خطبه 185 صبحی صالح
185- و من خطبة له ( عليه السلام ) يحمد اللّه فيها و يثني على رسوله و يصف خلقا من الحيوان
حمد اللّه تعالى
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَا تُدْرِكُهُ الشَّوَاهِدُ وَ لَا تَحْوِيهِ الْمَشَاهِدُ وَ لَا تَرَاهُ النَّوَاظِرُ وَ لَا تَحْجُبُهُ السَّوَاتِرُ
الدَّالِّ عَلَى قِدَمِهِ بِحُدُوثِ خَلْقِهِ وَ بِحُدُوثِ خَلْقِهِ عَلَى وُجُودِهِ
وَ بِاشْتِبَاهِهِمْ عَلَى أَنْ لَا شَبَهَ لَهُ
الَّذِي صَدَقَ فِي مِيعَادِهِ وَ ارْتَفَعَ عَنْ ظُلْمِ عِبَادِهِ وَ قَامَ بِالْقِسْطِ فِي خَلْقِهِ وَ عَدَلَ عَلَيْهِمْ فِي حُكْمِهِ
مُسْتَشْهِدٌ بِحُدُوثِ الْأَشْيَاءِ عَلَى أَزَلِيَّتِهِ وَ بِمَا وَسَمَهَا بِهِ مِنَ الْعَجْزِ عَلَى قُدْرَتِهِ وَ بِمَا اضْطَرَّهَا إِلَيْهِ مِنَ الْفَنَاءِ عَلَى دَوَامِهِ
وَاحِدٌ لَا بِعَدَدٍ وَ دَائِمٌ لَا بِأَمَدٍ وَ قَائِمٌ لَا بِعَمَدٍ
تَتَلَقَّاهُ الْأَذْهَانُ لَا بِمُشَاعَرَةٍ وَ تَشْهَدُ لَهُ الْمَرَائِي لَا بِمُحَاضَرَةٍ
لَمْ تُحِطْ بِهِ الْأَوْهَامُ بَلْ تَجَلَّى لَهَا بِهَا وَ بِهَا امْتَنَعَ مِنْهَا وَ إِلَيْهَا حَاكَمَهَا
لَيْسَ بِذِي كِبَرٍ امْتَدَّتْ بِهِ النِّهَايَاتُ فَكَبَّرَتْهُ تَجْسِيماً وَ لَا بِذِي عِظَمٍ تَنَاهَتْ بِهِ الْغَايَاتُ فَعَظَّمَتْهُ تَجْسِيداً بَلْ كَبُرَ شَأْناً وَ عَظُمَ سُلْطَاناً
الرسول الأعظم
وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ الصَّفِيُّ وَ أَمِينُهُ الرَّضِيُّ ( صلى الله عليه وآله )
أَرْسَلَهُ بِوُجُوبِ الْحُجَجِ
وَ ظُهُورِ الْفَلَجِ وَ إِيضَاحِ الْمَنْهَجِ فَبَلَّغَ الرِّسَالَةَ صَادِعاً بِهَا وَ حَمَلَ عَلَى الْمَحَجَّةِ دَالًّا عَلَيْهَا وَ أَقَامَ أَعْلَامَ الِاهْتِدَاءِ وَ مَنَارَ الضِّيَاءِ وَ جَعَلَ أَمْرَاسَ الْإِسْلَامِ مَتِينَةً وَ عُرَى الْإِيمَانِ وَثِيقَةً
منها في صفة خلق أصناف من الحيوان
وَ لَوْ فَكَّرُوا فِي عَظِيمِ الْقُدْرَةِ وَ جَسِيمِ النِّعْمَةِ لَرَجَعُوا إِلَى الطَّرِيقِ وَ خَافُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ
وَ لَكِنِ الْقُلُوبُ عَلِيلَةٌ وَ الْبَصَائِرُ مَدْخُولَةٌ
أَ لَا يَنْظُرُونَ إِلَى صَغِيرِ مَا خَلَقَ كَيْفَ أَحْكَمَ خَلْقَهُ وَ أَتْقَنَ تَرْكِيبَهُ وَ فَلَقَ لَهُ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ سَوَّى لَهُ الْعَظْمَ وَ الْبَشَرَ
انْظُرُوا إِلَى النَّمْلَةِ فِي صِغَرِ جُثَّتِهَا وَ لَطَافَةِ هَيْئَتِهَا لَا تَكَادُ تُنَالُ بِلَحْظِ الْبَصَرِ وَ لَا بِمُسْتَدْرَكِ الْفِكَرِ كَيْفَ دَبَّتْ عَلَى أَرْضِهَا وَ صُبَّتْ عَلَى رِزْقِهَا تَنْقُلُ الْحَبَّةَ إِلَى جُحْرِهَا وَ تُعِدُّهَا فِي مُسْتَقَرِّهَا
تَجْمَعُ فِي حَرِّهَا لِبَرْدِهَا وَ فِي وِرْدِهَا لِصَدَرِهَا
مَكْفُولٌ بِرِزْقِهَا مَرْزُوقَةٌ بِوِفْقِهَا لَا يُغْفِلُهَا الْمَنَّانُ وَ لَا يَحْرِمُهَا الدَّيَّانُ وَ لَوْ فِي الصَّفَا الْيَابِسِ وَ الْحَجَرِ الْجَامِسِ
وَ لَوْ فَكَّرْتَ فِي مَجَارِي أَكْلِهَا فِي عُلْوِهَا وَ سُفْلِهَا وَ مَا فِي الْجَوْفِ مِنْ شَرَاسِيفِ بَطْنِهَا وَ مَا فِي الرَّأْسِ مِنْ عَيْنِهَا وَ أُذُنِهَا لَقَضَيْتَ مِنْ خَلْقِهَا عَجَباً وَ لَقِيتَ مِنْ وَصْفِهَا تَعَباً
فَتَعَالَى الَّذِي أَقَامَهَا عَلَى قَوَائِمِهَا وَ بَنَاهَا عَلَى دَعَائِمِهَا
لَمْ يَشْرَكْهُ فِي فِطْرَتِهَا فَاطِرٌ
وَ لَمْ يُعِنْهُ عَلَى خَلْقِهَا قَادِرٌ
وَ لَوْ ضَرَبْتَ فِي مَذَاهِبِ فِكْرِكَ لِتَبْلُغَ غَايَاتِهِ مَا دَلَّتْكَ الدَّلَالَةُ إِلَّا عَلَى أَنَّ فَاطِرَ النَّمْلَةِ هُوَ فَاطِرُ النَّخْلَةِ
لِدَقِيقِ تَفْصِيلِ كُلِّ شَيْءٍ وَ غَامِضِ اخْتِلَافِ كُلِّ حَيٍّ
وَ مَا الْجَلِيلُ وَ اللَّطِيفُ وَ الثَّقِيلُ وَ الْخَفِيفُ وَ الْقَوِيُّ وَ الضَّعِيفُ فِي خَلْقِهِ إِلَّا سَوَاءٌ
خلقة السماء و الكون
وَ كَذَلِكَ السَّمَاءُ وَ الْهَوَاءُ وَ الرِّيَاحُ وَ الْمَاءُ
فَانْظُرْ إِلَى الشَّمْسِ وَ الْقَمَرِ وَ النَّبَاتِ وَ الشَّجَرِ وَ الْمَاءِ وَ الْحَجَرِ وَ اخْتِلَافِ هَذَا اللَّيْلِ وَ النَّهَارِ وَ تَفَجُّرِ هَذِهِ الْبِحَارِ وَ كَثْرَةِ هَذِهِ الْجِبَالِ وَ طُولِ هَذِهِ الْقِلَالِ وَ تَفَرُّقِ هَذِهِ اللُّغَاتِ وَ الْأَلْسُنِ الْمُخْتَلِفَاتِ
فَالْوَيْلُ لِمَنْ أَنْكَرَ الْمُقَدِّرَ وَ جَحَدَ الْمُدَبِّرَ
زَعَمُوا أَنَّهُمْ كَالنَّبَاتِ مَا لَهُمْ زَارِعٌ وَ لَا لِاخْتِلَافِ صُوَرِهِمْ صَانِعٌ
وَ لَمْ يَلْجَئُوا إِلَى حُجَّةٍ فِيمَا ادَّعَوْا وَ لَا تَحْقِيقٍ لِمَا أَوْعَوْا وَ هَلْ يَكُونُ بِنَاءٌ مِنْ غَيْرِ بَانٍ أَوْ جِنَايَةٌ مِنْ غَيْرِ جَانٍ
خلقة الجرادة
وَ إِنْ شِئْتَ قُلْتَ فِي الْجَرَادَةِ إِذْ خَلَقَ لَهَا عَيْنَيْنِ حَمْرَاوَيْنِ وَ أَسْرَجَ لَهَا حَدَقَتَيْنِ قَمْرَاوَيْنِ وَ جَعَلَ لَهَا السَّمْعَ الْخَفِيَّ وَ فَتَحَ لَهَا الْفَمَ السَّوِيَّ وَ جَعَلَ لَهَا الْحِسَّ الْقَوِيَّ وَ نَابَيْنِ بِهِمَا تَقْرِضُ وَ مِنْجَلَيْنِ بِهِمَا تَقْبِضُ
يَرْهَبُهَا الزُّرَّاعُ فِي زَرْعِهِمْ وَ لَا يَسْتَطِيعُونَ ذَبَّهَا
وَ لَوْ أَجْلَبُوا بِجَمْعِهِمْ حَتَّى تَرِدَ الْحَرْثَ فِي نَزَوَاتِهَا وَ تَقْضِيَ مِنْهُ شَهَوَاتِهَا
وَ خَلْقُهَا كُلُّهُ لَا يُكَوِّنُ إِصْبَعاً مُسْتَدِقَّةً
فَتَبَارَكَ اللَّهُ الَّذِي يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاًوَ يُعَفِّرُ لَهُ خَدّاً وَ وَجْهاً
وَ يُلْقِي إِلَيْهِ بِالطَّاعَةِ سِلْماً وَ ضَعْفاً وَ يُعْطِي لَهُ الْقِيَادَ رَهْبَةً وَ خَوْفاً
فَالطَّيْرُ مُسَخَّرَةٌ لِأَمْرِهِ أَحْصَى عَدَدَ الرِّيشِ مِنْهَا وَ النَّفَسِ وَ أَرْسَى قَوَائِمَهَا عَلَى النَّدَى وَ الْيَبَسِ
وَ قَدَّرَ أَقْوَاتَهَا وَ أَحْصَى أَجْنَاسَهَا
فَهَذَا غُرَابٌ وَ هَذَا عُقَابٌ وَ هَذَا حَمَامٌ وَ هَذَا نَعَامٌ
دَعَا كُلَّ طَائِرٍ بِاسْمِهِ وَ كَفَلَ لَهُ بِرِزْقِهِ
وَ أَنْشَأَ السَّحَابَ الثِّقَالَ فَأَهْطَلَ دِيَمَهَا وَ عَدَّدَ قِسَمَهَا
فَبَلَّ الْأَرْضَ بَعْدَ جُفُوفِهَا وَ أَخْرَجَ نَبْتَهَا بَعْدَ جُدُوبِهَا
شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج11
الجزء الحادي عشر
تتمة باب المختار من خطب أمير المؤمنين ع و أوامره
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
و من خطبة له عليه السّلام و هي المأة و الرابعة و الثمانون من المختار في باب الخطب
و رواها الطبرسي في الاحتجاج مثله.
الحمد للّه الّذي لا تدركه الشّواهد، و لا تحويه المشاهد، و لا تراه النّواظر، و لا تحجبه السّواتر، الدّالّ على قدمه بحدوث خلقه، و بحدوث خلقه على وجوده، و باشتباههم على أن لا شبه له، الّذي صدق في ميعاده، و ارتفع عن ظلم عباده، و قام بالقسط في خلقه، و عدل عليهم في حكمه، مستشهد بحدوث الأشياء على أزليّته، و بما وسمها به من العجز على قدرته، و بما اضطرّها إليه من الفناء على دوامه، واحد لا بعدد، و دائم لا بأمد، و قائم لا بعمد، تتلقّاه الأذهان لا بمشاعرة، و تشهد له المرائي لا بمحاضرة، لم تحط به الأوهام بل تجلّى لها بها، و بها امتنع منها، و إليها حاكمها، ليس بذي كبر امتدّت به النّهايات فكبّرته تجسيما، و لا بذي عظم تناهت به الغايات فعظّمته تجسيدا، بل كبر شأنا، و عظم سلطانا.
و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله الصّفيّ، و أمينه الرّضيّ- صلّى اللّه عليه و آله- أرسله بوجوب الحجج، و ظهور الفلج، و ايضاح المنهج، فبلّغ الرّسالة صادعا بها، و حمل على المحجّة دالّا عليها، و أقام أعلام الاهتداء، و منار الضّياء، و جعل أمراس الإسلام متينة، و عرى الإيمان وثيقة. منها- في صفة خلق اصناف من الحيوان و لو فكّروا في عظيم القدرة، و جسيم النّعمة، لرجعوا إلى الطّريق، و خافوا عذاب الحريق، و لكنّ القلوب عليلة، و الأبصار «و البصائر خ» مدخولة، ألا ينظرون إلى صغير ما خلق كيف أحكم خلقه، و أتقن تركيبه، و فلق له السّمع و البصر، و سوّى له العظم و البشر. أنظروا إلى النّملة في صغر جثّتها، و لطافة هيئتها، لا تكاد تنال بلحظ البصر، و لا بمستدرك الفكر، كيف دبّت على أرضها، و صبّت على رزقها، تنقل الحبّة إلى جحرها، و تعدّها في مستقرّها، تجمع في حرّها لبردها، و في ورودها لصدرها، مكفولة برزقها، مرزوقةبوفقها، لا يغفلها المنان، و لا يحرمها الدّيّان، و لو في الصّفا اليابس، و الحجر الجامس.
و لو فكّرت في مجاري أكلها، و في علوها و سفلها، و ما في الجوف من شراسيف بطنها، و ما في الرّأس من عينها و أذنها، لقضيت من خلقها عجبا، و لقيت من وصفها تعبا، فتعالى الّذي أقامها على قوائمها، و بناها على دعائمها، لم يشركه في فطرتها فاطر، و لم يعنه في خلقها قادر، و لو ضربت في مذاهب فكرك لتبلغ غاياته ما دلّتك الدّلالة إلّا على أنّ فاطر النّملة هو فاطر النّخلة، لدقيق تفصيل كلّشيء و غامض اختلاف كلّ حيّ، و ما الجليل و اللّطيف، و الثّقيل و الخفيف، و القويّ و الضّعيف، في خلقه إلّا سواء، و كذلك السّماء و الهواء و الرّياح و الماء. فانظر إلى الشّمس و القمر، و النّبات و الشّجر، و الماء و الحجر، و اختلاف هذا اللّيل و النّهار، و تفجّر هذه البحار، و كثرة هذه الجبال، و طول هذه القلال، و تفرّق هذه اللّغات، و الألسن المختلفات. فالويل لمن جحد المقدّر، و أنكر المدبّر، يزعمون «زعموا خ» أنّهم كالنّبات ما لهم زارع، و لا لاختلاف صورهم صانع، و لم يلجئوا إلى حجّة فيماادّعوا، و لا تحقيق لما أوعوا، و هل يكون بناء من غير بان، أو جناية من غير جان. و إن شئت قلت في الجرادة إذ خلق لها عينين حمراوين، و أسرج لها حدقتين قمراوين، و جعل لها السّمع الخفيّ، و فتح لها الفم السّويّ، و جعل لها الحسّ القويّ، و نابين بهما تقرض، و منجلين بهما تقبض، يرهبها الزّرّاع في زرعهم، و لا يستطيعون ذبّها و لو أجلبوا بجمعهم، حتّى ترد الحرث في نزواتها، و تقضي منه شهواتها، و خلقها كلّه لا يكون إصبعا مستدقّة. فتبارك اللّه الّذي يسجد له من في السّموات و الأرض طوعا و كرها و يعفّر له خدّا و وجها، و يلقي إليه بالطّاعة سلما و ضعفا، و يعطي له القياد رهبة و خوفا، فالطّير مسخّرة لأمره، أحصى عدد الرّيش منها و النّفس، و أرسى قوائمها على النّدى و اليبس، و قدّر أقواتها، و أحصى أجناسها، فهذا غراب، و هذا عقاب، و هذا حمام، و هذا نعام، دعا كلّ طائر باسمه، و كفل له برزقه، و أنشأ السّحاب الثّقال فأهطل ديمها، و عدّد قسمها، فبلّ الأرض بعد جفوفها، و أخرج نبتها بعد جدوبها.
اللغة
(العمد) بالتحريك جمع العمود و (المرائي) جمع المرئي كمرمي و هو ما يدرك بالبصر أو جمع مرآة بفتح الميم يقال فلان حسن في مرآة عينى قاله الشارح المعتزلي، و سيأتي ما فيه و (تجسيما و تجسيدا) مصدران من باب التفعيل و في بعض النسخ من باب التفعل، و يفرق بين الجسم و الجسد بأنّ الجسم يكون جيوانا و جمادا و نباتا، و الجسد مختصّ بجسم الانس و الجنّ و الملائكة و يطلق على غير ذوى العقول و قوله تعالى: «عِجْلًا جَسَداً» أي ذا جثّة على التشبيه بالعاقل أو بجسمه.
و (فلجت) فلجا و فلوجا ظفرت بما طلبت و فلج بحجّته أثبتها و أفلج اللّه حجّته بالألف أظهرها قال الشارح المعتزلي: الفلج النصرة و أصله سكون العين و إنما حرّكه ليوازن بين الألفاظ لأنّ الماضي منه فلج الرّجل على خصمه بالفتح و مصدره الفلج بالسّكون.
و (الأمراس) الحبال جمع المرس و هو جمع المرسة بالتحريك الحبل و (البشر) جمع البشرة مثل قصب و قصبة ظاهر الجلد و (النملة) واحدة النمل و (جثّة) الانسان شخصه.
و (استدرك) الشيء و إدراكه بمعنى و استدركت ما فات و تداركته بمعنى و استدركت الشيء أى حاولت إدراكه به، و مستدرك الفكر يحتمل أن يكون مصدرا بمعنى الادراك و أن يكون اسم مفعول و (الفكر) و زان عنب جمع فكرة بالكسر و هو اعمال النظر و قيل اسم من الافتكار و في بعض النسخ الفكر بسكون العين.
و (صبّت) على البناء للمفعول من صبّ الماء أراقه، و في بعض النّسخ بالضاد المعجمة و النون على بناء المعلوم أى بخلت و (الجحر) بالضمّ الحفرة التي تحتفرها الهوام و السّباع لأنفسها (و في ورودها لصدرها) الورود في الأصل الاشراف على الماء للشرب ثمّ اطلق على مطلق الاشراف على الشيء دخله أو لم يدخله كالورود و الصدر بالتحريك اسم من صدر صدرا و مصدار أى رجع، و في نسخة الشارح البحراني في وردها لصدرها.
و (كفل) كفالة من باب نصر و علم و شرف ضمن و كفلته و به و عنه إذا تحملت به و (المنان) من المن بمعنى العطاء لا من المنّة و (الدّيان) الحاكم و القاضي و قيل القهار، و قيل السائس أى القائم على الشيء بما يصلحه و (الصفا) بالقصر الحجر و قيل الحجر الصّلبة الضخم لا ينبت شيئا و الواحدة صفاة و (الجامس) الجامد و قيل أكثر ما يستعمل في الماء جمد و في السمن و غيره جمس.
و (اكلها) بالضمّ فى بعض النسخ و في بعضها بضمتين المأكول و (علوها) و (سفلها) بالضمّ فيهما في بعض النسخ و بالكسر في بعضها و (الشراسيف) مقاط الاضلاع و هي أطرافها التي تشرف على البطن، و قيل الشرسوف كعصفور غضروف معلّق بكلّ ضلع مثل غضروف الكتف و (الاذن) بالضمّ و بضمّتين على اختلاف النسخ و (العجب) التعجّب أو التّعجب الكامل و (الضرب في الأرض) السيّر فيها أو الاسراع به و (الدلالة) بالكسر و الفتح اسم من دلّه إلى الشيء، و عليه أي أرشده و سدّده و (الغامض) خلاف الواضح و (القلال) و زان جبال جمع قلّة بالضمّ و هى أعلى الجبل، و قيل الجبل.
و (وعا) الشيء و أوعاه حفظه و جمعه، و في بعض النسخ وعوه على المجرّد بدل أوعوه و (جنا) فلان جناية بالكسر أى جرّ جريرة على نفسه و قومه، و جنيت الثمرة و اجتنيتها اقتطفتها و اسم الفاعل منهما جان إلّا أنّ المصدر من الثاني جنى لا جناية و (الناب) من الأسنان خلف الرباعية و (المنجل) و زان منبر حديدة يقضب بها الزرع و (نزا) كدعا نزوا وثب و (العفر) بالتحريك و قد يسكن وجه الأرض و يطلق على التراب و عفّره تعفيرا مرغه فيه.
و (السّلم) بالكسر كما في بعض النسخ الصّلح و المسالم، و بالتحريك كما في بعضها الاستسلام و الانقياد و (القياد) بالكسر ما يقاد به و اعطاء القياد الانقياد و (اليبس) بالتحريك ضدّ الرطوبة و طريق يبس لانداوة فيه و لا بلل و (الحمام) بالفتح كلّ ذى طوق من الفواخت و القمارى و غيرهما و الحمامة تقع على الذكر و الأنثى كالحيّة.
و (النعام) بالفتح اسم جنس النعامة و (الهطل) بالفتح تتابع المطر أو الدّمع و سيلانه و قيل تتابع المطر المتفرّق العظيم القطر و (الديمة) بالكسر مطر يدوم في سكون بلا رعد و برق و الجمع ديم كعنب و (البلّة) بالكسر ضد الجفاف بالفتح و (الجدوب) بالضمّ انقطاع المطر و يبس الأرض.
الاعراب
بل في قوله بل تجلّى للاضراب، و الباء في بها للسببيّة، و تجسيما و تجسيدا منصوبان على الحال، و الباء في قوله بوجوب الحجج تحتمل المصاحبة و السببيّة، و جملة لا تكاد تنال حال من النملة و العامل انظروا، و قوله: كيف دبّت، في محلّ الجرّ بدل من النملة أو كلام مستأنف و الاستفهام للتّعجّب.
و مكفولة برزقها و مرزوقة بوفقها بالرفع في أكثر النسخ خبران لمبتدأ محذوف قال الشارح البحراني نصب على الحال و في بعض النسخ رزقها و وفقها بدون الباء، و عجبا مفعول به لقضيت قال الشارح البحراني: و يحتمل المفعول له على كون القضاء بمعنى الموت و هو بعيد.
و قوله: فالويل لمن جحد المقدّر، جملة اخبارية أو إنشائية دعائية قال سيبويه: الويل مشترك بين الدّعاء و الخبر، و الواو في قوله: و خلقها، للحال، و الفاء في قوله: فتبارك، فصيحة، و طوعا و كرها منصوبان على الحال، و خدا و وجها منصوبان على المفعول به، و سلما و ضعفا منصوبان على الحال أو التميز، و رهبة و خوفا منصوبان على المفعول لأجله.
المعنى
اعلم أنّ هذه الخطبة الشريفة مشتملة على مطالب نفيسة من العلم الالهى و مقاصد لطيفة من آثار قدرته، و بدايع تدبيره و حكمته في مصنوعاته، و افتتحها بما هو حقيق بالافتتاح فقال: (الحمد للّه الذي لا تدركه الشواهد) أراد بالشواهد الحواسّ و تسميتها بهاإمّا لحضورها من شهد فلان بكذا إذا حضره، أو لشهادتها عند العقل على ما تدركه و تثبته، و عدم امكان إدراكها له سبحانه لانحصار مدركاتها في المحسوسات و اختصاص معلوماتها بالأجسام و الجسمانيات، و هو سبحانه منزّه عن ذلك حسبما عرفته في شرح الفصل الثاني من المختار الأوّل و غيره.
و لا تحويه المشاهد أي المجالس و الأمكنة، لأنّ حواية المجلس و المكان من صفات الامكان كما مرّ في شرح الفصل الخامس من المختار الأول و غيره.
و لا تراه النواظر أي نواظر الأبصار و تخصيصها بالذكر مع شمول الشواهد لقوّتها و وقوع الشبهة في أذهان أكثر الجاهلين في جواز إدراكه تعالى بها كما هو مذهب المجسمة و المشبهة و الكرامية و الأشاعرة المجوّزين للرّؤية، و قد عرفت فساد قولهم في شرح المختار التاسع و الأربعين، و المختار المأة و الثامن و السبعين و غيرهما.
و لا تحجبه السواتر لأنّ المحجوبيّة بالسواتر الجسمانية من أوصاف الأجسام و عوارضها حسبما عرفت تحقيقه في شرح المختار المأة و الثاني و الخمسين الدالّ على قدمه بحدوث خلقه، و بحدوث خلقه على وجوده) يعني أنّ حدوث خلقه دليل على وجوده و قدمه معا، و قد مرّ تحقيقه أيضا في شرح المختار المأة و الثاني و الخمسين و المختار التاسع و الأربعين و باشتباههم على أن لا شبه له) أي بابدائه المشابهة بين الموجودات دلّ على أن لا شبه له و لا نظير، و قد مرّ تحقيقة أيضا في شرح المختار الّذي أشرنا إليه.
الّذي صدق في ميعاده) أي في وعده لأنّ الخلف في الوعد كذب قبيح محال عليه سبحانه كما قال عزّ من قائل: «إنّ اللّه لا يخلف الميعاد» و استدلّ على عدم جواز الكذب عليه بأنّه إذا جاز وقوع الكذب في كلامه ارتفع الوثوق عن اخباره بالثواب و العقاب و الوعد و الوعيد و ساير ما أخبر به من أخبار الاخرة و الأولى، و في ذلك تفويت مصالح لا تحصى و هو سبحانه حكيم لا يفوت عنه الأصلح بنظام العالم، فعلم من ذلك عدم جواز الخلف في وعده و وعيده.
و) بذلك أيضا علم أنّه تعالى ارتفع عن ظلم عباده) لكون الظلم قبيحاعقلا و نقلا. يعني أنّه سبحانه منزه عن حال ملوك الأرض الذين من شأنهم ظلم رعيتهم إذا شاهدوا انّ في ظلمهم منفعة لهم، و في ترك الظلم مضرّة، فيظلمون من تحت ملكهم نيلا إلى تلك المنفعة، و دفعا لتلك المضرّة، و تحصيلا لذلك الكمال الحقيقي أو الوهمي، و اللّه سبحانه كامل في ذاته غير مستكمل بغيره.
و قام بالقسط) و العدل في خلقه و عدل عليهم في حكمه) يعني أنّه سبحانه خلقهم و أوجدهم على وفق الحكمة و مقتضى النظام و المصلحة و أجرى فيهم الأحكام التكوينيّة و التكليفيّة على مقتضى عدله و قسطه قال تعالى «شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَ الْمَلائِكَةُ وَ أُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ». قال لطبرسيّ: أي أخبر بما يقوم مقام الشهادة على وحدانيته من عجيب حكمته و بديع صنعته، و شهدت الملائكة بما عاينت من عظيم قدرته و شهد أولوا العلم بما ثبت عندهم و تبيّن من صنعه الّذي لا يقدر عليه غيره.
قال: و روي عن الحسن أنّ في الاية تقديما و تأخيرا و التقدير شهد اللّه أنّه لا إله إلّا هو قائما بالقسط، و شهدت الملائكة أنّه لا إله إلّا هو قائما بالقسط، و شهد أولو العلم أنّه لا إله إلّا هو قائما بالقسط، و القسط العدل الّذي قامت به السّماوات و الأرض، و رواه أصحابنا أيضا في التفسير، و قيل: معنى قوله قائما بالقسط أنّه يقوم باجراء الأمور و تدابير الخلق و جزاء الأعمال بالعدل كما يقال: فلان قائم بالتدبير أي يجري في أفعاله على الاستقامة.
مستشهد بحدوث الأشياء على أزليّته) أى مستدلّ بحدوثها على قدمه سبحانه و قد عرفت وجه الدلالة في شرح المختار المأة و الثاني و الخمسين.
و قال العلّامة المجلسي (ره) الاستشهاد طلب الشهادة أي طلب من العقول بما بين لها من حدوث الأشياء الشهادة على أزليّته أو من الأشياء أنفسها بأن جعلها حادثة، فهى بلسان حدوثها تشهد على أزليّته، و المعنى على التقديرين أنّ العقل يحكم بأنّ كلّ حادث يحتاج إلى موجد و أنّه لا بدّ أن تنتهى سلسلة الاحتياج الى من لا يحتاج إلى موجد، فيحكم بأنّ علّة العلل لا بدّ أن يكون أزليّا و إلّا لكانمحتاجا إلى موجد آخر بحكم المقدّمة الأولى.
و بما وسمها به من العجز على قدرته) يعني أنّه استشهد على قدرته بالعجز الذي وسم و وصف به خلقه، و وجه شهادته عليها أنّا نرى أنّ غيره تعالى لا يقدر على ما يقدر عليه هو جلّ و علا من الموجودات بل لا يقدر على شيء أصلا و لا يملك لنفسه موتا و لا حياتا و لا نشورا، فضلا عن غيره، و لا يتمكّن من أن يخلق ذبابا فضلا عما هو أعظم منه، فعلم بذلك أنّ الموجودات على كثرتها و عظمتها لا بدّ من انتهاء وجوداتها على من هو قادر عليها كلّها بالايجاد و الاعدام و التصريف و التقليب قال تعالى «أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ» و قال العلّامة المجلسي (ره) في تفسير هذه الفقرة: الوسم الكى شبّه ما اظهر عليها من آثار العجز و الامكان و الاحتياج بالسمة الّتي تكون على العبيد و النعم و تدلّ على كونها مقهورة مملوكة.
و قال الصّدوق (ره) الدليل على أنّ اللّه قادر أنّ العالم لما ثبت أنّه صنع لصانع و لم نجد أن يصنع الشيء من ليس بقادر عليه بدلالة أنّ المقعد لا يقع منه المشى و العاجز لا يتأتّي منه الفعل صحّ أنّ الذي صنعه قادر، و لو جاز غير ذلك لجاز منّا الطيران مع فقد ما يكون به من الالة و يصحّ لنا الادراك و ان عدمنا الحاسّة فلما كان اجازة هذا خروجا عن المعقول كان الأوّل مثله.
و بما اضطرّها اليه من الفناء على دوامه) المراد من اضطرارها الى الفناء حكم قدرته القاهرة على ما استعدّ منها للعدم بافنائه حين استعداده بحكم قضائه المبرم، و دلالة ذلك على دوامه سبحانه أنّ الفناء لما كان دليلا على الحدوث و الامكان دلّ فناؤها على أنّ صانعها ليس كذلك و أنّه أزليّ أبديّ سرمديّ.
واحد لا بعدد) يعني أنّ وحدته ليست وحدة عددية بأن يكون معه ثان من جنسه، و قد مرّ تحقيق ذلك مستوفي في شرح المختار الرابع و الستّين.
قال الصّدوق «ره» في التوحيد في تفسير أسماء اللّه الحسنى: الأحد الواحد الأحد معناه أنّه واحد في ذاته أى ليس بذى ابعاض و لا أجزاء و لا أعضاء، و لا يجوزعليه الاعداد و الاختلاف لأنّ اختلاف الأشياء من آيات وحدانيّته ممّا دلّ به على نفسه و يقال لم يزل اللّه واحدا، و معنى ثان أنه واحد لا نظير له و لا يشاركه في معنى الوحدانية غيره، لأنّ كلّ من كان له نظراء أو أشباه لم يكن واحدا في الحقيقة و يقال فلان واحد الناس أى لا نظير له فيما يوصف به، و اللّه واحد لا من عدد لأنّه عزّ و جلّ لا يعدّ في الأجناس و لكنه واحد ليس له نظير.
(دائم لا بأمد) قال الشارح البحراني قد سبق بيان أنّ كونه دائما بمعنى أنّ وجوده مساوق لوجود الزمان، إذ كان تعالى هو موجد الزمان بعد مراتب من خلقه و مساوقة الزمان لا يقتضى الكون في الزمان، و لما كان الأمد هو الغاية من الزمان و منتهى المدّة المضروبة لذي الزمان من زمانه، و ثبت أنّه تعالى ليس بذى زمان يفرض له الأمد ثبت أنّه دائم لا أمد له.
و قال الصّدوق (ره) الدائم الباقي الذي لا يبيد و لا يفنى.
(قائم لا بعمد) أي ليس قيامه قياما جسمانيا يكون بالعمد البدنيّة أو بالاعتماد على الساقين، أو أنّه قائم باق من غير استناد الى سبب يعتمد عليه و يقيمه كساير الوجودات الممكنة.
و في حديث الرّضا عليه السّلام المروي في الكافي عنه عليه السّلام مرسلا قال: و هو قائم ليس على معنى انتصاب و قيام على ساق في كبد كما قامت الأشياء، و لكن قائم يخبر أنّه حافظ كقول الرّجل القائم بأمرنا فلان و اللّه هو القائم على كلّ نفس بما كسبت و القائم أيضا في كلام النّاس الباقي، و القائم أيضا يخبر عن الكفاية كقولك للرجل قم بأمر بني فلان، أي اكفهم و القائم منّا قائم على ساق فقد جمعنا الاسم و لم يجمع المعنى الحديث.
قال صدر المتألّهين في شرح الكافي: قوله عليه السّلام: و هو قائم ليس على معنى انتصاب، يعني أنّ من الأسماء المشتركة بين الخالق و الخلق اسم القائم لكن في كلّ منهما بمعنى آخر، فإنّ القائم من الأجسام ما ينتصب على ساق كما نحن ننتصب عند القيام بأمر على سوقنا في كبد و مشقّة، و أمّا الباري جلّ مجده فاسم القيام فيه يخبر بأنهحافظ للأشياء مقوم لوجودها و لا يؤده حفظهما و أنّه القائم على كلّ نفس بما كسبت فاختلف المعنى و اتّحد الاسم.
و قد يطلق القائم في كلام الناس بمعنى الباقي و هو أيضا معناه مختلف فمعنى الباقي في الخلق ما يوجد في زمان بعد زمان حدوثه، و أما في حقّه تعالى فليس بهذا المعنى لارتفاعه عن مطابقة الزمان، بل بقاؤه عبارة عن وجوب وجوده و امتناع العدم عليه بالذات و بقاؤه نفس ذاته.
و القائم قد يجيء بما يخبر عن الكفاية كما يقال: قم بأمر بني فلان أى اكفه و لا شكّ أنّ هذا المعنى فيه تعالى على وجه أعلى و أشرف، بل لا نسبة بين كفايته للخلق كافّة لا بالة و قوّة و تعمل و تكلّف، و بين كفاية الخلق بعضهم لبعض بتعب و مشقة فقد اتّفق الاسم و اختلف المعنى.
(تتلقّاه الأذهان لا بمشاعرة) أى لا من طريق المشاعر و الحواس، و المراد بتلقّى الأذهان له تقبّلها، أي إدراكها لما يمكن لها إدراكه من صفاته السّلبيّة و الاضافية لا تلقّى ذاته، لما عرفت مرارا من عجز العقول و الأوهام و الأذهان و الأفهام عن تعقّل ذاته.
(و تشهد له المرائي لا بمحاضرة) يعني تشهد له المرئيات و المبصرات و تدلّ على وجوده و صفات كماله حسبما عرفته في شرح المختار التاسع و الأربعين.
و لما كان بناء الشهادة غالبا على حضور الشاهد عند المشهود به كما يشعر به تصاريف تلك المادّة مثل قوله سبحانه «فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَ مَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ» الاية أي من كان حاضرا غير مسافر فليصمه، و قولهم: الشاهد يرى ما لا يراه الغايب، و شهدت مجلس فلان أى حضرته، و سمّى الشهيد شهيدا لحضور ملائكة الرّحمة عنده فعيل بمعنى المفعول إلى غير ذلك من تصاريفها، و كان قوله تشهد له المرائي موهما لكون شهادتها بعنوان الحضور.
استدرك بقوله: لا بمحاضرة، من باب الاحتراس دفعا للتوهّم المذكور، يعني أنّ شهادتها ليست بعنوان الحضور كما في ساير الشهود، بل المراد من شهادتهادلالتها عليه من باب دلالة الأثر على المؤثر و الفعل على الفاعل.
هذا كلّه على كون المرائي جمع المرئي و هو الشيء المدرك بالبصر قال الشارح المعتزلي: و الأولى أن يكون المرائي ههنا جمع مرآة بفتح الميم من قولهم هو حسن في مرآة عيني يقول إن جنس الرّؤية يشهد بوجود الباري من غير محاضرة منه للحواس انتهى.
و تبعه العلّامة المجلسي (ره) في البحار و كذا الشارح البحراني قال: و المرائي جمع مرآة بفتح الميم و هي المنظر يقال فلان حسن في مرآة العين و في رأى العين أي المنظر انتهى إلّا أنّه جعل المرائي بمعنى النواظر.
أقول: و يتوجّه عليهم أولا أنّ كون المرائي جمعا للمرآة لم يثبت من أهل اللّغة.
و ثانيا سلمنا لكن لا بدّ من جعل المرآة الّتي هي مفردها اسم مكان بمعنى محلّ الرّؤية حتّى يصحّ بناء الجمع منها إذ لو جعلناها مصدرا بمعنى نفس الرّؤية كما هو ظاهر كلام الأولين لا يصحّ أن يبنى منها جمعا، كما أنّ المناظر التي هي جمع المنظر يراد بها محال النظر، و فسرها في القاموس باشراف الأرض.
و الحاصل أنّ المرآة التي هي واحدة المرائي على زعمهم بمعنى المنظر فان جعلناها مصدرا لا يصحّ أن يبنى منها جمع. و إن جعلناها اسما للمكان فيصحّ بناؤه منها إلّا أنّه لا وجه حينئذ للحكم بكون المرائي جمعا لها أولى كونها جمعا للمرئي إذ لا تفاوت بينهما في المعنى كما لا يخفى.
و أمّا الشارح البحراني فلا يفهم وجه تفسير المرائي بالنواظر بعد تفسير المرآة بمعنى المنظر إلّا ان يقال إنّ مراده بالمرائي محالّ النظر أى الابصار فيصحّ التعبير عنها بالنواظر و المناظر كليهما فتأمل جيّدا.
(لم تحط به الأوهام بل تجلّى لها بها و بها امتنع منها و إليها حاكمها) قال الشارح المعتزلي: الأوهام ههنا هي العقول يقول: إنّه سبحانه لم تحط به العقول أى لم تتصوّر كنه ذاته، و لكنه تجلّى للعقول بالعقول، و تجلّيه ههنا هو كشف مايمكن أن تصل إليه العقول من صفاته السّلبيّة و الاضافية و كشف ما يمكن أن تصل إليه العقول من أسرار مخلوقاته، فأما غير ذلك فلا.
و قوله: و بالعقول امتنع من العقول، أى و بالعقول و بالنظر علمنا أنّه تعالى يمتنع أن تدركه العقول.
و قوله: و إلى العقول حاكم العقول أى جعل العقول المدّعية أنها أحاطت به و أدركته كالخصم له سبحانه ثمّ حاكمها إلى العقول السّليمة الصحيحة النظر فحكمت له سبحانه على العقول المدّعية لما ليست أهلا له انتهى.
و قيل: يحتمل أن يكون أحد الضميرين في كلّ من الفقرات الثلاث راجعا إلى الأوهام، و الاخر إلى الأذهان فيكون ان بالأوهام و خلقه تعالى لها و أحكامها أو بادراك الأوهام آثار صنعته و حكمته تجلّى للعقول، و بالعقول و حكمها بأنه تعالى لا يدرك بالأوهام امتنع من الأوهام، و إلى العقول حاكم الأوهام لو ادّعت معرفته حتّى تحكم العقول بعجزها عن ادراك جلال هذا.
و يجوز أن يراد بالأوهام الأعمّ منها و من العقول و اطلاقه على هذا المعنى شايع، فالمراد تجلّى اللّه لبعض الأوهام أى العقول ببعض الحواس و هكذا على سياق ما مرّ.
(ليس بذى كبر امتدّت به النهايات فكبرته تجسيما) الكبير يطلق على معان: أحدها العظيم الحجم و المقدار و الكبير في الطول و العرض و السّمك الثاني العالي السنّ من الحيوان الثالث رفيع القدر و عظيم الشأن.
إذا عرفت ذلك نقول: إنّ اطلاق الكبير على اللّه سبحانه و وصفه به كما ورد في الكتاب العزيز ليس باعتبار المعنى الأوّل و الثاني، لأنّ الكبير بهذين المعنيين من عوارض الأجسام و الأحجام، فلا بدّ أن يراد به حيثما يطلق عليه المعنى الثالث و هو معنى قوله عليه السّلام ليس بذي كبراه يعني أنّه موصوف بالكبر و لكن لا بالمعنى الموجود في الأجسام بأن يكون ممتدّا طولا و عرضا و عمقا، و إنّما اسند الامتداد به الى النهايات لأنّها غاية الطبيعة بالامتداد يقف عندها و ينتهى بها، فكانت منالأسباب الغائية، فلذلك اسند إليها، و كذلك اسناد التكبر اليها اذ كان التكبير من لوازم الامتداد اليها، فمعنى قوله: فكبّرته تجسيما أنّه كبّرته النهايات مجسّمة له أو حالكونه سبحانه مجسما.
روى في الكافي عن ابن محبوب عمّن ذكره عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رجل عنده: اللّه أكبر، فقال عليه السّلام: اللّه أكبر من أيّ شيء فقال: من كلّ شيء فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: حددته، فقال الرجل: كيف أقول قال عليه السّلام: قل: اللّه أكبر من أن يوصف.
قال بعض شراح الكافي: لما كان الأكبر من أسماء التفضيل كالأعظم و الأطول و الأعلم و نحوها، و الموصوف بها من جنس ما يفضل عليه فيهما، فانك اذا قلت هذا أطول من ذلك أنه وجد لهذا مثل الذي في ذلك من الطول مع زيادة، و كان الحق بحيث لا مجانس له في ذاته و صفاته، فلم يجز اطلاق الأكبر عليه بالمعنى الذى يفهمه الناس من ظاهر اللفظ، اذ الكبر و الصغر من صفات الجسمانيات و لا ينبغي أيضا أن يكون المفضل عليه شيئا خاصا أو عاما كما يقال: اللّه أكبر من العرش أو من العقل أو من كلّ شيء، لأنّه يوجب التحديد و التجنيس كما علمت، فلذلك أفاد عليه السّلام أن معنى اللّه أكبر أنّه أكبر من أن يوصف لئلا يلزم التحديد.
(و لا بذى عظم تناهت به الغايات فعظمته تجسيدا) و معناها كسابقتها، يعني أنّ اتصافه بالعظمة و اطلاق العظيم عليه في القرآن الكريم و غيره ليس بالمعنى المتبادر إلى الأفهام المتصوّر في الأجسام أعنى العظم في القطر و الجسد، بل المراد أنّه عظيم السلطان رفيع الشأن.
و هو معنى قوله عليه السّلام في حديث ذعلب المتقدّم روايته عن الكافي في شرح المختار المأة و الثامن و السّبعين: و يلك يا ذعلب انّ ربّي لطيف اللطافة لا يوصف باللّطف عظيم العظمة لا يوصف بالعظم كبير الكبرياء لا يوصف بالكبر جليل الجلالة لا يوصف بالغلظ.
و الى ما ذكرناه أشار هنا بقوله (بل كبر شأنا و عظم سلطانا) أي كبره من حيث الشأن، و عظمته من حيث السّلطنة.
و لما فرغ من حمد اللّه سبحانه و ثنائه و أوصاف جلاله و كبريائه أردفه بالشهادة بالرسالة التي هى مبدء لكمال القوّة العملية من النفوس البشرية بعد كمال قوّتها النظريّة بما تقدّم فقال: (و أشهد أنّ محمدا عبده و رسوله الصّفىّ) أى الصافي الخالص في مقام العبوديّة عن الكدر النّفسانيّة، أو المصطفى أى المختار من مخلوقاته (و أمينه) على وحيه (الرضيّ) المرتضى على تبليغ وحيه و رسالاته (صلّى اللّه عليه و آله أرسله بوجوب الحجج) أى أرسله مصاحبا بالحجج الواجبة قبولها على الخلق لكفايتها في مقام الحجيّة من المعجزات الظاهرات و الايات البيّنات، أو المراد أنّه أرسله بسبب وجوب الحجج عليه تعالى، يعني أنّه لما كان الاعذار و الانذار واجبا عليه تعالى بمقتضى اللطف أرسله لذلك ليهلك من هلك عن بيّنة و يحيى من حىّ عن بيّنة، و لئلّا يكون للناس على اللّه حجّة بعد الرّسل.
(و ظهور الفلج) أى مع ظهور الظفر، أو لأن يظهر ظفره على ساير الأديان كما قال سبحانه: «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ».
(و ايضاح المنهج) أى ما يضاح بنهج الشرع القويم، و الارشاد إلى الصراط المستقيم المؤدّي إلى نضرة النعيم و الفوز العظيم.
(فبلّغ الرسالة صادعا بها) امتثالا لأمره تعالى و هو قوله «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ» و قوله «فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ» و أصل الصّدع هو الشق في شيء صلب و الفرقة من الشيء فاستعير هنا لابلاغ المأمور، قال في القاموس: فاصدع بما تؤمر أى شقّ جماعاتهم بالتوحيد أو اجهر بالقرآن أو أظهر أو أحكم بالحقّ و افصل بالأمر و اقصد بما تؤمروا فرق به بين الحقّ و الباطل.
(و حمل) النّاس (على المحجّة) و الجادّة الواضحة و هي طريق الشريعة (دالّا عليها) و هاديا إليها (و أقام) بين الامة (أعلام الاهتداء و منار الضّياء) أى أعلاما توجب اهتداءهم بها و منارا تستضيئون بنورها.
و المراد بها المعجزات الظاهرة و القوانين الشرعيّة الباهرة، فانها تهدى من غياهب الجهالة، و تنقذ من ظلمات الضلالة، و تدلّ على حظاير القدس و محافل الانس (و جعل أمراس الاسلام) و حبال الدّين (متينة) متقنة (و عرى الايمان) و حبال اليقين (وثيقة) محكمة.
(منها)أى من جملة فصول تلك الخطبة (في صفة) عجيب (خلق أصناف من الحيوان) أي في وصف عجايب خلقتها الدالّة على قدرة بارئها و عظمة مبدئها و تدبيره و حكمته في صنعتها، و قد تقدّم فصل واف من الكلام على هذا المعنى في الخطبة المأة و الرّابعة و الستّين و شرحها.
و قال عليه السّلام هنا: (و لو فكّروا) أى تفكروا و اعملوا نظرهم (في عظيم القدرة) أى في آثار قدرته العظيمة الظاهرة في مخلوقاته (و جسيم النعمة) أى عظيم نعمته التي أنعم بها على عباده (لرجعوا إلى الطريق) و الصراط المستقيم (و خافوا عذاب الحريق) و عقاب الجحيم لكفايتها في الهداية إليه و الاخافة منه.
قال تعالى في الاشارة إلى عظيم قدرته «اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ». و قال «أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَ فَلا يُؤْمِنُونَ».
قال الطبرسي «ره» في هذه الاية استفهام يراد به التقريع و المعنى أو لم يعلموا أنّ اللّه سبحانه الّذي يفعل هذه الأشياء و لا يقدر عليها غيره فهو الاله المستحقّ للعبادة دون غيره.
و قال في الدلالة على جسيم نعمته أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً. وَ الْجِبالَ أَوْتاداً.. وَ خَلَقْناكُمْ أَزْواجاً. وَ جَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً. وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً. وَ جَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً.. وَ بَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً. وَ جَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً. وَ أَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً.. لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَ نَباتاً. وَ جَنَّاتٍ أَلْفافاً. إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً.
فانّ في تعداد تلك النعم اشارة إلى عظيم ما منّ به على عباده فمن تفكّر فيها أناب إلى طريق الحقّ و نهج الصواب، و خاف من سوء المال و أليم العذاب (و لكن) الناس بمعزل عن هذا بعيدون عن الاهتداء إليه لأنّ (القلوب عليلة) سقيمة (و الأبصار) أى البصاير كما في بعض النسخ (مدخولة) معيبة، فكان مرضها و علّتها مانعة عن التدبّر و التفكر.
و المراد بعلّتها خروجها عن حدّ الاعتدال و الاستقامة بسبب توجّهها إلى الشهوات النفسانيّة و العلايق البدنية، لأنّ مرض القلوب عبارة عن فتورها عن درك الحق بسبب شوبها بالشكوك و الشبهات و فسادها بالعلايق و الامنيات، كما أنّ مرض الأعضاء عبارة عن فتورها عن القيام بالاثار المطلوبة منها بسبب طروّ الفساد عليها و خروجها عن حدّ الاعتدال.
قال تعالى «فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً» و قال «وَ عَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ» أي غطاء، فانهم لما اعرضوا عن النظر فيما كلفوه أو قصروا فيما اريد منهم جهلوا ما لزمهم الايمان به، فصاروا كمن على عينيه غطاء و هو معنى العيب في الأبصار.
فان قيل: لم خصّ القلوب و الأبصار بالذكر.
قلت: لأنّ القلب محلّ الفكر و النظر و الأبصار طريق إليها و إن كانت الأسماع طريقا أيضا إلّا أنّ الأبصار لكونها أعظم الطرق خصّت بالذّكر و قد جمعتها جميعا الاية الشريفة خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ عَلى سَمْعِهِمْ وَ عَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ».
و لما أشار إلى عظيم قدرته اجمالا و وبخ على غفلة القلوب و عيب الأبصار و كان المقصود بذلك جذب نفوس المخاطبين و توجيه قلوبهم إلى إقبال ما يذكّرهم به أوتشويقهم إلى إصغاء ما يتلى عليهم أردفه بالتنبيه على لطيف صنعه تعالى في صغير ما خلق فقال: (ألا ينظرون إلى صغير ما خلق) من أنواع الحيوان (كيف أحكم خلقه) و أتقنه (و أتقن تركيبه) و أحكمه (و فلق) أى شقّ (له السّمع و البصر و سوّى) أى عدل (له العظم و البشر) مع ما هو عليه من الصغر.
ثمّ تخلص إلى تفصيل المرام بعد ما كساه ثوب الاجمال و الابهام، لأنّ ذكر الشيء مبهما ثمّ مفسّرا و مفصّلا أوقع في النفوس و أثبت في القلوب فقال عليه السّلام: (انظروا إلى النملة) نظرا يوجب البصيرة و يعرف به عظيم القدرة (في صغر جثّتها) و شخصها (و لطافة هيئتها) و كيفيتها (لا تكاد تنال بلحظ البصر) أى النظر و هكذا في بعض النسخ (و لا بمستدرك الفكر).
قال العلّامة المجلسيّ «ره» مستدرك الفكر على بناء المفعول يحتمل أن يكون مصدرا أى ادراك الفكر أو بطلبها الادراك و لعلّه أنسب بقوله: بلحظ البصر، و أن يكون اسم مفعول أى بالفكر الذي يدركه الانسان و يصل إليه أو يطلب ادراكه أى منتهى طلبه لا يصل إلى ادراك ذلك، و أن يكون اسم مكان و الباء بمعنى في.
(كيف دبّت على أرضها) الاضافة لأدنى ملابسة (و صبّت على رزقها) قيل هو على العكس أى صبّ رزقها عليها.
قال الشارح المعتزلي: و الكلام صحيح و لا حاجة فيه الى هذا، و المراد و كيف ألهمت حتّى انصبّت على رزقها انصبابا أى انحطت عليه قال: و يروى و ضنّت على رزقها أى بخلت، انتهى.
و على الأوّل فلفظ الصّب استعارة لسرعة الحركة إليه كما في الماء المصبوب نحو ما ينصب فيه، و على الثاني فضنّتها لعلمها بحاجتها إلى الرزق و سعيها في الاعداد و الحفظ (تنقل الحبّة إلى حجرها) و بيتها (و تعدّها في مستقرّها) أى تهيّؤ الحبّة في محلّ استقرارها (تجمع فى حرّها لبردها) أى في أيّام الصّيف للشتاء (و فى ورودها لصدرها) أى تجمع في أيّام التمكن من الحركة لأيام العجز لأنّها تظهرفي أيّام الصّيف و تختفى في أيّام الشّتاء لبرودة الهواء (مكفولة) أى مضمون (برزقها مرزوقة بوفقها) أى بما يوافقها من الرزق كمّا و كيفا.
(لا يغفلها المنّان) أى لا يتركها غفلة عنها و اهمالا من غير نسيان اللّه الذي هو كثير المنّ و العطاء (و لا يحرمها الدّيان) أى لا يجعلها محرومة من رزقها الدّيان المجازي لعباده ما يستحقّون من الجزاء.
و قد يفسّر الدّيان بالحاكم، و القاضي، و القهار، و بالسايس القائم على الشيء بما يصلحه كما تفعل الولاة و الأمراء بالرعيّة.
و وجه المناسبة على الأوّل أنها حيث دخلت في الوجود طايعة لأمره و قامت فيه منقادة لتسخيره، وجبت في الحكمة الالهيّة جزاؤها و مقابلتها بما يقوم بوجودها فلا تكون محرومة من مادّة بقائها على وفق تدبيره، قاله الشارح البحراني.
و على الثاني أنّ إعطائه كلّ شيء ما يستحقّه و لو على وجه التفضّل من فروع الحكم بالحق.
و على الثالث الاشعار بأنّ قهره سبحانه لا يمنعه من العطاء كما يكون في غيره احيانا.
و على الرّابع أنّ مقتضى قيمومته بالأصلح عدم الحرمان كما هو شأن الموالى بالنسبة إلى العبيد.
و كيف كان فهو سبحانه لا يمنعها من الرزق (و لو) كانت (في الصّفا) الصلد (اليابس) الذي لا ينبت شيئا (و الحجر) الجامد (الجامس) الذي لا يتحول من موضع موضعا بل يفتح عليها أبواب معاشها في كلّ مكان و يهديها إلى أقواتها في كلّ زمان.
ثمّ نبّه على مجال آخر للفكرة في النملة موجبة للتنبيه و العبرة فقال (و لو فكرت في مجاري اكلها) أى مجاري ما تأكله من الطعام و هى الحلق و الأمعاء (و في علوها و سفلها).
قال الشارح البحراني علوها بسكون اللّام نقيض سفلها و هو رأسها و ما يليه إلى الجزءالمتوسّط و سفلها ما جاوز الحر من طرفها الاخر.
أقول: فعلى ذلك الضميران مرجعهما نفس النملة على حذو ما سبق، و يحتمل رجوعهما إلى المجاري و المراد واحد.
(و ما في الجوف من شراسيف بطنها) أى أطراف أضلاعها المشرفة على بطنها (و ما في الرّأس من عينها و اذنها).
قال الشارح المعتزلي و لا يثبت الحكماء للنمل آذانا بارزة عن سطوح رؤوسها و يجب إن صحّ ذلك أن يحمل كلام أمير المؤمنين عليه السّلام على قوّة الاحساس بالأصوات فانّه لا يمكن الحكماء إنكار وجود هذه القوّة لها، و لهذا إذا صيح عليهنّ هدبن.
و قوله عليه السّلام (لقضيت من خلقها عجبا) جواب لو أى لو فكرت في هذه الأمورات التي أبدعها اللّه سبحانه فيها بحسن تدبيره و حكمته و قدرته مع مالها من الصّغر و اللطافة لأدّيت من ذلك عجبا أى تعجّبت غاية التّعجب (و لقيت من وصفها تعبا) و مشقّة إن وصفتها حقّ الوصف.
(فتعالى اللّه الذي أقامها على قوائمها) مع ما بها من الدقّة و اللطافة لا يكاد أن يدركه الطرف لغاية دقتها كالخيوط الدّقيقة (و بناها على دعائمها) استعار الدّعامة الّتي هو عمود البيت لما يقوم به بدنها من الأجزاء القائمة مقام العظام و الأوتار و فيه تشبيهها بالبيت المبنيّ على الدّعائم (لم يشركه في فطرتها) أي خلقتها و ايجادها (فاطر) مبدع (و لم يعنه على خلقها قادر) مدبّر بل توحّد بالفطر و التدبير و تفرّد بالخلق و التقدير فسبحانه ما أعظم شأنه و أظهر سلطانه.
(و لو ضربت في مذاهب فكرك لتبلغ غاياته) أى لو سرت أو أسرعت في طرق فكرك و هى الأدلّة و اجزاء الأدلة لتصل إلى غايات الفكر في الموجودات و المكونات (ما دلّتك الدلالة) أى لم يدلّك الدّليل (إلّا على أنّ فاطر النملة) على صغرها (هو فاطر النخلة) على طولها و عظمتها، يعني أنّ خالقهما واحد و الغرض منه دفع توهّم يسر الخلق و سهولته في الأشياء الصّغيرة (لدقيق تفصيل كلّ شيء و غامض اختلاف كلّ حيّ).
يعني أنّ كلا من الأجسام و الأشياء صغيرا كان أو كبيرا فتفصيل جسمه و خلقته و هيئته تفصيل دقيق و اختلاف أشكالها و صورها و ألوانها و مقاديرها اختلاف غامض السّبب، فلا بدّ للكلّ من مدبّر حكيم خصّصه بذلك التفصيل و الاختلاف على اقتضاء التدبير و الحكمة، فثبت بذلك أنّها لا تفاوت فيها بين الصّغر و الكبر في الافتقار إلى الصّانع المدبّر.
و أكّد ذلك الغرض بقوله (و ما الجليل و اللّطيف) كالنخلة و النملة (و الثقيل و الخفيف) كالتراب و السحاب (و القوىّ و الضعيف) كالفيلة و السخلة (في خلقه إلّا سواء) لاستواء نسبة قدرته التي هي عين ذاته اليها.
و الغرض بذلك دفع استبعاد نسبة الخلقة العظيمة و الخلقة الصّغيرة إلى صانع واحد، و وجه الدفع أنّ المخلوقات و إن اختلفت من حيث الطبايع و الهيات و الأشكال و المقادير صغرا و كبرا و ثقلا و خفّة و ضعفا و قوّة إلّا أنّها لا اختلاف فيها من حيث النسبة إلى القدرة الكاملة للفاعل المختار.
(و كذلك السماء و الهواء و الرياح و الماء) على اختلاف هيئاتها و هيئاتها و تباينها و تضادها مشابهة للامور السابقة، مستوية لها من حيث الانتساب إلى القدرة.
(فانظر إلى الشّمس و القمر و النّبات و الشجر و الماء و الحجر و اختلاف هذا اللّيل و النّهار و تفجّر هذه البحار و كثرة هذه الجبال و طول هذه القلال و تفرّق هذه اللّغات و الألسن المختلفات.) لا يخفى ما في هذه الفقرة و سابقتيها من الرقة و السّلاسة و اللّطافة من حيث اللّفظ و العبارة، حيث تضمنت سياقة الاعداد مع مراعاة التطبيق و الازدواج و ملاحظة الأسجاع، و أمّا من حيث المعنى فالمراد بها الأمر بالتدبّر فيما أودع في هذه الأشياء من غرايب الصنعة و لطايف الحكمة و براهين القدرة و العظمة حسبما عرفت نبذا منها في شرح الفصل الرابع و السادس من المختار التسعين فانظر ما ذا ترى.
و قال الشارح المعتزلي: المراد بها الاستدلال بامكان الاعراض على ثبوت الصّانع، بأن يقال كلّ جسم يقبل لجسميته المشتركة بينه و بين ساير الأجسام ما يقبله غيره من الأجسام، فاذا اختلف الأجسام في الاعراض فلا بد من مخصّص و هو الصّانع الحكيم.
و قرّره الشارح البحرانى بتقرير أوضح و هو أنّ هذه الأجسام كلّها مشتركة في الجسميّة و اختصاص كلّ منها بما يميّز به من الصّفات المتعدّدة ليست للجسميّة و لوازمها، و إلّا وجب لكلّ منها ما وجب للاخر، ضرورة اشتراكها في علّة الاختصاص فلا مميّز له هذا خلف، و لا لشيء من عوارض الجسمية لأنّ الكلام في اختصاص كلّ منها بذلك العارض كالكلام في الأوّل و يلزم التسلسل، فيبقى أن يكون لأمر خارج عنها هو الفاعل الحكيم المخصص لكل منها بحدّ من الحكمة و المصلحة.
أقول: و قد اشير إلى هذا الاستدلال في قوله عزّ و جلّ وَ مِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَ أَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ. وَ مِنْ. آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ ابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ. وَ مِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ».
قال الطبرسيّ: أى من دلالاته على وحدانيّته و كمال قدرته خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ و ما فيهما من عجايب خلقه و بدايع صنعه مثل ما في السّموات من النجوم و الشمس و القمر و جريها في مجاريها على غاية الاتّساق و النظام، و ما في الأرض من الجماد و النبات و الحيوان المخلوقة على وجه الاحكام.
«وَ اخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ» الألسنة جمع لسان و اختلافها هو أن ينشأها اللّه مختلفة في الشّكل و الهيئة و التركيب فيختلف نغماتها و أصواتها حتّى أنّه لا يشتبه صوتان من نفسين هما اخوان، و قيل: إنّ اختلاف الألسنة هو اختلاف اللغات من العربيّة و العجميّة و غيرهما، و لا شيء من الحيوانات يتفاوت لغاتها كتفاوت لغات الانسان فان كانت اللّغات توقيفيّا من قبل اللّه فهو الذي فعلها، و إن كانت مواضعة من قبل العباد فهو الذي يسرها.
«وَ أَلْوانِكُمْ» أى و اختلاف ألوانكم من البياض و الحمرة و الصّفرة و السّمرة و غيرها فلا يشبه أحد أحدا مع التشاكل في الخلقة، و ما ذلك إلّا للتراكيب البديعة و اللّطائف العجيبة الدالّة على كمال قدرته و حكمته حتى لا يشتبه اثنان من النّاس و لا يلتبسان مع كثرتهم.
«إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ» أى أدلّة واضحات «لِلْعالَمِينَ» أى للمكلّفين.
«وَ مِنْ آياتِهِ» الدالّة على توحيده و اخلاص العبادة له «مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ ابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ» أى النّوم الذي جعله اللّه راحة لأبدانكم باللّيل و قد تنامون بالنهار فاذا انتبهتم انتشرتم لابتغاء فضل اللّه «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ» ذلك فيقبلونه و يتفكّرون فيه، لأنّ من لا يتفكّر فيه لا ينتفع به فكأنه لم يسمعه.
«وَ مِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً» معناه و من دلالالته أن يريكم النار تنقدح من السحاب يخافه المسافر و يطمع فيه المقيم، و قيل: خوفا من الصواعق و طمعا في الغيث «و ينزّل من السّماء ماء» أى غيثا و مطرا «فيحيى به» أى بذلك الماء «الأرض بعد موتها» أى بعد انقطاع الماء عنها وجدو بها «إنّ في ذلك لايات لقوم يعقلون» أى للعقلاء المكلّفين.
(فالويل) أى الحزن و الهلاك و المشقّة من العذاب و قيل إنّه علم واد في جهنّم (لمن جحد المقدّر و أنكر المدبّر) و هم الدّهريّون الّذين قالوا ما هى إلّا حياتنا الدّنيا نموت و نحيى و ما يهلكنا إلّا الدّهر (و يزعمون أنهم كالنبات) النابت في الصحاري و الجبال من غير زرع فكما أنّه ليس له زارع و مدبّر من البشر فكذلك هؤلاء.
(ما لهم زارع) أصلا (و لا لاختلاف صورهم صانع) قطعا و ذكر اختلاف الصّور لكونه أوضح دلالة على الصانع و قيل: المراد انهم قاسوا أنفسهم على النبات الذي جعلوا من الأصول المسلمة أنه لا مقدّر له بل ينبت بنفسه من غير مدبّر (و لم يلجئوا) أى لم يستندوا (إلى حجّة فيما ادّعوا) من جحود المقدّر (و لا تحقيق لما) حفظوا و (أوعوا) من إنكار المدبّر بل دعويهم مستندة إلى مجرّد الظنّ و الحسبان و محض الهوى و الاستحسان كما نطق به الفرقان.
قال تعالى أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَ أَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَ خَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ وَ جَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ. وَ قالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا وَ ما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ وَ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْإِلَّا يَظُنُّونَ.
و روى في الصّافي من الكافي عن الصّادق عليه السّلام في حديث وجوه الكفر قال عليه السّلام: فأمّا كفر الجحود فهو الجحود بالرّبوبيّة و هو قول من يقول: لا ربّ و لا جنّة و لا نار، و هو قول صنفين من الزنادقة يقال لهم الدّهرية و هم الّذين يقولون و ما يهلكنا إلّا الدّهر و هو دين وضعوه لأنفسهم بالاستحسان عنهم على غير تثبّت منهم و لا تحقيق لشيء مما يقولون قال اللّه عزّ و جلّ «وَ مِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا» إنّ ذلك كما يقولون.
قال الفخر الرازي: و أما شبهتهم في انكار الإله الفاعل المختار فهو قولهم «وَ ما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ» يعني تولد الأشخاص إنما كان بسبب حركات الأفلاك الموجبة لامتزاج الطبايع و إذا وقعت تلك الامتزاجات على وجه خاصّ حصلت الحياة، و اذا وقعت على وجه آخر حصل الموت، فالموجب للحياة و الموت تأثيرات الطبايع و حركات الأفلاك، و لا حاجة في هذا الباب إلى إثبات الفاعل المختار، فهذه الطائفة جمعوا بين إنكار الإله و بين إنكار البعث و القيامة ثمّ قال تعالى «وَ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ».
و المعنى أنّ قبل النظر و معرفة الدليل الاحتمالات بأسرها قائمة، فالذي قالوه يحتمل و ضدّه أيضا يحتمل، و ذلك هو أن يكون القول بالبعث و القيامة حقا و القول بوجود الإله الحكيم حقّا فانّهم لم يذكروا شبهة ضعيفة و لا قويّة في أنّ هذا الاحتمال الثاني باطل، و لكنه خطر ببالهم هذا الاحتمال الأوّل فجزموا به و أصرّوا عليه من غير حجّة و لا بيّنة، فثبت أنّهم ليس لهم علم و لا جزم و لا يقين في صحّة القول الّذي اختاروه بسبب الظنّ و الحسبان و ميل القلب إليه من غير موجب و حجّة و دليل، هذا و لما دعا عليه السّلام على الجاحدين بالويل و الثبور زيف قولهم بعدم استناده إلى حجّة و بيّنة و لو كانت ضعيفة هيّنة، عاد إلى تقريعهم و توبيخهم باقامة البرهان المحكم و الدلالة الواضحة على بطلان قولهم و فساد به منهم فقال على سبيل الاستفهام بقصد الإنكار و الإبطال:(و هل يكون بناء من غير بان و جناية من غير جان) يعني افتقار الفعل إلى الفاعل ضروري و إنكاره باطل و منكره ضال جاهل.
روى في البحار من جامع الأخبار قال: سئل أمير المؤمنين عليه السّلام عن اثبات الصانع فقال عليه السّلام: البعرة تدلّ على البعير، و الرّوثة تدلّ على الحمير، و آثار القدم تدلّ على المسير، فهيكل علوىّ بهذه اللّطافة و مركز سفلى بهذه الكثافة كيف لا يدلّان على اللطيف الخبير و فيه من كتاب التوحيد للصّدوق (ره) بسنده عن هشام بن الحكم قال: كان زنديق بمصر يبلغه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام فخرج إلى المدينة ليناظره فلم يصادفه بها فقيل له هو بمكّة، فخرج الزنديق إلى مكة و نحن مع أبي عبد اللّه عليه السّلام فقاربنا الزنديق و نحن مع أبي عبد اللّه عليه السّلام في الطواف فضرب كتفه «كفّه» كتف أبي عبد اللّه عليه السّلام فقال له جعفر عليه السّلام: ما اسمك قال: اسمي عبد الملك، قال: فما كنيتك قال: أبو عبد اللّه قال عليه السّلام: فمن الملك الذي أنت له عبد أمن ملوك السماء أم من ملوك الأرض و أخبرني عن ابنك أعبد إله السّماء أم عبد إله الأرض فسكت، فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: قل ما شئت تخصم، قال هشام بن الحكم: قلت للزنديق: أما تردّ عليه، فقبح قولي.
فقال له أبو عبد اللّه عليه السّلام: إذا فرغت من الطواف فأتنا.
فلما فرغ أبو عبد اللّه عليه السّلام أتاه الزنديق فقعد بين يديه و نحن مجتمعون عنده فقال للزنديق: أ تعلم أنّ للأرض تحت و فوق قال: نعم، قال عليه السّلام: فدخلت تحتها قال: لا، قال: فما يدريك بما تحتها قال: لا أدرى إلّا أنّي لأظنّ أن ليس تحتها شيء، قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: فالظنّ عجز ما لم تستيقن.
قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: فصعدت إلى السّماء قال: لا، قال: فتدري ما فيها قال لا، قال: فعجبا لك لم تبلغ المشرق و لم تبلغ المغرب و لم تنزل تحت الأرض و لم تصعد إلى السّماء و لم تجز هنالك فتعرف ما خلقهنّ و أنت جاحد ما فيهنّ و هل يجحد العاقل ما لا يعرف فقال الزنديق: ما كلّمني بهذا أحد غيرك.
فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: فأنت في شكّ من ذلك فلعلّ هو و لعلّ ليس هو قال الزّنديق: و لعلّ ذاك.
فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: أيّها الرّجل ليس لمن لا يعلم حجّة على من يعلم فلا حجّة للجاهل يا أخا أهل مصر تفهم عنّي فانا لا نشكّ في اللّه أبدا، أما ترى الشّمس و القمر و اللّيل و النهار يلجان ليس لهما مكان إلّا مكانهما فان كانا يقدران على أن يذهبا و لا يرجعان فلم يرجعان فان لم يكونا مضطرّين فلم لا يصير الليل نهارا و النهار ليلا اضطرّا و اللّه يا أخا أهل مصر إلى دوامهما و الذي اضطرّهما أحكم منهما و أكبر منهما، قال الزنديق: صدقت.
ثمّ قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: يا أخا أهل مصر الذي تذهبون و تظنونه بالوهم فان كان الدّهر يذهب بهم لم لا يردّهم و إن كان يردّهم لم لا يذهب بهم القوم مضطرّون يا أخا أهل مصر السّماء مرفوعة و الأرض موضوعة لم لا تسقط السماء على الأرض و لم لا تنحدر الأرض فوق طباقها فلا يتماسكان و لا يتماسك من عليهما فقال الزنديق أمسكهما و اللّه ربّهما و سيّدهما، فامن الزنديق على يدي أبي عبد اللّه عليه السّلام.
و قد أوردت هذه الرواية على طولها لتماميّتها في إبطال مذهب الدّهرية و نزيد إيضاحها بكلام أمير المؤمنين عليه السّلام و لو تأملتها حقّ التأمل ظهر لك أنّها في الحقيقة بمنزلة الشرح لقوله: و لم يلجئوا إلى حجّة، إلى قوله: جان، فتدبّر لتبصر.
و لما نبّه على لطايف الحكمة و دقايق القدرة الشاهدة بوجود الصّانع المدبّر الحكيم في خلقة النملة أردف ذلك تأكيدا و تثبيتا بذكر دقايق الصنع و براهين التدبير في خلق الجرادة فقال عليه السّلام: (و إن شئت قلت في الجرادة) نظير ما قلته في النملة من القول البيّن الكاشف عن تدبّر الصّانع الحكيم المدبّر (إذ خلق لها عينين حمراوين و أسرج لها حدقتين قمراوين) أى جعلهما مضيئتين كالسراج منيرتين كالليلة المنيرة بالقمر (و جعل لها السمع الخفىّ) أى عن أعين الناظرين و قيل: أراد بالخفىّ اللطيف السامع لخفىّ الأصوات.
قال الشارح البحراني: فوصفه بالخفاء مجاز اطلاقا لاسم المقبول على قابله (و فتح لها الفم السّوىّ) أى المستوى قال الشارح البحراني: و التسوية التعديل بحسب المنفعة الخاصة بها.
أقول: و يحتمل أن يكون المراد به أنّ فمها مشقوق عرضا مثل فم السرطان و ليس كأفواه الزنابير و ساير ذوات الأجنحة من الحيوان.
(و جعل لها الحسّ القوىّ) قال البحراني: أراد بحسّها قوّتها الوهميّة و بقوّته حذقها فيما الهمت إياه من وجوه المعاش و التصرّف يقال: لفلان حسّ حاذق إذا كان ذكيا فطنا درّاكا.
أقول: و الظاهر أنّ المراد به قوّة سامعتها و باصرتها، فإنا قد شاهدنا غير مرّة أنها تقع على الزرع في أوانه بزحفها فيصحن و يأكلن الزرع و يفسدنه فاذا ظهر في الجوّ واحد من الطير المعروف بطير الجراد يمرّ عليهنّ و لو على غاية بعد منهنّ يشاهدنه أو يسمعن صوته فيسكتن و يمسكن عن أصواتهن مخافة أن يقع عليهنّ فيقتلهنّ، و هو دليل على قوّة سمعها و بصرها (و) جعل لها (نابين) أى سنّين (بهما تقرض) و تقطع الزرع و الحبّ (و منجلين) أى يدين أو رجلين شبيهتين بالمنجل الذى يقضب أى يقطع به الزرع و وجه الشبه الاعوجاج و الخشونة (بهما تقبض).
و من لطيف الحكمة في رجليها أن جعل نصفهما الّذي يقع عليه اعتمادها و جلوسها كالمنشار ليكون لها معينا على الفحص و وقاية لذتها عند جلوسها و عمدة لها عند الطيران.
(يرهبها الزّراع في زرعهم و لا يستطيعون ذبّها و لو أجلبوا بجمعهم) أى يخافها الزارعون و لا يقدرون على دفعها و لو تجمّعوا و تألّبوا بجمعهم، ألا ترى أنها إذا توجّهت بزحفها إلى بقعة و هجمت على زروعها و أشجارها أمحلته و لا يستطيع أحد دفعها حتّى لو أنّ ملكا من ملوك الدّنيا أجلب عليها بخيلة و رجله و أراد ذبّها عن بلاده لم يتمكّن من ذلك.
و في ذلك تنبيه على عظمة الخالق حيث يسلّط أضعف خلقه على أقوى خلقه.
قيل لأعرابيّ: ألك زرع فقال: نعم و لكن أتانا زجل من جراد بمثل مناجلي الحصاد فسبحان من يهلك القوىّ الأكول بالضعيف المأكول.
و في حيوة الحيوان للدميري عن ابن عمر أنّ جرادة وقعت بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فاذا مكتوب على جناحها بالعبرانية: نحن جند اللّه الأكبر و لنا تسع و تسعون بيضة و لو تمّت لنا المأة لأكلنا الدّنيا بما فيها.
و كيف كان فلا يستطيع أحد لدفعها (حتّى ترد الحرث في نزواتها) و وثباتها (و تقضى منه شهواتها) فترد الحرث باختيارها و ترحل عنها باختيارها.
قال الاصمعي: أتيت البادية فاذا أعرابيّ زرع برّا له، فلما قام على سوقه و جاد سنبله أتاه زجل جراد فجعل الرّجل ينظر إليه و لا يدري كيف الحيلة فيه فأنشأ يقول:
مرّ الجراد على زرعي فقلت
لها لا تأكلن و لا تشغل بافساد
فقام منهم خطيب فوق سنبلة
إنا على سفر لا بدّ من زاد
و قوله (و خلقها كلّه لا يكون اصبعا مستدقة) تنبيه على تمام التعجّب بما أودع فيها من بديع الصنعة، يعني أنّها يرهبها الزراع و يخافها الحراث و يهابها الملاك و الحال أنها مخلوق ضعيف صغير حقير حتّى أنها لو شرح أوصافها المذكورة لمن لم يرها أصلا اعتقد أنّ الموصوف بها لا بدّ أن يكون خلقا عظيم الجثّة قوىّ الهيكل حتّى يصلح استناد هذه الأوصاف إليه و لم يكن له مزيد تعجّب، فاذا تبيّن له صغر حجمه زاد تعجّبا.
(فتبارك) أى تعالى (اللّه الّذي يسجد له مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً) أراد بالسجدة معناها الحقيقي، لأنّه يسجد له الملائكة و المؤمنون من الثقلين طوعا حالتي الشدّة و الرخا، و الكفرة له كرها حال الشدّة و الضرورة فقط أو معناها المجازي أعنى مطلق الخضوع أعمّ من التكليفي و التكويني أي الدّخول تحت ذلّ الافتقار و الحاجة، و الأوّل مبنيّ على كون لفظة من مخصّصة بذوى العقول و الثاني على عدم الاختصاص.
و يؤيّد الأوّل قوله (و يعفّر له خدّا و وجها) لظهوره في التمريغ أى تقليب الوجه و الخدّ بالأرض اللّهمّ إلّا أن يكون كناية عن غاية الخضوع (و يلقى اليه بالطاعة) أى يطيع له (سلما و ضعفا) أي من حيث التسليم و الضعف أو حالكونه مستسلما ضعيفا (و يعطى له القياد رهبة و خوفا) أي ينقاد له لأجل الخوف و الرهبة.
(فالطير مسخّرة لأمره) كما قال تعالى أَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ.
قال الطبرسي: أى ألم تتفكّروا و تنظروا إلى الطير كيف خلقها اللّه خلقة يمكنها معها التصرّف في جوّ السّماء صاعدة و منحدرة و ذاهبة و جائية مذللات للطّيران في الهواء بأجنحتها تطير من غير أن تعتمد على شيء- ما يمسكهنّ إلّا اللّه- أى ما يمسكهنّ عن السقوط على الأرض من الهواء إلّا اللّه فيمسك الهواء تحت الطير حتّى لا ينزل فيه كامساك الهواء تحت السابح في الماء حتّى لا ينزل فيه، فجعل إمساك الهواء تحتها إمساكا لها على التوسّع، فانّ سكونها في الجوّ إنما هو فعلها، فالمعنى ألم ينظروا في ذلك فتعلموا أنّ لها مسخّرا و مدبّرا لا يعجزه شيء و لا يتعذّر عليه شيء و أنه إنّما خلق ذلك ليعتبروا.
و لما نبّه على كونها مسخّرة مقهورة تحت قدرته، أردفه باحاطة علمه تعالى عليها بجميع أجزائها فقال (أحصى عدد الريش منها و النفس) و احصائه كناية عن علمه به (و أرسى قوايمها على الندى و اليبس) أى أثبت قوايمها بعضها على الندى كطير البحر و بعضها على اليبس كطير البرّ (قدّر أقواتها) أى جعل لكلّ منها قوتا مقدّرا معيّنا على قدر الكفاية (و أحصى أجناسها) و هو كناية عن احاطته بأنواعها.
و فصّلها بقوله (فهذا غراب و هذا عقاب و هذا حمام و هذا نعام دعا كلّ طاير باسمه).
قال الشارح البحراني: الدّعاء استعارة في أمر كلّ نوع بالدّخول في الوجود و ذلك الأمر يعود إلى حكم القدرة الالهية العظيمة عليه بالدّخول في الوجود، و وجهالاستعارة ما يشترك فيه معنى الدّعاء و الأمر من طلب دخول مهيّة المطلوب بالدّعاء و الأمر في الوجود و هو كقوله تعالى فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ. فَقَضاهُنَّ الاية، و لما استعار لفظ الدّعاء رشّح بذكر الاسم لأنّ الشيء إنّما يدعى باسمه، و يحتمل أن يريد الاسم اللغوي و هو العلامة فانّ لكلّ نوع من الطير خاصّة و سمة ليست للاخر و يكون المعنى أنه تعالى أجرى عليها حكم القدرة بمالها من السّمات و الخواص في العلم الالهي و اللّوح المحفوظ.
قال: و قال بعض الشارحين: أراد أسماء أجناس و ذلك أنّ اللّه تعالى كتب في اللّوح المحفوظ كلّ لغة تواضع عليها العباد في المستقبل، و ذكر الأسماء الّتي يتواضعون عليها، و ذكر لكلّ اسم مسمّاه فعند إرادة خلقها نادى كلّ نوع باسمه فاجاب دعواه و أسرع في إجابته.
(و كفل له برزقه) أى ضمنه ثمّ أشار إلى كمال قدرته تعالى في خلق المطر و السحاب فقال (و انشأ السحاب الثقال) أى الثقيلة بما فيها من الماء، و هو اقتباس من قوله سبحانه في سورة الرّعد «هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ يُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ» و قد تقدّم في الهداية الرابعة في شرح الفصل السّادس من المختار التسعين تفسير هذه الاية و نبّهنا هناك على ما تضمنها الرّعد و البرق و السحاب و المطر من عجائب القدرة و العظمة و الحكمة فليراجع ثمّة.
و قوله: (فأهطل ديمها) أى جعل ديمها هاطلة سائلة متتابعة (و عدّد قسمها) أى أحصى ما قدر منها لكلّ بلد و أرض على وفق الحكمة و المصلحة (فبلّ الأرض بعد جفوفها و أخرج نبتها بعد جدوبها) كما قال عزّ من قائل في سورة الحجّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ أى ترى الأرض ميتة يابسة فاذا أنزلنا عليها المطر تحرّكت بالنبات و انتفخت و أنبتت من كلّ نوع من أنواع النبات موصوف بالبهجة و الحسن و النضارة و في سورة الروم «وَ مِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ»
تبصرة
لما كان هذه الخطبة الشريفة متضمّنة بوصف خلقة أصناف من الحيوان و تشريح ما أبدعه اللّه سبحانه فيها من دلائل القدرة و الحكمة و براهين التّوحيد و التفريد و العظمة، بعضها بالتفصيل كالنملة و الجرادة، و بعضها بالاجمال و الاشارة كالغراب و العقاب و الحمامة و النعامة أحببت أن أذكر فصلا وافيا في وصف هذه الأنواع الستّة من الحيوان التي تضمّنها كلام أمير المؤمنين عليه السّلام على الترتيب الوارد في كلامه، و المقصود بذكر هذا الفصل تأكيد الغرض المسوق له هذه الخطبة الشريفة و هي الدّلالة على قدرة الصانع و حكمة المبدع عزّ و جلّ فأقول:
تذنيبات
الاول- فى خلقة النملة
قال الدميرى في كتاب حيوة الحيوان: النمل معروف الواحدة نملة و الجمع أنمال، و أرض نملة ذات نمل، و النملة بالضمّ النميمة يقال رجل نمل أى نمام، و ما أحسن قول الأوّل:
اقنع بما تلقي بلا بلغة
فليس ينسى ربّنا النملة
إن أقبل الدّهر فقم قائما
و إن تولّى مدبرا نم له
قال: و سميت النملة نملة لتنمّلها و هو كثرة حركتها و قلّة قوائمها، و النمل لا يتزاوج و لا يتلاقح إنّما يسقط منه شيء حقير في الأرض فينمو حتى يصير بيظتا ثم يتكوّن منه، و البيض كلّه بالضاد المعجمة إلّا بيض النمل فانّه بالظاء المشالة و النمل عظيم الحيلة في طلب الرّزق فاذا وجد شيئا أنذر الباقين يأتون إليه، و قيل انما يفعل ذلك منه رؤساؤها، و من طبعه أنّه يحتكر في أيّام الصيف للشتاء، و له في الاحتكار من الحيل ما أنه إذا احتكر ما يخاف إنباته قسّمه نصفين ما خلا الكسفرة فانه يقسّمها أرباعا لما ألهم من أنّ كلّ نصف منها ينبت، و إذا خاف العفن علىالحبّ أخرجه إلى ظاهر الأرض و نشره، و أكثر ما يفعل ذلك ليلا في ضوء القمر و يقال: إنّ حياته ليست من قبل ما يأكل و لا قوامه، و ذلك إنه ليس له جوف ينفذ فيه الطعام و لكنه مقطوع نصفين، و إنّما قوته إذا قطع الحبّ في استنشاق ريحه فقط و ذلك يكفيه.
أقول: و ظاهر كلام أمير المؤمنين عليه السّلام في هذه الخطبة أعنى قوله عليه السّلام في مجاري أكلها و من شراسيف بطنها يدلّ على فساد زعم هذا القائل، و التجربة أيضا تشهد بخلافه، فانا قد شاهدنا كثيرا أنّ الذّر و هي صغار النمل تجتمع على حبوبات الطعام و نحوها و يأكلها حتّى يفنيها بتمامها.
قال الدميرى: و قد روى عن سفيان بن عيينة أنه قال: ليس شيء يخبا قوته إلّا الانسان و العقعق و النمل و الفار، و به جزم في الاحياء في كتاب التوكل، و عن بعضهم أنّ البلبل يحتكر الطعام و يقال: إنّ للعقعق محابي إلّا أنّه ينساها، و النمل شديد الشم، و من أسباب هلاكه نبات أجنحته فاذا صار النمل كذلك أخصبت العصافير لأنّها تصيدها في حال طيرانها، و قد أشار إلى ذلك أبو العتاهية بقوله:
فاذا استوت للنمل أجنحة
حتى تطير فقد دنا عطبه
و كان الرشيد يتمثل بذلك كثيرا عند نكبة البرامكة.
و هو يحفر قرية بقوائمه، و هي ستّ فاذا حفرها جعل فيها تعاويج «تعاريخ خ» لئلّا يجرى إليها ماء المطر، و ربما اتخذ قرية فوق قرية لذلك و إنما يفعل ذلك خوفا على ما يدّخره من البلل.
قال البيهقي في الشعب: و كان عدى بن حاتم الطائي يفتّ الخبز للنمل و يقول: إنهنّ جارات و لهنّ علينا حقّ الجوار.
و سيأتي في الوحش عن الفتح بن خرشف الزاهد انّه كان يفتّ الخبز لهنّ في كلّ يوم فاذا كان يوم عاشوراء لم تأكله.
و ليس في الحيوان ما يحمل ضعف بدنه مرارا غيره على انّه لا يرضى بأضعاف الأضعاف حتّى أنّه يتكلّف حمل نوى التمر و هو لا ينتفع به و إنما يحمله على حملهالحرص و الشره و هو يجمع غذاء سنين لو عاش و لا يكون عمره أكثر من سنة.
و من عجايبه اتخاذ القرية تحت الأرض و فيها منازل و دهاليز و غرف و طبقات معلقات تملاءها حبوبا و ذخاير للشتاء، و منه ما يسمّى الذرّ الفارسي و هو من النمل بمنزلة الزنابير من النحل، و منه أيضا ما يسمّى بنمل الأسد سمّى بذلك لأنّ مقدمه يشبه وجه الأسد و مؤخره يشبه النمل.
و روى البخارى و مسلم و أبو داود النسائى عن أبي هريرة عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: نزل نبيّ من الأنبياء عليهم السّلام تحت شجرة فلذعته، فأمر بجهازه فاخرج من تحتها و أمر بها فاحرقت بالنار فأوحى اللّه تعالى إليه هلّا نملة واحدة.
قال أبو عبد اللّه الترمذي في نوادر الأصول: لم يعاتبه على تحريقها و إنما عاتبه بكونه أخذ البريء بغير البريء، و هذا النّبي هو موسى بن عمران عليه السّلام و أنّه قال يا ربّ تعذّب أهل قرية بمعاصيهم و فيهم الطايع، و كأنّه أحبّ أن يريه ذلك من عنده فسلّط عليه الحرّ حتّى التجأ إلى شجرة مستروحا إلى ظلّها و عندها قرية نمل فغلبه النوم فلما وجد لذّة النوم لذعته نملة فدلكهنّ بقدمه فأهلكهنّ و أحرق مسكنهنّ فأراه تعالى الاية في ذلك عبرة لما لذعته نملة كيف اصيب الباقون بعقوبتها، يريد أن ينبّهه على أنّ العقوبة من اللّه تعالى تعمّ الطايع و العاصي، فتصير رحمة و طهارة و بركة على المطيع، و شرّا و نقمة و عدوانا على العاصي، و على هذا ليس في الحديث ما يدلّ على كراهة و لا حظر في قتل النّمل، فانّ من أذاك حلّ لك دفعه عن نفسك و لا أحد من خلق اللّه أعظم حرمة من المؤمن و قد أبيح لك دفعه بضرب أو قتل على ماله من المقدار، فكيف بالهوام و الدّواب التي قد سخّرت للمؤمن و سلّط عليها.
قال الدميري: و روى الطبراني و الدار قطني أنّه قال: لما كلّم اللّه موسى عليه السّلام كان يبصر دبيب النملة على الصفاء في اللّيلة الظلماء من مسيرة عشرة فراسخ.
قال: و روى أنّ النملة التي خاطبت سليمان أهدت إليه نبقة«» فوضعها عليه السّلام في كفّه فقالت:
أ لم ترنا نهدى إلى اللّه ماله
و إن كان عنه ذاغني فهو قابله
و لو كان يهدى للجليل بقدره
لقصر عنه البحر حين يساجله
و لكنّنا نهدى إلى من نحبّه
فيرضى بها عنّا و يشكر فاعله
و ما ذاك إلّا من كريم فعاله
و إلّا فما في ملكنا من يشاكله
فقال سليمان عليه السّلام: بارك اللّه فيكم فهو بتلك الدعوة أكثر خلق اللّه، انتهى ما أهمّنا نقله من كتاب حيوة الحيوان.
أقول: و من عجيب قصّة النمل ما جرى له مع سليمان عليه السّلام و قد اخبر به سبحانه في كتابه العزيز قال تعالى في سورة النمل وَ حُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ وَ الطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ. حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا. النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَ جُنُودُهُ وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ. فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَ قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلى والِدَيَّ وَ أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَ أَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ.
قال الطبرسيّ «أتوا على واد النمل» هو واد بالطايف و قيل بالشام «قالت نملة» أى صاحت بصوت خلق اللّه لها، و لما كان الصوت مفهوما لسليمان عبّر عنه بالقول، و قيل: كانت رئيسة النّمل «لا يحطمنّكم» أى لا يسكرنّكم «سليمان و جنوده و هم لا يشعرون» بحطمكم أو وطئكم فانهم لو علموا بمكانكم لم يطئوكم.
و هذا يدلّ على أنّ سليمان و جنوده كان ركبانا و مشاة على الأرض و لم تحملهم الريح، لأنّ الريح لو حملتهم بين السّماء و الأرض لما خافت النملة أن يطئوها بأرجلهم و لعلّ هذه القصّة كانت قبل تسخير اللّه الريح لسليمان عليه السّلام.
فان قيل: كيف عرفت النّملة سليمان و جنوده حتّى قالت هذه المقالة قلنا: إذا كانت مأمورة بطاعته فلا بدّ و أن يخلق اللّه لها من الفهم ما تعرف به امور طاعته، و لا يمتنع أن يكون لها من الفهم ما تستدرك به ذلك و قيل: إنّ ذلك كان منها على سبيل المعجز.
«فتبسّم ضاحكا من قولها» و سبب ضحكه التعجب لأنّه رأى ما لا عهد له بهو قيل انه تبسّم بظهور عدله حتّى عرفه النمل، و قيل: إنّ الريح أطارت كلامها إليه من ثلاثة أميال حتّى سمع ذلك فانتهى إليها و هى تأمر النمل بالمبادرة، فتبسّم عليه السّلام من حذرها، هذا.
قال بعض أهل العلم: إنّ النملة تكلّمت بعشرة أنواع من البديع قولها: يا نادت، أيّها، نبّهت، النمل، سمّت، ادخلوا، أمرت، مساكنكم، نعتت، لا يحطمنّكم حذرت، سليمان، خصّت، و جنوده، عمّت، و هم، أشارت، لا يشعرون، اعتذرت.
و في البحار من تفسير عليّ بن إبراهيم «و حشر لسليمان جنوده من الجنّ و الانس و الطير» قعد على كرسيّه و حملته الرياح على واد النمل و هو واد ينبت الذّهب و الفضة، قد وكّل اللّه به النمل و قول الصّادق عليه السّلام: إن للّه واديا ينبت الذّهب و الفضة قد حماء اللّه بأضعف خلقه و هو النمل لو رامه البخاتي ما قدرت عليه، فلما انتهى سليمان إلى وادى النمل قالت نملة الاية.
و في البحار من العيون و العلل بسنده عن داود بن سليمان الغازي قال: سمعت عليّ بن موسى الرّضا عليه السّلام يقول عن أبيه موسى بن جعفر عن أبيه جعفر ابن محمّد عليهم السّلام في قوله عزّ و جلّ «فتبسّم ضاحكا من قولها».
قال: لما قالت النملة «يا أيّها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنّكم سليمان و جنوده» حملت الريح صوت النملة إلى سليمان و هو مارّ في الهواء و الريح قد حملته فوقف و قال: علىّ بالنملة.
فلما اتى بها قال سليمان: يا أيّتها النملة أما علمت أنّي نبيّ اللّه و أنّي لا أظلم أحدا قالت النّملة: بلى، قال سليمان: فلم حذّر تنيهم ظلمي و قلت: يا أيّها النمل ادخلوا مساكنكم قالت النملة: خشيت أن ينظروا إلى زينتك فيفتتنوا بها فيبعدوا عن ذكر اللّه.
ثمّ قالت النملة: أنت أكبر أم أبوك داود قال سليمان: بل أبي داود، قالت النملة: فلم زيد في حروف اسمك حرف على حروف اسم أبيك داود قال سليمان عليه السّلام: ما لى بهذا علم، قالت النملة: لأنّ أباك داوى جرحه بودّ فسمّى داود و أنتيا سليمان أرجو أن تلحق بأبيك.
ثمّ قالت النّملة: هل تدرى لم سخّرت لك الرّيح من بين ساير المملكة قال سليمان: ما لي بهذا علم، قالت النّملة: يعني عزّ و جلّ بذلك لو سخّرت لك جميع المملكة كما سخّرت لك هذه الرّيح لكان زوالها من يدك كزوال الريح «فتبسّم ضاحكا من قولها».
قال العلّامة المجلسي (ره) معنى التعليل الذي ذكره النملة أنّ أباك لما ارتكب ترك الأولى و صار قلبه مجروحا بذلك فداواه بودّ اللّه و محبّته فلذا سمّى بداود و اشتقاقا من الدواء بالودّ، و أنت لما ترتكب بعد و أنت سليم منه سمّيت سليمان فخصوص العلتين للتسميتين صارتا علّة لزيادة اسمك على اسم أبيك.
ثمّ لما كان كلامها موهما لكونه من جهة السّلامة أفضل من أبيه استدركت ذلك بأنّ ما صدر منه لم يصر سببا لنقصه بل صار سببا لكمال محبّته و تمام مودّته و أرجو أن تلحق أنت أيضا بأبيك في ذلك ليكمل محبّتك.
و في حيوة الحيوان عن الثعلبي و غيره أنّها كانت مثل الذئب في العظم و كانت عرجاء ذات جناحين.
و في تفسير مولا فتح اللّه من كشف الغمّة: كانت مثل الدّيك، و من زاد المسير: كانت بعظم نعجة، و من كشف الأسرار سألها سليمان عليه السّلام عن مقدار جيشها فقالت أربعة آلاف قائد، و لكلّ قائد أربعون ألف نقيب، و لكلّ نقيب أربعون ألفا و في روضة الصفا قال لها سليمان عليه السّلام أما علمت أنّي نبيّ اللّه لا أرضى بظلم أحد قالت: نعم، قال: فلم حذرتهم قال: يلزم على السائس أن ينصح قومه، و أيضا فقد خفت من جنودك أن يحطمنّهم من حيث لا يشعرون، فاستحسن عليه السّلام قولها.
ثمّ قال لها تلطّفا: سلطانك أعظم أم سلطاني قالت: بل سلطاني، قال: فكيف ذلك قالت: لأنّ سريرك على الريح و سريرى كفك.
ثمّ قال: جندك أكثر أم جندي قالت: بل جندي، قال من أين هذا قالت فارجه حتّى أعرض عليك بعض جيشي، فصاحت عليهم أن اخرجوا من حجراتكمحتّى ينظر إليكم نبيّ اللّه، فخرج سبعون ألف فوج لا يعلم عددهم إلّا اللّه قال عليه السّلام: هل بعد ذلك قالت: لو خرج كلّ يوم مثلها إلى سبعين عاما لم تنفدوا، ثمّ لما أراد المسير أهدت إليه نصف رجل جراد و اعتذرت كما
قال الشاعر:
أهدت سليمان يوم العرض نملته
تأتى برجل جراد كان في فيها
ترنمت بفصيح القول و اعتذرت
إنّ الهدايا على مقدار مهديها
الثاني- في الجرادة
قال في حيوة الحيوان: الجراد معروف الواحدة جرادة الذكر و الانثى فيه سواء يقال هذه جرادة انثى كنملة و حمامة، قال أهل اللّغة: و هو مشتقّ من الجرد قالوا: و الاشتقاق في أسماء الأجناس قليل جدّا يقال: ثوب جرد أى أملس، و ثوب جرد إذا ذهب زبره.
و هو أصناف مختلفة فبعضه كبير، و بعضه صغير، و بعضه أصفر و بعضه أبيض و إذا خرج من بيضه يقال له الدبا، فاذا طلعت أجنحته و كبرت فهو الغوغا، الواحدة غوغاة و ذلك حين يموج بعضه في بعض، فاذا بدت فيه الألوان و اصفرت الذكور و اسودت الاناث سمّى جرادا حينئذ و إذا أراد أن يبيض التمس لبيضه المواضع الصّلدة و الصخور الصّلبة التي لا تعمل فيها المعاول فيضربها بذنبه فتفرج له فيلقى بيضه في ذلك الصّدع فيكون له كالافحوص و يكون حاضنا له و مربيا.
و للجرادة ستّة أرجل يدان في صدرها و قائمتان في وسطها و رجلان في مؤخّرها و طرفا رجليها منشاران، و هو من الحيوان الّذي ينقاد لرئيسه فيجتمع كالعسكر إذا ظعن أوله تتابع جميعه ظاعنا و إذا نزل أوله نزل جميعه، و لعابه سمّ ناقع للنبات لا يقع على شيء منه إلّا أهلكه.
قال: و في الجراد خلقة عشرة من جبابرة الحيوان مع ضعفه: وجه فرس و عينا فيل، و عنق ثور، و قرنا ايل، و صدر أسد، و بطن عقرب، و جناحا نسر، و فخذا جمل، و رجلا نعامة، و ذنب حيّة.
و قد أحسن القاضي محيى الدّين في وصف الجراد بذلك في قوله:
فخذا بكر و ساقا نعامة
و قادمتا نسر و جؤجؤ ضيغم
حبتها أفاعى الأرض بطنا و أنعمت
عليها جياد الخيل بالرأس و الفم
قال الشارح المعتزلي: قال أبو عثمان في كتاب الحيوان: من عجائب الجرادة التماسها لبيضها الموضع الصّلد و الصّخور الملس ثقة بأنها إذا ضربت بأذنابها فيها انفرجت لها، و معلوم أنّ ذنب الجراد ليس في خلقة المنشار و لا طرف ذنبه كحدّ السّنان و لا لها من قوّة الاسر و لا لذنبها من الصّلابة ما اذا اعتمدت به على الكدية جرح فيها، كيف و هي تتعدّى إلى ما هو أصلب من ذلك.
و ليس في طرفها كابرة العقرب و على أنّ العقرب ليس تخرق القمقم بذنبها من جهد الأيد و قوّة البدن، بل انما ينفرج المها بطبع مجعول هناك، و كذلك انفراج الصخور لأذناب الجراد.
و لو أنّ عقابا أرادت أن تخرق جلد الجاموس لما انخرق لها إلّا بالتكلّف الشديد و العقاب هى التي تنكدر على الذئب فتقد بدابرتها ما بين صلوه إلى موضع الكاهل فاذا غرزت الجرادة و ألقت بيضها و انضمّت عليها تلك الأخاديد التي هي أحدثتها و صارت كالأفاحيص لها، صارت حاضنة لها و مربية و حافظة و صائنة واقية.
حتّى اذا جاءت وقت دبيب الرّوح فيها حدث عجب آخر لأنّه تخرج من بيضه أصهب إلى البياض، ثمّ يصفّر و يتكوّن فيه خطوط سود و بيض، و حجم جناحه ثمّ يستقل فيموج بعضه في بعض.
قال في حيوة الحيوان: تكتب هذه الكلمات و تجعل في انبوبة قصب و تدفن في الزرع أو في الكرم فانّه لا يؤذيه الجراد باذن اللّه تعالى و هي: «بسم اللّه الرّحمن الرّحيم اللّهمّ صلّ على سيّدنا محمّد و على آل سيّدنا محمّد و سلّم، اللّهمّ أهلك صغارهم و اقتل كبارهم، و افسد بيضهم و خذ بأفواههم عن معايشنا و أرزاقنا إنّك سميع الدّعاء، إنّى توكّلت على اللّه ربّي و ربّكم مامن دابّة إلّا هو آخذ بناصيتها إنّ ربّي على صراط مستقيم، اللّهم صلّ على سيّدنا محمد و على آل سيدنا محمّد و سلّم و استجب منّا يا أرحم الرّاحمين» و هو عجيب مجرّب.
الثالث- في الغراب
قال في حيوة الحيوان: الغراب معروف سمّى بذلك لسواده و منه قوله تعالى «و غرابيب سود» و كنيته أبو المرقال قال:
قال الشاعر:
انّ الغراب و كان يمشى مشية
فيما مضى من سالف الأجيال
حسد القطاة و رام يمشى مشيها
فأصابه ضرب من العقال
فأضلّ مشيته و أخطأ مشيها
فلذاك سمّوه أبا المرقال
و هو أصناف: العذاف، و الزاغ، و الاكحل، و غراب الزرع، و الاورق، و هذا الصنف يحكى جميع ما يسمعه، و الغراب الأعصم عزيز الوجود قالت العرب: أعزّ من الغراب الأعصم.
و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مثل المرأة الصالحة في النساء كمثل الغراب الأعصم في مأئة غراب رواه الطبراني من حديث أبي أمامة.
و في رواية ابن أبي شيبة قيل: يا رسول اللّه و ما الغراب الأعصم قال: الّذي إحدى رجليه بيضاء.
و قال في الاخبار الأعصم أبيض البطن، و قيل: أبيض الجناحين، و قيل: أبيض الرجلين، و غراب الليل قال الجاحظ: هو غراب ترك أخلاق الغربان و تشبه باخلاق البوم فهو من طير الليل.
و قال ارسطا طاليس: الغراب أربعة أجناس: أسود حالك، و أبلق، و مطرف ببياض لطيف الجرم يأكل الحبّ، و أسود طاووسى براق الرّيش و رجلاه كلون المرجان يعرف بالزاغ.
قال صاحب المنطق: الغراب من لئام الطير و ليس من كرامها و لا من أحرارها و من شأنه أكل الجيف و القمامات.
و هو إما حالك السّواد شديد الاحتراق، و يكون مثله في النّاس الزنج فانّهم شرار الخلق تركيبا و مزاجا كمن بردت بلاده و لم تنضجه الأرحام أو سخنت بلاده فأحرقته الأرحام، و إنما صارت عقول أهل بابل فوق العقول و كمالهم فوق الكمال لأجل ما فيها من الاعتدال، فالغراب الشديد السّواد ليس له معرفة و لا كمال.
و الغراب الأبقع كثير المعرفة و هو اللئيم من الأسود.
و غراب البين الأبقع قال الجوهري: هو الذي فيه سواد و بياض، و قال صاحب المجالسة: سمّي الغراب البين لأنه بان عن نوح عليه السّلام لما وجّهه لينظر إلى الماء فذهب و لم يرجع، و لذلك تشأموا به.
و قال صاحب منطق الطير: الغربان جنس من الأجناس التي امر بقتلها في الحلّ و الحرم من الفواسق، اشتقّ لها ذلك الاسم من اسم إبليس لما يتعاطاه من الفساد الذي هو شأن إبليس، و اشتقّ ذلك أيضا لكلّ شيء اشتدّ أذاه، و أصل الفسق الخروج عن الشيء، و في الشرع الخروج عن الطاعة.
و قال الجاحظ: غراب البين نوعان: أحدهما غراب صغير معروف باللّوم و الضعف و أمّا الاخر فانّه ينزل في دور النّاس و يقع على مواضع اقامتهم إذا ارتحلوا عنها و بانوا منها، فلما كان هذا الغراب لا يوجد إلّا عند بينونتهم عن منازلهم اشتقّوا له هذا الاسم من البينونة.
و قال المقدسي: هو غراب أسود ينوح نوح الحزين المصاب و ينعق بين الحلال «الخلّان» و الأحباب، و إذا رأى شملا مجتمعا انذر بشتاته، و إن شاهد ربعا عامرا بشّر بخرابه و دروس عرصاته، يعرّف النازل و الساكن بخراب الدّور و المساكن، و يحذّر الاكل غصّة الماكل، و يبشّر الراحل بقرب المراحل، ينعق بصوت فيه تحزين، كما يصيح المعلن بالتأذين، و أنشد على لسان حاله:
أنوح على ذهاب العمر منّى
و حق أن أنوح و أن أنادى
و أنذر كلّما عاينت ركبا
حدا بهم لو شك البين حادى
يعنّفني الجهول إذا رآني
و قد البست أثواب الحداد
فقلت له اتّعظ بلسان حالي
فانّى قد نصحتك باجتهاد
و ها أنا كالخطيب و ليس بدعا
على الخطباء أثواب السّواد
ألا ترنى إذا عاينت ركبا
أنادى بالنوى في كلّ ناد
أنوح على الطلول فلم يجبني
بساحتها سوى خرس الحماد
فأكثر في نواحيها نواحى
من البين المفتّت للفؤاد
تيقّظ يا ثقيل السّمع و افهم
إشارة من تسير به الغوادي
فما من شاهد في الكون إلّا
عليه من شهود الغيب بادى
و كم من رائح فيها و غاد
ينادى من دنوّ أو بعاد
لقد أسمعت لو ناديت حيّا
و لكن لا حياة لمن ينادى
قال الدميرى: و العرب تتشأم بالغراب و لذا اشتقّوا من اسمه الغربة و الاغتراب و الغريب.
و قال الجاحظ: و انما كان الغراب عندهم هو المقدم في باب الشوم لأنّه لما كان أسود و لونه مختلفا ان كان أبقع و لم يكن على ابلهم شيء أشدّ من الغراب و كان حديد البصر يخاف من عينيه كما يخاف من عين المعيان قدّموه في باب الشوم، انتهى.
و يقال: إنّ الغراب يبصر من تحت الأرض بقدر منقاره، و في طبع الغراب كلّه: الاستتار عند السّفاد، و هو يسفد مواجهة و لا يعود إلى الأنثى بعد ذلك أبدا لقلّة وفائه، و الأنثى تبيض أربع بيضات أو خمسا.
و إذا خرجت الفراخ من البيض طردتها لأنّها تخرج قبيحة المنظر جدّا اذ تكون صغار الأجرام عظام الرءوس و المناقير، جرو اللون متفاوتات الأعضاء، فالأبوان ينكران الفراخ و يطيران لذلك و يتركانه، فيجعل اللّه قوته في الذباب و البعوض الكائن في عشه إلى أن يقوى و ينبت ريشه، فيعود إليه أبواه و على الأنثى الحضن و على الذكر أن يأتيها بالمطعم.
و في طبعه أنّه لا يتعاطى الصّيد بل إن وجد جيفة أكل منها و إلّا مات جوعا و يتقمقم كما يتقمقم صغار الطير، و فيه حذر شديد و تنافر، و الغذاف يقاتل البوم و يخطف بيضها و يأكله.
و من عجيب إنّ الانسان إذا أراد أن يأخذ فراخه تحمل الانثى و الذكر في زايد في أرجلهما حجارة و يتحلقان في الجوّ و يطرحان الحجارة عليه يريدان بذلك دفعه.
قال أبو الهثيم: يقال إنّ الغراب يبصر من تحت الأرض بقدر منقاره، و الحكمة في ذلك أن اللّه تعالى بعث إلى قابيل لما قتل أخاه هابيل غرابا و لم يبعث له غيره من الطير و لا من الوحش إن القتل كان مستغربا جدّا إذ لم يكن معهودا قبل ذلك، فناسب بعث الغراب.
عجيبة
نقل القزويني عن أبي حامد الاندلسى أنّ على البحر الأسود من ناحية الاندلس كنيسة من الصّخر منقورة في الجبل عليها قبّة عظيمة، و على القبّة غراب لا يبرح و في مقابل القبّة مسجد يزوره النّاس يقولون: إنّ الدّعاء فيه مستجاب، و قد قرّر على القسيسين ضيافة من يزور ذلك المسجد من المسلمين، فاذا قدم زائر دخل الغراب رأسه في روزنة على تلك القبّة و صاح صيحة، و إذا قدم اثنان صاح صيحتين و هكذا كلّما وصل زوار صاح على عددهم، فتخرج الرّهبان بطعام يكفى الزائرين و تعرف تلك الكنيسة بكنيسة الغراب، و زعم القسيسون أنهم ما زالوا يرون غرابا على تلك القبة و لا يدرون من أين يأكل أو يشرب.
الرابع- في العقاب
قال الدّميري: العقاب طاير معروف و الجمع أعقب قال في الكامل: العقاب سيّد الطيور و النسر عريفها، قال ابن ظفر: حاد البصر و لذلك قالت العرب: أبصر من عقاب، و الأنثى منه تسمّى لقوة و قال ابن خلكان: يقال: إنّ العقاب جميعه أنثى و إنّ الّذي يسافده طير آخر من غير جنسه، و قيل: إنّ الثعلب يسافده، قال:
و هذا من العجايب، و لابن عنين الشاعر في هجو شخص يقال له: ابن سيدة:
ما أنت إلّا كالعقاب فامّه معروفة و له أب مجهول
و العقاب تبيض ثلاث بيضات في الغالب، و تحضنها ثلاثين يوما و ما عداها من الجوارح يبيض بيضتين و يحضن عشرين يوما، فاذا خرجت فراخ العقاب ألقت واحدا منها لأنّها يثقل عليها طعم الثلاث و ذلك لقلّة صبرها، و الفرخ الّذي تلقيه يعطف عليه طائر آخر يسمى كاسر العظام، فيربّيه، و من عادة هذا الطائر أن يزقّ كلّ فرخ ضائع.
و العقاب إذا صادت شيئا لا تحمله على الفور إلى مكانها، بل تنقله من موضع إلى موضع، و لا تقعد إلّا على الأماكن المرتفعة، و إذا صادت الأرانب تبدء بصيد الصّغار ثمّ الكبار.
و من عجيب ما الهمته أنّها إذا اشتكت أكبادها أكلت أكباد الأرانب و الثعالب فتبرء، و هي تأكل الحيّات إلّا رؤوسها، و الطيور إلّا قلوبها، و يدلّ لهذا قول امرء القيس.
كأنّ قلوب الطير رطبا و يابسا لدى
و كرها العناب و الحشف البالي
و من شأنها أن جناحها لا يزال يخفق قال عمرو بن خرام:
لقد نركت عفراء قلبي
كأنّه جناح عقاب دائم الخفقان
و هي أشدّ الجوارح حرارة، و أقواها حركة، و أيبسها مزاجا، و هي خفيفة الجناح سريعة الطيران، تتغدى بالعراق و تتعشى باليمن، و ريشها الذي عليها فروتها بالشتاء و حليتها في الصّيف، و متى ثقلت عن النهوض و عميت حملتها الفراخ على ظهورها و نقلتها من مكان إلى مكان، فعند ذلك تلتمس لها عينا صافية بأرض الهند على رأس جبل فتغمسها فيها ثمّ تضعها في شعاع الشمس فيسقط ريشها و ينبت لها ريش جديد و تذهب ظلمة بصرها، ثمّ تغوص في تلك العين فاذا هي قد عادت شابة كما كانت فسبحان القادر على كلّ شيء الملهم كلّ نفس هداها.
الخامس- في الحمام
قال الجوهري: هو عند العرب ذوات الأطواق نحو الفواخت و القماري«» و ساق حرّ و القطاء و الوراشين و أشباه ذلك، يقع على الذكر و الانثى لأنّ الهاء إنّما دخلت على أنّه واحد من جنس لا للتأنيث، و نقل الأزهرى عن الشافعي أنّ الحمام كل ما عبّ و هدر.
قال الدّميري: الحمام الذي يألف البيوت قسمان: أحدهما البرّي و هو الذي يلازم البروج و ما أشبه ذلك و هو كثير النفور و سمّى برّيا لذلك.
و الثاني الأهلي و هو أنواع مختلفة و أشكال متباينة منها الرواعب، و المراعيش و العداد، و السداد، و المضرب، و القلاب، و المنسوب، و هو بالنسبة إلى ما تقدّم كالعتاق من الخيل و تلك كالبراذين.
قال الجاحظ: الفقيع من الحمام كالصصلاب «الصقلاب ظ» من الناس و هو الأبيض.
قال الدّميري: و من طبعه أنّه يطلب و كره و لو ارسل من ألف فرسخ و يحمل الأخبار و يأتي بها من البلاد البعيدة في المدّة القريبة، و فيه ما يقطع ثلاثة آلاف فراسخ في يوم واحد، و ربما اصطيد و غاب عن وطنه حتّى يجد فرصة فيطير إليه.
و سباع الطير تطلبه أشدّ الطلب و خوفه من الشاهين أشدّ من خوفه من غيره، و هو أطير منه و من ساير الطيور كلّها لكنّه يذعر منه و يعتريه ما يعتريه الحمار من الأسد و الشاة إذا رأت الذئب و الفار إذا رأى الهرّ.
و من عجيب الطبيعة فيه ما حكاه ابن قتيبة في عيون الأخبار عن المثنّى بن زهير أنّه قال: لم أر شيئا قطّ من رجل و امرأة إلّا و قد رأيته في الحمام، رأيت حمامة لا تريد إلّا ذكرها و ذكرا لا يريد إلّا انثاه إلّا أن يهلك أحدهما أو يفقد، و رأيت حمامة تتزيّن للذكر ساعة يريدها، و ما رأيت حمامة لها زوج و هي تمكن آخرما تعدوه، و رأيت حمامة تقمط حمامة و يقال إنّها تبيض من ذلك و لكن لا يكون لذلك البيض فراخ، و رأيت ذكرا يقمط ذكرا، و رأيت ذكرا يقمط كلّ ما رأى و لا يزاوج و انثى يقمطها كلّ ما رآها من الذكور و لا تزاوج، و ليس من الحيوان ما يستعمل التقبيل عند السفاد إلّا الانسان و الحمام، و هو عفيف في السّفاد يجرّ ذنبه ليعفى أثر الأنثى كأنه قد علم ما فعلت فيجتهد في إخفائه، و قد يسفد لتمام ستة أشهر و الانثى تحمل أربعة عشر يوما و تبيض بيضتين إحداهما ذكر و الثانية انثى، و بين الاولى و الثّانية يوم و ليلة، و الذكر يجلس على البيض و يسخنه جزء من النّهار و الأنثى بقية النهار، و كذلك في اللّيل، و إذا باضت الأنثى و أبت الدّخول على بيضها لأمر مّا ضربها الذكر و اضطرّها للدّخول، و إذا أراد الذكر أن يسفد الأنثى اخرج فراخه من الذكر «الوكر» و قد الهم هذا النوع إذا خرجت فراخه من البيض بأن يمضغ الذكر ترابا مالحا و يطمّها إياه ليسهل به سبيل المطعم، و زعم ارسطو أنّ الحمام يعيش ثماني سنين.
و ذكر الثعلبي و غيره عن وهب بن منبه في قوله تعالى «وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ» قال: اختار من النعم الضأن، و من الطير الحمام.
و ذكر أهل التاريخ أنّ المسترشد باللّه لما حبس رأى في منامه كأنّ على يده حمامة مطوقة، فأتاه آت فقال له: خلاصك في هذا، فلما أصبح حكى ذلك لابن السكينة فقال له: ما أوّلته قال: أوّلته ببيت أبي تمام:
هنّ الحمام فان كسرت عيافة
من حائهن فانهنّ حمام
و خلاصي في حمامي، فقتل بعد أيام يسيره سنة تسع و عشرين و خمس مأئة.
و في البحار من الكافي عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن النّوفلي عن السّكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: اتّخذوا الحمام الراعبية في بيوتكم فانّها تلعن قتلة الحسين عليه السّلام.
و فيه من العيون و العلل سأل الشامي أمير المؤمنين عليه السّلام عن معنى هديرالحمام الراعبية فقال عليه السّلام: تدعو على أهل المعازف«» و القيان و المزامير و العيدان و من الكافي عن أبي خديجة قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: هذه الحمام حمام الحرم من نسل حمام إسماعيل بن إبراهيم التي كانت له.
و عن أبي سلمة قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: الحمام طير من طيور الأنبياء عليهم السّلام الّتي كانوا يمسكون في بيوتهم و ليس من بيت فيه حمام إلّا لم يصب ذلك البيت آفة من الجنّ، إنّ سفهاء الجن يعبثون بالحمام و يدعون الناس، قال فرأيت في بيت أبي عبد اللّه عليه السّلام حماما لابنه إسماعيل.
السادس- في النعام
قال في حيوة الحيوان: معروف يذكر و يؤنث، و هو اسم جنس مثل حمام و حمامة و جراد و جرادة و تجمع النعامة على نعامات قال الجاحظ: و الفرس يسمّونها شتر مرغ، و تأويله بعير و طائر
قال الشاعر:
و مثل نعامة تدعى
بعيرا تعاميا إذا ما قيل طيرى
فان قيل احملي قالت فإنّي
من الطير المرفه في الوكور
قال: و تزعم الأعراب أنّ النعامة ذهبت تطلب قرنين فقطعوا اذنيها، فلذلك سمّيت بالظليم، انتهى.
و كانهم انما سمّوها ظليما لأنّهم إنّما ظلموها حين قطعوا اذنيها و لم يعطوها ما طلبت، و هذا بناء على اعتقادهم الفاسد.
قال الدّميري: و النّعام عند المتكلّمين على طبايع الحيوان ليست بطاير و إن كانت تبيض و لها جناح و ريش، و يجعلون الخفّاش طيرا، و إن كان يحبل و يلد و له اذنان بارزتان و ليس له ريش لوجود الطيران فيه و مراعاة لقوله تعالى «إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ» و هم يسمّون الدّجاجة طيرا و إن كانت لا تطير.
و ظنّ بعض النّاس أنّ النعامة متولّدة من جمل و طاير، و هذا لا يصحّ، و من أعاجيبها أنّها تضع بيضها طولا بحيث لو مدّ عليها خيط لاشتمل على قدر بيضها و لم تجد لشيء منه خروجا عن الاخر، ثمّ إنّها تعطى كلّ بيضة منه نصيبها من الحضن إذ كان كلّ بدنها لا يشتمل على عدد بيضها، و هي تخرج لعدم الطعم، فان وجدت بيض نعامة اخرى تحضنه و تنسى بيضها. و لعلّها ان تصاد فلا ترجع إليه و لهذا توصف بالحمق و يضرب بها المثل
قال الشاعر:
فاني و تركى ندى الأكرمين
و قد حى بكفّى زنادا شحاحا
كتاركة بيضها بالعراء
و ملبسة بيض أخرى جناحا
قال الدّميري: و النعام من الحيوان الذي يعاقب الذكر الانثى في الحضن و كل ذي رجلين إذا انكسرت له إحداهما استعان بالاخرى في نهوضه و حركته ما خلا النعامة فانها تبقى في مكانها جاثمة حتّى تهلك جوعا
قال الشاعر:
إذا انكسرت رجل النعامة لم تجد
على أختها نهضا و لا باستها حبوا
و ليس للنعام حاسة السمع و لكن له شمّ بليغ، فهو يدرك بأنفه ما يحتاج فيه إلى السمع، فربما شم رائحة القناص من بعد، و لذلك تقول العرب: هو أشم من النعامة قال ابن خالويه: ليس في الدّنيا حيوان لا يسمع و لا يشرب الماء أبدا إلّا النعام و لا مخّ له و متى رميت رجل واحدة له لم ينتفع بالباقية، و الضبّ أيضا لا يشرب و لكنه يسمع، و من حمقها أنها إذا ادركها القناص أدخل رأسها في كثيب رمل تقدّر أنها قد استخفت منه، و هو قوية الصّبر على ترك الماء و أشدّ ما يكون عدوها إذا استقبلت الريح، و كلّما اشتدّ عصوفها كانت أشدّ عدوا، و تبتلع العظم الصلب و الحجر و المدر و الحديد فتذيبه و تميعه كالماء.
قال الجاحظ: من زعم أنّ جوف النعام يذيب الحجارة لفرط الحرارة فقد أخطأ و لكن لا بدّ مع الحرارة من غرائز آخر بدليل أنّ القدر يوقد عليها الأيام و لا تذيب الحجارة، و كما أنّ جوفي الكلب و الذئب يذيبان العظم و لا يذيبان نوى التمر، و كما أنّ الابل تأكل الشوك و تقتصر عليه و إن كان شديدا كالسّمر و هو شجر أمّ غيلان و تلقيهردما، و إذا أكلت الشعير ألقته صحيحا انتهى.
و إذا رأت النعامة في اذن صغير لؤلؤة أو حلقة اختطفها و تبتلع الجمر فيكون جوفها هو الحامل في إطفائه و لا يكون الجمر عاملا في إحراقه، و في ذلك اعجوبتان إحداهما التغذي بما لا يتغذى به، و الثانية الاستمراء و الهضم، و هذا غير منكر لأنّ السّمندل يبيض و يفرخ في النار.
فسبحان من أعطى كلّ شيء خلقه ثمّ هدى، و أبدع في الملك و الملكوت من لطايف القدرة من الحكمة ما فيه كفاية لمن اهتدى، و اودع فيهما من بدايع الصنع و الخلقة ما لا يعدّ و لا يحصى، و في أدنى مصنوعاته و مكوّناته تذكرة و ذكري لاولى النهى، شرح اللّه صدورنا للاهتداء إلى مناهج المعرفة بالتحقيق، و الارتقاء إلى معارج اليقين و التصديق انّه وليّ التوفيق.
الترجمة
از جمله خطب شريفه آن امام أنام و وصي والا مقام است در صفات كمال و نعوت جمال حضرت ذو الجلال و شهادت برسالت حضرت خاتم الأنبياء و نبيّ مصطفى صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ذكر عجايب مخلوقات و غرايب مصنوعات مى فرمايد: حمد و ثنا مر خداوندى را سزاست كه درك نمىتواند بكند او را حواس، و احاطه نمى تواند بكند بر او مجلسها، و نمى بيند او را چشمها، و محجوب نمى سازد او را پردها دلالت كننده است بر قدم خود بحدوث خلق خود، و بحدوث مخلوقات خود بر وجود خود، و با مشابه بودن مخلوقات بر اين كه شبيه نيست او را، آن خداوندى كه صادق است در وعدهاى خود و مرتفع است از ظلم بندگان خود، و قائمست بعدالت در خلق خود، و عادل است بر ايشان در حكم خود، شاهد آورنده است با حادث بودن أشياء بر أزليّت خود، و با چيزى كه علامت زده بر آنها كه عجز و انكسار است بر قدرت خود، و با چيزى كه مضطر نموده است آنها را بسوى آن كه فنا و نابوديست بر دوام وجود خود.
يكى است نه به شماره عدد، دائم الوجود است نه با مدّت، و قائمست نه باعتماد بچيزى. استقبال مي كنند او را ذهنها نه با طريق مشاعر و حواس، و شهادتمى دهند بر وجود او مرئيات و مبصرات نه با عنوان حضور، و احاطه نكرد او را وهمها بلكه هويدا شد از براى أوهام بأوهام و بسبب عقلها ممتنع شد از ادراك عقول و بسوى عقلها محاكمه كرد عقلها را خداوند متعال صاحب بزرگي نيست چنان بزرگى كه ممتد بشود بوجود او نهايات و أطراف پس بزرگ گرداند نهايات او را در حالتى كه صاحب جسم باشد، و صاحب عظمت نيست چنان عظمتى كه منتهى بشود بأوغايتها پس عظيم نمايند او را در حالتى كه صاحب جسد باشد بلكه بزرگست از حيثيت شأن و عظيمست از حيثيت سلطنت.
و شهادت مى دهم كه محمّد بن عبد اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بنده برگزيده او است و أمين پسنديده او، فرستاد او را با حجتهاى واجب، و با ظفر و غلبه ظاهر، و با واضح نمودن راه پس رسانيد رسالت را در حالتى كه شكافنده بود ميان حق و باطل را، و حمل كرد خلق را براه راست در حالتى كه دلالت كننده بود بر آن، و بر پا نمود علمهاى راه يافتن و منارهاى روشنى را، و گرداند كوههاى اسلام را محكم و ريسمانهاى ايمان را بغايت استوار.
و بعضى از فقرات اين در وصف خلقت عجيبه و غريبه اصنافي از حيواناتست مى فرمايد: اگر فكر مى كردند در قدرت عظيمه و نعمت جسيمه پروردگار هر آينه بر مى گشتند براه راست، و مى ترسيدند از عذاب آتش، و لكن قلبها ناخوش است و ديدها معيوب آيا نظر نمى كنند بسوى كوچك آنچه خلق فرموده از حيوان چگونه محكم ساخته خلقت آنرا و استوار گردانيده تركيب آن را، و شكافته از براى آن گوش و چشم را، و معتدل نمود از براى او استخوان و پوست را.
نظر بكنيد بسوى مورچه در غايت خوردى جثه او و لطافت هيئت او نزديك نيست كه ادراك شود بنگريستن بگوشه چشم و نه با طلب درك فكرها چگونه حركت مى نمايد بر زمين خود، و هجوم آورد بر روزي خود، نقل مي كند دانه را بسوى سوراخ خود، و مهيا مى نمايد آن دانه را در مقرّ خود، و جمع مي كند آن را در گرماى خوداز براى سرماى خود، و در أيام تمكّن خود براى أيام عجز خود، كفيل كرده شده بروزى آن، و روزى داده شده بچيزى كه موافق مزاج او است در حالتي غفلت نمى نمايد از آن خداوندى كه كثير العطاء است، و محروم نمى فرمايد آنرا خدائى كه جزا دهنده بندگانست اگر چه بوده باشد آن مورچه در سنگ سخت و خشك و در سنگ محكم و استوار.
و اگر فكر نمودى در مجراهاى غذاى او و در بلندى و پستى أعضاى او و در آنچه در درون او است از أطراف دندهها كه مشرفست بشكم او، و در آنچه كه در سر او است از چشم او و گوش او هر آينه تعجب مى كردى از خلقت آن بغايت تعجّب، و ملاقات مى كردى از وصف آن بتعب و مشقت، پس بلند است خداوندى كه بر پا داشت آنرا بقائمهاى آن كه دست و پاى او است، و بنا نمود عمارت بدن آنرا بر ستونهاى آن كه اعضا و جوارح او است، در حالتى كه شريك نشد او را در آفريدن آن هيچ آفريننده و اعانت نكرد او را در خلقت آن هيچ صاحب قدرت.
و اگر سير كنى در راههاى فكر خودت تا برسى بنهايتهاى آن راه ننمايد تو را راه نماينده مگر بر اين كه خالق مورچه كوچك همان خالق درخت خرماى بزرگ است از جهت دقت و لطافت تفصيل هر شيء و از جهت صعوبت و غموض اختلاف هر ذى حياة، و نيست بزرگ جثه و لطيف بدن و سنگين و سبك و صاحب قوّت و صاحب ضعف در ايجاد فرمودن او مگر يكسان، و همچنين آسمان و هوا و آب و باد.
پس نظر كن بسوى مهر و ماه و درخت و گياه و آب و سنگ و بسوى اختلاف نمودن اين شب و روز و منفجر شدن اين درياها و بسيارى اين كوهها و درازى اين سرهاى كوهها و متفرق شدن اين لغتها و زبانهاى مختلف گوناگون.
پس واي بر كسى كه انكار نمايد خداوند صاحب تقدير را، و كافر شود بخداوند صاحب تدبير، و گمان كردهاند كه ايشان مثل گياه خودرويند كه نيست ايشان را زراعت كننده، و نه از براى صورتهاي مختلفه ايشان آفريننده، و استناد نكردند بدليلي در آن چيزى كه ادعا نمودند، و بتحقيقي در آن چيزى كه حفظ كردند و ذهنيايشان شد، آيا ممكن بشود بنائي بدون بنا كننده يا جنايتي بدون جنايت زننده و اگر خواستى گفتى در ملخ آنچه كه در مورچه گفتي هنگامى كه خلق فرمود خداوند عالم از براى آن دو چشم سرخ، و بر افروخت از براى آن دو حدقه روشن، و گردانيد از براى آن قوّه سامعه كه پنهان است و واز نمود از براى آن دهن مساوى، و قرار داد از براى آن قوّه حسّاسه با قوّت و دو دندان كه با آنها قطع مي كند گياه را و دو پاى مثل دو داس كه به آنها قبض ميكند علف را، مىترسند از آن صاحبان زراعت در زراعت خودشان و استطاعت ندارند دفع كردن آن را اگر چه جمع آورى نمايند چه جمعيّت خودشان را و حال آنكه خلقت آن تماما باندازه انگشت باريك نمى شود.
پس بلند است آن خدائى كه سجده مي كند او را أهل آسمانها و زمين با رضا و كراهت، و مى مالد بخاك از براى او رخسار و روى را، و مىاندازند جلو فرمان بردارى را بسوى او از حيثيت ضعف و تسليم، و مى دهند او را افسار انقياد از جهة خوف و ترس پس مرغها مسخّرند از براى أمر او، شمرده شماره پرها و نفسهاى آنها را، و محكم ساخته و ثابت نموده پاهاى آنها را برترى و برخشكى، مقدر فرموده روزيهاى آنها را، و شمرده و ضبط كرده جنسهاى آنها را، پس اين كلاغ است، و اين هما است و اين كبوتر است، و اين شتر مرغ است، دعوت فرمود هر مرغى را بنام خود، و كفالت كرد بروزى آن، و ايجاد نمود ابر سنگين را، پس بارانيد باران نرم بي رعد و برق آن را، و شمرد قسمتهاى آن را كه بهر ولايت باندازه معين تقسيم شده پس تر ساخت آن باران زمين را پس از خشك شدن آن، و بيرون آورد گياه آن را بعد از قحط سالى آن
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»