خطبه 27 صبحی صالح
27- و من خطبة له ( عليه السلام ) و قد قالها يستنهض بها الناس حين ورد خبر غزو الأنبار بجيش معاوية فلم ينهضوا.
و فيها يذكر فضل الجهاد،
و يستنهض الناس، و يذكر علمه بالحرب،
و يلقي عليهم التبعة لعدم طاعته
فضل الجهاد
أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الْجِهَادَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ
فَتَحَهُ اللَّهُ لِخَاصَّةِ أَوْلِيَائِهِ
وَ هُوَ لِبَاسُ التَّقْوَى وَ دِرْعُ اللَّهِ الْحَصِينَةُ
وَ جُنَّتُهُ الْوَثِيقَةُ
فَمَنْ تَرَكَهُ رَغْبَةً عَنْهُ
أَلْبَسَهُ اللَّهُ ثَوْبَ الذُّلِّ
وَ شَمِلَهُ الْبَلَاءُ
وَ دُيِّثَ بِالصَّغَارِ وَ الْقَمَاءَةِ
وَ ضُرِبَ عَلَى قَلْبِهِ بِالْإِسْهَابِ
وَ أُدِيلَ الْحَقُّ مِنْهُ
بِتَضْيِيعِ الْجِهَادِ وَ سِيمَ الْخَسْفَ وَ مُنِعَ النَّصَفَ
استنهاض الناس
أَلَا وَ إِنِّي قَدْ دَعَوْتُكُمْ إِلَى قِتَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَيْلًا وَ نَهَاراً وَ سِرّاً وَ إِعْلَاناً
وَ قُلْتُ لَكُمُ اغْزُوهُمْ قَبْلَ أَنْ يَغْزُوكُمْ
فَوَاللَّهِ مَا غُزِيَ قَوْمٌ قَطُّ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ إِلَّا ذَلُّوا
فَتَوَاكَلْتُمْ وَ تَخَاذَلْتُمْ حَتَّى شُنَّتْ عَلَيْكُمُ الْغَارَاتُ وَ مُلِكَتْ عَلَيْكُمُ الْأَوْطَانُ
وَ هَذَا أَخُو غَامِدٍ (وَ) قَدْ وَرَدَتْ خَيْلُهُ الْأَنْبَارَ
وَ قَدْ قَتَلَ حَسَّانَ بْنَ حَسَّانَ الْبَكْرِيَّ وَ أَزَالَ خَيْلَكُمْ عَنْ مَسَالِحِهَا
وَ لَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ وَ الْأُخْرَى الْمُعَاهِدَةِ
فَيَنْتَزِعُ حِجْلَهَا وَ قُلُبَهَا
وَ قَلَائِدَهَا وَ رُعُثَهَا
مَا تَمْتَنِعُ مِنْهُ إِلَّا بِالِاسْتِرْجَاعِ وَ الِاسْتِرْحَامِ
ثُمَّ انْصَرَفُوا وَافِرِينَ
مَا نَالَ رَجُلًا مِنْهُمْ كَلْمٌ وَ لَا أُرِيقَ لَهُمْ دَمٌ
فَلَوْ أَنَّ امْرَأً مُسْلِماً مَاتَ مِنْ بَعْدِ هَذَا أَسَفاً مَا كَانَ بِهِ مَلُوماً
بَلْ كَانَ بِهِ عِنْدِي جَدِيراً
فَيَا عَجَباً عَجَباً وَ اللَّهِ يُمِيتُ الْقَلْبَ وَ يَجْلِبُ الْهَمَّ مِنَ اجْتِمَاعِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ عَلَى بَاطِلِهِمْ وَ تَفَرُّقِكُمْ عَنْ حَقِّكُمْ
فَقُبْحاً لَكُمْ وَ تَرَحاً
حِينَ صِرْتُمْ غَرَضاً يُرْمَى
يُغَارُ عَلَيْكُمْ وَ لَا تُغِيرُونَ
وَ تُغْزَوْنَ وَ لَا تَغْزُونَ
وَ يُعْصَى اللَّهُ وَ تَرْضَوْنَ
فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ فِي أَيَّامِ الْحَرِّ
قُلْتُمْ هَذِهِ حَمَارَّةُ الْقَيْظِ أَمْهِلْنَا يُسَبَّخْ عَنَّا الْحَرُّ
وَ إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ فِي الشِّتَاءِ قُلْتُمْ هَذِهِ صَبَارَّةُ الْقُرِّ
أَمْهِلْنَا يَنْسَلِخْ عَنَّا الْبَرْدُ
كُلُّ هَذَا فِرَاراً مِنَ الْحَرِّ وَ الْقُرِّ
فَإِذَا كُنْتُمْ مِنَ الْحَرِّ وَ الْقُرِّ تَفِرُّونَ
فَأَنْتُمْ وَ اللَّهِ مِنَ السَّيْفِ أَفَرُّ
البرم بالناس
يَا أَشْبَاهَ الرِّجَالِ وَ لَا رِجَالَ
حُلُومُ الْأَطْفَالِ
وَ عُقُولُ رَبَّاتِ الْحِجَالِ
لَوَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَرَكُمْ وَ لَمْ أَعْرِفْكُمْ
مَعْرِفَةً وَ اللَّهِ جَرَّتْ نَدَماً وَ أَعْقَبَتْ سَدَماً
قَاتَلَكُمُ اللَّهُ لَقَدْ مَلَأْتُمْ قَلْبِي قَيْحاً
وَ شَحَنْتُمْ صَدْرِي غَيْظاً
وَ جَرَّعْتُمُونِي نُغَبَ التَّهْمَامِ أَنْفَاساً
وَ أَفْسَدْتُمْ عَلَيَّ رَأْيِي بِالْعِصْيَانِ وَ الْخِذْلَانِ
حَتَّى لَقَدْ قَالَتْ قُرَيْشٌ إِنَّ ابْنَ أَبِي
طَالِبٍ رَجُلٌ شُجَاعٌ
وَ لَكِنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِالْحَرْبِ
لِلَّهِ أَبُوهُمْ
وَ هَلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَشَدُّ لَهَا مِرَاساً
وَ أَقْدَمُ فِيهَا مَقَاماً مِنِّي
لَقَدْ نَهَضْتُ فِيهَا وَ مَا بَلَغْتُ الْعِشْرِينَ
وَ هَا أَنَا ذَا قَدْ ذَرَّفْتُ عَلَى السِّتِّينَ
وَ لَكِنْ لَا رَأْيَ لِمَنْ لَا يُطَاع
شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج3
و من خطبة له عليه السّلام و هى السابعة و العشرون من المختار فى باب الخطب
و هذه من مشاهير خطبه و صدرها مروية في الوسائل من الكافي عن أحمد بن محمّد بن سعيد عن جعفر بن عبد اللّه العلوي و عن أحمد بن محمّد الكوفي عن عليّ بن العبّاس عن إسماعيل بن إسحاق جميعا عن أبي روح فرخ بن فروة عن مسعدة بن صدقة عن ابن أبي ليلى عن أبي عبد الرّحمان السّلمي عنه عليه السّلام.
و رواها المبرّد في أوائل الكامل و العلّامة المجلسي في البحار من معاني الأخبار للصّدوق بزيادة و نقصان ليطلع عليها بعد الفراغ من شرح ما أورده السّيد في الكتاب و هو قوله: أمّا بعد، فإنّ الجهاد باب من أبواب الجنّة، فتحه اللّه لخاصّة أوليائه و هو لباس التّقوى و درع اللّه الحصينة و جنّته الوثيقة، فمن تركه رغبة عنه ألبسه اللّه ثوب الذّلّ و شمله البلاء، و ديّث بالصّغار و القماء، و ضرب على قلبه بالأسداد، و أديل الحقّ منه بتضييع الجهاد، و سيم الخسف و منع النّصف. ألا و إنّي قد دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم ليلا و نهارا و سرّا و إعلانا، و قلت لكم اغزوهم قبل أن يغزوكم، فو اللّه ما غزي قوم قطّ في عقر دارهم إلّا ذلّوا، فتواكلتم و تخاذلتم حتّى شنّت عليكم الغارات، و ملكت عليكم الأوطان، و هذا أخو غامد قد وردت خيه الأنبار، و قد قتل حسّان بن حسّان البكري و أزال خيلكم عن مسالحها، و لقد بلغني أنّ الرّجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة، و الاخرى المعاهدة فينتزع حجلها و قلبها و قلائدها و رعاثها، ما تمتنع منه إلّا بالاسترجاع و الإسترحام، ثمّ انصرفوا وافرين ما نال رجلا منهم كلم، و لا أريق له دم. فلو أنّ امرء مسلما مات من بعد هذا أسفا ما كان به ملوما، بل كان به عندي جديرا، فيا عجبا عجبا و اللّه يميت القلب و يجلب الهمّ من اجتماع هؤلاء على باطلهم، و تفرّقكم عن حقّكم، فقبحا لكم و ترحا، حين صرتم غرضا يرمى، يغار عليكم و لا تغيرون، و تغزون و لا تغزون، و يعصى اللّه و ترضون، فإذا أمرتكم بالسّير في أيّام الحرّ قلتم هذه حمارّة القيظ أمهلنا يسبخ عنّا الحرّ، و إذا أمرتكم بالسّير إليهم في الشّتاء قلتم هذه صبّارة القرّ أمهلنا ينسلخ عنّا البرد، كلّ هذا فرارا من الحرّ و القرّ، فإذا كنتم من الحرّ و القرّ تفرّون فأنتم و اللّه من السّيف أفرّ.
يا أشباه الرّجال و لا رجال، حلوم الأطفال، و عقول ربّات الحجال، لوددت أنّي لم أركم و لم أعرفكم، معرفة و اللّه جرّت ندما و أعقبت سدما، قاتلكم اللّه لقد ملئتم قلبي قيحا، و شحنتم صدري غيظا، و جرّعتموني نغب التّهمام أنفاسا، و أفسدتم علىّ رأيي بالعصيان و الخذلان، حتّى قالت قريش: إنّ ابن أبي طالب رجل شجاع، و لكن لا علم له بالحرب للّه أبوهم، و هل أحد منهم أشدّ لها مراسا، و أقدم فيها مقاما منّي، لقد نهضت فيها و ما بلغت العشرين، و ها أنا ذا قد ذرّفت على السّتين و لكن لا رأي لمن لا يطاع.
اللغة
(درع) الحديد مؤنث سماعي و قد يذكّر و (الجنّة) بالضمّ كلّ ما وقى و (شمله) ربّما يفرء بالتّاء و هي كساء تغطى به و الفعل أظهر كما هو المضبوط و (ديثه) ذلله و منه الدّيوث الذي لا غيرة له و (الصّغار) الذّل و الضّيم و (القماء) بالمد الصّغار و عن الرّاوندي القما بالقصر و هو غير معروف، و في رواية الكافي القمائة قال في القاموس: قمأ كجمع و كرم قمائة و قمائة و قماء بالضمّ و الكسر ذلّ و صغر و (الاسداد) بفتح الهمزة جمع السدّ و هو الحاجز يقال: ضربت عليه الارض بالاسداد سدت عليه الطرق و عميت عليه مذاهبه و في بعض النّسخ بالاسهاب يقال اسهب الرّجل بالبناء للمفعول إذا ذهب عقله من اذى يلحقه و (اديل الحقّ منه) أى يغلب الحقّ عليه فيصيبه الوبال كقول سيّد العابدين عليه السّلام في الصّحيفة ادل لنا و لا تدل منّا، و الا دالة الغلبة و (سيم) بالبناء للمفعول من سامه خسفا أى كلفه ذلا و (النصف) بكسر النّون الانصاف و (عقر) الشيء بالضّم أصله و وسطه و (التّواكل) أن يكل الأمر كلّ واحد منهم إلى صاحبه يقال تواكل القوم اتكل بعضهم على بعض و تخاذلوا و منه رجل و كل اى عاجز يكل أمره إلى غيره و (شنّت) أى مزقت قال الشّارح المعتزلي: و ما كان من ذلك متفرّقا نحو إرسال الماء على الوجه دفعة بعد دفعة فهو بالشين، و ما كان ارسالا غير متفرّق فهو بالسّين المهملة و (اخو غامد) هو سفيان بن عوف الغامدى منسوب إلى الغامد قبيلة من اليمن و (الانبار) بلد قديم من بلاد العراق على الفرات من الجانب الشّرقى و (المسالح) جمع مسلحة و هى الحدود التي رتب فيها ذو الأسلحة لدفع العدو كالثغر و (المعاهدة) بصيغة اسم الفاعل ذات العهد و هى الذمية و (الحجل) بفتح الحاء و كسرها الخلخال و (القلب) بالضمّ سوار المرأة و (الرّعاث) جمع رعثة بفتح الرّاء و سكون العين و فتحها و هي القرط، و الرّعاث أيضا ضرب من الحلىّ.
و (الاسترجاع) قول إنّا للّه و إنّا إليه راجعون، و قيل ترديد الصّوت بالبكاء و (الاسترحام) مناشدة الرّحم أى قول انشدك اللّه و الرّحم، و قيل طلب الرّحم و هو بعيد و (انصرفوا وافرين) اى تامين يقال و فر الشيء أى تمّ و وفرت الشيء أى أتممته.
و في رواية المبرد و الصّدوق موفورين، و هو بمعناه و (الكلم) الجرح و (التّرح) محركة ضدّ الفرح و (الغرض) الهدف و (خمارة القيظ) بتشديد الرّاء شدّة حرّه و (تسبخ الحرّ) بالسّين و الباء و الخاء المعجمة سكن و فتر كسبخ تسبيخا و (صبّارة) الشّتاء بالتّشديد شدّة برده و (القرّ) بضمّ القاف البرد أو يخصّ بالشّتاء و (ربّات الحجال) النّساء أى صواحبها أو اللّاتي ربّين فيها، و هي جمع حجلة و هي بيت يزيّن فيها.
و (السّدم) الحزن و (قاتلكم اللّه) كناية عن اللّعن و الابعاد و (القيح) الصّديد بلادم و (النّغب) جمع نغبة كالجرعة لفظا و معنى و (التّهمام) بفتح التاءالهمّ و (انفاسا) أى جرعة بعد جرعة و (للّه أبوهم) كلمة مدح و لعلّها استعملت هنا للتّعجب و (المراس) مصدر مارسه أى زاوله و عالجه و (ذرّفت على الستين) بتشديد الرّاء أى زدت.
الاعراب
لباس التّقوى بحذف المضاف أى لباس أهل التّقوى، و يمكن عدم الحذف بالتأويل الآتي و إضافة الثّوب إلى الذّلّ بيانيّة، و الباء في قوله بتضييع الجهاد للسّببيّة و سيم الخسف النّائب عن الفاعل ضمير من، و الخسف بالنّصب مفعول اى كلّف بالخسف و الزم اه، و كلمة على في قوله و ملكت عليكم تفيد الاستعلاء بالقهر و الغلبة و الضمير في قوله ما كان به راجع إلى الموت المستفاد من مات.
و قوله: فيا عجبا منصوب على النّداء اصله يا عجبي اى احضر هذا أوانك، و عجبا الثّاني إمّا توكيد له أو منصوب بالمصدرية أى أيّها النّاس تعجبوا منهم عجبا، و القسم معترض بين الصفة و الموصوف.
و قبحا و ترحا منصوبان على المصدريّة، و لا رجال خبره محذوف، و حلوم الاطفال و عقول ربّات الحجال إمّا بالنّصب على حذف حرف النّداء أى يا ذوى حلوم الأطفال و ذوى عقول النّساء، و في بعض النّسخ بالرّفع أى حلومكم حلوم الأطفال و عقولكم عقول النّساء، و معرفة يمكن أن يكون فعله محذوفا أى عرفتكم معرفة جرت ندما، و أنفاسا مفعول مطلق لجرعتموني على غير لفظه، و الضّماير الثّلاثة للحرب و هى مؤنّثة و قد يذكّر.
المعنى
اعلم أنّ هذه الخطبة الشّريفة ممّا خطب بها في أواخر عمره الشّريف، و ذلك بعد ما انقضى وقعة صفّين و استولى معاوية على البلاد و أكثر القتل و الغارة في الأطراف و أمر سفيان بن عوف الغامدى بالمسير إلى الأنبار و قتل أهلها.
و تفصيله هو ما رواه الشّارح المعتزلي من كتاب الغارات لابراهيم بن محمّد الثّقفي عن ابن الكنود.
قال: حدّثني سفيان بن عوف الغامدى، قال دعانى معاوية فقال: إنّي باعثك في جيش كثيف ذى اداة و جلادة فالزم لى جانب الفرات حتّى تمرّ بهيت فتقطعها فان وجدت بها جندا فاغر عليهم و إلّا فامض حتّى تغير على الأنبار فان لم تجد بها جندا فامض حتّى توغل المداين، ثمّ اقبل إلى و اتّق أن تقرب الكوفة و اعلم أنّك إن أغرت على الأنبار و أهل المداين فكأنّك أغرت على الكوفة، إنّ هذه الغارات يا سفيان على أهل العراق ترعب قلوبهم، و تفرح كلّ من له فينا هوى منهم، و تدعو الينا كل من خاف الدّوائر، فاقتل من لقيت ممّن ليس هو على مثل رأيك، و اخرب كلّ ما مررت به من القرى، و احرب الأموال فانّ حرب الأموال شبيه بالقتل، و هو أوجع للقلب.
قال: فخرجت من عنده فعسكرت و قام معاوية في النّاس خطبهم فقال: أيّها النّاس انتدبوا مع سفيان بن عوف فانّه وجه عظيم فيه اجر سريعة فيه ادبتكم إن شاء اللّه ثمّ نزل.
قال: فو الّذي لا إله غيره ما مرّت ثالثة حتّى خرجت في ستة آلاف، ثمّ لزمت شاطيء الفرات فاغذذت السّير حتّى أمرّ بهيت فبلغهم أنّى قد غشيتهم فقطعوا الفرات فمررت بها و ما بها غريب كأنّها لم تحلّل قط، فوطيتها حتّى أمرّ بصدوراء ففرّوا فلم ألق بها أحدا فامضى حتّى افتتح الأنبار و قد انزر و ابي فخرج صاحب المسلحة فوقف الى فلم اقدم عليه حتى أخذت غلمانا من أهل القرية فقلت لهم: أخبروني كم بالانبار من أصحاب عليّ قالوا: عدة رجال المسلحة خمسمائة و لكنّهم قد تبدّدوا و رجعوا إلى الكوفة و لا ندرى بالذي يكون فيها قد يكون مأتي رجل.
فنزلت فكتبت أصحابي كتائب ثمّ أخذت أبعثهم إليه كتيبة بعد كتيبة فيقاتلهم و اللّه و يصير لهم و يطاردهم و يطاردون في الأزقة فلما رأيت ذلك انزلت إليهم نحوا من مأتين و أتبعتهم الخيل، فلمّا حملت عليهم الخيل و أمامها الرّجال تمشي لم يكن شيء حتّى تفرّقوا، و قتل صاحبهم في نحو من ثلاثين رجلا، و حملنا ما كان في الأنبار من الأموال ثمّ انصرفت.
فو اللّه ما غزوت غزاة كانت أسلم و لا أقرّ للعيون و لا أسرّ للنّفوس منها و بلغنيأنّها رعبت النّاس فلمّا عدت إلى معاوية حدّثته الحديث على وجهه فقال: كنت عند ظني بك لا تنزل في بلد من بلداني إلّا قضيت فيه مثل ما يقضى فيه أميره و إن أحببت توليته وليتك، و ليس لأحد من خلق اللّه عليك أمر دوني قال: فو اللّه ما لبثنا إلّا يسيرا حتّى رأيت رجال أهل العراق يأتوننا على الابل هرّابا من عسكر عليّ عليه السّلام.
قال إبراهيم و قدم علج من أهل الأنبار على عليّ فأخبره الخبر قصد المنبر فخطب النّاس و قال: إنّ أخاكم البكرى قد أصيب بالانبار و هو معتزل لا يخاف ما كان و اختار ما عند اللّه على الدّنيا، فانتدبوا إليهم حتّى تلاقوهم فان أصبتم منهم طرفا انكلتموهم عن العراق ابدا ما بقوا.
ثمّ سكت عنهم رجاء أن يجيبوه أو يتكلّم متكلّم منهم بكلمة، فلم ينفس أحد منهم بكلمة فلما رأى صمتهم نزل و خرج يمشي راجلا حتّى اتى النّخيلة و النّاس يمشون خلفه حتّى أحاط به قوم من أشرافهم فقالوا: ارجع يا أمير المؤمنين نحن نكفيك، فقال: ما تكفونني و لا تكفون أنفسكم، فلم يزالوا به حتّى صرفوه إلى منزله، و هو واجم كئيب.
و دعى سعيد بن قيس الهمداني فبعثه من النّخيلة في ثمانية آلاف، و ذلك إنّه اخبر أنّ القوم جاءوا في جمع كثيف، فخرج سعيد بن قيس على شاطيء الفرات في طلب سفيان بن عوف حتّى إذا بلغ عامات، سرح أمامه هانى بن الخطاب الهمداني فاتبع آثارهم حتّى دخل أدنى أرض قنسرين، و قد فاتوه فانصرف.
قال: و لبث عليّ عليه السّلام حتّى ترى فيه الكأبة و الحزن حتّى قدم عليه سعيد بن قيس و كان تلك الأيام عليلا فلم يقو على القيام في النّاس بما يريده من القول، فجلس بباب السّدة التي تصل إلى المسجد و معه ابناه حسن و حسين عليهما السّلام و عبد اللّه بن جعفر.
و دعا سعدا مولاه، فدفع إليه الكتاب و أمره أن يقرأه على النّاس، فقام سعد بحيث يسمع عليّ عليه السّلام صوته و يسمع ما يرد النّاس عليه ثمّ قرء الخطبة هذه (أمّا يعد فانّ الجهاد باب من أبواب الجنّة فتحه اللّه لخاصّة أوليائه) كما رواه فى الكافى عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن النّوفلى عن السّكونى عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: للجنّة باب يقال باب المجاهدين يمضون إليه فاذا هو مفتوح و هم متقلّدون بسيوفهم و الجمع في الموقف و الملائكة ترحّب بهم.
و المراد بخواص الأولياء المخلصون له في المحبّة و العبادة، و من المعلوم أنّ الجهاد في سبيل اللّه لوجه اللّه لا لغرض آخر من خواصّ الكاملين في العبادة و الخالصين في المحبّة.
و ذلك لأنّ المرء المسلم إذا فارق أهله و أولاده و سلك إلى الجهاد مع علمه بأنّ العدوّ لو قهره قتله و يتملّك أمواله و يستبيح ذرّيته و مع هذه كلّها يوطن نفسه على الصّبر و الثّبات امتثالا لأمر اللّه و طلبا لمرضاته سبحانه فذلك الوليّ الكامل و المؤمن الخالص في مقام الايمان و العبوديّة، و حقيق بأن يدخل في زمرة: «أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ» و أن يستبشر بشارة: «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَ يُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ وَ الْقُرْآنِ وَ مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» (و هو لباس التّقوى) أى به يتّقى في الدّنيا من غلبة الأعادى، و في الآخرة من حرّ النّار كما يتّقى بالثّوب من الحرّ و البرد، أو هو يدفع المضارّ عن التّقوى و يحرسها، أو عن أهل التّقوى بحذف المضاف (و درع اللّه الحصينة) الواقية (و جنّته الوثيقة) المحكمة بها يحفظ النّفس من المضارّ و يحترز من ذوى الأشرار (فمن تركه) كراهة له و (رغبة عنه ألبسه اللّه ثوب الذّل) في الآخرة و الاولى (و شمله البلاء) و فتنة الأعداء (و ديث بالصغار و القماء).
كما قال صلوات اللّه و سلامه عليه و آله:«» فمن ترك الجهاد ألبسه اللّه ذلا و فقرا في معيشته، و محقا في دينه إنّ اللّه أغنى أمّتي بسنابك خيلها و مراكز رماحها (و ضرب على قلبه بالاسداد) فعجز عن تدبير مصالحه و عميت عليه مذاهبه و ضاقت له مسالكه (و اديل الحقّ منه بتضييع الجهاد) فتورّط في الضّلال و لحقه الوبال (و سيم الخسف) و الذّلة (و منع النّصف) و العدالة.
و قد تحصّل ممّا ذكره عليه السّلام منافع الجهاد و مصالحه و مفاسد تركه و معايبه، و فيه تحضيض على القيام به، و ترهيب عن القعود عنه، فانه و إن كان شاقّا على النّفس في بادى الأمر من حيث كون أعظم ما يميل إليه الطبع الحياة و كون بقاء النفس للنّفس مطلوبا إلّا أنّه بعد ملاحظة ما يترتّب على القيام به من المنافع و الثّمرات و على القعود عنه من المضارّ و العيوبات يسهل عليه القيام به، و يشرى نفسه ابتغاء مرضات اللّه كما قال تعالى: «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَ هُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَ عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ عَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» يعنى أنّ الشّيء ربما كان شاقّا عليكم في الحال و هو سبب للمنافع الجليلة في المستقبل و بالعكس، و لأجله حسن شرب الدّواء المرّ في الحال لتوقّع حصول الصّحة في المستقبل، و حسن تحمّل الأخطار في الأسفار بتوقّع حصول الرّبح و الجهاد كذلك لأنّ تركه و إن كان يفيد في الحال صون النّفس عن خطر القتل و صون المال عن الانفاق، و لكن فيه أنواع من المضارّ الدّنيوية و الاخروية، كالذّلّ و الفقر و حرمان بالغنيمة و محق الدّين و طمع الأعداء، حيث إنّ العدوّ إذا علم ميل نظرائه إلى الدّعة و السّكون قصد بلادهم و حاول قتلهم فامّا أن يأخذهم و يستبيح دمائهم و أموالهم و يسبى ذراريهم، و إمّا أن يحتاجوا إلى قتاله من غير اعداد آلة و سلاح.
و هذا يكون كترك مداواة المريض مرضه في أوّل ظهوره بسبب مرارة الدّواء، ثمّ يصير في آخر الأمر مضطرّا إلى تحمّل أضعاف تلك النّفرة و المشقّة، مضافا إلى ما يفوته من الثّمرات الجليلة في الدّنيا و الآخرة من الأمن و سلامة الوقت و الفوز بالغنيمة و حلاوة الاستيلاء على الأعداء، و الدّرجات التي وعدها اللّه بقوله: «لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَ الْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ، وَ أَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ، عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَ كُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَ فَضَّلَ اللَّهُ.» و البشرى التي بشّر بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم للشّهداء منهم بقوله: للشّهيد سبع خصال«» من اللّه أول قطرة منه مغفور له كلّ ذنب، و الثانية يقع رأسه في حجر زوجتيه من الحور العين و تمسحان الغبار عن وجهه و تقولان مرحبا بك و يقول هو مثل ذلك لهما، و الثّالثة يكسى من كسوة الجنّة، و الرّابعة تبتدره خزنة الجنّة بكلّ ريح طيّبة أيّهم يأخذه معه، و الخامسة أن يرى منزله، و السّادسة يقال لروحه اسرح في الجنّة حيث شئت، و السّابعة أن ينظر في وجه اللّه و أنّها لراحة لكلّ نبيّ و شهيد.
و كيف كان فانّه عليه السّلام لمّا صدّر خطبته بذكر منافع الجهاد و مضارّه فعلا و تركا أشار إلى مقصوده الذى مهّد له تلك المقدّمة و هو حثّهم على جهاد معاوية و أصحابه فقال: (الأواني قد دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم) القاسطين الفاسقين (ليلا و نهارا و سرّا و إعلانا و قلت لكم: اغزوهم قبل أن يغزوكم فو اللّه ما غزى قوم قط في عقر دارهم الّا ذلّوا).
و سرّ ذلك ما أشار اليه الشّارح البحراني، و هو أنّ للأوهام أفعال عجيبةفي الأبدان تارة بزيادة القوّة و تارة بنقصانها حتّى أنّ الوهم ربّما كان سببا لمرض الصّحيح لتوهّمه المرض و بالعكس، فكان السّبب في ذلّ من غزى في عقر داره و إن كان معروفا بالشّجاعة هو الأوهام.
أمّا أوهامهم فلأنّها تحكم بأنّها لم تقدم على غزوهم إلّا لقوّة غازيهم و اعتقادهم فيهم الضّعف بالنّسبة إليه، فينفعل إذن نفوسهم عن ذلك الأوهام، و تنقهر عن المقاومة و تضعف عن الانبعاث و تزول غيرتها و حميّتها فتحصل على طرف رذيلة الذّلّ.
و أمّا أوهام غيرهم فلأنّ الغزو الذي يلحقهم يكون باعثا لكثير الأوهام على الحكم بضعفهم و محرّكا لطمع كلّ طامع فيهم، فيثير ذلك لهم أحكاما و حميّة يعجزهم عن المقاومة.
ثمّ إنّه أشار إلى ما قابلوا به نصحه بقوله (فتواكلتم) أى وكل كلّ واحد منكم أمره إلى غيره (و تخاذلتم) أى خذل بعضكم بعضا (حتّى شنّت عليكم الغارات) و صبّت من كلّ جانب دفعة بعد دفعة (و ملكت عليكم الأوطان) بالقهر و الغلبة و العدوان (و هذا أخو غامد) سفيان بن عوف الغامدى (قد وردت خيله الانبار) بأمر معاوية اللّعين الجبّار (و قد قتل حسّان بن حسّان البكرى) و كان من اصحابه واليا على الأنبار.
روى إبراهيم بن محمّد الثّقفي في كتاب الغارات عن عبد اللّه بن قيس عن حبيب ابن عفيف قال: كنت مع حسّان بالانبار على مسلحها إذ صبحنا سفيان بن عوف في كتائب تلمع الأبصار منها فها لونا و اللّه و علمنا إذ رأيناهم أنّه ليس لنا طاقة بهم و لا يد، فخرج إليهم صاحبنا و قد تفرّقنا فلم يلقهم نصفنا، و أيم اللّه لقد قاتلناهم فأحسّنا قتالهم حتّى كرهونا، ثمّ نزل صاحبنا و هو يتلو قوله تعالى: «فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَ ما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا» ثمّ قال لنا: من كان لا يريد لقاء اللّه و لا يطيب نفسا بالموت فليخرج عن القرية ما دمنا نقاتلهم فانّ قتالنا إيّاهم شاغل لهم عن طلب هارب، و من أراد ما عند اللّه فما عند اللّه خير للأبرار، ثمّ نزل في ثلاثين رجلا، فهممت بالنزول معه ثمّ أبت نفسى فتقدّم هو و أصحابه فقاتلوا حتّى قتلوا رحمهم اللّه.
(و أزال خيلكم عن مسالحها) و حدودها المعدّة لها (و لقد بلغنى أنّ الرّجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة و) المرأة (الاخرى المعاهدة ف) كان (ينتزع) منها (حجلها) و خلخالها (و قلبها) و سوارها (و قلائدها) من نحرها (و رعاثها) من آذانها (ما) يمكن ان (تمتنع منه إلّا) بالتّذلل و (بالاسترجاع) و الخضوع (و الاسترحام ثمّ انصرفوا) بعد القتل و الغارة (وافرين) تامين غير مرزوئين (ما نال رجل منهم كلم و لا اريق له دم فلو أنّ امرء مسلما) ذا غيرة و حميّة (مات من بعد هذا أسفا ما كان به ملوما بل كان به عندي جديرا) و حقيقا.
(فيا عجبا عجبا) أىّ عجب (و اللّه يميت) ذلك العجب (القلب و يجلب الهمّ من اجتماع هؤلاء القوم على باطلهم) مع علمهم بأنّهم على الباطل (و تفرّقكم عن حقّكم) مع معرفتكم بأنّكم على الحقّ (فقبحا لكم و ترحا) و همّا (حين) تثاقلتم عن الجهاد حتّى (صرتم غرضا يرمى) بالنّبال ألا تستحيون من سوء عملكم و لا تخجلون من قبح فعلكم (يغار عليكم و لا تغيرون و تغزون و لا تغزون و يعصى اللّه) بقتل الأنفس و نهب الأموال و هتك العرض و تخريب البلاد (و) أنتم (ترضون) بذلك إذ لو لا رضاكم لما تمكّن العدوّ منكم و لما هجم عليكم (فاذا أمرتكم بالسّير إليهم في أيّام الحرّ) تخلّفتم عن أمري و اعتذرتم و (قلتم هذه حمارة القيظ) و هجمة الصيف (أمهلنا حتّى يسبخ عنّا الحرّ) و يفتر عنّا الهجر (و إذا أمرتكم بالسّير إليهم في) أيّام (الشّتاء) عصيتم أمري و (قلتم هذه صبارة القرّ أمهلنا ينسلخ عنّا البرد) و ينقضي القرّ و (كلّ هذا) الاستمهال و إلاعتذار (فرارا من الحرّ و القرّ فاذا كنتم من الحرّ و القرّ تفرّون) مع هوانهما (فأنتم و اللّه من السّيف أفرّ) على شدّته إذ لا مناسبة بين شدّة الحرّ و القرّ و بين القتل بالسّيف و المجاهدة مع الأبطال.
(يا أشباه الرّجال) خلقة و صورة (و لا رجال) غيرة و حميّة حلومكم (حلوم الأطفال و) عقولكم (عقول ربّات الحجال).
أمّا وصفهم بحلوم الأطفال فلأنّ ملكة الحلم ليس بحاصل للطفل و إن كانت قوّة الحلم حاصلة له لكن قد يحصل له ما يتصوّر بصورة الحلم كعدم التّسرّع إلى الغضب عن خيال يرضيه و أغلب أحواله أن يكون ذلك في غير موضعه و ليس له ملكة تكسب نفسه طمأنينة كما في حقّ الكاملين فهو إذن نقصان، و لمّا كان تاركوا أمره عليه السّلام قد تركوا المقاولة حلما عن أدنى خيال كتركهم الحرب بصفّين عن خدعة أهل الشّام لهم بالمسالمة و طلب المحاكمة و رفع المصاحف، فقالوا إخواننا في الدّين لا يجوز لنا قتالهم، كان ذلك حلما في غير موضعه حتّى كان من أمرهم ما كان بأشبه رضى الصّبيان.
و أمّا إلحاق عقولهم بعقول النّساء فللاشتراك في القصور و النّقصان و قلّة المعرفة بوجوه المصالح المخصوصة بتدبير الحرب و المدن ثمّ إنّه عرفهم محبّته لعدم رؤيتهم و معرفتهم بقوله (لوددت أنّي لم أركم) رؤية أبدا (و لم أعرفكم معرفة) أصلا (و اللّه لقد جرّت) معرفتكم علىّ (ندما) و سئما (و أعقبت) حزنا و (سدما) ثمّ دعا عليهم بقوله (قاتلكم اللّه) أي لعنكم.
قال ابن الأنباري: المقاتلة من القتل فاذا أخبر اللّه بها كان معناها اللعنة منه، لأنّ من لعنه اللّه فهو بمنزلة المقتول الهالك، يعني أنّ المقاتلة لمّا كان غير ممكن بحسب الحقيقة في حقّ اللّه سبحانه فاذا اسند اللّه سبحانه لا بدّ و أن يراد بها لوازمها، كاللعن و الطرد و البعد و منع اللطف و نحوها.
(لقد ملأتم قلبي) لسوء أعمالكم سديدا و (قيحا و شحنتم صدري) بقبح فعالكم غضبا و (غيظا و جرعتموني نغب التّهمام) و جرع الهموم (أنفاسا) أي جرعة بعد جرعة (و أفسدتم علىّ رأيي بالعصيان و الخذلان) و معنى إفسادهم له خروجه بسبب عدم التفاتهم إليه عن أن يكون منتفعا به لغيرهم (حتّى لقد قالتقريش: إنّ ابن أبي طالب رجل شجاع و لكن لا علم له بالحرب).
و ذلك لأنّ النّاس إذا رؤا من قوم سوء تدبير أو مقتضى رأي فاسد كان الغالب أن ينسبوه إلى رئيسهم و مقدّمهم، و لا يعلمون أنّه من تقصير القوم لا من قصور الرّئيس، و لذلك تعجّب منهم و ردّ توهّمهم بقوله: (للّه أبوهم و هل أحد أشدّ لها) للحراب (مراسا) و معالجة (و أقدم فيها مقاما) و ممارسة (منّي و لقد) صرفت فيها تمام عمري و (نهضت فيها و ما بلغت العشرين و ها أنا قد ذرّفت على السّتين).
ثمّ بيّن أنّ السّبب في فساد حال أصحابه ليس ما تخيّله قريش فيه من ضعف الرّأي في الحرب و قلة التّدبير، بل عدم طاعتهم له فيما يراه و يشير إليه و ذلك قوله (و لكن لا رأى لمن لا يطاع) فانّ الرّأى الذي لا يقبل بمنزلة الفاسد و إن كان صوابا، و المثل له.
قيل: و إنّما قال أعداؤه لا رأى له، لأنّه كان متقيّدا بالشّريعة لا يرى خلافها و لا يعمل بما يقتضى الدّين تحريمه، و قد قال هو عليه السّلام: لو لا الدّين و التقى لكنت أدهى العرب، و غيره من الخلفا كان يعمل بمقتضى ما يستصلحه و يستوقفه سواء كان مطابقا للشّرع أو لم يكن هذا.
روى في البحار من كتاب إرشاد القلوب باسناده إلى أبي جعفر الباقر عليهما السّلام قال: بينما أمير المؤمنين يتجهّز إلى معاوية و يحرّض النّاس على قتاله إذا اختصم إليه رجلان في فعل فعجل أحدهما في الكلام و زاد فيه، فالتفت إليه أمير المؤمنين عليه السّلام و قال له: اخسأ، فاذا رأسه رأس الكلب، فبهت من حوله و أقبل الرّجل بإصبعه المسبحة يتضرّع إلى أمير المؤمنين عليه السّلام و يسأله الاقالة فنظر إليه و حرّك شفتيه فعاد كما كان خلقا سويّا.
فوثب إليه بعض أصحابه فقال له: يا أمير المؤمنين هذه القدرة لك كما رأينا و أنت تجهز إلى معاوية فما لك لا تكفيناه ببعض ما أعطاك اللّه من هذه القدرة فأطرق قليلا و رفع رأسه إليهم و قال: و الذي فلق الحبّة و برئ النّسمة لو شئت أن أضرب برجلي هذه القصيرة في طول هذه الفيافي و الفلوات و الجبال و الأودية حتّى أضرب بها صدر معاوية على سريره فاقلبه على أمّ رأسه لفعلت، و لو أقسمت على اللّه عزّ و جلّ أن اوتى به قبل أن أقوم من مجلسي هذا و قبل أن يرتدّ إليّ أحد منكم طرفه لفعلت، و لكنّا كما وصف اللّه في كتابه: عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول و هم بأمره يعملون.
ثمّ روى في البحار من الارشاد باسناده إلى ميثم التمّار قال: خطب بنا أمير المؤمنين عليه السّلام في جامع الكوفة فأطال في خطبته و أعجب النّاس تطويلها و حسن وعظها و ترغيبها و ترهيبها، إذ دخل نذير من ناحية الأنبار مستغيثا يقول: اللّه اللّه يا أمير المؤمنين في رعيّتك و شيعتك، هذه خيل معاوية قد شنّت علينا الغارة في سواد الفرات ما بين هميت و الأنبار.
فقطع أمير المؤمنين عليه السّلام الخطبة و قال: ويحك بعض خيل معاوية قد دخل الدّسكرة التي تلى جدران الأنبار فقتلوا فيها سبع نسوة و سبعة من الأطفال ذكرانا و سبعة إناثا و شهروا بهم و وطئوهم بحوافر الخيل و قالوا هذه مراغمة لأبي تراب.
فقام إبراهيم بن الحسن الأزدي بين يدي المنبر فقال يا أمير المؤمنين هذه القدرة التي رأيت بها و أنت على منبرك إنّ في دارك خيل معاوية ابن آكلة الأكباد و ما فعل بشيعتك و لم يعلم بها هذا فلم تغضى عن معاوية.
فقال له: ويحك يا إبراهيم ليهلك من هلك عن بيّنة و يحيى من حيّ عن بيّنة، فصاح النّاس من جوانب المسجد يا أمير المؤمنين فالى متى يهلك من هلك عن بيّنة و يحيى من حىّ عن بيّنة و شيعتك تهلك، فقال لهم: ليقضى اللّه أمرا كان مفعولا.
فصاح زيد بن كثير المرادي و قال: يا أمير المؤمنين تقول بالأمس و أنت تجهز إلى معاوية و تحرّضنا على قتاله و يحتكم إليك الرّجلان في الفعل فتعمل «فيعجل ظ» عليك أحدهما في الكلام فتجعل رأسه رأس الكلب فتستجير بك فتردّه بشرا سويّا.
و نقول لك ما بال هذه القدرة لا تبلغ معاوية فتكفينا شرّه فتقول لنا:
و فالق الحبّة و بارئ النّسمة لو شئت أن أضرب برجلي هذه القصيرة صدر معاوية لفعلت، فما بالك لا تفعل ما تريد إلّا أن تضعف نفوسنا فنشكّ فيك فندخل النّار.
فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: لأفعلنّ ذلك و لأعجلنّه على ابن هند، فمدّ رجله على منبره فخرجت عن أبواب المسجد و ردّها إلى فخذه و قال: معاشر النّاس أقيموا تاريخ الوقت و أعلموه فقد ضربت برجلى هذه السّاعة صدر معاوية فقلبته عن سريره على أمّ رأسه فظنّ أنّه قد احيط به، فصاح يا أمير المؤمنين فأين النّظرة فرددت رجلي عنه.
و توقّع النّاس ورود الخبر من الشّام و علموا أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام لا يقول إلّا حقّا، فوردت الأخبار و الكتب بتاريخ تلك السّاعة بعينها من ذلك اليوم بعينه أنّ رجلا جاءت من ناحية الكوفة ممدودة متّصلة فدخلت من أيوان معاوية و النّاس ينظرون حتّى ضربت صدره، فقلبته عن سريره على أمّ رأسه فصاح يا أمير المؤمنين و أين النّظرة و ردّت تلك الرّجل عنه، و علم النّاس ما قال أمير المؤمنين إلّا حقّا.
تكملة
قد أشرنا سابقا إلى أنّ هذه الخطبة من خطبه المشهورة، و أنّها ممّا رواها جماعة من العامّة و الخاصّة، و لمّا كانت رواية الصّدوق مخالفة لرواية السّيّد في بعض فقراتها أحببنا ايرادها بسند الصّدوق أيضا ازديادا للبصيرة فأقول: روى في البحار و الوسايل من كتاب معاني الأخبار للصّدوق عن محمّد بن إبراهيم بن إسحاق الطالقاني عن عبد العزيز بن يحيى الجلودي عن هشام بن عليّ و محمّد بن زكريّا الجوهري، عن ابن عايشة باسناد ذكره أنّ عليّا انتهى إليه أنّ خيلا لمعاوية ورد الأنبار فقتلوا عاملا له يقال له: حسّان بن حسّان، فخرج مغضبا يجرّ ثوبه حتّى أتى النّخيلة و اتبعه النّاس فرقى رباوة من الأرض فحمد اللّه و أثنى عليه و صلّى على نبيّه ثمّ قال: أمّا بعد فانّ الجهاد باب من أبواب الجنّة فتحه اللّه لخاصّة أوليائه و هولباس التّقوى و درع اللّه الحصينة و جنّته الوثيقة، فمن تركه رغبة عنه ألبسه اللّه ثوب الذّلّ و سيماء الخسف«» و ديث بالصغار، و قد دعوتكم إلى حرب هؤلاء القوم ليلا و نهارا و سرّا و إعلانا و قلت لكم: اغزوهم من قبل أن يغزوكم فو الذي نفسي بيده ما غزى قوم قط في عقر ديارهم إلّا ذلّوا.
فتواكلتم و تخاذلتم و ثقل عليكم قولي و اتّخذتموه ورائكم ظهريّا«» حتّى شنّت عليكم الغارات، هذا أخو غامد قد وردت خيله الأنبار و قتلوا حسّان بن حسّان و رجالا منهم كثيرا و نساء.
و الذي نفسي بيده لقد بلغني انّه كان يدخل على المرأة المسلمة و المعاهدة فينتزع أحجالهما و رعثهما«» ثمّ انصرفوا موفورين لم يكلم أحد منهم كلما فلو أنّ امرء مسلما مات من دون هذا أسفا ما كان عندي فيه ملوما بل كان عندي به جديرا.
يا عجبا كلّ العجب من تظافر هؤلاء القوم على باطلهم، و فشلكم عن حقّكم إذا قلت لكم اغزوهم في الشّتاء قلتم هذا أوان قرّ و صرّ، و إن قلت لكم اغزوهم في الصّيف قلتم هذا حمارة القيظ انظرنا ينصرم الحرّ عنّا، فاذا كنتم من الحرّ و البرد تفرّون فأنتم و اللّه من السّيف أفرّ.
يا أشباه الرّجال و لا رجال، و يا طعام الأحلام، و يا عقول ربّات الحجال و اللّه لقد أفسدتم عليّ رأيي بالعصيان و لقد ملئتم جوفى غيظا حتّى قالت قريش إنّ ابن أبي طالب شجاع و لكن لا رأى له في الحرب، للّه درّهم و من ذا يكون أعلم بها و أشدّ لها مراسا منّي، فو اللّه لقد نهضت فيها و ما بلغت العشرين، و لقد نيفت اليوم على السّتّين، و لكن لا رأى لمن لا يطاع يقولها ثلاثا.
فقام إليه رجل و معه أخوه فقال: يا أمير المؤمنين أنا و أخي هذا كما قال اللّه عز و جلّ حكاية عن موسى: ربّ إنّي لا أملك إلّا نفسي و أخي، فمرنا بأمرك فو اللّه لننهتنّ «كذا» إليه و لو حال بيننا و بينه جمر الغضا و شوك القتاد، فدعا له بخير ثمّ قال عليه السّلام و أين تقعان ممّا أريد، ثمّ نزل.
قال إبراهيم في كتاب الغارات، إنّ القائم إليه العارض عليه جندب بن عفيف الأزدي هو، و ابن أخ له يقال له عبد الرّحمان «بن ظ» عبد اللّه بن عفيف، و اللّه أعلم بحقايق الوقايع.
الترجمة
از جمله خطب شريفه آن حضرتست در توبيخ أصحاب خود بجهة تثاقل ايشان از قتال و جدال و تحضيض ايشان بجهاد معاويه رئيس بدعت و ضلال مى فرمايد بعد از حمد إلهى و درود نامتناهى بر حضرت رسالت پناهى: پس بدرستى كه جهاد درى است از درهاى بهشت عنبر سرشت، گشاده است آن را خداوند ودود بجهة دوستان خاصّه خود، و اوست لباس پرهيزكارى و تقوى و زره استوار خدا و سپر محكم حق سبحانه و تعالى، پس هر كه ترك نمايد آن را بپوشاند خدا او را جامه خوارى، و شامل شود او را بلا و گرفتارى، و خار گردانيده شود بمذلت و بى اعتبارى، و زده شود بر دل او بذهاب عقل و بيخردى، و گردانيده شود حق از او، و مغلوب مى شود بجهة تضييع كارزار، و الزام مى شود بذلت و خوارى، و ممنوع مى شود از انصاف و دادگرى.
آگاه باشيد كه بتحقيق خواندم شما را به محاربه اين فرقه طاغيه شب و روز و در نهان و آشكار، و گفتم بشما كه جنگ كنيد با ايشان پيش از آنكه ايشان با شما جنگ نمايند پس بخدا قسم كه هيچ غزا كرده نشد قومى هرگز در اصل خانه خودشان مگر اين كه خوار و ذليل شدند پس موكول كرديد شما كار خود را بيكديگر، و خوار نموديد شما يكديگر را، تا اين كه ريخته شد غارتها پياپى بر شما، و گرفته شد از شما وطنها با غلبه و استيلا.
و اين مرد كه برادر غامد و سفيان بن عوف غامدى است بتحقيق كه وارد شده لشكريان او بشهر انبار، و بيقين كه كشته است حسّان بن حسّان بكرى را و زايل نموده سواران شما را از سرحدهاى آنها، و بتحقيق كه رسيد بمن آنكه مردان قبيله داخل شده بر زن مسلمه و بر كافر ذميّه پس بر مىكنده خلخال و دست برنجهاى او را، و گردن بندها و گوشوارههاى آن را، امتناع نتوانسته است آن زن از آن مرد مگر با گريه و زارى و با قسم دادن بقرابت و خويشى.
پس آن قوم بد نهاد بعد از غارت كردن مراجعت نمودهاند در حالتى كه تمام بودهاند در حين مراجعت با غنيمت، نرسيده بمردى از ايشان هيچ زخمى و ريخته نشده او را خونى، پس اگر بميرد مرد مسلمان پس از اين ظلم دلسوز از روى غم و اندوه نباشد بمردن ملامت كرده شده، بلكه هست نزد من بآن لايق گرديده.
اى بسا تعجب اى قوم تعجب كنيد چه تعجبى بخداى لا يزال كه مىميراند دل را، و مى كشد اندوه را از انفاق آن گروه بر باطل خود، و از تفرقه شما از حق خود، پس زشت باد روى شما و حزن باد بر شما هنگامى كه گشتيد هدف تيرانداخته شده، غارت ميكنند بر شما و غارت نمىكنيد و جنگ ميكنند با شما و جنگ نمى نمائيد، و نافرمانى كرده مى شود خدا و شما خوشنود مى باشيد.
پس هرگاه امر ميكنم شما را برفتن سوى دشمنان در ايام تابستان مىگوئيد كه اين شدت گرماست مهلت ده ما را تا سبك شود از ما گرما، و هر وقتى كه امر ميكنم شما را بسير نمودن بطرف خصمان در وقت زمستان مىگوئيد كه اين شدت سرماست ما را بگذار تا برطرف شود از ما سرما.
اين همه عذرها از براى گريختن است از گرما و سرما پس چون بوديد از گرما و سرما مى گريزيد پس شما بخدا سوگند از شمشير گريزانتر هستيد.
اى جماعت شبيه بمردان بحسب شكل و صورت و نيستيد مردان از روى معنى و حقيقت، حلمهاى شما مانند حلمهاى بچگانست، و عقلهاى شما مانند عقلهاى زنان، هر آينه دوست مى داشتم آنكه نمىديدم شما را و نمى شناختم شما را شناختنى كه بخدا سوگند كه كشيده است ندامت و پشيمانى را و متعقّب شده استاندوه و پريشانى را.
لعنت كند خدا شما را هر آينه پر كرديد دل مرا از ريم و زرداب، و پر ساختيد سينه مرا از خشم و التهاب، و نوشانيديد مرا جرعههاى غم و اندوه را نفس نفس، و فاسد ساختيد رأى مرا بر من با معصيت و خذلان تا آنكه گفتند قريش بدرستى كه پسر أبي طالب مردى است شجاع و لكن مهارت در حرب ندارد.
خدا نگه دار باد پدران ايشان را آيا هيچيك از ايشان سختتر است مر حرب را از روى علاج و مقدّمتر است در حرب از روى ايستادن از من، هر آينه قيام نمودم در معارك قتال با شجاعان و أبطال در حالتى كه نرسيده بودم بيست سالگى، و اكنون كه سن من افزون گشته بر شصت سال، يعنى در عرض اين مدت غالبا مشغول بودهام بر جنگ و جدال، و لكن هيچ رأى نيست كسى را كه فرمانبردار نشود و اطاعت او را نكنند.
الى هنا انتهى الجزء الثالث من هذه الطبعة النفيسة و قد تصدى لتصحيحه و تهذيبه العبد: «السيد ابراهيم الميانجى» و وقع الفراغ فى شهر ذى القعدة الحرام سنة 1378 و يليه الجزء الرابع انشاء اللّه و أوله أول المختار الثامن و العشرين و الحمد لله كما هو أهله.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»