google-site-verification: googledc28cebad391242f.html
180-200 خطبه شرح وترجمه میر حبیب الله خوئیخطبه ها شرح و ترجمه میر حبیب الله خوئی

نهج البلاغه کلمات خطبه ها شماره 191/3 (شرح میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»)قاصعة

خطبه 192 صبحی صالح

192- و من خطبة له ( عليه ‏السلام  ) تسمى القاصعة و هي تتضمن ذم إبليس لعنه اللّه، على استكباره و تركه السجود لآدم ( عليه ‏السلام  )، و أنه أول من أظهر العصبية و تبع الحمية، و تحذير الناس من سلوك طريقته.

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَبِسَ الْعِزَّ وَ الْكِبْرِيَاءَ وَ اخْتَارَهُمَا لِنَفْسِهِ دُونَ‏خَلْقِهِ وَ جَعَلَهُمَا حِمًى وَ حَرَماً عَلَى غَيْرِهِ وَ اصْطَفَاهُمَا لِجَلَالِهِ

رأس العصيان‏

وَ جَعَلَ اللَّعْنَةَ عَلَى مَنْ نَازَعَهُ فِيهِمَا مِنْ عِبَادِهِ

ثُمَّ اخْتَبَرَ بِذَلِكَ مَلَائِكَتَهُ الْمُقَرَّبِينَ لِيَمِيزَ الْمُتَوَاضِعِينَ مِنْهُمْ مِنَ الْمُسْتَكْبِرِينَ

فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَ هُوَ الْعَالِمُ بِمُضْمَرَاتِ الْقُلُوبِ وَ مَحْجُوبَاتِ الْغُيُوبِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ‏

اعْتَرَضَتْهُ الْحَمِيَّةُ فَافْتَخَرَ عَلَى آدَمَ بِخَلْقِهِ وَ تَعَصَّبَ عَلَيْهِ لِأَصْلِهِ فَعَدُوُّ اللَّهِ إِمَامُ الْمُتَعَصِّبِينَ وَ سَلَفُ الْمُسْتَكْبِرِينَ الَّذِي وَضَعَ أَسَاسَ الْعَصَبِيَّةِ وَ نَازَعَ اللَّهَ رِدَاءَ الْجَبْرِيَّةِ وَ ادَّرَعَ لِبَاسَ التَّعَزُّزِ وَ خَلَعَ قِنَاعَ التَّذَلُّلِ

أَ لَا تَرَوْنَ كَيْفَ صَغَّرَهُ اللَّهُ بِتَكَبُّرِهِ وَ وَضَعَهُ بِتَرَفُّعِهِ فَجَعَلَهُ فِي الدُّنْيَا مَدْحُوراً وَ أَعَدَّ لَهُ فِي الْآخِرَةِ سَعِيراً

ابتلاء اللّه لخلقه‏

وَ لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَخْلُقَ آدَمَ مِنْ نُورٍ يَخْطَفُ الْأَبْصَارَ ضِيَاؤُهُ وَ يَبْهَرُ الْعُقُولَ رُوَاؤُهُ وَ طِيبٍ يَأْخُذُ الْأَنْفَاسَ عَرْفُهُ لَفَعَلَ

وَ لَوْ فَعَلَ لَظَلَّتْ لَهُ الْأَعْنَاقُ خَاضِعَةً وَ لَخَفَّتِ الْبَلْوَى فِيهِ عَلَى الْمَلَائِكَةِوَ لَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَبْتَلِي خَلْقَهُ بِبَعْضِ مَا يَجْهَلُونَ أَصْلَهُ تَمْيِيزاً بِالِاخْتِبَارِ لَهُمْ وَ نَفْياً لِلِاسْتِكْبَارِ عَنْهُمْ وَ إِبْعَاداً لِلْخُيَلَاءِ مِنْهُمْ

طلب العبرة

فَاعْتَبِرُوا بِمَا كَانَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ بِإِبْلِيسَ إِذْ أَحْبَطَ عَمَلَهُ الطَّوِيلَ وَ جَهْدَهُ الْجَهِيدَ وَ كَانَ قَدْ عَبَدَ اللَّهَ سِتَّةَ آلَافِ سَنَةٍ لَا يُدْرَى أَ مِنْ سِنِي الدُّنْيَا أَمْ مِنْ سِنِي الْآخِرَةِ عَنْ كِبْرِ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ

فَمَنْ ذَا بَعْدَ إِبْلِيسَ يَسْلَمُ عَلَى اللَّهِ بِمِثْلِ مَعْصِيَتِهِ كَلَّا مَا كَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِيُدْخِلَ الْجَنَّةَ بَشَراً بِأَمْرٍ أَخْرَجَ بِهِ مِنْهَا مَلَكاً

إِنَّ حُكْمَهُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ وَ أَهْلِ الْأَرْضِ لَوَاحِدٌ وَ مَا بَيْنَ اللَّهِ وَ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ هَوَادَةٌ فِي إِبَاحَةِ حِمًى حَرَّمَهُ عَلَى الْعَالَمِينَ

التحذير من الشيطان‏

فَاحْذَرُوا عِبَادَ اللَّهِ عَدُوَّ اللَّهِ أَنْ يُعْدِيَكُمْ بِدَائِهِ وَ أَنْ يَسْتَفِزَّكُمْ بِنِدَائِهِ وَ أَنْ يُجْلِبَ عَلَيْكُمْ بِخَيْلِهِ وَ رَجِلِهِ

فَلَعَمْرِي لَقَدْ فَوَّقَ لَكُمْ سَهْمَ الْوَعِيدِ وَ أَغْرَقَ إِلَيْكُمْ بِالنَّزْعِ الشَّدِيدِ وَ رَمَاكُمْ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ فَ قَالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ‏قَذْفاً بِغَيْبٍ بَعِيدٍ وَ رَجْماً بِظَنٍّ غَيْرِ مُصِيبٍ

صَدَّقَهُ بِهِ أَبْنَاءُ الْحَمِيَّةِ وَ إِخْوَانُ الْعَصَبِيَّةِ وَ فُرْسَانُ الْكِبْرِوَ الْجَاهِلِيَّةِ حَتَّى إِذَا انْقَادَتْ لَهُ الْجَامِحَةُ مِنْكُمْ وَ اسْتَحْكَمَتِ الطَّمَاعِيَّةُ مِنْهُ فِيكُمْ فَنَجَمَتِ الْحَالُ مِنَ السِّرِّ الْخَفِيِّ إِلَى الْأَمْرِ الْجَلِيِّ

اسْتَفْحَلَ سُلْطَانُهُ عَلَيْكُمْ وَ دَلَفَ بِجُنُودِهِ نَحْوَكُمْ فَأَقْحَمُوكُمْ وَلَجَاتِ الذُّلِّ وَ أَحَلُّوكُمْ وَرَطَاتِ الْقَتْلِ

وَ أَوْطَئُوكُمْ إِثْخَانَ الْجِرَاحَةِ طَعْناً فِي عُيُونِكُمْ وَ حَزّاً فِي حُلُوقِكُمْ وَ دَقّاً لِمَنَاخِرِكُمْ وَ قَصْداً لِمَقَاتِلِكُمْ وَ سَوْقاً بِخَزَائِمِ الْقَهْرِ إِلَى النَّارِ الْمُعَدَّةِ لَكُمْ

فَأَصْبَحَ أَعْظَمَ فِي دِينِكُمْ حَرْجاً وَ أَوْرَى فِي دُنْيَاكُمْ قَدْحاً مِنَ الَّذِينَ أَصْبَحْتُمْ لَهُمْ مُنَاصِبِينَ وَ عَلَيْهِمْ مُتَأَلِّبِينَ

فَاجْعَلُوا عَلَيْهِ حَدَّكُمْ وَ لَهُ جِدَّكُمْ فَلَعَمْرُ اللَّهِ لَقَدْ فَخَرَ عَلَى أَصْلِكُمْ وَ وَقَعَ فِي حَسَبِكُمْ وَ دَفَعَ فِي نَسَبِكُمْ وَ أَجْلَبَ بِخَيْلِهِ عَلَيْكُمْ وَ قَصَدَ بِرَجِلِهِ سَبِيلَكُمْ يَقْتَنِصُونَكُمْ بِكُلِّ مَكَانٍ وَ يَضْرِبُونَ مِنْكُمْ كُلَّ بَنَانٍ

لَا تَمْتَنِعُونَ بِحِيلَةٍ وَ لَا تَدْفَعُونَ بِعَزِيمَةٍ فِي حَوْمَةِ ذُلٍّ وَ حَلْقَةِ ضِيقٍ وَ عَرْصَةِ مَوْتٍ وَ جَوْلَةِ بَلَاءٍ

فَأَطْفِئُوا مَا كَمَنَ فِي قُلُوبِكُمْ مِنْ نِيرَانِ الْعَصَبِيَّةِ وَ أَحْقَادِ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّمَا تِلْكَ الْحَمِيَّةُ تَكُونُ فِي الْمُسْلِمِ مِنْ خَطَرَاتِ الشَّيْطَانِ وَ نَخَوَاتِهِ وَ نَزَغَاتِهِ وَ نَفَثَاتِهِ

وَ اعْتَمِدُوا وَضْعَ التَّذَلُّلِ عَلَى رُءُوسِكُمْ وَ إِلْقَاءَ التَّعَزُّزِ تَحْتَ أَقْدَامِكُمْ وَ خَلْعَ التَّكَبُّرِ مِنْ أَعْنَاقِكُمْ وَ اتَّخِذُوا التَّوَاضُعَ مَسْلَحَةً بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَ عَدُوِّكُمْ إِبْلِيسَ‏وَ جُنُودِهِ فَإِنَّ لَهُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ جُنُوداً وَ أَعْوَاناً وَ رَجِلًا وَ فُرْسَاناً

وَ لَا تَكُونُوا كَالْمُتَكَبِّرِ عَلَى ابْنِ أُمِّهِ مِنْ غَيْرِ مَا فَضْلٍ جَعَلَهُ اللَّهُ فِيهِ سِوَى مَا أَلْحَقَتِ الْعَظَمَةُ بِنَفْسِهِ مِنْ عَدَاوَةِ الْحَسَدِ وَ قَدَحَتِ الْحَمِيَّةُ فِي قَلْبِهِ مِنْ نَارِ الْغَضَبِ

وَ نَفَخَ الشَّيْطَانُ فِي أَنْفِهِ مِنْ رِيحِ الْكِبْرِ الَّذِي أَعْقَبَهُ اللَّهُ بِهِ النَّدَامَةَ وَ أَلْزَمَهُ آثَامَ الْقَاتِلِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ

التحذير من الكبر

أَلَا وَ قَدْ أَمْعَنْتُمْ فِي الْبَغْيِ وَ أَفْسَدْتُمْ فِي الْأَرْضِ مُصَارَحَةً لِلَّهِ بِالْمُنَاصَبَةِ وَ مُبَارَزَةً لِلْمُؤْمِنِينَ بِالْمُحَارَبَةِ

فَاللَّهَ اللَّهَ فِي كِبْرِ الْحَمِيَّةِ وَ فَخْرِ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُ مَلَاقِحُ الشَّنَئَانِ وَ مَنَافِخُ الشَّيْطَانِ الَّتِي خَدَعَ بِهَا الْأُمَمَ الْمَاضِيَةَ وَ الْقُرُونَ الْخَالِيَةَ حَتَّى أَعْنَقُوا فِي حَنَادِسِ جَهَالَتِهِ وَ مَهَاوِي ضَلَالَتِهِ

ذُلُلًا عَنْ سِيَاقِهِ سُلُساً فِي قِيَادِهِ أَمْراً تَشَابَهَتِ الْقُلُوبُ فِيهِ وَ تَتَابَعَتِ الْقُرُونُ عَلَيْهِ وَ كِبْراً تَضَايَقَتِ الصُّدُورُ بِهِ

التحذير من طاعة الكبراء

أَلَا فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنْ طَاعَةِ سَادَاتِكُمْ وَ كُبَرَائِكُمْ الَّذِينَ تَكَبَّرُوا عَنْ حَسَبِهِمْ وَ تَرَفَّعُوا فَوْقَ نَسَبِهِمْ وَ أَلْقَوُا الْهَجِينَةَ عَلَى رَبِّهِمْ‏وَ جَاحَدُوا اللَّهَ عَلَى مَا صَنَعَ بِهِمْ مُكَابَرَةً لِقَضَائِهِ وَ مُغَالَبَةً لِآلَائِهِ

فَإِنَّهُمْ قَوَاعِدُ أَسَاسِ الْعَصَبِيَّةِ وَ دَعَائِمُ أَرْكَانِ الْفِتْنَةِ وَ سُيُوفُ اعْتِزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ

فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ لَا تَكُونُوا لِنِعَمِهِ عَلَيْكُمْ أَضْدَاداً وَ لَا لِفَضْلِهِ عِنْدَكُمْ حُسَّاداً وَ لَا تُطِيعُوا الْأَدْعِيَاءَ الَّذِينَ شَرِبْتُمْ بِصَفْوِكُمْ كَدَرَهُمْ وَ خَلَطْتُمْ بِصِحَّتِكُمْ مَرَضَهُمْ وَ أَدْخَلْتُمْ فِي حَقِّكُمْ بَاطِلَهُمْ

وَ هُمْ أَسَاسُ الْفُسُوقِ وَ أَحْلَاسُ الْعُقُوقِ اتَّخَذَهُمْ إِبْلِيسُ مَطَايَا ضَلَالٍ وَ جُنْداً بِهِمْ يَصُولُ عَلَى النَّاسِ وَ تَرَاجِمَةً يَنْطِقُ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ

اسْتِرَاقاً لِعُقُولِكُمْ وَ دُخُولًا فِي عُيُونِكُمْ وَ نَفْثاً فِي أَسْمَاعِكُمْ فَجَعَلَكُمْ مَرْمَى نَبْلِهِ وَ مَوْطِئَ قَدَمِهِ وَ مَأْخَذَ يَدِهِ

العبرة بالماضين‏

فَاعْتَبِرُوا بِمَا أَصَابَ الْأُمَمَ الْمُسْتَكْبِرِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ وَ صَوْلَاتِهِ وَ وَقَائِعِهِ وَ مَثُلَاتِهِ وَ اتَّعِظُوا بِمَثَاوِي خُدُودِهِمْ وَ مَصَارِعِ جُنُوبِهِمْ

وَ اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ لَوَاقِحِ الْكِبْرِ كَمَا تَسْتَعِيذُونَهُ مِنْ طَوَارِقِ الدَّهْرِ

فَلَوْ رَخَّصَ اللَّهُ فِي الْكِبْرِ لِأَحَدٍ مِنْ عِبَادِهِ لَرَخَّصَ فِيهِ لِخَاصَّةِ أَنْبِيَائِهِ وَ أَوْلِيَائِهِ وَ لَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ كَرَّهَ إِلَيْهِمُ التَّكَابُرَ وَ رَضِيَ لَهُمُ التَّوَاضُعَ

فَأَلْصَقُوا بِالْأَرْضِ خُدُودَهُمْ وَ عَفَّرُوا فِي التُّرَابِ وُجُوهَهُمْ وَ خَفَضُوا أَجْنِحَتَهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ كَانُوا قَوْماً

مُسْتَضْعَفِينَ قَدِ اخْتَبَرَهُمُ اللَّهُ بِالْمَخْمَصَةِ وَ ابْتَلَاهُمْ بِالْمَجْهَدَةِ وَ امْتَحَنَهُمْ بِالْمَخَاوِفِ وَ مَخَضَهُمْ بِالْمَكَارِهِ

فَلَا تَعْتَبِرُوا الرِّضَى وَ السُّخْطَ بِالْمَالِ وَ الْوَلَدِ جَهْلًا بِمَوَاقِعِ الْفِتْنَةِ وَ الِاخْتِبَارِ فِي مَوْضِعِ الْغِنَى وَ الِاقْتِدَارِ

فَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى أَ يَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَ بَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ‏

فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ الْمُسْتَكْبِرِينَ فِي أَنْفُسِهِمْ بِأَوْلِيَائِهِ الْمُسْتَضْعَفِينَ فِي أَعْيُنِهِمْ

تواضع الأنبياء

وَ لَقَدْ دَخَلَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ وَ مَعَهُ أَخُوهُ هَارُونُ ( عليهماالسلام  )عَلَى فِرْعَوْنَ وَ عَلَيْهِمَا مَدَارِعُ الصُّوفِ وَ بِأَيْدِيهِمَا الْعِصِيُّ فَشَرَطَا لَهُ إِنْ أَسْلَمَ بَقَاءَ مُلْكِهِ وَ دَوَامَ عِزِّهِ

فَقَالَ أَ لَا تَعْجَبُونَ مِنْ هَذَيْنِ يَشْرِطَانِ لِي دَوَامَ الْعِزِّ وَ بَقَاءَ الْمُلْكِ وَ هُمَا بِمَا تَرَوْنَ مِنْ حَالِ الْفَقْرِ وَ الذُّلِّ فَهَلَّا أُلْقِيَ عَلَيْهِمَا أَسَاوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ إِعْظَاماً لِلذَّهَبِ وَ جَمْعِهِ وَ احْتِقَاراً لِلصُّوفِ وَ لُبْسِهِ وَ لَوْ أَرَادَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِأَنْبِيَائِهِ حَيْثُ بَعَثَهُمْ أَنْ يَفْتَحَ لَهُمْ كُنُوزَ الذِّهْبَانِ وَ مَعَادِنَ الْعِقْيَانِ وَ مَغَارِسَ الْجِنَانِ وَ أَنْ يَحْشُرَ مَعَهُمْ طُيُورَ السَّمَاءِ وَ وُحُوشَ الْأَرَضِينَ لَفَعَلَ

وَ لَوْ فَعَلَ لَسَقَطَ الْبَلَاءُ وَ بَطَلَ الْجَزَاءُوَ اضْمَحَلَّتِ الْأَنْبَاءُ وَ لَمَا وَجَبَ لِلْقَابِلِينَ أُجُورُ الْمُبْتَلَيْنَ وَ لَا اسْتَحَقَّ الْمُؤْمِنُونَ ثَوَابَ الْمُحْسِنِينَ وَ لَا لَزِمَتِ الْأَسْمَاءُ مَعَانِيَهَا

وَ لَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ رُسُلَهُ أُولِي قُوَّةٍ فِي عَزَائِمِهِمْ وَ ضَعَفَةً فِيمَا تَرَى الْأَعْيُنُ مِنْ حَالَاتِهِمْ مَعَ قَنَاعَةٍ تَمْلَأُ الْقُلُوبَ وَ الْعُيُونَ غِنًى وَ خَصَاصَةٍ تَمْلَأُ الْأَبْصَارَ وَ الْأَسْمَاعَ أَذًى

وَ لَوْ كَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ أَهْلَ قُوَّةٍ لَا تُرَامُ وَ عِزَّةٍ لَا تُضَامُ وَ مُلْكٍ تُمَدُّ نَحْوَهُ أَعْنَاقُ الرِّجَالِ وَ تُشَدُّ إِلَيْهِ عُقَدُ الرِّحَالِ لَكَانَ ذَلِكَ أَهْوَنَ عَلَى الْخَلْقِ فِي الِاعْتِبَارِ وَ أَبْعَدَ لَهُمْ فِي الِاسْتِكْبَارِ

وَ لَآمَنُوا عَنْ رَهْبَةٍ قَاهِرَةٍ لَهُمْ أَوْ رَغْبَةٍ مَائِلَةٍ بِهِمْ فَكَانَتِ النِّيَّاتُ مُشْتَرَكَةً وَ الْحَسَنَاتُ مُقْتَسَمَةً

وَ لَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ الِاتِّبَاعُ لِرُسُلِهِ وَ التَّصْدِيقُ بِكُتُبِهِ وَ الْخُشُوعُ لِوَجْهِهِ وَ الِاسْتِكَانَةُ لِأَمْرِهِ وَ الِاسْتِسْلَامُ لِطَاعَتِهِ أُمُوراً لَهُ خَاصَّةً لَا تَشُوبُهَا مِنْ غَيْرِهَا شَائِبَةٌ

وَ كُلَّمَا كَانَتِ الْبَلْوَى وَ الِاخْتِبَارُ أَعْظَمَ كَانَتِ الْمَثُوبَةُ وَ الْجَزَاءُ أَجْزَلَ

الكعبة المقدسة

أَ لَا تَرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ اخْتَبَرَ الْأَوَّلِينَ مِنْ لَدُنْ آدَمَ ( صلوات ‏الله‏ عليه  )إِلَى الْآخِرِينَ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ بِأَحْجَارٍ لَا تَضُرُّ وَ لَا تَنْفَعُ وَ لَا تُبْصِرُ وَ لَا تَسْمَعُ فَجَعَلَهَا بَيْتَهُ الْحَرَامَ الَّذِي جَعَلَهُ لِلنَّاسِ قِيَاماً

ثُمَ‏ وَضَعَهُ بِأَوْعَرِ بِقَاعِ الْأَرْضِ حَجَراً وَ أَقَلِّ نَتَائِقِ الدُّنْيَا مَدَراً وَ أَضْيَقِ بُطُونِ الْأَوْدِيَةِ قُطْراً بَيْنَ جِبَالٍ خَشِنَةٍ وَ رِمَالٍ دَمِثَةٍ وَ عُيُونٍ وَشِلَةٍ وَ قُرًى مُنْقَطِعَةٍ لَا يَزْكُو بِهَا خُفٌّ وَ لَا حَافِرٌ وَ لَا ظِلْفٌ

ثُمَّ أَمَرَ آدَمَ ( عليه‏السلام  )وَ وَلَدَهُ أَنْ يَثْنُوا أَعْطَافَهُمْ نَحْوَهُ فَصَارَ مَثَابَةً لِمُنْتَجَعِ أَسْفَارِهِمْ وَ غَايَةً لِمُلْقَى رِحَالِهِمْ تَهْوِي إِلَيْهِ ثِمَارُ الْأَفْئِدَةِ

مِنْ مَفَاوِزِ قِفَارٍ سَحِيقَةٍ وَ مَهَاوِي فِجَاجٍ عَمِيقَةٍ وَ جَزَائِرِ بِحَارٍ مُنْقَطِعَةٍ حَتَّى يَهُزُّوا مَنَاكِبَهُمْ ذُلُلًا يُهَلِّلُونَ لِلَّهِ حَوْلَهُ وَ يَرْمُلُونَ عَلَى أَقْدَامِهِمْ شُعْثاً غُبْراً لَهُ

قَدْ نَبَذُوا السَّرَابِيلَ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَ شَوَّهُوا بِإِعْفَاءِ الشُّعُورِ مَحَاسِنَ خَلْقِهِمُ ابْتِلَاءً عَظِيماً وَ امْتِحَاناً شَدِيداً وَ اخْتِبَاراً مُبِيناً وَ تَمْحِيصاً بَلِيغاً جَعَلَهُ اللَّهُ سَبَباً لِرَحْمَتِهِ وَ وُصْلَةً إِلَى جَنَّتِهِ

وَ لَوْ أَرَادَ سُبْحَانَهُ أَنْ يَضَعَ بَيْتَهُ الْحَرَامَ وَ مَشَاعِرَهُ الْعِظَامَ بَيْنَ جَنَّاتٍ وَ أَنْهَارٍ وَ سَهْلٍ وَ قَرَارٍ جَمَّ الْأَشْجَارِ دَانِيَ الثِّمَارِ مُلْتَفَّ الْبُنَى مُتَّصِلَ الْقُرَى

بَيْنَ بُرَّةٍ سَمْرَاءَ وَ رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ وَ أَرْيَافٍ مُحْدِقَةٍ وَ عِرَاصٍ مُغْدِقَةٍ وَ رِيَاضٍ نَاضِرَةٍ وَ طُرُقٍ عَامِرَةٍ لَكَانَ قَدْ صَغُرَ قَدْرُ الْجَزَاءِ عَلَى حَسَبِ ضَعْفِ الْبَلَاءِ

وَ لَوْ كَانَ الْإِسَاسُ الْمَحْمُولُ عَلَيْهَا وَ الْأَحْجَارُ الْمَرْفُوعُ بِهَا بَيْنَ زُمُرُّدَةٍ خَضْرَاءَ وَ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ وَ نُورٍ وَ ضِيَاءٍ

لَخَفَّفَ ذَلِكَ مُصَارَعَةَ الشَّكِّ فِي الصُّدُورِ وَ لَوَضَعَ مُجَاهَدَةَ إِبْلِيسَ عَنِ الْقُلُوبِ وَ لَنَفَى مُعْتَلَجَ الرَّيْبِ مِنَ النَّاسِ

وَ لَكِنَّ اللَّهَ يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ بِأَنْوَاعِ الشَّدَائِدِ وَ يَتَعَبَّدُهُمْ بِأَنْوَاعِ الْمَجَاهِدِ وَ يَبْتَلِيهِمْ بِضُرُوبِ الْمَكَارِهِ إِخْرَاجاً لِلتَّكَبُّرِ مِنْ قُلُوبِهِمْ وَ إِسْكَاناً لِلتَّذَلُّلِ فِي نُفُوسِهِمْ وَ لِيَجْعَلَ ذَلِكَ أَبْوَاباً فُتُحاً إِلَى فَضْلِهِ وَ أَسْبَاباً ذُلُلًا لِعَفْوِهِ

عود إلى التحذير

فَاللَّهَ اللَّهَ فِي عَاجِلِ الْبَغْيِ وَ آجِلِ وَخَامَةِ الظُّلْمِ وَ سُوءِ عَاقِبَةِ الْكِبْرِ فَإِنَّهَا مَصْيَدَةُ إِبْلِيسَ الْعُظْمَى وَ مَكِيدَتُهُ الْكُبْرَى الَّتِي تُسَاوِرُ قُلُوبَ الرِّجَالِ مُسَاوَرَةَ السُّمُومِ الْقَاتِلَةِ

فَمَا تُكْدِي أَبَداً وَ لَا تُشْوِي أَحَداً لَا عَالِماً لِعِلْمِهِ وَ لَا مُقِلًّا فِي طِمْرِهِ

وَ عَنْ ذَلِكَ مَا حَرَسَ اللَّهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالصَّلَوَاتِ وَ الزَّكَوَاتِ وَ مُجَاهَدَةِ الصِّيَامِ فِي الْأَيَّامِ الْمَفْرُوضَاتِ تَسْكِيناً لِأَطْرَافِهِمْ وَ تَخْشِيعاً لِأَبْصَارِهِمْ وَ تَذْلِيلًا لِنُفُوسِهِمْ وَ تَخْفِيضاً لِقُلُوبِهِمْ وَ إِذْهَاباً لِلْخُيَلَاءِ عَنْهُمْ

وَ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَعْفِيرِ عِتَاقِ الْوُجُوهِ بِالتُّرَابِ تَوَاضُعاً وَ الْتِصَاقِ كَرَائِمِ الْجَوَارِحِ بِالْأَرْضِ تَصَاغُراً وَ لُحُوقِ الْبُطُونِ بِالْمُتُونِ مِنَ الصِّيَامِ تَذَلُّلًا مَعَ مَا فِي الزَّكَاةِ مِنْ صَرْفِ ثَمَرَاتِ الْأَرْضِ وَ غَيْرِ ذَلِكَ إِلَى أَهْلِ الْمَسْكَنَةِ وَ الْفَقْرِ

فضائل الفرائض‏

انْظُرُوا إِلَى مَا فِي هَذِهِ الْأَفْعَالِ مِنْ قَمْعِ نَوَاجِمِ الْفَخْرِ وَ قَدْعِ طَوَالِعِ الْكِبْرِ

وَ لَقَدْ نَظَرْتُ فَمَا وَجَدْتُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ يَتَعَصَّبُ لِشَيْ‏ءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ إِلَّا عَنْ عِلَّةٍ تَحْتَمِلُ تَمْوِيهَ الْجُهَلَاءِ أَوْ حُجَّةٍ تَلِيطُ بِعُقُولِ السُّفَهَاءِ غَيْرَكُمْ فَإِنَّكُمْ تَتَعَصَّبُونَ لِأَمْرٍ مَا يُعْرَفُ لَهُ سَبَبٌ وَ لَا عِلَّةٌ أَمَّا إِبْلِيسُ فَتَعَصَّبَ عَلَى آدَمَ لِأَصْلِهِ وَ طَعَنَ عَلَيْهِ فِي خِلْقَتِهِ فَقَالَ أَنَا نَارِيٌّ وَ أَنْتَ طِينِيٌّ

عصبية المال‏

وَ أَمَّا الْأَغْنِيَاءُ مِنْ مُتْرَفَةِ الْأُمَمِ فَتَعَصَّبُوا لِآثَارِ مَوَاقِعِ النِّعَمِ فَ قالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَ أَوْلاداً وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ‏

فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ فَلْيَكُنْ تَعَصُّبُكُمْ لِمَكَارِمِ الْخِصَالِ وَ مَحَامِدِ الْأَفْعَالِ

وَ مَحَاسِنِ الْأُمُورِ الَّتِي تَفَاضَلَتْ فِيهَا الْمُجَدَاءُ وَ النُّجَدَاءُ مِنْ بُيُوتَاتِ الْعَرَبِ وَ يَعَاسِيبِ القَبَائِلِ بِالْأَخْلَاقِ الرَّغِيبَةِ وَ الْأَحْلَامِ الْعَظِيمَةِ وَ الْأَخْطَارِ الْجَلِيلَةِ وَ الْآثَارِ الْمَحْمُودَةِ

فَتَعَصَّبُوا لِخِلَالِ الْحَمْدِ مِنَ الْحِفْظِ لِلْجِوَارِ وَ الْوَفَاءِ بِالذِّمَامِ وَ الطَّاعَةِ لِلْبِرِّ وَ الْمَعْصِيَةِ لِلْكِبْرِ وَ الْأَخْذِ بِالْفَضْلِ وَ الْكَفِّ عَنِ الْبَغْيِ وَ الْإِعْظَامِ لِلْقَتْلِ وَ الْإِنْصَافِ لِلْخَلْقِ وَ الْكَظْمِ لِلْغَيْظِوَ اجْتِنَابِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ

وَ احْذَرُوا مَا نَزَلَ بِالْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مِنَ الْمَثُلَاتِ بِسُوءِ الْأَفْعَالِ وَ ذَمِيمِ الْأَعْمَالِ فَتَذَكَّرُوا فِي الْخَيْرِ وَ الشَّرِّ أَحْوَالَهُمْ وَ احْذَرُوا أَنْ تَكُونُوا أَمْثَالَهُمْ فَإِذَا تَفَكَّرْتُمْ فِي تَفَاوُتِ حَالَيْهِمْ فَالْزَمُوا كُلَّ أَمْرٍ لَزِمَتِ الْعِزَّةُ بِهِ شَأْنَهُمْ

وَ زَاحَتِ الْأَعْدَاءُ لَهُ عَنْهُمْ وَ مُدَّتِ الْعَافِيَةُ بِهِ عَلَيْهِمْ وَ انْقَادَتِ النِّعْمَةُ لَهُ مَعَهُمْ وَ وَصَلَتِ الْكَرَامَةُ عَلَيْهِ حَبْلَهُمْ مِنَ الِاجْتِنَابِ لِلْفُرْقَةِ وَ اللُّزُومِ لِلْأُلْفَةِ وَ التَّحَاضِّ عَلَيْهَا وَ التَّوَاصِي بِهَا

وَ اجْتَنِبُوا كُلَّ أَمْرٍ كَسَرَ فِقْرَتَهُمْ وَ أَوْهَنَ مُنَّتَهُمْ مِنْ تَضَاغُنِ الْقُلُوبِ وَ تَشَاحُنِ الصُّدُورِ وَ تَدَابُرِ النُّفُوسِ وَ تَخَاذُلِ الْأَيْدِي

وَ تَدَبَّرُوا أَحْوَالَ الْمَاضِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَبْلَكُمْ كَيْفَ كَانُوا فِي حَالِ التَّمْحِيصِ وَ الْبَلَاءِ أَ لَمْ يَكُونُوا أَثْقَلَ الْخَلَائِقِ أَعْبَاءً وَ أَجْهَدَ الْعِبَادِ بَلَاءً وَ أَضْيَقَ أَهْلِ الدُّنْيَا حَالًا

اتَّخَذَتْهُمُ الْفَرَاعِنَةُ عَبِيداً فَسَامُوهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَ جَرَّعُوهُمُ الْمُرَارَ فَلَمْ تَبْرَحِ الْحَالُ بِهِمْ فِي ذُلِّ الْهَلَكَةِ وَ قَهْرِ الْغَلَبَةِ لَا يَجِدُونَ حِيلَةً فِي امْتِنَاعٍ وَ لَا سَبِيلًا إِلَى دِفَاعٍ

حَتَّى إِذَا رَأَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ جِدَّ الصَّبْرِ مِنْهُمْ عَلَى الْأَذَى فِي مَحَبَّتِهِ وَ الِاحْتِمَالَ لِلْمَكْرُوهِ مِنْ خَوْفِهِ جَعَلَ لَهُمْ مِنْ مَضَايِقِ الْبَلَاءِ فَرَجاً فَأَبْدَلَهُمُ الْعِزَّ مَكَانَ الذُّلِّ وَ الْأَمْنَ مَكَانَ الْخَوْفِ

فَصَارُوا مُلُوكاً حُكَّاماً وَ أَئِمَّةً أَعْلَاماً وَ قَدْ بَلَغَتِ الْكَرَامَةُ مِنَ اللَّهِ لَهُمْ‏مَا لَمْ تَذْهَبِ الْآمَالُ إِلَيْهِ بِهِمْ

فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانُوا حَيْثُ كَانَتِ الْأَمْلَاءُ مُجْتَمِعَةً وَ الْأَهْوَاءُ مُؤْتَلِفَةً وَ الْقُلُوبُ مُعْتَدِلَةً وَ الْأَيْدِي مُتَرَادِفَةً وَ السُّيُوفُ مُتَنَاصِرَةً وَ الْبَصَائِرُ نَافِذَةً وَ الْعَزَائِمُ وَاحِدَةً

أَ لَمْ يَكُونُوا أَرْبَاباً فِي أَقْطَارِ الْأَرَضِينَ وَ مُلُوكاً عَلَى رِقَابِ الْعَالَمِينَ

فَانْظُرُوا إِلَى مَا صَارُوا إِلَيْهِ فِي آخِرِ أُمُورِهِمْ حِينَ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ وَ تَشَتَّتَتِ الْأُلْفَةُ وَ اخْتَلَفَتِ الْكَلِمَةُ وَ الْأَفْئِدَةُ وَ تَشَعَّبُوا مُخْتَلِفِينَ وَ تَفَرَّقُوا مُتَحَارِبِينَ

وَ قَدْ خَلَعَ اللَّهُ عَنْهُمْ لِبَاسَ كَرَامَتِهِ وَ سَلَبَهُمْ غَضَارَةَ نِعْمَتِهِ وَ بَقِيَ قَصَصُ أَخْبَارِهِمْ فِيكُمْ عِبَراً لِلْمُعْتَبِرِينَ

الاعتبار بالأمم‏

فَاعْتَبِرُوا بِحَالِ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ وَ بَنِي إِسْحَاقَ وَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ( عليهم‏السلام  )فَمَا أَشَدَّ اعْتِدَالَ الْأَحْوَالِ وَ أَقْرَبَ اشْتِبَاهَ الْأَمْثَالِ تَأَمَّلُوا أَمْرَهُمْ فِي حَالِ تَشَتُّتِهِمْ وَ تَفَرُّقِهِمْ لَيَالِيَ كَانَتِ الْأَكَاسِرَةُ وَ الْقَيَاصِرَةُ أَرْبَاباً لَهُمْ

يَحْتَازُونَهُمْ عَنْ رِيفِ الْآفَاقِ وَ بَحْرِ الْعِرَاقِ وَ خُضْرَةِ الدُّنْيَا إِلَى مَنَابِتِ الشِّيحِ وَ مَهَافِي الرِّيحِ وَ نَكَدِ الْمَعَاشِ فَتَرَكُوهُمْ عَالَةً مَسَاكِينَ إِخْوَانَ دَبَرٍ وَ وَبَرٍ أَذَلَّ الْأُمَمِ دَاراً وَ أَجْدَبَهُمْ قَرَاراً

لَا يَأْوُونَ إِلَى جَنَاحِ دَعْوَةٍيَعْتَصِمُونَ بِهَا وَ لَا إِلَى ظِلِّ أُلْفَةٍ يَعْتَمِدُونَ عَلَى عِزِّهَا

فَالْأَحْوَالُ مُضْطَرِبَةٌ وَ الْأَيْدِي مُخْتَلِفَةٌ وَ الْكَثْرَةُ مُتَفَرِّقَةٌ فِي بَلَاءِ أَزْلٍ وَ أَطْبَاقِ جَهْلٍ مِنْ بَنَاتٍ مَوْءُودَةٍ وَ أَصْنَامٍ مَعْبُودَةٍ وَ أَرْحَامٍ مَقْطُوعَةٍ وَ غَارَاتٍ مَشْنُونَةٍ

النعمة برسول اللّه‏

فَانْظُرُوا إِلَى مَوَاقِعِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ حِينَ بَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا فَعَقَدَ بِمِلَّتِهِ طَاعَتَهُمْ وَ جَمَعَ عَلَى دَعْوَتِهِ أُلْفَتَهُمْ

كَيْفَ نَشَرَتِ النِّعْمَةُ عَلَيْهِمْ جَنَاحَ كَرَامَتِهَا وَ أَسَالَتْ لَهُمْ جَدَاوِلَ نَعِيمِهَا وَ الْتَفَّتِ الْمِلَّةُ بِهِمْ فِي عَوَائِدِ بَرَكَتِهَا فَأَصْبَحُوا فِي نِعْمَتِهَا غَرِقِينَ وَ فِي خُضْرَةِ عَيْشِهَا فَكِهِينَ

قَدْ تَرَبَّعَتِ الْأُمُورُ بِهِمْ فِي ظِلِّ سُلْطَانٍ قَاهِرٍ وَ آوَتْهُمُ الْحَالُ إِلَى كَنَفِ عِزٍّ غَالِبٍ وَ تَعَطَّفَتِ الْأُمُورُ عَلَيْهِمْ فِي ذُرَى مُلْكٍ ثَابِتٍ

فَهُمْ حُكَّامٌ عَلَى الْعَالَمِينَ وَ مُلُوكٌ فِي أَطْرَافِ الْأَرَضِينَ يَمْلِكُونَ الْأُمُورَ عَلَى مَنْ كَانَ يَمْلِكُهَا عَلَيْهِمْ وَ يُمْضُونَ الْأَحْكَامَ فِيمَنْ كَانَ يُمْضِيهَا فِيهِمْ لَا تُغْمَزُ لَهُمْ قَنَاةٌ وَ لَا تُقْرَعُ لَهُمْ صَفَاةٌ

لوم العصاة

أَلَا وَ إِنَّكُمْ قَدْ نَفَضْتُمْ أَيْدِيَكُمْ مِنْ حَبْلِ الطَّاعَةِ وَ ثَلَمْتُمْ حِصْنَ اللَّهِ الْمَضْرُوبَ عَلَيْكُمْ بِأَحْكَامِ الْجَاهِلِيَّةِ

فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدِ امْتَنَ‏عَلَى جَمَاعَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِيمَا عَقَدَ بَيْنَهُمْ مِنْ حَبْلِ هَذِهِ الْأُلْفَةِ الَّتِي يَنْتَقِلُونَ فِي ظِلِّهَا وَ يَأْوُونَ إِلَى كَنَفِهَا بِنِعْمَةٍ لَا يَعْرِفُ أَحَدٌ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ لَهَا قِيمَةً لِأَنَّهَا أَرْجَحُ مِنْ كُلِّ ثَمَنٍ وَ أَجَلُّ مِنْ كُلِّ خَطَرٍ

وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ صِرْتُمْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ أَعْرَاباً وَ بَعْدَ الْمُوَالَاةِ أَحْزَاباً مَا تَتَعَلَّقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَّا بِاسْمِهِ وَ لَا تَعْرِفُونَ مِنَ الْإِيمَانِ إِلَّا رَسْمَهُ

تَقُولُونَ النَّارَ وَ لَا الْعَارَ كَأَنَّكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تُكْفِئُوا الْإِسْلَامَ عَلَى وَجْهِهِ انْتِهَاكاً لِحَرِيمِهِ وَ نَقْضاً لِمِيثَاقِهِ الَّذِي وَضَعَهُ اللَّهُ لَكُمْ حَرَماً فِي أَرْضِهِ وَ أَمْناً بَيْنَ خَلْقِهِ

وَ إِنَّكُمْ إِنْ لَجَأْتُمْ إِلَى غَيْرِهِ حَارَبَكُمْ أَهْلُ الْكُفْرِ ثُمَّ لَا جَبْرَائِيلُ وَ لَا مِيكَائِيلُ وَ لَا مُهَاجِرُونَ وَ لَا أَنْصَارٌ يَنْصُرُونَكُمْ إِلَّا الْمُقَارَعَةَ بِالسَّيْفِ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَكُمْ

وَ إِنَّ عِنْدَكُمُ الْأَمْثَالَ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ وَ قَوَارِعِهِ وَ أَيَّامِهِ وَ وَقَائِعِهِ فَلَا تَسْتَبْطِئُوا وَعِيدَهُ جَهْلًا بِأَخْذِهِ وَ تَهَاوُناً بِبَطْشِهِ وَ يَأْساً مِنْ بَأْسِهِ

فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَلْعَنِ الْقَرْنَ الْمَاضِيَ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ إِلَّا لِتَرْكِهِمُ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَ النَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ فَلَعَنَ اللَّهُ السُّفَهَاءَ لِرُكُوبِ الْمَعَاصِي وَ الْحُلَمَاءَ لِتَرْكِ التَّنَاهِي

أَلَا وَ قَدْ قَطَعْتُمْ قَيْدَ الْإِسْلَامِ وَ عَطَّلْتُمْ حُدُودَهُ وَ أَمَتُّمْ أَحْكَامَهُ

أَلَا وَ قَدْ أَمَرَنِيَ اللَّهُ بِقِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ وَ النَّكْثِ وَ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ

فَأَمَّا النَّاكِثُونَ فَقَدْ قَاتَلْتُ وَ أَمَّا الْقَاسِطُونَ فَقَدْ جَاهَدْتُ وَ أَمَّا الْمَارِقَةُ فَقَدْ دَوَّخْتُ

وَ أَمَّا شَيْطَانُ الرَّدْهَةِ فَقَدْ كُفِيتُهُ بِصَعْقَةٍ سُمِعَتْ لَهَا وَجْبَةُ قَلْبِهِ وَ رَجَّةُ صَدْرِهِ وَ بَقِيَتْ بَقِيَّةٌ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ وَ لَئِنْ أَذِنَ اللَّهُ فِي الْكَرَّةِ عَلَيْهِمْ لَأُدِيلَنَّ مِنْهُمْ إِلَّا مَا يَتَشَذَّرُ فِي أَطْرَافِ الْبِلَادِ تَشَذُّراً

فضل الوحي‏

أَنَا وَضَعْتُ فِي الصِّغَرِ بِكَلَاكِلِ الْعَرَبِ وَ كَسَرْتُ نَوَاجِمَ قُرُونِ رَبِيعَةَ وَ مُضَرَ

وَ قَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ( صلى ‏الله ‏عليه‏ وآله  )بِالْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ وَ الْمَنْزِلَةِ الْخَصِيصَةِ وَضَعَنِي فِي حِجْرِهِ وَ أَنَا وَلَدٌ يَضُمُّنِي إِلَى صَدْرِهِ وَ يَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِهِ وَ يُمِسُّنِي جَسَدَهُ وَ يُشِمُّنِي عَرْفَهُ

وَ كَانَ يَمْضَغُ الشَّيْ‏ءَ ثُمَّ يُلْقِمُنِيهِ وَ مَا وَجَدَ لِي كَذْبَةً فِي قَوْلٍ وَ لَا خَطْلَةً فِي فِعْلٍ

وَ لَقَدْ قَرَنَ اللَّهُ بِهِ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله  )مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ الْمَكَارِمِ وَ مَحَاسِنَ أَخْلَاقِ الْعَالَمِ لَيْلَهُ وَ نَهَارَهُ

وَ لَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَخْلَاقِهِ عَلَماً وَ يَأْمُرُنِي بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ

وَ لَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِحِرَاءَ فَأَرَاهُ وَ لَا يَرَاهُ غَيْرِي وَ لَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ

فِي الْإِسْلَامِ غَيْرَ رَسُولِ اللَّهِ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله  )وَ خَدِيجَةَ وَ أَنَا ثَالِثُهُمَا أَرَى نُورَ الْوَحْيِ وَ الرِّسَالَةِ وَ أَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ

وَ لَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّيْطَانِ حِينَ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْهِ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله  )فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذِهِ الرَّنَّةُ فَقَالَ هَذَا الشَّيْطَانُ قَدْ أَيِسَ مِنْ عِبَادَتِهِ

إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ وَ تَرَى مَا أَرَى إِلَّا أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيٍّ وَ لَكِنَّكَ لَوَزِيرٌ وَ إِنَّكَ لَعَلَى خَيْرٍ وَ لَقَدْ كُنْتُ مَعَهُ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله )لَمَّا أَتَاهُ الْمَلَأُ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَالُوا لَهُ يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ قَدِ ادَّعَيْتَ عَظِيماً لَمْ يَدَّعِهِ آبَاؤُكَ وَ لَا أَحَدٌ مِنْ بَيْتِكَ

وَ نَحْنُ نَسْأَلُكَ أَمْراً إِنْ أَنْتَ أَجَبْتَنَا إِلَيْهِ وَ أَرَيْتَنَاهُ عَلِمْنَا أَنَّكَ نَبِيٌّ وَ رَسُولٌ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ عَلِمْنَا أَنَّكَ سَاحِرٌ كَذَّابٌ‏

فَقَالَ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله  )وَ مَا تَسْأَلُونَ قَالُوا تَدْعُو لَنَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ حَتَّى تَنْقَلِعَ بِعُرُوقِهَا وَ تَقِفَ بَيْنَ يَدَيْكَ فَقَالَ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله  ) إِنَّ اللَّهَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌفَإِنْ فَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ ذَلِكَ أَ تُؤْمِنُونَ وَ تَشْهَدُونَ بِالْحَقِّ قَالُوا نَعَمْ

قَالَ فَإِنِّي سَأُرِيكُمْ مَا تَطْلُبُونَ وَ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكُمْ لَا تَفِيئُونَ إِلَى خَيْرٍ وَ إِنَّ فِيكُمْ مَنْ يُطْرَحُ فِي الْقَلِيبِ وَ مَنْ يُحَزِّبُ الْأَحْزَابَ

ثُمَّ قَالَ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله  )يَا أَيَّتُهَا الشَّجَرَةُ إِنْ كُنْتِ تُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ تَعْلَمِينَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَانْقَلِعِي بِعُرُوقِكِ حَتَّى تَقِفِي بَيْنَ يَدَيَّ بِإِذْنِ اللَّهِ

فَوَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ لَانْقَلَعَتْ‏بِعُرُوقِهَا وَ جَاءَتْ وَ لَهَا دَوِيٌّ شَدِيدٌ وَ قَصْفٌ كَقَصْفِ أَجْنِحَةِ الطَّيْرِ حَتَّى وَقَفَتْ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله  )مُرَفْرِفَةً

وَ أَلْقَتْ بِغُصْنِهَا الْأَعْلَى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله )وَ بِبَعْضِ أَغْصَانِهَا عَلَى مَنْكِبِي وَ كُنْتُ عَنْ يَمِينِهِ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله  )

فَلَمَّا نَظَرَ الْقَوْمُ إِلَى ذَلِكَ قَالُوا عُلُوّاً وَ اسْتِكْبَاراً فَمُرْهَا فَلْيَأْتِكَ نِصْفُهَا وَ يَبْقَى نِصْفُهَا فَأَمَرَهَا بِذَلِكَ فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ نِصْفُهَا كَأَعْجَبِ إِقْبَالٍ وَ أَشَدِّهِ دَوِيّاً فَكَادَتْ تَلْتَفُّ بِرَسُولِ اللَّهِ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله  )

فَقَالُوا كُفْراً وَ عُتُوّاً فَمُرْ هَذَا النِّصْفَ فَلْيَرْجِعْ إِلَى نِصْفِهِ كَمَا كَانَ فَأَمَرَهُ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله  )فَرَجَعَ

فَقُلْتُ أَنَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِنِّي أَوَّلُ مُؤْمِنٍ بِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَ أَوَّلُ مَنْ أَقَرَّ بِأَنَّ الشَّجَرَةَ فَعَلَتْ مَا فَعَلَتْ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى تَصْدِيقاً بِنُبُوَّتِكَ وَ إِجْلَالًا لِكَلِمَتِكَ

فَقَالَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ بَلْ ساحِرٌ كَذَّابٌ عَجِيبُ السِّحْرِ خَفِيفٌ فِيهِ وَ هَلْ يُصَدِّقُكَ فِي أَمْرِكَ إِلَّا مِثْلُ هَذَا يَعْنُونَنِي

وَ إِنِّي لَمِنْ قَوْمٍ لَا تَأْخُذُهُمْ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ سِيمَاهُمْ سِيمَا الصِّدِّيقِينَ وَ كَلَامُهُمْ كَلَامُ الْأَبْرَارِ عُمَّارُ اللَّيْلِ وَ مَنَارُ النَّهَارِ مُتَمَسِّكُونَ بِحَبْلِ الْقُرْآنِ يُحْيُونَ سُنَنَ اللَّهِ وَ سُنَنَ رَسُولِهِ

لَا يَسْتَكْبِرُونَ وَ لَا يَعْلُونَ وَ لَا يَغُلُّونَ وَ لَا يُفْسِدُونَ قُلُوبُهُمْ فِي الْجِنَانِ وَ أَجْسَادُهُمْ فِي الْعَمَلِ

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج12  

و من خطبة له عليه السّلام تسمى بالقاصعة و هى المأة و الحادية و التسعون من المختار فى باب الخطب

الجزء الثاني عشر

تتمة باب المختار من خطب أمير المؤمنين ع و أوامره

الفصل السابع

ألا و إنّكم قد نفضتم أيديكم من حبل الطّاعة، و ثلمتم حصن اللّه المضروب عليكم بأحكام الجاهليّة، و إنّ اللّه سبحانه قد امتنّ على جماعة هذه الامّة فيما عقد بينهم من حبل هذه الالفة، الّتي ينتقلون «يتقلّبون خ ل» في ظلّها، و يأوون إلى كنفها، بنعمة لا يعرف أحد من المخلوقين لها قيمة، لأنّها أرجح من كلّ ثمن، و أجلّ من كلّ خطر و اعلموا أنّكم صرتم بعد الهجرة أعرابا، و بعد الموالاة أحزابا، ما تتعلّقون من الإسلام إلّا باسمه، و لا تعرفون من الإيمان إلّا رسمه، تقولون: النّار و لا العار، كأنّكم تريدون أن تكفؤا الإسلام على وجهه انتهاكا لحريمه، و نقضا لميثاقه، الّذي وضعه اللّه لكم حرما في أرضه، و أمنا بين خلقه، و إنّكم إن لجأتم إلى غيره حاربكم أهل الكفر، ثمّ لا جبرئيل و لا ميكائيل و لا مهاجرين و لا أنصار ينصرونكم إلّا المقارعة بالسّيف، حتّى يحكم اللّه بينكم، و إنّ عندكم الأمثال‏من بأس اللّه و قوارعه، و أيّامه و وقايعه فلا تستبطئوا وعيده جهلا بأخذه، و تهاونا ببطشه، و يأسا من بأسه، فإنّ اللّه سبحانه لم يلعن القرن الماضي «القرون الماضية خ ل» بين أيديكم إلّا لتركهم الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر، فلعن اللّه السّفهاء لركوب المعاصي، و الحلماء لترك التّناهي، ألا و قد قطعتم قيد الإسلام، و عطّلتم حدوده، و أمتّم أحكامه

اللغة

(نفضت) الورقة من الشجرة أسقطته، و نفضت الثوب نفضا حرّكته ليزول عنه الغبار و نحوه فهو منتفض و (ثلمت) الاناء ثلما من باب ضرب كسرته من حافته فهو منثلم، و الثلمة في الحائط و غيره الخلل و الجمع ثلم مثل غرفة و غرف و (الخطر) محرّكة السّبق الّذى يتراهن عليه، و خطر الرّجل خطرا وزان شرف شرفا إذا ارتفع قدره و منزلته فهو خطير و (الأحزاب) جمع حزب و هو الطّائفة من النّاس و تحزّب القوم صاروا أحزابا، و يوم الأحزاب هو يوم الخندق و (كفات) الاناء قلبته و أكفأته مثله و (بطش به) من باب نصر و ضرب أخذه بالعنف و السّطوة كأبطشه، و البطش الأخذ الشديد في كلّ شي‏ء و (تناهوا عن المنكر) نهي بعضهم بعضا.

الاعراب

قال الشارح المعتزلي: الباء في قوله: بنعمة، متعلّقة بقوله: امتنّ، و في من قوله فيما عقد بينهم متعلّقة بمحذوف و موضعها نصب على الحال، انتهى‏و الظاهر من سياق كلامه أنّ ذا الحال هو قوله: بنعمة، أى امتنّ بنعمة حاصلة فيما عقداه، و لا يضرّ تقدّمها عليه لكونها ظرفا يغتفر فيه ما لا يغتفر في غيره، و يجوز أن يكون ذو الحال قوله: على جماعة إى امتنّ على جماعة هذه الأمّة حالكونهم ثابتين مستقرّين فيما عقد بينهم.

و قوله: النّار و لا العار منصوبان بفعل مضمر، أى ادخلوا النّار و لا تلتزموا العار، و انتهاكا مفعول لأجله لقوله: تريدون، أو لقوله: تكفؤا، و الثاني أظهر و أقرب.
و قوله: لا جبرئيل و لا ميكائيل و لا مهاجرين قال الشّارح المعتزلي: الرّواية المشهورة هكذا بالنّصب و هو جائز على التشبيه بالنّكرة كقولهم معضلة و لا أبا حسن لها، انتهى.

أقول: قال نجم الأئمة بعد اشتراط كون اسم لا النّافية للجنس نكرة: و اعلم أنّه قد يؤول العلم المشتهر ببعض الخلال بنكرة فينتصب و ينزع منه لام التعريف إن كان فيه، نحو لا حسن في الحسن البصرى، و لا صعق في الصعق، أو فيما اضيف إليه نحو لا امرء قيس و لا ابن زبير، و لتأويله بالمنكر وجهان: إمّا أن يقدّر مضاف هو مثل فلا يتعرّف بالاضافة لتوغّله في الابهام، و إمّا أن يجعل العلم لاشتهاره بتلك الحلّة كانّه اسم جنس موضوع لافادة ذلك المعني، لأنّ معني قضيّة و لا أبا حسن لها لا فيصل لها إذ هو عليه السّلام كان فيصلا في الحكومات على ما قال النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أقضاكم عليّ، فصار اسمه كالجنس المفيد لمعني الفصل و القطع كلفظ الفيصل، انتهى.

و عليه فالتّاويل في كلامه أن يراد بقوله لا جبرئيل و لا ميكائيل أنّه لا ناصر لكم و لا معاون، هذا.
و على الرّواية الغير المشهورة فالرّفع في الجميع بالابتداء على أن لا ملغاة عن العمل، و هو أحد الوجوه الخمسة الّتي ذكرها علماء الأدب في نحو لا حول و لا قوّة إلّا باللّه، و على أىّ تقدير فالخبر محذوف و جملة ينصرونكم وصف أو حال و الأوّل أظهر و أولى من جعلها خبرا أيضا كما ذهب إليه الشّارح البحراني.

و قوله: إلّا المقارعة بالسّيف، يروى بالنصب و بالرّفع‏أمّا النّصب فعلي أنّه استثناء من الأسماء الواقعة بعد لاء التّبرية لعمومها بعد تأويل الأوّلين منها بالنّكرة حسبما عرفت، فانّ الكلام بعد التأويل المذكور بمنزلة لا عوان و لا ناصرين ينصرونكم إلّا المقارعة، و يجوز جعل المستثنى منه ضمير الجمع في ينصرون العايد الى الأسماء المذكورة، و على أىّ تقدير فالظّاهر أنّ الاستثناء متّصل بعد ارتكاب التاويل المذكور لا منقطع كما قاله الرّاوندى.

و أمّا الرّفع فعلي أنّه بدل من الأسماء المذكورة على روايتها بالرّفع، أو من ضمير ينصرون على روايتها بالنّصب، و الرّفع هو المختار كما قاله علماء الأدب في مثل ما فعلوه إلّا قليل و إلّا قليلا، أى فيما إذا وقع المستثنى بالّا في كلام غير موجب و ذكر المستثنى منه أنّه يجوز النّصب و يختار البدل.

و مرادهم بالكلام الغير الموجب كما قاله نجم الأئمة أن يكون المستثنى مؤخّرا من المستثنى منه المشتمل عليه نفى أو نهى، فيدخل فيه الضّمير الرّاجع قبل الاستثناء بالّا على اسم صالح لأن يبدل منه معمول للابتدا أو أحد نواسخه نحو قولك ما أحد ضربته إلّا زيدا يجوز لك الابدال من هاء ضربته لأنّ المعني ما ضربت أحدا إلّا زيدا، فقد اشتمل النفى على هذا الضمير من حيث المعنى، و كذلك إذا كان الضمير فى صفة المبتدأ نحو ما أحد لقيته كريم إلّا زيدا، فانّه بمنزلة ما لقيت أحدا كريما إلّا زيدا.

فعلم بذلك انّ جعل جملة ينصرون في كلامه عليه السّلام صفة أو خبرا لا يوجب التفاوت في الابدال من الضمير الّذي فيه.
قال نجم الأئمة: و الابدال من صاحب الضمير أولى لأنّه الاصل و لا يحتاج الى تاويل آه.
فان قلت: فعلى الابدال يكون بدل غلط فكيف به فى كلام أمير المؤمنين عليه السّلام الّذي هو أفصح الكلام قلت: كلّا بل هو بدل اشتمال، لأنّ نصرة جبرئيل و ميكائيل و المهاجر و الأنصار لما كان بمقارعة السّيوف حسن ذلك للابدال، هذا ما يقتضيه النظر الجلى.

و أمّا الذى يقتضيه النظر الدّقيق فهو أن جعل انتصاب المقارعة على رواية النصب‏بالمصدر كما قاله الشارح المعتزلي أولى، لافادته الدّوام و الثبوت.
بيان ذلك أنهم قد قالوا إنّ المصدر إذا وقع مثبتا بعد نفي داخل على اسم لا يكون خبرا عنه إلّا مجازا لكونه صاحب هذا المصدر يحذف عامله قياسا نحو ما زيد إلّا سيرا، و ما الدّهر إلّا تقلّبا، و ما كان زيد إلّا سيرا، فانّ سيرا لا يجوز جعله خيرا عن زيد، لأنّ زيدا صاحب السير لا نفس السير، و هكذا لا يصحّ جعل تقلّبا خبرا عن دهر، فلا بدّ من أن يكون العامل محذوفا أى ما زيد إلّا يسير سيرا، و ما الدّهر إلّا يتقلّب تقلّبا، و فيما نحن فيه لا أنصار ينصرونكم إلّا تقارعوا المقارعة بالسيف.

قال نجم الأئمة: و إنّما وجب حذف الفعل لأنّ المقصود من هذا الحصر وصف الشي‏ء بدوام حصول الفعل منه و لزومه له، و وضع الفعل على الحدوث و التجدّد فلما كان المراد التنصيص على الدّوام و اللزوم لم يستعمل العامل أصلا لكونه إما فعلا و هو موضع على التجدّد، أو اسم فاعل و هو مع العمل كالفعل لمشابهته، فصار العامل لازم الحذف، فان أرادوا زيادة المبالغة جعلوا المصدر نفسه خبرا نحو ما زيد إلّا سير كما ذكرنا فى المبتدأ في قولنا إنما هي أقبال و إدبار، فينمحى إذا عن الكلام معني الحدوث أصلا لعدم صريح الفعل و عدم المفعول المطلق الدّال عليه، انتهى.

و به يعلم أنه على رواية الرّفع يجوز أن يكون ارتفاعه على الخبر قصدا إلى المبالغة كما فى ما زيد إلّا سير، فافهم جيّدا.

المعنى

اعلم أنّه لمّا أمر المخاطبين في الفصل السابق بالاعتبار بحال بني إسماعيل و بنى إسرائيل، عاد في هذا الفصل إلى تقريعهم و توبيخهم كما فى أكثر الفصول السّابقة بقلّة الطّاعة و أخذ طريق الجاهليّة فقال: (ألا و انّكم قد نفضتم أيديكم من حبل الطّاعة) و التعبير بلفظ النّفض دون الترك للاشارة إلى طرحهم له و إعراضهم عنه، فانّ من يخلى الشي‏ء من يده‏ثمّ ينفض يده منه يكون أشدّ تخلية ممن لا ينفضها، بل يقنع بتخليته فقط.

و تشبيه الطاعة بالحبل من تشبيه المعقول بالمحسوس و وجه الشّبه أنّ الحبل آلة الوصلة بين الشيئين و الطاعة سبب الاتّصال بقرب الخالق، و لذلك أمر اللّه سبحانه بالاعتصام به فى قوله «وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا».

(و ثلمتم حصن اللّه المضروب عليكم بأحكام الجاهليّة) استعار حصن اللّه للاسلام، و رشح بذكر المضروب، و الجامع بين المستعار منه و المستعار له أنّ الحصن سبب الحفظ و الوقاية من شرّ الأعداء، و الاسلام سبب السّلامة من شرّ الأعداء في الدّنيا و من حرّ النّار في الاخرة، يعني أنّكم كسرتم حصن الاسلام الّذى كنتم متحصّنين فيه متحفّظين به بأحكام الجاهليّة و هي التفرّق و الاختلاف و العصبيّة و الاستكبار.

و لمّا وبّخهم على ترك الطاعة و ثلم الاسلام بالافتراق و الاختلاف رغّبهم في الاعتصام بحبل الايتلاف و الاجتماع بالتّنبيه على أنّه أعظم نعمة أنعم اللّه سبحانه بها على عباده و هو قوله: (و انّ اللّه سبحانه قد امتنّ على جماعة هذه الأمّة) أى منّ عليهم (فيما عقد بينهم من حبل هذه الالفة الّتي ينتقلون) و في بعض النسخ يتقلّبون (في ظلّها و يأوون إلى كنفها) أى ينزلون و يسكنون إلى جانبها و ناحيتها.

و المراد بحبل الالفة هو الاسلام الموجب للايتلاف و الارتباط بينهم استعار له الحبل لذلك.
(بنعمة) أى امتنّ عليهم بنعمة عظيمة (لا يعرف أحد من المخلوقين لها قيمة) و المراد بتلك النعمة نفس هذه الالفة أو الاسلام الموجب لها، فانّها نعمة عظيمة يترتّب عليها من المنافع الدّنيويّة و الأخروية ما لا تحصى، و يندفع بها من المضار الدّنيوية و الاخرويّة ما لا تستقصى.

و في هذه الفقرات تلميح إلى قوله تعالى في سورة آل عمران يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَ لا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ. وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا وَ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ‏إِخْواناً وَ كُنْتُمْ عَلى‏ شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها«» قال الطبرسي: أي تمسّكوا بحبل اللّه و هو دين اللّه و الاسلام قاله ابن عبّاس، و لا تفرّقوا معناه و لا تتفرّقوا عن دين اللّه الّذي أمركم فيه بلزوم الجماعة و الايتلاف على الطاعة و اثبتوا عليه.

و اذكروا نعمة اللّه عليكم إذ كنتم أعداء فألّف بين قلوبكم.
قيل: أراد ما كان بين الأوس و الخزرج من الحروب الّتي تطاولت مأئة و عشرين سنة إلى أن ألّف اللّه بين قلوبهم بالاسلام فزالت تلك الأحقاد.

و قيل: هو ما كان بين مشركى العرب من الطوائل، و المعنى احفظوا نعمة اللّه و منته عليكم بالاسلام و بالايتلاف، و رفع ما كان بينكم من التنازع و الاختلاف، فهذا هو النفع الحاصل لكم فى العاجل مع ما أعدّ لكم من الثواب الجزيل فى الاجل، إذ كنتم أعداء فألّف بين قلوبكم، بجمعكم على الاسلام و رفع البغضاء و الشحناء عن قلوبكم.
فأصبحتم بنعمته، أى بنعمة اللّه إخوانا متواصلين و أحبابا متحابّين، بعد أن كنتم متحاربين متعادين.

و كنتم على شفا حفرة من النار، أى و كنتم يا أصحاب محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على طرف حفرةمن جهنّم لم يكن بينكم و بينها إلّا الموت.
فأنقذكم اللّه منها بأن أرسل إليكم رسولا و هداكم للايمان و دعاكم إليه فنجوتم باجابته من النار.
و انما قال: فأنقذكم منها و إن لم يكونوا فيها، لأنهم كانوا بمنزلة من هو فيها حيث كانوا مستحقّين لها.
و بما ذكرنا كلّه علم أنّ هذه النعمة أعنى نعمة الالفة و المحابّة على الاسلام أعظم نعمة لا يعرف أحد من المخلوقين لها قيمة.

(لأنّها) موجبة لسعادة النشأتين و عزّ الدّارين و للانقاذ من النار و الدّخول فى جنّات تجرى من تحتها الأنهار و النزول فى منازل الأبرار و (أرجح من كلّ ثمن) كما يشير اليه قوله تعالى «وَ أَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَ (و أجلّ من كلّ خطر) و شرف و مزيّة لجمعها جميع أقسام الشرف، إذ بها يتمكّن من دركها و تحصيلها و الوصول إليها.

(و اعلموا أنكم صرتم بعد الهجرة أعرابا) قال الشارح المعتزلي: الأعراب على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من آمن به من أهل البادية و لم يهاجر إليه، و هم ناقصوا المرتبة عن المهاجرين لجفائهم و قسوتهم و توحّشهم و تشتّتهم في بعد من مخالطة العلماء و سماع كلام الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و فيهم انزل: «الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَ نِفاقاً وَ أَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى‏ رَسُولِهِ» و ليست هذه الاية عامّة في كلّ الأعراب بل خاصّة ببعضهم، و هم الّذين كانوا حول المدينة و هم: جهنية، و أسلم، و أشجع، و غفار، و اليهم أشار سبحانه بقوله «وَ مِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ» و كيف يكون كلّ الأعراب مذموما و قد قال تعالى «وَ مِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ» و صارت هذه الكلمة جارية مجرى المثل، انتهى و قال الشهيد الثاني: المراد بالأعراب من أهل البادية و قد أظهر الشهادتين على وجه حكم باسلامه ظاهرا و لا يعرف من معني الاسلام و مقاصده و أحكامه سوى الشهادتين آه.

إذا عرفت ذلك فأقول: قد ظهر لك في شرح الخطبة المأة و الثامنة و الثمانين أنّ حقيقة المهاجرة هو الهجرة إلى حضور الحجّة لمعرفته و العلم بوجوب اطاعته و امتثال أحكامه، و على هذا فمقصوده عليه السّلام بقوله: صرتم بعد الهجرة أعرابا، توبيخهم على أنّهم بعد ما كانوا عارفين به و بمقامه عليه السّلام و وجوب طاعته و عالمين بأحكام الشرع و آدابه و وظايف الاسلام كما هو شأن المهاجر، قد تركوا ذلك كلّه و صاروا مثل الأعراب الّذين لا يعرفون إلّا ظاهر الاسلام كما قال عزّ و جلّ «الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَ نِفاقاً وَ أَجْدَرُ» أى أحرى بأن لا يعلموا حدود اللّه في الفرائض و السنن و الحلال و الحرام.

يعني أنكم قد صرتم بالعصبيّة و الاستكبار و العناد و إثارة الفتن بمنزلة الأعراب الجاهلين بما لهم و ما عليهم بعد ما كنتم عارفين بذلك كلّه.
(و بعد الموالات أحزابا) أى بعد الالفة و الاجتماع أحزابا متعادية متشتّتة مختلفة الاراء، أى صرتم حزبا حزبا و طائفة طائفة كلّ منكم يخالف آخرين، و كلّ حزب بما لديهم فرحون.
(ما تتعلّقون من الاسلام إلّا باسمه و لا تعرفون من الايمان إلّا رسمه) لما جعلهم أعرابا أحزابا اتبعه بهذه الجملة و لكمال الاتّصال بينهما وصلها بسابقته و ترك العاطف.

و المراد أنّهم لم يأخذوا من الاسلام و أحكامه شيئا إلّا اسمه فيسمّون باسم المسلم، و لا يعرفون من الايمان إلّا صورته دون ماهيّته و حقيقته، و في بعض النسخ لا تعقلون بدل لا تعرفون، و المقصود واحد.
(تقولون النّار و لا العار) كلمة جارية مجرى المثل يقولها أهل الحميّة و الانفة من تحمل الضيم و الذّل على نفسه أو من ينسب إليه من قومه و خاصّته استنهاضا و الهابا بها إلى النضال و الجدال فاذا قيلت في حقّ كان ثوابا و إذا قيلت في باطل كان خطاء.

و لمّا كان غرض المخاطبين منها هو الشرّ و الفساد و إثارة الفتنة المخالفة لوظايف الاسلام شبّه حالهم في أعمالهم و أقوالهم بقوله:(كأنّكم تريدون أن تكفؤا الاسلام على وجهه) بأنّهم يريدون أن يكبّوا و يقلبوا الاسلام على وجهه، تشبيها له بالاناء المقلوب على وجهه فكما أنّه بعد قلبه لا يبقي فيه شي‏ء أصلا و يخرج ما كان فيه من حيّز الانتفاع، فكذلك الاسلام الّذى لم يراع حدوده و احكامه كأنّه لم يبق منه شي‏ء ينتفع به، و هو من الاستعارة المكنيّة و ذكر الكفاء تخييل.

و قوله (انتهاكا لحريمه) أراد به أنّ فعلكم ذلك كاشف عن كون غرضكم منه الانتهاك كالكفّار و المنافقين و أعادى الدّين الذين لا غرض لهم إلّا إبطال الاسلام و هتك حريمه (و نقضا لميثاقه) و هى حدوده و شرايطه المقرّرة و وظايفه المأخوذة فيه (الذى وضعه اللّه لكم حرما في أرضه) لمنعه الاخذين به و المواظبين له من الرّفث و الفسوق و الجدال.
(و أمنا بين خلقه) أى سبب أمن أى أمانا لهم من شرّ الأعداء و من تعدّى كلّ منهم إلى الاخر.

و المراد بنقضهم ميثاقه تركهم لوظايفه المقرّرة، و قطعهم لما أمر اللّه به أن يوصل، و سعيهم في إثارة الفتنة و الفساد و القتل و القتال، قال سبحانه «الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ».

قال الطبرسيّ: الذين ينقضون عهد اللّه، أى يهدمونه أى لا يفون به، و عهد اللّه وصيّته إلى خلقه على لسان رسوله بما أمرهم به من طاعته و نهيهم عنه من معصيته و نقضهم لذلك تركهم العمل به من بعد ميثاقه قال في الصّافي: أى تغليظه و أحكامه و يقطعون ما أمر اللّه به أن يوصل قال الطبرسيّ: معناه امروا بصلة النبيّ و المؤمنين فقطعوهم، و قيل: امروا بصلة الرّحم و القرابة فقطعوها و قيل: امروا بأن يصلوا القول بالعمل ففرّقوا بينهما بأن قالوا و لم يعملوا و قيل: معناه الأمر بوصل‏كلّ من أمر اللّه بصلته من أوليائه و القطع و البراءة من أعدائه، و هذا أقوى لأنّه أعمّ.

و في الصّافي أقول: و يدخل في الاية التفريق بين الأنبياء و الكتب في التصديق و ترك موالاة المؤمنين و الجمعة و الجماعات المفروضة و ساير ما فيه رفض خير أو تعاطى شرّ لأنّه يقطع الوصلة بين اللّه و بين العبد الّتى هى المقصودة بالذات من كلّ وصل و فصل.

و يفسدون في الأرض قيل: نقضهم العهد، و قيل أراد كلّ معصية تعدّى ضررها إلى غير فاعلها.
و في الصّافي يفسدون بسبب قطع ما في وصله نظام العالم و صلاحه اولئك هم الخاسرون الذين خسروا أنفسهم بما صاروا إلى النيران و حرموا الجنان، فيا لها خسارتا لزمتهم عذاب الأبد و حرّمتهم نعيم الأبد.

ثمّ حذّرهم و خوّفهم بقوله (و إنّكم إن لجأتم إلى غيره حاربكم أهل الكفر) يعني أنّكم إن قطعتم حبل الاسلام العاقد بينكم و الجامع لجمعيّتكم و تمسّكتم بغيره من حمية أو جماعة أو كثرة عشيرة مع الخروج عن طاعة سلطان الاسلام و التفرّق فيه فانّ ذلك يوجب أن يطمع فيكم الكفّار و يحاربونكم.

(ثمّ لا جبرئيل و لا ميكائيل و لا مهاجرين و لا أنصار ينصرونكم) كما كانوا ينصرون في زمن الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم (إلّا المقارعة) أى المضاربة و قرع بعضكم بعضا (بالسّيف حتّى يحكم اللّه بينكم) و بينهم بغلبة أحد الفريقين على الاخر.

ثمّ ذكّرهم بالعقوبات النّازلة على الامم الماضية في القرون الخالية بخروجهم عن طاعة اللّه سبحانه فقال: (و انّ عندكم الأمثال) الّتي ضربها اللّه لكم بأهل القرون الماضية كما قال «وَ لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَ مَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ» و قال أيضا «وَ عاداً وَ ثَمُودَ وَ أَصْحابَ الرَّسِّ وَ قُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً. وَ كُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَ كُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً»(من بأس اللّه) و عذابه لهم (و قوارعه) أى دواهيه و افزاعه الّتي كانت تقرع القلوب بشدّتها (و أيّامه) الّتي انتقم اللّه فيها من القرون الاولى.

قال الطبرسيّ في قوله: و ذكّرهم بأيّام اللّه: معناه و أمرناه«» بأن يذكّر قومه وقايع اللّه في الامم الخالية و اهلاك من أهلك منهم ليحذروا ذلك.

أقول: و من تلك الأيام ما اشير إليه في قوله «إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ. تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ» و في قوله «فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ» و في قوله «وَ أَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ. سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَ ثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى‏ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ».
(و وقايعه) أى نوازله الشّديدة و عقوباته الواقعة بالعاصين المتمرّدين كما اشير اليها في قوله عزّ و جلّ «فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَ مِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَ مِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَ مِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَ ما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ».

و غرضه عليه السّلام من التذكير بهذه الأمثال توعيد المخاطبين و تهديدهم من أن يقارفوا ما قارف أهل القرون المتقدّمة من الذّنوب و الاثام، فتنزل عليهم ما نزل بهم من البأس و العذاب، و لذلك فرّع عليه قوله: (فلا تستبطئوا وعيده) أى لا تعدّوا ما أوعدكم به من العذاب بطيئا بعيدا فانّه قريب كما قال «إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَ نَراهُ قَرِيباً».
و لا تبطئوا إبطاءه للعذاب طمعا منكم في أنّ إبطاءه يوجب ذهابه، و إمهاله يوجب إهماله كما هو الغالب في وعيد غيره سبحانه، فانّ تأخيره غالبا يوجب عدم وقوعه إمّا لحصول الغفلة و النسيان من الموعد، أو لأنه ربّما يفوته من طلب أو يعجزه من هرب، و أمّا اللّه الحىّ القيّوم القهّار ذو القوّة المتين و البأس الشّديد فانّه لبالمرصاد و لا يخلف الميعاد، و المخاطبون لما قاسوه عزّ شأنه بغيره و وعيده بوعيدغيره استبطئوه لذلك و انما وقعوا في هذا الزّعم الفاسد.

(جهلا بأخذه و تهاونا ببطشه و يأسا من بأسه) يعنى أنّ جهلكم بمؤاخذته الشديدة، و تهاونكم ببطشه الناشى من تأخير وقوعه، و يأسكم من بأسه الناشي من طول مدّة البأس صار علّة للاستبطاء فأوجب ذلك جسارتكم على اقتراف الجرائم و اقتحامكم في ورطات الاثام.

كما أنّ أهل القرون الاولى قد وقعوا في الهلاك الدّائم و استحقوا العذاب الأليم أيضا من الجهالة بأخذه كما اشير إليه في الكتاب الكريم في قوله «وَ إِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَ السَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَ ما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ».

و من التهاون ببطشه كما حكاه سبحانه عنهم بقوله عقيب هذه الاية «وَ بَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» و بقوله «وَ لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ».
و من اليأس من بأسه كما اخبر عنهم بقوله «فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَ عَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَ قالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ. فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ».

و أما أهل العرفان و الايقان فيعرفون بنور الاي
غيره استبطئوه لذلك و انما وقعوا في هذا الزّعم الفاسد.

(جهلا بأخذه و تهاونا ببطشه و يأسا من بأسه) يعنى أنّ جهلكم بمؤاخذته الشديدة، و تهاونكم ببطشه الناشى من تأخير وقوعه، و يأسكم من بأسه الناشي من طول مدّة البأس صار علّة للاستبطاء فأوجب ذلك جسارتكم على اقتراف الجرائم و اقتحامكم في ورطات الاثام.

كما أنّ أهل القرون الاولى قد وقعوا في الهلاك الدّائم و استحقوا العذاب الأليم أيضا من الجهالة بأخذه كما اشير إليه في الكتاب الكريم في قوله «وَ إِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَ السَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَ ما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ».

و من التهاون ببطشه كما حكاه سبحانه عنهم بقوله عقيب هذه الاية «وَ بَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» و بقوله «وَ لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ».
و من اليأس من بأسه كما اخبر عنهم بقوله «فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَ عَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَ قالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ. فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ».

و أما أهل العرفان و الايقان فيعرفون بنور الايمان و اليقين بما أخبر به الأنبياء و المرسلين و شهد به الكتاب المكنون أنّ وعده عزّ و جلّ و وعيده واقعان لا محالة و أنّ أخذه و بطشه و بأسه و إن تأخر حقّ محقّق لا ريب فيه كما قال «وَ لا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ» و قال «وَ لا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ. وَ لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ».

و يعلمون أنّ التأخير و الامهال في العقاب لاقتضاء الحكمة الالهيّة و لو يعجّل«» اللّه للنّاس الشرّ استعجالهم بالخير لقضى إليهم أجلهم.

و لكنه يمهل المؤمنين من باب اللّطف حتّى يتوبوا و يتداركوا الذّنوب بالانابة و الاستغفار.
و يمهل الظالمين و يذر الذين لا يرجون لقائه في طغيانهم يعمهون من باب الاستدراج كما قال تعالى «وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» هذا.

و لما ذكّرهم بأمثال الذين خلوا من قبل و نهاهم عن استبطاء وعيد اللّه سبحانه أردفه بالتنبيه على عمدة سبب الاستحقاق القرون الخالية للطعن و العتاب و اللّعن و العقاب و هو ارتفاع الرّكن الأعظم من الاسلام أى الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر من بينهم، و غرضه بذلك تحذير المخاطبين و تنبيههم على أنهم مثلهم في استحقاق اللّعن لارتفاع هذه الخصلة العظيمة من بينهم أيضا و لذلك أتى بالفاء التفريعيّة فقال: (فانّ اللّه سبحانه لم يلعن القرون الماضية) و لم يحرمهم من رحمته الواسعة (إلّا لتركهم الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر) كما اشير إليه في قوله سبحانه «لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى‏ لِسانِ داوُدَ وَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ. كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ».

قال الطبرسيّ: أخبر تعالى عما جرى على أسلافهم فقال: لعن الذين كفروا الاية، معناه لعنوا على لسان داود فصاروا قردة و على لسان عيسى فصاروا خنازير.
قال و قال أبو جعفر الباقر عليه السّلام و أما داود فانه لعن أهل ايلة لما اعتدوا في سبتهم و كان اعتداؤهم في زمانه فقال: اللّهم البسهم اللعنة مثل الرّدا و مثل المنطقة على الحقوين، فمسخهم اللّه قردة، فأمّا عيسى عليه السّلام فانه لعن الذين انزلت عليهم المائدة ثمّ كفروا بعد ذلك قال الطبرسيّ: و انما ذكر اللعن على لسانهما إزالة للابهام بأنّ لهم منزلة بولادة الأنبياء تنجيهم من العقوبة، ثمّ بيّن اللّه تعالى حالهم فقال: كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، أى لم يكن ينهى بعضهم بعضا و لا ينتهون أى لا يكفّون عما نهوا عنه‏قال ابن عباس: كان بنو اسرائيل ثلاث فرق: فرقة اعتدوا في السّبت، و فرقة نهوهم و لكن لم يدعوا مجالستهم و لا مؤاكلتهم، و فرقة لما رأوهم يعتدون ارتحل عنهم و بقى الفرقتان المعتدية و الناهية المخالطة فلعنوا جميعا.

و لذلك قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لتأمرنّ بالمعروف و لتنهنّ عن المنكر و لتأخذن على يد السفيه و لتاطرنه«» على الحقّ اطراء أو ليضربنّ اللّه قلوب بعضكم على بعض و يلعنكم كما لعنهم.
و فى الوسائل عن الحسن بن عليّ بن شعبة في تحف العقول عن الحسين عليه السّلام قال: و يروى عن عليّ عليه السّلام: اعتبروا أيها الناس بما وعظ اللّه به أولياءه من سوء ثنائه على الأحبار إذ يقول: «لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَ الْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ» و قال «لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ- إلى قوله- لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ» و إنما عاب اللّه عليهم لأنهم كانوا يرون من الظلمة المنكر و الفساد فلا ينهونهم عن ذلك رغبة فيما كانوا ينالونه منهم، و رهبة مما يحذرون، و اللّه يقول: «فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَ اخْشَوْنِ» و قال: «الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ» فبدء اللّه بالأمر بالمعروف و النهى عن المنكر فريضة منه لعلمه بأنها إذا ادّيت و اقيمت استقامت الفرائض كلّها و هيّنها و صعبها، و ذلك إنّ الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر دعاء إلى الاسلام مع ردّ المظالم، و مخالفة الظالم، و قسمة الفى‏ء و الغنايم، و أخذ الصدقات من مواضعها و وضعها في حقّها.

و قد تقدّم هذا الحديث مع حديث آخر مناسب للمقام و بعض الكلام في الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر في شرح الفصل الثاني من المختار المأة و الخامس و الخمسين (فلعن اللّه السفهاء) أى الجهّال (لركوب المعاصي و الحلماء) أى ذوى العقول و الاناة و في بعض النسخ الحكماء بدله (لترك التناهى)و هذه الجملة إمّا اخباريّة أتى بها إيضاحا للجملة المتقدّمة أعنى قوله: إنّ اللّه لم يلعن القرون الماضية إلّا لتركهم اه، و يؤيّده إضمار فاعل لعن و إسقاط لفظ الجلالة في بعض النّسخ و إمّا انشائيّة دعائية منه عليه السّلام أتى بها قياما منه بوظيفته اللّازمة، فانّ لعنه عليهم نهى لهم عن المنكر و هو مقتضى وظيفة الامامة.

فعلى الاحتمال الأوّل يكون المراد بالسّفهاء و الحلماء سفهاء القرون الماضية و حلماءهم.
و على الاحتمال الثاني سفهاء المخاطبين و حلماءهم، و أوضح استحقاقهم للّعن و دخولهم في زمرة الملعونين بقوله: (ألا و قد قطعتم قيد الاسلام) أى حبل الالفة عليه بالاعتزاء و العصبيّة (و عطلتم حدوده) أى تركتم وظايفه المقرّرة الّتي لم يجز التّعدّى و التّخطي منها (و أمتّم أحكامه) أى أبطلتم أحكامه التي كان يلزم عليكم إحياؤها و العمل بها.
و قد كان من جملة تلك الحدود و الأحكام المتروكة المعطلة أمرهم بالمعروف و نهيهم عن المنكر، فانّ القيام بهما غالبا شأن الرّؤساء و الكبراء، و قد كانوا قائمين بخلافه و كانوا يأمرون بالمنكر و ينهون عن المعروف و لذلك حذّر عن طاعتهم و متابعتهم في الفصل الثالث من هذه الخطبة و قال: إنّهم قواعد أساس العصبيّة و دعائم أركان الفتنة و سيوف اعتزاء الجاهليّة.

الترجمة

آگاه باشيد بدرستى كه شما بتحقيق افشانده‏ ايد دستهاى خود را از ريسمان اطاعت و بالمرّه اعراض كرده ‏ايد از آن، و خراب نموده‏ ايد حصار خدا را كه زده شده است بر شما با أحكام جاهليّت، و بدرستى خداى تبارك و تعالى منّت نهاده بر جماعت اين امّت در آنچه منعقد ساخته در ميان ايشان از ريسمان اين الفت، چنان الفتى كه بر مى‏ گردند در سايه آن، و نازل مي شوند در پناه‏گاه آن با نعمتى‏ كه نمى‏ شناسد احدى از مخلوقان قيمت آن را، از جهت اين كه آن افزونتر است از هر بهائى، و بزرگتر است از هر منزلت و مزيّتى.

و بدانيد بدرستى كه شما گرديديد بعد از مهاجرت و معرفت برسومات و آداب شريعت مثل عربان باديه نشين بى ‏معرفت، و بعد از دوستى و موالاة طوايف مختلفه متعلّق نمى‏ شويد از اسلام مگر اسم آن را، و نمى‏ شناسيد از ايمان مگر رسم آن را مى‏گوئيد: النار و لا العار، داخل آتش بشويد قبول ننگ و عار ننمائيد گويا كه مى‏ خواهيد برگردانيد اسلام را بر روى آن بجهت هتك احترام آن، و بجهت شكستن پيمان آن چنان اسلامى كه نهاده است آن را خداى تعالى براى شما حرم در زمين خود، و ايمنى در ميان خلقان خود.

و بدرستى كه اگر شما ملتجى بشويد بسوى غير آن يعنى اگر اعتماد نمائيد بر غير دين اسلام محاربه مى ‏كنند با شما كفّار، بعد از آن نه جبرئيل است و نه ميكائيل و نه مهاجرين و نه انصار كه نصرت كنند شما را مگر كوفتن يكديگر با شمشير آبدار تا آنكه حكم كند خداوند متعال در ميان شما.

و بدرستى كه در نزد شما است داستانها از شدّت عذاب خدا و عقوبات كوبنده أو و روزهاى سخت او و واقعه ‏هاى نكال او، پس بعيد نشماريد وعده عذاب او را از جهت جهالت شما بمؤاخذه او، و از جهت استخفاف بعنف و سطوت او، و از جهت نوميدى از عذاب او.

پس بدرستى كه خداوند لعنت نفرمود قرنهاى گذشته را مگر بجهت ترك كردن ايشان امر بمعروف و نهى از منكر را، پس لعنت كرده خدا سفيهان را بجهت ارتكاب معصيتها، و دانايان را بجهت ترك نهى كردن از مناهى، آگاه باشيد بدرستى كه شما بريديد بند محكم اسلام را، و معطل كرديد حدّهاى نظام او را و فانى نموديد و باطل كرديد أحكام او را

الفصل الثامن

ألا و قد أمرني اللّه بقتال أهل البغي و النّكث و الفساد في الأرض فأمّا النّاكثون فقد قاتلت، و أمّا القاسطون فقد جاهدت، و أمّا المارقة فقد دوّخت، و أمّا شيطان الرّدهة فقد كفيته بصعقة سمعت لها وجبة قلبه، و رجّة صدره، و بقبت بقيّة من أهل البغي و لئن أذن اللّه في الكرّة عليهم لاديلنّ منهم إلّا ما يتشذّر في أطراف البلاد تشذّرا. أنا وضعت في الصّغر بكلاكل العرب، و كسرت نواجم قرون ربيعة و مضر. و قد علمتم موضعي من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالقرابة القريبة، و المنزلة الخصيصة، وضعني في حجره و أنا وليد، يضمّني إلى صدره، و يكنفني في فراشه، و يمسّني جسده، و يشمّني عرفه، و كان يمضغ الشّي‏ء ثمّ يلقمنيه، و ما وجد لي كذبة في قول، و لا خطلة في فعل.

و لقد قرن اللّه به صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من لدن أن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته، يسلك به طريق المكارم، و محاسن أخلاق العالم ليله و نهاره، و لقد كنت أتّبعه اتّباع الفصيل أثر أمّه، يرفع لي في كلّ يوم من أخلاقه علما، و يأمرني بالاقتداء به، و لقد كان يجاور في‏كلّ سنة بحراء فأراه و لا يراه غيري، و لم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و خديجة و أنا ثالثهما، أرى نور الوحي و الرّسالة، و أشمّ ريح النّبوّة. و لقد سمعت رنّة الشّيطان حين نزل الوحي عليه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقلت: يا رسول اللّه ما هذه الرّنة فقال: هذا الشّيطان قد أيس من عبادته، إنّك تسمع ما أسمع، و ترى ما أرى، إلّا أنّك لست بنبيّ، و لكنّك وزير، و إنّك لعلى خير.

اللغة

(دوّخه) ذلّله و (الرّدهة) وزان تمرة حفرة في الجبل يجتمع فيها الماء و الجمع رده كتمر قال في القاموس: و شبه اكمة خشنة و جمعه رده محرّكة و (كفيته) بالبناء على المفعول من كفانى اللّه مؤنته قتله أو دفع عنّى شرّه و (صعق) صعقا و صعقا و صعقة غشى عليه فهو صعق ككتف و الصّعق محرّكة شدّة الصّوت و الصّاعقة الموت و كلّ عذاب مهلك و صيحة العذاب.

و (الوجبة) وزان تمرة الاضطراب للقلب و (الرّجّة) الحركة و الزلزلة و (أدلت) من فلان غلبته و قهرته أى صرت ذا دولة و (تشذّر) تبدّد و تفرّق و (الكلاكل) الصّدور و الواحد الكلكل و (النواجم) جمع ناجمة من نجم الشي‏ء أى طلع و ظهر و (القرن) من الحيوان الرّوق و موضعه من رأسنا أو الجانب الأعلى من الرّأس و الجمع قرون.

و (ربيعة و مضر) وزان صرد قبيلتان من قريش معروفتان يضرب لهما المثل‏في الكثرة نسبتهما إلى أبويهما و هما ربيعة و مضرابنا نزار بن معدّ بن عدنان و يقال للأوّل ربيعة الفرس و للثاني مضر الحمراء بالاضافة، لأنّ ربيعة اعطي الخيل من ميراث أبيه و مضر اعطى الذّهب.

و (الوليد) الصّبي و المولود و (يكنفني) أى يجعلني في كنفه و الكنف محرّكة الحرز و الجانب و السّتر، و كنف الطائر جناحه و (العرف) وزان فلس الرائحة و أكثر استعماله في الطيبة و (الخطلة) بالفتح المرّة من الخطل محرّكة و هو الخفّة و السرعة و الكلام الفاسد الكثير فهو خطل ككتف أى أحمق عجل.

و (حراء) بالكسر و المدّ وزان كتاب جبل بمكّة فيه غار كان النّبيّ يعتزل إليه و يتعبّد أيّاما يذكّر و يؤنث و (الرنّة) الصوت رنّ يرنّ رنينا صاح و رنّ إليه أصغى.

الاعراب

الواو في قوله: و لئن اذن اللّه، للقسم و المقسم به محذوف و قوله: لاديلنّ جواب القسم، و الباء فى قوله: وضعت بكلاكل العرب، زائدة و قال الشارح البحرانى و يحتمل أن تكون للالصاق أى فعلت بهم الوضع و الاهانة، و ربيعة و مضر بالفتح لمنع الصرف بالتّأنيث و العلميّة، و جملة وضعنى فى حجره استينافيّة بيانيّة.

المعنى

اعلم أنّه عليه السّلام لما لام المخاطبين فى الفصول السابقة و وبّخهم على مخالفة شرايع الدّين و ترك مراسم الاسلام، و دعاهم إلى اللّه سبحانه بالحكمة و الموعظة الحسنة، و نصحهم بالتى هى أحسن، أردف بهذا الفصل المسوق لبيان فضايله و مناقبه و خصائصه الخاصّة و علوّ شأنه و رفعة مقامه، تنبيها بذلك على أنّه إمام مفترض الطّاعة، و أنّه فيما يأمر و ينهى بمنزلة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فى أوامره و نواهيه، و غرضه بذلك جذب قلوب المخاطبين إلى قبول مواعظه و نصايحه و امتثال أوامره و نواهيه، و صدّر الفصل بالاشارة إلى أعظم تكليف كان مكلّفا به بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و إلى قيامه به‏على أبلغ وجهه و هو قوله: (ألا و قد أمرنى اللّه بقتال أهل البغى) و المراد بهم المجاوزون عن الحدّ و العادلون عن القصد الخارجون عليه عليه السّلام بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من الفرق الثلاث الذين يصرح بهم تفصيلا.

و أمر اللّه سبحانه له بقتالهم إمّا بما أنزله سبحانه في ضمن آيات كتابه العزيز مثل قوله تعالى «فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ».
فقد روى فى غاية المرام عن يونس بن عبد الرّحمن بن سالم عن أبيه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام فى هذه الاية قال: اللّه انتقم بعلىّ عليه السّلام يوم البصرة و هو الّذى وعد اللّه رسوله.

و فيه عن«» عدىّ بن ثابت قال: سمعت ابن عباس يقول: ما حسدت قريش عليا بشى‏ء مما سبق له أشدّ مما وجدت يوما و نحن عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: كيف أنتم يا معشر قريش لو كفرتم بعدى و رأيتمونى فى كتيبة أضرب وجوهكم بالسيف، فهبط جبرئيل فقال: قل انّ اللّه أو على فقال إنّ اللّه أو على.

و فيه عن الشيخ فى أماليه باسناده عن محمّد بن على عن جابر بن عبد اللّه الأنصارى قال: إنّى لأدناهم من رسول اللّه فى حجّة الوداع فقال: لاعرفنكم ترجعون بعدى كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض، و أيم اللّه لئن فعلتموها لتعرفونى فى الكتيبة التي تضاربكم، ثمّ التفت إلى خلفه فقال: أو عليّ أو عليّ أو عليّ ثلاثا، فرأينا أنّ جبرئيل غمزه فأنزل اللّه عزّ و جل «فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ- بعلىّ- أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ».

و مثل قوله سبحانه «وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى‏ فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِي‏ءَ إِلى‏ أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَ أَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ».

روى فى الصافى من الكافى و التهذيب و علىّ بن إبراهيم القمىّ عن الصادق عن‏أبيه عليهما السّلام فى حديث لما نزلت هذه الاية قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ منكم من يقاتل على التأويل كما قاتلت على التنزيل، فسئل من هو فقال صلّى اللّه عليه و آله: خاصف النعل يعنى أمير المؤمنين عليه السّلام، فقال عمار بن ياسر: قاتلت بهذه الرّاية مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثلاثا و هذه الرّابعة«» و اللّه لو ضربونا حتّى يبلغوا بنا السعفات من هجر لعلمنا أنا على الحقّ و أنّهم على الباطل و كانت السّيرة فيهم من أمير المؤمنين ما كان من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يوم فتح مكة، فانّه لم يسب منهم ذريّة و قال: من أغلق بابه فهو آمن، و من ألقى سلاحه فهو آمن، و من دخل دار أبى سفيان فهو آمن، و كذلك قال أمير المؤمنين عليه السّلام يوم البصرة نادى فيهم: لا تسبوا لهم ذريّة، و لا تجهزوا على جريح و لا تتبعوا مدبرا، و من أغلق بابه و ألقى سلاحه فهو آمن.

و فيه من الكافي عن الصادق عليه السّلام إنّما جاء تأويل هذه الاية يوم البصرة و هم أهل هذه الاية، و هم الذين بغوا على أمير المؤمنين عليه السّلام فكان الواجب عليهم قتلهم و قتالهم حتى يفيئوا إلى أمر اللّه، و لو لم يفيئوا لكان الواجب عليه عليه السّلام فيما انزل اللّه أن لا يرفع السيف عنهم حتّى يفيئوا و يرجعوا عن رأيهم، لأنّهم بايعوا طائعين غير كارهين، و هى الفئة الباغية كما قال اللّه عزّ و جل، فكان الواجب على أمير المؤمنين عليه السّلام أن يعدل فيهم حيث كان ظفر بهم كما عدل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فى أهل مكّة إنّما منّ عليهم و عفى، و كذلك صنع أمير المؤمنين عليه السّلام بأهل البصرة حيث ظفر بهم بمثل ما صنع النبىّ صلّى اللّه عليه و آله بأهل مكّة حذو النعل بالنعل.

و مثل قوله تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ».
قال في مجمع البيان في تفسير الاية قيل: هم أمير المؤمنين و أصحابه حين قاتل من قاتله من النّاكثين و القاسطين و المارقين، و روى ذلك عن عمار و حذيفة و ابن عبّاس، و هو المروىّ عن أبي جعفر عليه السّلام و أبي عبد اللّه عليه السّلام قال و روى عن عليّ عليه السّلام انّه قال يوم البصرة: و اللّه ما قوتل أهل هذه الاية حتّى اليوم.

و سيأتي لهذه الاية مزيد تحقيق و تفصيل بعد الفراغ من شرح هذا الفصل في أوّل التنبيهات الاتية.
و إمّا«» بما صدر عن لسان الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في ضمن الأخبار النّبويّة من الأوامر الانشائية و الجملات الخبريّة الّتي في معنى الانشاء، حسبما عرفتها في شرح الفصل الخامس من المختار الثالث، و شرح المختار المأة و الثامن و الأربعين، و شرح الفصل الثاني من المختار المأة و الخامس و الخمسين في التّنبيه الأوّل منه، و قد عرفت في التّنبيه الثاني منه و في شرح المختار الثالث و الثلاثين تحقيق الكلام في كفر البغاة و ساير أحكامهم، فليراجع إلى المواضع الّتي اشرنا إليها، فانّ مراجعتها يوجب مزيد البصيرة في المقام.

و تعرف بما أوردناه هنا و فيما تقدّم أنّ أهل البغى الّذين كان أمير المؤمنين عليه السّلام مأمورا بقتالهم هم الناكثون و القاسطون و المارقون كما أوضحه بقوله: (و النّكث و الفساد في الأرض) و فصّلهم بقوله (فأمّا النّاكثون) أى النّاقضون ما عقدوه من البيعة و هم أصحاب الجمل (فقد قاتلت) و قد مضى تفصيل قتالهم في شرح المختار الحادى عشر.
(و أمّا القاسطون) أى العادلون عن الحقّ و الدّين و هم أصحاب معاوية و صفّين (فقد جاهدت) و مضي تفصيل جهادهم في شرح المختار الخامس و الثلاثين و المختار الحادى و الخمسين و المختار الخامس و الستين.
(و أمّا المارقة) و هم خوارج النهروان الّذين مرقوا من الدّين أى جازوا منه مروق السّهم من الرمية حسبما عرفته في التذييل الأوّل من شرح المختار السّادس و الثلاثين (فقد دوّخت) أىّ ذلّلتهم و قهرتهم حسبما عرفته في التذييل الثاني منه (و أمّا شيطان الرّدهة فقد كفيته) أى كفانى اللّه من شرّه (بصعقة سمعت لها وجبة قلبه) و اضطرابه (و رجّة صدره) و زلزاله.

و قد اختلف الأقوال فى شيطان الرّدهة فقد قال قوم«» إنّ المراد به ذو الثّدية رئيس الخوارج و تسميته بالشّيطان لكونه ضالّا قائد ضلالة مثل شيطان الجنّ، و أمّا إضافته إلى الرّدهة فلما عرفته في التذييل الثاني من شرح المختار السادس و الثلاثين من أنّه بعد الفراغ من قتل الخوارج طلبه عليه السّلام فى القتلى فوجده بعد جدّ أكيد فى حفرة دالية فنسبه عليه السّلام إليها لذلك.

و أمّا الصعقة الّتي كفى عليه السّلام عنه بها فقد قيل: إنّ المراد بها الصّاعقة و هى صيحة العذاب لما روى أنّ عليّا لمّا قابل القوم صاح بهم فكان ذو الثّدية ممّن هرب من صيحته حتّى وجد قتيلا فى الحفرة المذكورة.
و قيل إنّه رماه اللّه بصاعقة من السماء فهلك بها و لم يقتل بالسيف، و قيل: إنّه لما ضربه عليه السّلام بالسيف غشى عليه فمات.

و قال قوم: إنّ شيطان الرّدهة أحد الأبالسة المردة من أولاد ابليس اللّعين قال الشارح المعتزلي: و رووا فى ذلك خبرا عن النّبى صلّى اللّه عليه و آله و أنّه كان يتعوّذ منه، و هذا مثل قوله صلّى اللّه عليه و آله هذا أزبّ العقبة اى شيطانها و لعل أزبّ العقبة هو شيطان الرّدهة بعينه فتارة يعبّر بهذا اللفظ و اخرى بذلك.
أقول: و الأظهر أن يكون المراد به شيطان الجنّ و يكون الاشارة بهذا الكلام إلى ما وقع منه عليه السّلام فى بئر ذات العلم.

فقد روى السيّد السّند السيّد هاشم البحرانى فى كتاب مدينة المعاجز عن ابن شهر آشوب، عن محمّد بن إسحاق، عن يحيى بن عبد اللّه بن الحارث عن أبيه، عن ابن عبّاس و عن أبي عمر و عثمان بن أحمد عن محمّد بن هارون باسناده عن ابن عباس فى خبر طويل أنّه أصاب النّاس عطش شديد فى الحديبيّة فقال النّبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هل من رجل يمضى مع السّقاة إلى بئر ذات العلم فيأتينا بالماء و أضمن له على اللّه الجنّة فذهب جماعة فيهم سلمة بن الأكوع فلمّا دنوا من الشّجر و البئر سمعواحسّا و حركة شديدة و قرع طبول و رأوا نيرانا تتقد بغير حطب فرجعوا خائفين «خ ل خائبين».
ثمّ قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: هل من رجل يمضى مع السّقاة يأتينا بالماء أضمن له على اللّه الجنّة فمضى رجل من بنى سليم و هو يرتجز و يقول:

أمن غريف«» ظاهر نحو السلم
ينكل من وجّهه خير الأمم‏

من قبل أن يبلغ آبار العلم‏
فيستقى و الليل مبسوط الظلم‏

و يأمن الذّم و توبيخ الكلم
و صاحب السيف لسيف منهدم‏

فلمّا وصلوا إلى الحسّ رجعوا وجلين.
فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله: هل من رجل يمضي مع السّقاة إلى البئر ذات العلم فيأتينا بالماء أضمن له على اللّه الجنّة فلم يقم أحد، و اشتدّ بالنّاس العطش و هم صيام.
ثمّ قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعليّ عليه السّلام: سر مع هؤلاء السقاة حتّى ترد بئر ذات العلم و تستقى و تعود إنشاء اللّه فخرج عليّ عليه السّلام قائلا:

أعوذ بالرّحمن أن أميلا
من غرف«» جنّ أظهروا تأويلا

و أوقدت نيرانها تغويلا
و قرعت مع غرفها الطبولا

قال فداخلنا «خ ل فتداخلنا» الرّعب فالتفت عليّ عليه السّلام إلينا و قال: اتّبعوا أثري و لا يفزعنّكم ما ترون و تسمعون فليس بضائركم إنشاء اللّه.
ثمّ مضى فلمّا دخلنا الشّجر فاذا بنيران تضطرم بغير حطب و أصوات هائلة و رءوس مقطّعة لها ضجّة و هو يقول: اتّبعوني و لا خوف عليكم و لا يلتفت أحد منكم يمينا و لا شمالا.

فلمّا جاوزنا الشّجر و وردنا الماء فأدلى البراء بن عازب دلوه في البئر فاستقى دلوا و دلوين ثمّ انقطع الدّلو فوقع فى القليب، و القليب ضيّق مظلم بعيد القعر، فسمعنا في أسفل القليب قهقهة و ضحكا شديدا.

فقال عليّ عليه السّلام: من يرجع الى عسكرنا فيأتينا بدلو و رشا«» فقال أصحابه عليه السّلام: من يستطيع ذلك، فائتزر بمئزر و نزل في القليب و ما تزداد القهقهة إلّا علوا و جعل عليه السّلام ينحدر في مراقي القليب إذ زلّت رجله فسقط فيه، ثمّ سمعنا وجبة شديدة و اضطرابا و غطيطا«» كغطيط المخلوق «المخنوق ظ» ثمّ نادى علىّ عليه الصلاة و السلام و التحيّة و الاكرام: اللّه أكبر اللّه أكبر أنا عبد اللّه و أخو رسول اللّه، هلمّوا قربكم فأفعمها و أصعدها على عنقه شيئا فشيئا و مضى بين أيدينا فلم نر شيئا فسمعنا صوتا.

أى فتى ليل أخي روعات
و أىّ سبّاق إلى الغايات‏

للّه درّ الغرر السادات‏
من هاشم الهامات و القامات‏

مثل رسول اللّه ذى الايات
أو كعليّ كاشف الكربات‏
كذا يكون المرء في حاجات‏

فارتجز أمير المؤمنين عليه السّلام

الليل هول يرهب المهيبا
و مذهل المشجّع اللبيبا

و انّني اهول منه ذيبا
و لست أخشي الرّدع و الخطوبا

إذا هززت الصّارم القضيبا
أبصرت منه عجبا عجيبا

و انتهى إلى النّبيّ و له زجل«» فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ما ذا رأيت في طريقك يا علي فأخبره بخبره كلّه فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنّ الّذي رأيته مثل ضربه اللّه لي و لمن حضر معي في وجهي هذا، قال عليّ عليه السّلام: اشرحه لي يا رسول اللّه.

فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أمّا الرّؤوس الّتي رأيتم لها ضجّة و لألسنتها لجلجة، فذلك مثل قومي معي يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم و لا يقبل اللّه منهم صرفا و لا عدلا و لا يقيم لهم يوم القيامة وزنا.
و أما النيران بغير حطب ففتنة تكون في أمتي بعدي القائم فيها و القاعد سواءلا يقبل اللّه لهم عملا و لا يقيم لهم يوم القيامة وزنا.

و أمّا الهاتف الّذى هتف بك فذلك سلقعة و هو سملقة «كذا» بن غداف الذى قتل عدوّ اللّه مسعرا شيطان الأصنام الّذى كان يكلّم قرين منها و يشرع في هجائي، هذا.
و قوله عليه السّلام (و بقيت بقيّة من أهل البغي) أراد به معاوية و أصحابه لأنه لم يكن أتى عليهم بأجمعهم، بل بقيت منهم بقيّة بمكيدة التحكيم حسبما عرفته في شرح المختار الخامس و الثلاثين.

(و) الذى فلق الحبّة و برء النسمة (لئن أذن اللّه في الكرّة عليهم) هذا بمنزلة التعليق بالمشيّة أى إنشاء اللّه سبحانه لي الرّجوع إليهم بأن يمدّ لى في العمر و يفسح في الأجل و يهيّأ أسباب الرّجوع (لاديلنّ منهم) أى ليكون الدّولة و الغلبة لي عليهم.

و الاتيان في جواب القسم باللّام و نون التوكيد لتأكيد تحقّق الإدالة و ثبوته لا محالة بعد حصول الاذن و المشيّة منه سبحانه، و ذلك بمقتضي وعده الصّادق و قوله الحقّ في كتابه العزيز «الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا».

و بعد هذا فلقائل أن يقول: إنّه عليه السّلام قد كان عالما بعدم اذن اللّه سبحانه في الكرّة عليهم و الادالة منهم، و ذلك لما كان يعلمه باخبار اللّه سبحانه و اخبار رسوله صلّى اللّه عليه و آله بأنّ بنى اميّة يملكون البلاد ألف شهر، و قد كان عليه السّلام نفسه أخبر بذلك حين شاع فى الكوفة خبر موت معاوية بقوله: كلّا أو تخضب هذه من هذه و يتلاعب بها ابن آكلة الأكباد، فى الرّواية الّتي تقدّمت فى شرح المختار السادس و الخمسين، و مع ذلك كلّه فما معنى قوله عليه السّلام: و لئن أذن اللّه فى الكرّة اه قلت: الاتيان بهذه الجملة الشرطية مع علمه عليه السّلام بعدم وقوع مضمونها لربط جاش المخاطبين و تقوية قلوبهم.

و نظيره ما رواه عنه عليه السّلام عليّ بن إبراهيم بسنده عن عدىّ بن حاتم و كان معه عليه السّلام فى مردبه «كذا» أن عليا قال ليلة الهرير بصفّين حين التقى مع معاوية رافعا صوته يسمع أصحابه: لأقتلنّ معاوية و أصحابه، ثمّ قال فى آخر قوله: إنشاء اللّه تعالى، يخفض بها صوته، و كنت قريبا منه فقلت: يا أمير المؤمنين إنّك حلفت‏على ما قلت ثمّ استثنيت فما أردت بذلك فقال عليه السّلام: إنّ الحرب خدعة و أنا عند أصحابى صدوق فأردت أن اطمع أصحابى كيلا يفسئوا «يفشلوا ظ» و لا يفرّوا، فافهم فانك تنتفع بهذه بعد اليوم انشاء اللّه، هذا.

و قوله عليه السّلام: (إلّا ما يتشذّر فى أطراف الأرض تشذّرا) كلمة ما هنا بمعنى من كما فى قوله: «وَ السَّماءِ وَ ما بَناها»، أى إلّا من يتفرّق فى أطرافها تفرّقا ممنّ لم يتمّ أجله ثمّ نبّه على نجدته و شجاعته بقوله: (أنا وضعت فى الصغر بكلاكل العرب) استعار لفظ الكلاكل للأكابر و الرؤساء من العرب و أشراف القبايل الّذين قتلهم في صدر الاسلام، و الجامع للاستعارة كونهم سبب قوّة العرب و مقدّميهم و بهم انتهاضهم إلى الحرب كما أنّ الكلكل للجمل كذلك سبب لنهوضه و قيامه و قوته و مقدم أجزائه.

و يجوز أن يكون من باب الاستعارة بالكناية، بأن يشبه العرب بجمال مستجلات ذوات الصدور و الكلاكل في القوّة، فيكون اثبات الكلاكل تخييلا، و الوضع ترشيحا.
و على أيّ تقدير فأشار عليه السّلام بوضعه لهم إلى قهرهم و إذلالهم كما أنّ إناخة الجمل يستلزم قهره و إذلاله قال الشاعر:

مراجيح ما تنفكّ إلّا مناخة
على الحتف أو ترمى بها بلدا قفرا

و إن شئت أن تعرف أنموذجا من قتله و قتاله و إذلاله للكلاكل و الشجعان فاستمع لما وقع منه عليه السّلام في أوّل غزاة كانت في الاسلام و هي غزوة بدر، و قد كانت تلك الغزوة على رأس ثمانية عشر شهرا من الهجرة كما في كشف الغمة و كان عمره عليه السّلام إذ ذاك سبعة و عشرين سنة.

قال المفيد في الارشاد: و أما الجهاد الّذى ثبتت به قواعد الاسلام، و استقرّت بثبوته شرايع الملّة و الأحكام، فقد تخصّص منه أمير المؤمنين عليه السّلام بما اشتهر ذكره في الأنام، و استفاض الخبر به بين الخاصّ و العامّ، و لم يختلف فيه العلماء، و لا تنازع في صحته الفهماء، و لا شكّ فيه إلّا غفل لم يتأمّل في الأخبار، و لا دفعه أحد ممّن نظر في الاثار إلّا معاند بهّات لا يستحيي من العار.

فمن ذلك ما كان منه عليه السّلام في غزاة البدر المذكورة في القرآن، و هي أوّل حرب كان به الامتحان، و ملأت رهبة صدور المعدودين من المسلمين في الشجعان، و راموا التأخر عنها لخوفهم منها و كراهتهم لها على ما جاء به محكم الذّكر فى التبيان.

و كان من جملة خبر هذه الغزاة إنّ المشركين حضروا بدرا مصرّين على القتال، مستظهرين فيه بكثرة الأموال، و العدد و العدّة و الرّجال، و المسلمون إذ ذاك نفر قليل عدد هناك، و حضرته طوايف منهم بغير اختيار، و شهدته على الكراهة منها له و الاضطرار.

فتحدّتهم قريش بالبراز و دعتهم إلى المصافة و النزال و اقترحت«» في اللقاء منهم الأكفاء، و تطاولت الأنصار لمبارزتهم فمنعهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من ذلك فقال لهم: إنّ القوم دعوا الأكفاء.
ثمّ أمر عليّا أمير المؤمنين بالبروز إليهم، و دعا حمزة بن عبد المطلب و عبيدة ابن الحارث رضوان اللّه عليهما أن يبرزا معه، فلمّا اصطفوا لهم لم يثبتهم«» القوم لأنهم كانوا قد تغفّروا فسألوهم من أنتم، فانتسبوا لهم، فقالوا: أكفاء كرام، و نشبت الحرب بينهم.

و بارز الوليد أمير المؤمنين عليه السّلام فلم يلبثه حتّى قتله، و بارز عقبة حمزة رضي اللّه عنه فقتله حمزة، و بارز شيبة عبيدة رحمه اللّه فاختلفت بينهما ضربة قطعت إحداهما فخذ عبيدة، فاستنقذه أمير المؤمنين عليه السّلام بضربة بدر بها شيبة فقتله، و شركه فى ذلك حمزة.
فكان قتل هؤلاء الثلاثة أوّل وهن لحق المشركين، و ذلّ دخل عليهم، و رهبة اعتراهم بها الرّعب من المسلمين، و ظهر بذلك امارات نصر المسلمين.

ثمّ بارز أمير المؤمنين العاص بن سعيد بن العاص بعد أن أحجم عنه من سواءفلم يلبثه أن قتله، و برز إليه حنظلة بن أبي سفيان فقتله، و برز إليه طعيمة بن عدى فقتله، و قتل بعده نوفل بن خويلد و كان من شياطين قريش.

و لم يزل عليه السّلام يقتل واحدا منهم بعد واحد حتّى أتى على شطر المقتولين منهم، و كانوا سبعين رجلا تولّى كافّة من حضر بدرا من المسلمين مع ثلاثة آلاف من الملائكة المسوّمين قتل الشطر منهم، و تولّى أمير المؤمنين عليه السّلام قتل الشطر الاخر وحده بمعونة اللّه له و تأييده و توفيقه و نصره و كان الفتح له بذلك على يديه.

و ختم الأمر بمناولة النّبي صلّى اللّه عليه و آله كفّا من الحصى فرمي بها في وجوههم و قال لهم: شاهت الوجوه، فلم يبق أحد منهم إلّا ولّى الدّبر بذلك منهزما، و كفى اللّه المؤمنين القتال بأمير المؤمنين عليه السّلام و شركائه في نصرة الدّين من خاصّة الرّسول عليه و آله السلام و من أيّدهم به من الملائكة الكرام.

قال المفيد: و قد أثبتت رواة العامة و الخاصّة معا أسماء الّذين تولّى أمير المؤمنين عليه السّلام قتلهم ببدر من المشركين على اتّفاق فيما نقلوه من ذلك و اصطلاح فكان ممّن سمّوه: الوليد بن عتبة كما قدّمناه و كان شجاعا جرئيا و قاحا فاتكاتها به الرّجال، و العاص بن سعيد و كان هولا عظيما تها به الأبطال، و هو الّذى حاد عنه عمر بن الخطّاب، و طعيمة بن عدىّ بن نوفل و كان من رءوس أهل الضلال، و نوفل ابن خويلد و كان من أشدّ المشركين عداوة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كانت قريش تقدّمه و تعظّمه و تطيعه و هو الّذى قرن أبا بكر و طلحة قبل الهجرة بمكة و أوثقهما بحبل و عذّبهما يوما إلى الليل حتّى سئل في أمرهما و لمّا عرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حضوره بدرا سأل اللّه أن يكفيه أمره فقال: اللّهمّ اكفني نوفل بن خويلد، فقتله أمير المؤمنين عليه السّلام.

و زمعة بن الأسود، و عقيل بن الأسود، و الحارث بن زمعة، و النضر بن الحارث ابن عبد الدّار، و عمير بن عثمان بن كعب بن تيم عمّ طلحة بن عبيد اللّه، و عثمان، و مالك ابنا عبيد اللّه أخوا طلحة بن عبيد اللّه، و مسعود بن أبي اميّة بن المغيرة، و قيس بن الفاكهة ابن المغيرة، و حذيفة بن أبى حذيفة بن المغيرة، و أبو قيس بن الوليد بن المغيرة،و حنظلة بن أبي سفيان، و عمرو بن مخذوم، و أبو المنذر بن أبي رفاعة، و منية بن الحجاج السّهمي، و العاص بن منية، و علقمة بن كلدة، و أبو العاص بن قيس بن عدى، و معاوية ابن المغيرة بن أبي العاص، و لوذان بن ربيعة، و عبد اللّه بن المنذر بن أبي رفاعة، و مسعود بن اميّة بن المغيرة، و حاجب بن السائب بن عويمر، و اوس بن المغيرة بن لوذان، و زيد بن مليص، و عاصم بن أبي عوف، و سعيد بن وهب حليف بنى عامر، و معاوية ابن عبد القيس، و عبد اللّه بن جميل بن زهير بن الحارث بن أسد، و السّائب بن مالك، و أبو الحكم بن الأخنس، و هشام بن أبي اميّة بن المغيرة.
فذلك ستة و ثلاثون رجلا سوى من اختلف فيه أو شرك أمير المؤمنين عليه السّلام فيه غيره، و هم أكثر من شطر المقتولين ببدر على ما قدّمناه.

قال المفيد: و فيما صنعه أمير المؤمنين عليه السّلام ببدر قال اسيد ين اياس يحرض مشركى قريش عليه:

فى كلّ مجمع غاية أخزاكم
جذع أبرّ على المذاكى القرّح‏

للّه درّكم المّا تنكروا
قد ينكر الحرّ الكريم و يستحى‏

هذا ابن فاطمة الذى أفناكم
ذبحا و قتلا قعصة لم يذبح‏

اعطوه خرجا و اتّقوا تضريبه‏
فعل الذّليل و بيعة لم تربح‏

أين الكهول و أين كلّ دعامة
فى المعضلات و اين زين الأبطح‏

(و كسرت نواجم قرون ربيعة و مضر) و الاستعارة في هذه القرينة مثل الّتي في سابقتها، فتحتمل الاستعارة التحقيقية بأن يراد تشبيه رؤساء القبيلتين و انجادهم بقرون الحيوان، لأنّهم أسباب القوّة و الصّولة و المحاربة للقبيلتين كما أنّ القرن آلة الحرب و النطح و الصّيال للكبش.

و تحتمل الاستعارة المكنيّة بأن يراد تشبيه القبيلتين بالأكبش ذوات القرون في الصّولة و القوّة، فيكون اثبات القرن تخييلا، و الكسر و النّواجم ترشيحا، و المراد بكسره عليه السّلام نواجم قرونهم قهرهم، و اذلالهم، لأنّ الكبش اذا انتطح بكبش آخر فانكسر قرنه يغلب و يهرب.

و قد قتل عليه السّلام من ربيعة و مضر فى مجاهداته بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بعده في الجمل و صفّين جما غفيرا يكاد أن يكون أغزر من قطر المطر و أكثر من عدد النجم و الشّجر، و لنعم ما قال كاشف الغمّة:

سل عن عليّ مقامات عرفن به
شدّت عرى الدّين في حلّ و مرتحل‏

بدرا واحدا و سل عنه هوازن‏
في أوطاس و اسأل به في وقعة الجمل‏

و اسأل به إذ أتي الأحزاب يقدمهم
عمرو و صفّين سل أن كنت لم تسل‏

أفناهم قعصا و ضربا يعترى‏
بالسيف يعمل حدّه لم يصفح‏

ثمّ ذكر المخاطبين بمناقبه الجميلة و مفاخره الجليلة، و عدّ منها تسعا الاولى- ما أشار اليه بقوله (و قد علمتم موضعى من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالقرابة القريبة) لأنّ أبويهما عبد اللّه و أبا طالب أخوان لأب و أمّ، دون غيرهما من بني عبد المطلب فهما ابنا عمّ مضافا إلى علاقة المصاهرة و كونه عليه السّلام زوج ابنته فاطمة سلام اللّه عليها.

و الى هذه القرابة اشيرت في قوله سبحانه «وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ».
روى في غاية المرام عن المالكي في فصول المهمّة عن محمّد بن سيرين في هذه الاية أنّها نزلت في النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و عليّ بن أبي طالب ابن عمّ رسول اللّه و زوج ابنته فاطمة فكان نسبا و صهرا.
و فيه عن الشيخ فى أماليه بسنده عن انس بن مالك قال: ركب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله‏

ذات يوم بغلته فانطلق الى جبل آل فلان و قال: يا أنس خذ البغلة و انطلق إلى موضع كذا و كذا تجد عليّا جالس يسبّح بالحصى، فاقرءه منى السلام و احمله على البغلة و ايت به إلىّ.
قال أنس: فذهبت فوجدت عليّا كما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فأتيت به عليه، فلمّا أن نظر عليه السّلام برسول اللّه قال: السلام عليك يا رسول اللّه، قال: و عليك السلام يا أبا الحسن اجلس، فانّ هذا موضع قد جلس فيه سبعون نبيّا مرسلا ما جلس فيه أحد من الأنبياء إلّا و أنا خير منه، و قد جلس كلّ نبيّ أخ له ما جلس فيه من الاخوة واحد إلّا و أنت خير منه.

قال أنس: فنظرت إلى سحابة قد أظلّتهما و دنت من رؤوسيهما، فمدّ النّبى صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يده إلى السحابة فتناول عنقود عنب فجعله بينه و بين عليّ و قال: كل يا أخي.
قلت: يا رسول اللّه: صف كيف عليّ أخوك قال: إنّ اللّه عزّ و جلّ خلق ماء تحت العرش قبل أن يخلق آدم بثلاثة آلاف عام، و اسكنه في لؤلؤة خضراء فى غامض علمه إلى أن خلق آدم، فلمّا خلق آدم نقل ذلك الماء من اللؤلؤة فأجراه فى صلب آدم إلى أن قبضه اللّه، ثمّ نقله فى صلب شيث فلم يزل ذلك الماء ينتقل من ظهر إلى ظهر حتّى صار فى عبد المطّلب، ثمّ شقّه اللّه عزّ و جلّ نصفين نصف فى أبى عبد اللّه بن عبد المطّلب و نصف فى أبي طالب فأنا من نصف الماء و علىّ من النصف الاخر، فعليّ أخي في الدّنيا و الاخرة، ثمّ قرء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ صِهْراً وَ كانَ رَبُّكَ قَدِيراً».

و فى كشف الغمة عن جابر بن عبد اللّه قال: سمعت عليّا ينشد و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يسمع:

أنا أخو المصطفى لا شكّ في نسبي
معه ربّيت و سبطاه هما ولدي‏

جدّي و جدّ رسول اللّه منفرد
و فاطم زوجتى لا قول ذي فند

فالحمد للّه شكرا لا شريك له
البرّ بالعبد و الباقى بلا أمد

قال فتبسّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قال: صدقت يا عليّ الثانية- ما أشار إليه بقوله (و المنزلة الخصيصة) أي الخاصة و المخصوصة بي‏و شرحها بقوله (وضعني في حجره) و ربّاني (و أنا وليد) طفل صغير (يضمّني إلى صدره و يكنفني) أي يضمّنى إلى كنفه و حضنه (في فراشه و يمسّني جسده و يشمّني عرفه) أى ريحه الطيّب (و كان يمضغ الشي‏ء ثمّ يلقمنيه) و هذا كلّه إشارة إلى شدّة تربيته صلّى اللّه عليه و آله له و قيامه بأمره و يوضحه ما رواه الشارح المعتزلي عن الطّبرى فى تاريخه قال: حدّثنا ابن حميد قال حدّثنا سلمة قال حدّثني محمّد بن إسحاق قال حدّثنى عبد اللّه بن نجيح عن مجاهد قال: كان من نعمة اللّه عزّ و جلّ على عليّ بن أبي طالب و ما صنع اللّه له و أراد به من الخير أنّ قريشا أصابتهم أزمة«» شديدة و كان أبو طالب ذا عيال كثير فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم للعبّاس و كان من أيسر بني هاشم: إنّ أخاك أبا طالب كثير العيال و قد ترى ما أصاب النّاس من هذه الأزمة فانطلق بنا فنخفّف عنه من عياله آخذ من بنيه واحدا و تأخذ واحدا فنكفيهما عنه، فقال العبّاس: نعم، فانطلقا حتّى أتيا أبا طالب فقالا له: إنّا نريد أن نخفّف عنك من عيالك حتّى ينكشف عن الناس ما هم فيه، فقال لهما: إن تركتما لي عقيلا فاصنعا ما شئتما، فأخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليا فضمّه إليه، و أخذ العبّاس جعفرا فضمّه إليه، فلم يزل عليّ بن أبي طالب مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتّى بعثه اللّه نبيّا، فاتبعه عليّ عليه السّلام فأقرّ به و صدّقه، و لم يزل جعفر عند العبّاس حتّى أسلم و استغنى عنه.

و رواه كاشف الغمّة عن الخطيب الخوارزمي عن محمّد بن إسحاق نحوه.
و روى الشّارح المعتزلي عن الفضل بن عباس قال: سألت أبي عن ولد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الذّكور أيّهم كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أشدّ حبّا، فقال: عليّ بن أبي طالب، فقلت: سألت لك عن بنيه، فقال: إنّه كان أحبّ إليه من بنيه جميعا و أرءف ما رأيناه زايلة يوما من الدّهر منذ كان طفلا إلّا أن يكون في سفر لخديجة و ما رأينا أبا أبرّ بابن منه لعليّ و لا ابنا أطوع لأب من عليّ له قال الشّارح: و روى جبير بن مطعم قال: قال أبي مطعم بن عدي لنا و نحن‏صبيان بمكّة: ألا ترون حبّ هذا الغلام يعني عليّا لمحمّد و اتّباعه له دون أبيه و اللّات و العزّى لوددت أنّه ابني بفتيان بني نوفل جميعا.

قال الشّارح: و روى الحسين بن زيد بن عليّ بن الحسين عليه السّلام قال: سمعت زيدا أبي يقول: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يمضغ اللّحمة و التمرة حتّى تلين و يجعلهما في فم عليّ و هو صغير في حجره.
الثالثة- ما أشار إليه بقوله (و ما و جد لي كذبة في قول و لا خطلة في فعل) أى لم تجد منّى كذبا و خطاء أبدا و لو مرّة واحدة، لوجود العصمة المانعة فيه و في زوجته و الطيّبين من أولاده سلام اللّه عليهم أجمعين من الاقدام على الذّنوب صغيرها و كبيرها باتّفاق الاماميّة و حكم آية التّطهير و غيرها، فلا يقع منهم ذنب أصلالا عمدا و لا نسيانا و لا خطاء.

روى في البحار من الخصال قال: قوله تعالى «وَ إِذِ ابْتَلى‏ إِبْراهِيمَ» عنى به أنّ الامامة لا تصلح لمن قد عبد صنما أو وثنا أو أشرك باللّه طرفة عين و إن أسلم بعد ذلك، و الظلم وضع الشي‏ء في غير موضعه و أعظم الظلم الشّرك قال اللّه عزّ و جلّ «وَ إِذْ قالَ لُقْمانُ» و كذلك لا تصلح لمن قد ارتكب من المحارم شيئا صغيرا كان أو كبيرا و إن تاب منه بعد ذلك، و كذلك لا يقيم الحدّ من في جانبه حدّ.

فاذا لا يكون الامام إلّا معصوما، و لا تعلم عصمته إلّا بنصّ اللّه عزّ و جلّ عليه على لسان نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، لأنّ العصمة ليست فى ظاهر الخلقة فترى كالسّواد و البياض و ما أشبه ذلك و هى مغيبة لا تعرف إلّا بتعريف علّام الغيوب.

و قد مضى وجوب عصمة الامام بتقرير آخر في مقدّمات الخطبة الثالثة المعروفة بالشّقشقيّة.
ثمّ نبّه على منقبة عظيمة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لتكون تمهيدا و توطئة لمنقبته عليه السّلام الرابعة فقال: (و لقد قرن اللّه به صلّى اللّه عليه و آله من لدن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته يسلك به‏طريق المكارم و محاسن أخلاق العالم ليله و نهاره).

قال الشّارح المعتزلي: روى انّ بعض أصحاب أبي جعفر محمّد بن عليّ الباقر عليهما السّلام سأله عن قول اللّه عزّ و جلّ «إِلَّا مَنِ ارْتَضى‏ مِنْ رَسُولٍ، فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً» فقال عليه السّلام يوكّل اللّه بأنبيائه ملائكة يحصون أعمالهم و يؤدّون إليه تبليغهم الرسالة، و وكّل بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ملكا عظيما منذ فصل عن الرّضا (ع) يرشده إلى الخيرات و مكارم الأخلاق و يسدّه عن الشرّ و مساوى الأخلاق، و هو الذي كان يناديه السّلام عليك يا محمّد يا رسول اللّه و هو شابّ لم يبلغ درجة الرّسالة بعد فيظنّ أنّ ذلك من الحجر و الأرض فيتأمّل فلا يرى شيئا.

أقول: و الظّاهر على ما يستفاد من الأخبار و اشير إليه في غير واحدة من الايات: إنّ المراد بهذا الملك هو روح القدس المخصوص بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و عترته الأطهار الأخيار.
فقد روى المحدّث العلّامة المجلسي «ره» فى البحار من تفسير عليّ بن إبراهيم في قوله «وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي» حدّثنى أبي عن ابن أبي عمير عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: هو ملك أعظم من جبرئيل و ميكائيل كان مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو مع الأئمة، و فى خبر آخر هو من الملكوت.
و فيه منه فى قوله تعالى «لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ» هم الأئمة «وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ» قال: ملك أعظم من جبرئيل و ميكائيل و كان مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو مع الأئمة عليهم السّلام.

و فيه من كتاب الاختصاص و بصائر الدّرجات بسندهما عن أبى بصير قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قول اللّه تبارك و تعالى «وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ لَا الْإِيمانُ» قال: خلق من خلق اللّه أعظم من جبرئيل و ميكائيل، كان مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يخبره و يسدّده و هو مع الأئمة من بعده.
و فيه من البصاير مسندا عن سماعة بن مهران قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: إنّ الرّوح خلق أعظم من جبرئيل و ميكائيل كان مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم‏يسدّده و يرشده و هو مع الأوصياء من بعده و فيه من البصاير عن البرقى عن أبى الجهم عن ابن اسباط قال: سأل أبا عبد اللّه عليه السّلام رجل و أنا حاضر عن قول اللّه «وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا» فقال: منذ أنزل اللّه ذلك الرّوح على محمّد صلّى اللّه عليه و آله لم يصعد إلى السماء و أنه لفينا.

و فيه من الاختصاص و البصاير عن ابن يزيد عن ابن أبى عمير عن هشام بن سالم قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول «وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ» قال: خلق أعظم من خلق جبرئيل و ميكائيل لم يكن مع أحد ممّن مضى غير محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو مع الأئمّة يوفقهم و يسدّدهم، و ليس كلّما طلب وجد.
و الأخبار فى هذا المعنى كثيرة و لا حاجة إلى الاكثار و الاطالة، و المستفاد من الرّواية الأخيرة اختصاصه بالنبيّ و الأئمة عليهم السّلام و قوله عليه السّلام فيها: و ليس كلّما طلب وجد معناه أنّ حصول تلك المرتبة الجليلة و المنقبة العظيمة لا يتيسّر بالطلب بل ذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء.

الرابعة- ما أشار إليه بقوله (و لقد كنت اتّبعه اتّباع الفصيل) و هو ولد الناقة (أثر امّه) و هو اشارة إلى فرط ملازمته له و عدم مفارقته إيّاه ليله و نهاره سفرا و حضرا في خلواته و جلواته.
و لمّا عرفت آنفا أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان مؤيّدا مسدّدا بروح القدس من حين الطفولية إلى آخر عمره الشريف ملهما إلى الخيرات موفقا بتأييد الرّوح إلى سلوك طريق المكارم و محاسن أخلاق العالم.

تعرف من ذلك أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام إذا كان ملازما له غير مفارق منه يكون تاليا له صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في سلوك مسالك مكارم الخصال و محامد الأفعال مقتبسا من أنواره مقتفيا لاثاره كما أوضحه بقوله: (يرفع لى فى كلّ يوم علما) وراية (من أخلاقه) الفاضلة (و يأمرنى بالاقتداء به) و المتابعة له.

الخامسة- ما أشار إليه بقوله (و لقد كان يجاور فى كلّ سنة بحراء) و يعتزل عن الخلق و يتخلّى للعبادة (فأراه و لا يراه) أحد (غيرى) قال الشارح المعتزلي: حديث مجاورته بحراء مشهور، قد ورد فى الكتب الصحاح أنه صلّى اللّه عليه و آله كان يجاور فى حراء من كلّ سنة شهرا، و كان يطعم فى ذلك الشهر من جاءه من المساكين، فاذا قضى جواره من حراء كان أوّل ما يبدء به إذا انصرف أن يأتي باب الكعبة قبل أن يدخل بيته فيطوف بها سبعا أو ما شاء اللّه من ذلك ثمّ يرجع إلى بيته حتى جاءت السنة التي أكرمه اللّه فيها بالرّسالة، فجاور فى حراء شهر رمضان و معه أهله خديجة و عليّ بن أبي طالب و خادم لهم، فجاءه جبرئيل بالرّسالة قال صلّى اللّه عليه و آله: جائنى و أنا نائم بنمط فيه كتاب فقال: اقرء، قلت: ما أقرء فغشني حتّى ظننت أنّه الموت، ثمّ أرسلني فقال «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ «إلى قوله» عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ»، فقرأته ثمّ انصرف عنّى، فنبّهت من نومي و كأنّما كتب فى قلبي كتاب الحديث و في كتاب حيوة القلوب للمحدّث العلّامة المجلسيّ عن عليّ بن إبراهيم و ابن شهر آشوب و الطبرسي و الرّاوندي و غيرهم من المحدّثين و المفسّرين أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان قبل مبعثه يعتزل عن قومه و يجاور الحراء و يفرغ لعبادة ربّه سبحانه، و كان عزّ و جلّ يسدّده و يهديه و يرشده بالرّوح القدس و الرؤيا الصّادقة و أصوات الملائكة و الالهامات الغيبية، فيدرج في مدارج المحبّة و المعرفة، و يعرج إلى معارج القرب و الزّلفي، و كان سبحانه يزيّنه بالفضل و العلم و محامد الأخلاق و محاسن الخصال و لا يراه أحد في أيّام مجاورته به و خلال تلك الأحوال غير أمير المؤمنين عليه السّلام و خديجة.

السادسة- ما أشار إليه بقوله (و لم يجمع بيت واحد يومئذ في الاسلام غير رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و خديجة و أنا ثالثهما) هذا الكلام صريح في سبقه على جميع من سواه من الرّجال بالاسلام، و نظيره قوله في المختار المأة و الأحد و الثلاثين: اللّهم إنّي أوّل من أناب و سمع و أجاب‏لم يسبقني إلّا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالصّلاة.
و قد تقدّم في شرح المختار المذكور تحقيق تقدّمه بالصّلاة و الاسلام كما هو مذهب الامامية تفصيلا و أبطلنا تقدّم اسلام أبي بكر عليه كما ذهب إليه شرذمة من العثمانيّة و أوردنا ثمّة من الأدلّة و الأخبار و الأشعار في هذا المعنى ما لا مزيد عليه و أقتصر هنا على روايتين تقدّمتا هناك اجمالا و نرويهما هنا تفصيلا.

احداهما عن كاشف الغمّة عن عفيف الكندي قال: كنت امرأ تاجرا فقدمت الحجّ فأتيت العبّاس بن عبد المطلب لأبتاع منه بعض التّجارة، و كان امرأ تاجرا فو اللّه إنى لعنده بمنى إذ خرج رجل من خباء قريب منه، فنظر إلى الشمس فلمّا رآها قد مالت قام يصلّى.

قال: ثمّ خرجت امرأة من الخباء الّذى خرج منه ذلك الرّجل فقامت خلفه فصلّت، ثمّ خرج غلام حين راهق الحلم من ذلك الخباء فقام معه فصلّى.
قال: فقلت للعباس: من هذا يا عبّاس قال: هذا محمّد بن عبد اللّه بن عبد المطّلب ابن أخي قال: فقلت: من هذه المرأة قال: امرأته خديجة بنت خويلد قال: فقلت: من هذا الفتي قال: عليّ بن أبي طالب ابن عمّه فقلت له: ما هذا الذى يصنع قال: يصلّي و هو يزعم أنّه نبيّ و لم يتبعه على أمره إلّا امرأته و ابن عمّه هذا الفتي و هو يزعم أنّه سيفتح عليه كنوز كسرى و قيصر، و كان عفيف و هو ابن عمّ الأشعث بن قيس يقول بعد ذلك و هو أسلم و حسن إسلامه: لو كان رزقني اللّه الاسلام يومئذ فأكون ثانيا مع عليّ عليه السّلام.

قال كاشف الغمة: و قد رواه بطوله أحمد بن حنبل فى مسنده، نقلته من الّذى اختاره و جمعه عزّ الدّين المحدّث، و تمامه من الخصائص بعد قوله ثمّ استقبل الرّكن و رفع يديه فكبّر، و قام الغلام و رفع يديه و كبّر، و رفعت المرأة يديها فكبّرت و ركع و ركعا و سجد و سجدا و قنت و قنتا، فرأينا شيئا لم نعرفه أو شيئا حدث بمكّة فأنكرنا ذلك و أقبلنا على العبّاس فقلنا له يا أبا الفضل الحديث بتمامه.

و الرواية الثانية قدّمناها هناك من البحار من مناقب ابن شهر آشوب من‏كتاب محمّد بن إسحاق و أرويها هنا بتفصيل من شرح المعتزلي رواها هنا عن الطّبرى عن ابن حميد عن سلمة عن محمّد بن إسحاق، و رواها أيضا في تاسع المختار من باب الكتب من كتاب السّيرة و المغازى لمحمّد بن إسحاق قال الشارح المعتزلي: فانّه كتاب معتمد عند أصحاب الحديث و المؤرّخين، و مصنّفه شيخ النّاس كلّهم قال: قال محمّد بن إسحاق: لم يسبق عليّا عليه السّلام إلى الايمان باللّه و رسالة محمّد أحد من النّاس، اللّهمّ إلّا أن تكون خديجة زوجة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

قال: و قد كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يخرج و معه عليّ عليه السّلام مستخفيا من النّاس فيصلّيان الصّلاة في بعض شعاب مكة، فاذا أمسيا رجعا فمكثا بذلك ما شاء اللّه أن يمكثا لا ثالث لهما.
ثمّ إنّ أبا طالب عثر عليهما يوما و هما يصلّيان فقال لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يا ابن أخي ما هذا الّذى تفعله فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أى عمّ هذا دين اللّه و دين ملائكته و رسله و دين أنبيائه أو كما قال صلّى اللّه عليه و آله بعثنى اللّه به رسولا إلى العباد «إلى أن قال» فزعموا أنّه قال: لعليّ عليه السّلام أى بنيّ ما هذا الّذى تصنع قال: يا أبتاه آمنت باللّه و رسوله و صدقته فيما جاء به و صليت إليه و اتّبعت قول نبيّه فزعموا أنّه قال له أما انّه لا يدعوك أو لن يدعوك إلّا إلى خير فالزمه.

قال ابن إسحاق: ثمّ أسلم زيد بن حارثة مولى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فكان أوّل من أسلم و صلّى معه صلّى اللّه عليه و آله بعد عليّ بن أبي طالب، ثمّ أسلم أبو بكر بن أبي قحافة فكان ثالثا لهما، ثمّ اسلم عثمان بن عفّان و طلحة و الزّبير و عبد الرّحمن و سعد بن أبى وقّاص فصاروا ثمانية، فهم الثّمانية الّذين سبقوا النّاس إلى الاسلام بمكّة.

السابعة- ما أشار إليه بقوله (أرى نور الوحى و الرّسالة و أشمّ ريح النّبوة) قال الشارح البحرانى و هذه أعلى مراتب الأولياء، و استعار لفظ النور لما يشاهده بعين بصيرته من أسرار الوحي و الرّسالة و علوم التنزيل و دقايق التّأويل و اشراقها على لوح نفسه القدسيّة، و وجه الاستعارة كون هذه العلوم و الأسرار هادية في سبيل اللّه إليه من ظلمات الجهل كما يهدى النور من الطّرق المحسوسة، و رشح‏تلك الاستعارة بذكر الرؤية لأنّ النور حظّ البصر و كذلك استعار لفظ الرّيح لما أدركه من مقام النّبوة و أسرارها و رشح بذكر الشمّ لأنّ الرّيح حظّ القوّة الشامة، انتهى.

أقول: و لقائل أن يقول: لا مانع من ظهور نور محسوس عند نزول الوحي أو في ساير الأوقات أيضا، و كذلك عرف طيب يدركه أمير المؤمنين عليه السّلام بقوّة قوّتيه الباصرة و الشّامّة و إن لم يكن يحسّ به غيره و لا حاجة على ذلك إلى التّأويل الّذى ذكره.

و يشهد بما ذكرته ما رواه فى البحار من أمالى الشيخ عن المفيد عن علىّ بن محمّد البزّاز عن زكريا بن يحيى الكشحى عن أبى هاشم الجعفرى قال: سمعت الرّضا عليه السّلام يقول: لنا أعين لا تشبه أعين النّاس، و فيها نور ليس للشّيطان لها نصيب.

و فى شرح المعتزلي روى عن جعفر بن محمّد الصادق عليهما السّلام قال: كان عليّ عليه السّلام يرى مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قبل الرّسالة الضوء و يسمع الصّوت، و قال صلّى اللّه عليه و آله لو لا أنّى خاتم الأنبياء لكنت شريكا فى النّبوة فان لا تكن نبيّا فانك وصيّ نبيّ و وارثه بل أنت سيّد الأوصياء.

الثامنة- ما أشار إليه بقوله (و لقد سمعت رنّة الشيطان حين نزل الوحي عليه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقلت يا رسول اللّه ما هذه الرّنة) و الصّوت (فقال هذا الشّيطان قد أيس من عبادته) أى من أن يعبد له.
و هذه المنقبة له عليه السّلام تدلّ على كمال قوّته السامعة أيضا و سماعه ما لا يسمعه غيره.
و أما رنين هذا اللّعين فقد روى عليّ بن إبراهيم القميّ عن أبيه عن الحسن ابن عليّ بن فضال عن علىّ بن عقبة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إنّ إبليس رنّ رنينا لما بعث اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على حين فترة من الرّسل و حين انزلت أمّ الكتاب.

و روى المحدّث العلّامة المجلسيّ في كتاب حيوة القلوب عن الصّدوق عن الصّادق عليه السّلام أنّ ابليس رنّ أربع رنّات: يوم لعن، و يوم اهبط إلى الأرض، و حين بعث محمّد على حين فترة من الرّسل، و حين نزلت امّ الكتاب.

و فى شرح المعتزلي من مسند أحمد بن حنبل عن عليّ بن أبي طالب عليه السّلام قال: كنت مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم صبيحة الليلة الّتى اسرى به فيها و هو بالحجرة يصلّي فلمّا قضى صلاته و قضيت صلاتى سمعت رنّة شديدة فقلت: يا رسول اللّه ما هذه الرنّة: قال: ألا تعلم هذه رنّة الشيطان علم أنّي اسرى فى الليلة إلى السماء فايس من أن يعبد فى هذه الأرض.

التاسعة- ما أشار إليه بقوله (إنّك تسمع ما أسمع و ترى ما أرى) ظاهر هذا الكلام يفيد أنّ الامام يسمع صوت الملك و يعاينه كالرّسول.
أمّا سماع الصوت فلا غبار عليه و يشهد به أخبار كثيرة.
و أمّا المعاينة فيدلّ عليه بعض الأخبار.
مثل ما فى البحار من أمالى الشيخ باسناده عن أبى حمزة قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: إنّ منّا لمن ينكت فى قلبه و إنّ منّا لمن يؤتي في منامه و إنّ منّا لمن يسمع الصّوت مثل صوت السلسلة فى الطّشت و أنّ منّا لمن يأتيه صورة أعظم من جبرئيل و ميكائيل و قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: منّا من ينكت في قلبه، و منّا من يخاطب، و قال عليه السّلام: إنّ منّا لمن يعاين معاينة و إنّ منّا لمن ينقر في قلبه كيت و كيت، و إنّ منّا لمن يسمع كوقع السّلسلة في الطشت، قال: قلت: و الّذى يعاينون ما هو قال: خلق أعظم من جبرئيل و ميكائيل.

و لكن الظاهر من الأخبار الكثيرة أنّ الامام يسمع الصّوت و لا يعاين، و من ذلك اضطرّ المحدّث العلّامة المجلسي «ره» بعد رواية هذه الرّواية إلى تأويلها بقوله: و المراد بالمعاينة معاينة روح القدس و هو ليس من الملائكة مع أنّه يحتمل أن يكون المعاينة في غير وقت المخاطبة، انتهى.

و تمام الكلام إنشاء اللّه فى التّنبيه الثاني من التنبيهات الاتية، هذا.
و لما كان ظاهر قوله صلّى اللّه عليه و آله انّك تسمع ما أسمع و ترى ما أرى موهما للسماوات بينه عليه السّلام و بينه صلّى اللّه عليه و آله استدرك ذلك بقوله (إلّا أنّك لست بنبيّ) و نظير هذا الاستدراك قد وقع في كلام الصادق عليه السّلام و هو:

ما رواه في البحار من البصاير بسنده عن عليّ السائي قال: سألت الصادق عليه السّلام عن مبلغ علمهم، فقال: مبلغ علمنا ثلاثة وجوه: ماض، و غابر، و حادث، فأمّا الماضي فمفسّر، و أمّا الغابر فمزبور، و أمّا الحادث فقذف في القلوب و نقر في الأسماع و هو أفضل علمنا و لا نبيّ بعد نبيّنا.

فانّ النّكث و النّقر لما كانا مظنّة لأن يتوهّم السائل فيهم النّبوّة قال عليه السّلام: و لا نبيّ بعد نبيّنا، و يتّضح لك معني هذا الحديث ممّا نورده في التّنبيه الثاني إنشاء اللّه.
ثمّ إنّه لمّا نفي عنه النّبوة أثبت له الوزارة و هي عاشر المناقب فقال (و لكنّك لوزير و إنّك لعلى خير) بشّره بالوزارة و نبّه به على أنّه الصّالح لتدبير أمور الرّسالة و المعاون له صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في نظم امور الدّين و تأسيس قواعد شرع المبين و اصلاح امور الاسلام و المسلمين، ثمّ شهد به أنّه على خير و أشار به على استقراره و ثباته على ما هو خير الدّنيا و الاخرة، و أنّه مجانب لما هو شرّ الدّنيا و الاخرة.

و هذا معني عام متضمّن لكونه عليه السّلام جامعا لجميع الكمالات و المكارم الدّنيويّة و الاخرويّة و المحامد الصّوريّة و المعنويّة و كونه راسخا فيها غير متزلزل و لا متكلّف، هذا.
و اعلم أنّ هذا الفصل من الخطبة الشريفة لمّا كان متضمّنا لجلّ مسائل الرّسالة و الامامة حسبما عرفته أتيت في شرحه من الرّوايات الشّريفة و التحقيقات اللطيفة بما هو مقتضي مذهب الفرقة النّاجية الاماميّة، و أضربت عن روايات عاميّة ضعيفة أوردها الشّارح المعتزلي في بيان عصمة النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالملائكة.

و العجب من مبالغة الشّارح البحراني له في ايراد بعض هذه الأخبار مع أنّها مضافة إلى أنّها خلاف اصول الاماميّة ممّا تشمئزّ عنها الطباع و تنفر عنها الأسماع كما هو غير خفيّ على من لاحظ الشرحين بنظر الدّقة و الاعتبار.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»

Show More

دیدگاهتان را بنویسید

نشانی ایمیل شما منتشر نخواهد شد. بخش‌های موردنیاز علامت‌گذاری شده‌اند *

این سایت از اکیسمت برای کاهش هرزنامه استفاده می کند. بیاموزید که چگونه اطلاعات دیدگاه های شما پردازش می‌شوند.

Back to top button
-+=