه في حاشيتنا على القوانين و نبّهنا هناك أيضا على ضعف الاستدلال بآية السّرقة، فالأولى الاعراض عنه و الجواب على المذهب المختار الموافق للمشهور، و هو أنا لا ننكر كون المشتقّ حقيقة في الحال أى حال التّلبس، و لازمه الاتصاف بالولاية حال نزول الآية لظهور الجملات الخبريّة في كون حال التّلبس فيها هو حال النّطق إلا أنّا نقول: إنّ الحقيقة إذا كانت متعذّرة بما ذكره النّاصب من عدم الاتصاف بالولاية بمعنى التصرف حال النّزول، فلا بدّ من المصير إلى المجاز و هو المتلبس به في المستقبل، و أما ما ذكره من أنّا لو حملنا الولاية على النّصرة كانت الولاية حاصلة في الحال، ففيه أنّ حصول النصرة حين نزول الآية من المؤمنين الموصوفين بل و من الرّسول أيضا غير معلوم.

فان قلت: سلّمنا و لكن بين المعنين فرق واضح، و هو أن تصرّفهم أعني المؤمنين حال النزول معلوم العدم و نصرتهم غير معلومة.

قلت: اللّازم في صحة الاطلاق الحقيقى للمشتقّ هو العلم بالاتصاف بالمبدإ حال الاطلاق، و عدم العلم به غير كاف في صحة الاطلاق، بل هو كالعلم لعدم الاتصاف يوجب مجازية الاطلاق، و بالجملة فقد تحقّق بما ذكرنا أنّ جعل الولي بمعنى النّاصر لا يكفي في صحة الاطلاق الحقيقي و أنّ ما اعترض به على جعله بمعنى المتصرف وارد على جعله بمعنى الناصر حرفا«» بحرف. فاللّازم حينئذ حمله على المعني المجازي و هو المتّصف بالولاية أعمّ من أن يكون في الماضى و الحال و الاستقبال جميعا كما في اللّه و رسوله، و من أن يكون في خصوص الاستقبال كما في المؤمنين الموصوفين، و هذا كله مبني على المماشاة مع الخصم، و إلّا فنقول: إن المراد بالوليّ في الآية هو الأولى بالتّصرف كما هو أحد معانيه اللغويّة و عليه فالاعتراض ساقط من أصله كما لا يخفى.

و عن الثّالث أوّلا بالنّقض، فانّه قد قال في تفسير قوله تعالى: «وَ لا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَ السَّعَةِ» انّ المراد من اولى الفضل ابو بكر و كنى عنه بلفظ الجمع، و الواحد إذا كني عنه بلفظ الجمع دلّ على علوّ شأنه كقوله تعالى:«إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ، إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ» فانظر انّ الشّخص الذي كناه اللّه سبحانه مع جلاله بصيغة الجمع كيف يكون علوّ شأنه انتهى.

و ثانيا بالحلّ، و هو أنّ الأصل في الاستعمال و إن كان هو الحقيقة إلّا أنّه مع قيام القراين القطعية من الأخبار العامية و الخاصيّة على إرادة المعنى المجازي لابدّ من حمل اللفظ عليه، مضافا إلى ما في حسن التعبير بلفظ الجمع من اشتماله على التّعظيم و النكتة اللطيفة التي لا تخفى، و هي ما أشار إليه في الكشّاف، قال: فان قلت: كيف صحّ أن يكون لعليّ عليه السّلام و اللفظ لفظ الجماعة قلت: جي‏ء به على لفظ الجمع و إن كان السبب فيه رجلا واحدا ليرغب النّاس في مثل فعله فينالوا مثل ثوابه و لينبّه على أنّ سجيّة المؤمنين لا بدّ أن يكون على هذه الغاية من الحرص على البرّ و الاحسان و تفقد الفقراء حتّى أن لزمهم أمر لا يقبل التأخير و هم في الصّلاة لم يؤخّروه إلى الفراغ منها انتهى.

و عن الرابع بأنّه مما تضحك منه الثكلى، لانّه خلاف ما اتفقت عليه الامة، أما الخاصة فلأنهم اتفقوا على أنّ الآية أعنى قوله: يا أيها الذين آمنوا من يرتداه، إنما هي إشارة إلى ظهور الدّولة الحقة القاهرة و إلى رجعة آل محمّد و سلطنتهم سلام اللّه عليه و عليهم، و عليه قد دلت الاخبار المتظافرة من طرقهم و من طريق العامة كما رواها فى غاية المرام، أو إلى أنّ المراد بالمرتدّين هم الناكثون و القاسطون و المارقون، و بقوم يحبّهم و يحبّونه، هم أمير المؤمنين عليه السّلام و أصحابه كما فى أخبار اخر و أمّا العامة فلاتفاقهم على أنّ خلافة أبي بكر كانت مستندة إلى البيعة لا إلى النّص و أيضا لو كان الآية دالّة على صحّة خلافته للاستدلال بها يوم السّقيفة و ليس فليس، و العجب كل العجب أنّ النّاصب يقول: إنّ المراد بقوم يحبّهم و يحبّونه هو ابو بكر و أصحابه، و الشّيعة يقولون: إنّ هؤلاء داخلون في قوله: من يرتدّ منكم عن دينه و إنّ المراد بالمرتدّين هم الغاصبون لحقّ آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله فانظر ما ذا ترى من التّفاوت بين القولين و يأتي‏ إنشاء اللّه تحقيق ابطال مقال هذا الناصب في هذه الآية بما لا مزيد عليه في شرح الفصل الثامن من الخطبة المائة و الحادية و التسعين.

و عن الخامس بأنّ عدم تمسّكه سلام اللّه عليه بهذه الآية ممنوع، بل قد تمسك بها كما تمسك بخبر الغدير و المباهلة و غيرهما، و قوله: و لم يتمسك البتة بهذه الآية إن أراد به عدم ورود تمسكه بها في أخبارهم فهو مسلّم إلّا أنّه لا يوجب القطع بعدم التمسّك، إذ جلّ مسائل الحقّة لم يرد به رواية منهم، و هو لا يدلّ على انتفاء تلك المسائل واقعا و إن أراد به عدم ورود خبر على ذلك من طرق الخاصّة كوروده في تمسّكه بخبر الغدير و المباهلة، ففيه منع ذلك، لورود تمسكه بها في بعض أخبارهم مثل ورود التمسك بغيرها، و هو ما رواه في كتاب غاية المرام من مجالس الشيخ باسناده إلى أبي ذر في حديث منا شدة أمير المؤمنين عليه السّلام عثمان و الزّبير و عبد الرحمن بن عوف و سعد بن أبي وقاص يوم الشّورى و احتجاجه عليهم بما فيه من النّصوص من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و الكلّ منهم يصدّقه فيما يقوله، فكان فيما ذكره عليه السّلام: فهل فيكم أحد آتى الزّكاة و هو راكع فنزلت فيه: «إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ» غيرى قالوا: لا، و في ذلك الكتاب أيضا عن ابن بابويه باسناده عن أبي سعيد الوراق عن أبيه عن جعفر بن محمّد عن أبيه عن جدّه عليهم السّلام في حديث منا شدة عليّ عليه السّلام لأبي بكر حين ولى أبو بكر الخلافة و ذكر عليه السّلام فضائله لأبي بكر و النّصوص عليه من رسول اللّه فكان فيما قال له: فانشدك باللّه ألي الولاية من اللّه مع ولاية رسول اللّه في آية زكاة الخاتم أم لك قال: بل لك، فقد ظهر ممّا ذكرنا غفلة النّاصب اللعين عن أخبار الشّيعة و لا غرو في ذلك فانّه جاهل بما هو أعظم من ذلك و ليس ذلك من الظالمين ببعيد.

و عن السّادس أوّلا بمنع عدم ثبوت الولاية له عليه السّلام حال نزول الآية، لما قد ذكرنا سابقا أنّ المراد بالولي هو الأولى بالتّصرف، و هذا المعنى كان حاصلا له حال النزول، و ثانيا سلّمنا أنّ الآية مفيدة لكونه وليا في المستقبل نظرا إلى كون الوليّ بمعنى المتصرف، إلّا أنّا نمنع قوله. و نحمله على إمامته بعد أبي بكر و عمر و عثمان اه، إذ الآية كما هي مثبتة لامامته عليه السّلام، كذلك نافية للامامة عن غيره حسبما حققناه في تقريب الاستدلال و سنحقّقه أيضا بما لا مزيد عليه، و عليه فلا يبقى للثّلاثة خلافة حتّى يتأخّر عليّ عليه السّلام عنهم أو يتقدّم عليهم و هو ظاهر، و ثالثا أنّ قوله: فانّ المحتمل اه، واضح الفساد، إذ مجرّد احتمال الخلاف لا يوجب القدح في حجّية الاجماع، و إلا لم يسلم شي‏ء من الاجماعات للحجية، و العجب كلّ العجب أنّ الناصب اللّعين يسقط الاجماع عن الحجّية هنا بمجرّد احتمال المخالف، و يحتج له كغيره على خلافة أبي بكر مع وجود الخلاف القطعي المحقق هناك من غير واحد من أعاظم الصّحابة، فكيف يكون الاجماع على البيعة حجة مع وجود الخلاف القطعي و لا يكون ذلك دليلا بمجرّد احتمال الخلاف.

و عن السّابع أنّا قد ذكرنا سابقا أنّ التّصرف بالنّصرة شأن من شئونات الولاية المطلقة و عليه فتطيب قلوب المؤمنين كما يحصل بتعريفهم كون اللّه و رسوله ناصرا لهم كذلك يحصل بتعريفهم كونه سبحانه و رسوله أولى بالتّصرف فى أرواحهم و أبدانهم و متصرفا فيهم بالنصرة و بغير النصرة في جميع حالاتهم و أطوارهم، بل حصول التطيب بالثّاني أقوى و آكد من حصوله بالأوّل كما هو غير خفيّ على العارف الفطن.

و عن الثّامن أنّ الآيتين لا ربط لاحداهما بالاخرى، و لا داعي إلى تكلف التطبيق بينهما، إذ كلّ منهما مسوقة لمقصود غير ما قصد بالاخرى، مضافا إلى ما في المناسبة التي أبدئها بينهما من سخافة لا تخفى هذا.

و بقى الكلام في الوجهين اللذين أجاب بهما النّاصب اللعين عمّا عوّل عليه أصحابنا من كون الولاية المذكورة في الآية غير عامة، و الولاية بمعنى النّصرة عامة فاقول:

أما الوجه الأوّل ففيه أنّه إن أراد بقوله: لا نسلّم أنّ كلمة انّما للحصر عدم إفادتها الحصر في خصوص تلك الآية فيتوجّه عليه أنه لا يناسب على ذلك الاستدلال له بالآيتين، لعدم دلالة عدم إفادتها للحصر فيهما على زعمه عدم إفادتها له في هذه الآية بشي‏ء من الدّلالات، و إن أراد به عدم إفادتهما مطلقا كما هو الظاهر من كلامه، ففيه مضافا إلى أنّه خلاف ما صرّح به نفسه في تفسير قوله: «قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى‏ إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ» أوّلا أنّ المتبادر منها هو الحصر فيكون حقيقة فيه، لأنّ التبادر علامة الحقيقة، و ثانيا أنّ المشهور بين الاصوليّين و اللغويين و النّحويين هو ذلك، و إليه ذهب الجوهري و صاحب القاموس و حكى عن البيضاوي في المنهاج، و السّكاكي في المفتاح، و القزويني في الايضاح، و إليه ذهب من أصحابنا رضوان اللّه عليهم الشيخ و المحقّق و العلامة و الطبرسي و الطريحي و العميدي و نجم الأئمة الرّضي و غيرهم بل قد ادعى عليه الاتفاق جماعة منّا و منهم، منهم العلامة في التّهذيب قال: إنّما للحصر بالنقل عن أهل اللغة، و في النّهاية قال أبو علي الفارسي: إنّ النحاة أجمعوا عليه و صوّبهم فيه و نقله و قوله حجة، و الطريحي في مجمع البحرين قال: و إنّما المتكرّر في الكتاب و السنة و كلام البلغاء فهي على ما نقل عن المحققين موضوعة للحصر عند أهل اللغة، و لم نظفر بمخالف لذلك و استعمال العربيّة و الشّعراء و الفصحاء إيّاها بذلك يؤيّده انتهى.

و عن الأزهري في كتاب الزّهر عن أهل اللغة أنّ إنّما يقتضى ايجاب شي‏ء و نفي غيره، و في التّلخيص تبعا للمفتاح في مقام الاستدلال لافادتها للحصر قال لتضمّنه معنى ما و إلّا، لقول المفسرين: «إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ» بالنّصب معناه ما حرّم اللّه عليكم إلّا الميتة، و هو المطابق لقرائة الرّفع و لقول النّحاة: إنّما لاثبات ما يذكر بعده و نفى ما سواه انتهى، و مع ذلك كلّه لا وجه‏ لمنع إفادتها الحصر إذ قول اللغوى الواحد معتبر في باب الأوضاع فضلا عن الشّهرة المحصّلة و الاتفاقات المحكيّة مضافا إلى الأدلة التي استدلوا بها في كتب الاصول و البيان و النّحو و غيرها.

و امّا الآيتان اللتان استدل بهما ففيهما أولا منع عدم إفادتهما الحصر فيهما و لو بالتّأويل القريب يشهد بذلك وقوع كلمة ما و إلّا عوضها فى الآية الاخرى و هو قوله: «وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ لَلدَّارُ الْآخِرَةُ».

إذ لا خلاف فى افادتها للحصر و ثانيا سلّمنا ذلك إلّا أنّهما لا تثبتان الدّعوى لكونهما أخصّ من المدّعى حسبما أشرنا إليه سابقا و ثالثا أن الاستعمال أعمّ من الحقيقة، و المجاز خير من الاشتراك، فقد تحصّل ممّا ذكرنا كله أنّها حقيقة فى الحصر فتكون مجازا في غيره فبطل القول بكونه حقيقة في الثّاني كما حكى عن الامدى و أبى حيان و غيرهما، و القول بكونها مشتركة بينهما بالاشتراك اللفظى كما هو محتمل كلام الفيومى فى المصباح، و تفصيل الكلام زيادة عن ذلك فليطلب من مواضعه.

و أمّا الوجه الثّاني ففيه أنّ جعل المؤمنين على قسمين أحدهما الناصرون و الآخر المنصورون لا يسمن و لا يغنى من جوع بيان ذلك أنّ كلمة إنّما مفيدة للحصر و مقتضية لاثبات الولاية للّه و لرسوله و للمؤمنين الموصوفين نافية لها عمّن سواهم، فمقتضى الآية بحكم أداة الحصر هو اختصاص الولاية لهؤلاء الثلاثة و هو إنّما يتمّ لو جعل المراد بالآية الأولى بالتّصرف بخلاف ما لو اريد بها النّصرة، ضرورة عدم اختصاص النصرة بهم بل يعمهم و غيرهم من المؤمنين الغير الموصوفين بالصّفة المذكورة لحصولها منهم و من غيرهم و حينئذ فلا يكون للحصر فايدة و هذا معنى قولنا: إنّ الولاية بمعنى النصرة عامة من حيث عدم اختصاصها بالمؤمنين المتّصفين بايتاء الزّكاة فى حال الرّكوع و ليس معناه أنها عامة لجميع المؤمنين حتّى يعترض عليه بجعلهم على قسمين و تخصيصها بأحد القسمين كما توهمه الناصب.

لا يقال: إنّ هذا يتمّ لو جعل جملة و هم راكعون حالية، و أمّا لو جعلت معطوفة فلا.

لانا نقول: لا يجوز جعلها عطفا لأنّ الصّلاة قد تقدّمت و هى مشتملة على الرّكوع فيكون إعادة ذكر الرّكوع تكرارا، فوجب جعلها حالا أى يؤتون الزّكاة حالكونهم راكعين و قد وقع الاجماع على أنّ ايتاء الزّكاة حال الرّكوع لم يكن إلّا من عليّ عليه السّلام، فقد تحقق ممّا ذكرنا كله أنّ الآية الشريفة من أقوى الدلايل على خلافة أمير المؤمنين عليه السّلام و أنّ اعتراضات الناصب اللعين أو هن من نسج العنكبوت فهو من: «الْأَخْسَرينَ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ» و أقول على رغم الناصب:

يا من بخاتمه تصدّق راكعا
إنّى ادّخرتك للقيامة شافعا

اللّه عرّفني و بصّرنى به‏
فمضيت فى دينى بصيرا سامعا

و منها آية الإطاعة

قوله تعالى: «أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ» تقريب الاستدلال أنّه سبحانه أمر بطاعة اولى الامر كما أمر بطاعة الرّسول، و هو يقتضى عموم طاعتهم حيث إنّه سبحانه لم يخصّ طاعتهم بشي‏ء من الاشياء ففى فقد البيان منه تعالى دلالة على ارادة الكلّ و إذا ثبت ذلك لا بدّ و أن يكون وليّ الامر معصوما عن الخطاء، إذ مع عدم عصمته عن الخطاء لم يؤمن من وقوع الخطاء منه، و على تقدير وقوع الخطاء منه يلزم أن يكون قد أمرنا اللّه بمتابعته فيلزم منه أمره سبحانه بالقبيح و هو محال، فثبت أن أمره سبحانه بمتابعة اولى الامر و طاعتهم مستلزم لعصمتهم، و إذا ثبت دلالة الآية على العصمة و عموم الطاعة ثبت أنّ المراد باولى الامر فيها الأئمة عليهم السّلام، إذ لا أحد يجب طاعته على ذلك الوجه بعد النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله‏ إلّا هم سلام اللّه عليهم.

و بهذا التّقرير ظهر ضعف ما ذهب إليه العامة من حمل أولى الأمر على المتخلّفين الثّلاثة كما ذهب إليه منهم طائفة، و حمله على امراء السّرايا كما ذهبت إليه طائفة اخرى، و على علماء العامة كما هو مذهب طائفة ثالثة، ضرورة انتفاء العصمة عنهم جميعا مضافا إلى عدم وجوب طاعة الامراء كالعلماء على نحو العموم باتّفاق منّا و منهم، و إنّما طاعة الامرآء واجبة فيما تعلّق بإمارتهم، و طاعة العلماء كذلك في الأحكام الشّرعيّة، على أن الامرآء كالعلماء ربّما يختلفون في الآراء، ففي طاعة بعضهم عصيان بعض، و إذا أطاع المؤمن بعضهم عصى الآخر لا محالة هذا.

و ذهب النّاصب فخر المشكّكين إلى أنّ المراد بأولى الأمر أهل الحلّ و العقد و أنّ الآية دالة على أنّ اجماع الامة حجّة حيث قال بعد ما أثبت دلالة الآية على وجوب عصمة اولى الأمر بمثل ما أثبتناه ما هو صريح عبارته: فثبت قطعا أنّ اولى الأمر المذكور في هذه الآية لا بدّ و أن يكون معصوما قطعا، ثمّ نقول: ذلك المعصوم إمّا مجموع الامة أو بعض الامة لا جايز أن يكون بعض الامة لأنّا بيّنا أن اللّه تعالى أوجب طاعة اولى الأمر في هذه الآية قطعا، و ايجاب طاعتهم قطعا مشروط بكوننا عارفين بهم قادرين على الوصول إليهم و الاستفادة منهم، و نحن نعلم بالضّرورة أنّا في زماننا هذا عاجزون عن معرفة الامام المعصوم، عاجزون عن الوصول إليهم عاجزون عن استفادة الدين و العلم منهم، و إذا كان الأمر كذلك علمنا أنّ المعصوم الذي أمر اللّه المؤمنين بطاعته ليس بعضا من أبعاض الامة، و لا طائفة من طوايفهم، و لما بطل هذا وجب أن يكون ذلك المعصوم الذي هو المراد بقوله و اولى الأمر أهل الحلّ و العقد من الامة و ذلك يوجب القطع بأنّ اجماع الامة حجّة.

ثمّ إنّه بعد طائفة من الكلام في النقض و الابرام في ذلك المرام قال: و أمّا حمل الآية على ما تقوله الرّوافض ففي غاية البعد لوجوه.

أحدها ما ذكرناه أنّ طاعتهم مشروطة بمعرفتهم و قدرة الوصول إليهم، فلو أوجب علينا طاعتهم قبل معرفتهم كان هذا تكليف ما لا يطاق، و لو أوجب علينا طاعتهم‏ إذا صرنا عارفين بهم و بمذاهبهم صار هذا الايجاب مشروطا، و ظاهر قوله: أطيعوا اللّه و أطيعوا الرّسول و أولى الأمر منكم، يقتضى الاطلاق، و أيضا ففي الآية ما يدفع هذا الاحتمال، و ذلك لأنّه تعالى أمر بطاعة الرّسول و طاعة اولى الأمر فى لفظة واحدة و هو قوله: و أطيعوا الرّسول و اولى الأمر منكم، و اللّفظة الواحدة لا يجوز أن تكون مطلقة و مشروطة، فلما كانت هذه اللّفظة مطلقة في حقّ الرّسول وجب أن تكون مطلقة في حقّ اولى الأمر.

الثّاني أنّه تعالى أمر بطاعة اولى الأمر، و أولو الأمر جمع و عندهم لا يكون في الزّمان إلّا إمام واحد و حمل الجمع على الفرد خلاف الظاهر.

و ثالثها أنه قال: «فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ‏ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَ الرَّسُولِ».

و لو كان المراد بأولى الأمر الامام المعصوم لوجب أن يقال: فان تنازعتم في شي‏ء فردّوه إلى الامام، فثبت أنّ الحقّ تفسير الآية بما ذكرناه، انتهى كلامه هبط مقامه.

أقول: و أنت خبير بما فيما ذهب اليه من الضعف و الفساد.

أما اولا فلأنّ ما ذكره من دلالة الآية على حجيّة الاجماع، إمّا أن يكون مراده به إجماع جميع الامة كما هو المستفاد من صدر كلامه و ذيله أعني قوله: الآية دالة على أنّ إجماع الامة حجّة و قوله: و ذلك يوجب القطع بأنّ إجماع الامة حجة، و إمّا أن يكون مراده به خصوص إجماع أهل الحلّ و العقد و هم المجتهدون و هو الأظهر بملاحظة قوله: فوجب أن يكون ذلك المعصوم أهل الحلّ و العقد، فان كان مراده به الأوّل، ففيه أنّ إجماع جميع الامة لا يمكن انعقاده إلى يوم القيامة فكيف يحمل الآية على غير الممكن، و ذلك لأنّ امّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله كلّ من تابعه إلى يوم القيامة و كلّ موجود في عصره فانّه بعض الامة، و إن كان مراده به الثّاني، ففيه أنّه لم يقم دليل على عصمة أهل الحلّ و العقد فلا يمكن حمل المعصوم الذي هو المراد بقوله و اولي الامر على ما حققناه و حققه عليهم بل لم يقم دليل على عصمة جميع الامة أيضا و إن استدلوا عليها بما رووه عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله من قوله: لا يجتمع امّتى على الخطاء أو على خطاء، و قوله صلّى اللّه عليه و آله لا يجتمع‏ امّتي على الضّلالة، و قوله: سألت ربّي أن لا يجمع امّتي على الضّلالة فأعطانيها إلى غير ذلك من الاخبار التي استدلّوا بها في باب حجيّة الاجماع الغير النّاهضة لاثبات الدّعوى من حيث ضعف سندها و دلالتها من وجوه عديدة، على ما حقّقه أصحابنا رضوان اللّه عليهم في كتبهم الاصوليّة.

و أمّا ثانيا فلانّ المراد من المؤمنين المخاطبين. بقوله: يا أيّها الذين آمنوا أطيعوا اللّه الآية: إمّا المجتهدون خاصّة، أو المقلّدون خاصّة، أو الاعمّ الشّامل للجميع، و لا يمكن إرادة واحد من الاولين لما فيه من التّخصيص الذي هو خلاف الاصل، مضافا إلى استلزامه اختصاص وجوب طاعة اللّه و رسوله باحدى الطائفتين، و إلى استلزامه حجيّة إجماع العوام على تقدير إرادة الثّاني، لانّ المخاطبين بقوله: فان تنازعتم في شي‏ء، هم المخاطبون الاولون، و مفهومه عدم وجوب الردّ إلى اللّه و الرّسول حين الاتفاق فيلزم حجية إجماع العوام حينئذ و لا يقول به الخصم، و إذا لم يمكن إرادة أحد الاوّلين تعيّن إرادة الثّالث أعني جميع المؤمنين الشّاملين للمجتهدين و المقلّدين، و عليه فلا بدّ و أن يكون أولو الامر غير المجتهدين، لئلا يلزم اتّحاد المطيع و المطاع، مع أنّ ظاهر اللفظ أيضا المغايرة فتعيّن أنّ المراد باولى الامر الائمة المعصومون و بطل ما توهّمه الناصب من حمله على أهل الحلّ و العقد و هذا تحقيق نفيس فافهمه جيّدا هذا.

و أمّا الوجوه الثّلاثة التي استبعد بها حمل اولى الامر في الآية على الائمة، فيتوجه على أوّلها أولا«» أنّه مشترك الورود، إذ كما أنّ طاعة الامام المعصوم موقوف على معرفته و على قدرة الوصول إليه و استفادة الأحكام منه، فكذلك طاعة أهل الحلّ و العقد موقوفة على معرفتهم و على قدرة الوصول إليهم و استفادة الأحكام منهم و كما أنّا عاجزون في زماننا هذا عن الوصول إلى حضرة الامام عليه السّلام و عن استفادة الدّين و العلم منه فكذلك عاجزون عن الوصول إلى حضرة جميع أهل الحلّ و العقد و عن استفادة العلم منهم و الاطلاع على آرائهم و إن كان عجزنا في‏ الأوّل مستندا إلى غيبته عليه السّلام، و في الثّاني إلى كثرتهم و انتشارهم في شرق الارض و غربها.

و ثانيا«» أنّ توقف طاعة اولى الأمر على معرفتهم و استفادة الأحكام منهم لا يوجب كون وجوبها مشروطا بذلك، و إنّما هي من مقدّمات الوجود، و بالجملة إطاعة اولى الأمر واجب مطلق، و الواجب المطلق تحصيل مقدّماته على عهدة المكلف، فيجب تحصيل العلم برأيهم حتّى يطيعهم، و عجزنا في هذا الزّمان عن الوصول إلى حضرة وليّ الأمر و عن العلم برأيه إنّما هو مستند إلى أنفسنا، لأنّه إذا كنا نحن السّبب في استتاره فكلّ ما يفوتنا من الانتفاع به و بتصرّفه و بما معه من الاحكام يكون قد أتينا من قبل نفوسنا فيه، و لو أزلنا سبب الاستتار لظهر و انتفعنا به و أدّى إلينا الحقّ الذي عنده و تمكنّا من طاعته و امتثاله، هذا كله مضافا إلى عدم تمشى ما ذكره في زمان حضور الائمة فلم يكن مانع يومئذ عن حمل اولى الامر عليهم، و إنّما المانع الذي توهّمه النّاصب و هو العجز عن الوصول إلى وليّ الامر مختصّ بزمان الغيبة الكبرى فدليله أخصّ من مدّعاه.

و على الثّاني أولا نمنع أنّه لا يكون في الزّمان إلا إمام واحد، فانّه متعدّد في زمان الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و من بعده من الائمة، لوجود أولادهم المعصومين معهم و ثانيا أنّ الجمع باعتبار تعدّدهم و ان تعدّدت الازمنة، و لا دلالة في الآية على أنّ طاعتهم جميعا لا بدّ و أن يكون في زمان واحد، لامكان حصولها تدريجا كما وجد واحد منهم و ثالثا بعد الاغماض عمّا ذكر أنّ حمل الجمع على الفرد و إن كان خلاف الظاهر إلا أنّه مع قيام المقتضي عليه لا ضير فيه بل اللّازم حينئذ المصير إليه و المقتضى في المقام موجود، و هو أنّك قد عرفت أنّ وليّ الامر لا بدّ و أن يكون معصوما، و قد عرفت انحصار العصمة فيهم و بطلان ما توهّمه النّاصب كغيره من وجودها في الاجماع، فلا بدّ أن يكون المراد من اولى الامر الامام المعصوم و إن كان استعمال‏ الجمع في الفرد خلاف الظاهر كما توهّمه النّاصب.

و على الثّالث أنّه غير مفهوم المراد إذ لا ملازمة بين كون المراد من اولي الامر الامام المعصوم و بين وجوب أن يقال: فان تنازعتم في شي‏ء فردّوه إلى الامام، اللّهم إلّا أن يوجّه بأن مراده أنّه لو كان المراد من اولى الامر الامام المعصوم لوجب أن يقال: فان تنازعتم في شي‏ء فردّوه إلى اللّه و إلى الرّسول و إلى اولى الامر منكم، و حيث لم يقل كذلك علم أنّ اولى الامر داخلون في المخاطبين بقوله: فان تنازعتم، فيكون ذلك قرينة على أنّ المراد باولى الامر في قوله: و أطيعوا الرّسول و اولى الامر منكم، هو أهل الحلّ و العقد، و الجواب انّا قد بيّنا سابقا أنّ الظاهر أنّ المخاطبين بقوله: فان تنازعتم، هم المخاطبون بقوله: يا أيّها الذين آمنوا، فكما أنّ اولى الامر خارجة عن الخطاب الاوّل قطعا حسبما ذكرنا سابقا، فكذلك خارجة عن ذلك الخطاب أيضا، و أمّا عدم ذكر الرّد إليهم هنا فلا غناء ذكر الرّد إلى الرّسول عن الرّد إليهم، لانّ الرّد إلى الائمة القائمين مقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعد وفاته هو مثل الرّد إلى الرّسول في حياته لانهم الحافظون لشريعته و الهادون لامّته فجروا مجراه فيه.

لا يقال: هذا الكلام جار في الرّد إلى الرّسول أيضا، لأنّ الرّد إليه ردّ إلى اللّه فلم لم يستغن عنه بذكره لانّا نقول: إنّ المراد بالرّد إلى اللّه هو الرّد إلى كتاب اللّه، و بالردّ إلى الرّسول هو الرد إلى السّنة، و من المعلوم عدم وفاء الكتاب بالمتنازعات و عدم كفايته في رفع النّزاغ عنها، إذ الاحكام المشتمل عليها الكتاب أقلّ قليل من الاحكام، فلا يغني ذكر الرد إليه عن ذكر الرد إلى السّنة المشتملة على جميع الاحكام الشّرعية الكافية في رفع النزاع عنها إلا قليل منها هذا.

و يؤيّد«» ما ذكرنا أعني كون الردّ إلى اولي الامر مرادا بالآية أيضا ما رواه‏ عليّ بن إبراهيم القميّ في تفسيره عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: نزل فان تنازعتم في شي‏ء فارجعوه إلى اللّه و إلى الرّسول و إلى أولى الامر منكم، و هو يدلّ على أنّ في مصحفهم عليهم السّلام كان قول و إلى اولى الامر منكم، و إن عدم وجوده في المصاحف التي بأيدينا من اسقاط المحرّفين الذين جعلوا القرآن عضين، و اعتاضوا الدّنيا بالدّين، فقد تحقّق و اتّضح ممّا ذكرنا أنّ الآية الشّريفة نصّ ظاهر جليّ لو لا اتّباع الهوى من امثال النّاصب اللّعين.

«أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَ لِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً».

و منها آية الإبلاغ

قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ» فقد ذهب الخاصّة ككثير من العامة إلى أنّها نزلت في عليّ عليه السّلام، و رووا في ذلك أخبارا كثيرة، مثل ما رواه الفخر الرّازي بعد ما ذكر وجوها سخيفة في شأن النزول قال: العاشر نزلت الآية في فضل عليّ بن أبي طالب عليه السّلام و لما نزلت هذه الآية أخذ بيده، و قال: من كنت مولاه فعليّ مولاه اللهمّ وال من والاه و عاد من عاداه، فلقاه عمر فقال: هنيئا لك يا بن أبي طالب أصبحت مولاى و مولى كلّ مؤمن و مؤمنة، و هو قول ابن عباس و البراء بن عازب و محمّد بن عليّ.

و في غاية المرام من تفسير الثّعالبي في تفسيره هذه الآية قال: قال أبو جعفر محمّد بن عليّ عليهما السّلام: معناه بلّغ ما انزل إليك من ربّك في فضل عليّ بن أبي طالب عليه السّلام و في نسخة اخرى أنّه عليه السّلام قال: يا أيّها الرّسول بلّغ ما انزل إليك في عليّ، و قال: هكذا نزلت، رواه جعفر بن محمّد، فلما نزلت هذه الآية أخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بيد عليّ عليه السّلام و قال: من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه.

و في كتاب فصول المهمة للمالكي قال روى الامام أبو الحسن الواحدي في‏كتابه المسمّى بأسباب النزول يرفعه بسنده إلى أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه قال: نزلت هذه الآية: يا أيّها الرّسول بلغ ما انزل إليك من ربّك يوم غدير خم في عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، إلى غير ذلك من الاخبار المروية من طرق العامة البالغة حدّ الاستفاضة و المراد من قوله: بلّغ ما انزل، هو تبليغ ولاية عليّ عليه السّلام إلى النّاس و قد بلغه و أدّاه حيث نزل بالغدير و أخذ بيده و قال: أيّها النّاس أ لست اولى بكم من أنفسكم قالوا: بلى يا رسول اللّه، قال: من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه، اللهمّ وال من والاه و عاد من عاداه و انصر من نصره و اخذل من خذله و ادر الحق معه كيف ما دار، و في ذلك اليوم قال حسان بن ثابت:

يناديهم يوم الغدير نبيّهم
بخم و اكرم بالنّبي مناديا

يقول فمن مولاكم و وليكم‏
فقالوا و لم يبدوا هناك التّعاديا

الهك مولانا و أنت وليّنا
و لن تجدن منّا لك الدّهر عاصيا

فقال له قم يا عليّ فانّني‏
رضيتك من بعدي اماما و هاديا

فمن كنت مولاه فهذا وليّه
فكونوا له انصار صدق مواليا

هناك دعا اللهمّ وال وليّه‏
و كن للذي عادى عليّا معاديا

و قال قيس بن سعد:

قلت لما بغى العدوّ علينا
حسبنا ربّنا و نعم الوكيل‏

حسبنا ربّنا الذي فتق النصرة
بالامس و الحديث طويل‏

و عليّ امامنا و امام
لسوانا أتى به التّنزيل‏

يوم قال النّبي من كنت مولاه‏
فهذا مولاه خطب جليل‏

انّما قاله النّبي على الامة
حتما ما فيه قال و قيل‏

و المراد من المولى في قوله: من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه، هو الاولى بالتّصرف بقرينة قوله أ لست أولى اه، و لعدم صلاحيّة إرادة غير هذا من معانيه الستّة، و هو المعتق و المعتق و الجار و الحليف و النّاصر، أمّا الاربعة الاول فواضح، و أمّا الخامس فلعدم احتياجه إلى البيان سيّما و قد قال اللّه تعالى:«وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ».

و يؤيّد إرادة ذلك المعنى اقتران هذه الجملة ببعض القرائن الموجودة في بعض طرق ذلك الحديث.

و هو ما رواه عليّ بن أحمد المالكي من أعيان علماء العامة قال: روى الحافظ أبو الفتوح سعد بن أبي الفضائل بن خلف العجلي في كتابه الموحد في فضل الخلفاء الاربعة رضى اللّه عنهم، يرفعه بسنده إلى حذيفة بن أسد الغفاري و عامر بن ليلى بن حمزة، قالا: لما صدر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من حجة الوداع و لم يحجّ بعد غيرها أقبل حتّى إذا كان بالجحفة«» و هى عن سمرات«» متقاربات بالبطحاء أن لا ينزل تحتهنّ أحد حتّى إذا أخذ القوم منازلهم أرسل فقمّ ما تحتهنّ حتّى نودي بالصّلاة صلاة الظهر عمد إليهن فصلى بالنّاس تحتهن، و ذلك يوم غدير خم، ثمّ بعد فراغه من الصّلاة قال: أيّها النّاس إنّه قد نبّأني اللطيف الخبير أنّه لن يعمر نبيّ إلا نصف عمر النّبيّ الذي كان قبله و إنّى لاظن أنّى ادعى فاجيب. فانّى مسئول و أنتم مسئولون هل بلّغت فما أنتم قائلون قالوا: نقول: قد بلّغت و جهدت و نصحت و جزاك اللّه خيرا، قال: ألستم تشهدون أن لا إله إلا اللّه و أنّ محمّدا «رسول اللّه خ» عبده و رسوله، و أن جنّته حقّ و أنّ ناره حقّ، و البعث بعد الموت حقّ قالوا: بلى نشهد، قال: اللهمّ اشهد، ثمّ قال: أيها النّاس ألا تسمعون ألا فانّ اللّه مولاى و أنا أولى بكم من أنفسكم ألا و من كنت مولاه فعليّ مولاه، و أخذ بيد عليّ عليه السّلام فرفعها حتّى نظرها القوم، ثمّ قال: اللهمّ وال من والاه و عاد من عاداه.

فانّ قراين الدّلالة على المعنى المقصود في هذه الرّواية غير خفيّة منها جمعه صلّى اللّه عليه و آله بين التّنبيه على الولاية و بين اصول العقائد من التّوحيد و النّبوة و المعاد، فيعلم منه أنّ المراد بالمولى هو الامام الأولى بالتّصرف، إذ هو الذي يليق بان يعتقد به بعد الاعتقاد بالتّوحيد و الرسالة و منها تصدير كلامه صلّى اللّه عليه و آله بحرف التّنبيه«» ثمّ توكيدها بتكرارها تنبيها على عظم المقصود، و من المعلوم أن النّصرة لا يليق بأن يبالغ فيها تلك المبالغة و يهمّ بها ذلك الاهتمام و منها حثهم على الاستماع بقوله ألا تسمعون، إلى غير هذه من وجوه الدلالة.

و بالجملة فقد تحقّق ممّا ذكرنا كله أنّه لا غبار على دلالة الآية على خلافته عليه السّلام و لو بمعاونة الأخبار المفسرة المستفيضة العاميّة و الخاصيّة كما ظهر دلالة تلك الأخبار و غيرها من أحاديث الغدير المتواترة على المدّعى لو لم نقل بكونها صريحة في إثبات الدّعوى.

و أنت بعد الخبرة بما تلوناه عليك تقدر على دفع ما أورده بعض النّواصب علينا في الاستدلال بهذه الأخبار.

منها ما ذكره الشّارح القوشجي في شرح التّجريد عند شرح قول المحقّق الطوسي: و لحديث الغدير المتواتر، حيث قال: و أجيب بأنّه غير متواتر بل هو خبر واحد في مقابلة الاجماع كيف و قد قدح في صحته كثير من أهل الحديث، و لم ينقله المحققون منهم كالبخارى و مسلم و الواقدي، و أكثر من رواه لم يرو«» المقدمة التي جعلت دليلا على أنّ المراد بالمولى الأولى بالتصرف.

و منها ما ذكره أيضا كصاحب المواقف. من أنّ قوله: اللّهمّ وال من والاه يشعر بانّ المراد بالمولى هو النّاصر و المحب، قال القوشجي: بل مجرّد احتمال ذلك كاف في دفع الاستدلال، و ما ذكر من أن ذلك معلوم ظاهر من قوله: و المؤمنون‏ و المؤمنات بعضهم أولياء بعض، لا يدفع الاحتمال، لجواز أن يكون الغرض على التّنصيص على موالاته و نصرته ليكون أبعد عن التّخصيص الذي يحتمله أكثر العمومات، و ليكون أوفى بافادة الشّرف حيث قرن بموالاة النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

و منها ما ذكراه أيضا و هو أنّه و إن سلّم أن المراد بالمولى هو الأولى فأين الدّليل على أنّ المراد الأولى بالتّصرف و التّدبير، بل يجوز أن يراد به الأولى في أمر من الامور كما قال تعالى: «إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ».

و أراد الأولوية في الاتباع و الاختصاص به و القرب منه لا في التّصرف فيه.

و منها ما ذكره صاحب المواقف و بعض شرّاح التّجريد من أنّ أولى بمعنى أفعل و مولى بمعنى مفعل و لم يرد أحدهما بمعنى الآخر و إلّا لصحّ أن يقترن لكلّ منهما ما يقترن بالآخر، و ذلك بأن يقال: فلان مولى من فلان كما يقال: فلان أولى من فلان، و فلان أولى فلان كما يقال مولى فلان، و ليس فليس إلى غير ذلك من الوجوه السّخيفة التي لفّقوها و صرف العمر فيها ظلم في حقّه فالتشاغل عنها أولى.

و لا باس بأن نشير إلى دفع هذه الاعتراضات لتعرف أنّها أضغاث أحلام من عمل الشيطان و ليقاس عليها غيره من الوجوه الضّعيفة البيان فنقول: أمّا الاعتراض الأول و هو انكار تواتر الحديث، ففيه أنه لم يصدر إلّا عن التّعنت و التعصب يشهد بذلك مراجعة كتب الأخبار العاميّة و الخاصية.

و قد رواه المحدث العلّامة السيّد هاشم البحراني في كتاب غاية المرام بتسعة و ثمانين طريقا من طرق العامة و ثلاثة و أربعين طريقا من طرق الخاصّة، قال السيّد في الكتاب المذكور: أقول: خبر غدير خمّ قد بلغ حدّ التّواتر من طرق العامة و الخاصة حتّى أنّ محمّد بن جرير الطبري صاحب التاريخ أخرج خبر غدير خمّ و طرقه من خمسة و سبعين طريقا و أفرد له كتابا سمّاه كتاب الولاية و هذا الرّجل عاميّ المذهب.

و ذكر أبو العباس أحمد بن محمّد بن سعيد بن عقدة خبر يوم الغدير و أفرد له كتابا و طرقه من مأئة و خمسة طرق و هذا قد تجاوز حدّ التواتر فلا يوجد خبر قط نقل من طرق بقدر هذا الطرق، و الدّليل على ما ذكرناه من أنّه لم يوجد خبر له طرق كخبر غدير خم ما حكاه السّيد العلامة عليّ بن موسى بن طاوس، و عليّ بن محمّد بن شهر آشوب ذكرا عن شهر آشوب، قال: سمعت أبا المعالي الجويني يتعجب و يقول شاهدت مجلّدا ببغداد في يد صحاف فيه روايات غدير خم مكتوبا عليه المجلّدة الثامنة و العشرون من طرق قوله: من كنت مولاه فعليّ مولاه، و يتلوه المجلّد التّاسع و العشرون انتهى.

و قال قاضي نور اللّه نوّر اللّه مرقده في كتاب إحقاق الحقّ في ردّ النّاصب اللعين فضل بن روزبهان: أنّه روى الحديث في صحاح القوم كالبخاري و رواه أحمد بن حنبل امامهم في مسنده بطرق متعددة على الوجه الذي ذكره المصنف«»، و كذا رواه الثعلبي في تفسيره، و ابن المغازلي الشّافعي في كتابه من طرق شتى، و ابن عقدة في مأئة و خمس طرق، و ذكر الشيخ ابن الكثير الشّامي الشّافعي عند ذكر أحوال محمّد بن جرير الطبري الشّافعي انّى رأيت كتابا جمع فيه أحاديث غدير خم في مجلّدين ضخمين و كتابا جمع فيه طرق حديث الطير، و نقل عن أبي المعالي الجويني أنّه كان يتعجب إلى آخر ما حكاه عنه في غاية المرام، ثمّ قال: و أثبت الشيخ ابن الجزري الشّافعي في رسالته الموسومة بأسنى المطالب في مناقب عليّ بن أبي طالب عليه السّلام تواتر هذا الحديث من طرق كثيرة، و نسب منكره إلى الجهل و العصبية.

و قال ابن شهر آشوب: العلماء مطبقون على قبول هذا الخبر و إنّما وقع الخلاف في تأويله، ذكره محمّد بن إسحاق، و أحمد البلادري، و مسلم بن الحجاج، و أبو نعيم الاصفهاني، و أبو الحسن الدارقطني، و أبو بكر بن مردويه، و ابن شاهين‏ و أبو بكر الباقلاني، و أبو المعالي الجويني، و أبو اسحاق الثعلبي، و أبو سعيد الخرگوشي و أبو المظفر السّمجاني، و أبو بكر بن شيبة، و عليّ بن الجعد، و شعبة، و الأعمش و ابن عباس، و ابن الثّلاج، و الشعبي، و الزّهري، و الاقليشي، و ابن اليسع، و ابن ماجه، و ابن عبدربّه، و الاسكافي، و أبو يعلى الموصلي من عدّة طرق، و أحمد بن حنبل من أربعين طريقا، و ابن بطة من ثلاث و عشرين طريقا، و ابن جرير الطبري من نيف و ستّين طريقا، في كتاب الولاية، و ابو العباس بن عقدة عن مأئة و خمس طرق، و أبو بكر الجعاني من مأئة و خمس و عشرين طريقا.

و قد صنف عليّ بن هلال المهلبي كتاب الغدير، و أحمد بن محمّد بن سعد كتاب من روى غدير خم، و مسعود السحرى كتابا فيه رواة هذا الخبر و طرقها.

و استخرج منصور اللالي «اللالكائي ظ» الرّازي فى كتابه أسماء رواتها على حروف المعجم، و ذكر عن الصاحب الكافي أنه قال: روى لناقصة غدير خم القاضى أبو بكر الجعابى عن أبي بكر، و عمر، و عثمان، و عليّ، و طلحة، و الزّبير، و الحسن، و الحسين، و عبد اللّه بن جعفر، و عباس بن عبد المطلب، و عبد اللّه بن عباس، و أبو ذر، و سلمان، و عبد الرّحمن، و أبو قتادة، و زيد بن أرقم، و جرير بن حميد، و عديّ بن حاتم، و عبد اللّه بن أنيس، و البراء بن عازب، و أبو أيوب، و أبو بريدة الأسلمي، و سهل ابن حنيف، و سمرة بن جندب، و أبو الهيثم، و عبد اللّه بن ثابت الأنصاري، و سلمة ابن الأكوع، و الخدري، و عقبة بن عامر، و ابو رافع، و كعب بن عجرة، و حذيفة ابن اليمان، و أبو مسعود البدري، و حذيفة بن أسيد، و زيد بن ثابت، و سعد بن عبادة، و خزيمة بن ثابت، و حباب بن عتبة، و جند بن سفيان، و عمر بن أبي سلمة، و قيس بن سعد، و عبادة بن الصامت، و أبو زينب، و ابو ليلى، و عبد اللّه بن ربيعة، و اسامة بن زيد، و سعد بن جنادة، و حباب بن سمرة، و يعلى بن مرّة، و ابن قدامة الأنصاري، و ناحية بن عميرة، و أبو كاهل، و خالد بن الوليد، و حسان بن ثابت، و النّعمان بن عجلان، و أبو رفاعة، و عمر بن الحمق، و عبد اللّه بن يعمر، و مالك بن الحويرث، و أبو الحمراء، و ضمرة بن الحبيب «الحديد خ»، و وحشي بن حرب، و عروة ابن أبي الجعد،و عامر بن النميري، و بشر بن عبد المنذر، و رفاعة بن عبد المنذر، و ثابت بن وديعة و عمرو بن حريث، و قيس بن عاصم، و عبد الأعلى بن عديّ، و عثمان بن حنيف، و ابيّ بن كعب، و من النّساء فاطمة الزّهراء، و عايشة، و امّ سلمة، و امّ هاني، و فاطمة بنت حمزة، انتهى.

و بالجملة فقد بلغ هذا الخبر في الاشتهار إلى حدّ لا يوازيه خبر من الأخبار و تلقته محقّقوا الامة بالقبول و الاعتبار، فلا يردّه إلّا معاند جاحد، أو من لا اطلاع له على كتب الحديث و الآثار.

و أمّا الاعتراض الثّاني و هو اشعار آخر الحديث بارادة النّصرة و المحبة، فهو إنّما يتمّ لو قيل إنّ اللّفظ بعد ما اطلق على أحد معانيه لا يناسب أن يطلق ما يدانيه و يناسبه في الاشتقاق على معنى آخر، و ليس كذلك، بل قد يعدّ ذلك من المحسنات البديعية، فالاشعار بذلك خصوصا مع المقدمة المتواترة ممنوع، على أنّ مؤخر الخبر جملة دعائية مستأنفة ليس ارتباطه بوسط الحديث كارتباط المقدّمة به، فاشعاره بذلك لا يكافؤ إشعار المقدمة بخلافه.

هذا كله مضافا إلى أنّ من تأمّل في الآية بعين البصيرة و الاعتبار يعلم أنّ سياقها يقتضي أنّ المأمور بتبليغه أمر عظيم يفوت بفوات تبليغه ركن من أركان الشريعة على ما يقتضيه قوله: و إن لم تفعل فما بلّغت رسالته، خصوصا على قراءة فما بلّغت رسالاته بصيغة الجمع كما في الكشّاف و غيره، و اىّ أمر يفوت من الشّريعة بعدم تبليغ أنّ عليّا عليه السّلام ناصر المؤمنين، و أىّ خوف كان للرّسول صلّى اللّه عليه و آله في إظهار نصرته عليه السّلام حتّى يقول اللّه و اللّه يعصمك من النّاس مع أنّ نصرته للايمان و حمايته للاسلام و كونه ناصرا للمؤمنين و ذابّا عن دين سيّد المرسلين كان بديهيّا غير محتاج إلى البيان.

فبديهة العقل حاكمة بأنّ نزول النّبي صلّى اللّه عليه و آله في زمان و مكان لم يكن نزول المسافر متعارفا فيهما، حيث كان الهواء على ما روي في بعض طريق الحديث في شدّة الحرارة حتّى كان الرّجل يستظلّ بدابته و يضع الرّدآء تحت قدميه من شدّة الرّمضاء و حرّ الهاجرة، و المكان ملؤمن الاشواك، ثمّ صعوده على منبر من الأقتاب و الدّعاء لعلي عليه السّلام على وجه يناسب شأن الملوك و الخلفاء لم يكن إلّا لنزول الوحى الحتمي الفوري في ذلك الزّمان لاستدراك أمر عظيم الشّأن جليل الخطب يختص بخصوص علي عليه السّلام كنصبه للامامة و الخلافة، لا لمجرّد طلب المحبة و النصرة الجارية في حقّه و في حقّ غيره من أهل بيته صلّى اللّه عليه و آله.

و مع ذلك كله فلا مجال لاحتمال إرادة النصرة حتّى يدفع به الاستدلال كما توهّمه النّاصب القوشجي، كما لا مجال لاحتمال التّخصيص بعد ملاحظة كثرة مجاهداته في الدّين، و نهاية نصرته في غزواته للمؤمنين حتّى يحتاج إلى التّنصيص على ما توهّمه أيضا.

و أمّا الاعتراض الثّالث ففيه أنّ التقييد بقوله: من أنفسهم، أو من أنفسكم، على اختلاف الرّوايتين دليل على أنّ المراد بالأولى هو الأولى بالتّصرف دون الأولى في أمر من الامور، إذ لا معنى للأولوية من النّاس بنفس النّاس إلّا الاولوية في التصرف نعم لو لم يوجد القيد لتمّ المعارضة بقوله: إنّ أولى النّاس بابراهيم، فانّه لو كان نظم الآية مثلا إنّ أولى النّاس بابراهيم من نفسه، لكان المراد الأولى بالتصرف.

و أمّا الاعتراض الرّابع ففيه أنّ عدم ورود مولى بمعنى الأول ممنوع، و قد نقله الشّارح القوشجي في قوله تعالى: «فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ» عن أبي عبيدة، و استدلّ على مجيئه بهذا المعنى بهذه الآية، و بقوله صلّى اللّه عليه و آله أيّما امرأة نكحت بغير إذن مولاها، أى الاولى بها و المالك لتدبير أمرها، ثمّ قال: و مثله في الشّعر كثير.

و أمّا الاستدلال عليه بعدم صحة اقتران كلّ منهما بما يقارنه الآخر، ففيه أن كون أحد اللفظين بمعنى الآخر لا يقتضي صحة اقترانه بكل ما يقترن به الآخر و لا جريان حكم أحدهما على الآخر مطلقا ألا ترى أنّ الصّلاة بمعنى الدّعاء مع أنّ تعدية الأوّل بعلى و تعدية الثاني باللام، يقال: صلى عليه و دعا له، و لو قيل دعا عليه لم‏ يكن بمعناه، و أنّ كلمة إلّا بمعنى غير لا يجوز حذف موصوفها، و لا يقال جائني إلا زيد بخلاف غير فانّه يقال: جائني غير زيد، و السّر في ذلك أنّ استعمالات كلام العرب منوطة على التّوقيف و التّوظيف فكلّ مقام استعملت فيه كلمة مخصوصة على كيفية خاصة فلا بدّ من متابعتها، و لا يجوز التعدّى عنها لبطلان القياس في اللغات.

و حاصل الكلام أنّه بعد تواتر الحديث كما اعترف به أكابر أهل السنة و وضوح دلالته، يكون ارتكاب القدح فيه و المنع عليه ناشيا عن اعوجاج الفطرة و سوء الاستعداد و التّورّط في العصبية و العناد، ذلك جزاؤهم جهنم بما اتخذوا آيات اللّه و أوليائه هزوا هذا.

و الآيات القرانية النّازلة في حقّ أمير المؤمنين و أولاده المعصومين سلام اللّه عليهم أجمعين كثيرة جدا و سيأتي الاشارة إليها إجمالا في أخبار مناشدته صلوات اللّه عليه مع الصّحابة يوم الشورى و غيرها، و طوينا عن الزّيادة على ما ذكرناه لغرضين، أحدهما مخافة الاطناب، و الثّاني الخوف عن عدم مساعدة العمر لاتمام الكتاب و من اراد الاطلاع عليها تفصيلا فليرجع إلى كتب اصحابنا المؤلفة في ذلك المقصد، ككتاب كشف الحقّ للعلامة الحلي، و كتاب غاية المرام للسيّد هاشم المحدث البحراني، و غيرهما من مؤلفات القوم، فانّ فيها كفاية لمن له علم و دراية، و إذا عرفت عذرنا في الاقتصار من الآيات على هذا المقدار فلنتصد إلى الاخبار فنقول:

القسم الثاني السنة النّبوية و الاخبار الدالة على إمامته عليه السّلام

و هي أكثر من أن تحصى، و قد صنف علماؤنا في ذلك و اكثروا و لنقتصر هاهنا على القليل لانّ الكثير غير متناه.

فمنها خبر الغدير المتواتر الذي رويناه سابقا.

و منها قوله صلّى اللّه عليه و آله لعلي عليه السّلام: أنت اخي و وصيّي و خليفتي من بعدي و قاضي ديني، تمسك به في التّجريد و هو نصّ صريح دالّ على خلافته عليه السّلام و اورد عليه بعض‏ شرّاحه اولا«» بأنّه خبر واحد في مقابلة الاجماع و لو صحّ لما خفي على الصّحابة و التابعين و المهرة المتفننين و المحدثين سيما عليّ و اولاده الطاهرين، و لو سلم فغايته إثبات خلافته عليه السّلام لا نفى خلافة الآخرين و ثانيا«» انّه اراد به الوصية و الخلافة على المدينة، و يحتمل ذلك في قضاء دينه و إنجاز موعده، و مع تطرق هذه الاحتمالات لا يمكن التمسك به في وجوب خلافته.

أقول: اما ما ذكره من انّه خبر واحد في مقابلة الاجماع، ففيه منع صحة الاجماع حسبما يأتي في مقامه إنشاء اللّه، و ما ذكره من أنّه لو صح لما خفي على الصحابة، ففيه انّه لم يخف على عليّ و اولاده الذين هم رؤساء الصّحابة، و قد تمسكوا به و بنظيره في غير واحد من احتجاجاتهم و صرّحوا به في اخبارهم و رواياتهم، اما غيرهم ممن عقدوا قلبهم على إطفاء نور اللّه و أجمعوا أمرهم على غصب خلافة اللّه فلم يخف عليهم أيضا و إنما أخفوه عمدا حيث كان إظهاره نقضا لغرضهم، و ما ذكره من أنّه على تقدير تسليمه إنّما يثبت خلافته و لا ينفي خلافة الآخرين، ففيه بعد تسليم«» عدم نفيه لخلافة الآخرين أنّ كفايته لاثبات خلافته عليه السّلام فقط كافية لنا، و ما المقصود إلّا ذلك، و أمّا خلافة الآخرين فقد قامت الأدلة القاطعة و البراهين السّاطعة على عدمها حسبما تطلع عليها في مواردها إن شاء اللّه تعالى.

و أمّا الايراد باحتمال كون الوصيّة و الخلافة على المدينة ففيه أنّه خلاف الظاهر، إذ ظاهر اللفظ الاطلاق و لا يعدل عنه إلّا بدليل و ليس فليس، بل نقول: إنّ حذف المتعلق دليل العموم، بل قوله صلّى اللّه عليه و آله: من بعدي، لا يخلو من إشعار بعدم‏ كون مراده الخلافة على المدينة كما لا يخفى، و كيف كان فلا ريب في بطلان الاحتمال المذكور كما لا ريب في بطلان احتمال كون متعلق الوصيّة قضاء الدّين و انجاز الموعد لما ذكرنا من أصالة الاطلاق خصوصا بملاحظة قوله: و قاضي ديني فانّ تصريحه به مشعر بل مفيد لعدم كون متعلق الخلافة و الوصاية ذلك فقط و إلا كان الأنسب أن يقال و وصيّي في قضاء ديني.

و هذا كله على التنزل و المماشاة و إلّا فنقول: إنّه صلّى اللّه عليه و آله لم يكن له دين يبقى على ذمّته إلى وفاته حتّى يوصي به إليه، لما روي أنّه في أيام مرضه طلب برائة الذّمة عن النّاس و لم يدّع عليه أحد شيئا سوى من ادّعى عليه ضرب سوط من عمد، و على هذا فالظاهر أنّ الدّين في قوله صلّى اللّه عليه و آله: و قاضي ديني بكسر الدّال كما صرح به المحقّق الطوسي في التّجريد، و عليه فهو دليل آخر على المدّعى إذ الحاكم في أمر الدّين لا بد و أن يكون خليفة معصوما.

و منها ما رواه الشّارح المعتزلي فى شرح الخطبة القاصعة و هى الخطبة المأة و الحادية و التسعون، عن جعفر بن محمّد الصّادق عليهما السّلام قال: كان علي عليه السّلام يرى مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قبل الرّسالة الضّوء و يسمع الصّوت، و قال صلّى اللّه عليه و آله له عليه السّلام: لو لا أنّي خاتم الأنبياء لكنت شريكا فى النبوة، فان لا تكن نبيّا فانّك وصيّ نبيّ و وارثه بل أنت سيّد الأوصياء و إمام الأتقياء.

و منها ما رواه الشّارح هناك أيضا عن الطبرسى فى تاريخه عن عبد اللّه بن عباس عن عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، قال: لما نزلت هذه الآية.

«وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» و ساق الحديث إلى أن قال: ثمّ تكلم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: يا بني عبد المطلب إنّى و اللّه ما أعلم أنّ شابا فى العرب جاء قومه بأفضل ممّا جئتكم به إنى قد جئتكم بخير الدّنيا و الآخرة و قد أمرني اللّه أن أدعوكم إليه فأيكم يوازرني على هذا الأمر على أن يكون‏ أخى و وصيّي و خليفتي فيكم فأحجم القوم عنها جميعا و قلت: أنا و إني لأحدثهم سنّا و أرمضهم عينا و أعظمهم بطنا و أحمشهم ساقا، انا يا رسول اللّه أكون وزيرك عليه فأعاد القول فامسكوا و أعدت ما قلت: فأخذ برقبتي ثمّ قال لهم: هذا اخي و وصيّي و خليفتي فيكم فاسمعوا له و اطيعوا، فقام القوم يضحكون و يقولون لأبي طالب قد أمرك ان تسمع لابنك و تطيع.

أقول: وجوه الدلالة في هذه الرّواية من طرق شتّى غير خفيّة على من استضاء قلبه بنور الولاية أو ألقى السّمع و هو شهيد، و سيأتي إنشاء اللّه بتمامه في مقامه، و العجب كلّ العجب من الشّارح كيف خفي عليه وجوه الدّلالة و عزب عن الاهتداء إليها.

و منها ما رواه هناك أيضا قال: قال النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله في الخبر المجمع على روايته بين ساير فرق الاسلام: أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي، ثم قال: فأثبت له جميع مراتب هارون و منازله عن موسى، فاذا هو وزير رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و شادّ ازره، و لولا أنّه خاتم النّبيين لكان شريكا في أمره انتهى.

أقول: توضيح الاستدلال و تحقيقه أنه صلّى اللّه عليه و آله أثبت لعليّ عليه السّلام جميع مراتب هارون من موسى و استثنى النّبوة و يبقى الباقي على عمومه، و من جملة المنازل أنّه كان خليفة لموسى عليه السّلام بدليل قوله تعالى: اخلفني في قومي، فكان خليفة في حياته فيكون خليفة بعد وفاته لو عاش، لكنه لم يعش و عليّ عليه السّلام عاش فتكون خلافته ثابتة.

قال القوشجي في شرح التّجريد: و اجيب بأنّه غير متواتر بل هو خبر واحد في مقابلة الاجماع، و بمنع عموم المنازل بل غاية الاسم المفرد المضاف إلى العلم الاطلاق، و ربّما يدعى كونه معهودا معيّنا كغلام زيد، و ليس الاستثناء المذكور إخراجا لبعض أفراد المنزلة بمنزلة قولك إلّا النّبوة، بل منقطع بمعنى لكن، فلا يدلّ على العموم كيف، و من منازله الاخوّة و لم يثبت لعليّ عليه السّلام، اللّهمّ إلّا أن يقال إنّها بمنزلة المستثنى لظهور انتفائها، و لو سلّم العموم فليس من منازل هارون الخلافة و التّصرف بطريق النّيابة على ما هو مقتضى الامامة لأنّه شريك له في النّبوة، و قوله اخلفني ليس استخلافا، بل مبالغة و تأكيدا في القيام بأمر القوم، فلو سلّم فلا دلالة على بقائها بعد الموت، و ليس انتفاؤها بموت المستخلف عزلا و لا نقصا، بل ربّما تكون عودا إلى حالة أكمل هي الاستقلال بالنبوّة و التّبليغ من اللّه، و تصرف هارون و نفاذ أمره لو بقي بعد موسى إنّما يكون لنبوّته، و قد انتفت النّبوة في حقّ عليّ فينتفى ما يبنى عليها و يتسبّب عنها، و بعد اللتيا و التي لا دلالة فيه على نفى إمامة الأئمة الثّلاثة قبل عليّ عليه السّلام انتهى.

و يتوجه عليه وجوه من الكلام و ضروب من الملام الأوّل أنّ إنكار تواتر الخبر ممّا لا يصغى إليه بعد ما سمعته من الشّارح المعتزلي من كونه مجمعا على روايته بين فرق الاسلام، و قد رواه السّيد المحدث البحراني في كتاب غاية المرام بمأة طريق من طرق العامة، و بسبعين طريقا من طرق الخاصّة.

الثّاني أنّ عدم إفادة المفرد المضاف للعموم بحسب الوضع مسلم، إلّا أنّه لا غبار على إفادته له في المقام بخصوصه بقرينة الاستثناء و بدليل الحكمة، لأنّا لو حملنا المنزلة على بعض المنازل دون بعض فامّا أن يكون معيّنة أو مبهمة، و الأوّل ممتنع، ضرورة عدم دلالة اللفظ على التّعيين، و الثّاني أيضا ممتنع لما فيه من الاجمال و عدم الافادة، نظير ما قاله الاصوليون في إفادة المفرد المعرّف للعموم إذا لم يكن ثمّ معهود، مثل قوله: أحلّ اللّه البيع.

الثّالث أنّ الأصل في الاستثناء الاتّصال و حمل إلّا بمعنى لكن خلاف الظاهر.

الرّابع أنّ معنى قوله: اخلفني في قومي، كن خليفتي فيهم كما صرّح به في الكشّاف، و على ذلك فكان تصرّفه في القوم بطريق النّيابة عن موسى كما كان نافذ التّصرف بالاصالة بمقتضى نبوّته و حيث انتفى النّبوة في حقّ عليّ عليه السّلام فيكون تصرّفاته بطريق النّيابة.

الخامس هب أنّ بقاء هارون بعد موسى لا يقتضى كونه نافذ التّصرف من حيث‏النّيابة و الخلافة لامكان النبوة المستقلة في حقّه من اللّه التي هي أعلى و أكمل رتبة من مرتبة الخلافة من موسى، إلّا أنّ النّبوة لما كانت غير ممكنة في حقّ عليّ عليه السّلام بمقتضى الاستثناء فلا بدّ و أن يكون نفوذ تصرّفه المستند إلى الخلافة في حال حياة النبيّ المستفاد من عموم المنزلة مستمرا إلى ما بعد الوفاة، و إلا لزم العزل و النّقص و تنفر الطباع، إذ نفوذ التّصرف مرتبة جليلة لا يحط عنها من ثبت له هذه المرتبة، لأنّ ذلك يقتضي غاية التنفير، و بعبارة اخرى المجيب قد سلم كون انتفاء الخلافة بموت المستخلف موجبا للعزل و النّقص إلّا أنّه قد ذبّ عنه بامكان جبران ذلك النقصان بحصول مرتبة هي أكمل من مرتبة الخلافة، و عليه فأقول: إنّ الجابر للنّقص لما لم يمكن في حقّ عليّ عليه السّلام، لزم بقاء الخلافة في حقّه على حالها لوجود مقتضى البقاء و هو ظاهر لا يخفى.

السّادس أنّ عدم دلالته على نفى إمامة الثّلاثة ممنوع، لأنّه إذا دلت الرّواية على عموم المنزلة حسبما عرفت، فمن جملة منازل هارون هو التّدبير و التّصرف و نفاذ الحكم على فرض التّعيّش بعد موسى عليه السّلام على عامة الامّة بحيث لم يشدّ منهم أحد، فبعد إثبات العموم و تسليم الخصم يلزم دخول عامة امّة النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله في حال حياته و ارتحاله تحت تصرّف أمير المؤمنين عليه السّلام كما كان عامة قوم موسى تحت تصرّف هارون، و هذا ينفي إمامة الثلاثة مطلقا، فقد تحقق مما ذكرنا كله كفاية الرواية في إثبات خلافته و نفى خلافة الثّلاثة، و يأتي إنشاء اللّه مزيد تحقيق و بسط لذلك في التّنبيه الثالث من شرح الفصل الثّامن من فصول الخطبة المأة و الحادية و التّسعين، و لنعم ما قال زيد بن علي عليه السّلام:

فمن شرّف الاقوام يوما برأيه
فانّ عليّا شرّ فته المناقب‏

و قول رسول اللّه و الحقّ قوله‏
و ان رغمت منه انوف الكواذب‏

بأنك منّى يا عليّ معالنا
كهارون من موسى اخ لي و صاحب‏

و قال آخر:

و انزله منه على رغمة العدى
كهارون من موسى على قدم الدّهر

فمن كان في اصحاب موسى و قومه
كهارون لازلتم على زلل الكفر

و قال ابن حماد:

نصّ النّبيّ على الهادي أبي الحسن
نصّا على صدقه اجمعت انت معي‏

في قوله لك منّي اليوم منزلة
كانت لهارون من موسى فلا نرع‏

و انّما قال هذا حين خلّفه
على المدينة ان انصفت فاقتنع‏

و منها ما رواه في غاية المرام عن ابن المغازلي الشّافعي باسناده عن جابر بن عبد اللّه عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله، قال: انّ اللّه عزّ و جلّ أنزل قطعة من نور فأسكنها في صلب آدم فساقها حتّى قسمها جزئين فجعل جزء في صلب عبد اللّه و جزء في صلب أبي طالب، فأخرجني نبيّا و أخرج عليّا وصيّا.

و منها ما رواه في غاية المرام أيضا عن ابن شيرويه الدّيلمي و هو من أعيان علماء العامة من كتاب الفردوس في باب الخاء، قال باسناده عن سلمان الفارسي رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: خلقت أنا و عليّ من نور واحد قبل أن يخلق اللّه آدم بأربعة الآف عام، فلما خلق اللّه آدم ركب ذلك النّور في صلبه فلم نزل في شي‏ء واحد حتّى افترقنا في صلب عبد المطلب ففيّ النّبوة، و في عليّ الخلافة.

و منها ما رواه في كشف الحقّ من كتاب المناقب لأبي بكر أحمد بن مردويه، و هو حجة عند المذاهب الأربعة، رواه باسناد إلى أبي ذر، قال: دخلنا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقلنا: من احبّ أصحابك إليك و إن كان أمر كنا معه، و إن كانت نائبة كنا من دونه قال هذا عليّ أقدمكم سلما و إسلاما.

و اورد«» عليه بأنّه يدلّ على فضيلة أمير المؤمنين عليه السّلام و أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله يحبه حبّا شديدا و لا يدلّ على النّص بامارته، و لو كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ناصّا على خلافته لكان هذا محلّ إظهاره، و هو ظاهر، فانّه لما لم يقل إنّه الأمير بعدي علم عدم النّص فكيف يصحّ الاستدلال به.

و اجيب«» بأنّ النّص على المعنى المراد كما يكون بالدّلالة على ذلك من‏مجرّد مدلول اللّفظ، كذلك يكون باقامة القراين الواضحة النّافية للاحتمالات المخالفة للمعنى المقصود، و ما نحن فيه من هذا القبيل، فانّ قول السّائل و إن كان أمر كنّا معه و ان كانت نائبة كنّا من دونه مع قوله صلّى اللّه عليه و آله: هذا عليّ أقدمكم اه، نصّ على إرادة الخلافة، فانّ قوله: أقدمكم، بمنزلة الدّليل على أهليّته للتقدّم على ساير الامة، فقوله: لو كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ناصّا لقال إنّه الأمير بعدى، من باب تعيين الطريق الخارج عن شرح المحصلين، بل لو قال النّبي ذلك لكان يتعسف النّاصب الشقيّ و يقول الامارة ليست نصّا صريحا في الخلافة لاستعماله في امارة الجيوش و في امارة قوم دون قوم، كما قال الأنصار، منّا أمير و منكم أمير و بالجملة التّصريح و التطويل لا ينفع المعاند المحيل و لو تليت عليه التّوراة و الانجيل.

و منها ما رواه فيه أيضا من كتاب ابن المغازلي الشّافعي باسناده عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: لكل نبيّ وصيّ و وارث، و إن وصيّي و وارثي عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، و احتمال كون المراد بالوصاية غير الخلافة مدفوع، بأنّ الظاهر من قوله صلّى اللّه عليه و آله: لكلّ نبيّ وصيّ و وارث هو أنّ المراد بالوصيّ الوصيّ في أمر النّبوة، و إلا يقال إنّ لكلّ احد وصيّ و من المعلوم أنّ الوصاية في أمر النّبوة هو عبارة اخرى للخلافة و سيأتي لذلك مزيد توضيح بعيد ذلك.

و منها ما رواه فيه أيضا من مسند أحمد بن حنبل عن سلمان أنّه قال: يا رسول اللّه من وصيك قال: يا سلمان من وصيّ أخي موسى قال: يوشع بن نون، قال: فان وصيّي و وارثي يقضي ديني و ينجز موعدي عليّ بن أبي طالب عليه السّلام.

و أورد عليه النّاصب فضل بن روزبهان بأنّ الوصيّ قد يطلق و يراد به من أوصى له بالعلم و الهداية و حفظ قوانين الشّريعة و تبليغ العلم و المعرفة، فان اريد هذا من الوصيّ فمسلم أنّه كان وصيّا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لا خلاف في هذا، و إن اريد الوصيّة بالخلافة فقد ذكرنا بالدلايل العقليّة و النّقلية عدم النّص في خلافة عليّ، و لو كان نصّا جليا لم يخالفه الصّحابة و إن خالفوا لم يطعهم العساكر و عامة العرب سيما الأنصار.

و فيه اولا أن الوصيّ بمعنى الأوّل الذي سلم اتّصافه به أيضا لا بدّ و أن يكون خليفة إذ لا نعني بالخلافة إلّا حفظ قوانين الدين و حماية شريعة سيد المرسلين و هداية الامة إلى أعلام المعرفة و منار اليقين، و أنّى حصل هذا المعنى في حق الثّلاثة المتحيّرين في بوادي الضّلالة التائهين في مفازة الجهالة العاجزين عن معرفة ظواهر الكتاب و السّنة و عن تفسير معنى الأب و الكلالة، فضلا عن ضبط معانيها و عن معرفة أحكامها و عن هداية الامة إليها.

و ثانيا أنّ ضرب يوشع مثلا لعليّ عليه السّلام يعطي كون مراده بالوصاية الخلافة، حيث إنّ يوشع كان خليفة لموسى بعده كما صرّح به غير واحد منهم الشهرستاني في بيان أحوال اليهود حيث قال في محكيّ كلامه: إنّ الأمر كان مشتركا بين موسى و بين أخيه هارون إذ قال: أشركه فى امرى، فكان هو الوصيّ فلما مات هارون فى حياته انتقل الوصاية إلى يوشع وديعة ليوصلها إلى شبير و شبرا بني هارون قرارا و ذلك انّ الوصيّة و الامامة بعضها مستقرّ و بعضها مستودع.

و ثالثا أنّ أىّ دليل عقلىّ أو نقلىّ قام على عدم النّص و إن هو إلّا مصادرة على الدّعوى.

و أمّا ما ذكره من أنّه لو كان نصّا جليّا لم يخالفه الصحابة، ففيه أنّ من الصحابة من كان قلبه منورا بنور الايمان و العرفان فلم يخالفوه بل ائتمّوا به و اقتبسوا أنواره و اتّبعوا آثاره حتّى أتيهم اليقين و مضوا إلى لقاء ربّ العالمين، و أمّا غيرهم فقد كان همّهم من أوّل الأمر على اطفاء نور اللّه و كتمان آيات اللّه فلا غرو فى كتمانهم و إخفائهم ذلك، و أمّا العساكر فمخالفتهم إنما هو للحقد و السّخايم الثابتة فى صدورهم من أجل قتله أقاربهم و أحبائهم و إخوانهم و أولادهم، و لم يكن بطن من بطون قريش إلّا و كان لهم على عليّ عليه السّلام دم أراقه فى سبيل اللّه كما اعترف به غير واحد منهم منهم ذلك النّاصب، و منهم الشّارح المعتزلي و غيرهما، و من المعلوم أنّ الطبايع البشرية مجبولة على بغض من قتل أقارب قوم و أقوامهم، و حري‏ على المبغض بمقتضى جبلته أن يخالف القاتل و يعانده و يمنعه ممّا يرومه بقدر وسعه و طاقته.

و منها خبر الثقلين المتواتر بين الفريقين، و قد رواه فى غاية المرام بتسعة و ثلاثين طريقا من طرق العامة و اثنين و ثمانين طريقا من طرق الخاصة، و من جملة طرقه أحمد بن حنبل فى المسند عن أبى سعيد الخدري قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنى قد تركت فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلوا بعدى: الثّقلين واحدهما أكبر من الاخر كتاب اللّه حبل ممدود من السّماء إلى الأرض، و عترتى أهل بيتى هذا و الاخبار الناصّة على خلافته و إمامته بعد النبي صلّى اللّه عليه و آله فوق حدّ الاحصاء و المقام لا يقتضى الزّيادة على ما رويناه، و سيأتى إنشاء اللّه كثير منها فى تضاعيف الشرح في مواضعها المناسبة و من اللّه التّوفيق و الاستعانة.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»

Show More

دیدگاهتان را بنویسید

نشانی ایمیل شما منتشر نخواهد شد. بخش‌های موردنیاز علامت‌گذاری شده‌اند *

این سایت از اکیسمت برای کاهش هرزنامه استفاده می کند. بیاموزید که چگونه اطلاعات دیدگاه های شما پردازش می‌شوند.

Back to top button
-+=