خطبه 192 صبحی صالح
192- و من خطبة له ( عليه السلام ) تسمى القاصعة و هي تتضمن ذم إبليس لعنه اللّه، على استكباره و تركه السجود لآدم ( عليهالسلام )، و أنه أول من أظهر العصبية و تبع الحمية، و تحذير الناس من سلوك طريقته.
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَبِسَ الْعِزَّ وَ الْكِبْرِيَاءَ وَ اخْتَارَهُمَا لِنَفْسِهِ دُونَخَلْقِهِ وَ جَعَلَهُمَا حِمًى وَ حَرَماً عَلَى غَيْرِهِ وَ اصْطَفَاهُمَا لِجَلَالِهِ
رأس العصيان
وَ جَعَلَ اللَّعْنَةَ عَلَى مَنْ نَازَعَهُ فِيهِمَا مِنْ عِبَادِهِ
ثُمَّ اخْتَبَرَ بِذَلِكَ مَلَائِكَتَهُ الْمُقَرَّبِينَ لِيَمِيزَ الْمُتَوَاضِعِينَ مِنْهُمْ مِنَ الْمُسْتَكْبِرِينَ
فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَ هُوَ الْعَالِمُ بِمُضْمَرَاتِ الْقُلُوبِ وَ مَحْجُوبَاتِ الْغُيُوبِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ
اعْتَرَضَتْهُ الْحَمِيَّةُ فَافْتَخَرَ عَلَى آدَمَ بِخَلْقِهِ وَ تَعَصَّبَ عَلَيْهِ لِأَصْلِهِ فَعَدُوُّ اللَّهِ إِمَامُ الْمُتَعَصِّبِينَ وَ سَلَفُ الْمُسْتَكْبِرِينَ الَّذِي وَضَعَ أَسَاسَ الْعَصَبِيَّةِ وَ نَازَعَ اللَّهَ رِدَاءَ الْجَبْرِيَّةِ وَ ادَّرَعَ لِبَاسَ التَّعَزُّزِ وَ خَلَعَ قِنَاعَ التَّذَلُّلِ
أَ لَا تَرَوْنَ كَيْفَ صَغَّرَهُ اللَّهُ بِتَكَبُّرِهِ وَ وَضَعَهُ بِتَرَفُّعِهِ فَجَعَلَهُ فِي الدُّنْيَا مَدْحُوراً وَ أَعَدَّ لَهُ فِي الْآخِرَةِ سَعِيراً
ابتلاء اللّه لخلقه
وَ لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَخْلُقَ آدَمَ مِنْ نُورٍ يَخْطَفُ الْأَبْصَارَ ضِيَاؤُهُ وَ يَبْهَرُ الْعُقُولَ رُوَاؤُهُ وَ طِيبٍ يَأْخُذُ الْأَنْفَاسَ عَرْفُهُ لَفَعَلَ
وَ لَوْ فَعَلَ لَظَلَّتْ لَهُ الْأَعْنَاقُ خَاضِعَةً وَ لَخَفَّتِ الْبَلْوَى فِيهِ عَلَى الْمَلَائِكَةِوَ لَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَبْتَلِي خَلْقَهُ بِبَعْضِ مَا يَجْهَلُونَ أَصْلَهُ تَمْيِيزاً بِالِاخْتِبَارِ لَهُمْ وَ نَفْياً لِلِاسْتِكْبَارِ عَنْهُمْ وَ إِبْعَاداً لِلْخُيَلَاءِ مِنْهُمْ
طلب العبرة
فَاعْتَبِرُوا بِمَا كَانَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ بِإِبْلِيسَ إِذْ أَحْبَطَ عَمَلَهُ الطَّوِيلَ وَ جَهْدَهُ الْجَهِيدَ وَ كَانَ قَدْ عَبَدَ اللَّهَ سِتَّةَ آلَافِ سَنَةٍ لَا يُدْرَى أَ مِنْ سِنِي الدُّنْيَا أَمْ مِنْ سِنِي الْآخِرَةِ عَنْ كِبْرِ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ
فَمَنْ ذَا بَعْدَ إِبْلِيسَ يَسْلَمُ عَلَى اللَّهِ بِمِثْلِ مَعْصِيَتِهِ كَلَّا مَا كَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِيُدْخِلَ الْجَنَّةَ بَشَراً بِأَمْرٍ أَخْرَجَ بِهِ مِنْهَا مَلَكاً
إِنَّ حُكْمَهُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ وَ أَهْلِ الْأَرْضِ لَوَاحِدٌ وَ مَا بَيْنَ اللَّهِ وَ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ هَوَادَةٌ فِي إِبَاحَةِ حِمًى حَرَّمَهُ عَلَى الْعَالَمِينَ
التحذير من الشيطان
فَاحْذَرُوا عِبَادَ اللَّهِ عَدُوَّ اللَّهِ أَنْ يُعْدِيَكُمْ بِدَائِهِ وَ أَنْ يَسْتَفِزَّكُمْ بِنِدَائِهِ وَ أَنْ يُجْلِبَ عَلَيْكُمْ بِخَيْلِهِ وَ رَجِلِهِ
فَلَعَمْرِي لَقَدْ فَوَّقَ لَكُمْ سَهْمَ الْوَعِيدِ وَ أَغْرَقَ إِلَيْكُمْ بِالنَّزْعِ الشَّدِيدِ وَ رَمَاكُمْ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ فَ قَالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَقَذْفاً بِغَيْبٍ بَعِيدٍ وَ رَجْماً بِظَنٍّ غَيْرِ مُصِيبٍ
صَدَّقَهُ بِهِ أَبْنَاءُ الْحَمِيَّةِ وَ إِخْوَانُ الْعَصَبِيَّةِ وَ فُرْسَانُ الْكِبْرِوَ الْجَاهِلِيَّةِ حَتَّى إِذَا انْقَادَتْ لَهُ الْجَامِحَةُ مِنْكُمْ وَ اسْتَحْكَمَتِ الطَّمَاعِيَّةُ مِنْهُ فِيكُمْ فَنَجَمَتِ الْحَالُ مِنَ السِّرِّ الْخَفِيِّ إِلَى الْأَمْرِ الْجَلِيِّ
اسْتَفْحَلَ سُلْطَانُهُ عَلَيْكُمْ وَ دَلَفَ بِجُنُودِهِ نَحْوَكُمْ فَأَقْحَمُوكُمْ وَلَجَاتِ الذُّلِّ وَ أَحَلُّوكُمْ وَرَطَاتِ الْقَتْلِ
وَ أَوْطَئُوكُمْ إِثْخَانَ الْجِرَاحَةِ طَعْناً فِي عُيُونِكُمْ وَ حَزّاً فِي حُلُوقِكُمْ وَ دَقّاً لِمَنَاخِرِكُمْ وَ قَصْداً لِمَقَاتِلِكُمْ وَ سَوْقاً بِخَزَائِمِ الْقَهْرِ إِلَى النَّارِ الْمُعَدَّةِ لَكُمْ
فَأَصْبَحَ أَعْظَمَ فِي دِينِكُمْ حَرْجاً وَ أَوْرَى فِي دُنْيَاكُمْ قَدْحاً مِنَ الَّذِينَ أَصْبَحْتُمْ لَهُمْ مُنَاصِبِينَ وَ عَلَيْهِمْ مُتَأَلِّبِينَ
فَاجْعَلُوا عَلَيْهِ حَدَّكُمْ وَ لَهُ جِدَّكُمْ فَلَعَمْرُ اللَّهِ لَقَدْ فَخَرَ عَلَى أَصْلِكُمْ وَ وَقَعَ فِي حَسَبِكُمْ وَ دَفَعَ فِي نَسَبِكُمْ وَ أَجْلَبَ بِخَيْلِهِ عَلَيْكُمْ وَ قَصَدَ بِرَجِلِهِ سَبِيلَكُمْ يَقْتَنِصُونَكُمْ بِكُلِّ مَكَانٍ وَ يَضْرِبُونَ مِنْكُمْ كُلَّ بَنَانٍ
لَا تَمْتَنِعُونَ بِحِيلَةٍ وَ لَا تَدْفَعُونَ بِعَزِيمَةٍ فِي حَوْمَةِ ذُلٍّ وَ حَلْقَةِ ضِيقٍ وَ عَرْصَةِ مَوْتٍ وَ جَوْلَةِ بَلَاءٍ
فَأَطْفِئُوا مَا كَمَنَ فِي قُلُوبِكُمْ مِنْ نِيرَانِ الْعَصَبِيَّةِ وَ أَحْقَادِ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّمَا تِلْكَ الْحَمِيَّةُ تَكُونُ فِي الْمُسْلِمِ مِنْ خَطَرَاتِ الشَّيْطَانِ وَ نَخَوَاتِهِ وَ نَزَغَاتِهِ وَ نَفَثَاتِهِ
وَ اعْتَمِدُوا وَضْعَ التَّذَلُّلِ عَلَى رُءُوسِكُمْ وَ إِلْقَاءَ التَّعَزُّزِ تَحْتَ أَقْدَامِكُمْ وَ خَلْعَ التَّكَبُّرِ مِنْ أَعْنَاقِكُمْ وَ اتَّخِذُوا التَّوَاضُعَ مَسْلَحَةً بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَ عَدُوِّكُمْ إِبْلِيسَوَ جُنُودِهِ فَإِنَّ لَهُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ جُنُوداً وَ أَعْوَاناً وَ رَجِلًا وَ فُرْسَاناً
وَ لَا تَكُونُوا كَالْمُتَكَبِّرِ عَلَى ابْنِ أُمِّهِ مِنْ غَيْرِ مَا فَضْلٍ جَعَلَهُ اللَّهُ فِيهِ سِوَى مَا أَلْحَقَتِ الْعَظَمَةُ بِنَفْسِهِ مِنْ عَدَاوَةِ الْحَسَدِ وَ قَدَحَتِ الْحَمِيَّةُ فِي قَلْبِهِ مِنْ نَارِ الْغَضَبِ
وَ نَفَخَ الشَّيْطَانُ فِي أَنْفِهِ مِنْ رِيحِ الْكِبْرِ الَّذِي أَعْقَبَهُ اللَّهُ بِهِ النَّدَامَةَ وَ أَلْزَمَهُ آثَامَ الْقَاتِلِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
التحذير من الكبر
أَلَا وَ قَدْ أَمْعَنْتُمْ فِي الْبَغْيِ وَ أَفْسَدْتُمْ فِي الْأَرْضِ مُصَارَحَةً لِلَّهِ بِالْمُنَاصَبَةِ وَ مُبَارَزَةً لِلْمُؤْمِنِينَ بِالْمُحَارَبَةِ
فَاللَّهَ اللَّهَ فِي كِبْرِ الْحَمِيَّةِ وَ فَخْرِ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُ مَلَاقِحُ الشَّنَئَانِ وَ مَنَافِخُ الشَّيْطَانِ الَّتِي خَدَعَ بِهَا الْأُمَمَ الْمَاضِيَةَ وَ الْقُرُونَ الْخَالِيَةَ حَتَّى أَعْنَقُوا فِي حَنَادِسِ جَهَالَتِهِ وَ مَهَاوِي ضَلَالَتِهِ
ذُلُلًا عَنْ سِيَاقِهِ سُلُساً فِي قِيَادِهِ أَمْراً تَشَابَهَتِ الْقُلُوبُ فِيهِ وَ تَتَابَعَتِ الْقُرُونُ عَلَيْهِ وَ كِبْراً تَضَايَقَتِ الصُّدُورُ بِهِ
التحذير من طاعة الكبراء
أَلَا فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنْ طَاعَةِ سَادَاتِكُمْ وَ كُبَرَائِكُمْ الَّذِينَ تَكَبَّرُوا عَنْ حَسَبِهِمْ وَ تَرَفَّعُوا فَوْقَ نَسَبِهِمْ وَ أَلْقَوُا الْهَجِينَةَ عَلَى رَبِّهِمْوَ جَاحَدُوا اللَّهَ عَلَى مَا صَنَعَ بِهِمْ مُكَابَرَةً لِقَضَائِهِ وَ مُغَالَبَةً لِآلَائِهِ
فَإِنَّهُمْ قَوَاعِدُ أَسَاسِ الْعَصَبِيَّةِ وَ دَعَائِمُ أَرْكَانِ الْفِتْنَةِ وَ سُيُوفُ اعْتِزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ لَا تَكُونُوا لِنِعَمِهِ عَلَيْكُمْ أَضْدَاداً وَ لَا لِفَضْلِهِ عِنْدَكُمْ حُسَّاداً وَ لَا تُطِيعُوا الْأَدْعِيَاءَ الَّذِينَ شَرِبْتُمْ بِصَفْوِكُمْ كَدَرَهُمْ وَ خَلَطْتُمْ بِصِحَّتِكُمْ مَرَضَهُمْ وَ أَدْخَلْتُمْ فِي حَقِّكُمْ بَاطِلَهُمْ
وَ هُمْ أَسَاسُ الْفُسُوقِ وَ أَحْلَاسُ الْعُقُوقِ اتَّخَذَهُمْ إِبْلِيسُ مَطَايَا ضَلَالٍ وَ جُنْداً بِهِمْ يَصُولُ عَلَى النَّاسِ وَ تَرَاجِمَةً يَنْطِقُ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ
اسْتِرَاقاً لِعُقُولِكُمْ وَ دُخُولًا فِي عُيُونِكُمْ وَ نَفْثاً فِي أَسْمَاعِكُمْ فَجَعَلَكُمْ مَرْمَى نَبْلِهِ وَ مَوْطِئَ قَدَمِهِ وَ مَأْخَذَ يَدِهِ
العبرة بالماضين
فَاعْتَبِرُوا بِمَا أَصَابَ الْأُمَمَ الْمُسْتَكْبِرِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ وَ صَوْلَاتِهِ وَ وَقَائِعِهِ وَ مَثُلَاتِهِ وَ اتَّعِظُوا بِمَثَاوِي خُدُودِهِمْ وَ مَصَارِعِ جُنُوبِهِمْ
وَ اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ لَوَاقِحِ الْكِبْرِ كَمَا تَسْتَعِيذُونَهُ مِنْ طَوَارِقِ الدَّهْرِ
فَلَوْ رَخَّصَ اللَّهُ فِي الْكِبْرِ لِأَحَدٍ مِنْ عِبَادِهِ لَرَخَّصَ فِيهِ لِخَاصَّةِ أَنْبِيَائِهِ وَ أَوْلِيَائِهِ وَ لَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ كَرَّهَ إِلَيْهِمُ التَّكَابُرَ وَ رَضِيَ لَهُمُ التَّوَاضُعَ
فَأَلْصَقُوا بِالْأَرْضِ خُدُودَهُمْ وَ عَفَّرُوا فِي التُّرَابِ وُجُوهَهُمْ وَ خَفَضُوا أَجْنِحَتَهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ كَانُوا قَوْماً
مُسْتَضْعَفِينَ قَدِ اخْتَبَرَهُمُ اللَّهُ بِالْمَخْمَصَةِ وَ ابْتَلَاهُمْ بِالْمَجْهَدَةِ وَ امْتَحَنَهُمْ بِالْمَخَاوِفِ وَ مَخَضَهُمْ بِالْمَكَارِهِ
فَلَا تَعْتَبِرُوا الرِّضَى وَ السُّخْطَ بِالْمَالِ وَ الْوَلَدِ جَهْلًا بِمَوَاقِعِ الْفِتْنَةِ وَ الِاخْتِبَارِ فِي مَوْضِعِ الْغِنَى وَ الِاقْتِدَارِ
فَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى أَ يَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَ بَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ
فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ الْمُسْتَكْبِرِينَ فِي أَنْفُسِهِمْ بِأَوْلِيَائِهِ الْمُسْتَضْعَفِينَ فِي أَعْيُنِهِمْ
تواضع الأنبياء
وَ لَقَدْ دَخَلَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ وَ مَعَهُ أَخُوهُ هَارُونُ ( عليهماالسلام )عَلَى فِرْعَوْنَ وَ عَلَيْهِمَا مَدَارِعُ الصُّوفِ وَ بِأَيْدِيهِمَا الْعِصِيُّ فَشَرَطَا لَهُ إِنْ أَسْلَمَ بَقَاءَ مُلْكِهِ وَ دَوَامَ عِزِّهِ
فَقَالَ أَ لَا تَعْجَبُونَ مِنْ هَذَيْنِ يَشْرِطَانِ لِي دَوَامَ الْعِزِّ وَ بَقَاءَ الْمُلْكِ وَ هُمَا بِمَا تَرَوْنَ مِنْ حَالِ الْفَقْرِ وَ الذُّلِّ فَهَلَّا أُلْقِيَ عَلَيْهِمَا أَسَاوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ إِعْظَاماً لِلذَّهَبِ وَ جَمْعِهِ وَ احْتِقَاراً لِلصُّوفِ وَ لُبْسِهِ وَ لَوْ أَرَادَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِأَنْبِيَائِهِ حَيْثُ بَعَثَهُمْ أَنْ يَفْتَحَ لَهُمْ كُنُوزَ الذِّهْبَانِ وَ مَعَادِنَ الْعِقْيَانِ وَ مَغَارِسَ الْجِنَانِ وَ أَنْ يَحْشُرَ مَعَهُمْ طُيُورَ السَّمَاءِ وَ وُحُوشَ الْأَرَضِينَ لَفَعَلَ
وَ لَوْ فَعَلَ لَسَقَطَ الْبَلَاءُ وَ بَطَلَ الْجَزَاءُوَ اضْمَحَلَّتِ الْأَنْبَاءُ وَ لَمَا وَجَبَ لِلْقَابِلِينَ أُجُورُ الْمُبْتَلَيْنَ وَ لَا اسْتَحَقَّ الْمُؤْمِنُونَ ثَوَابَ الْمُحْسِنِينَ وَ لَا لَزِمَتِ الْأَسْمَاءُ مَعَانِيَهَا
وَ لَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ رُسُلَهُ أُولِي قُوَّةٍ فِي عَزَائِمِهِمْ وَ ضَعَفَةً فِيمَا تَرَى الْأَعْيُنُ مِنْ حَالَاتِهِمْ مَعَ قَنَاعَةٍ تَمْلَأُ الْقُلُوبَ وَ الْعُيُونَ غِنًى وَ خَصَاصَةٍ تَمْلَأُ الْأَبْصَارَ وَ الْأَسْمَاعَ أَذًى
وَ لَوْ كَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ أَهْلَ قُوَّةٍ لَا تُرَامُ وَ عِزَّةٍ لَا تُضَامُ وَ مُلْكٍ تُمَدُّ نَحْوَهُ أَعْنَاقُ الرِّجَالِ وَ تُشَدُّ إِلَيْهِ عُقَدُ الرِّحَالِ لَكَانَ ذَلِكَ أَهْوَنَ عَلَى الْخَلْقِ فِي الِاعْتِبَارِ وَ أَبْعَدَ لَهُمْ فِي الِاسْتِكْبَارِ
وَ لَآمَنُوا عَنْ رَهْبَةٍ قَاهِرَةٍ لَهُمْ أَوْ رَغْبَةٍ مَائِلَةٍ بِهِمْ فَكَانَتِ النِّيَّاتُ مُشْتَرَكَةً وَ الْحَسَنَاتُ مُقْتَسَمَةً
وَ لَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ الِاتِّبَاعُ لِرُسُلِهِ وَ التَّصْدِيقُ بِكُتُبِهِ وَ الْخُشُوعُ لِوَجْهِهِ وَ الِاسْتِكَانَةُ لِأَمْرِهِ وَ الِاسْتِسْلَامُ لِطَاعَتِهِ أُمُوراً لَهُ خَاصَّةً لَا تَشُوبُهَا مِنْ غَيْرِهَا شَائِبَةٌ
وَ كُلَّمَا كَانَتِ الْبَلْوَى وَ الِاخْتِبَارُ أَعْظَمَ كَانَتِ الْمَثُوبَةُ وَ الْجَزَاءُ أَجْزَلَ
الكعبة المقدسة
أَ لَا تَرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ اخْتَبَرَ الْأَوَّلِينَ مِنْ لَدُنْ آدَمَ ( صلواتاللهعليه )إِلَى الْآخِرِينَ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ بِأَحْجَارٍ لَا تَضُرُّ وَ لَا تَنْفَعُ وَ لَا تُبْصِرُ وَ لَا تَسْمَعُ فَجَعَلَهَا بَيْتَهُ الْحَرَامَ الَّذِي جَعَلَهُ لِلنَّاسِ قِيَاماً
ثُمَ وَضَعَهُ بِأَوْعَرِ بِقَاعِ الْأَرْضِ حَجَراً وَ أَقَلِّ نَتَائِقِ الدُّنْيَا مَدَراً وَ أَضْيَقِ بُطُونِ الْأَوْدِيَةِ قُطْراً بَيْنَ جِبَالٍ خَشِنَةٍ وَ رِمَالٍ دَمِثَةٍ وَ عُيُونٍ وَشِلَةٍ وَ قُرًى مُنْقَطِعَةٍ لَا يَزْكُو بِهَا خُفٌّ وَ لَا حَافِرٌ وَ لَا ظِلْفٌ
ثُمَّ أَمَرَ آدَمَ ( عليهالسلام )وَ وَلَدَهُ أَنْ يَثْنُوا أَعْطَافَهُمْ نَحْوَهُ فَصَارَ مَثَابَةً لِمُنْتَجَعِ أَسْفَارِهِمْ وَ غَايَةً لِمُلْقَى رِحَالِهِمْ تَهْوِي إِلَيْهِ ثِمَارُ الْأَفْئِدَةِ
مِنْ مَفَاوِزِ قِفَارٍ سَحِيقَةٍ وَ مَهَاوِي فِجَاجٍ عَمِيقَةٍ وَ جَزَائِرِ بِحَارٍ مُنْقَطِعَةٍ حَتَّى يَهُزُّوا مَنَاكِبَهُمْ ذُلُلًا يُهَلِّلُونَ لِلَّهِ حَوْلَهُ وَ يَرْمُلُونَ عَلَى أَقْدَامِهِمْ شُعْثاً غُبْراً لَهُ
قَدْ نَبَذُوا السَّرَابِيلَ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَ شَوَّهُوا بِإِعْفَاءِ الشُّعُورِ مَحَاسِنَ خَلْقِهِمُ ابْتِلَاءً عَظِيماً وَ امْتِحَاناً شَدِيداً وَ اخْتِبَاراً مُبِيناً وَ تَمْحِيصاً بَلِيغاً جَعَلَهُ اللَّهُ سَبَباً لِرَحْمَتِهِ وَ وُصْلَةً إِلَى جَنَّتِهِ
وَ لَوْ أَرَادَ سُبْحَانَهُ أَنْ يَضَعَ بَيْتَهُ الْحَرَامَ وَ مَشَاعِرَهُ الْعِظَامَ بَيْنَ جَنَّاتٍ وَ أَنْهَارٍ وَ سَهْلٍ وَ قَرَارٍ جَمَّ الْأَشْجَارِ دَانِيَ الثِّمَارِ مُلْتَفَّ الْبُنَى مُتَّصِلَ الْقُرَى
بَيْنَ بُرَّةٍ سَمْرَاءَ وَ رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ وَ أَرْيَافٍ مُحْدِقَةٍ وَ عِرَاصٍ مُغْدِقَةٍ وَ رِيَاضٍ نَاضِرَةٍ وَ طُرُقٍ عَامِرَةٍ لَكَانَ قَدْ صَغُرَ قَدْرُ الْجَزَاءِ عَلَى حَسَبِ ضَعْفِ الْبَلَاءِ
وَ لَوْ كَانَ الْإِسَاسُ الْمَحْمُولُ عَلَيْهَا وَ الْأَحْجَارُ الْمَرْفُوعُ بِهَا بَيْنَ زُمُرُّدَةٍ خَضْرَاءَ وَ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ وَ نُورٍ وَ ضِيَاءٍ
لَخَفَّفَ ذَلِكَ مُصَارَعَةَ الشَّكِّ فِي الصُّدُورِ وَ لَوَضَعَ مُجَاهَدَةَ إِبْلِيسَ عَنِ الْقُلُوبِ وَ لَنَفَى مُعْتَلَجَ الرَّيْبِ مِنَ النَّاسِ
وَ لَكِنَّ اللَّهَ يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ بِأَنْوَاعِ الشَّدَائِدِ وَ يَتَعَبَّدُهُمْ بِأَنْوَاعِ الْمَجَاهِدِ وَ يَبْتَلِيهِمْ بِضُرُوبِ الْمَكَارِهِ إِخْرَاجاً لِلتَّكَبُّرِ مِنْ قُلُوبِهِمْ وَ إِسْكَاناً لِلتَّذَلُّلِ فِي نُفُوسِهِمْ وَ لِيَجْعَلَ ذَلِكَ أَبْوَاباً فُتُحاً إِلَى فَضْلِهِ وَ أَسْبَاباً ذُلُلًا لِعَفْوِهِ
عود إلى التحذير
فَاللَّهَ اللَّهَ فِي عَاجِلِ الْبَغْيِ وَ آجِلِ وَخَامَةِ الظُّلْمِ وَ سُوءِ عَاقِبَةِ الْكِبْرِ فَإِنَّهَا مَصْيَدَةُ إِبْلِيسَ الْعُظْمَى وَ مَكِيدَتُهُ الْكُبْرَى الَّتِي تُسَاوِرُ قُلُوبَ الرِّجَالِ مُسَاوَرَةَ السُّمُومِ الْقَاتِلَةِ
فَمَا تُكْدِي أَبَداً وَ لَا تُشْوِي أَحَداً لَا عَالِماً لِعِلْمِهِ وَ لَا مُقِلًّا فِي طِمْرِهِ
وَ عَنْ ذَلِكَ مَا حَرَسَ اللَّهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالصَّلَوَاتِ وَ الزَّكَوَاتِ وَ مُجَاهَدَةِ الصِّيَامِ فِي الْأَيَّامِ الْمَفْرُوضَاتِ تَسْكِيناً لِأَطْرَافِهِمْ وَ تَخْشِيعاً لِأَبْصَارِهِمْ وَ تَذْلِيلًا لِنُفُوسِهِمْ وَ تَخْفِيضاً لِقُلُوبِهِمْ وَ إِذْهَاباً لِلْخُيَلَاءِ عَنْهُمْ
وَ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَعْفِيرِ عِتَاقِ الْوُجُوهِ بِالتُّرَابِ تَوَاضُعاً وَ الْتِصَاقِ كَرَائِمِ الْجَوَارِحِ بِالْأَرْضِ تَصَاغُراً وَ لُحُوقِ الْبُطُونِ بِالْمُتُونِ مِنَ الصِّيَامِ تَذَلُّلًا مَعَ مَا فِي الزَّكَاةِ مِنْ صَرْفِ ثَمَرَاتِ الْأَرْضِ وَ غَيْرِ ذَلِكَ إِلَى أَهْلِ الْمَسْكَنَةِ وَ الْفَقْرِ
فضائل الفرائض
انْظُرُوا إِلَى مَا فِي هَذِهِ الْأَفْعَالِ مِنْ قَمْعِ نَوَاجِمِ الْفَخْرِ وَ قَدْعِ طَوَالِعِ الْكِبْرِ
وَ لَقَدْ نَظَرْتُ فَمَا وَجَدْتُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ يَتَعَصَّبُ لِشَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ إِلَّا عَنْ عِلَّةٍ تَحْتَمِلُ تَمْوِيهَ الْجُهَلَاءِ أَوْ حُجَّةٍ تَلِيطُ بِعُقُولِ السُّفَهَاءِ غَيْرَكُمْ فَإِنَّكُمْ تَتَعَصَّبُونَ لِأَمْرٍ مَا يُعْرَفُ لَهُ سَبَبٌ وَ لَا عِلَّةٌ أَمَّا إِبْلِيسُ فَتَعَصَّبَ عَلَى آدَمَ لِأَصْلِهِ وَ طَعَنَ عَلَيْهِ فِي خِلْقَتِهِ فَقَالَ أَنَا نَارِيٌّ وَ أَنْتَ طِينِيٌّ
عصبية المال
وَ أَمَّا الْأَغْنِيَاءُ مِنْ مُتْرَفَةِ الْأُمَمِ فَتَعَصَّبُوا لِآثَارِ مَوَاقِعِ النِّعَمِ فَ قالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَ أَوْلاداً وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ
فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ فَلْيَكُنْ تَعَصُّبُكُمْ لِمَكَارِمِ الْخِصَالِ وَ مَحَامِدِ الْأَفْعَالِ
وَ مَحَاسِنِ الْأُمُورِ الَّتِي تَفَاضَلَتْ فِيهَا الْمُجَدَاءُ وَ النُّجَدَاءُ مِنْ بُيُوتَاتِ الْعَرَبِ وَ يَعَاسِيبِ القَبَائِلِ بِالْأَخْلَاقِ الرَّغِيبَةِ وَ الْأَحْلَامِ الْعَظِيمَةِ وَ الْأَخْطَارِ الْجَلِيلَةِ وَ الْآثَارِ الْمَحْمُودَةِ
فَتَعَصَّبُوا لِخِلَالِ الْحَمْدِ مِنَ الْحِفْظِ لِلْجِوَارِ وَ الْوَفَاءِ بِالذِّمَامِ وَ الطَّاعَةِ لِلْبِرِّ وَ الْمَعْصِيَةِ لِلْكِبْرِ وَ الْأَخْذِ بِالْفَضْلِ وَ الْكَفِّ عَنِ الْبَغْيِ وَ الْإِعْظَامِ لِلْقَتْلِ وَ الْإِنْصَافِ لِلْخَلْقِ وَ الْكَظْمِ لِلْغَيْظِوَ اجْتِنَابِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ
وَ احْذَرُوا مَا نَزَلَ بِالْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مِنَ الْمَثُلَاتِ بِسُوءِ الْأَفْعَالِ وَ ذَمِيمِ الْأَعْمَالِ فَتَذَكَّرُوا فِي الْخَيْرِ وَ الشَّرِّ أَحْوَالَهُمْ وَ احْذَرُوا أَنْ تَكُونُوا أَمْثَالَهُمْ فَإِذَا تَفَكَّرْتُمْ فِي تَفَاوُتِ حَالَيْهِمْ فَالْزَمُوا كُلَّ أَمْرٍ لَزِمَتِ الْعِزَّةُ بِهِ شَأْنَهُمْ
وَ زَاحَتِ الْأَعْدَاءُ لَهُ عَنْهُمْ وَ مُدَّتِ الْعَافِيَةُ بِهِ عَلَيْهِمْ وَ انْقَادَتِ النِّعْمَةُ لَهُ مَعَهُمْ وَ وَصَلَتِ الْكَرَامَةُ عَلَيْهِ حَبْلَهُمْ مِنَ الِاجْتِنَابِ لِلْفُرْقَةِ وَ اللُّزُومِ لِلْأُلْفَةِ وَ التَّحَاضِّ عَلَيْهَا وَ التَّوَاصِي بِهَا
وَ اجْتَنِبُوا كُلَّ أَمْرٍ كَسَرَ فِقْرَتَهُمْ وَ أَوْهَنَ مُنَّتَهُمْ مِنْ تَضَاغُنِ الْقُلُوبِ وَ تَشَاحُنِ الصُّدُورِ وَ تَدَابُرِ النُّفُوسِ وَ تَخَاذُلِ الْأَيْدِي
وَ تَدَبَّرُوا أَحْوَالَ الْمَاضِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَبْلَكُمْ كَيْفَ كَانُوا فِي حَالِ التَّمْحِيصِ وَ الْبَلَاءِ أَ لَمْ يَكُونُوا أَثْقَلَ الْخَلَائِقِ أَعْبَاءً وَ أَجْهَدَ الْعِبَادِ بَلَاءً وَ أَضْيَقَ أَهْلِ الدُّنْيَا حَالًا
اتَّخَذَتْهُمُ الْفَرَاعِنَةُ عَبِيداً فَسَامُوهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَ جَرَّعُوهُمُ الْمُرَارَ فَلَمْ تَبْرَحِ الْحَالُ بِهِمْ فِي ذُلِّ الْهَلَكَةِ وَ قَهْرِ الْغَلَبَةِ لَا يَجِدُونَ حِيلَةً فِي امْتِنَاعٍ وَ لَا سَبِيلًا إِلَى دِفَاعٍ
حَتَّى إِذَا رَأَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ جِدَّ الصَّبْرِ مِنْهُمْ عَلَى الْأَذَى فِي مَحَبَّتِهِ وَ الِاحْتِمَالَ لِلْمَكْرُوهِ مِنْ خَوْفِهِ جَعَلَ لَهُمْ مِنْ مَضَايِقِ الْبَلَاءِ فَرَجاً فَأَبْدَلَهُمُ الْعِزَّ مَكَانَ الذُّلِّ وَ الْأَمْنَ مَكَانَ الْخَوْفِ
فَصَارُوا مُلُوكاً حُكَّاماً وَ أَئِمَّةً أَعْلَاماً وَ قَدْ بَلَغَتِ الْكَرَامَةُ مِنَ اللَّهِ لَهُمْمَا لَمْ تَذْهَبِ الْآمَالُ إِلَيْهِ بِهِمْ
فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانُوا حَيْثُ كَانَتِ الْأَمْلَاءُ مُجْتَمِعَةً وَ الْأَهْوَاءُ مُؤْتَلِفَةً وَ الْقُلُوبُ مُعْتَدِلَةً وَ الْأَيْدِي مُتَرَادِفَةً وَ السُّيُوفُ مُتَنَاصِرَةً وَ الْبَصَائِرُ نَافِذَةً وَ الْعَزَائِمُ وَاحِدَةً
أَ لَمْ يَكُونُوا أَرْبَاباً فِي أَقْطَارِ الْأَرَضِينَ وَ مُلُوكاً عَلَى رِقَابِ الْعَالَمِينَ
فَانْظُرُوا إِلَى مَا صَارُوا إِلَيْهِ فِي آخِرِ أُمُورِهِمْ حِينَ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ وَ تَشَتَّتَتِ الْأُلْفَةُ وَ اخْتَلَفَتِ الْكَلِمَةُ وَ الْأَفْئِدَةُ وَ تَشَعَّبُوا مُخْتَلِفِينَ وَ تَفَرَّقُوا مُتَحَارِبِينَ
وَ قَدْ خَلَعَ اللَّهُ عَنْهُمْ لِبَاسَ كَرَامَتِهِ وَ سَلَبَهُمْ غَضَارَةَ نِعْمَتِهِ وَ بَقِيَ قَصَصُ أَخْبَارِهِمْ فِيكُمْ عِبَراً لِلْمُعْتَبِرِينَ
الاعتبار بالأمم
فَاعْتَبِرُوا بِحَالِ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ وَ بَنِي إِسْحَاقَ وَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ( عليهمالسلام )فَمَا أَشَدَّ اعْتِدَالَ الْأَحْوَالِ وَ أَقْرَبَ اشْتِبَاهَ الْأَمْثَالِ تَأَمَّلُوا أَمْرَهُمْ فِي حَالِ تَشَتُّتِهِمْ وَ تَفَرُّقِهِمْ لَيَالِيَ كَانَتِ الْأَكَاسِرَةُ وَ الْقَيَاصِرَةُ أَرْبَاباً لَهُمْ
يَحْتَازُونَهُمْ عَنْ رِيفِ الْآفَاقِ وَ بَحْرِ الْعِرَاقِ وَ خُضْرَةِ الدُّنْيَا إِلَى مَنَابِتِ الشِّيحِ وَ مَهَافِي الرِّيحِ وَ نَكَدِ الْمَعَاشِ فَتَرَكُوهُمْ عَالَةً مَسَاكِينَ إِخْوَانَ دَبَرٍ وَ وَبَرٍ أَذَلَّ الْأُمَمِ دَاراً وَ أَجْدَبَهُمْ قَرَاراً
لَا يَأْوُونَ إِلَى جَنَاحِ دَعْوَةٍيَعْتَصِمُونَ بِهَا وَ لَا إِلَى ظِلِّ أُلْفَةٍ يَعْتَمِدُونَ عَلَى عِزِّهَا
فَالْأَحْوَالُ مُضْطَرِبَةٌ وَ الْأَيْدِي مُخْتَلِفَةٌ وَ الْكَثْرَةُ مُتَفَرِّقَةٌ فِي بَلَاءِ أَزْلٍ وَ أَطْبَاقِ جَهْلٍ مِنْ بَنَاتٍ مَوْءُودَةٍ وَ أَصْنَامٍ مَعْبُودَةٍ وَ أَرْحَامٍ مَقْطُوعَةٍ وَ غَارَاتٍ مَشْنُونَةٍ
النعمة برسول اللّه
فَانْظُرُوا إِلَى مَوَاقِعِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ حِينَ بَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا فَعَقَدَ بِمِلَّتِهِ طَاعَتَهُمْ وَ جَمَعَ عَلَى دَعْوَتِهِ أُلْفَتَهُمْ
كَيْفَ نَشَرَتِ النِّعْمَةُ عَلَيْهِمْ جَنَاحَ كَرَامَتِهَا وَ أَسَالَتْ لَهُمْ جَدَاوِلَ نَعِيمِهَا وَ الْتَفَّتِ الْمِلَّةُ بِهِمْ فِي عَوَائِدِ بَرَكَتِهَا فَأَصْبَحُوا فِي نِعْمَتِهَا غَرِقِينَ وَ فِي خُضْرَةِ عَيْشِهَا فَكِهِينَ
قَدْ تَرَبَّعَتِ الْأُمُورُ بِهِمْ فِي ظِلِّ سُلْطَانٍ قَاهِرٍ وَ آوَتْهُمُ الْحَالُ إِلَى كَنَفِ عِزٍّ غَالِبٍ وَ تَعَطَّفَتِ الْأُمُورُ عَلَيْهِمْ فِي ذُرَى مُلْكٍ ثَابِتٍ
فَهُمْ حُكَّامٌ عَلَى الْعَالَمِينَ وَ مُلُوكٌ فِي أَطْرَافِ الْأَرَضِينَ يَمْلِكُونَ الْأُمُورَ عَلَى مَنْ كَانَ يَمْلِكُهَا عَلَيْهِمْ وَ يُمْضُونَ الْأَحْكَامَ فِيمَنْ كَانَ يُمْضِيهَا فِيهِمْ لَا تُغْمَزُ لَهُمْ قَنَاةٌ وَ لَا تُقْرَعُ لَهُمْ صَفَاةٌ
لوم العصاة
أَلَا وَ إِنَّكُمْ قَدْ نَفَضْتُمْ أَيْدِيَكُمْ مِنْ حَبْلِ الطَّاعَةِ وَ ثَلَمْتُمْ حِصْنَ اللَّهِ الْمَضْرُوبَ عَلَيْكُمْ بِأَحْكَامِ الْجَاهِلِيَّةِ
فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدِ امْتَنَعَلَى جَمَاعَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِيمَا عَقَدَ بَيْنَهُمْ مِنْ حَبْلِ هَذِهِ الْأُلْفَةِ الَّتِي يَنْتَقِلُونَ فِي ظِلِّهَا وَ يَأْوُونَ إِلَى كَنَفِهَا بِنِعْمَةٍ لَا يَعْرِفُ أَحَدٌ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ لَهَا قِيمَةً لِأَنَّهَا أَرْجَحُ مِنْ كُلِّ ثَمَنٍ وَ أَجَلُّ مِنْ كُلِّ خَطَرٍ
وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ صِرْتُمْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ أَعْرَاباً وَ بَعْدَ الْمُوَالَاةِ أَحْزَاباً مَا تَتَعَلَّقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَّا بِاسْمِهِ وَ لَا تَعْرِفُونَ مِنَ الْإِيمَانِ إِلَّا رَسْمَهُ
تَقُولُونَ النَّارَ وَ لَا الْعَارَ كَأَنَّكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تُكْفِئُوا الْإِسْلَامَ عَلَى وَجْهِهِ انْتِهَاكاً لِحَرِيمِهِ وَ نَقْضاً لِمِيثَاقِهِ الَّذِي وَضَعَهُ اللَّهُ لَكُمْ حَرَماً فِي أَرْضِهِ وَ أَمْناً بَيْنَ خَلْقِهِ
وَ إِنَّكُمْ إِنْ لَجَأْتُمْ إِلَى غَيْرِهِ حَارَبَكُمْ أَهْلُ الْكُفْرِ ثُمَّ لَا جَبْرَائِيلُ وَ لَا مِيكَائِيلُ وَ لَا مُهَاجِرُونَ وَ لَا أَنْصَارٌ يَنْصُرُونَكُمْ إِلَّا الْمُقَارَعَةَ بِالسَّيْفِ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَكُمْ
وَ إِنَّ عِنْدَكُمُ الْأَمْثَالَ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ وَ قَوَارِعِهِ وَ أَيَّامِهِ وَ وَقَائِعِهِ فَلَا تَسْتَبْطِئُوا وَعِيدَهُ جَهْلًا بِأَخْذِهِ وَ تَهَاوُناً بِبَطْشِهِ وَ يَأْساً مِنْ بَأْسِهِ
فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَلْعَنِ الْقَرْنَ الْمَاضِيَ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ إِلَّا لِتَرْكِهِمُ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَ النَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ فَلَعَنَ اللَّهُ السُّفَهَاءَ لِرُكُوبِ الْمَعَاصِي وَ الْحُلَمَاءَ لِتَرْكِ التَّنَاهِي
أَلَا وَ قَدْ قَطَعْتُمْ قَيْدَ الْإِسْلَامِ وَ عَطَّلْتُمْ حُدُودَهُ وَ أَمَتُّمْ أَحْكَامَهُ
أَلَا وَ قَدْ أَمَرَنِيَ اللَّهُ بِقِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ وَ النَّكْثِ وَ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ
فَأَمَّا النَّاكِثُونَ فَقَدْ قَاتَلْتُ وَ أَمَّا الْقَاسِطُونَ فَقَدْ جَاهَدْتُ وَ أَمَّا الْمَارِقَةُ فَقَدْ دَوَّخْتُ
وَ أَمَّا شَيْطَانُ الرَّدْهَةِ فَقَدْ كُفِيتُهُ بِصَعْقَةٍ سُمِعَتْ لَهَا وَجْبَةُ قَلْبِهِ وَ رَجَّةُ صَدْرِهِ وَ بَقِيَتْ بَقِيَّةٌ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ وَ لَئِنْ أَذِنَ اللَّهُ فِي الْكَرَّةِ عَلَيْهِمْ لَأُدِيلَنَّ مِنْهُمْ إِلَّا مَا يَتَشَذَّرُ فِي أَطْرَافِ الْبِلَادِ تَشَذُّراً
فضل الوحي
أَنَا وَضَعْتُ فِي الصِّغَرِ بِكَلَاكِلِ الْعَرَبِ وَ كَسَرْتُ نَوَاجِمَ قُرُونِ رَبِيعَةَ وَ مُضَرَ
وَ قَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ( صلىاللهعليهوآله )بِالْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ وَ الْمَنْزِلَةِ الْخَصِيصَةِ وَضَعَنِي فِي حِجْرِهِ وَ أَنَا وَلَدٌ يَضُمُّنِي إِلَى صَدْرِهِ وَ يَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِهِ وَ يُمِسُّنِي جَسَدَهُ وَ يُشِمُّنِي عَرْفَهُ
وَ كَانَ يَمْضَغُ الشَّيْءَ ثُمَّ يُلْقِمُنِيهِ وَ مَا وَجَدَ لِي كَذْبَةً فِي قَوْلٍ وَ لَا خَطْلَةً فِي فِعْلٍ
وَ لَقَدْ قَرَنَ اللَّهُ بِهِ ( صلى الله عليه وآله )مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ الْمَكَارِمِ وَ مَحَاسِنَ أَخْلَاقِ الْعَالَمِ لَيْلَهُ وَ نَهَارَهُ
وَ لَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَخْلَاقِهِ عَلَماً وَ يَأْمُرُنِي بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ
وَ لَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِحِرَاءَ فَأَرَاهُ وَ لَا يَرَاهُ غَيْرِي وَ لَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ
فِي الْإِسْلَامِ غَيْرَ رَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وآله )وَ خَدِيجَةَ وَ أَنَا ثَالِثُهُمَا أَرَى نُورَ الْوَحْيِ وَ الرِّسَالَةِ وَ أَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ
وَ لَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّيْطَانِ حِينَ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْهِ ( صلى الله عليه وآله )فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذِهِ الرَّنَّةُ فَقَالَ هَذَا الشَّيْطَانُ قَدْ أَيِسَ مِنْ عِبَادَتِهِ
إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ وَ تَرَى مَا أَرَى إِلَّا أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيٍّ وَ لَكِنَّكَ لَوَزِيرٌ وَ إِنَّكَ لَعَلَى خَيْرٍ وَ لَقَدْ كُنْتُ مَعَهُ ( صلى الله عليه وآله )لَمَّا أَتَاهُ الْمَلَأُ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَالُوا لَهُ يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ قَدِ ادَّعَيْتَ عَظِيماً لَمْ يَدَّعِهِ آبَاؤُكَ وَ لَا أَحَدٌ مِنْ بَيْتِكَ
وَ نَحْنُ نَسْأَلُكَ أَمْراً إِنْ أَنْتَ أَجَبْتَنَا إِلَيْهِ وَ أَرَيْتَنَاهُ عَلِمْنَا أَنَّكَ نَبِيٌّ وَ رَسُولٌ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ عَلِمْنَا أَنَّكَ سَاحِرٌ كَذَّابٌ
فَقَالَ ( صلى الله عليه وآله )وَ مَا تَسْأَلُونَ قَالُوا تَدْعُو لَنَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ حَتَّى تَنْقَلِعَ بِعُرُوقِهَا وَ تَقِفَ بَيْنَ يَدَيْكَ فَقَالَ ( صلى الله عليه وآله ) إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌفَإِنْ فَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ ذَلِكَ أَ تُؤْمِنُونَ وَ تَشْهَدُونَ بِالْحَقِّ قَالُوا نَعَمْ
قَالَ فَإِنِّي سَأُرِيكُمْ مَا تَطْلُبُونَ وَ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكُمْ لَا تَفِيئُونَ إِلَى خَيْرٍ وَ إِنَّ فِيكُمْ مَنْ يُطْرَحُ فِي الْقَلِيبِ وَ مَنْ يُحَزِّبُ الْأَحْزَابَ
ثُمَّ قَالَ ( صلى الله عليه وآله )يَا أَيَّتُهَا الشَّجَرَةُ إِنْ كُنْتِ تُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ تَعْلَمِينَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَانْقَلِعِي بِعُرُوقِكِ حَتَّى تَقِفِي بَيْنَ يَدَيَّ بِإِذْنِ اللَّهِ
فَوَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ لَانْقَلَعَتْبِعُرُوقِهَا وَ جَاءَتْ وَ لَهَا دَوِيٌّ شَدِيدٌ وَ قَصْفٌ كَقَصْفِ أَجْنِحَةِ الطَّيْرِ حَتَّى وَقَفَتْ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وآله )مُرَفْرِفَةً
وَ أَلْقَتْ بِغُصْنِهَا الْأَعْلَى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله )وَ بِبَعْضِ أَغْصَانِهَا عَلَى مَنْكِبِي وَ كُنْتُ عَنْ يَمِينِهِ ( صلى الله عليه وآله )
فَلَمَّا نَظَرَ الْقَوْمُ إِلَى ذَلِكَ قَالُوا عُلُوّاً وَ اسْتِكْبَاراً فَمُرْهَا فَلْيَأْتِكَ نِصْفُهَا وَ يَبْقَى نِصْفُهَا فَأَمَرَهَا بِذَلِكَ فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ نِصْفُهَا كَأَعْجَبِ إِقْبَالٍ وَ أَشَدِّهِ دَوِيّاً فَكَادَتْ تَلْتَفُّ بِرَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وآله )
فَقَالُوا كُفْراً وَ عُتُوّاً فَمُرْ هَذَا النِّصْفَ فَلْيَرْجِعْ إِلَى نِصْفِهِ كَمَا كَانَ فَأَمَرَهُ ( صلى الله عليه وآله )فَرَجَعَ
فَقُلْتُ أَنَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِنِّي أَوَّلُ مُؤْمِنٍ بِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَ أَوَّلُ مَنْ أَقَرَّ بِأَنَّ الشَّجَرَةَ فَعَلَتْ مَا فَعَلَتْ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى تَصْدِيقاً بِنُبُوَّتِكَ وَ إِجْلَالًا لِكَلِمَتِكَ
فَقَالَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ بَلْ ساحِرٌ كَذَّابٌ عَجِيبُ السِّحْرِ خَفِيفٌ فِيهِ وَ هَلْ يُصَدِّقُكَ فِي أَمْرِكَ إِلَّا مِثْلُ هَذَا يَعْنُونَنِي
وَ إِنِّي لَمِنْ قَوْمٍ لَا تَأْخُذُهُمْ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ سِيمَاهُمْ سِيمَا الصِّدِّيقِينَ وَ كَلَامُهُمْ كَلَامُ الْأَبْرَارِ عُمَّارُ اللَّيْلِ وَ مَنَارُ النَّهَارِ مُتَمَسِّكُونَ بِحَبْلِ الْقُرْآنِ يُحْيُونَ سُنَنَ اللَّهِ وَ سُنَنَ رَسُولِهِ
لَا يَسْتَكْبِرُونَ وَ لَا يَعْلُونَ وَ لَا يَغُلُّونَ وَ لَا يُفْسِدُونَ قُلُوبُهُمْ فِي الْجِنَانِ وَ أَجْسَادُهُمْ فِي الْعَمَلِ
شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج11
و من خطبة له عليه السّلام تسمى بالقاصعة و هى المأة و الحادية و التسعون من المختار فى باب الخطب
قال السيد «ره»: و هي تتضمّن ذم ابليس على استكباره و تركه السجود لادم عليه السّلام و أنّه أوّل من أظهر العصبيّة و تبع الحميّة و تحذير النّاس من سلوك طريقته.
أقول: و هذه الخطبة أبسط خطب النهج و أطولها، و شرحها في فصول، و قد روى بعض فصولها في ساير كتب الأخبار باختلاف تطلع عليه انشاء اللّه تعالى.
الفصل الاول
الحمد للّه الّذي لبس العزّ و الكبرياء، و اختارهما لنفسه دون خلقه، و جعلهما حمى و حرما على غيره، و اصطفاهما لجلاله، و جعل اللّعنة على من نازعه فيهما من عباده، ثمّ اختبر بذلك ملائكته المقرّبين ليميّز المتواضعين منهم من المستكبرين، فقال سبحانه و هو العالم بمضمرات القلوب، و محجوبات الغيوب- إنّي خالق بشرا من طين، فإذا سوّيته و نفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين، فسجد الملائكة كلّهم أجمعون، إلّا إبليس- اعترضته الحميّة، فافتخر على آدم بخلقه و تعصّب عليه لأصله، فعدّو اللّه إمام المتعصّبين، و سلف المستكبرين الّذي وضع أساس العصبيّة، و نازع اللّه رداء الجبريّة، و ادّرع لباس التّعزّز، و خلع قناع التّذلّل. ألا ترون كيف صغّره اللّه بتكبّره، و وضعه بترفّعه، فجعله في الدّنيا مدحورا، و أعدّ له في الاخرة سعيرا، و لو أراد اللّه سبحانه أن يخلق آدم من نور يخطف الأبصار ضياؤه، و يبهر العقول روائه، و طيب يأخذ الأنفاس عرفه، لفعل، و لو فعل لظلّت الأعناق خاضعة له، و لخفّت البلوى فيه على الملائكة، و لكنّ اللّه سبحانه يبتلى خلقه ببعض ما يجهلون أصله، تمييزا بالاختبار لهم، و نفيا للاستكبار عنهم، و إبعادا للخيلاء منهم، فاعتبروا بما كان من فعل اللّه بإبليس إذ أحبط عمله الطّويل، و جهده الجهيد، و كان قد عبد اللّه ستّة آلاف سنة لا يدرى أمن سنّي الدّنيا أم من سنيّ الاخرة عن كبر ساعة واحدة فمن ذا بعد إبليس يسلم على اللّه بمثل معصيته، كلّا ما كان اللّه سبحانه ليدخل الجنّة بشرا بأمر أخرج به منها ملكا، إنّ حكمه في أهل السّماء و الأرض لواحد، و ما بين اللّه و بين أحد من خلقه هوادة في إباحة حمّى حرّمه على العالمين.
اللغة
(قصع) الرجل قصعا من باب منع إذا ابتلع جرع الماء و قصعت الناقة بجرّتهاإذا ردّتها إلى جوفها أو مضغتها أو هو بعد الدسع و قبل المضغ أو هو بأن تملاء فاها أو شدّة المضغ، و قصع الماء عطشه سكّنه، و قصع القملة بالظفر قتلها، و قصع فلانا صغّره و حقّره، و قصع اللّه شبابه أكداه، و قصع الغلام أو هامته ضربه ببسط كفه على رأسه، قيل: و الذى يفعل به ذلك لا يشبّ، و غلام مقصوع و قصيع و قصع كادى الشباب.
و (حمى) الشيء يحميه حميا و حماية و محمية منعه وكلاء حمى مثل رضى محمّى و الحميّة الأنف و (تجبّر) الرجل إذا تكبّر، و الجبّار من الأسماء الحسنى القاهر المتكبّر الذى لا ينال، و الجبّار في المخلوق العاتى المتمرّد، و المتكبّر الّذى لا يرى لأحد عليه حقا، و الجبريّة بكسر الجيم و سكون الباء و الجبريّة بكسرات و الجبريّة بالفتحتين، و الجبريّة بفتح الأوّل و سكون الثاني، و الجبروة بالواو المضمومة و الجبروت و زان برهوت كلّها مصادر بمعني العظمة و الجلالة.
و (ادّرع) الرّجل و تدّرع لبس درع الحديد و (القناع) بالكسر ما تقنع به المرأة رأسها و هو أوسع من المقنعة و (العرف) بفتح الأوّل و سكون الثاني الريح طيّبة أو منتنة و أكثر استعماله في الطيّبة و (الخيلاء) و الخيل و الخيلة الكبر و (الهوادة) اللين و الرخصة و ما يرجى به الصّلاح.
الاعراب
و تحذير في كلام الرضيّ بالنّصب عطف على مفعول تتضمّن و جملة اعترضته استينافية بيانية، و تمييزا مفعول لأجله لقوله يبتلى، و قوله: عن كبر ساعة، متعلق بقوله: احبط، و عن للتعليل كما في قوله تعالى وَ ما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ و على فى قوله: يسلم على اللّه، بمعني من كما في قوله تعالى الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى أى منهم، و قوله: بأمر أخرج به، الباء الاولى للمصاحبة، و الثانية للسببيّة.
المعنى
اعلم أنّ هذه الخطبة الشريفة كما أشرنا إليه أطول خطب هذا الكتاب،و يخطف بالأبصار ضياؤها، و يبهر من العقول رواؤها، و يذهب بالأحلام انسجامها، و قبل الشروع في شرحها فلنقدّم هنا فوايد:
الاولى- في اسمها و وجه تسميتها
قال الرّضي «ره»: تسمّى بالقاصعة، و هي مأخوذة من القصع و المعاني السبعة الّتي ذكرناها لتلك المادّة في بيان اللّغة كلّها ممكنة الارادة هنا.
فعلي المعني الأوّل و الثاني نقول: إنّ المواعظ و النصايح لما كانت في هذه الخطبة متتابعة مردّدة من أوّلها إلى آخرها شبّهت بجرع الماء المتتابعة المبتلعة جرعة بعد جرعة، و بجرات الناقة الّتي تقصع جرّة بعد جرّة.
و على المعنى الثالث فلأنّ هذه الخطبة يذهب شموخ أنف المتكبّرين و اعتلائهم، و يسكن نخوة بأدهم و سموّ غلوائهم إن استمعوا إليها و تدبّروا فيها، فشبّهت بالماء المسكن للعطش.
و أما على المعنى الرابع فلأنّها بما فيها من المذام و المطاعن التي لابليس و جنوده كالقاتلة لهم.
و أما على المعنى الخامس فلتضمّنها تصغير ابليس و تحقيره مع اتباعه، و هذا أحسن المعاني و أنسبها.
و أما على السادس و السابع فلأنها لبلوغها الغاية في ذمّ إبليس و متابعيه من المتكبّرين، و تجاوزها الحدّ و النهاية في الكشف عن سوأتهم، صارت كالقاصعة اللّاطمة على رأسهم، و صار إبليس بذلك كالمقصوع القمىء الذى لا يشبّ و لا يزداد، و كذلك متابعوه.
و قيل هنا وجه آخر: و هو أنّه عليه السّلام حين خطب بهذه الخطبة كان راكبا على ناقته و هى تقصع بجرتها، فأصل الخطبة القاصعة الخطبة الّتي كانت خطابتها على الناقة القاصعة، ثم كثر الاستعمال فخفف و قيل: خطبة القاصعة من اضافة الشيء إلى ملابسه، ثمّ توسّع فيه فجعل القاصعة صفة للخطبة نفسها فقيل: الخطبة القاصعة
الفايدة الثانية
نقلوا في سبب هذه الخطبة أنّ أهل الكوفة كانوا في آخر خلافته عليه السّلام قد فسدوا و كانوا قبايل متعدّدة، فكان الرجل يخرج من منازل قبيلته فيمرّ بمنازل قبيلة اخرى فيصيبه أدنى مكروه فينادى باسم قبيلته، مثلا يا للنخع يا لكندة نداء عاليا يقصد به الفتنة و إثارة الشرّ، فيتألّب عليه فتيان القبيلة، فينادون يا لتميم و يا لربيعة، و يقبلون إلى ذلك الصايح فيضربونه، فيمضى إلى قبيلته فيستصرخها فتثور الفتن و تسلّ السيوف، و لا يكون لها أصل في الحقيقة إلّا تعرّض الفتيان بعضهم ببعض، و كثر ذلك فخرج عليه السّلام على ناقته فخطبهم بهذه الخطبة كسرا لصولتهم.
الفايدة الثالثة
قال السيد «ره» (و هى تتضمّن ذمّ إبليس على استكباره و تركه السجود لادم عليه السّلام و انّه أول من أظهر العصبية و تبع الحميّة و تحذير الناس من سلوك طريقته).
أقول: للّه درّ السيّد فقد وقف على أنجد هذه الخطبة و لم يقف على أغوارها، و خاض في ضحا ضحها و لم يلجج في غمارها، أو أن تقريره قصر عن التعبير بما انطوى عليه ضميره، فانّ الغرض الأصلى لأمير المؤمنين عليه السّلام من هذه الخطبة هو تقريع المتكبّرين، و توبيخ المتجبّرين، و تهديد المستكبرين، و زجرهم و إزعاجهم عن التجبّر و الاستكبار، و ردعهم عن الاتصاف بهذه الصفة الخبيثة الخسيسة و الخصلة الرذيلة و لما كان اقتصاص حال ابليس أبلغ في التأدية إلى هذا الغرض و آكد في مقام الرّد و الابعاد، و أشدّ في التهديد و الايعاد، لا جرم صدّر الكلام باقتضاء الحال و المقام لشرح حال ابليس اللّعين، و أطنب ببيان ما نزل به من النكال العظيم و العذاب الأليم.
و قد ذكرنا في ديباجة الشرح أنّ اللّازم على الخطيب المصقع أن يراعى حسن الابتداء و يصدّر كلامه بما يناسب الغرض المسوق لأجله الكلام.
اذا عرفت ذلك ظهر لك إن كنت من الصناعة أنّ هذه الخطبة تقطر الفصاحة من أعطافها، و تؤخذ البلاغة من ألفاظها، و إن تدبّرت عرفت فيها حسن كفايتهافي أداء ما سيق الكلام لأجله، و أنها في التحذير و التنفير عن الكبر و التهديد و التوعيد و الطرد و الابعاد للمستكبرين كلام ليس فوقه كلام، بل إن أمعنت النظر فيها يظهر لك أنها تالى سورة البراءة، و ما أشبهها بها.
فانّها كما سيقت من أوّلها إلى آخرها لأجل تقريع الكفار و المنافقين و الكشف عن فضايحهم و الافضاح عن مخازيهم و مقابحهم، و افتتحت باظهار البراءة منهم و لأجل ذلك لم تصدّر بالبسملة، لأنّ بسم اللّه للأمان و الرّحمة، و هذه السورة نزلت لرفع الامان بالسّيف، و فاتحتها تشهد بخاتمتها.
فكذلك هذه الخطبة من بدئها إلى ختمها ترهيب و تهويل و تهديد و توعيد و تخويف و تزيد على ذلك حسنا و رواء أن راعى فى مطلعها صناعة براعة الاستهلال فقال: (الحمد للّه الّذى لبس العزّ و الكبرياء) و هو من باب الاستعارة المكنيّة تشبيها للعزّ و الكبرياء باللّباس فيكون ذكر اللّبس تخييلا، و الجامع أنّ اللباس كما يحيط بلابسه فكذلك العزّ و الكبرياء لما كانا محيطين بذاته أى كان ذاته غير فاقد لهما، بل هما عين ذاته لكونهما من صفات الذات فشبّها باللباس الّذى يتلبّس به لابسه.
و يجوز أن يجعل من باب الاستعارة التبعية بأن يستعار اللّبس للاتّصاف، فيكون نسبته إلى العزّ و الكبرياء قرينة للاستعارة، و الجامع أنّ اللباس كما يكون مختصّا بلابسه و به يعرف و يتميّز، فكذلك هذان الوصفان لما كانا مخصوصين بذاته سبحانه استعار لاتّصافه بهما لفظ اللّبس.
و معنى العزّ هو الملك و القدرة و الغلبة و العزيز من أسمائه الحسنى قال الصّدوق: هو المنيع الّذى لا يغلب، و هو أيضا الّذى لا يعادله شيء و أنه لا مثل له و لا نظير و قد يقال للملك كما قال اخوة يوسف: يا ايّها العزيز، أى يا أيّها الملك.
و قال الطبرسى: العزيز القادر الذى لا يصحّ عليه القهر، و الكبرياء هو السلطان القاهر و العظمة القاهرة و العلوّ و الرفعة، هذا.
و انما قلنا إنّ العزّ و الكبرياء من صفات الذّات، لأنّ صفة الذات ما لا يصحّسلبه عنه سبحانه و لا يصح تعلّق القدرة عليه.
قال صدر المتألهين في شرح الكافى في الفرق بين صفة الذات و صفة الفعل: إنّ القدرة صفة ذاتية تتعلّق بالممكنات لا غير، و نسبتها بما هى قدرة إلى طرفى الشيء الممكن على السواء، فلا يتعلّق بالواجب و لا بالممتنع، فكلّ ما هو صفة الذات فهو أزلى غير مقدور، و كلّ ما هو صفة الفعل فهو ممكن مقدور، و بهذا يعرف الفرق بين الصّفتين فاذا نقول: لما كان علمه بالأشياء ضروريّا واجبا بالذات و عدم علمه بها محالا ممتنعا بالذات فلا يجوز أن يقال: يقدر أن يعلم و لا يقدر أن لا يعلم، لأنّ أحد الطرفين واجب و الاخر ممتنع بالذات، و مصحّح المقدوريّة هو الامكان، و كذا الكلام في صفة الملك و العزّة و الحكمة و الجود و غيرها من صفات الذات كالعظمة و الكبرياء و الجلال و الجمال و الجبروت و أمثالها، و هذا بخلاف صفات الفعل.
ثمّ لما كان المستفاد من قوله: لبس العزّ و الكبرياء اتّصافه سبحانه بهما و لم يستفد منه اختصاصهما به تعالى الاختصاص الحقيقى المفيد لعدم جواز اتّصاف الغير بهما، لا جرم أكدّ ذلك بقوله: (و اختارهما لنفسه دون خلقه) و المراد باختيارهما لذاته تفرّده باستحقاقهما لذاته، فانّ المستحقّ للعزّ و الكبرياء بالذات ليس إلّا هو و أما غيره سبحانه فعزّه و عظمته و ملكه عرضية مستفادة منه عزّ و جلّ كما قال قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَ تَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَ تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَ تُذِلُّ مَنْ تَشاءُ فهذان الوصفان مثل ساير الصفات الذاتية، فكما أنّ العلم و القدرة إذا نسبا إليه سبحانه و قيل: إنه عالم قادر يراد به أنه عالم بذاته و العلم ذاته و قادر بذاته و القدرة ذاته، و إذا نسبا إلى المخلوق و قيل: زيد عالم قادر يراد به أنه عالم بعلم زايد على ذاته و يقدر بقدرة زايدة على ذاته، فكذلك إذا قيل: فلان عزيز عظيم يراد به أنه عزيز بعزّة زايدة و عظيم بعظمة كذلك، و أما إذا قيل: اللّه عزيز عظيم فعزّته و عظمته عين ذاته.
و أيضا فالعزّ و العظمة في اللّه هو العزّ المطلق و العظمة القاهرة المطلقة لايستحقّهما غيره، و أما في المخلوق فهو عزّ ناقص و عظمة ناقصة فقول اخوة يوسف «يا ايها العزيز» أرادوا أنّه عزيز مصر، فالعزّ المطلق للّه الواحد القهار المتكبّر العزيز الجبّار«» و له الكبرياء في السموات و الأرض و هو العزيز الحكيم.
فقد علم بذلك أنّ العزّ المطلق الكامل و الكبرياء أى السلطان القاهر للّه سبحانه و من الصّفات المخصوصة به تعالى، فلا يجوز لغيره أن يتعزّز و يتكبّر و يدّعى العزّ و الكبرياء لنفسه.
و الى هذا ينظر ما في الحديث القدسى قال أبو هريرة: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول اللّه تبارك و تعالى: الكبرياء ردائى و العظمة ازارى فمن نازعنى واحدا منهما ألقيته فى جهنّم و لا ابالى.
و في رواية أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال أبو جعفر عليه السّلام: العزّ رداء اللّه و الكبرياء ازاره فمن تناوله شيئا منه أكبّه اللّه في جهنّم، هذا.
و قد تقدّم تفصيل الكلام في بيان حقيقة الكبر و الأدلّة الواردة فى ذمّها و مفاسدها بما لا مزيد عليه في شرح المختار المأة و السابع و الأربعين.
(و جعلهما حمى و حرما على غيره) تشبيههما بهما باعتبار أنّ الحمى كما يحمى من أن يتصرّف فيه الغير و يحفظ من أن يحام حوله، و لو دخله الغير كان مسؤلا مؤاخذا، فكذلك هذان الوصفان مخصوصان به سبحانه ليس لأحد أن يحوم حولهما و يدّعيهما لنفسه و لو ادّعاهما كان معاقبا مدحورا.
(و اصطفاهما لجلاله) أى لتقدّسه و علوّه عن شبه مخلوقاته (و جعل اللعنة على من نازعه فيهما من عباده) أى جعل الطرد و الابعاد عن الرّحمة و الدخول فى النار و العذاب على المتكبّرين المتعزّزين المجادلين للّه سبحانه فى عزّه و سلطانه قال «أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ» و قال «فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ» (ثمّ اختبر بذلك ملائكته المقرّبين) أى اختبرهم بالتكبّر و عدمه، أىعاملهم معاملة المختبر الممتحن فهو استعارة تبعية لأنّ حقيقة الاختبار و هو طلب الخبرة و المعرفة بالشيء محال على اللّه العالم بالسراير و الخبير بالصدور و الضمائر، و إنما هو في حقّ من لا يكون عارفا و لكن لما كان شانه أن لا يجازى عباده على ما يعلمه منهم أنهم سيفعلونه قبل أن يقع ذلك الفعل، و إنما يجازيهم على تكليفهم بما كلّفهم به فيثيب المطيعين منهم و يعاقب العاصين، فأشبه ذلك باختبار الانسان لعبيده و تميزه لمن أطاعه ممّن عصاه فاختباره لهم مجاز عن تكليفه إيّاهم و تمكينه لهم من اختيار أحد الأمرين، ما يريده اللّه و ما يشتهيه العبد، و قد عرفت الكلام في تحقيق اختباره أبسط من ذلك في شرح المختار الثاني و الستين.
و الحاصل أنّه سبحانه امتحن بذلك ملائكته و هو يعلم المفسد من المصلح ليهلك من هلك عن بيّنة و يحيى من حىّ عن بيّنة.
و (ليميز المتواضعين منهم من المستكبرين) فيثيب الأوّلين و هم من أصحاب اليمين بجنّة عرضها السماوات و الأرضين، و يعاقب الاخرين و هم من أصحاب الشمال بالجحيم و لبئس مثوى المتكبّرين.
(فقال سبحانه و هو العالم بمضمرات القلوب و محجوبات الغيوب) جملة معترضة أدمجها بين القول و مقوله تنزيها له سبحانه عن كون اختباره عن جهل كما فى غيره، و الاعتراض هنا كما في قوله تعالى «يَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَ لَهُمْ ما يَشْتَهُونَ» يعنى أنّه تعالى اختبر ملائكته بأن قال لهم مع عمله بباطنهم: (انى خالق بشرا من طين فاذا سوّيته و نفخت فيه من روحى فقعوا له ساجدين) يعني إذا عدلت خلقته و أتممت أعضاءه و صورته و أحييته و جعلت فيه الروح، و اضافة الروح الى نفسه للتشريف، و معنى نفخت فيه إفاضته عليه من غير سبب و واسطة كالولادة المؤدّية إلى ذلك، فانّ اللّه شرّف آدم و كرّمه بهذه الحالة، و قد مضى تفصيل الكلام في شرح خلقة آدم عليه السّلام بما لا مزيد عليه في شرح الفصل العاشر من المختار الأوّل (فسجد الملائكة كلّهم أجمعون) طاعة لأمر ربّ العالمين (الّا ابليس) استكبر و كان من الكافرين، و قد مضى تفصيل الكلام في أمر الملائكة بالسجود له و كيفيّةسجدتهم و إباء إبليس عنها و ساير ما يتعلّق بهذا العنوان فى شرح الفصل الحادى عشر من المختار الأوّل فليتذكّر، و أشار إلى علّة امتناع إبليس من السجدة بقوله: (اعترضته الحميّة) و العصبيّة و الانيّة (فافتخر على آدم بخلقه و تعصّب عليه لأصله) أى تعزّز بخلقة النار و استوهن خلق الصلصال فقال «قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ» «قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ».
و فى الحقيقة استفهامه ذلك كان اعتراضا على اللّه عزّ و جلّ و إنكارا عليه بأنه كيف يسوغ له أن يأمر الأشرف بتعظيم الأدنى و يرجّح المخلوق من الطين على المخلوق من النّار.
و قد غلط الملعون فى اعتراضه و أخطأ في قياسه، حيث قصر نظره بما للنار من النور و لم يمعن النظر فيما لادم من النور الذى يضحى عنده كلّ نور و هو نور الأشباح الخمسة الذى كان آدم وعاء له و كان أمر الملائكة بالسّجود لأجله، و قد بيّنا فساد قياس الملعون في شرح الفصل الحادى عشر من المختار الأوّل بوجوه عديدة (فعدوّ اللّه) إبليس (امام المتعصّبين) و مقتديهم حيث إنّه أوّل من أسّس أساس العصبية (و سلف المستكبرين) و مقدمهم لأنه أوّل من بنا بنيان الاستكبار و النخوة و اليه أشار بقوله: (الذى وضع أساس العصبيّة و نازع اللّه رداء الجبريّة) جعل استكباره و ادّعاءه لما ليس له و انتحاله للصفة الخاصة باللّه سبحانه و هو صفة الكبرياء و الجبروت بمنزلة منازعته إياه سبحانه، فتجوّز بلفظ المنازعة عن ذلك.
و بعبارة أوضح كما أنّ من نازع لاخر في شيء يريد أن يجذب باب النزاع إلى نفسه و يستأثر به، فكذلك ذلك الملعون لتكبّره صار بمنزلة المنازع للّه المريد للاستيثار بصفة الكبرياء.
(و ادّرع لباس التعزّز) و التجبّر الذى هو وظيفة الرّبوبيّة (و خلع قناع التذلّل) و التواضع الذى هو وظيفة العبوديّة.
و لما قصّ قصة إبليس أمر المخاطبين بالنظر فيما آل اليه أمره و أثمره كبره ليحذروا من اقتفاء أثره، و يجتنبوا من سلوك سننه فقال: (ألا ترون كيف صغره اللّه بتكبره و وضعه بترفعه) و تجبّره (فجعله في الدّنيا) مذموما (مدحورا) و قال قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ. رَجِيمٌ وَ إِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ (و أعدّ) اللّه (له في الاخرة سعيرا) و قال «لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ» ثمّ نبّه على نكتة خلقة آدم عليه السّلام من الطين بقوله (و لو أراد اللّه سبحانه أن يخلق آدم عليه السّلام من نور يخطف الأبصار) أى يسلبها و يأخذها (ضياؤه و يبهر العقول رواؤه) أى يغلبها حسن منظره (و طيب يأخذ الأنفاس عرفه) أى ريحه و عطره (لفعل) لأنه أمر ممكن مقدور و هو سبحانه على كلّ شيء قدير (و لو فعل) ذلك (لظلّت الأعناق خاضعة له و لخفت البلوى فيه على الملائكة) يعنى أنه سبحانه لو أراد أن يخلق آدم في بدء خلقته من نور باهر يخطف سنا برقه بالأبصار لكان مقدورا له سبحانه، و لو خلقه كذلك لصارت أعناق الملائكة و ابليس خاضعة منقادة له، و يسهل عليهم الامتحان في سجود آدم عليه السّلام و لم يشق عليهم تحمل ذلك التكليف، و لساغ لهم السجود له و طاب أنفسهم به لما رأوا من شرف جوهره و علوّ مقامه و فضل خلقته، لأنّ الشريف جليل القدر إنما يأبى و يستنكف من الخشوع و الخضوع لمن هو دونه، و لذلك قال ابليس اللعين خلقتني من نار و خلقته من طين، و أما من كان أصله مناسبا لأصله و مقارنا له في الشرف أو أعلى رتبة منه فلا، و خفّ حينئذ البلوى.
(و لكن اللّه سبحانه) لم يرد ذلك و لم يتعلّق مشيّته بخلقه من نور وصفه كيت كيت، و إنما خلقه من طين و صلصال من حماء مسنون ليصعب تحمّل التكليف سجوده و يثقل حمله، فيتميّز بذلك المحسن من المسىء و المطيع من العاصى، و يستحقّ المطيع له على ثقله مزيد الزلفى و الثواب لكون اطاعته عن محض الخلوص و التعبّد و التسليم و الانقياد، و يستحقّ العاصى لأليم العقاب لأجل كشف عصيانه عن كونهفي مقام التمرّد و الانية و العناد.
و كذلك جرت عادة اللّه سبحانه على أن (يبتلى خلقه ببعض ما يجهلون أصله تمييزا بالاختبار لهم، و نفيا للاستكبار عنهم، و ابعادا للخيلاء منهم) يعنى أنّه سبحانه يكلّفهم بأحكام لا يعلمون دليلها و سرّها و نكتتها و الغرض منها، ليميّز المنقاد من المتمرّد و المتذلّل من المستكبر.
ألا ترى أنّ أكثر الأحكام الشرعيّة الّتي في شرعنا مما لم يستقلّ العقل بحكمه من هذا القبيل.
و كذلك غالب أحكام ساير الشرائع تعبّديات صرفة، مثل وجوب حمل الامم السالفة قرا بينهم على أعناقهم إلى بيت المقدّس، فمن قبل قربانه جائته نار فأكلته، فانّ علّة وجوب حملها على الأعناق و نكتة ذلك التكليف الشاقّ غير معلومة.
و كذا المصلحة في إحراق القربان ذى الحياة بالنّار ممّا لا نفهمها.
و مثل ما امتحن اللّه به جنود طالوت من شرب الماء حيث قال «فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي».
و مثله ما اختبر به اصحاب السّبت من نهيهم عن الصيد في يوم السّبت، فانّ العقل لا يفرق بين أيام الاسبوع و لا يدرك قبح الصّيد في ذلك اليوم وجهة النهي عنه و حسنه في ساير الأيام و جهة إباحته، فانظر الى عظم البلوى في ذلك التكليف كيف أوقعهم التعدّى عنه في الخزى العظيم. فكانوا قردة خاسئين.
كما قال سبحانه وَ سْئَلْهُمْ أى اليهود «وَ سْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَ يَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما إلى قوله فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ. السُّوءِ وَ أَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ فَلَمَّا.
قال في تفسير الامام قال عليّ بن الحسين عليه السّلام قال اللّه عزّ و جلّ فَلَمَّا عَتَوْا صاروا و أعرضوا و تكبّروا عن قبول الزّجر عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ مبعدين من الخير مبغضين، هذا.
و لما ذكر عليه السّلام من بدء الخطبة إلى هنا اختصاص وصف العزّ و الكبرياء بالربّ الأعلى و أنّ المنازع له فيهما ملعون مطرود من مقام الزلفي، و نبّه على أنّ إبليس اللعين استحقّ النار و سخط الجبّار للتعزّز و الترفّع و الاستكبار، تخلّص إلى غرضه الأصلي من خطابة هذه الخطبة و هو نصح المخاطبين، فأمرهم بالاعتبار بحال هذا الملعون، و أنه كيف أحبط أعماله الّتي عملها في المدّة المتطاولة، و الوف من السّنين بتكبّره و تمرّده عن أمر ربّ العالمين فقال: (فاعتبروا بما كان من فعل اللّه بابليس إذ أحبط) أى أبطل ثواب (عمله الطويل و جهده الجهيد) أى اجتهاده المستقصى و سعيه البالغ إلى النهاية (و كان قد عبد اللّه (ستة آلاف سنة) و هكذا في رواية البحار المتقدّمة في شرح الفصل الحادى عشر من المختار الأوّل عن العياشي عن ابن عطية عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إنّ إبليس عبد اللّه في السماء في ركعتين ستة ألف سنة، لكن في رواية القمّي المتقدّمة هناك عن زرارة عنه عليه السّلام أنه ركعهما في أربعة آلاف سنة، و في رواية اخرى في ألفي سنة، و في رواية رابعة في سبعة ألف سنة.
قال المحدّث العلّامة المجلسي «ره» و يمكن دفع التنافي بين أزمنة الصلاة و السجود بوقوع الجميع أو بصدور البعض موافقا لأقوال العامة تقيّة.
و قوله (لا يدرى أمن سنّي الدّنيا أم سنّي الاخرة) لا دلالة فيه على عدم علمه عليه السّلام بذلك إذ لفظ يدرى بصيغة المجهول و يكفى في صدقه جهل المخاطبين به و إنما لم يفسّره لهم لما كان يعلمه عليه السّلام في إبهامه من المصلحة كعدم تحاشي السامعين من طول المدّة.
و روى الشارح البحراني من نسخة الرّضي ما لا ندرى بصيغة المتكلّم مع الغير، و هو أيضا لا يستلزم جهله عليه السّلام لأنّ غيره لا يدرونه فغلبهم على نفسه و باب التغليب باب واسع في المجاز.
أمّا مدّة سنى الاخرة فقد اشير إليها في قوله سبحانه في سورة الحجّ «وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَ لَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَ» قال ابن عباس و مجاهد و عكرمة و ابن زيد فيتفسيرها: إنّ يوما من أيام الاخرة يكون كألف سنة من أيام الدّنيا.
و في الصافى من إرشاد المفيد عن الباقر عليه السّلام في حديث: و أخبر أى اللّه سبحانه بطول يوم القيامة و أنّه كألف سنة مما تعدّون.
و نظير هذه الاية قوله تعالى في سورة السجدة يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ روى في مجمع البيان عن ابن عباس في هذه الاية أنّ معناها يدبّر اللّه سبحانه أمر الدنيا فينزل القضاء و التدبير من السماء إلى الأرض مدّة أيام الدّنيا، ثمّ يعرج الأمر و يعود التدبير اليه بعد انقضاء الدّنيا و فنائها حتّى ينقطع أمر الأمراء و حكم الحكام و ينفرد اللّه بالتدبير في يوم كان مقدار ألف سنة، و هو يوم القيامة فالمدّة المذكورة هو مدّة يوم القيامة إلى أن يستقرّ الخلود في الدارين.
قال الطبرسىّ: و يدلّ عليه ما روى إنّ الفقراء يدخلون الجنّة قبل الأغنياء بنصف يوم خمسمائة عام.
فان قلت: فما تقول لقوله سبحانه فى سورة المعارج تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ و ما وجه الجمع بينه و بين الايتين السالفتين قلت: ربما يجمع بينهما بأنّ المراد باية السجدة أنّ الملائكة ينزل بالتدبير و الوحى و يصعد إلى السماء في يوم واحد من أيام الدّنيا مسافة ألف سنة مما تعدّون.
لأنّ ما بين السماء و الأرض مسيرة خمسمائة عام لابن آدم، فيكون نزوله خمسمائة عام و صعوده خمسمائة عام، فمسافة الصعود و النزول إلى السماء الدّنيا في يوم واحد للملك مقدار مسيرة ألف سنة لغير الملك.
و المراد باية المعارج هو مسافة الصعود و النزول إلى السماء السابعة، فانها مقداره مسيرة خمسين ألف سنة.
و يؤيّده ما عن الاحتجاج عن أمير المؤمنين عليه السّلام و قد ذكر النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: اسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى مسيرة شهر، و عرج به في ملكوت السّماوات مسيرة خمسين ألف عام أقلّ من ثلث ليلة انتهى إلى ساق العرش هذاو قد يجمع بينهما بأنّ الايتين المتقدّمتين محمولتان على مدة يوم القيامة و الاية الأخيرة اريد بها بيان مدّة الدّنيا، يعني أنّ أوّل نزول الملائكة في الدّنيا و أمره و نهيه و قضائه بين الخلايق إلى آخر عروجهم إلى السّماء و هو يوم القيامة خمسون ألف سنة، فيكون مقدار الدّنيا هذه المدّة لا يدرى كم مضى و كم بقى و إنّما يعلمها اللّه سبحانه.
فان قلت: هذان الوجهان و إن كان يرفع بها التنافي بين الايات إلّا أنّه على البناء على الوجه الأول لا يبقى في الايتين دلالة على كون مقدار يوم الاخرة ألف سنة كما هو المقصود، و على الثاني فدلالتهما مسلمة لكنه ينافي ما ذكرتم فى الاية الثالثة من أنّ المراد بها بيان مدّة الدّنيا ما رواه فى الكافى عن الصّادق عليه السّلام إنّ للقيامة خمسين موقفا كلّ موقف مقام ألف سنة ثمّ تلا «تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ» فانّ هذه الرواية كما ترى تدلّ على أنّ مقدار القيامة خمسون ألفا، و أنّ الاية ناظرة إلى ذلك.
قلت: يمكن الجواب عنه بما أجاب به الطبرسىّ حيث قال بعد ما روى عن ابن عباس كون مقدار يوم القيامة ألف سنة، فأمّا قوله في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، فانه أراد سبحانه على الكافر جعل اللّه ذلك اليوم عليه مقدار خمسين ألف سنة، فانّ المقامات في يوم القيامة مختلفة، انتهى.
يريد أنّه يطول ذلك اليوم في نظر الكافر هذه المدّة لشدّة عذابه، و أمّا في حقّ المؤمن فلا.
و يرشد إليه ما رواه الطبرسى عن أبى سعيد الخدري قال: قيل: يا رسول اللّه ما أطول هذا اليوم فقال: و الذى نفس محمّد بيده إنه ليخفّ على المؤمن حتى يكون أخفّ عليه من صلاة مكتوبة يصلّيها في الدّنيا.
و هذا كما يقال فى المثل: أيّام السرور قصار و أيّام الهموم طوال، و يقال أيضا سنة الفراق سنة و سنة الوصال سنة، قال الشاعر:
يطول اليوم لا ألقاك فيه
و حول نلتقى فيه قصير
هذا ما يستنبط من الأدلّة في هذا المقام و العلم عند اللّه و عند حججه الكرام عليهم الصّلاة و السّلام، هذا.
و بعد البناء على أنّ مقدار يوم من أيام الاخرة ألف سنة من أيّام الدّنيا يكون مدّة عبادة إبليس في السّماء إذا كانت ستّة آلاف سنة من سنّى الاخرة هو ألفا ألف ألف و مأئة ألف ألف و ستّون ألف ألف سنة من سنى الدّنيا، و لما رأى أمير المؤمنين عليه السّلام عدم تحمّل أذهان أكثر السّامعين لذلك أبهم القول عليهم، و قال: لا يدرى أمن سنى الدّنيا أم سنى الاخرة.
(عن كبر ساعة واحدة) أى أحبط عمله الذي بلغ ما بلغ لأجل كبر ساعة واحدة (فمن ذا الذي بعد ابليس يسلم على اللّه بمثل معصيته) استفهام إنكارىّ إبطالي، أى من الّذي يبقى بعد ابليس سالما من عذابه و سخطه سبحانه و قد جاء بمثل معصيته و اتّصف بصفته.
(كلّا) حرف ردع أتى بها تأكيدا لما استفيد من الجملة السّالفة و تنبيها على أنّ زعم السّلامة من العذاب للمتكبر فاسد و مدّعيه كاذب إذ (ما كان اللّه سبحانه ليدخل الجنّة بشرا) مصاحبا و متلبسا (بأمر) ذي ذنب (أخرج به) أى بسبب ذلك الذنب (منها ملكا) و كيف يتوهّم ذلك و الحال أنّ البشر لو قيس عمله إلى عمله و جهده و إن استقصى إلى جهده لم يكن إلّا نسبة القطر إلى البحر.
و التعبير عن ابليس بالملك لكونه في السّماء و طول مخالطته بالملائكة لما قدّمنا في شرح الفصل الحادى عشر من المختار الأوّل من الأدلّة على أنه كان من الجنّ دون الملائكة.
و لما كان هنا مظنة أن يعترض معترض و يقول: إنا لا نسلم استلزام إخراج الملك لعدم إدخال البشر إذ يمكن أن يكون إخراجه مستندا إلى كمال قربه فانّ أدنى ذنب من المقرّبين يقع في موقع عظيم و أمّا البشر فلعدم قربه ذلك القرب لا يؤثر ذنبه ذلك التأثير فيجوز دخوله في الجنّة و إن أذنب مثل ذنب الملك و أيضافمن الجايز أن يكون تحريمه للتكبّر مخصوصا بأهل السّماء فقط أجاب«» عليه السّلام عن ذلك الاعتراض على طريق الاستيناف البياني بقوله: (ان حكمه في أهل السّماء و الأرض لواحد و ما بين اللّه و بين أحد من خلقه هوادة في إباحة حمى حرمه على العالمين).
و محصّل الجواب أنّ حكمه في أهل السّماء و الأرض واحد لا اختلاف فيه و المطلوب من الجمع أن يكونوا داخرين في رقّ العبوديّة و يعرفوا ربّهم بالعظمة و الربوبيّة، و قد جعل الكبرياء رداءه و العظمة إزاره و اختارهما لنفسه و جعلهما حمى و حرما على غيره و حرّم على جميع العالمين من أهل السّماء و الأرضين أن يحوموا حوم ذلك الحمى و ينازعوه فيهما كما عرفته في أوّل شرح هذا الفصل مفصّلا.
و على ذلك فلا يبقى احتمال إباحة لأحد في دخول ذلك الحمى، و لا تجويز أن يكون بينه و بينه هوادة و محابة و رخصة في تلبّس لباس العزّ و الكبرياء، فمن انتحل شيئا منهما سواء كان من أهل الأرض أو من أهل السّماء صار محروما من الجنان و منازل الأبرار، مستحقا للنيران و مهاوى الفجار و لبئس مثوى المتكبّرين و مهوى المستكبرين
الترجمة
از جمله خطب شريفه آن بزرگوار است كه معروف است بخطبه قاصعه از جهت اين كه متضمّن تحقير شيطان ملعون است.
سيّد رضي «ره» گفته كه اين خطبه متضمّن است مذمّت ابليس را بر سركشى و تكبّر او و ترك كردن او سجده نمودن جناب آدم عليه السّلام را و اين را كه او أوّل كسى است كه اظهار سركشى نمود و متابعت غيرت و حميت كرد، و متضمن است ترساندن مردمان را از رفتن راه او.
و شرح آن در ضمن چند فصل است فصل أوّل مى فرمايد: حمد و ثنا معبود بحقى را سزاست كه پوشيده لباس عزّت و بزرگوارى راو اختيار فرموده اين دو وصف را براى ذات خود نه از براى خلق خود، و گردانيده آن دو صفت را قوروق و حرام بر غير خود، و برگزيده اين هر دو را براى جلال خود، و گردانيده لعنت را بر كسى كه منازعت نمايد با او در آن دو وصف از بندگان خود، پس از آن امتحان فرموده با اين ملائكه مقرّبين خود را تا اين كه تميز بدهد متواضعان ايشان را از متكبّران، پس فرمود خداوند سبحانه و حال آنكه عالم است به پنهانىهاى قلبها و پوشيدههاى غيبها- بدرستى كه من آفرينندهام بشرى را از گل پس زمانى كه تمام نمودم خلقت او را و دميدم در او روحى را كه پسنديده من است پس بر رو در افتيد از براى إكرام او در حالتى كه سجده كنندگان باشيد، پس سجده كردند ملائكه همه ايشان بهيئت اجتماع مگر ابليس- ملعون كه عارض شد او را حميّت و عصبيّت، پس فخر كرد بر آدم بسبب خلقت خود، و متعصّب شد بر او از جهت أصل خود كه آتش بود.
پس دشمن خدا امام متعصّبين است و پيشرو متكبّرين كه نهاد بنياد عصبيّت را و نزاع كرد در رداء كبرياء و عظمت، و پوشيد لباس عزّت را، و بر كند لباس ذلّت را.
آيا نمىبينيد چگونه تصغير و تحقير نمود او را خداى تعالى بسبب تكبّر او، و پست كرد او را بجهت بلند پروازى او، پس گردانيد در دنيا او را رانده شده از رحمت، و مهيا فرمود از براى او در آخرت آتش بر افروخته را، و اگر مىخواست خداى تعالى كه خلق نمايد جناب آدم عليه السّلام را از نورى كه بربايد ديدها را روشنى آن، و غلبه نمايد بر عقلها نضارت زيبائى آن، و از عطرى كه بگيرد نفسها را بوى خوش آن، هر آينه مى نمود.
و اگر مىنمود خلقت آن را باين قرار هر آينه مى گرديد از براى آن گردنها خضوع كننده، و هر آينه سبك مىشد امتحان در خصوص آن بر ملائكه، و لكن حق سبحانه و تعالى امتحان مى فرمايد مخلوقات خود را ببعض چيزها كه جاهل باشند بأصل آن از جهت تميز دادن ايشان بسبب امتحان، و از جهت سلب نمودن گردن كشى رااز ايشان، و از جهت دور گردانيدن تكبّر و تجبّر را از ايشان.
پس عبرت بگيريد با آنچه كه شد از كار خدا در حق ابليس زمانى كه باطل نمود عمل دراز او را وجد و جهد بى اندازه او را و حال آنكه عبادت كرده بود خدا را در ظرف شش هزار سال معلوم نبود كه آيا آن سالها از سالهاى دنيا بود يا از سالهاى آخرت از جهت كبر يك ساعت.
پس كيست بعد از ابليس كه سلامت بماند از عذاب پروردگار كه اقدام نموده باشد بمثل معصيت ابليس، همچنين نيست، نيست خدا كه داخل نمايد در بهشت آدمى را بامرى كه خارج نمود بسبب آن أمر از بهشت ملكى را، بدرستى كه حكم خداوند در حق أهل آسمان و زمين يكى است، و نيست ميان خدا و ميان هيچ أحدى از خلق أو رخصت و محبّت در مباح ساختن قوروقي را كه حرام گردانيده آن را بر جميع عالميان.
الفصل الثاني
فاحذروا عباد اللّه عدوّ اللّه أن يعديكم بدائه، و أن يستفزّكم بخيله و رجله، فلعمري لقد فوّق لكم سهم الوعيد، و أغرق لكم بالنّزع الشّديد، و رماكم من مكان قريب- و قال ربّ بما أغويتني لازيّننّ لهم في الأرض و لاغوينّهم أجمعين- قذفا بغيب بعيد، و رجما بظنّ مصيب، صدّقه به أبناء الحميّة، و إخوان العصبيّة، و فرسان الكبر و الجاهليّة، حتّى إذا نقادت له الجامحة منكم، و استحكمت الطّماعية منه فيكم، فنجمت الحال من السّرّ الخفيّ إلى الأمر الجليّ، استفحل-سلطانه عليكم، و دلف بجنوده نحوكم، فأقحموكم و لجأت الذّلّ، و أحلّوكم و رطات القتل، و أوطاوكم أثخان الجراحة، طعنا في عيونكم و حزّا في حلوقكم، و دقّا لمناخركم، و قصدا لمقاتلكم، و سوقا بخزائم القهر إلى النّار المعدّة لكم، فأصبح أعظم في دينكم جرحا، و أورى في دنياكم قدحا، من الّذين أصبحتم لهم مناصبين، و عليهم متألّبين. فاجعلوا عليه حدّكم، و له جدّكم، فلعمر اللّه لقد فخر على أصلكم، و وقع في حسبكم، و دفع في نسبكم، و أجلب بخيله عليكم و قصد برجله سبيلكم، يقتنصونكم بكلّ مكان، و يضربون منكم كلّ بنان، لا تمتنعون بحيلة، و لا تدفعون بعزيمة، في حومة ذلّ، و حلقة ضيق، و عرصة صوت، و جولة بلاء. فاطفئوا ما كمن في قلوبكم من نيران العصبيّة، و أحقاد الجاهليّة فإنّما تلك الحميّة تكون في المسلم من خطرات الشّيطان و نخواته و نزغاته و نفثاته، و اعتمدوا وضع التّذلّل على رؤسكم، و إلقاء التّعزّز تحت أقدامكم، و خلع التّكبّر من أعناقكم، و اتّخذوا التّواضع مسلحة بينكم و بين عدوّكم إبليس و جنوده، فإنّ له من كلّ أمّة جنودا و أعوانا، و رجلا و فرسانا.
و لا تكونوا كالمتكبّر على ابن أمّه من غير ما فضل جعله اللّه فيه سوى ما ألحقت العظمة بنفسه من عداوة الحسد، و قدحت الحميّة في قلبه من نار الغضب، و نفخ الشّيطان في أنفه من ريح الكبر الّذي أعقبه اللّه به النّدامة، و ألزمه آثام القاتلين إلى يوم القيمة.
اللغة
(أعداه) الداء أصابه مثل ما بصاحب الداء و في كلام العرب إنّ الجرب ليعدي أى يجاوز من صاحبه إلى من قاربه، و العدوى و زان جدوى ما يعدى من جرب و غيره و (الرجل) بفتح الراء و سكون الجيم اسم جمع لراجل مثل ركب راكب و (فوق) السهم و زان قفل موضع الوتر و الجمع أفواق و فوّقت السّهم تفويقا جعلت له فوقا و إذا وضعت السّهم في الوتر لترمى به قلت أفقته إفاقة و رجمته رجما من باب نصر ضربته بالرجم و هو الحجارة و (جمح) الفرس اعتزّ راكبه و غلبه و (طمع) فيه طمعا و طماعا و طماعيّة حرص عليه و (نجم) الشيء نجوما طلع و ظهر و (دلف) دلفا و دلفانا مشى مشى المقيّد و فوق الدّبيب، و دلفت الناقة بحملها نهضت به.
و (الولجة) محرّكة كهف يستتر فيه المارّة من مطر و غيره و (أوطأه) فرسه إذا حمله عليه فوطئه و أوطأوهم جعلوهم يوطئون قهرا و (أثخن) في القتل اثخانا أى أكثر منه و بالغ و أثخنته أوهنته بالجراحة و أضعفته قال سبحانه حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ» أى غلبتموهم و كثر فيهم الجراح و (الخزائم) جمع خزامة و هى حلقة من شعر تجعل في وترة أنف البعير فيشدّ فيها الزّمام و (ورى) الزند يرى و ريا من باب وعد خرجت ناره، و في لغة ورى يرى بالكسر فيهما، و أورى بالألف أخرج ناره و (القدح) بالفتح إخراج النار من الزّند يقال قدح بالزند رام الايراد به و قدح فيه طعن و (الحومة) معظم الماء و الحرب و غيرهما و (النزغ) الافساد و (المسلحة) بفتح الميم قال فيالنهاية القوم الذين يحفظون الثغر من العدوّ يكونون ذوى سلاح، أو لأنّهم يسكنون المسلحة و هي كالثغر و المرقب يرقبون العدوّ لئلّا يطرقهم على غفلة انتهى، و فى القاموس: المسلحة بالفتح الثغر و القوم ذو و سلاح.
الاعراب
قوله: أن يعديكم في محلّ النصب بدل من عدوّ اللّه، و الباء في قوله: بدائة للتعدية و في قوله: بما أغويتنى، للقسم، و ما مصدريّة، و جوابه لازيننّ، و قيل: إنها سببيّة و على التقديرين فمفعول ازيننّ محذوف أى ازيننّ لهم المعاصى، و قذفا و رجما منتصبان على الحال، و هما مصدران بمعنى الفاعل، و الباء في قوله: صدقه به، بمعنى في، و جملة صدقه في محلّ الجرّ صفة ظنّ، و روى صدقه أبناء الحميّة بدون لفظ به، و استفحل جواب حتّى إذا.
و اثخان الجراحة بالنصب مفعول أوّل لأوطئوكم كما في قولك: أعطيت درهما زيدا، أى جعلوا اثخان الجراحة واطئا لهم، لا أنه جعلهم واطئين له على أنّه مفعول ثان كما توهّمه الشارح المعتزلي، أو أنه منصوب بنزع الخافض أى جعلوهم موطوئين باثخان«» الجراحة قهرا و غلبة، و على التقديرين فقوله: طعنا و حزا و دقا كلّها منصوب على الابدال من اثخان، و قصدا و سوقا منصوبان على المصدر، و العامل محذوف، و يجوز انتصاب المنصوبات الخمسة جميعا على المصدر.
و في بعض النسخ أوطأوكم لاثخان الجراحة، باللّام على المفعول له، و على هذا فالمنصوبات الثلاثة الاول يحتمل كونها مفاعيل أوطأوا، أى أوطأوكم الطعن أى جعلوا الطعن واطئا لكم لأجل اثخان جراحتكم، و يحتمل انتصابها على المصدر كما مرّ، و الباء في قوله: بخزائم، للالة و الاستعانة لا للمصاحبة كما توهّم، و أورى بصيغة التفضيل عطف على أعظم، و جرحا و قدحا منتصبان على التميز، و جملة يقتنصون حال من رجله أو خيلهو قوله: فى حومة بلاء، قال الشارح المعتزلي: حال من مفعول يقتنصون.
أقول: و يجوز كونه ظرف لغو متعلّق بيضربون أو بيقتنصون بدلا من قوله: بكلّ مكان، و أن يكون حالا من فاعل تمتنعون، و هو أنسب و أولى، و ما في قوله عليه السّلام من غير ما فضل، زائدة للتأكيد.
المعنى
اعلم أنّه عليه السّلام لما أمر فى الفصل السابق بالاعتبار بحال إبليس و بما فعل اللّه به من الطرد و الابعاد و الاحباط لعمله، اتبعه بهذا الفصل و أمر فيه بالتحذّر عن متابعته، و بيّن فيه شدّة عداوته و حثّ على ملازمة التواضع و التذلّل فقال (فاحذروا عباد اللّه) من (عدوّ اللّه) إبليس (أن يعديكم بدائه) أى أن يجعل داءه مسريا إليكم فتكونوا متكبّرين مثله (و أن يستفزّكم) أى يستخفّكم (بخيله و رجله) قال تعالى «وَ اسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَ أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَ رَجِلِكَ».
قال الطبرسي: الاستفزاز الازعاج و الاستنهاض على خفّة و اسراع، و أصله القطع فمعنى استفزّه استزلّه بقطعه عن الصّواب أى استزلّ من استطعت منهم و أضلّهم بدعائك و وسوستك، من قولهم صوت فلان إذا دعاه، و هذا تهديد في صورة الأمر و قيل: بصوتك، أى بالغنا و المزامير و الملاهي، و قيل كلّ صوت يدعى به إلى الفساد فهو من صوت الشيطان.
و أجلب عليهم بخيلك«» و رجلك الاجلاب السوق بجلبة و هى شدّة الصوت أى أجمع عليهم ما قدرت عليه من مكايدك و أتباعك و ذرّيتك و أعوانك، فالباء مزيدة و كلّ راكب أو ماش في معصية اللّه من الانس و الجنّ فهو من خيل إبليس و رجله و قيل: هو من أجلب القوم و جلبوا، أى صاحوا أى صح بخيلك و رجلك فاحشرهم عليهم بالاغواء، انتهى.
(فلعمري لقد فوق لكم سهم الوعيد) قال المحدّث العلّامة المجلسي «ره» أى وضع فوق سهمه على الوتر، و الظاهر أنّه جعل فوق بمعنى أفوق، و إلّا فقد عرفت في بيان اللّغة أنّ معنى فوقت السّهم جعلت له فوقا، و على إبقاء التفويق على معناه الأصلي يكون كناية عن التهيّؤ و الاستعداد.
(و أغرق إليكم بالنزع الشديد) أى استوفي مدّ القوس و بالغ في نزعها ليكون مرماه أبعد و وقع سهامه أشدّ.
(و رماكم من مكان قريب) لأنّه يجرى من ابن آدم مجرى الدّم في العروق كما ورد في الحديث النبويّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كنّى عليه السّلام به عن أنّ سهامه لا تخطى (و قال) ما حكاه عنه عزّ و جلّ في سورة الحجر (ربّ بما اغويتني لازيّننّ لهم في الأرض و لاغوينّهم أجمعين) إلّا عبادك منهم المخلصين، أى أقسم باغوائك إيّاى لازيّننّ لهم المعاصي في الدّنيا التي هي دار الغرور، فالمراد بالأرض هي الدّنيا كما في قوله تعالى «وَ لكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ» و على كون الباء للسببيّة فالمعنى بسبب إغوائك إيّاى أفعل بهم ذلك.
فان قلت: ظاهر الاغواء هو الاضلال فكيف جاز نسبته إلى اللّه قلت: على إبقائه على ظاهره فلا بدّ من حمله على أنّ ابليس كان جبرىّ المذهب.
و أدلّة العدليّة بوجوه: أحدها أنّ المراد به التخيّب أى بما خيّبتني من رحمتك لاخيبنّهم بالدّعاء إلى معصيتك.
و ثانيها أنّ معناه بما أضللتني من طريق جنّتك لاضلنّهم بالدّعاء إلى معصيتك و ثالثها أنّ معناه بتكليفك إيّاى بالسجود لادم الذى وقعت به في الغىّ لاضلنّهم أجمعين إلّا عبادك الذين أخلصوا العبادة للّه و انتهوا عمّا نهوا عنه.
و قوله (قذفا بغيب بعيد) أى قال إبليس ذلك رميا بأمر غايب متوهّم على بعد خفيت اماراته و شواهده أى رميا بأمر بعيد المرمى غايب عن النظر.
قال الشارح المعتزلي: و العرب تقول للشيء المتوهّم على بعد: هذا قذفبغيب بعيد، و القذف في الأصل رمى الحجر و أشباهه و بالغيب الأمر الغايب و هذه اللفظة من الألفاظ القرآنيّة قال تعالى في كفّار قريش «وَ يَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ» أى يقولون هذا سحر أو هذا من تعليم أهل الكتاب أو هذه كهانة و غير ذلك مما كانوا يرمونه.
قال الطبرسيّ في تفسير هذه الاية: أى يرجمون بالظنّ فيقولون لا جنّة و لا نار و لا بعث، و هذا أبعد ما يكون من الظنّ و قيل معناه: يرمون محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالظنون من غير يقين، و ذلك قولهم هو ساحر و هو شاعر و هو مجنون، و جعله قذفا لخروجه في غير حقّ، و قيل: معناه و يبعدون أمر الاخرة فيقولون لأتباعهم: هيهات هيهات لما توعدون، و ذلك كالشيء يرمى في موضع بعيد المرمي.
(و رجما بظنّ مصيب) يعني أنّ قوله: لاغوينّهم أجمعين كان رجما بظنّ قد أصاب فيه و طابق الواقع كما يشهد به قوله سبحانه وَ لَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَ ما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ قال أمين الاسلام الطبرسيّ: المعنى أنّ إبليس كان قال: لاغوينّهم و لاضلنّهم و ما كان ذلك عن علم و تحقيق و إنما قاله ظنا فلما تابعه أهل الزيغ و الشرك صدّق ظنّه و حقّقه.
و في بعض النّسخ و رجما بظنّ غير مصيب قال الشارح المعتزلي: و هذه الرّواية أشهر.
أقول: و وجّه بوجوه أحسنها و أصوبها وجهان أحدهما أنّ قوله: لاغوينّهم بمعنى الشرك أو الكفر و الذين استثناهم بقوله إلّا عبادك اه المعصومون من المعاصي، و معلوم أنّ هذا الظنّ غير مصيب لأنّه ما أغوى كلّ البشر غير المخلصين الغواية التي هي الشرك و الكفر و إنما أغوى بعضهم به و بعضهم بالفسق فقط، فيكون ظنّه أنه قادر على إضلال البشر كلّهم بالكفر ظنّا غير مصيب.
و ثانيهما أنّ إبليس لما ظنّ أنه متمكّن من إجبارهم على الغىّ و الضّلال، فقال:لاغوينّهم، مريدا به الاغواء بالجبر و سلب الاختيار حكم عليه السّلام بخطائه.
و يوضح ذلك ما ذكره الطبرسي في قوله «وَ ما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ» أى و لم يكن لابليس عليهم من سلطنة و لا ولاية يتمكن بها من اجبارهم على الغىّ و الضلال، و انما كان يمكنه الوسوسة فقط كما قال «وَ قالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَ».
فان قلت: قوله «وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ» يدلّ على أنّه لم يكن مراده بقوله: لاغوينّهم، الاجبار و أنّه لم يكن ظانا بالقدرة على إجبارهم.
قلت: قوله لاغوينّهم، إنما قاله في بدء خلقته بتوهّم التمكّن من إجبارهم، و قوله: و ما كان لي عليكم من سلطان إنما يقوله يوم القيامة كما يشهد به سابق الاية، قال سبحانه وَ قالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَ وَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَ لُومُوا أَنْفُسَكُمْ.
فمحصّل الجواب أنّه لا منافاة بين كونه في أوّل الأمر ظانا بالتمكن من الاجبار، و بين معرفته في آخر الأمر بعدم تمكنّه منه و بكونه خاطئا في ظنّه.
و قوله (صدّقه به أبناء الحمية و اخوان العصبيّة و فرسان الكبر و الجاهلية) تأكيد لقوله رجما بظنّ مصيب يعني أنّ إبليس ظنّ أنه يغويهم و كان هؤلاء قد غووا و ضلّوا بالحميّة و الجاهلية و التعصّب و التكبّر، فكان ضلالهم ذلك تصديقا فعليّا منهم لابليس في ظنّه و فى قوله: لاغوينّهم، و موجبا لاصابة ظنّه.
و على الرواية المشهورة أعني رجما بظنّ غير مصيب، فيكون هذه الجملة في معرض الاستدراك، يعني أنّه قال ما قال لا على وجه العلم بل على سبيل الظنّ و الحسبان و المصيب للحقّ هو العلم دون التوهّم أو الظنّ، لكن اتّفق وقوعهما لتصديق أبناء الحميّة فيه و وقوع الغواية منهم.
و على هذا فالأولى أن يجعل جملة صدّقه اه استينافا بيانيا لا صفة لظنّفافهم جيّدا.
(حتّى إذا انقادت له) الطايفة (الجامحة) منكم و هم الذين تقدّم ذكرهم أى أبناء الحميّة و العصبيّة و الكبر و وصفهم بالجموح لخروجهم و تمرّدهم عن انقياد ربّهم المالك لهم و لكلّ شيء (و استحكمت الطماعية) أى الطمع (منه فيكم) بسبب مزيد انقيادكم له و اسراعكم إلى إجابة دعوته (فنجمت) أى ظهرت (الحال من السّر الخفى إلى الأمر الجلى) أى خرج ما بالقوّة إلى الفعل و إذ شاع آثار إغوائه (استفحل سلطانه عليكم) أى قوى و اشتدّ و صار فحلا (و دلف بجنوده نحوكم) أى نهض بهم إليكم (فأقحموكم و لجأت الذلّ) أى ادخلوكم من غير رويّة غير ان الذّلة (و أحلّوكم ورطات القتل) أى أنزلوكم في مهالك القتل و الهلاكة (و أوطأوكم اثخان الجراحة) أى جعلوا اثخان الجراحة واطئا لكم، و قد مرّ تفصيل معناه في بيان الاعراب و المراد به كثرة وقع جراحات جنود ابليس فيهم و كونهم مقهورين مغلوبين منكوبين بوقوع الجراحات.
و فصّل كثرتها بقوله (طعنا في عيونكم و حزّا) أى قطعا (في حلوقكم و دقا لمناخركم) و هو كناية عن صدماتهم و احاطتها بالأعضاء جميعها، فيكون ذكر العيون و الحلوق و المناخر من باب التمثيل و المراد بها ما يصيبهم من الصدمات و الجراحات من أبناء نوعهم بسبب القتل و القتال، و لما كان منشاها جميعا هو إغواء إبليس و جنوده نسبها إليهم، و لا يخفى ما في نسبة الطعن إلى العيون و الحزّ إلى الحلوق و الدقّ إلى المناخر من حسن الخطابة و صناعة البلاغة.
(و قصدا لمقاتلكم) أى قصدوا قصدا لمحالّ قتلكم تحريصا على القتل (و سوقا بخزائم القهر إلى النار المعدّة لكم) أى ساقوكم سوقا إلى النّار المهيّاة لكم بالخزائم القاهرة لكم على السياق، أو أنهم ساقوكم إليها بها بالقهر و الغلبة.
و التعبير بالخزائم دون الازمة تشبيها لهم بالناقة الّتي تقاد بالخزامة لا الخيل المقاد بالزمام، لأنّ الناقة إذا ما تقاد بالخزامة تكون أشدّ انقيادا و أطوع لقائدها من الخيل الّذى يقاد بالزّمام.
و للاشارة إلى هذه النكتة أتى بلفظ القهر و استعار لفظ الخزائم للمعاصي و السيّئات و شهوات النفس الأمّارة المؤدّية إلى النّار، و المراد أنّ إبليس و جنوده زيّنوا الشهوات و السيّئات في نظرهم فرغبوا فيها و ركبوها فكان ذلك سببا لتقحمهم في النار و سخط الجبار.
(فأصبح أعظم في دينكم جرحا و أورى في دنياكم قدحا) أى صار أكثر إخراجا للنار من حيث إخراجه لها أو من حيث الطعن في دنياكم و الثاني أظهر.
أما جرحه في الدّنيا «في الدين ظ فمعلوم لأنّ جميع الصّدمات و المضارّ الدينية من الجرائم و الاثام من إغواء هذا الملعون.
و أمّا الايراء و قدحه في الدّنيا فلا لها به نار الفتنة و الفساد و نايرة الحسد و البغضاء و العناد بين الناس الموجب للقتل و القتال و تلف الأنفس و الأموال و نحوها فجميع المضارّ الدينية و أغلب المضار الدنيويّة عند أهل النظر و الاعتبار من ثمرات هذه الشجرة الملعونة.
فلذلك كان جرحه و قدحه أعظم و أشدّ (من الذين أصبحتم لهم مناصبين و عليهم متألّبين) أى من أعدائكم الذين نصبتم لهم العداوة و بالغتم فى عداوتهم، و تجمّعتم أى اجتمعتم من ههنا و ههنا على قتلهم و قتالهم و استيصالهم دفعا لشرّهم عنكم.
و لما نبّه عليه السّلام على أنّه عدّو مبين و أعظم المعاندين و أنّ ضرره عايد إلى الدّنيا و الدّين أمرهم بصرف عزيمتهم و همّتهم إلى عداوته فقال: (فاجعلوا عليه حدّكم) أى حدّتكم و سورتكم و بأسكم و سطوتكم (و له جدّكم) أى سبلكم و جهدكم، ثمّ أقسم بالقسم البار تهييجا و إلهابا و تثبيتا لهم على العداوة له فقال: (فلعمر اللّه لقد فخر على أصلكم) أى على أبيكم آدم خيث امتنع من السجود له و قال «قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ» (و وقع فى حسبكم و دفع في نسبكم) أى عاب حسبكم و حقّر نسبكم و هو الطين حيث قال وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا. لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قالَ أَ أَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً قالَ أَ رَأَيْتَكَ هذَا الَّذِيكَرَّمْتَ (و أجلب بخيله عليكم و قصد برجله سبيلكم) أى صاح بفرسانه فاحشرهم عليكم بالاغواء و قصد مع راجليه سبيلكم ليزيغوكم عن الجادّة الوسطى.
(يقتنصونكم بكلّ مكان) أى يتصيّدونكم و يجعلون ربق الذّلّ في أعناقكم (و يضربون منكم كلّ بنان) أى يضربون أطراف أصابعكم و يستقصون فى أذاكم و استيصالكم (لا تمتنعون) من ضربهم (بحيلة و لا تدفعون) ضرّهم (بعزيمة) و الحال انكم (فى حومة ذلّ و حلقة ضيق و عرصة موت و جولة بلاء) شرح لحالهم فى الدّنيا، أى أنتم فى معظم ذلّ و دائرة ضيق، لأنّ دار الدّنيا لا اتّساع فيها و معرض موت و مجال بلاء لا منجى منه.
فاذا كان شأن أبليس في عداوتكم هذا الشأن من الفخر على الأصل و الوقع فى الحسب و الدفع في النسب و الاجلاب بالخيل و القصد بالرجل و غير ذلك من الامور المتقدّمة الدالة على كونه مجدّا في العداوة.
(ف) خدوا منه حذركم و تحرّزوا من مصائده و (اطفئوا ما كمن) و استتر (في قلوبكم من نيران العصبية) و الحميّة (و أحقاد الجاهليّة فانما تلك الحميّة) و النخوة (تكون في المسلم من خطرات الشيطان و نخواته و نزغاته و نفثاته) أى وساوسه المحرّكة للفساد يعني ما استتر في قلوبكم من التعصّب و التكبّر و الحقد و الحسد نار محرقة لكم في الدّنيا و الاخرة فاطفئوها و اجتهدوا في إطفائها بماء التذلّل و التواضع و الاصلاح، لأنّ منشأها جميعا هو الشيطان اللعين الّذي هو عدوّكم المبين، فانّه يوسوس في صدوركم و يوقع في اخاطركم النّخوة و الحميّة و العصبيّة و ينزغ أى يفسد بينكم و بين اخوتكم المؤمنين و ينفث أى ينفخ في قلوبكم و في دماغكم ريح النخوة و الغرور و الاستكبار.
فان قلت: لم قال تلك الحميّة تكون في المسلم من خطرات الشيطان مع أنّ الحميّة في الكافر أيضا من خطراته فأىّ نكتة في الاتيان بهذا القيد قلت: لما أمر المخاطبين باطفاء نيران العصبيّة و الاستكبار معلّلا بأنها من وساوس ابليس و خطراته أتى بهذا القيد من باب الالهاب لأنّ المسلم بما له من داعيةالاسلام أسرع قبولا للموعظة و أحقّ بالانتصاح و الارتداع و التجنّب من سلوك مسالك الشيطان، فكأنه قال: إن كنتم مسلمين فاتّقوا من متابعته و توقوا من اقتفاء آثاره كما تقول: إن كنت مؤمنا فلا تظلمني، قال تعالى حكاية عن مريم (ع) «قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا» (و اعتمدوا) اى اقصدوا (وضع) تيجان (التذلّل) الّذى جعلتموها تحت أقدامكم (على رؤوسكم و) تعمّدوا (القاء) قلانس (التعزّز) الّتي جعلتموها على رؤوسكم (تحت أقدامكم) و لا يخفى على أهل الصّناعة لطافة هذه العبارة و شرافتها و عظم خطرها للّه درّ قائلها.
(و) اعتمدوا (خلع) أطواق (التكبّر من أعناقكم و اتّخذوا) التذلّل و (التّواضع مسلحة و ثغرا بينكم و بين عدوّكم إبليس و جنوده).
و لما أمرهم باتخاذ المسلحة علّله بقوله (فانّ له من كلّ امّة) من الجنّ و الانس (جنودا و أعوانا و رجلا و فرسانا) تنبيها على كثرة جنوده و أعوانه المقتضية للجدّ في اتّخاذها توقّيا من طروقهم و اغتيالهم على غفلة هذا، و قد مضى بيان فضل التواضع و الأخبار الواردة فيه في شرح المختار المأة و السابع و الأربعين.
ثمّ ذكّرهم بقصة ابن آدم عليه السّلام لكونها في مقام التذكرة و الاعتبار أقوى تحذيرا و تنفيرا من التعزّز و الاستكبار فقال: (و لا تكونوا كالمتكبّر على ابن امّه) أى لا تكونوا مثل قابيل الّذى تكبّر على أخيه هابيل.
و إنما قال ابن امّه مع كونهما من أب و أمّ لأنّ الأخوين من أمّ أشدّ حنوا و محبة و تعاطفا من الأخوين من الأب لأنّ الأمّ هي ذات الحضانة و التربية، و لذلك قال هارون لأخيه موسى عليهما السّلام مع كونه أخاه لأبيه و أمّه: ابن امّ إنّ القوم استضعفوني، فذكر الامّ لكونه أبلغ في الاستعطاف، فمقصوده عليه السّلام أنّ قابيل مع كون هابيل ابن امّه المقتضي للعطوفة و المحبة تسلّط عليه الشيطان فأنساه محبّة الاخوة فتكبّر عليه و قتله بوسوسته إليه، فكونوا من ابليس و عداوته في حذر و لا تكونوا مثل قابيلالّذى لم يتوقّ منه بل اتّبعه و تكبّر.
(من غير ما فضل جعله اللّه فيه سوى) بمنزلة استثناء منقطع أى غير (ما الحقت العظمة) و الكبرياء (بنفسه من عداوة) نشأت من (الحسد و قدحت) أى اخرجت (الحميّة) و التعصّب (في قلبه من نار) انقدت من (الغضب و نفخ الشيطان في أنفه من ريح الكبر) المؤدّى إلى قتل أخيه (الّذى أعقبه اللّه به الندامة) لا ندم التوبة بل ندم الحيرة أو شفقة على موت أخيه لا على ارتكاب الذنب (و ألزمه آثام القاتلين إلى يوم القيامة) لأنّ من سنّ سنّة سيّئة كان له مثل و زمن عمل بها كما أنّ من سنّ سنّة حسنة كان له مثل أجر من عمل بها، فهو لما كان أوّل من سنّ القتل فلا يقتل مقتول إلى يوم القيامة إلّا كان له فيه شركة، هذا.
و قد تقدّم في شرح الفصل الرابع عشر من المختار الأوّل كيفيّة قتل قابيل هابيل اجمالا، و لنورد هنا باقتضاء المقام بعض ما لم يتقدّم ذكره هناك من الايات و الأخبار الواردة في هذا الباب.
فأقول: قال اللّه عزّ و جلّ في سورة المائدة: وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَ لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ«» وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ. بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا. قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَ لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما. يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ. الْمُتَّقِينَ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ. إِنِّي أَخافُ. اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ. بِإِثْمِي وَ إِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَ ذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ روى عليّ بن ابراهيم عن أبيه عن الحسن بن محبوب عن هشام بن سالم عن أبي حمزة الثمالي عن ثوير بن أبى فاخته قال: سمعت عليّ بن الحسين عليهما السّلام يحدّث رجلا من قريش: لما قرّب ابنا آدم قرّب أحدهما أسمن كبش كان في ضانهو قرّب الاخر ضغثا من سنبل فتقبّل من صاحب الكبش و هو هابيل و لم يتقبّل من الاخر و هو قابيل فغضب قابيل فقال لهابيل: و اللّه لأقتلنّك، فقال هابيل وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ. آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَ لَمْ يُتَقَبَّلْ. مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ. إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما. أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ. لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ فلم يدر كيف يقتله حتّى جاء إبليس لعنه اللّه فعلّمه فقال ضع رأسه بين حجرين ثمّ اشدخه فلما قتله لم يدر ما يصنع به، فجاء غرابان فأقبلا متضاربان حتى اقتتلا فقتل أحدهما صاحبه ثم حفر الذى بقي الأرض بمخالبه و دفن فيه صاحبه، قال قابيل فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَ فحفر له حفيرة و دفن فيها فصارت سنّة يدفنون الموتى.
فرجع إلى أبيه فلم ير معه هابيل فقال له آدم: أين تركت ابني قال له قابيل: ارسلتنى عليه راعيا فقال آدم عليه السّلام، انطلق معى إلى مكان القربان، و أحسّ قلب آدم عليه السّلام بالذى فعل قابيل: فلما بلغ مكان القربان استبان قتله فلعن آدم عليه السّلام الأرض التي قبلت دم هابيل، و أمر آدم أن يلعن قابيل و نودى قابيل من السّماء لعنت كما قتلت أخاك، و لذلك لا تشرب الأرض الدّم فانصرف آدم عليه السّلام فبكى على هابيل أربعين يوما و ليلة.
فلما جزع عليه شكى ذلك إلى اللّه فأوحى اللّه إليه انّى واهب لك ذكرا يكون خلفا من هابيل فولدت حوّا غلاما زكيّا مباركا، فلما كان اليوم السابع أوحى اللّه إليه يا آدم إنّ هذا الغلام هبة منّى لك فسمّه هبة اللّه، فسمّاه آدم هبة اللّه.
و روى القميّ عن أبيه، عن عثمان بن عيسى، عن أبي أيّوب، عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام قال: كنت جالسا معه في المسجد الحرام فاذا طاوس «أى طاوس اليماني» في جانب الحرم يحدّث حتى قال: أ تدرى أىّ يوم قتل نصف الناس فأجابه أبو جعفر عليه السّلام فقال أو ربع الناس يا طاوس، فقال: أو ربع النّاس، فقال: أ تدرى ما صنع بالقاتل فقلت: إنّ هذه المسألة.
فلما كان من الغد غدوت على أبى جعفر عليه السّلام فوجدته قد لبس ثيابه و هو قاعدعلى الباب ينتظر الغلام أن يسرج له، فاستقبلنى «فاستعجلني خ» بالحديث قبل أن أسأله فقال: إنّ بالهند أو من وراء الهند رجل معقول برجل واحدة يلبس المسح موكل به عشرة نفر كلما مات رجل منهم أخرج أهل القرية بدلا فالناس يموتون و العشرة لا ينقصون يستقبلون بوجهه الشمس حين تطلع يديرونه معها حتى تغيب ثمّ يصبّون عليه في البرد الماء البارد و في الحرّ الماء الحارّ.
قال: فمرّ عليه رجل من الناس فقال له: من أنت يا عبد اللّه فرفع رأسه و نظر إليه ثم قال: إما أن تكون أحمق الناس و اما أن تكون أعقل الناس، إنى لقائم ههنا منذ قامت الدنيا ما سألني أحد من أنت غيرك، ثمّ قال عليه السّلام: يزعمون أنه ابن آدم.
و في الصافى من الاحتجاج قال طاوس اليماني لأبي جعفر عليه السّلام: هل تعلم أىّ يوم مات ثلث الناس فقال عليه السّلام: يا عبد اللّه لم يمت ثلث الناس قط إنما أردت ربع الناس قال: و كيف ذلك قال: كان آدم و حوّا و قابيل و هابيل فقتل قابيل هابيل فذلك ربع الناس، قال: صدقت.
قال أبو جعفر عليه السّلام هل تدرى ما صنع بقابيل قال: لا، قال: علّق بالشمس ينضح بالماء الحارّ إلى أن تقوم الساعة و روى القمّي باسناده عن جابر، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: جاء رجل النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: يا رسول اللّه رأيت أمرا عظيما، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و ما رأيت قال: كان لي مريض و نعت له ماء من بئر بالأحقاف يستشفى به في برهوت، قال: فانتهيت و معى قربة و قدح لاخذ من مائها و أصب في القربة، و إذا بشيء قد هبط من جوّ السّماء كهيئة السّلسلة و هو يقول: يا هذا الساعة أموت، فرفعت رأسى و رفعت إليه القدح لاسقيه فاذا رجل في عنقه سلسلة، فلما ذهبت انا و له القدح اجتذب حتّى علق بالشمس، ثمّ أقبلت على الماء أغرف إذ أقبل الثانية و هو يقول العطش العطش اسقنى يا هذا السّاعة أموت، فرفعت القدح لاسقيه فاجتذب منّى حتّى علق بالشمس حتّى فعل ذلك ثالثة و شددت قربتى و لم أسقه.
فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذاك قابيل بن آدم عليه السّلام قتل أخاه و هو قول اللّه عزّ و جلّ وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَ ما هُوَ بِبالِغِهِ وَ ما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ.
و في البحار من تفسير العياشى عن جابر، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: إنّ قابيل ابن آدم عليه السّلام معلّق بقرونه في عين الشمس تدور به حيث دارت في زمهريرها و حميمها إلى يوم القيامة، فاذا كان يوم القيامة صيّره اللّه إلى النّار.
و فيه من الخصال عن رجل من أصحاب أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سمعته يقول: إنّ أشدّ الناس عذابا يوم القيامة لسبعة نفر: أوّلهم ابن آدم الذى قتل أخاه، و نمرود الذى حاجّ إبراهيم في ربّه، و اثنان في بني اسرائيل هوّدا قومهم و نصّراهم، و فرعون الذى قال: أنا ربّكم الأعلى، و اثنان من هذه الامّة.
قال العلّامة المجلسىّ «ره» الاثنان من هذه الامّة أبو بكر و عمر.
و فيه من علل الشرائع عن حماد بن عثمان، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: كانت الوحوش و الطير و السّباع و كلّ شيء خلق اللّه عزّ و جلّ مختلطا بعضه ببعض، فلما قتل ابن آدم أخاه نفرت و فزعت فذهب كلّ شيء إلى شكله.
الترجمة
فصل دويم از اين خطبه در تحذير مردمان است از متابعت شيطان و بيان شدّت عداوت آن ملعون است با انسان و تحريص خلق است بتواضع و فروتنى مى فرمايد پس حذر كنيد اى بندگان خدا از دشمن خدا از اين كه سرايت گرداند بشما درد بى درمان خود را، و از اين كه بلغزاند شما را از راه راست با سواران و پيادگان خود، پس قسم بزندگانى خودم هر آينه مهيا نمود از براى شما تير وعيد را، و بر كشيد براى شما كمان را با كشيدن سخت، و انداخت بسوى شما از مكان نزديك و گفت آن ملعون- أى پروردگار من بسبب مأيوس نمودن تو مرا از رحمت خود هر آينه البته زينت مى دهم از براى ايشان معاصى را در دنيا و هر آينه البته بضلالت مى اندازم همه ايشان را مگر بندگان خالص تو را- در حالتى كه اندازنده بود بامر غايب از حواس كه دور بود، و در حالتى كه رجم كننده بود بگمان و ظن ناصواب.
تصديق نمود او را بان ظنّ پسران حميّت، و برادران عصبيّت، و سواران تكبّر و جاهليّت تا آنكه زمانى كه گردن نهاد براى او سركشان شما، و مستحكم شد طمع او در شما، پس ظاهر شد حال و حالت از سرّ نهان بسوى امر روشن نمايان قوت يافت سلطنت او بر شما، و سرعت نمود با لشكر خود بسوى شما.
پس انداختند شما را در غارهاى ذلت و نازل نمودند شما را در گودالهاى كشتن، و پامال كردند شما را با شدّت جراحت با نيزه زدن در چشمهاى شما، و با بريدن در گلوهاى شما، و با كوفتن سوراخهاى دماغ شما، و قصد كردند قصد كردنى محلهاى كشتن شما را، و راندند راندنى شما را بحلقههاى بينى مهار با قهر و غلبه بسوى آتشيكه مهيا شده بود از براى شما.
پس گرديد آن ملعون بزرگتر در دين شما از حيثيّت جراحت زدن در دنياى شما بيرون آرندهتر آتش از حيثيّت خارج كردن آتش از آن كسان كه گرديديد شما از براى ايشان آشكارا عداوت كننده، و بر ايشان جمعيّت فراهم آورنده، پس بگردانيد بر ضرر او حدّت و تيزى خود را، و از براى دفع او جدّ و جهد خود را.
پس قسم ببقاى پروردگار فخر كرد شيطان بر أصل شما كه خاك است، و طعن كرد در حسب شما، و ايراد نمود در نسب شما، و كشيد سواران خود را بر شما، و قصد كرد با مصاحبت پيادگان خود راه شما را در حالتى كه شكار كنند شما را در هر مكان، و مىزنند از شما همه اطراف انگشتان را، امتناع نمىتوانيد بكنيد با هيچ حيله، دفع نمىتوانيد شرّ ايشان را با هيچ عزيمتى در حالتى كه شما در معظم مذلت و خوارى هستيد، و در حلقه تنگى و تنگنائى و در عرصه موت و فنا و در گردش بلا مىباشيد پس خاموش كنيد آنچه كه پنهان است در قلبهاى شما از آتش سوزان تعصّب و كينهاى زمان جاهليّت، و جز اين نيست كه اين حميّت جاهليّت ميباشد در مردمسلمان از وسوسهاى شيطان و نخوتهاى او، و از فسادهاى او، و از دميدنهاى او و قصد نمائيد نهادن تواضع را بر سرهاى خودتان، و انداختن تكبّر را بزير قدمهاى خودتان، و كندن گردن كشى را از گردنهاى خود، و اخذ نمائيد فروتنى را سنگر در ميان خود و ميان دشمن خود كه ابليس و لشكر او است، پس بدرستى كه مر او راست از هر گروهى لشكريان و اعوان و پيادگان و سواران.
و مباشيد مثل قابيل تكبّر كننده بر پسر مادر خود كه هابيل بود بدون فضل و مزيّتى كه گردانيده باشد خدا او را و غير از اين كه لاحق نمود عظمت و تكبّر بنفس او از عداوتى كه ناشى بود از حسد، و آتش زد حميّت و عصبيّت در قلب او از آتش غضب، و دميد شيطان در دماغ او از باد كبر و نخوت چنان كبرى كه در پى در آورد او را خداى تعالى بسبب آن كبر ندامت و پشيمانى را، و لازم گردانيد بر او مثل گناهان جميع قاتلين و كشندگان را تا روز قيامت.
الفصل الثالث
ألا و قد أمعنتم في البغي، و أفسدتم في الأرض، مصارحة للّه بالمناصبة، و مبارزة للمؤمنين بالمحاربة، فاللّه اللّه في كبر الحميّة، و فخر الجاهليّة، فإنّه ملاقح الشّنان، و منافخ الشّيطان الّلاتي خدع بها الامم الماضية، و القرون الخالية، حتّى أعنقوا في حنادس جهالته، و مهاوي ضلالته، ذللا عن سياقه، سلسا في قياده، أمرا تشابهت القلوب فيه، و تتابعت القرون عليه، و كبرا تضايقت الصّدور به. ألا فالحذر الحذر عن طاعة ساداتكم و كبرائكم الّذين تكبّرواعن حسبهم، و ترفّعوا فوق نسبهم، و ألقوا الهجينة على ربّهم، و جاحدوا اللّه ما صنع بهم، مكابرة لقضائه، و مغالبة لالائه، فإنّهم قواعد أساس العصبيّة، و دعائم أركان الفتنة، و سيوف اعتزاء الجاهليّة. فاتّقوا اللّه و لا تكونوا لنعمه عليكم أضدادا، و لا لفضله عندكم حسّادا، و لا تطيعوا الأدعياء الّذين شربتم بصفوكم كدرهم، و خلطتم بصحّتكم مرضهم، و أدخلتم في حقّكم باطلهم، فهم أساس الفسوق، و أحلاس العقوق، اتّخذهم إبليس مطايا ضلال، و جندا بهم يصول على النّاس، و تراجمة ينطق على ألسنتهم استراقا لعقولكم، و دخولا في عيونكم، و نفثا في أسماعكم، فجعلكم مرمى نبله، و موطىء قدمه و مأخذ يده. فاعتبروا بما أصاب الامم المستكبرين من قبلكم من بأس اللّه وصولاته و وقايعه و مثلاته، و اتّعظوا بمثاوي خدودهم، و مصارع جنوبهم، و استعيذوا باللّه من لواقح الكبر، كما تستعيذون به من طوارق الدّهر. فلو رخّص اللّه في الكبر لأحد من عباده لرخّص فيه لخاصّة أنبيائه و أوليائه، و لكنّه (لكنّ اللّه خ) سبحانه كره إليهم التّكابر، و رضي لهم التّواضع، فألصقوا بالأرض خدودهم، و غفّروا في التّرابوجوههم، و خفضوا أجنحتهم للمؤمنين، و كانوا قوما مستضعفين، و قد اختبر هم اللّه بالمخمصة، و ابتلاهم بالمجهدة، و امتحنهم بالمخاوف و مخضهم بالمكاره، فلا تعتبروا الرّضا و السّخط، بالمال و الولد، جهلا بمواقع الفتنة و الاختبار في مواضع الغنى و الإقتار، فقد قال تعالى: أَ يَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَ بَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ. فإنّ اللّه سبحانه يختبر عباده المستكبرين في أنفسهم بأوليائه المستضعفين في أعينهم، و قد دخل موسى بن عمران و معه أخوه هارون عليهما السّلام على فرعون و عليهما مدارع الصّوف، و بأيديهما العصيّ، فشرطا له إن أسلم بقاء ملكه و دوام عزّه، فقال: ألا تعجبون من هذين يشرطان لي دوام العزّ و بقاء الملك و هما بما ترون من حال الفقر و الذّلّ، فهلّا ألقي عليهما أساورة من ذهب، اعظاما للذّهب و جمعه، و احتقارا للصّوف و لبسه.
اللغة
(امعن) في الأرض ذهب فيها بعيدا، و أمعن في الطلب أى جدّ و أبعد و (صارح) بما في نفسه أى أبداه و (الحميّة) الحرب و العداوة أى عاديته و أظهرت له العداوة و (لقحت) المرأة و النخلة لقحا إذا حملت و القحت، و النخلة وضعت طلع الذكورفى طلع الأناث و القح الفحل الناقة أحبلها و الملاقح بفتح الميم الفحول جمع ملقح و زان محسن يقال ألقحت الرياح الشجر إذا حملتها فهى لواقح و ملاقح كذا قال الفيروز آبادى.
(و الشنان) بفتح الأوّل و الثاني و سكونه البغض و الشنان و زان رماد لغة فيه و (المنافخ) جمع منفخ بالفتح مصدر نفخ و نفخ الشيطان نفثه و وسوسته و يقال للمتطاول إلى ما ليس له: نفخ الشيطان في أنفه و يقال: رجل ذو نفخ أى فخر و كبر و (القرون الخالية) جمع قرن و هو من القوم سيّدهم و رئيسهم و كلّ امّة هلكت فلم يبق منها احد و الوقت من الزمان و (أعنق) اعناقا أسرع و العنق ضرب من السير فسيح سريع.
و ليلة ظلماء (حندس) أى شديدة الظلمة و (المهاوى) جمع مهواة و هى الوهدة المنخفضة من الأرض يتردّى الصيد فيها، و قيل: الوهدة العميقة و تهاوى الصيد في المهواة سقط بعضه أثر بعض و (الذّلل) جمع ذلول و هو المنقاد من الابل و غيره قال تعالى: فاسلكى سبل ربّك ذللا و (الهجينة) الخصلة القبيحة، و في بعض النسخ الهجنة و زان مضغة، قال في القاموس: الهجنة بالضمّ من الكلام ما تعيبه و الهجين اللّئيم و عربىّ ولد من أمة أو من أبوه خير من أمّه و برذونة هجين غير عتيق.
و (أساس) قال الشارح المعتزلي بالمدّ جمع أساس و الموجود فيما رأيته من النسخ بصيغة المفرد و (الاعتزاء) الادّعاء و الشعار في الحرب و (الأدعياء) جمع الدّعى و هو من انتسب الى أبيه و عشيرته أو يدّعيه غير أبيه فهو فاعل من الأوّل و مفعول من الثاني قال تعالى: وَ إِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَ أَنْعَمْتَ.
(و شربتم لصفوكم) قال الشارح المعتزلي و يروى ضربتم أى مزجتم، و يروى شريتم اى ابتعتم و استبدلتم و (الاحلاس) جمع حلس بالكسر و هو كساء رقيق يكون على ظهر البعير ملازما له فقيل لكلّ ملازم أمر هو حلس له، هكذا قال الشارح المعتزلي و الجزرى و (سرق) السمع مجاز و استرق السمع استمعه مختفيا و استرق الشيء و تسرّقه سرقه شيئا فشيئا.
(و نفثا في أسماعكم) و يروى نثا في أسماعكم من نثّ الحديث أفشاه و (وقعت) بالقوم وقيعة و اوقعت بهم قتلت و اثخنت و (المثاوى) جمع المثوى من ثوى بالمكان نزل فيه و (غفر) وجهه ألصقه بالعفر و هو وجه الأرض أو التراب و عفّرت بالتثقيل مبالغة و (مخض) السقاء مخضا حرّكه شديدا ليخرج زبد اللّبن الذى فيه، و يروى و محصّهم بالحاء و الصاد المهملتين من التمحيص و هو التطهير و (أقتر) لعياله اقتارا و قتر تقتيرا أى ضيق في النفقة و (المدارع) جمع مدرعة بالكسر و هى كالكساء و تدرّع الرّجل لبس المدرعة و (العصيّ) كقسيّ جمع عصا.
الاعراب
مصارحة و مبارزة منصوبان على المفعول له أو على التميز، و قوله: فاللّه اللّه بنصبهما على التحذير، و ذللا حال من فاعل اعنقوا، و عن فى قوله: عن سياقه بمعنى اللّام، و فى بعض النسخ على سياقه فعلى للاستعلاء المجازى.
و قوله: أمرا تشابهت القلوب فيه قال القطب الراوندى: أمرا منصوب لأنّه مفعول و ناصبه المصدر الّذى هو سياقه و قياده تقول سقت سياقا وقدت قيادا، و اعترض عليه الشارح المعتزلي بأنّه غير صحيح، لأنّ مفعول هذين المصدرين، محذوف تقديره عن سياقه إيّاهم و قياده إيّاهم، و قال الشارح: إنه منصوب بتقدير فعل اى اعتمدوا أمرا، و كبرا معطوف عليه أو ينصب كبرا على المصدر بأن يكون اسما واقعا موقعه كالعطاء موضع الاعطاء.
أقول: و الأظهر عندى أن يجعل أمرا منصوبا بنزع خافض متعلّق بقوله اعنقوا، أى اسرعوا إلى أمر و كبر، و على هذا التأم معنى الكلام بدون حاجة إلى التكلّف و حذف الفعل.
و عن فى قوله تكبّروا عن حسبهم إمّا بمعنى من كما فى قوله تعالى وَ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ أو بمعنى اللّام كما في قوله تعالى وَ ما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ فعلى الأوّل فهى بمعنى من النشوية، و على الثاني فبمعنىاللّام التعليلية.
و مكابرة و مغالبة منصوبان على المفعول له و العامل جاحدوا، و الباء في قوله: شربتم بصفوكم بمعني مع على رواية شربتم بالباء الموحّدة، و على رواية شريتم بالياء المثناة التحتانيّة فللمقابلة، و استراقا مفعول لأجله لقوله: ينطق أو لقوله: اتّخذهم ابليس، و الثاني أولى.
و قوله تعالى أَ يَحْسَبُونَ أَنَّما الاية لفظة ما موصولة اسم إنّ و جملة نمدّهم به صلة ما لا محلّ لها من الاعراب، و جملة نسارع مرفوعة المحلّ خبر إنّ، و الرابط محذوف أى نسارع لهم به.
و الباء في قوله بما ترون بمعني في، و جملة ألا تعجبون إلى قوله من ذهب مقول قال، و إعظاما مفعول لأجله لقال، و يحتمل الانتصاب على الحال فيكون المصدر بمعني الفاعل أى قال ذلك معظما للذّهب و محتقرا للصّوف.
المعنى
اعلم أنه لما حذّر في الفصل السابق من التكبّر و رغّب في التواضع عقّبه بهذا الفصل تأكيدا لما سبق، و صدّره بتوبيخ المخاطبين على البغى و الفساد فقال: (ألا و قد أمعنتم فى البغى) أى بالغتم فى السعى بالفساد و العدول عن القصد و الخروج عن الاعتدال (و أفسدتم في الأرض) أى صرتم مفسدين فيها، و علّل امعانهم فى البغى بقوله: (مصارحة للّه بالمناصبة) أى لأجل مواجهتكم له سبحانه بالمعاداة و كشفكم عن عداوته تعالى صراحة بالترفّع و التكبّر.
روى في الكافى عن أبى جعفر عليه السّلام قال: الكبر رداء اللّه و المتكبّر ينازع اللّه فى ردائه.
و فيه عن حكيم قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن أدنى الالحاد، فقال: إنّ الكبر أدناه.
و علّل الافساد في الأرض بقوله: (و مبارزة للمؤمنين بالمحاربة) لأنّ الكبرو العظمة و الرفعة على الخلق مثير للفساد، مؤدّ إلى الحرب و الجدال، لأنّ المتكبّر لا يقدر أن يحبّ للمؤمن ما يحبّ لنفسه و لا يتمكّن من ترك الرذائل كالحقد و الحسد و التقدّم فى الطرق و المجالس و طرد الفقراء عن المجالسة و الموانسة و الغلظة في القول و عدم الرفق بذوى الحاجات و التطاول على الناس و الانف عن سماع الحقّ و قبوله، كلّ ذلك خوفا من أن يفوته عزّه، و معلوم أنّ هذه الخصال القبيحة لا محالة تكون سببا للمحاربة للمؤمنين، بل لمحاربة اللّه سبحانه كما قال في الحديث القدسى: من أهان لى وليّا فقد بارزنى بالمحاربة.
(فاللّه اللّه في كبر الحميّة و فخر الجاهليّة) أى اتّقوه عزّ و جلّ فيهما، لأنّهما من صفة الكافر لا المسلم و المؤمن قال تعالى إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ.
و قال أبو عبد اللّه عليه السّلام في رواية الكافي: إذا خلق اللّه العبد في أصل الخلقة كافرا لم يمت حتى يحبّب اللّه إليه الشّر فيقرب منه، فابتلاه بالكبر و الجبريّة، فقسا قلبه، و ساء خلقه، و غلظ وجهه، و ظهر وخشه«»، و قلّ حياؤه، و كشف اللّه ستره و ركب المحارم فلم ينزع عنها، ثمّ ركب معاصى اللّه، و أبغض طاعته، و وثب على النّاس لا يشبع من الخصومات، فاسألوا اللّه العافية و اطلبوها منه.
و من ذلك ظهر حسن ما علّل التوقّى من الكبر و الفخر به و هو قوله (فانّه) أى كلّ من الكبر و الفخر (ملاقح الشنان) أى سبب توليد البغض و العداوة كما أنّ الفحول سبب توليد النتاج، و التعبير بصيغة الجمع بملاحظة تكثّر أقسام الكبر و تعدّد أنواعه باعتبار ما به التكبّر من العلم و الثروة و المال و كثرة العشيرة و حسن الصوت و الجمال و غيرها مما هو منشا الكبر و التفاخر (و منافخ الشيطان) أى نفخاته و نفثاته كما قال في الفصل السّابق: و انما تلك الحميّة تكون في المسلم من خطرات الشيطان و نفثاته، و قال أيضا: و نفخ الشيطان في أنفه من ريح الكبر.
و وصف المنافخ بأنّها (اللّاتي خدع بها الامم الماضية) كقوم نوح و هود و عاد و ثمود و فرعون و نمرود و غيرهم ممّن تكبّر و كذّب الرّسل لما زيّن لهم الشيطان نخوتهم فخدعهم و أضلّهم عن السّبيل (و القرون الخالية) عطف تفسير أي الامم الهالكة و الرؤساء الخالية منهم الدّنيا، و على جعل القرن بمعنى الوقت فيحتاج إلى تقدير مضاف أى خدع بها أهل الأزمنة التي خلت منهم، و على الأوّل فالصّفة بحال متعلّق الموصوف، و على الثاني فهى بحال الموصوف نفسه.
و قوله (حتّى اعنقوا في حنادس جهالته و مهاوى ضلالته) غاية لخداع الشيطان أى انتهى خداعه للامم السابقة إلى أن أسرعوا في ظلمات جهالته التي لا يهتدون فيها، و مهاوى ضلالته الّتى يردوا فيها و لم يقدروا على الخروج منها (ذللا عن سياقه سلسا فى قياده) أى حالكونهم ذليلين لسوقه سهل الانقياد لقوده (أمرا) أى إلى أمر«» أى جبريّة و تكبّر (تشابهت القلوب فيه) أى صار قلوبهم كلّ منها شبيها بالاخر فى قبوله (و تتابعت القرون عليه) أى تتابعت على التسليم و الانقياد له (و كبرا) أى إلى كبر (تضايقت الصّدور به) و لم تسع لا خفائه و كتمانه من جهة كثرته و شدّته.
و لمّا شاهد عليه السّلام أنّ عمدة منشأ تكبّرهم و تعصّبهم هو اتّباع الرّؤساء حذّرهم عن متابعتهم بقوله (ألا فالحذر الحذر من طاعة ساداتكم و كبرائكم) و التكرير لتأكيد التحذير و أن لا يكونوا مثل الكافرين الذين يوم تقلب وجوههم فى النّار يقولون يا ليتنا أطعنا اللّه و أطعنا الرّسولا، و قالوا ربّنا إنا أطعنا سادتنا و كبرائنا فأضلّونا، السبيلا، ربّنا آتهم ضعفين من العذاب و العنهم لعنا كبيرا، أى أطعنا قادة الكفر و أئمة الضّلال.
قال الطبرسيّ: و السيّد المالك المعظم الذى يملك تدبير السواد الأعظم و هو جمع الأكثر أى أطعنا هؤلاء فأضلّونا عن سبيل الحقّ و طريق الرشاد بنا، ربّنا آتهم ضعفين من العذاب لضلالتهم في نفوسهم و إضلالهم إيّانا، و العنهم لعنا كبيرا مرّة بعداخرى و زدهم غضبا إلى غضبك و سخطا إلى سخطك.
و قال في سورة الشعراء حكاية لحال التابعين و المتبوعين و لمقالتهم فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَ الْغاوُونَ. وَ جُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ. قالُوا وَ هُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ. تَاللَّهِ إِنْ. كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ. إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ. وَ ما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ.. فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ. وَ لا صَدِيقٍ حَمِيمٍ.
و وصف الكبراء و السادات بأنهم (الذين تكبّروا عن حسبهم و ترفّعوا فوق نسبهم) قال الشارح المعتزلي: أى جهلوا أنفسهم و لم يفكروا في أصلهم من النطف المستقذرة و من الطين المنتن و نحوه.
قال الشارح البحراني: و الأظهر عندي أن يراد بتكبّرهم عن حسبهم و تجبّرهم بما يعدون في أنفسهم من الجود و السخاء و الشجاعة و نحوها من الماثر أو ما يعدون في آبائهم من المفاخر.
قال في القاموس: الحسب ما تعدّه من مفاخر آبائك أو المال أو الدّين أو الكرم أو الشرف في الفعل أو الفعال الصالح أو الشرف الثابت في الاباء و الحسب و الكرم قد يكونان لمن لا آباء له شرفاء و الشرف و المجد لا يكونان إلّا بهم.
روى في الكافي عن السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم آفة الحسب الافتخار و العجب.
و فيه عن عقبة الأسدي قال: قلت لأبى جعفر عليه السّلام: أنا عقبة بن بشير الأسدي و أنا في الحسب الضخم من قومي «عزيز فى قومى خ»، قال: فقال: ما تمنّ علينا بحسبك إنّ اللّه رفع بالايمان من كان الناس يسمّونه وضيعا إذا كان مؤمنا، و وضع بالكفر من كان يسمّونه شريفا إذا كان كافرا، فليس لأحد فضل على أحد إلّا بالتقوى.
و المراد بترفّعهم فوق نسبهم وضعهم أنفسهم في مقام لا يليق بهم لا يقتضى نسبهم وضعها فيه، و المراد بنسبهم إما طرف الاباء خاصّة أو مع الأقرباء أيضا فيكون هذا الكلام منه عليه السّلام مبتنيا على ما كان يعرفه في هؤلاء الكبراء و السّادات من عدم الشرف و المجد في آبائهم، أو كنّى بنسبهم عن أصلهم الذي انتسابهم إليه و هو الطين و الحمأالمسنون كما قال في الدّيوان المنسوب إليه:
فان يكن لهم في أصلهم شرف
يفاخرون به فالطين و الماء
و يحتمل أن يريد به النطفة التي اختلاقهم منها و انتسابهم إليها، و على أىّ تقدير ففي هاتين الجملتين طعن على الرؤساء، و إزراء على افتخارهم و تكبّرهم بالحسب و النسب روى في الكافي عن أبي حمزة الثمالي قال قال لي عليّ بن الحسين عليهما السّلام: عجبا للمتكبّر الفخور الذي كان بالأمس نطفة ثمّ غدا هو جيفة.
و فيه عن السّكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: أتا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رجل فقال يا رسول اللّه أنا فلان بن فلان حتّى عدّ تسعة، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أما أنك عاشرهم في النار.
و فى كتاب الروضة من الكافي عن عليّ بن إبراهيم عن عبد اللّه بن محمّد بن عيسى عن صفوان بن يحيى عن حنان قال سمعت أبي يروى عن أبي جعفر عليه السّلام قال: كان سلمان جالسا مع نفر من قريش في المسجد فأقبلوا ينتسبون و يرقون في أنسابهم حتّى بلغوا سلمان، فقال له عمر بن الخطاب: أخبرني من أنت و من أبوك و ما أصلك فقال: أنا سلمان بن عبد اللّه كنت ضالّا فهداني اللّه جلّ و عزّ بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و كنت عائلا فأغنانى اللّه بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و كنت مملوكا فأعتقني اللّه بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، هذا حسبي و نسبي.
قال: فخرج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و سلمان يكلّمه فقال له سلمان: يا رسول اللّه ما لقيت من هؤلاء جلست معهم فأخذوا ينتسبون و يرفعون في أنسابهم حتّى إذا بلغوا إلىّ قال عمر بن الخطاب: من أنت و ما أصلك و ما حسبك، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فما قلت له يا سلمان قال قلت له: أنا سلمان بن عبد اللّه كنت ضالّا فهدانى اللّه عزّ ذكره بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و كنت عائلا فأغناني اللّه بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كنت مملوكا فأعتقنى اللّه عزّ ذكره بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هذا نسبي و هذا حسبي فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا معشر قريش إنّ حسب الرّجل دينه، و مروّته خلقه، و أصله عقله، قال اللّه عزّ و جلّ «يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ».
ثمّ قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لسلمان: ليس لأحد من هؤلاء عليك فضل إلّا بتقوى اللّهعزّ و جلّ، و إن كان التقوى لك عليهم فأنت أفضل.
و قد مضت مطالب و روايات مناسبة للمقام في شرح الخطبة المأة و السابعة و الأربعين عند التعرّض لمعالجاة الكبر فتذكّر، هذا.
و قوله (و ألقوا الهجينة على ربّهم) أى نسبوا الخصلة القبيحة إلى اللّه سبحانه قال الشارح المعتزلي: أى نسبوا ما في الأنساب من القبح بزعمهم إلى ربهم مثل أن يقولوا للرجل: أنت عجميّ و نحن عرب، فانّ هذا ليس إلى الانسان بل هو إلى اللّه فأىّ ذنب له فيه.
(و جاحدوا اللّه على ما صنع بهم) أى أنكروه عزّ و جلّ على الذي أحسن به إليهم و أنعم به عليهم، و ذلك لأنّ ما منحهم اللّه عزّ ذكره به من الثروة و العزّة و المجد و الشرف و علوّ النسب و نحوها من صنايعه و عطاياه تعالى كلّها نعم عظيمة موجبة لشكر المنعم و ثنائه، و لما جعلوا ذلك سبب التنافس و التكبّر و الاعتلاء على من ليس فيه هذا السودد و الشرف و على الفقراء و الضعفاء كان ذلك منهم كفرانا للنعم و جحودا للمنعم و إنكارا له فيما أوجبه عليهم من الشكر و الثناء و الانقياد لأمره و نهيه.
و هذا معنى قوله (مكابرة لقضائه) يعني أنّ جحودهم لأجل مقابلتهم لما أمر اللّه به و فرضه عليهم من الشكر و مخالفتهم له ما للقرآن (و مغالبة لالائه) أى أنبيائه و أوصيائه الذينهم أعظم الالاء و النعماء.
و لما حذّر من طاعة السادات و الكبراء و وصفهم بأوصاف منفرة علّله بقوله (فانهم قواعد أساس العصبية) يعنى بهم قوام الكبر و العصبية و ثباته كما أنّ قوام الأساس بقواعده و استحكامه بها.
روى في الكافي باسناده عن الزهرى قال: سئل علىّ بن الحسين عليهما السّلام عن العصبية فقال: العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرّجل شرار قومه خيرا من خيار قوم آخرين، و ليس من العصبية أن يحبّ الرّجل قومه و لكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم.
و فيه عن علىّ بن إبراهيم عن أبيه عن النوفلى عن السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من كان فى قلبه حبّة من خردل من عصبية بعثه اللّه يوم القيامة مع أعراب الجاهلية.
و بسنده عن محمّد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: من تعصّب عصبه اللّه بعصابة من نار.
و عن منصور بن حازم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: من تعصّب أو تعصّب له فقد خلع ربق الايمان من عنقه.
(و دعائم أركان الفتنة) شبّه الفتنة ببيت ذي أركان و دعامة على سبيل الاستعارة بالكناية، و ذكر الأركان تخييل و الدعائم ترشيح، و جعلهم بمنزلة الدعائم له لأنّ قيام البيت و أركانه كما يكون بالدعامة و العماد فكذلك هؤلاء بهم ثبات الفتن و قوامها.
(و سيوف اعتزاء الجاهلية) و المراد باعتزاء الجاهلية هو نداؤهم يا لفلان يا لفلان فيسمّون قبيلتهم فيدعونهم إلى المقاتلة و إثارة الفتنة كما أشرنا إليه في شرح الفصل الأول فى سبب خطابته عليه السّلام بهذه الخطبة: و انما أضاف هذه الاعتزاء إلى الجاهلية لأنّ ذلك كان شعارا للعرب فيها كما روى في وقعة بدر أنّ أبا سفيان لما أرسل ضمضم بن عمرو الخزاعي إلى مكّة ليخبر قريش بخروج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم للتعرّض بعيرهم أوصاه أن يخرم ناقته و يقطع اذنها حتى يسيل الدّم و يشقّ ثوبه من قبل و دبر فاذا دخل مكّة يولّى وجهه إلى ذنب البعير و يصيح بأعلى صوته يا آل غالب يا آل غالب اللطيمة اللطيمة العير العير ادركوا و ما ادريكم تدركون فانّ محمّدا و الصباة من أهل يثرب قد خرجوا يتعرّضون لعيركم، و لما وافى مكّة و اعتزى هذا العزاء تصايح الناس و تهيّأوا للخروج و انما جعلهم بمنزلة السيوف لاعتزاء الجاهلية لكونهم سبب قوّة للمغترّين و يستمدّ منهم فى مقام الاعتزاء و المهيج للحرب و القتال، و بهم يضرم ناره فشبّههم بالسيّف الذى هو آلة ممدّة للحرب، و به يستعان فيها.
و يجوز أن يكون من حذف المضاف أى أصحاب سيوف اعتزاء الجاهلية، قاله بعض الشارحين و ما ذكرته ألطف و أحسن.
ثمّ عاد إلى الأمر بالتقوى فقال: (فاتّقوا اللّه و لا تكونوا لنعمه أضدادا) أى لا تكونوا مضادّين لنعمه سبحانه بالبغى و الكبر الموجبين للكفران الموجب لزوال النعم و تبدّلها بالنقم كما قال تعالى فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَ بَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَ أَثْلٍ. وَ شَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا.
(و لا لفضله عندكم حسادا) يجوز أن تكون اللّام زايدة للتقوية فالمسجود نفس الفضل أى لا تكونوا حاسدين بفضله و إحسانه الذى عندكم، و أن تكون للتعليل فالمحسود محذوف في الكلام أى لا تكونوا حاسدين لأنفسكم لأجل فضله كما تحسدون الناس على ما آتيهم اللّه من فضله.
فوجه تشبيههم بالحساد على الاحتمال الأوّل أنّ الحاسد إذا بلغ الغاية في حسده يتمنّى و يطلب موت المحسود و عدمه فكان هؤلاء بما فيهم من الكبر و الكفران بمنزلة الطالب لزوال الفضل و المتمنّى لانقطاعه فاشبهوا بالحاسد له.
و على الاحتمال الثاني أنّ الحاسد إنما يطلب زوال النعمة من المحسود، فهؤلاء لمّا تكبّروا و بغوا صاروا كأنّهم يحسدون أنفسهم و يطلبون زوال ما آتيهم اللّه من فضله منها، و على أىّ تقدير ففي الكلام من الدلالة على المبالغة ما لا يخفى.
(و لا تطيعوا الأدعياء) المنتحلين للاسلام العارين من مراسمه (الذين شربتم بصفوكم كدرهم) أى مزجتم بأصفى من امور دينكم و دنياكم بكدرهم فشربتموهما معا، و المراد بكدرهم ما يوجب تكدّر عيش المطيعين لهم في الدّنيا من الحسد و البغض و القتل و القتال و غير ذلك ممّا ينشأ من طاعة الأدعياء و إثارتهم للشّر و الفساد، و ما يوجب تكدّر الامور الدّينيّة و زوال خلوصها من البخل و الحقد و الحسد و البغضاء و نحوها من المنهيات و المعاصي الّتي يرتكبها التابعون بسبب اطاعة المتبوعين، و على رواية شريتم بالياء المثناة فالمعنى أنكم استبدلتم كدرهم بالصافي و اشتريتم الأوّل بالثاني.
(و خلطتم بصحّتكم مرضهم) أى خلطتم بصحة قلوبكم مرض قلوبهم فحذف المضاف و اقيم المضاف إليه مقامه، و المراد بصحّة القلوب سلامتها لقبول الحقّ، و بمرضها فتورها عن قبوله كما أنّ المرض في البدن هو فتور الأعضاء.
قال تعالى فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً قال الزمخشرى في الكشاف: استعمال المرض في القلب يجوز أن يكون حقيقة و مجازا فالحقيقة أن يراد الألم كما تقول في جوفه مرض، و المجاز أن يستعار لبعض أعراض القلب كسوء الاعتقاد و الغلّ و الحسد و الميل إلى المعاصى و العزم عليها و استشعار الهوى و الجبن و الضعف و غير ذلك مما هو فساد و آفة شبيهة بالمرض، كما استعيرت الصحّة و السّلامة في نقايض ذلك و المراد به ما في قلوبهم من سوء الاعتقار و الكفر أو من الغلّ و الحسد و البغضاء، لأنّ صدورهم كانت تغلى على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و المؤمنين غلّا و حنقا و يبغضونهم البغضاء الّتي وصفها اللّه في قوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا و يتحرّقون عليهم حسدا إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ.
(و أدخلتم في حقكم باطلهم) المراد بالحقّ هو الايمان و التعبّد بالعبادات الموظفة و المواظبة على صالح الأعمال، و بالباطل ما يقابل ذلك مما يؤدّى إلى الهلكات و يحلّ في الورطات من الكذب و النفاق و البخل و الحسد و الكبر و غيرها من الرذائل.
(و هم اساس الفسوق) أى هؤلاء الأدعياء الذين نهيتكم عن طاعتهم أصل الفسوق و عليهم ابتناؤه، و المراد بالفسوق إمّا خصوص الكذب كما في قوله تعالى فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِي الْحَجِّ على ما فسّر به في غير واحد من الأخبار، و كونهم أصلا له بما فيهم من وصف النّفاق الملازم للكذب إذ المنافقون يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، أو مطلق الخروج عن طاعة اللّه و هو الأظهر.
(و أحلاس العقوق) أى ملازمو العقوق لزوم الحلس للبعير، و المراد بالعقوق مخالفة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الإمام من بعده و ترك متابعتهم و الخروج عن طاعتهم الواجبة بقوله عزّ و جلّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ و إنما عبّر عن مخالفتهما عليهما السّلام بالعقوق لأنهما أبوا هذه الامّة.
(اتّخذهم إبليس مطايا ضلال) أى أخذهم مطايا أى مراكب تمطو أى تسرعفي السير إلى الضلال، و إنما شبّههم بالمطايا لأنّ المطية حين تركب صارت منقادة لراكبها يسوقها حيث أراد، فهؤلاء لما اعطوا قيادهم لابليس يقصد بهم نحو الضّلال ذللا و يسوقهم إليه جعلهم مطايا له.
(و جندا بهم يصول على الناس) أى أعوانا له كما قال تعالى اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ بهم يستطيل على الناس ليصرفهم عن طاعة الرّب إلى طاعته.
(و تراجمة ينطق على ألسنتهم) و إنما جعلهم ترجمانا له لأنّ أقوالهم كأفعالهم لما كانت صادرة عن إغواء إبليس و وسوسته تابعة لرضاه كان أحكامهم أحكامه، و كلامهم كلامه، و نطقهم نطقه، فصار ما يصدر عن ألسنتهم ترجمة لقوله و صاروا بمنزلة الترجمان له.
و هذا الكلام نظير ما تقدّم منه عليه السّلام في الخطبة السابعة من قوله: اتّخذوا الشيطان لأمرهم ملاكا و اتّخذهم له أشراكا، فباض و فرخ في صدورهم و دبّ و درج في حجورهم، فنظر بأعينهم و نطق بألسنتهم اه.
و علّل نطقه على ألسنتهم بقوله (استراقا لعقولكم) أى لأجل سرقة عقولكم شيئا فشيئا و هو كناية عن إغفاله لهم بأقواله الكاذبة عن ذكر الحقّ و الاخرة و ترغيبهم إلى الباطل كما قال تعالى وَ لَأُضِلَّنَّهُمْ وَ لَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ. خَلْقَ اللَّهِ وَ مَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ فانّ وعده قد يكون بالخواطر الفاسدة، و قد يكون بلسان أوليائه كما اشير إليه في قوله مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ. الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ. مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ.
روى عن عليّ بن إبراهيم القمىّ عن الصّادق عليه السّلام في هذه الاية قال: ما من قلب إلّا و له اذنان: على إحداهما ملك مرشد و على الاخرى شيطان مغتر، هذا يأمره و هذا يزجره كذلك من النّاس شيطان يحمل النّاس على المعاصى كما يحمل الشيطان من الجنّ.
و أصرح من الايتين ايضاحا للمرام قوله سبحانه وَ كَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَ الْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَ لَوْ شاءَرَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَ ما يَفْتَرُونَ. وَ لِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَ لِيَرْضَوْهُ وَ لِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ.
قال الطبرسي في تفسير الكلبي عن ابن عبّاس إنّ إبليس جعل جنده فريقين فبعث فريقا منهم إلى الانس و فريقا إلى الجنّ فشياطين الجنّ و الانس أعداء الرسل و المؤمنين، فيلتقي شياطين الانس و شياطين الجنّ في كلّ حين فيقول بعضهم لبعض: أضللت صاحبي بكذا فأضلّ صاحبك بمثلها، فذلك وحى بعضهم إلى بعض.
و روى عن أبي جعفر عليه السّلام أيضا أنّه قال: إنّ الشياطين يلقي بعضهم بعضا فيلقي إليه بالغوى «ما يغوى ظ» به الخلق حتّى يتعلّم بعضهم من بعض.
قال الطبرسي: يوحى بعضهم إلى بعض أى يوسوس و يلقى خفية زخرف القول أى المموّه المزين الذى يستحسن ظاهره و لا حقيقة له و لا أصل و قوله و لتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون، أى لتميل إلى هذا الوحى بزخرف القول أو إلى هذا القول المزخرف قلوب الذين لا يؤمنون.
فقد ظهر بذلك أنّ الأدعياء الذين اتّخذهم إبليس مطايا ضلال و جنودا و تراجمة له هم عبارة عن شياطين الانس، فينطق إبليس بلسانهم بزخرف القول و تميل إليه أفئدة الناس فتسترق بذلك عقولهم و يقترفون أى يكتسبون ما هم مكتسبون من الجرائم و الاثام.
و بذلك أيضا يظهر معنى قوله (و دخولا في عيونكم) لأنّه يزيّن بتوسّط أتباعه و شياطينه من الانس المعاصى في نظر الناس، و يموّه بزخرف قوله زينة الحياة الدّنيا في أعينهم فيصرفهم عن النظر إلى آيات اللّه، و هذا معنى الدّخول في العيون.
و به ظهر أيضا معنى قوله (و نفثا في أسماعكم) لأنّه يلقى إليهم بوساطة أوليائه زخرف القول فيستمعون إلى لغو حديثه و لا يستمعون إلى آيات اللّه التي إذا تليت عليهم زادتهم ايمانا.
و قوله (فجعلكم مرمى نبله و موطا قدمه و مأخذ يده) تفريع على ما سبقو بمنزلة النتيجة له، يعنى أنه إذا استرق عقولكم و دخل عيونكم و نفث أسماعكم فجعلكم بذلك هدفا لسهامه أي وساوسه الموقعة في هلاك الأبد كما أنّ السّهم يهلك من يصيبه، و جعلكم محلّا لوطى أقدامه أى داخرا ذليلا مهينا إذ من شأن الموطوء بالقدم الذّلة و المهانة، و مأخذا ليده أى أسيرا في يد اقتداره نافذا حكمه فيكم متصرّفا فيكم كيف يشاء كما هو شأن الأسير المقيّد المغلول.
ثمّ أمر بالاعتبار بما أصاب المتكبّرين من العذاب الأليم و السّخط العظيم فقال: (فاعتبروا بما أصاب الامم المستكبرين من قبلكم) لأجل استكبارهم (من بأس اللّه و صولاته و وقايعه و مثلاته) أى عذابه و عقوباته كما نطق به الكتاب الكريم قال وَ فِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ. فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَ قالَ ساحِرٌ. أَوْ مَجْنُونٌ. فَأَخَذْناهُ وَ جُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَ هُوَ مُلِيمٌ. وَ فِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ. الْعَقِيمَ. ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ. وَ فِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا. حَتَّى حِينٍ. فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ. فَمَا اسْتَطاعُوا. مِنْ قِيامٍ وَ ما كانُوا مُنْتَصِرِينَ. وَ قَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ إلى غير هؤلاء من المتكبّرين المتجبّرين المتمرّدين عن عبوديّة ربّ العالمين فانظروا إلى عاقبة امورهم.
(و اتّعظوا بمثاوى خدودهم و مصارع جنوبهم) أى منازل خدودهم و مساقط جنوبهم و ما هم عليه من غمّ الضّريح و ردم الصّفيح و ضيق الأرماس و شدّة الابلاس و اختلاف الأضلاع و استكاك الأسماع و ظلمة اللّحد و خيفة الوعد.
(و استعيذوا باللّه من لواقح الكبر) أى أسبابه المولدة له و المحصّلة اياه (كما تستعيذونه من طوارق الدّهر) و هى نوازله و آفاته بل ليكن استعاذتكم من الاولى أشدّ و أقوى من استعاذتكم من الثانية، لأنّ لواقح الكبر ألم اخروىّ و طوارق الدّهر ألم دنيوىّ و الألم الاخروىّ أشدّ تأثيرا و أخزى، فيكون بالاستعاذة و التوقّى أجدر و أحرى.
ثمّ أشار إلى حميّة الكبر مطلقا و انه لا رخصة فيه لأحد من آحاد المكلّفين فقال: (فلو رخّص اللّه) عزّ و جلّ (في الكبر) و أحلّه (لأحد من عباده لرخّص فيه لخاصّة أنبيائه و أوليائه) وجه الملازمة أنّ الترخيص فيه إنما يكون مع اشتماله على المصلحة و خلوّه عن المفسدة و لو كان كذلك لرخّص فيه الأنبياء و الأولياء و من يخطرهم من فوائده و منافعه لمكانتهم لديه و قربهم إليه و إلّا لزم تفويت ما تضمّنه من المصلحة في حقّهم و هو غير معقول بما لهم من الزلفي و القرب.
(و لكن) التالى أعنى الترخيص فيه للأنبياء و الأولياء باطل فالمقدّم مثله، و أشار إلى بطلان التالي بأنّ (اللّه كرّه إليهم التكابر و رضى لهم التواضع) كما يدلّ عليه العمومات و الاطلاقات الناهية عن التكبّر من دون استثناء لأحد، و الامرة بالتواضع كذلك مضافة إلى الخطابات الخاصّة بهم في الصّحف السّماوية و الأحاديث القدسيّة.
(فألصقوا بالأرض خدودهم و عفّروا في التراب وجوههم) امتثالا لما امروا به من التواضع و التذلل للخالق.
(و خفضوا أجنحتهم و كانوا قوما مستضعفين) امتثالا لما امرو به من التواضع للخلايق قال العلّامة المجلسيّ «ره»: خفض الجناح كناية عن لين الجانب و حسن الخلق و الشفقة، و مثله الشارح البحراني قال: لفظ الأجنحة مستعار من الطائر ليد الانسان و جانبه باعتبار ما هو محلّ البطش و النفرة، و خفض الجناح كناية عن لين الجانب.
و الأحسن ما في الكشاف قال في تفسير قوله تعالى وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الطائر إذا أراد أن ينحطّ للوقوع كسر جناحه و خفضه، و إذا أراد أن ينهض للطيران رفع جناحه فجعل خفض جناحه عند الانحطاط مثلا في التواضع و لين الجانب، و منه قول بعضهم:
و أنت الشهير بخفض الجناح
فلاتك في رفعه أجدلا
ينهاه عن التكبّر بعد التواضع و أراد بقوله و كانوا قوما مستضعفين كونهم متّصفين بالضعف و المسكنة في نظر الناس و ضيق العيش في الدّنيا كما أوضحه بقوله:
(و قد اختبرهم اللّه بالمخمصة) و الجوع (و ابتلاهم بالمجهدة) و المشقة (و امتحنهم بالمخاوف) و الأهاويل (و مخضهم) أى حركهم و زلزلهم، أو خلّصهم و طهّرهم إن كان من التمحيص (بالمكاره) و الشدائد.
و لما ذكر عليه السّلام محبوبية التواضع للّه سبحانه و مكروهية التكابر له تعالى و اتّصاف أنبيائه و ملائكته المقرّبين مع مكانتهم لديه و مرضيّين عنده بوصف التواضع و التذلل و الجوع و الفقر و المسكنة فرّع عليه قوله: (فلا تعتبروا الرّضا و السخط بالمال و الولد) أى إذا عرفتم أنّ رضى اللّه عن أنبيائه و أوليائه بمالهم من الذلّ و الجهد و المشاق، فلا تجعلوا رضاه منوطا بزهرة الحياة الدّنيا من الأموال و الأولاد و سخطه منوطا بعدمها (جهلا بمواقع الفتنة) و الابتلاء (و الاختبار في مواضع الغنى) و الفقر (و الاقتار) أى لا تجعلوا المال و الولد علامة الرضا و عدمهما دليلا على السّخط من أجل جهلكم بمواقع الامتحان في مواضع الثروة و الفقر، إذ ربما يكون الابتلاء بالفقر و المسكنة لأجل النيل إلى مقام الزلفي لا من جهة السّخط كما في حقّ الأولياء المقرّبين من الأنبياء و المرسلين، و يكون الابتلاء بالمال و الثروة للاستدراج و الازدياد في المعصية لا من جهة الرضى كما يشهد به الكتاب الكريم.
(ف) قد (قال) اللّه (تعالى) في سورة المؤمنين (أَ يَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَ بَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ) أى أ يحسبون أنّ الذى أمددناهم به تعجيل لهم في الخير.
قال في الكشاف: المعنى أنّ هذا الامداد ليس إلّا استدراجا لهم إلى المعاصى و استجرارا إلى زيادة الاثم و هم يحسبونه مسارعة لهم في الخيرات و فيما لهم فيه نفع و إكرام و معاجلة بالثواب قبل وقته كما يفعل بأهل الخير من المسلمين و قوله: بل، استدراك لقوله: أ يحسبون، يعنى هم أشباه البهائم لا فطنة بهم و لا شعور حتّى تأمّلوا و يتفكّروا أ هو استدراج أو مسارعة في الخير.
فقد ظهرن ذلك أنّ الامداد بالمال و البنين و البسط في الرّزق قد يكون نقمةو بلاء لا رحمة و عطاء كما في حقّ فرعون و ملائه الكافرين المستكبرين المسبوق ذكرهم في الاية الشريفة، و يكون الضيق و الاقتار تفضّلا و إحسانا لا سخطا و حرمانا كما في حقّ الأولياء المستضعفين من عباد اللّه المكرمين.
(فانّ اللّه سبحانه يختبر عباده المستكبرين في أنفسهم بأوليائه المستضعفين في أعينهم) لا يخفي حسن ارتباط هذه الجملة بسابقتها و ليس كلاما منقطعا عما قبله يستدعى ابتداء يكون معلّلا به كما زعمه الشارح البحراني، لأنه عليه السّلام لما نبّه أنّ المال و الولد ليس مناطا للرّضا و السّخط، و لا الامداد بهما لأجل تعجيل الخير، بل لأجل الاختبار و الافتتان للغاوين المستكبرين المكذّبين للرّسل عقّبه بهذا الكلام توضيحا و تبيينا، و المراد به أنه تعالى يمتحن المستكبرين بما أعطاهم من الأموال و الأولاد و القناطير المقنطرة من الذّهب و الفضّة و الأنعام و الحرث و نحوهما من متاع الحياة الدّنيا ببعث أوليائه المستضعفين في نظرهم إليهم، و عقّبه بذكر قصّة موسى و فرعون لزيادة الايضاح فقال: (و) ل (قد دخل) كليم اللّه (موسى بن عمران و معه أخوه هارون عليهما السّلام على فرعون) اللعين بالرّسالة من ربّ العالمين (و عليهما مدارع الصّوف و بأيديهما العصى ف) دعياه إلى الايمان باللّه و التصديق به و (شرطا له إن أسلم بقاء ملكه و دوام عزّه) و إنما شرطا له ذلك لأنّ قبول الدّعوة مع هذا الشرط أسهل فهو أقطع لوزره (فقال) نحوة و استكبارا للملاء حوله (ألا تعجبون من هذين) الاتيان باسم الاشارة للتحقير كما في قوله وَ إِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا أى هذا الحقير المسترذل يعنى به إبراهيم عليه السّلام.
(يشرطان لى دوام العزّ و بقاء الملك و هما) متلبّسان (بما ترون من حال الفقر و الذّل فهلا القى عليهما أساورة من ذهب).
قال صاحب التلخيص: هلّا في الماضى للتنديم، و قال شارح التلخيص و مع هذا فلا يخلو من ضرب من التوبيخ و اللوم على ما كان يجب أن يفعله المخاطب قبل أن يطلب منه، انتهى.
و على هذا فالمراد استحقارهما و توبيخهما على الخلوّ من الزينة و التجمل، فانهم كانوا إذا سوّروا رجلا سوّروه بسوار من ذهب و طوّقوه بطوق من ذهب.
و قد ورد في الكتاب الكريم حكاية هذا المعنى عن فرعون نحو ما أورده أمير المؤمنين عليه السّلام هنا قال تعالى في سورة الزّخرف وَ نادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَ لَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَ هذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَ فَلا تُبْصِرُونَ. أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ. هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَ لا يَكادُ يُبِينُ. فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ.
أى أفلا تبصرون هذا الملك العظيم و قوّتى و ضعف موسى، بل أنا خير من هذا الذي هو ضعيف حقير و لا يكاد يفصح بكلامه و حججه للعقدة الّتي في لسانه، فلو لا القى عليه أسورة من ذهب و مقاليد الملك إن كان صادقا و إنما قال ذلك (اعظاما للذّهب و جمعه و احتقارا للصّوف و لبسه).
تذييل
ينبنى أن نورد هنا شطرا من قصّة بعث موسى عليه السّلام إلى فرعون اللّعين.
قال المحدّث العلّامة المجلسى قدّس اللّه روحه في المجلّد الخامس من البحار: قال الثعلبي: قال العلماء بأخبار الماضين: لما كلّم اللّه موسى و بعثه إلى مصر خرج و لا علم له بالطريق، و كان اللّه تعالى يهديه و يدلّه و ليس معه زاد و لا سلاح و لا حمولة و لا شيء غير عصاه و مدرعة صوف و قلنسوة من صوف و نعلين، يظلّ صائما و يبيت قائما و يستعين بالصيد و يعول الأرض حتى ورد مصر، و لما قرب من مصر أوحى اللّه إلى أخيه هارون يبشّروه بقدوم موسى عليه السّلام و يخبره أنّه قد جعله لموسى وزيرا و رسولا معه إلى فرعون، و أمره أن يمرّ يوم السّبت لغرّة ذى الحجة متنكرا إلى شاطى النيل ليلقى في تلك الساعة بموسى قال: فخرج هارون و أقبل موسى عليه السّلام فالتقيا علي شط النيل قبل طلوع الشمس فاتفق أنه كان يوم ورود الأسد الماء، و كان لفرعون أسد تحرسه في غيضة محيطةبالمدينة من حولها، و كانت ترد الماء غبّا، و كان فرعون إذ ذاك في مدينة حصينة عليها سبعون سورا في كلّ سور رساتيق و أنهار و مزارع و أرض واسعة، في ربض«» كلّ سور سبعون ألف مقاتل.
و من وراء تلك المدينة غيضة تولى فرعون غرسها بنفسه و عمل فيها و سقاها بالنيل ثمّ أسكنها الأسد، فنسلت و توالدت حتى كثرت، ثمّ اتخذها جندا من جنوده تحرسه، و جعل خلال تلك الغيضة طرقا تقضى من يسلكها إلى باب من أبواب المدينة معلومة ليس لتلك الأبواب طريق غيرها فمن أخطأ وقع في الغيضة فأكلته الأسد، و كانت الاسود إذا وردت النيل ظلّ عليها يومها كلّها، ثمّ تصدر مع اللّيل.
فالتقى موسى و هارون عليهما السّلام يوم ورودها فلما أبصرتهما الأسد مدّت أعناقها و رؤوسها إليهما و شخصت أبصارها نحوهما و قذف اللّه في قلوبها الرّعب فانطلقت نحو الغيضة منهزمة هاربة على وجوهها تطأ بعضها بعضا حتى اندست في الغيضة، و كان له ساسة يسوسونها و ذادة يذودونها و يشلونها«» بالناس، فلما أصابها ما أصابها خاف ساستها فرعون و لم يشعروا من أين أتوا.
فانطلق موسى و هارون عليهما السّلام في تلك المسبعة حتى وصلا إلى باب المدينة الأعظم الذى هو أقرب أبوابها إلى منزل فرعون، و كان منه يدخل و منه يخرج، و ذلك ليلة الاثنين بعد هلال ذى الحجة بيوم، فأقاما عليه سبعة أيام فكلّمهما واحد من الحراس و زبرهما و قال لهما: هل تدريان لمن هذا الباب فقال: إنّ هذا الباب و الأرض كلّها و ما فيها لربّ العالمين و أهلها عبيد له، فسمع ذلك الرّجل قولا لم يسمع مثله قط و لم يظنّ أنّ أحدا من الناس يفصح بمثله، فلما سمع ما سمع أسرع إلى كبرائه الذين فوقه فقال لهم: سمعت اليوم قولا و عاينت عجبا من رجلين هو أعظم عندى و أفظع و أشنع مما أصابنا في الأسد، و ما كانا ليقدما على ما أقدما عليه الّا بسحر عظيم، و أخبرهم القصّة، فلا يزال ذلك يتداول بينهم حتّى انتهى إلى فرعون.
و قال السّدى: سار موسى عليه السّلام بأهله نحو مصر حتى أتاها ليلا فتضيف امّه و هى لا تعرفه و إنما أتاهم في ليلة كانوا يأكلون فيها الطفيشل«» و نزل في جانب الدار، فجاء هارون فلما أبصر ضيفه سأل عنه امّه فأخبرته أنّه ضيف، فدعاه فأكل معه فلما أن قعد تحدّثا فسأله هارون فقال: من أنت قال: أنا موسى، فقام كلّ واحد منهما إلى صاحبه فاعتنقه فلما أن تعارفا قال له موسى: يا هارون انطلق معى الى فرعون فانّ اللّه عزّ و جلّ قد أرسلنا إليه، فقال هارون: سمعا و طاعة، فقامت امّهما فصاحت و قالت: انشد كما اللّه أن تذهبا إلى فرعون فيقتلكما، فأبيا و مضيا لأمر اللّه سبحانه فانطلقا إليه ليلا، فأتيا الباب و التمسا الدّخول عليه ليلا، فقرعا الباب ففزع فرعون و فزع البواب، و قال فرعون: من هذا الذى يضرب بابى الساعة فأشرف. عليهما البّواب فكلّمهما موسى: أنا رسول ربّ العالمين فأتى فرعون فأخبره و قال: إنّ هنا إنسانا مجنونا يزعم أنه رسول ربّ العالمين.
و قال محمد بن إسحاق بن يسار: خرج موسى عليه السّلام لما بعثه اللّه سبحانه حين قدم مصر على فرعون هو و أخوه هارون حتّى وقفا على باب فرعون يلتمسان الاذن عليه و هما يقولان: إنا رسول «لا» ربّ العالمين فأذنوا بنا هذا الرّجل، فمكثا سنتين يغدوان إلى بابه و يروحان لا يعلم بهما و لا يجترى أحد أن يخبره بشأنهما حتّى دخل عليه بطال له يلعب عنده و يضحكه فقال له: أيّها الملك إنّ على بابك رجلا يقول قولا عظيما عجيبا يزعم أنّ له إلها غيرك، فقال: ببابى ادخلوه، فدخل موسى و معه هارون على فرعون، فلما وقفا عنده قال فرعون لموسى: من أنت قال: أنا رسول ربّ العالمين، فتأمّله فرعون فعرفه.
فقال له: «أَ لَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَ لَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ. وَ فَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَ أَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ» معناه على ديننا هذا الّذى تعيبه قال: قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَ أَنَا مِنَ المخطئين و لم أرد بذلك القتل- ففررت منكم لمّا خفتكم فوهب لي ربّي حكما أى نبوّة وَ جَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ ثمّ أقبل موسى ينكر عليه ما ذكر فقال وَ تِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ أى اتّخذتهم عبيدا تنزع أبناءهم من أيديهم تسترق من شئت أى إنّما صيّرني إليك ذلك قالَ فِرْعَوْنُ وَ ما رَبُّ الْعالَمِينَ. قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ. قالَ- فرعون- لِمَنْ حَوْلَهُ أَ لا تَسْتَمِعُونَ» إنكارا لما قال «قال» موسى رَبُّكُمْ وَ رَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ. قالَ- فرعون- قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ يعني ما هذا الكلام صحيح إذ يزعم أنّ لكم إلها غيرى «قالَ- موسى- قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ ما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ. تَعْقِلُونَ» فرعون لموسى «قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ. مِنَ. الْمَسْجُونِينَ قالَ أَ وَ لَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ» تعرف به صدقي و كذبك و حقّي و باطلك. «قالَ- فرعون- قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ. الصَّادِقِينَ فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ» فاتحة فاها قد ملأت ما بين سماطي فرعون واضعة لحييها الأسفل في الأرض و الأعلى في سور القصر حتّى رأى بعض من كان خارجا من مدينة مصر رأسها، ثمّ توجهت نحو فرعون لتأخذه فارفض عنها النّاس و زعر عنها فرعون و وثب عن سريره و أحدث حتّى قام به بطنه في يومه ذلك أربعين مرّة و كان فيما يزعمون أنه لا يسعل و لا يصدع و لا يصيبه آفة مما يصيب الناس و كان يقوم في أربعين يوما مرّة و كان اكثر ما يأكل الموز لكيلا يكون له ثقل فيحتاج إلى القيام به و كان هذه الأشياء ممّا زيّن له أن قال ما قال لأنّه ليس له من الناس شبيه.
قالوا: فلما قصدته الحيّة صاح يا موسى انشدك باللّه و حرمة الرضاع إلّا أخذتها و كففتها عنّى و إنى او من بك و ارسل معك بني اسرائيل، فأخذها موسى فعادت عصا كما كانت ثمّ نزع يده من حبيبه فأخرجها بيضاء من الثلج لها شعاع كشعاع الشمس، فقال له فرعون: هذه يدك فلما قالها فرعون أدخلها موسى جيبه ثمّ أخرجها الثانية لها نور ساطع في السماء تكلّ منها الأبصار و قد أضاءت ما حولها يدخل نورها في البيوت و يرى من الكوا من وراء الحجب، فلم يستطع فرعون النظر اليها، ثمّ ردّها موسى إلى جيبه ثمّ أخرجها فإذا هي على لونها الأوّل.
قالوا: فهمّ فرعون بتصديقه فقام اليه هامان و جلس بين يديه فقال له: بينا أنت اله تعبد إذا أنت تابع لعبد، فقال فرعون لموسى: أمهلني اليوم الى غدو أوحى اللّه تعالى إلى موسى أن قل لفرعون إنك إن آمنت باللّه وحده عمرتك في ملكك و رددت شابا طريا، فاستنظره فرعون، فلما كان من الغد دخل عليه هامان فأخبره فرعون بما وعده موسى من ربّه فقال هامان: و اللّه ما يعدل هذا عبادة هؤلاء لك يوما واحدا و نفخ في منخره ثمّ قال له هامان أنا أردك شابا، فأتا بالوسمة فخضبه بها فلما دخل عليه موسى فرآه على تلك الحالة هاله ذلك، فأوحى اللّه إليه لا يهولنك ما رأيت فانه لا يلبث الّا قليلا حتّى يعود إلى الحالة الاولى.
و في بعض الروايات أنّ موسى و هارون عليهما السّلام لما انصرفا من عند فرعون أصابهما المطر في الطريق فأتيا على عجوز من أقرباء امّهما و وجّه فرعون الطلب في أثرهما، فلما دخل عليهما اللّيل ناما في دارها و جاءت الطلب إلى الباب و العجوز منتبهة، فلمّا أحسّت بهم خافت عليهما فخرجت العصا من صبر«» الباب و العجوز تنظر، فقاتلهم حتّى قتلت منهم سبعة أنفس ثمّ عادت و دخلت الدار، فلما انتبه موسى و هارون عليهما السلام أخبرتهما بقصّة الطلب و نكاية العصا منهم فامنت بهما و صدقتهما.
ثمّ قال الثعلبي: قالت العلماء بأخبار الأنبياء: إنّ موسى و هارون وضع فرعون أمرهما و ما أتيا به من سلطان اللّه سبحانه على السحر و قال للملاء من قومه إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما فما ذا تأمرون أ أقتلهما فقال العبد الصالح خربيل مؤمن آل فرعون: «أَ تَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَ قَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ- إلى قوله- يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلَّا. و قال الملا من قوم فرعون أَرْجِهْ وَ أَخاهُ. وَ ابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ. يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ» و كانت لفرعون مدائن فيها السحرة عدّة للامر إذا حزيه.«» و قال ابن عبّاس: قال فرعون لما رأى من سلطان اللّه فى اليد و العصا: إنا لا نغالب موسى إلّا بمن هو مثله، فأخذ غلمانا من بني اسرائيل فبعث بهم إلى قرية يقال له الغرماء يعلّمونهم السحر كما يعلّمون الصبيان الكتاب في الكتاب فعلّموهم سحرا كثيرا و واعد فرعون موسى موعدا، فبعث فرعون إلى السحرة فجاء بهم و معهم معلّمهم، فقالوا له: ما ذا صنعت فقال: قد علّمتهم سحرا لا يطيقه سحر أهل الأرض إلّا أن يكون أمر من السماء فانّه لا طاقة لهم به، ثمّ بعث فرعون الشرطي في مملكته فلم يترك ساحرا في سلطانه إلّا أتى به.
و اختلفوا فى عدد السحرة الذين جمعهم فرعون.
فقال مقاتل: كانوا اثنين و سبعين ساحرا اثنان منهم من القبط و هما رأسا القوم و سبعون من بنى اسرائيل.
و قال الكلبى كانوا سبعين ساحرا غير رئيسهم و كان الّذى يعلّمهم ذلك رجلين مجوسيّين من أهل نينوى.
و قال السّدى كانوا بضعا و ثلاثين ألفا.
و قال عكرمة سبعين ألفا.
و قال محمّد بن المنكدر ثمانين ألفا.
فاختار منهم سبعة آلاف ليس منهم إلّا ساحر ماهر، ثمّ اختار منهم سبعمائة، ثمّ اختار من اولئك السبعمائة سبعين من كبرائهم و علمائهم.
قال مقاتل و كان رئيس السحرة اخوين بأقصى مداين مصر، فلما جاءهما رسول فرعون قالا لامّهما دلّينا على قبر أبينا، فدلّتهما عليه فأتياه فصاحا باسمه فأجابهما فقالا: إنّ الملك وجّه الينا أن نقدم عليه لأنه أتاه رجلان ليس معهما رجال و لا سلاح و لهما عزّ و منعة و قد ضاق الملك ذرعا من عزّهما و معهما عصا إذا ألقياها لا يقوم لها شيء تبلع الحديد و الخشب و الحجر، فأجابهما أبوهما انظر إذا هما نامافان قدرتما أن تسلا العصا فسلاها، فانّ الساحر لا يعمل سحره و هو نائم، و إن عملت العصا و هما نائمان فذلك أمر ربّ العالمين و لا طاقة لكما به و لا للملك و لا لجميع أهل الدّنيا، فأتياهما في خفية و هما نائمان ليأخذا العصا فقصدتهما العصا.
قالوا: ثمّ واعدوه يوم الزينة و كانوا يوم سوق عن سعيد بن جبير، و قال ابن عباس كان يوم عاشورا و وافق ذلك يوم السّبت في أوّل يوم من السنة و هو يوم النيروز و كان يوم عيد لهم يجتمع اليه الناس من الافاق، قال عبد الرّحمن بن زيد بن اسلم و كان اجتماعهم للميقات بالاسكندرية و يقال بلع ذنب الحيّة من وراء البحيرة يومئذ.
قالوا: ثمّ قال السحرة لفرعون «وَ جاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً. إِنْ- فرعون- قالَ نَعَمْ وَ إِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ» عندى في المنزلة، فلما اجتمع النّاس جاء موسى عليه السّلام و هو متّكي على عصاه و معه أخوه هارون حتّى اتا الجمع و فرعون في مجلسه مع أشراف قومه فقال موسى للسحرة حين جاءهم «وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَ قَدْ خابَ مَنِ افْتَرى» فتناجي السحرة بينهم و قال بعضهم لبعض ما هذا قول ساحر فذلك قوله تعالى فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَ أَسَرُّوا النَّجْوى فقالت السحرة لنأتينّك اليوم بسحر لم تر مثله، و قالوا بعزّة فرعون إنّا لنجن الغالبون و كانوا قد جاءوا بالعصىّ و الحبال تحملها ستّون بعيرا.
فلما أبوا إلّا الاصرار على السّحر قالوا لموسى: إما أن تلقى و إما أن نكون أوّل من ألقى، قال بل ألقوا أنتم فألقوا حبالهم و عصيّهم فاذا هي حيّات كأمثال الجبال قد ملأت الوادى يركب بعضها بعضها تسعى، فذلك قوله تعالى قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَ. عِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ و قال و اللّه ان كانت لعصيّا في أيديهم و لقد عادت حيّات و ما يعدّون عصاى هذه أو كما حدث نفسه فأوحى اللّه تعالى اليه «قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ. الْأَعْلى وَ أَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَ لا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ».
ففرّج عن موسى و ألقى عصاه من يده فاذا هى ثعبان مبين كأعظم ما يكون أسود مدلهم على أربع قوائم غلاظ شداد و هو أعظم و أطول من البختى و له ذنب يقومعليه فيشرف فوق حيطان المدينة رأسه و عنقه و كاهله لا يضرب ذنبه على شيء إلّا حطمه و قصمه و يكسر بقوائمه الصخور الصمّ الصّلاب و يطحن كلّ شيء و يضرم حيطان البيوت بنفسه نارا، و له عينان تلتهبان نارا و منخران تنفخان سموما، و على مفرقه كأمثال الرّماح، و صارت الشعبتان له فيما سعته اثنا عشر ذراعا، و فيه أنياب و اضراس و له صحيح و كشيش و صرير و صريف فاستعرضت ما القى السحرة من حبالهم و عصيّهم و هي حيّات في عين فرعون و أعين الناس تسعى تلقفها و تبتلعها واحدا واحدا حتّى ما يرى في الوادى قليل و لا كثير مما ألقوا، و انهزم الناس فزعين هاربين منقلبين، فتزاحموا و تساقطوا و وطيء بعضهم بعضا حتّى مات منهم يومئذ في ذلك الزحام و مواطىء الأقدام خمسة و عشرون ألفا، و انهزم فرعون فيمن انهزم منخوبا«» مرعوبا عازبا عقله و قد استطلق بطنه في يومه ذلك أربعمائة مرّة ثمّ بعد ذلك إلى أربعين مرّة في اليوم و الليلة على الدوام إلى أن هلك.
فلما انهزم الناس و عاين السحرة ما عاينوا و قالوا لو كان سحرا لما غلبنا و لما خفى علينا أمره، و لئن كان سحرا فأين حبالنا و عصيّنا، فالقوا سجّدا و قالوا آمنا بربّ العالمين ربّ موسى و هرون، و كان فيهم اثنان و سبعون شيخا قد انحنت ظهورهم من الكبر و كانوا علماء السحرة و كان رئيس جماعتهم أربعة نفر سابور و عادور و حطحط و مصّفادهم الذين آمنوا و رأوا ما رأوا من سلطان اللّه ثمّ آمنت السحرة كلّهم.
فلما رأى فرعون ذلك اسف و قال لهم متجلّدا «قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَ لَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَ. أَبْقى قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما. جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَ الَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ. الدُّنْيا إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَ ما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَ اللَّهُ خَيْرٌ وَ» فقطع ايديهم و أرجلهم من خلاف و صلبهم على جذوع النّخل و هو أوّل من فعل ذلك فأصبحوا سحرة كفرة و امسوا شهداء بررة و رجع فرعون مغلوبا معلولا،ثمّ أبى إلّا إقامة على الكفر و التمادى فيه فتابع اللّه تعالى بالايات و أخذه و قومه بالسنين إلى أن أهلكهم.
و خرج موسى عليه السّلام راجعا إلى قومه و العصا على حالها حيّة تتبعه و تبصبص حوله و تلوذ به كما يلوذ الكلب الألوف بصاحبه و الناس ينظرون إليها ينخزلون و يتضاغطون حتّى وصل موسى عليه السّلام عسكر بنى اسرائيل و أخذ برأسها فاذا هى عصاه كما كانت أوّل مرّة، و شتّت اللّه على فرعون أمره و لم يجد على موسى سبيلا، فاعتزل موسى في مدينته و لحق بقومه و عسكروا مجتمعين الى أن صاروا ظاهرين كافرين و الحمد للّه ربّ العالمين.
الترجمة
فصل سيّم از اين خطبه در توبيخ مخاطبين است ببغى و فساد مىفرمايد: آگاه باشيد كه بغايت مبالغه مشغول شديد و ستم و فساد كرديد در زمين از جهت آشكارا مقابل شدن خدا بعداوت و مبارزت نمودن مؤمنان بمحاربه، پس بترسيد از خدا در گردن كشى از حميّت و نازش جاهليّت، پس بدرستى كه كبر توليد كننده عداوت و دشمنيست، و مواضع نفس زدن شيطان ملعون است كه فريب داد بان امّتهاى گذشته و قرنهاى سابقه را تا اين كه سرعت كردند آن امّتها در تاريكيهاى جهالت او، و مواضع افتادن ضلالت او، در حالتى كه رام بودند از راندن آن ملعون، و روان بودند در كشيدن آن بسوى امرى كه متشابه شد قلبها در آن، و متابع شد قرنها بر آن و بسوى كبرى كه تنگ شد سينها بسبب آن.
آگاه باشيد پس البته حذر نمائيد از اطاعت آقايان خود و بزرگان خود كه تكبّر نمودند از جهت حسب خودشان، و اظهار رفعت نمودند بالاى نسب خود، و انداختند كار زشت و قبيح را بر پروردگار خود، و انكار خدا نمودند بر احسانى كه بايشان كرده بود بجهت انكار كردن بر قضاى او، و غلبگى جستن مر نعمتهاى او را.
پس بدرستى كه آن رؤساء قاعدهاى بناى عصبيّت است و ستونهاى ركنهاىفتنه و شمشيرهاى نسبت دادن جاهليّت.
پس پرهيز نمائيد از خدا و مباشيد مر نعمتهاى او را ضدّها و نه احسان او را كه در نزد شما است حسد كنندها، و اطاعت ننمائيد به كسانى كه ادّعاى اسلام ميكنند و عارى از شرايط اسلام مىباشند همچنان اشخاصى كه آشاميديد باب صافى خودتان آب گل آلود ايشان را، و آميختيد بتندرستى خود كه خلوص ايمان است ناخوشى ايشان را كه عبارتست از نفاق و عصيان، و داخل كرديد در حق خود باطل ايشان را، و ايشان بنيان فسقند و ملازمين عقوق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و امام عليه السّلام اخذ كرد شيطان لعين ايشان را شتران باركش گمراهى، و لشكرانى كه بايشان حمله ميكند بر مردمان و ترجمانهائى كه حرف مىزند بر زبانهاى ايشان بجهت دزديدن او عقلهاى شما را، و بجهت داخل شدن در ديدهاى شما و دميدن در گوشهاى شما، پس گردانيد شيطان شما را نشان گاه تير خود، و محلّ رفتار قدمهاى خود و موضع گرفتن دست خود.
پس عبرت بگيريد به آن چه رسيد بامتهائى كه استكبار كردند پيش از شما از سطوت خدا و حملهاى او و عذابهاى او و عقوبات او، و متّعظ بشويد بمقامهاى رخسارهاى ايشان در قبرها، و مواضع افتادن پهلوهاى ايشان، و پناه بريد بخدا از اسبابى كه توليد كبر مىنمايند چنانكه پناه مىبريد باو از حوادث روزگار.
پس اگر رخصت مىداد خداوند متعال در كبر نمودن از براى احدى از بندگان خود را هر آينه رخصت مى داد در آن از براى خواص انبياى خود ليكن خدا مكروه گردانيد بسوى ايشان تكبّر را، و خوش داشت از براى ايشان تواضع و فروتنى را، پس چسبانيدند آن پيغمبران در زمين رخسارهاى خودشان را از غايت تواضع و خشوع، و ماليدند رويهاى خود را در خاك از فرط تذلّل و خضوع، و خفض جناح كردند از براى مؤمنان، و بودند آن پيغمبران قومهاى ضعيف شمرده شده كه امتحان فرمود ايشان را خداى تعالى بگرسنگى، و مبتلا گردانيد ايشان را بأنواع مشقّت و زحمت، و امتحان فرمود ايشان را باسباب خوف، و اختبار كرد ايشان را باقسام مكروهات.
پس اعتبار مكنيد خوشنودى و غضب خدا را بكثرت مال و فرزند و فقدان از جهت نادانى شما بمواقع امتحان در جاهاى توانگرى و درويشى، پس بتحقيق فرموده است خداى عزّ و جلّ در قرآن مجيد «آيا گمان مي كنند ايشان كه آن چيزى كه مدد مىدهيم و زياده مىگردانيم ايشان را بان از مال و اولاد تعجيل مىكنيم از براى ايشان در خيرات آن جهان بلكه نمى دانند كه اين از بابت استدراج و مهلت است نه از جهت سود و منفعت».
پس بدرستى كه حق تعالى امتحان مى فرمايد بندگان خود را كه متكبّرانند در نزد خودشان بدوستان مقرّبان خود كه ضعيف شمرده مى شود در ديدهاى آن متكبّران، و بتحقيق كه داخل شد موسى بن عمران عليه السّلام در حالتى كه با او بود برادر او هارون عليه السّلام بر فرعون ملعون و بر ايشان بود خرقهاى پشمين، و بر دست ايشان بود عصاى چوبين، پس شرط كردند از براى فرعون اگر مسلمان شود باقى بودن پادشاهى او را، و هميشگى عزّت و سلطنت او را، پس گفت فرعون بقوم خود از روى حقارت: آيا تعجّب نمىكنيد از اين دو شخص كه شرط ميكنند از براى من دوام رفعت و بقاء ملك و مملكت را و حال آنكه ايشان بان حالى است كه مىبينيد از حالت فقر و ذلت، پس چرا انداخته نشد بر ايشان دست برنجها از طلا، اين گفتار فرعون از جهت بزرگ شمردن طلا و جمع كردن آن بود، و بجهت حقير شمردن پشم و پوشيدن آن كه موسى و هارون پوشيده بودند.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»