خطبه 28 صبحی صالح
28- و من خطبة له ( عليه السلام ) و هو فصل من الخطبة التي أولها «الحمد للّه غير مقنوط من رحمته» و فيه أحد عشر تنبيها
أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الدُّنْيَا أَدْبَرَتْ
وَ آذَنَتْ بِوَدَاعٍ
وَ إِنَّ الْآخِرَةَ قَدْ أَقْبَلَتْ وَ أَشْرَفَتْ بِاطِّلَاعٍ
أَلَا وَ إِنَّ الْيَوْمَ الْمِضْمَارَ
وَ غَداً السِّبَاقَ
وَ السَّبَقَةُ الْجَنَّةُ
وَ الْغَايَةُ النَّارُ
أَ فَلَا تَائِبٌ مِنْ خَطِيئَتِهِ قَبْلَ مَنِيَّتِهِ
أَ لَا عَامِلٌ لِنَفْسِهِ قَبْلَ يَوْمِ بُؤْسِهِ
أَلَا وَ إِنَّكُمْ فِي أَيَّامِ أَمَلٍ مِنْ وَرَائِهِ أَجَلٌ
فَمَنْ عَمِلَ فِي أَيَّامِ أَمَلِهِ قَبْلَ حُضُورِ أَجَلِهِ
فَقَدْ نَفَعَهُ عَمَلُهُ
وَ لَمْ يَضْرُرْهُ أَجَلُهُ
وَ مَنْ قَصَّرَ فِي أَيَّامِ أَمَلِهِ قَبْلَ حُضُورِ أَجَلِهِ
فَقَدْ خَسِرَ عَمَلُهُ
وَ ضَرَّهُ أَجَلُهُ
أَلَا فَاعْمَلُوا فِي الرَّغْبَةِ
كَمَا تَعْمَلُونَ فِي الرَّهْبَةِ
أَلَا وَ إِنِّي لَمْ أَرَ كَالْجَنَّةِ نَامَ طَالِبُهَا
وَ لَا كَالنَّارِ نَامَ هَارِبُهَا
أَلَا وَ إِنَّهُ مَنْ لَا يَنْفَعُهُ الْحَقُّ يَضُرُّهُ الْبَاطِلُ
وَ مَنْ لَا يَسْتَقِيمُ بِهِ الْهُدَى
يَجُرُّ بِهِ الضَّلَالُ إِلَى الرَّدَى
أَلَا وَ إِنَّكُمْ قَدْ أُمِرْتُمْ بِالظَّعْنِ
وَ دُلِلْتُمْ عَلَى الزَّادِ
وَ إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ
عَلَيْكُمُ اثْنَتَانِ
اتِّبَاعُ الْهَوَى
وَ طُولُ الْأَمَلِ
فَتَزَوَّدُوا فِي الدُّنْيَا مِنَ الدُّنْيَا مَا تَحْرُزُونَ بِهِ أَنْفُسَكُمْ غَداً
قال السيد الشريف رضي الله عنه و أقول
إنه لو كان كلام يأخذ بالأعناق إلى الزهد في الدنيا
و يضطر إلى عمل الآخرة
لكان هذا الكلام
و كفى به قاطعا لعلائق الآمال
و قادحا زناد الاتعاظ و الازدجار
و من أعجبه قوله ( عليهالسلام )
ألا و إن اليوم المضمار و غدا السباق
و السبقة الجنة و الغاية النار
فإن فيه مع فخامة اللفظ
و عظم قدر المعنى
و صادق التمثيل
و واقع التشبيه
سرا عجيبا
و معنى لطيفا
و هو قوله ( عليه السلام ) و السبقة الجنة و الغاية النار
فخالف بين اللفظين لاختلاف المعنيين
و لم يقل السبقة النار
كما قال السبقة الجنة
لأن الاستباق إنما يكون إلى أمر محبوب
و غرض مطلوب
و هذه صفة الجنة و ليس هذا المعنى موجودا في النار
نعوذ بالله منها
فلم يجز أن يقول و السبقة النار
بل قال و الغاية النار
لأن الغاية قد ينتهي إليها من لا يسره الانتهاء إليها
و من يسره ذلك فصلح أن يعبر بها عن الأمرين معا
فهي في هذا الموضع كالمصير و المآل
قال الله تعالى قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ
و لا يجوز في هذا الموضع أن يقال سبْقتكم بسكون الباء إلى النار
فتأمل ذلك
فباطنه عجيب
و غوره بعيد لطيف
و كذلك أكثر كلامه ( عليهالسلام )
و في بعض النسخ و قد جاء في رواية أخرى و السُّبْقة الجنة بضم السين
و السبقة عندهم اسم لما يجعل للسابق
إذا سبق من مال أو عرض
و المعنيان متقاربان
لأن ذلك لا يكون جزاء على فعل الأمر المذموم
و إنما يكون جزاء على فعل الأمر المحمود
شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج4
الجزء الرابع
تتمة باب المختار من خطب أمير المؤمنين ع و أوامره
بسم اللّه الرحمن الرحيم
و من خطبة له عليه السّلام
و هى الثامنة و العشرون من المختار في باب الخطب و رواها في البحار من كتاب مطالب السؤول لمحمّد بن طلحة، و من إرشاد الدّيلمي بتغيير تطلع عليه.
أمّا بعد فإنّ الدّنيا قد أدبرت و آذنت بوداع، و إنّ الآخره قد أقبلت و أشرفت باطّلاع، ألا و إنّ اليوم المضمار و غدا السّباق، و السّبقة الجنّة، و الغاية النّار، أفلا تائب من خطيئته قبل منيّته ألا عامل لنفسه قبل يوم بؤسه ألا و إنّكم في أيّام أمل من ورائه أجل، فمن عمل في أيّام أمله قبل حضور أجله فقد نفعه عمله و لم يضرّه أجله، و من قصّرفي أيّام أمله قبل حضور أجله فقد خسر عمله و ضرّه أجله، ألا فاعملوا في الرّغبة كما تعملون في الرّهبة، ألا و إنّي لم أر كالجنّة نام طالبها، و لا كالنّار نام هاربها، ألا و أنّه من لا ينفعه الحقّ يضرّه الباطل، و من لا يستقيم به الهدى يجرّ به الضّلال إلى الرّدى، ألا و إنّكم قد أمرتم بالظّعن و دلّلتم على الزاد، و إنّ أخوف ما أخاف عليكم اتّباع الهوى و طول الأمل، فتزوّدوا في الدّنيا من الدّنيا ما تجهزون «تحرزون خ» به أنفسكم غدا. قال الرضيّ «قد» أقول: لو كان كلام يأخذ بالأعناق إلى الرّهد في الدّنيا و يضطرّ إلى عمل الآخرة، لكان هذا الكلام، و كفى به قاطعا لعلايق الآمال، و قادحا زناد الاتعاظ و الازدجار، و من أعجبه قوله عليه السّلام: ألا و إنّ اليوم المضمار و غدا السّباق و السّبقة الجنّة و الغاية النّار، فانّ فيه مع فخامة اللّفظ و عظم قدر المعنى و صادق التمثيل و واقع التّشبيه، سرّا عجيبا و معنى لطيفا، و هو قوله عليه السّلام: و السّبقة الجنّة و الغاية النّار، فخالف بين اللّفظين لاختلاف المعنيين، و لم يقل: السّبقة النّار كما قال: و السّبقة الجنّة. لأنّ الاستباق إنّما يكون إلى أمر محبوب و غرض مطلوب، و هذه صفة الجنّة، و ليس هذا المعنى موجودا في النّار نعوذ باللّه منها فلم يجز أن يقول: و السّبقة النّار، بل قال: و الغاية النار، لأنّ الغاية قد ينتهى إليها من لا يسرّه الانتهاء و من يسرّه ذلك، فصلح أن يعبرّ بها عن الأمرين معا. فهي في هذا الموضع كالمصير و المآل قال اللّه تعالى: «وَ جَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ» و لا يجوز في هذا الموضع أن يقال: سبقتكم بسكون الباء إلى النّار فتأمّل ذلك، فباطنه عجيب و غوره بعيد لطيف، و كذلك أكثر كلامه عليه السّلام.
و قد جاء في رواية اخرى و السّبقة الجنّة بضمّ السّين، و السبقة عندهم اسم لما يجعل للسّابق إذا سبق من مال أو عرض، و المعنيان متقاربان لأنّ ذلك لا يكون جزاء على فعل الأمر المذموم، و إنما يكون جزاء على فعل الأمر المحمود.
اللغة
(آذنت) بالمدّ أى أعلمت من الأذان بمعنى الاعلام قال سبحانه: «و أذان من اللّه و رسوله» و (أشرف) عليه اطلع من فوق و (الاطلاع) هو العلم يقال طلع على الأمر طلوعا علمه كاطلعه على افتعل و ضمّر الخيل تضميرا علفها القوت بعد السّمن كأضمرها و (المضمار) الموضع يضمر فيه الخيل، و غاية الفرس في السّياق و (السّباق) هو المسابقة و (السّبقة) بالضمّ الخطر يوضع بين أهل السّباق كما ذكره السيّد «ره» و (البؤس) الشدّة و (ظعن) ظعنا و ظعنا بالسّكون و التّحريك من باب نفع سار و ارتحل و (تجهزّت) الأمر كذا تهيّأت له و جهاز الميّت و العروس و المسافر بالكسر و الفتح ما يحتاجون إليه.
الاعراب
المضمار و السّباق وردا بالرّفع و النّصب أمّا رفع المضمار فعلى كونه خبر انّ و اليوم اسمها، و أمّا نصبه فعلى كونه اسما و اليوم خبرا.
و أورد بأنّه يلزم الاخبار عن الزّمان بالزّمان، إذا المضمار زمان و اليوم كذلك فلو اخبر عنه باليوم فكان ذلك اخبارا بوقوع الزّمان في الزّمان، فيكون الزّمان محتاجا إلى زمان آخر و هو محال.
و اجيب بمنع استلزام الاخبار بالزمان عن الزّمان كون الزّمان محتاجا إلى زمان آخر إذ ربّما يخبر عن بعض أجزاء الزّمان بالزّمان لافادة الجزئيّة لا بمعنى حصوله فيه و المضمار لمّا كان عبارة عن الزّمان الذي يضمر فيه الخيل، و هو زمان مخصوص لتقيّده بوصف مخصوص صحّ الاخبار عنه باليوم.
و أمّا رفع السّباق فامّا على كونه مبتدأ مؤخرا و غدا خبره و اسم انّ ضمير شأن مستتر، أو علي جعله خبر انّ و يحتاج حينئذ إلى تقدير المضاف أى غدا وقت السّباق، و أمّا نصبه فعلى كونه اسم انّ و غدا خبرها، و هو واضح.
المعنى
اعلم أنّ المستفاد من شرح البحرانى أنّ هذه الخطبة من فقرات خطبة طويلة خطب بها يوم الفطر و سيجيء أوّلها في الكتاب، و هي الخطبة الرّابعة و الأربعون المصدّرة بقوله: الحمد للّه غير مقنوط من رحمته، و نذكر تمامها هناك إنشاء اللّه برواية الصّدوق فانتظر.
و إنّما قدّمها الرّضيّ عليها مع كونها بعدها، لما سبق من اعتذاره في خطبة الكتاب من أنّه لا يراعى التّتالي و النّسق و انّما يراعى النّكت و اللمع، و كيف كان فمدار ما ذكره هنا على التّزهيد في الدّنيا و التّرغيب في الآخرة فأشار أوّلا إلى عدم جواز الرّكون و الاعتماد على الدّنيا بقوله: (أمّا بعد فانّ الدّنيا قد أدبرت و آذنت بوداع) و أشار بادبارها إلى تقضّى أحوالها الحاضرة و شهواتها الموجودة لكلّ أحد أحد شيئا فشيئا كما قال عليه الصّلاة و السّلام في الدّيوان المنسوب إليه:
رأيت الدّهر مختلفا يدور
فلا حزن يدوم و لا سرور
و قد بنت الملوك به قصورا
فما بقى الملوك و لا القصور
و إنّما اطلق اسم الادبار على هذا التقضّي باعتبار أنّ اللذات الدّنيويّة لما كانت دائما في التّغيّر و التقضّي المقتضى لمفارقة الانسان لها و بعدها عنه، لاجرم حسن اطلاق اسم الادبار عليه تشبيها لها بالحيوان المدبر، و لما كانت مفارقة الانسان عنها مستلزمة لأسفه عليها و وجده بها، أشبه ذلك ما يفعله الانسان في حقّ محبوبه المرتحل عنه في وداعه له من الحزن و الكابة، فاستعير اسم الوداع له و كنى باعلامها بذلك عن الشّعور الحاصل بمفارقتها من تقضّيها شيئا فشيئا و هو اعلام بلسان الحال.
ثمّ نبّه على وجوب الاستعداد للآخرة بدنوّها من الانسان بقوله: (و انّ الآخرة قد أقبلت و أشرفت باطلاع) و مثله قال لقمان لابنه و هو يعظه: يا بنىّ إنك منذ سقطت إلى الدّنيا استدبرتها و استقبلت الآخرة، فدار أنت إليها تسير أقرب إليك من دار أنت عنها متباعد.
و قال الشّارح البحراني: و لمّا كانت الآخرة عبارة عن الدّار الجامعة للأحوال التي يكون الانسان عليها بعد الموت من سعادة و شقاوة و لذّة و ألم، و كان تقضّي العمر مقرّبا للوصول إلى تلك الدّار و الحصول فيما يشتمل عليه من خير أو شرّ، حسن إطلاق لفظ الاقبال عليها مجازا ثمّ نزّلها لشرفها على الدّنيا في حال إقبالها منزلة عال عند سافل فأسند إليها لفظ الاشراف، و لأجل إحصاء الأعمال الدّنيوية فيها منزلة عالم مطلع فاطلق عليها لفظ الاطلاع.
أقول: و الى هذا المعنى اشير في الحديث القدسي: يابن آدم الموت يكشف أسرارك و القيامة يتلو أخبارك، و الكتاب يهتك استارك الحديث.
ثمّ نبّه على وجوب التهيّأ بذكر ما يسير إليه و هو الجنّة و ما يصار إليه و هو النّار بقوله: (ألا و إنّ اليوم المضمار و غدا السّباق) أراد باليوم مدّة العمر الباقية و أطلق اسم المضمار عليها باعتبار أنّ الانسان في تلك المدّة يستعدّ بالتّقوى و العمل الصالح للسّبقة إلى لقاء اللّه و التّقرّب إلى حضرته كما أنّ الفرس يستعدّ بالتّضمير إلى سبق مثله.
و كنى بالغد عمّا بعد الموت و أطلق اسم السباق عليه باعتبار أنّ أفراد النّاس لمّا كانت متفاوتة في حبّ الدّنيا و الاعراض عنها، و ذلك التّفاوت كان موجبا للقرب و البعد و السّبق و اللحوق في الدار الآخرة، فكان السّباق هناك.
بيان ذلك أنّ من كان أكثر استعدادا و أقطع لعلايق الدّنيا عن قلبه لم يكن له بعد الموت عايق عن الوصول إلى اللّه و مانع عن إدراك رضوان اللّه.
و من اشرب قلبه حب الدّنيا و افتتنت بها لا يمكن له الوصول الى درجات السّابقين الأوّلين و النيل الى مراتب المقرّبين، و من كان أقلّ استعدادا من هؤلاء و أشدّ علاقة للدنيا، كان من التّالين المقصّرين كما قال عليه السّلام في بعض كلماته السّالفة: ساع سريع نجى و طالب بطىء رجى و مقصّر في النّار هوى و السّبقة الجنّة يستبق اليها السّاع السّريع و الغاية النّار يصير اليها التّالى الوضيع.
ثمّ أمر بالتّوبة قبل الموت و إدراك الفوت بقوله: (أفلا تائب من خطيئته قبل منيّته) إذ بالتّوبة يتخلى النّفس عن الرذائل و تستعدّ للتّحلية بالفضايل، فلا تنتظروا بالتّوبة غدا فانّ دون غديو ما و ليلة قضاء اللّه فيها يغدو و يروح.
و إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً، وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَ لَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً.
(ألا عامل لنفسه قبل يوم بؤسه) عملا ينجيه من البأس و العذاب و يفضيه إلى الرّاحة و حسن الثّواب، و هو الاتيان بالطاعات و الانتهاء عن المنهيّات.
(ألا و إنكم في أيّام أمل من ورائه أجل فمن عمل) لنفسه (في ايّام أمله قبل حضور أجله فقد نفعه عمله) الذي اكتسبه (و لم يضرّه أجله) الذي حلّ به، و يكون حاله بعد موته حال الغايب الذي قدم على وطنه و أهله (و من قصر في أيام أمله قبل حضور أجله) و فرط في طاعة ربه و التّزود لآخرته (فقد خسر عمله) الذي عمله (و ضرّه أجله) الذي حلّه و يكون حاله بعد موته حال الآبق الذي قدم به على مولاه.
و قريب من هذا المضمون كلامه عليه السّلام المرويّ في البحار عن كتاب اعلام الدّين قال: النّاس في الدّنيا عامل في الدّنيا للدّنيا قد شغلته دنياه عن آخرته، يخشى على من يخلفه الفقر و يأمنه على نفسه، فيفنى عمره في منفعة غيره، و آخر عمل في الدّنيا لما بعدها، فجائه له من الدّنيا بغير عمله فأصبح ملكا لا يسال اللّه شيئا فيمنعه.
(ألا فاعملوا في الرّغبة كما تعملون في الرّهبة) و هو تنبيه على وجوب التّسوية في العمل بين حال الأمن و الخوف و حالة الرّخاء و الشدّة، و لا يكون ذلك إلّا عن نيّة صادقة و عبودّية خالصة و فيه إشعار بالتّوبة على الغفلة عن ذكر اللّه و الاعراض عن عبادته في حال اللذات الحاضرة و الخيرات الواصله و اللجأ إليه و الفزعمنه عند الحوادث الهايلة و المصايب النازلة.
قال سبحانه: «وَ إِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَ نَأى بِجانِبِهِ وَ إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ» (ألا و انّى لم أر) نعمة (كالجنّة نام طالبها و لا) نقمة (كالنّار نام هاربها) و فيه تنبيه للموقنين بالجنّة و النّار على كونهم نائمين في مراقد الطبيعة ليتنبهوا منها و يستعدّوا بالعمل لما ورائهم من النّعم و النّقم.
و فيه شميمة التعجب من جمع الموقن بالجنّة و بين عمله بما في الجنّة من تمام النّعمة و بين تقصيره عن طلبها بما يؤدّى إليها من صالح الأعمال و كريم الأفعال و من جمع الموقن بالنّار بين علمه بما فيها من تمام النّقمة و بين الغفلة عن الهرب منها إلى ما يخلص عنها.
(ألا) و إنّ الحقّ كاسب للمنفعة و الباطل جالب للمضرّة (و إنّه من لم ينفعه الحقّ) لاعراضه عنه و عدم سلوكه سبيله (يضرّه الباطل) الذي وقع فيه و يستنصر به لا محالة (و من لا يستقم به الهدى) و نور العلم و العرفان (يجرّبه الضّلال) و ظلمة الجهل (الى الرّدى) و الخذلان.
يعنى أنّ من لم يكن الهدى دليله القائد له بزمام عقله في سبيل اللّه و يستقم به في سلوك صراطه المستقيم، فلا بدّ و أن ينحرف به الضّلال عن سواء الصراط إلى أحد جانبي التّفريط و الافراط.
(ألا و إنكم قد امرتم بالظعن) و الرّحيل و السّلوك إلى اللّه و السّعى الى رضوان اللّه (و دللتم على الزّاد) المقوّى على السّير و السّلوك و المهيّيء للوصول الى حظيرة القدس، و هو التّقوى الذي هو مفتاح السّداد و ذخيرة المعاد كما قال سبحانه و تعالى: «الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ» (و إنّ أخوف ما أخاف عليكم) من امور الدّنيا اثنتان، احداهما (اتّباع الهوى) القائد إلى الرّدي (و) الثانية (طول الأمل) الشّاغل عن الآخرة (فتزوّدوا في الدّنيا من الدّنيا) بالعلم و العمل.
أمّا العلم فلأنّ الاستكمال به إنّما يحصل بواسطة هذا البدن إما بوساطة الحواسّ الظاهرة أو الباطنة و تفطن النفس لمشاركات بين المحسوسات و مبايناتها و ظاهر أنّ هذا من الدّنيا في الدّنيا.
و أما العمل فلأنّه عبارة عن حركات و سكنات مستلزمة لهيئات مخصوصة و هي إنّما تحصل بواسطة هذا البدن أيضا، و كلّ ذلك من الدّنيا في الدّنيا، و كيف كان فهما زادان موصلان إلى اللّه سبحانه فليتزوّد منهما (ما تحرزون به أنفسكم غدا) و تحفظونها من عذاب النّار و من غضب الجبار.
تكملة
قد أشرنا إلى أنّ هذه الخطبة مروية في البحار من كتاب مطالب السّؤول و من إرشاد المفيد، و لمّا كان رواية الارشاد مختلفة لرواية السّيد أحببنا ذكرها.
فأقول: قال في الارشاد: من كلام أمير المؤمنين ما اشتهر بين العلماء و حفظه ذووا الفهم و الحكماء: أما بعد فانّ الدّنيا قد ادبرت و آذنت بوداع، و إنّ الآخرة قد أقبلت و أشرفت باطلاع ألا و إنّ المضمار اليوم و غدا السّباق، و السّبقة الجنة و الغاية النار ألا و إنكم في أيّام مهل من ورائه أجل يحثّه عجل فمن أخلص للّه عمله لم يضرّه امله، و من أبطأ به عمله في أيام مهله قبل حضور أجله فقد خسر عمله و ضرّه أمله.
ألا فاعملوا في الرّغبة و الرّهبة فان نزلت بكم رغبة فاشكروا للّه و اجمعوا معها رهبة، و إن نزلت بكم رهبة فاذكرو اللّه و اجمعوا معها رغبة، فانّ اللّه قد تأذن للمحسنين بالحسنى و لمن شكر بالزّيادة و لا كسب خير من كسبه ليوم تدّخر فيه الذخائر و يجمع فيه الكباير و تبلى فيه السّرائر.
و إنّى لم أركالجنّة نام طالبها و لا مثل النّار نام هاربها، ألا و إنّه من لا ينفعه اليقين لضرّه الشّك، و من لا ينفعه حاضر لبّه و رأيه فغائله عنه أعجز، ألا و إنكم قد أمرتم بالظّعن و دللتم على الزّاد و إنّ أخوف ما أخاف عليكم اثنان: اتباع الهوى و طول الأمل، لأن اتباع الهوى يضدّ عن الحقّ و طول الأمل ينسى الآخرة.
و إنّ الدّنيا قد ترحلت مدبرة و انّ الآخرة قد ترحلت مقبلة و لكلّ واحد منهما بنونفكونوا ان استطعتم من أبناء الآخرة و لا تكونوا من أبناء الدّنيا، فانّ اليوم عمل و لا حساب و غدا حساب و لا عمل
تزهيد و ترغيب
في ذكر طايفة من الأحاديث المنبّهة عن نوم الغفلة و المزهّدة عن الدّنيا المرّغبة في الآخرة.
مثل ما رواه محمّد بن يعقوب الكليني عطر اللّه مرقده باسناده عن محمّد بن مسلم بن عبيد اللّه قال: سئل عليّ بن الحسين عليهما السّلام أىّ الأعمال أفضل عند اللّه عزّ و جلّ قال: ما من عمل بعد معرفة اللّه تعالى و معرفة رسول اللّه أفضل من بغض الدّنيا، فانّ لذلك شعبا كثيرة و للمعاصى شعب فأوّل ما عصى اللّه عزّ و جلّ به الكبر معصية ابليس لعنه اللّه حين أبى و استكبر و كان من الكافرين.
ثمّ الحرص و هى معصية آدم و حوّاء حين قال اللّه لهما: «فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ» فأخذا ما لا حاجة بهما إليه فدخل ذلك على ذرّيتهما إلى يوم القيامة فلذلك ان أكثر ما يطلب ابن آدم ما لا حاجة به إليه.
ثمّ الحسد و هي معصية ابن آدم حيث حسد أخاه فقتله فتشعّب من ذلك حبّ النساء و حبّ الدنيا «الدينار خ ل» و حبّ الرّياسة و حبّ الرّاحة و حبّ الكلام و حبّ العلوّ و حبّ الثروة فصرن سبع خصال فاجتمعن كلّهنّ في حبّ الدّنيا فقالت الأنبياء و العلماء بعد معرفة ذلك: حبّ الدّنيا رأس كلّ خطيئة و الدّنيا دنيا آن: دنيا بلاغ و دنيا ملعونة.
و بهذا الاسناد عن المنقرى عن حفص بن غياث عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال في مناجاة موسى عليه السّلام: يا موسى إنّ الدّنيا دار عقوبة عاقبت فيها آدم عند خطيئته و جعلتها ملعونة ملعون ما فيها إلّا ما كان فيها لي، يا موسى إنّ عبادى الصّالحين زهد و افي الدّنيا بقدر علمهم و ساير الخلق رغبوا فيها بقدر جهلهم، و ما من أحد عظّمهافقرّت عينه فيها و لم يحقّرها احد الّا انتفع بها.
و باسناده عن مهاجر الأسدي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: مرّ عيسى بن مريم على قرية قد مات أهلها و طيرها و دوابّها، فقال: أما انّهم لم يموتوا إلّا بسخطة و لو ماتوا متفرقين لتدافنوا.
فقال الحوارّيون: يا روح اللّه و كلمته ادع اللّه أن يجيبهم لنا فيخبرونا ما كانت أعمالهم فنتجنبها فدعى عيسى ربّه، فنودي من الجوّ: نادهم.
فقال عيسى بالليل على شرف من الأرض فقال: يا أهل هذه القرية، فأجابه منهم مجيب: لبيك يا روح اللّه و كلمته فقال: و يحكم ما كانت أعمالكم قال: عبادة الطاغوت و حبّ الدّنيا مع خوف قليل و أمل بعيد و غفلة في لهو و لعب.
فقال: كيف كان حبّكم للدّنيا قال: كحبّ الصّبىّ لامّه إذا اقبلت علينا فرحنا و سررنا، و إذا أدبرت عنّا بكينا و حزنّا قال: كيف كان عبادتكم الطاغوت قال: الطاعة لأهل المعاصى، قال: كيف كان عاقبة أمركم قال: بتنا ليلة في عافية و أصبحنا في الهاوية.
قال: و ما الهاوية قال: سجّين، قال: و ما سجّين: قال: جبال من جمر توقد علينا إلى يوم القيامة، قال، فما قلتم و ما قيل لكم قال: قلنا: ردّنا إلى الدّنيا فنزهد فيها قيل: لنا كذبتم قال: ويحك كيف لم يكلّمني غيرك من بينهم قال: يا روح اللّه و كلمته انّهم ملجمون بلجام من نار بأيدى ملائكة غلاظ شداد، و إنّى كنت فيهم و لم أكن منهم، فلما نزل العذاب عمّنى معهم، فأنا معلّق بشعرة على شفير جهنّم لا أدرى اكبكب فيها أم أنجو منها.
فالتفت عيسى إلى الحواريّين فقال: يا أولياء اللّه أكل الخبز اليابس بالملح الجريش و النّوم على المزابل خير كثير مع عافية الدّنيا و الآخرة.
و عن ابن أبي يعفور قال سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام: يقول: من تعلّق قلبه بالدّنيا تعلّق بثلاث خصال: همّ لا يفنى و أمل لا يدرك و رجاء لا ينال.
و عن أبي حمزة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قال عليّ بن الحسين عليه السّلام: إنّ الدّنيا قد ارتحلت مدبرة و إنّ الآخرة قد ارتحلت مقبلة، و لكلّ واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة و لا تكونوا من أبناء الدّنيا.
ألا و كونوا من الزّاهدين في الدّنيا الرّاغبين في الآخرة، ألا إنّ الزّاهدين في الدّنيا اتّخذوا الأرض بساطا و التراب فراشا و الماء طيبا، و قرضوا من الدّنيا تقريضا.
ألا و من اشتاق إلى الجنّة سلا من الشّهوات، و من أشفق من النّار رجع عن المحرّمات، و من زهد في الدنيا هانت عليه المصائب، ألا إنّ للّه عبادا كمن رأى أهل الجنّة في الجنة مخلّدين، و كمن رأى أهل النّار في النار معذّبين، شرورهم مأمونة و قلوبهم محزونة، أنفسهم عفيفة و حوائجهم خفيفة، صبروا أياما قليلة، فصاروا بعقبى راحة طويلة.
أمّا الليل فصافّون أقدامهم تجري دموعهم على خدودهم يجأرون إلى ربّهم يسعون في فكاك رقابهم و أمّا النّهار فحكماء علماء بررة أتقياء، كأنّهم القداح قد بريهم الخوف من العبادة ينظر إليهم النّاظر فيقول: مرضى و ما بالقوم من مرض أم خولطوا فقد خالط القوم أمر عظيم من ذكر النّار و ما فيها.
و من عيون أخبار الرّضا عن أبيه عن سعد عن ابن هاشم عن ابن المغيرة قال: سمعت الرّضا عليه السّلام يقول
انك في دار لها مدّة
يقبل فيها عمل العامل
الاترى الموت محيط بها
يكذب فيها امل الآمل
تعجل الذنب بما تشتهى
و تأمل التوبة في قابل
و الموت يأتي اهله بغتة
ما ذاك فعل الحازم العاقل
الترجمة
از جمله خطب شريفه آن حضرتست كه تزهيد مى فرمايد در آن بندگان را از دنيا و ترغيب مى نمايد ايشان را در اخرى و مىفرمايد: پس از حمد خدا و درود بر خاتم انبيا پس بتحقيق كه دنيا رو گردانيده و اعلام كرده بوداع و فراق، و بدرستى كه آخرت رو آورده و مشرف شده است بظهور و اطلاع، آگاه باشيد كه امروز كه زمان مدت عمر است وقت گداختن بدنست و رياضات نفسانيه بأعمال صالحه، و فردا كه روز قيامت است پيشى جستن است و ترقى نمودن در درجات عاليه، و پيش برد اهل آن سرا بهشت جاويدانست، و منتهاى كار اين سرا آتش سوزان.
پس آيا هيچ توبه كننده نيست از گناهان خود پيش از رسيدن مرگ و آيا هيچ عمل كننده نيست پيش از روز سختى و شدت آگاه باشيد بدرستى كه شما هستيد در روزگار اميدوارى كه از عقب اوست مرگ و گرفتارى، پس هر كه عمل كند در روزهاي اميد خود پيش از حضور اجل او پس بتحقيق كه زيان نبخشد او را عمل او و ضرر نرساند او را اجل او.
آگاه باشيد پس عمل نمائيد در زمان فراغت و رغبت همچنان كه عمل مى كنيد در زمان خوف و خشيت، بدانيد و آگاه باشيد بدرستى كه من نديدم نعمتى همچو بهشت كه بخوابد طالب او، و نه نقمتى مانند آتش سوزنده كه بخوابد گريزنده او، بدانيد بتحقيق كسى كه سود نرساند او را حق و راستى زيان رساند او را باطل و ناراستى، و هر كه براه راست نيارد او را هدايت بكشد او را گمراهى بچاه هلاكت.
آگاه باشيد بدرستى كه شما امر كرده شده ايد برفتن جانب خداوند احديت و دلالت كرده شده ايد بر ذخيره و توشه اين طريقت، و بدرستى كه ترسناكترين چيزى كه مى ترسم بر شما متابعت خواهشات نفسانيه است، و درازى اميد بزخارف دنيويه، توشه بر داريد در دنيا از دنيا آن مقدارى كه با آن چيزى كه بتوانيد نگه بداريد با آن نفسهاى خود را فردا.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»