خطبه 140 صبحی صالح
140- و من كلام له ( عليه السلام ) في النهي عن غيبة الناس
وَ إِنَّمَا يَنْبَغِي لِأَهْلِ الْعِصْمَةِ وَ الْمَصْنُوعِ إِلَيْهِمْ فِي السَّلَامَةِ أَنْ يَرْحَمُوا أَهْلَ الذُّنُوبِ وَ الْمَعْصِيَةِ
وَ يَكُونَ الشُّكْرُ هُوَ الْغَالِبَ عَلَيْهِمْ وَ الْحَاجِزَ لَهُمْ عَنْهُمْ
فَكَيْفَ بِالْعَائِبِ الَّذِي عَابَ أَخَاهُ وَ عَيَّرَهُ بِبَلْوَاهُ
أَ مَا ذَكَرَ مَوْضِعَ سَتْرِ اللَّهِ عَلَيْهِ مِنْ ذُنُوبِهِ مِمَّا هُوَ أَعْظَمُ مِنَ الذَّنْبِ الَّذِي عَابَهُ بِهِ
وَ كَيْفَ يَذُمُّهُ بِذَنْبٍ قَدْ رَكِبَ مِثْلَهُ
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَكِبَ ذَلِكَ الذَّنْبَ بِعَيْنِهِ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ فِيمَا سِوَاهُ مِمَّا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ
وَ ايْمُ اللَّهِ لَئِنْ لَمْ يَكُنْ عَصَاهُ فِي الْكَبِيرِ وَ عَصَاهُ فِي الصَّغِيرِ لَجَرَاءَتُهُ عَلَى عَيْبِ النَّاسِ أَكْبَرُ
يَا عَبْدَ اللَّهِ لَا تَعْجَلْ فِي عَيْبِ أَحَدٍ بِذَنْبِهِ فَلَعَلَّهُ مَغْفُورٌ لَهُ
وَ لَا تَأْمَنْ عَلَى نَفْسِكَ صَغِيرَ مَعْصِيَةٍ
فَلَعَلَّكَ مُعَذَّبٌ عَلَيْهِ
فَلْيَكْفُفْ مَنْ عَلِمَ مِنْكُمْ عَيْبَ غَيْرِهِ لِمَا يَعْلَمُ مِنْ عَيْبِ نَفْسِهِ
وَ لْيَكُنِ الشُّكْرُ شَاغِلًا لَهُ عَلَى مُعَافَاتِهِ مِمَّا ابْتُلِيَ بِهِ غَيْرُهُ
شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج8
و من كلام له عليه السّلام فى النهى عن غيبة الناس و هو المأة و الاربعون من المختار فى باب الخطب
و إنّما ينبغي لأهل العصمة و المصنوع إليهم في السّلامة أن يرحموا أهل الذّنوب و المعصية، و يكون الشّكر هو الغالب عليهم، و الحاجز لهم عنهم، فكيف بالعائب الّذي عاب أخاه، و عيّره ببلواه، أما ذكر موضع ستر اللّه عليه من ذنوبه ممّا هو أعظم من الذّنب الّذي عابه به،و كيف يذمّه بذنب قد ركب مثله، فإن لم يكن ركب ذلك الذّنب بعينه فقد عصى اللّه فيما سواه ممّا هو أعظم منه، و أيم اللّه لئن لم يكن عصاه في الكبير و عصاه في الصّغير لجرأته على عيب النّاس أكبر، يا عبد اللّه لا تعجل في عيب أحد بذنبه، فلعلّه مغفور له، و لا تأمن على نفسك صغير معصية فلعلّك معذّب عليه، فليكفف من علم منكم عيب غيره لما يعلم من عيب نفسه، و ليكن الشّكر شاغلا له على معافاته ممّا ابتلى به غيره.
اللغة
(صنع) إليه معروفا من باب منع صنعا بالضّم فعله و الاسم الصنيع و الصنيعة و (عافاه) اللّه من المكروه معافاة و عافية وهب له العافية من العلل و البلاء كأعفاه
الاعراب
قوله: و يكون الشكر هو الغالب، بنصب الغالب خبر يكون و على ذلك فلفظ هو قبله فصل أتى به للدّلالة على أنّ ما بعده خبر لا تابع له، و له فائدة معنويّة نشير إليه في بيان المعنى، و على مذهب البصيريّين لا محلّ له من الاعراب، لأنّه عندهم حرف، و قال الكوفيّون: له محلّ فقال الكسائى: محلّه باعتبار ما بعده، و قال الفرّاء: باعتبار ما قبله، فمحلّه بين المبتدأ و الخبر رفع، و بين معمولي ظنّ نصب، و بين معمولي كان كما في هذا المقام رفع عند الفرّاء، و نصب عند الكسائي، و بين معمولي انّ بالعكس هذا و في بعض النّسخ الغالب بالرّفع فيكون هو مبتدأ و الغالب خبره و الجملة خبر يكون.
و قوله: فكيف بالغائب، الباء زائدة في المبتدأ و كيف خبر له قدّم عليه، و هو ظرف على مذهب الأخفش و اسم على مذهب سيبويه، فمحلّه نصب على الأوّل، و على الثّانى رفع و يتفرّع على ذلك أنّك إذا قلت كيف زيد فمعناه على الأوّل على أىّ حال زيد، و على الثّاني أ صحيح زيد مثلا أم مريض.
و أمّا في قوله و كيف يذمّه فهو حال كما نبّه عليه ابن هشام حيث قال: و يقع أى كيف خبرا قبل ما لا يستغنى عنه نحو كيف أنت و كيف كنت. و منه كيف ظننت زيدا و كيف أعلمته فرسك لأنّ ثاني مفعولي ظنّ و ثالث مفعولات اعلم خبران في الأصل، و حالا قبل ما يستغنى عنه نحو كيف جاء زيد أى على أىّ حالة جاء زيد، انتهى.
و الاستفهام هنا خارج مخرج التّعجب كأنّه عليه السّلام يتعجّب من غيبة الغائب لأخيه و من مذمة المذنب لمثله، و من هذا القبيل قوله سبحانه: كيف تكفرون باللّه، فانّه اخرج أيضا مخرج التعجّب.
و أما في قوله: أما ذكر موضع ستر اللّه عليه، حرف عرض بمنزلة لو لا فيختصّ بالفعل قال ابن هشام و قد يدّعى في ذلك أنّ الهمزة للاستفهام التقريري مثلها في ألم و ألا و أنّ مانا فئة، انتهى، و أراد بالتّقرير التّقرير بما بعد النّفى.
و قد يقال إنّها همزة الانكار، أى لانكار النّفى و قال التفتازاني: و أما العرض فمولد من الاستفهام، أى ليس بابا على حدّه، فالهمزة فيه همزة الاستفهام دخلت على النّفى و امتنع حملها على حقيقة الاستفهام لأنّه يعرف عدم النزول مثلا فالاستفهام عنه يكون طلبا للحاصل فتولّد منه بقرينة الحال عرض النزول على المخاطب و طلبه، و هى في التحقيق همزة الانكار، أى لا ينبغي لك أن لا تنزل، و انكار النّفى اثبات، انتهى.
و قال بعض المحقّقين: إنّ حروف التّحضيض تختصّ بالجمل الفعليّة الخبريّة فاذا كان فعلها مضارعا فكونها لطلب الفعل و الحضّ عليه ظاهرا، و أما إذا كان ماضيا فمعناها اللّوم على ترك الفعل إلّا أنّها تستعمل كثيرا في لوم المخاطب على أنّه ترك شيئا يمكن تداركه في المستقبل، فكأنّها من حيث المعنى للتحضيض على فعل مثل ما فات، و ليكن هذا على ذكر منك ينفعك في معرفة المعنى.
و من في قوله: من ذنوبه، إمّا للابتداء كما في قوله: إنّه من سليمان، أو لبيان الجنس أعنى موضع أو للتّبعيض أو زائدة في المنصوب كما في قوله: ما اتّخذ اللّه من ولد، إلّا أنّه على قول من يجوز زيادتها في الاثبات أى ستر اللّه عليه ذنوبه، و قوله: ممّا هو أعظم، إمّا بدل من ذنوبه أو من زائدة، و يؤيّده ما في بعض النّسخ من حذف من فيكون ما هو أعظم مفعول ستر فافهم و تدبّر.
المعنى
اعلم أنّ هذا الكلام له عليه السّلام كما نبّه عليه السّيد (ره) وارد في مقام النّهى عن غيبة النّاس، و هى من أعظم الموبقات الموقع في الهلكات و الموجب لانحطاط الدّرجات لأنّ المفاسد الّتى تترتّب على ارتكابها أكثر من المفاسد التي تترتّب على سائر المنهيات، و ضرره ضرر نوعى، و ضرر سائر المعاصي شخصىّ غالبا.
بيان ذلك كما قاله الشّارح البحراني أنّه لمّا كان من المقاصد المهمّة للشّارع اجتماع النّفوس على همّ واحد و طريقة واحدة، و هى سلوك سبيل اللّه بسائر وجوه الأوامر و النّواهى و لن يتمّ ذلك إلّا بتعاون هممهم و تصافي بواطنهم و اجتماعهم على الالفة و المحبّة حتّى يكونوا بمنزلة عبد واحد في طاعة مولاه، و لن يتم ذلك إلّا بنفى الضّغائن و الأحقاد و الحسد و نحوه، و كانت الغيبة من كلّ منهم لأخيه مثيرة لضغنه، و مستدعية منه مثلها في حقّه، لاجرم كانت ضدّ المقصود الكلّى للشّارع فكانت مفسدة كليّة، انتهى.
أقول: هذا هو محصّل قوله سبحانه: تعاونوا على البرّ و التقوى و لا تعاونوا على الاثم و العدوان، و ستعرف إن شاء اللّه معنى الغيبة و الأدلّة الواردة في ذمّها و مفاسدها بعد الفراغ من شرح ما رواه السيّد (ره).
و هو قوله: (و انّما ينبغي لأهل العصمة) و هم الّذين عصمهم اللّه من المعاصي و وقيهم من الجرائر بجعل نفوسهم الأمّارة مقهورة لقوّتهم العقلانيّة بما عرّفهم من معايب المعاصي و منافع الطّاعات فحصل لهم بذلك ملكة الارتداع عن الذّنوب و الامتناع عن اقتحام المحارم و هم (المصنوع إليهم في السّلامة) أى الّذين اصطنع اللّه سبحانه إليهم و أنعم عليهم بالسّلامة من الانحراف عن صراطه المستقيم و الاعتساف عن نهجه القويم، و من الخروج من النّور إلى الظّلمات و الوقوع في مهاوى الهلكات (أن يرحموا أهل الذّنوب و المعصية) لمّا رأوا منهم الخطيئة و العصيان و الغرق في بحر الذّل و الهوان و الّتيه في وادى الضّلال و الخذلان، و الرّحمة منهم إنّما يحصل بانقاذهم الغريق من البحر العميق و إرشاد التّائه إلى الرّشاد بالتنبّه على السّداد في العمل و الاعتقاد.
(و يكون الشّكر) منهم على ما اصطنع اللّه إليهم (هو الغالب عليهم) و الاتيان بضمير الفصل لقصد تخصيص المسند إليه بالمسند أى قصر المسند على المسند إليه على حدّ قوله سبحانه: اولئك هم المفلحون، قال صاحب الكشاف في هذه الآية: فائدة الفصل الدّلالة على أنّ الوارد بعده خبر لا صفة، و التّوكيد أى توكيد الحكم بما فيه من زيادة الرّبط لا التوكيد الاصطلاحي إذ الضمير لا يؤكّد الظّاهر، و ايجاب أنّ فائدة المسند ثابتة في المسند إليه دون غيره يعني أنّ اللّازم على أهل العصمة أن يكون شكرهم على نعم اللّه سبحانه و من أعظمها عصمته له من الاقتحام في المعاصي هو الغالب عليهم دون غيره، و الشّاغل لهم عن حصائد الألسنة و عن التّعريض بعيوب النّاس (و الحاجز لهم عنهم) و عن كشف سؤاتهم و عوراتهم.
و إذا كان اللازم على أهل العصمة مع ما هم عليه من العصمة و ترك المعاصي ذلك (فكيف ب) من هو دونهم من اسراء عالم الحواس و الآخذين بهوى الأنفس و المتورطين في الجرائم و موبقات العظائم أعنى (العائب الذى عاب) و اغتاب (أخاه) بما يكرهه (و عيّره) و قرّعه (ببلواه) يعني أنّ اللائق بحال أهل العصمة إذا كانترك التّعرض بعيوب النّاس فغيرهم مع ما عليهم من العيب أولى بترك التّعرض و أحرى.
و قوله (أما ذكر موضع ستر اللّه عليه من ذنوبه) توبيخ و لوم لهم على ترك الذّكر و تحضيض على تداركه في المستقبل يعني أنّه ينبغي له أن يذكر مكان ستر اللّه عليه ذنوبه مع علمه و إحاطته سبحانه بها صغائرها و كبائرها و بواطنها و ظواهرها و سوالفها و حوادثها، و قد ستر عليه من ذنوبه (مما هو أعظم من الذّنب الذي عابه به) فاذا ذكر معاملة اللّه سبحانه مع عبده هذه المعاملة و ستره عليه جرائمه و جرائره و عدم تفضيحه له مع علمه بجميع ما صدر عنه من الخطايا و الذّنوب فكيف به (و كيف يذمّه بذنب قد ركب مثله) و لا يذمّ نفسه (فان لم يكن ركب) مثل (ذلك الذّنب بعينه فقد عصى اللّه سبحانه فيما سواه ما هو أعظم منه و أيم اللّه) قسما حقا (لئن لم يكن عصاه في الكبير و عصاه في الصغير لجرأته على عيب النّاس) و غيبتهم (أكبر) و محصّل المراد أنّه لا يجوز لأحد أن يغيب أخاه لأنّه إمّا أن يكون بذنب و قد ارتكب الغائب مثله أو أكبر منه أو أصغر، فان كان بذنب قد ارتكب مثله أو أكبر كان له في عيب نفسه شغل عن عيب غيره.
و فيه قال الشّاعر:
و إذا جريت مع السّفيه كما جرى
فكلا كما في جريه مذموم
و اذا عتبت على السّفيه و لمته
في مثل ما تأتي فأنت ظلوم
لاتنه عن خلق و تأتي مثله
عار عليك إذا فعلت عظيم
إلى آخر الأبيات التي مرّت في شرح الفصل الثاني من الخطبة المأة و الرابعة و إن كان بذنب ارتكب أصغر منه فهو ممنوع أيضا، لأنّ جرئته على الغيبة و إقدامه عليها أكبر المعاصي باعتبار ما يترتّب عليها من المفاسد و المضارّ الدّنيويّة و الاخرويّه.
ثمّ نادى عليه السّلام نداء استعطاف فقال (يا عبد اللّه لا تعجل في عيب أحد بذنبه فلعلّه مغفور له) و لعلّه تائب عنه (و لا تأمن على نفسك صغير معصية فلعلّك معذّب عليه) و معاتب به.
ثمّ أكّد لهم الوصيّة بقوله (فليكفف من علم منكم عيب غيره) عن غيبته و توبيخه و تفضيحه (ل) مكان (ما يعلم من عيب نفسه و ليكن الشّكر شاغلا له على) ما أنعم اللّه سبحانه به عليه من (معافاته) و عصمته له (ممّا ابتلى به غيره)
تنبيه
في تحقيق معنى الغيبة و الأدلّة الواردة في حرمتها و ما يترتّب عليها من العقوبات و دواعيها و مستثنياتها و علاجها و كفارتها.
و قد حقّق الكلام فيها علمائنا البارعون قدّس اللّه أرواحهم في كتب الأخلاق و الفقه في مقدّمات أبواب المعايش بما لا مزيد عليه، بل قد أفرد بعضهم لتحقيقها رسالة مستقلّة فأحببنا أن نورد بعض ما فيها حسب ما اقتضته الحال و المجال لكونها من أعظم عثرات الانسان و أوبق آفات اللّسان، فأقول و باللّه التّوفيق:
الكلام في المقام في امور:
الامر الاول في تحقيق معناها، فأقول: قال الفيومى اغتابه اغتيابا إذا ذكره بما يكره من العيوب و هو حقّ و الاسم الغيبة فان كان باطلا فهو الغيبة في بهت، و في القاموس غابه عابه و ذكره بما فيه من السوء، كاغتابه و الغيبة بالكسر فعلة منه، و عن الصّحاح الغيبة أن يتكلّم خلف انسان مستور بما يغمّه لو سمعه، فان كان صدقا سمّى غيبة فان كان كذبا سمّى بهتانا.
و عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قد سأله أبو ذر عن الغيبة: أنّها ذكرك أخاك بما يكرهه.
و في رواية اخرى عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أ تدرون ما الغيبة فقالوا: اللّه و رسوله أعلم، قال: ذكرك أخاك بما يكره، قيل أرأيت إن كان في أخي ما أقول، قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته و إن لم يكن فيه فقد بهتّه.
و الظاهر أن يكون المراد بالذكر في كلامه و كلام غيره كما فهمه الأصحاب الأعمّ من الذكر القولي و إن كان عبارة الصّحاح تفيد الاختصاص، فكلّ ما يوجب التذكر للشّخص من القول و الفعل و الاشارة و غيرها فهو ذكر له، و ممّن صرّح بالعموم ثاني الشهيدين و صاحب الجواهر و شيخنا العلّامة الأنصاري في المكاسب.
قال الغزالي: إنّ الذكر باللّسان إنّما حرم لأنّ فيه تفهيم الغير نقصان أخيك و تعريفه بما يكرهه، فالتّعريض به كالتّصريح، و الفعل فيه كالقول، و الاشارة و الايماء و الغمز و الهمز و الكتابة و الحركة و كلّ ما يفهم المقصود فهو داخل في الغيبة، فمن ذلك قول عايشة دخلت علينا امرأة فلمّا ولّت أومأت بيدي أنّها قصيرة فقال عليه السّلام اغتبتها، و من ذلك المحاكاة كأن يمشي متعارجا أو كما يمشي لأنّه أعظم في التّصوير و التّفهيم و لما رأى صلّى اللّه عليه و آله عايشة حاكت امرأة قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما يسرّني انّى حاكيت انسانا ولي كذا و كذا، و كذلك الغيبة بالكتابة فانّ القلم أحد اللّسانين.
قال شيخنا العلّامة الانصاري: و من ذلك تهجين المطلب الذى ذكره بعض المصنّفين بحيث يفهم منه الازراء بحال ذلك المصنّف فانّ قولك: إنّ هذا المطلب بديهى البطلان تعريض لصاحبه بأنّه لا يعرف البديهيات، بخلاف ما إذا قيل إنّه مستلزم لما هو بديهى البطلان، لأنّ فيه تعريضا بأنّ صاحبه لم ينتقل إلى الملازمة بين المطلب و بين ما هو بديهيّ البطلان، و لعلّ الملازمة نظريّة، هذا.
و المراد من الأخ في النبويّين كما صرّح به غير واحد من الأعلام هو المسلم فانّ غيبة الكافر و إن تسمّى غيبة في اللّغة إلّا أنّها لا يترتّب عليها حكم الحرمة إذ لا اخوّة بينه و بين المسلم، بل لا خلاف في جواز غيبتهم و هجوهم و سبّهم و لعنهم و شتمهم ما لم يكن قذفا و قد أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حسّانا بهجوهم، و قال: انّه أشدّ عليهم من رشق النّبال.
و بذلك يظهر اشتراك المخالفين للمشركين في جواز غيبتهم كما يجوز لعهنم لانتفاء الاخوّة بينهم و بين المؤمنين، و لذلك قال ثاني الشّهيدين في حدّها: و هوالقول و ما في حكمه في المؤمن بما يسوءه لو سمعه مع اتّصافه به، و في جامع المقاصد و حدّها على ما في الأخبار أن يقول المرء في أخيه ما يكرهه لو سمعه ممّا فيه، و من المعلوم أنّ اللّه تعالى عقد الاخوّة بين المؤمنين بقوله: إنّما المؤمنون اخوة، دون غيرهم و كيف يتصوّر الاخوّة بين المؤمن و المخالف بعد تواتر الرّوايات و تظافر الآيات في وجوب معاداتهم و البراءة منهم.
فانقدح بذلك فساد ما عن الأردبيلي و الخراساني (ره) من المنع عن غيبة المخالف نظرا إلى عموم أدلّة تحريمها من الكتاب و السنّة لأنّ قوله تعالى: و لا يغتب، خطاب للمكلّفين أو لخصوص المسلمين، و على التّقديرين فيعمّ المخالف و السّنة أكثرها بلفظ النّاس و المسلم و هما معا شاملان للجميع و لا استبعاد في ذلك اذ كما لا يجوز أخذ مال المخالف و قتله لا يجوز تناول عرضه.
و وجه ظهور الفساد أنّ ذيل الآية مفيد لاختصاص الخطاب بالمؤمنين، لأنّ تعليل النّهى عنها بأنّها بمنزلة أكل لحم الأخ يدلّ على اختصاص الحرمة بمن كان بينه و بين المغتاب اخوّة كما أشرنا.
قال شيخنا العلامة و توهّم عموم الآية كبعض الرّوايات لمطلق المسلم مدفوع بما علم بضرورة المذهب من عدم احترامهم و عدم جريان أحكام الاسلام عليهم إلّا قليلا مما يتوقّف استقامة نظام معاش المؤمنين عليه، مثل عدم انفعال ما يلاقيهم بالرّطوبة، و حلّ ذبايحهم و مناكحهم و حرمة دمائهم، لحكمة دفع الفتنة و فسادهم لأنّ لكلّ قوم نكاح أو نحو ذلك.
و قال صاحب الجواهر بعد نقل كلام الأردبيلي: و لعلّ صدور ذلك منه لشدّة تقدّسه و ورعه، لكن لا يخفى على الخبير الماهر الواقف على ما تظافرت به النّصوص بل تواترت من لعنهم و سبّهم و شتمهم و كفرهم و أنّهم مجوس هذه الامّة و أشرّ من النّصارى و أنجس من الكلاب أنّ مقتضى التّقدّس و الورع خلاف ذلك، و صدر الآية: الّذين آمنوا، و آخرها التشبيه بأكل لحم الأخ «إلى أن قال» و على كلّحال فقد ظهر اختصاص الحرمة بالمؤمنين القائلين بامامة الأئمة الاثنى عشر دون غيرهم من الكافرين و المخالفين و لو بانكار واحد منهم.
ثمّ الظّاهر من المؤمن المغتاب بالفتح أعمّ من أن يكون حيّا أو ميّتا ذكرا أو انثى بالغا أو غير بالغ مميّزا أو غير مميّز، و قد صرّح بالعموم شيخنا السيّد العلّامة طاب رمسه في مجلس الدّرس، و مثله كاشف الرّيبة حيث صرّح بعدم الفرق بين الصّغير و الكبير و ظاهره الشّمول لغير المميّز أيضا.
و قال شيخنا العلّامة الأنصاري (قد): الظاهر دخول الصّبي المميّز المتأثّر بالغيبة لو سمعها، لعموم بعض الرّوايات المتقدّمة و غيرها الدّالة على حرمة اغتياب النّاس و أكل لحومهم مع صدق الأخ عليه كما يشهد به قوله تعالى: و إن تخالطوهم فاخوانكم في الدّين، مضافا إلى إمكان الاستدلال بالآية و إن كان الخطاب للمكلّفين بناء على عدّ أطفالهم منهم تغليبا و امكان دعوى صدق المؤمن عليه مطلقا أو في الجملة.
و على ما ذكرناه من التّعميم فلا بدّ أن يراد من السّماع في تعريفهم لها بأنّها ذكر المؤمن بما يسوءه لو سمعه الأعمّ من السّماع الفعلي، و المراد بالموصول فيما يسوءه ما يكره ظهوره سواء كره وجوده كالجذام و البرص و نحوهما أم لا كالميل إلى القبائح.
و المستفاد من بعض الرّوايات كغير واحد من الأصحاب عدم الفرق في ما يكره بين أن يكون نقصا في الدّين أو الدّنيا أو البدن أو النّسب أو الخلق أو الفعل أو القول أو ما يتعلّق به من ثوبه أو داره أو دابّته أو غير ذلك.
أمّا في الدّين فكقولك هو سارق أو كذّاب أو شارب الخمر أو خائن أو ظالم أو متهاون بالصّلاة أو الزّكاة أو لا يحسن الرّكوع أو السّجود أو لا يحترز من النّجاسات أو ليس بارّا بوالديه.
و أمّا في الدّنيا فكقوله إنّه قليل الأدب متهاون بالنّاس أو لا يرى لأحد على نفسه حقا أو يرى لنفسه الحقّ على النّاس أو أنّه كثير الكلام أو كثير الأكل أو كثير النّوم ينام في غير وقته.
و أما البدن فكما تقول إنّه طويل أو قصير أو أعمش أو أحول أو أقرع أو لونه أصفر أو أسود و نحو ذلك ممّا يسوئه.
و أمّا النسب فكقولك: أبوه فاسق أو خسيس أو حجام أو زبّال أو ليس بنجيب.
و أما الخلق فبأن تقول إنّه سيّء الخلق بخيل متكبّر مختال مراء شديد الغضب جبان عاجز ضعيف القلب متهوّر و ما يجرى مجرى ذلك.
و أما الفعل فامّا أن يكون متعلّقا بالدّين أو الدّنيا و قد مرّ مثالهما.
و أمّا القول فكقولك إنّه كذّاب أو سبّاب أو أنّه تمتام أو أعجم أو ألكن أو ألثغ أو أليغ و نحو ذلك.
و أمّا في ثوبه فكقولك إنّه واسع الكم طويل الذّيل و سخ الثّياب و نحوها.
و أمّا في داره فكما تقول أنّه مفحص قطاة أى في الصّغر أو كدير النّصارى أو نحوهما.
و أمّا في دابّته فكقولك لحصانه إنّه برذون أو لبغلته إنّها بغلة أبي دلامة أى كثيرة العيوب و لأبى دلامة ذلك قصيدة في ذكر معايبها منها قوله:أرى الشّهباء تعجن اذ غدونا برجليها و تخبزنا بيدين
الثاني في الأدلة الدالّة على حرمة الغيبة
و ما ترتّب عليها من الذّم و العقوبة فأقول: إنّها محرّمة بالأدلّة الأربعة أعنى الكتاب و السنّة و الاجماع و العقل، فأمّا الاجماع فواضح، و أمّا العقل فلأنّها موجبة لفساد النظام و انفصام عروة الانتظام، و عليها تبنى القبائح و منها يظهر العدوّ المكاشح على ما مرّ توضيحه في شرح كلام الامام عليه السّلام
و أما الكتاب
فمنه قوله تعالى: و لا يغتب بعضكم بعضا أيحبّ أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه و اتّقوا اللّه إنّ اللّه توّاب رحيم، فجعل سبحانه المؤمن أخا و عرضه كلحمه و التفكّه به أكلا و عذم شعوره بذلك بمنزلة حالة موته.
قال الفخر الرّازي: الحكمة في هذا التشبيه الاشارة إلى أنّ عرض الانسان كدمه و لحمه و هذا من باب القياس الظّاهر، و ذلك لأنّ عرض المرء أشرف من لحمه، فاذا لم يحسن من العاقل أكل لحوم النّاس لم يحسن منه قرض عرضهم بالطريق الأولى، لأنّ ذلك ألم. و قوله: لحم أخيه آكدا في المنع لأنّ العدوّ يحمله الغضب على مضغ لحم العدوّ فقال تعالى أصدق الأصدقاء من ولدته امّك فأكل لحمه أقبح ما يكون، و قوله تعالى: ميتا، إشارة إلى دفع و هم و هو أن يقال: القول في الوجه يولم فيحرم و أما الاغتياب فلا اطلاع عليه للمغتاب فلا يؤلم، فقال: أكل لحم الأخ و هو ميّت أيضا لا يؤلم، و مع هذا هو في غاية القبح لما أنّه لو اطلع عليه لتألّم كما أنّ الميّت لو أحسّ بأكل لحمه لآلمه ذلك هذا.
و الضّمير في قوله: فكرهتموه، إمّا راجع إلى الأكل المستفاد من أن يأكل، أو إلى اللّحم، أى فكما كرهتم لحمه ميتا فاكرهوا غيبته حيّا، أو الميت في قوله ميّتا، و التّقدير أيحبّ أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميّتا متغيّرا فكرهتموه فكأنّه صفة لقوله ميتا و يكون فيه زيادة مبالغة في التّحذير يعني الميتة إن اكلت لسبب كان نادرا و لكن إذا أنتن و أروح و تغيّر لا يؤكل أصلا فكذلك ينبغي أن تكون الغيبة.
و الفاء فيه يفيد التعلّق و ترتّب ما بعدها على ما قبلها، و هو من تعلّق المسبّب بالسّبب و ترتّبه عليه كما تقول جاء فلان ماشيا فتعب، لأنّ المشى يورث التّعب فكذا الموت يورث النفرة و الكراهة إلى حدّ لا يشتهى الانسان أن يبيت في بيت فيه ميّت فكيف يقربه بحيث يأكل منه، ففيه إذا كراهة شديدة فكذلك ينبغي أن تكون حال الغيبة.
و من الكتاب أيضا قوله سبحانه: ويل لكلّ همزة لمزة، قال اللّيث: الهمزة هو الّذي يعيبك بوجهك، و اللّمزة الّذي يعيبك بالغيب، و قيل: الهمز ما يكون باللّسان و العين و الاشارة، و اللّمز لا يكون إلّا باللّسان، و قيل: هما بمعنى واحد.
و منه أيضا قوله: لا يحبّ اللّه الجهر بالسّوء من القول إلّا من ظلم، و قوله: إنّ الّذين يحبّون أن تشيع الفاحشة في الّذين آمنوا لهم عذاب أليم روى في الكافي عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: من قال في مؤمن ما رأته عيناه و سمعته أذناه فهو من الّذين قال اللّه عزّ و جلّ إنّ الّذين يحبّون أن تشيع الفاحشة.
و أما السنة فيدلّ عليها منها أخبار لا تحصى.
مثل ما رواه في الكافي عن عليّ بن إبراهيم عن النّوفلي عن السّكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الغيبة أسرع في دين الرّجل المسلم من الاكلة في جوفه.
قال: و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: الجلوس في المسجد انتظار الصّلاة عبادة ما لم يحدث، قيل يا رسول اللّه و ما يحدث قال: الاغتياب.
و فيه مسندا عن مفضّل بن عمر قال: قال لي أبو عبد اللّه عليه السّلام من روى على مؤمن رواية يريد بها شينه و هدم مروّته ليسقط من أعين النّاس أخرجه اللّه من ولايته إلى ولاية الشّيطان فلا يقبله الشيطان.
و في الوسائل من المجالس باسناده عن أبي بصير عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله في وصيّة له قال: يا أبا ذر إيّاك و الغيبة فانّ الغيبة أشدّ من الزّنا، قلت: و لم ذاك يا رسول اللّه قال لأنّ الرّجل يزني فيتوب إلى اللّه فيتوب اللّه عليه، و الغيبة لا تغفر حتّى يغفرها صاحبها يا أبا ذر سباب المسلم فسوق و قتاله كفر و أكل لحمه من معاصى اللّه و حرمة ماله كحرمة دمه، قلت: يا رسول اللّه و ما الغيبة قال: ذكرك أخاك بما يكرهه، قلت يا رسول اللّه فان كان فيه الذي يذكر به قال: اعلم أنّك إذا ذكرته بما هو فيه فقد اغتبته، و إذا ذكرته بما ليس فيه فقد بهتّه.
و في الوسائل عن الحسين بن سعيد في كتاب الزهد مسندا عن زيد بن عليّ عن آبائه عليهم السّلام عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: تحرم الجنّة على ثلاثة: على المنّان، و على المغتاب، و على مدمن الخمر.
و فيه أيضا عن أبي عبد اللّه الشّامي عن نوف البكالي أنه قال: أتيت أمير المؤمنين و هو في رحبة مسجد الكوفة فقلت: السّلام عليك يا أمير المؤمنين و رحمة اللّه و بركاته فقال: و عليك السّلام و رحمة اللّه و بركاته، فقلت: يا أمير المؤمنين عظني، فقال: يا نوف أحسن يحسن إليك «إلى أن قال» قلت زدني قال: اجتنب الغيبة فانّها ادام كلاب النّار، ثمّ قال: يا نوف كذب من زعم أنّه ولد من حلال و هو يأكل لحوم النّاس بالغيبة.
و في المكاسب لشيخنا العلّامة الأنصاري طاب رمسه عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنه خطب يوما فذكر الرّبا و عظّم شأنه فقال: إنّ الدّرهم يصيبه الرّجل أعظم من ستّة و ثلاثين زنية، و إنّ أربى الرّبا عرض الرّجل المسلم.
و عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من اغتاب مسلما أو مسلمة لم يقبل اللّه صلاته و لا صيامه أربعين صباحا إلّا أن يغفر له صاحبه.
و عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من اغتاب مؤمنا بما فيه لم يجمع اللّه بينهما في الجنّة، و من اغتاب مؤمنا بما ليس فيه انقطعت العصمة بينهما، و كان المغتاب خالدا في النّار و بئس المصير.
و عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كذب من زعم أنّه ولد من حلال و هو يأكل لحوم النّاس بالغيبة، فاجتنب الغيبة فانها ادام كلاب النّار.
و عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من مشى في غيبة أخيه و كشف عورته كانت أوّل خطوة خطاها وضعها في جهنّم.
و روى أنّ المغتاب إذا تاب فهو آخر من يدخل الجنّة و إن لم يتب فهو أوّل من يدخل النّار.
و عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إنّ الغيبة حرام على كلّ مسلم و إنّ الغيبة ليأكل الحسنات كما تأكل النّار الحطب.
قال شيخنا (قد): و أكل الحسنات إمّا أن يكون على وجه الاحباط لاضمحلال ثوابهافي جنب عقابه، أو لأنها تنقل الحسنات إلى المغتاب كما في غير واحد من الأخبار و من جملتها النبوى يؤتى بأحد يوم القيامة فيوقف بين يدي الرّب عزّ و جلّ و يدفع إليه كتابه فلا يرى حسناته فيه، فيقول إلهي ليس هذا كتابي لا أرى فيه حسناتي، فيقال له: إنّ ربّك لا يضلّ و لا ينسى ذهب عملك باغتياب النّاس، ثمّ يؤتى بآخر و يدفع إليه كتابه فيرى فيه طاعات كثيرة فيقول إلهى ما هذا كتابي فانّى ما عملت هذه الطاعات، فيقال له: إنّ فلانا اغتابك فدفع حسناته إليك.
و في عقاب الأعمال باسناده عن أبي بردة قال: صلّى بنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثمّ انصرف مسرعا حتّى وضع يده على باب المسجد ثمّ نادى بأعلى صوته: يا معشر النّاس لا يدخل الجنّة من آمن بلسانه و لم يخلص الايمان إلى قلبه، لا تتّبعوا عورات المؤمنين فانّه من تتبّع عورات المؤمنين تتبّع اللّه عورته و من تتبّع اللّه عورته فيفضحه و لو في جوف بيته.
و فيه أيضا باسناده عن حفص بن غياث عن جعفر بن محمّد عليهما السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أربعة تؤذون أهل النّار على ما بهم من الأذى يسقون من الحميم و الجحيم ينادون بالويل و الثبور فيقول أهل النّار بعضهم لبعض: ما لهؤلاء الأربعة قد آذونا على ما بنا من الأذى: فرجل معلّق عليه تابوت من جمر، و رجل تجرى أمعاؤه صديدا و دما أسودنتنا، و رجل يسيل فوه قيحا و دما، و رجل يأكل لحمه، فيقال لصاحب التابوت: ما بال الأبعد قد آذانا على ما بنا من الاذى فيقول: إنّ الأبعد مات و في عنقه أموال النّاس لم يجد لها في نفسه أداء و لا وفاء، ثمّ يقال للّذي يجرى امعاؤه: ما بال الأبعد قد آذانا على مابنا من الأذى فيقول: إنّ الأبعد كان لا يبالي أين أصاب البول من جسده، ثمّ يقال للّذي يسيل فوه قيحا و دما: ما بال الأبعد قد آذانا على ما بنا من الأذى فيقول: إنّ الأبعد كان يحاكي فينظر إلى كلّ كلمة خبيثة و يحاكي بها ثمّ يغتاب النّاس، ثمّ يقال للّذي يأكل لحمه: ما بال الأبعد قد آذانا على ما بنا من الاذي فيقول: إنّ الأبعد كان يأكل لحوم النّاس بالغيبة و يمشي بالنّميمة.
و في الأنوار النّعمانية للمحدّث الجزائري عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: مررت ليلة اسرى بي إلى السّماء على قوم يخمشون وجوههم بأظافيرهم، فقلت: يا جبرائيل من هؤلاء فقال: هؤلاء الذين يغتابون النّاس و يقعون في أعراضهم.
و فيه أيضا و روى أنّه أمر بصوم يوم و قال: لا يفطرنّ أحد حتّى آذن له، فصام النّاس حتى إذا أمسوا جعل الرّجل يجيء فيقول: يا رسول اللّه ظللت صائما فأذن لي لأفطر فيأذن له، و الرّجل و الرّجل حتّى جاء رجل فقال: يا رسول اللّه فتاتان من أهلي ظللتا صائمتين فانّهما تستحيان أن يأتيانك فأذن لهما أن تفطرا فأعرض عنه، ثمّ عادوه فأعرض عنه، ثمّ عادوه فقال صلّى اللّه عليه و آله إنّهما لم تصوما و كيف صام من ظلّ هذا اليوم يأكل لحوم النّاس اذهب فمرهما إن كانتا صائمتين أن تستقيا فرجع إليهما فأخبرهما فاستقائتا فقاءت كلّ واحدة منهما علقة من دم، فرجع إلى النّبيّ فأخبره، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و الّذي نفس محمّد بيده لو بقيتا في بطونهما لأكلتهما النّار.
و في رواية أنّه لما أعرض عنه جاءه بعد ذلك و قال: يا رسول اللّه إنّهما و اللّه لقد قائتا و كادتا أن تموتا، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ائتوني بهما فجاءتا فدعى بقدح فقال لإحداهما قيئي فقاءت من قيح و دم صديد حتّى ملأت القدح، و قال للاخرى قيئي، فقاءت كذلك، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنّ هاتين صامتا عمّا أحل اللّه و أفطرتا على ما حرّم اللّه عليهما، جلست إحداهما على الاخرى فجعلتا تأكلان لحوم النّاس، و رواهما الغزالي في إحياء العلوم عن أنس مثلهما.
قال شيخنا العلّامة طاب رمسه: ثمّ إنّه قد يتضاعف عقاب المغتاب إذا كان ممّن يمدح المغتاب في حضوره، و هذا و إن كان في نفسه مباحا إلّا أنّه إذا انضمّ مع ذمه في غيبته سمّى صاحبه ذا اللسّانين يوم القيامة و تأكّد حرمته و لذا ورد في المستفيضة أنّه يجيء ذو اللّسانين يوم القيامة و له لسانان من نار، فانّ لسان المدح في الحضور و إن لم يكن لسانا من نار إلّا أنّه إذا انضمّ إلى لسان الذّم في الغياب صار كذلك.
و عن المجالس بسنده عن حفص بن غياث عن الصادق عن أبيه عن آبائه عليهم السّلام عن عليّ عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من مدح أخاه المؤمن في وجهه و اغتابه من ورائه فقد انقطعت العصمة بينهما.
و عن الباقر عليه السّلام بئس العبد عبد يكون ذا وجهين و ذا لسانين يطرى أخاه شاهدا و يأكله غائبا إن اعطى حسده و إن ابتلى غضبه.
الثالث في دواعى الغيبة
و هي كثيرة و قد أشار إليها الصّادق عليه السّلام اجمالا بقوله: الغيبة تتنوّع عشرة أنواع شفاء غيظ، و مساعدة قوم، و تصديق خبر بلا كشف، و تهمة، و سوء ظنّ، و حسد و سخرية، و تعجّب، و تبرّم، و تزيّن، رواه في المكاسب و الأنوار النّعمانيّة و أمّا تفصيلها فقد نبّه عليه أبو حامد الغزالي في احياء العلوم و قال:فالاول تشفى الغيظ
و ذلك إذا جرى سبب غضب به عليه فانّه إذا هاج غضبه يشتفى بذلك مساويه فيسبق اللّسان إليه بالطبع إن لم يكن ثمّ دين رادع، و قد يمتنع تشفّى الغيظ عند الغضب فيحتقن الغضب بالباطن فيصير حقدا ثابتا، فيكون سببا دائما لذكر المساوي فالحقد و الحسد من البواعث العظيمة على الغيبة.
الثاني موافقة الأقران و مجاملة الرفقاء و مساعدتهم على الكلامفانّهم إذا كانوا يتفكّهون بذكر الأعراض فيرى أنّه لو أنكر عليهم أو قطع المجلس استثقلوه و نفروا عنه، فيساعدهم و يرى ذلك من حسن المعاشرة و يظنّ أنّه مجاملة في الصّحبة، و قد يغضب رفقائه فيحتاج إلى أن يغضب بغضبهم إظهارا للمساهمة في السّراء و الضراء، فيخوض معهم في ذكر العيوب و المساوى.
الثالث أن يستشعر من انسان أنّه سيقصده و يطول لسانه عليهأو يقبح حاله عند محتشم أو يشهد عليه بشهادة فيبادره قبل أن يقبح هو حاله، و يطعن فيه ليسقط أثر شهادته أو يبتدى بذكر ما فيه صادقا ليكذب عليه بعده، فيروج كذبه بالصّدق الأوّل و يستشهد به و يقول ما من عادتى الكذب فانّى أخبرتكم بكذا و كذا عن أحواله فكان كما قلت.
الرابع أن ينسب إلى شيء فيريد أن يتبرّء منه فيذكر الذى فعلهو كان من حقّه أن يبرّى نفسه و لا يذكر الذي فعل فلا ينسب غيره إليه أو يذكر غيره بأنه كان مشاركا له في الفعل ليمهد بذلك عذر نفسه في فعله.
الخامس إرادة التصنّع و المباهات و هو أن يرفع نفسه بتنقيص غيره فيقول: فلان جاهل و فهمه ركيك، و غرضه في ضمن ذلك فضل نفسه و يوهم أنّه أفضل منه أو يحذّر أن يعظّم مثل تعظيمه فيقدح فيه لذلك.
السادس الحسد و هو أنّه ربما يحسد من يثنى الناس عليهو يحبّونه و يكرمونه فيريد زوال تلك النعمة عنه، فلا يجد سبيلا إليه إلّا بالقدح فيه، فيريد أن يسقط ماء وجهه عند النّاس حتّى يكفّوا عن إكرامه و الثناء عليه.
السابع اللّعب و الهزل و المطايبةو ترجية الوقت بالذكر و تزيين الوقت بالذّكر فيذكر غيره بما يضحك النّاس على سبيل المحاكاة و منشاؤه التّعجب و التعجيب.
الثامن السّخرية و الاستهزاء استحقارا لهفانّ ذلك قد يجرى في الحضور و يجري أيضا في الغيبة و منشاؤه التكبّر و استصغار المستهزء به.
التاسع الرّحمةو هو مأخذ دقيق ربما يقع فيه الخواص، و هو أن يغتمّ بسبب ما يبتلى به فيقول مسكين فلان قد غمّني أمره و ما ابتلى به فيكون صادقا في دعوى الاغتمام و يلهيه الغمّ عن الحذر من ذكر اسمه، فيصير بذكره مغتابا فيكون غمّه و رحمته خيرا لكنّه ساقه الشيطان إلى شرّ من حيث لا يدرى و الترحّم و الاغتمام ممكن من دون ذكر اسمه فهيّجه الشيطان على ذكر اسمه ليبطل به ثواب اغتمامه و ترحّمه.
العاشر الغضب للّه تعالىو هو كسابقه في غموض ادراكه و خفائه على الخواص فضلا عن العوام فانّه قد يغضب على منكر قارفه انسان إذا رآه أو سمعه فيظهر غضبه و يذكر اسمه و كان الواجب أن يذكر غضبه عليه بالأمر بالمعروف و النّهى عن المنكر، و لا يظهر على غيره أو يستره و لا يذكر اسمه بالسّوء.
الرابع في عدم جواز استماع الغيبة
قال شيخنا في المكاسب: يحرم استماع الغيبة بلا خلاف، فقد ورد أنّ السّامع للغيبة أحد المغتابين، و الأخبار في حرمته كثيرة إلّا أنّ ما يدلّ على كونه من الكبائر كالرّواية المذكورة و نحوها ضعيفة السّند.
أقول: و من جملة الأخبار الدّالّة على حرمته ما رواه الصّدوق في عقاب الأعمال باسناده عن أبي الورد عن أبي جعفر عليه السّلام: قال من اغتيب عنده أخوه المؤمن فنصره و أعانه نصره اللّه و أعانه في الدّنيا و الآخرة، و من لم ينصره و لم يدفع عنه و هو يقدر على نصرته حقّره اللّه عزّ و جلّ في الدّنيا و الآخرة.
و فيه أيضا في حديث طويل عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: و من ردّ عن أخيه غيبة سمعها في مجلس ردّ اللّه عزّ و جلّ عنه ألف باب من الشرّ في الدّنيا و الآخرة و إن لم يرد عنه كان عليه كوزر من اغتاب.
و في الوسائل عن الصّدوق باسناده عن شعيب بن واقد عن الحسين بن زيد عن الصّادق عن آبائه عليهم السّلام في حديث المناهى إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نهى عن الغيبة و الاستماع إليها، و نهى عن النّميمة و الاستماع إليها، و قال لا يدخل الجنّة قتات، يعني نمّاما، و نهى عن المحادثة التي يدعو إلى غير اللّه، و نهى عن الغيبة و قال: من اغتاب امرء مسلما بطل صومه و نقض وضوئه و جاء يوم القيامة يفوح من فيه رائحة أنتن من الجيفة يتأذّي به أهل الموقف، و إن مات قبل أن يتوب مات مستحلّا لما حرّم اللّه عزّ و جلّ، ألا و من تطوّل على أخيه في غيبة سمعها فيه في مجلس فردّها عنه ردّ اللّه عنه ألف باب من الشرّ في الدّنيا و الآخرة، فان لم يردّها و هو قادر على ردّها كان عليه كوزر من اغتابه سبعين مرّة.
قال شيخنا: و لعلّ وجه زيادة عقابه أنّه إذا لم يردّه تجرّى المغتاب على الغيبة فيصّر على هذه الغيبة و غيرها، ثمّ قال: و الظاهر أنّ الرّد غير النّهى عن الغيبة و المراد به الانتصار للغائب بما يناسب تلك الغيبة، فان كان عيبا دنيويّا انتصر له بأنّ العيب ليس إلّا ما عاب اللّه به من المعاصى التي من أكبرها ذكرك أخاك بما لم يعبه اللّه به، و إن كان عيبا دينيّا وجّهه بمحامل تخرجه عن المعصية فان لم يقبل التوجيه انتصر له بأنّ المؤمن قد يبتلى بالمعصية فينبغى أن يستغفر له و يهتم له، لا أن يعيّر عليه، لأنّ تعييرك إيّاه لعله أعظم عند اللّه من معصيته و نحوه.
ثمّ اعلم أنّ المحرم إنّما هو سماع الغيبة المحرّمة دون ما علم حلّيتها و لو كان متجاهرا عند المغتاب مستورا عند المستمع و قلنا بجواز الغيبة حينئذ للمتكلّم فالأقوى جواز الاستماع لأنّه قول غير منكر، فلا يحرم الاصغاء إليه للأصل و الرّواية الدّالة على كون السّامع أحد المغتابين تدلّ على أنّ السّامع لغيبة كقائل تلك الغيبة، فان كان القائل عاصيا كان المستمع كذلك، فيكون دليلا على الجواز فيما نحن فيه.
الخامس في مستثنيات الغيبة
أى الموارد التي يجوز فيها الغيبة جوازا بالمعنى الأعمّ، فانّ المستفاد من الأخبار أنّ حرمتها إنّما هو لأجل ما فيها من هتك عرض المؤمن و انتقاصه و تأذيه فلو لم توجب هتكا لكونه مهتوكا بدونها ككونه متجاهرا بالفسق أو لم يقصد بها الانتقاص بالذات فلا.
قال في جامع المقاصد: و ضابط الغيبة كلّ فعل يقصد به هتك عرض المؤمن و التفكّه به أو إضحاك النّاس منه، و أمّا ما كان لغرض صحيح فلا يحرم كنصيحة المستشير و التظلّم آه.
قال شيخنا العلامة: حرمة الغيبة لأجل انتقاص المؤمن و تأذّيه منه، فاذا فرض هناك مصلحة راجعة إلى المغتاب بالكسر أو الفتح أو ثالث دلّ العقل أو الشّرع على كونها أعظم من مصلحة احترام المؤمن بترك ذلك القول فيه وجب كون الحكم على طبق أقوى المصلحتين كما هو الحال في كلّ معصية من حقوقاللّه و حقوق النّاس.
إذا عرفت ذلك فنقول: إنّ مسوّغاتها امور.
الاول التظلّم
أى تظلّم المظلوم بذكر ظلم الظّالم عند من يرجو رفعه الظلم منه قال سبحانه: لا يحبّ اللّه الجهر بالسّوء من القول إلّا من ظلم، فعن تفسير القمّى أى لا يحبّ أن يجهر الرّجل بالظلم و السّوئة و يظلم إلّا من ظلم، فاطلق أن يعارض بالظلم.
قال شيخنا العلّامة: و يؤيد الحكم فيه إنّ في منع المظلوم من هذا الذي هو نوع من التّشفى حرجا عظيما، و لأنّ في تشريع الجواز مظنّة ردع للظّالم و هى مصلحة خالية عن مفسدة فيثبت الجواز، لأنّ الأحكام تابعة للمصالح، و يدلّ عليه ما روى عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مطل الواجد يحلّ عقوبته و عرضه.
الثاني نصح المستشير
فانّ النّصيحة واجبة للمستشير فانّ خيانته قد تكون أقوى مفسدة من مفسدة الغيبة فقد قال النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لفاطمة بنت قيس المشاورة في خطابها: معاوية صعلوك لا مال له و ابو الجهم لا يضع العصا على عاتقه، قال شيخنا: و كذلك النّصح من غير استشارة، فانّ من أراد تزويج امرأة و أنت تعلم بقبائحها التي يوجب وقوع الرّجل في الغيبة و الفساد لأجلها فلا ريب انّ التنبيه على بعضها و إن أوجب الوقيعة فيها أولى من ترك نصح المؤمن، مع ظهور عدّة من الأخبار في وجوبه.
الثالث الاستفتاء
بأن يقول للمفتى: ظلمني فلان حقّى فكيف طريقي في الخلاص، قال أبو حامد الغزالي و المحدّث الجزائرى: و الأسلم التّعريض، بأن يقول ما قولك في رجل ظلمه أبوه أو أخوه أو زوجته، و لكن التّعيين مباح بهذا القدر، و قيّده شيخنا العلّامة بما إذا كان الاستفتاء موقوفا على ذكر الظالم بالخصوص، و إلّا فلا يجوز، و ظاهر الأخبار كظاهر كثير الأصحاب هو الاطلاق.
و استدلّوا عليه بما روى عن هند زوجة أبي سفيان أنّها قالت للنّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني أنا و ولدى أ فآخذ من غير علمه
فقال صلّى اللّه عليه و آله: خذى ما يكفيك و ولدك بالمعروف، فذكرت الظلم و الشحّ لها و لولدها و لم يزجرها إذ كان قصدها الاستفتاء.
و بصحيحة عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: جاء رجل إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: إنّ أمّي لا يدفع يد لا مس، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: احبسها، قال: قد فعلت، فقال: فامنع من يدخل عليها، قال: قد فعلت، قال: فقيّدها فانّك لا تبرّها بشيء أفضل من أن تمنعها عن محارم اللّه، و احتمال كونها متجاهرة مدفوع بالأصل.
الرابع تحذير المسلم
من الشرّ و عن الوقوع في الضّرر لدنيا أو دين، لأنّ مصلحة دفع فتنة الشّر و الضّرر أولى من هتك شرّ المغتاب مثل من يريد أن يشترى مملوكا و أنت تعلم بكونه موصوفا بالسّرقة أو بعيب آخر، فسكوتك عن ذكر عيبه إضرار بالمشترى، و كذلك المبتدع الذي يخاف من إضلاله النّاس، فاذا رأيت من يتردّد إلى مبتدع أو فاسق و خفت أن يتعدّى إليه بدعته أو فسقه فلك أن تكشف مساويه.
و يدلّ عليه ما عن الكافي بسنده الصّحيح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إذا رأيتم أهل الرّيب و البدع من بعدى فأظهروا البراءة منهم و أكثروا من سبّهم و القول فيهم و الوقيعة و باهتوهم كيلا يطمعوا في الفساد في الاسلام، و تحذرهم النّاس و لا تتعلّموا من بدعهم يكتب اللّه لكم بذلك الحسنات و رفع لكم به الدّرجات، هذا.
و ربّما يجعل هذا المورد من باب نصح المستشير بعد تعميمه بالنّسبة إلى النصح المسبوق بالاستشارة و غيره.
الخامس قصد ردع المغتاب عن المنكر الذى يفعلهإذا لم يمكن الرّدع إلّا به فانّه أولى من ستر المنكر عليه فهو في الحقيقة إحسان في حقّه، مضافا إلى عموم أدلّة النّهى عن المنكر.
السادس باب التّرجيح و التّعديل في الرّوايةلأجل معرفة قبول الخبر و عدمه و معرفة صلاحيّته للمعارضة و عدمها، و إلّا لانسدّ باب التّعادل و التّراجيح الذي
هو أعظم أبواب الاجتهاد و جرت السّيرة عليه من قديم الزّمان كجريانها على الجرح في باب الشهادة و على ترجيح ما دلّ على وجوب اقامتها على ما دلّ على حرمة الغيبة على وجه الاشكال فيه، و إلّا لضاعت الحقوق في الدّماء و الأموال و غيرها و لغلب الباطل، و يلحق بذلك الشّهادة بالزّنا و غيره لاقامة الحدود.
السابع دفع الضّرر عن المغتاب في دم أو عرض أو مال و عليه يحمل ما ورد في ذمّ زرارة من عدّة أحاديث و قد ورد التّعليل بذلك في بعض الأحاديث و يلحق بذلك الغيبة للتّقية على نفس المتكلّم أو ماله أو عرضه، فانّ الضّرورات تبيح المحظورات.
الثامن ذكر الشخص بعينه الّذي صار بمنزلة الصّفة المميّزةالّتي لا يعرف إلّا به كالأعمش و الأعرج و الأشتر و الأحول و نحوها، فلا بأس به إذا صارت الصّفة في اشتهار يوصف بها الشّخص إلى حيث لا يكره ذلك صاحبها، و عليه يحمل ما صدر عن العلماء الأعلام.
التاسع إظهار العيوب الخفيّة للمريض عند الطبيب للمعالجة.
العاشر ردّ من ادّعى نسبا ليس لهفانّ مصلحة حفظ الانساب أولى من مراعات حرمة المغتاب.
الحادى عشر إذا علم اثنان عن رجل معصية
و شاهداها فأجرى أحدهما ذكره في غيبة ذلك العاصي جاز، لأنّه لا يؤثر عند السّامع شيئا و إن كان الأولى تنزيه اللّسان عن ذلك لغير غرض من الأغراض الصّحيحة خصوصا مع احتمال نسيان المخاطب لذلك أو خوف اشتهاره
الثاني عشر غيبة المتجاهر بالفسق
في ما تجاهر به، فانّ من لا يبالي بظهور فسقه بين النّاس لا يكره ذكره بالفسق و قد قال الامام عليه السّلام إذا جاهر الفاسق بفسقه فلا حرمة له و لا غيبة، و في رواية اخرى من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له، و أمّا جواز غيبته في غير ما تجاهر به فقد منع منه الشّهيد الثّاني و حكى عن الشهيد الأوّل أيضا و استظهر الفاضل النراقي الجواز.
قال شيخنا العلامة الأنصاري (قد): ظاهر الرّوايات النّافية لاحترام المتجاهر و غير السّاتر هو الجواز، و استظهره في الحدائق من كلام جملة من الأعلام، و صرّح به بعض الأساطين، قال شيخنا العلامة: و ينبغي الحاق ما يتستّر به بما يتجاهر فيه إذا كان دونه في القبح، فمن تجاهر و العياذ باللّه باللّواط جاز اغتيابه بالتّعريض للنّساء الأجانب، و من تجاهر بقطع الطرق جاز اغتيابه بالسّرقة، و من تجاهر بكونه جلاد السّلطان يقتل النّاس و ينكلهم جاز اغتيابه بشرب الخمر، و من تجاهر بالقبايح المعروفة جاز اغتيابه بكلّ قبيح، و لعلّ هذا هو المراد بمن ألقى جلباب الحياء لا من تجاهر بمعصية خاصّة و عدّ مستورا بالنّسبة إلى غيرها كبعض عمّال الظّلمة، هذا.
و هذه الموارد المذكورة هو المعروف استثناؤها بين جمع من الأصحاب، و بعضهم قد زادوا عليها، و بعضهم قد نقصوا و لا حاجة إلى الاطناب بعد ما عرفت أنّ مدار الحرمة على قصد الانتقاص و الأذى بالذات، و اللّه العالم.
السادس فى معالجة الغيبة
و علاجها إنّما هو بالعلم بما يترتّب عليها من المفاسد الدنيوية و الأخرويّة و بالتدبّر في المضار المترتّبة عليها عاجلا و آجلا.
اما المضار الدنيوية فهو أنّها تورث العداوة و الشّحناء و توجب غضب المغتاب فيكون في مقام المكافاة و المجازاة لشنيع قولك فيغضبك و يؤذيك و يهينك و من ذلك تنبعث الفساد و ربّما يؤل الأمر إلى ما لا يمكن علاجه، بل قد يؤل إلى القتل و الجرح و الاستيصال و إتلاف الأموال و غيرها.
و اما المضار الاخروية فيحصل التنبّه عليها بالتفكّر و التدبّر في الآيات و الأخبار الواردة في ذمّها و عقوبتها، و بالعلم بأنّها توجب دخول النّار و غضب الجبار و مقته تعالى و تحبط الحسنات و تنقلها إلى ميزان حسنات المغتاب، فان لم تكن له حسنة نقل اللّه من سيئات خصمه بقدر ما استباحه من عرضه قال صلّى اللّه عليه و آله: ما النّارفي اليبس أسرع من الغيبة في حسنات العبد و إن كانت الغيبة في العيب بالخلق فليعلم أنّه عيب على الخالق فانّ من ذمّ الصنعة فقد ذمّ الصّانع، قيل لحكيم: يا قبيح الوجه، قال: ما كان خلق وجهى إلىّ فأحسنه.
و روى إنّ نوحا عليه السّلام مرّ على كلب أجرب فقال: ما هذا الكلب فنطق الكلب و قال: يا نبيّ اللّه هكذا خلقنى ربّي فان قدرت أن تغيّر صورتي بأحسن من هذه الصورة فافعل، فندم نوح على ما قال و بكى أربعين سنة فسمّاه اللّه نوحا و كان اسمه عبد الملك أو عبد الجبّار.
و روى أيضا أنّه مرّ عيسى عليه السّلام و معه الحواريّون بجيفة كلب فقال الحواريّون ما أنتن ريح هذا الكلب، فقال عليه السّلام: ما أشدّ بياض أسنانه كأنّه نهاهم عن غيبة الكلب و تعييبه، فانظر إلى عظم الخطر في تعييب النّاس فاذا لم يرض أولياء الدّين بعيب ميتة حيوان فكيف بعيب النفوس المحترمة قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: طوبى لمن شغله عيب نفسه عن عيوب النّاس، فاذا أردت أن تذكر عيوب صاحبك فاذكر عيوبك قال الشّاعر:
و أجرء من رأيت بظهر غيب على عيب الرّجال و ذو العيوب
فلربّما تبصر في عين أخيك القذى و لا تبصر الجذع في عينك
و مطروفة عيناه عن عيب نفسه فان لاح عيب من أخيه تبصّرا
و قد قيل للرّبيع بن خثيم: ما نراك تعيب أحدا قال: لست راضيا عن نفسي فأتفرّغ لذكر عيوب النّاس ثمّ قال:
لنفسي أبكى لست أبكى لغيرها لنفسى في نفسى عن النّاس شاغل
نعوذ باللّه من زلّات البيان و هفوات اللّسان و سقطات الألفاظ و رمزات الألحاظ.
السابع فى كفارة الغيبة
قال المحدّث الجزائري (ره) اعلم أنّ الواجب على المغتاب أن يندم و يتوب و يأسّف على ما فعل ليخرج من حقّ اللّه تعالى ثمّ يستحلّ المغتاب فيحلّه ليخرج عن مظلمته و ينبغي أن يستحلّه و هو نادم حزين و إلّا فالمرائي قد يطلب المحالة فيكون عليه ذنب آخر، و قد ورد في كفارته حديثان: أحدهما قوله عليه السّلام: كفّارة من اغتبته أن تستغفر له، و في حديث آخر كلّما ذكرته، و معنى قوله: كلّما ذكرته على طريقة الغيبة أو كلّما عنّ في خاطرك أو جرى ذكره على لسانك بعد المحالة الاولى.
الثاني قوله صلّى اللّه عليه و آله: من كانت لأخيه عنده مظلمة في عرض أو مال فيتحلّلها منه من قبل أن يأتي يوم ليس هناك دينار و لا درهم يؤخذ من حسناته فان لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فيزيد على سيئاته.
و جمع بين الحديثين شيخنا الشهيد الثّانى قدّس اللّه روحه بحمل الاستغفار له على من يبلغ غيبة المغتاب فينبغي الاقتصار على الدّعاء له و الاستغفار لأنّ في محالته إثارة للفتنة و جلبا للضّغائن، و في حكم من لم يبلغه من لم يقدر على الوصول إليه لموت أو غيبة، و حمل المحالة على من يمكن الوصول إليه مع بلوغه الغيبة قال الجزائري و يمكن الجمع بينهما بوجهين: أحدهما أنّ الاستغفار له كفّارة معجلة تكون مقارنة للغيبة و المحالة متأخّرة عنه غالبا فيجب عليه المبادرة بذلك لعدم توقّفه على التمكن و عدمه، و المحالة إذا تمكّن بعد هذا فيكون الواجب اثنين لا واحد كما هو مذكور في القول الأوّل.
الثاني حمل الاستغفار له على الاستحباب و الواجب إنّما هو المحالة لا غير، و إذا جاء إلى المغتاب فينبغي أن لا يظهر له الكلام الذي اغتاب خوفا من إثارة الشحناء و تجديد العداوة، بل يقول له: يا أخي لك حقوق عرضيّة و اريد أن تحالني منها، و نحو ذلك من العبارات المجملة، و يستحبّ للمعتذر إليه قبول العذر و المحالة استحبابا مؤكّدا، انتهى.
أقول: و الأظهر في وجه الجمع ما حكاه عن الشّهيد بل و هو الأقرب.
و التّحقيق ما حقّقه شيخنا العلّامة الأنصارى (قد) في المكاسب حيث قال:مقتضى كون الغيبة من حقوق النّاس توقّف رفعها على إسقاط صاحبها أمّا كونها من حقوق النّاس فلأنّه ظلم على المغتاب، و للأخبار في أنّ من حقّ المؤمن على المؤمن أن لا يغتابه و أنّ حرمة عرض المسلم كحرمة دمه و ماله و أمّا توقّف رفعها على إبراء ذي الحقّ فللمستفيضة المعتضدة بالأصل، ثمّ ذكر جملة من المستفيضة.
ثمّ قال: و لا فرق في مقتضي الأصل و الأخبار بين التمكّن من الوصول إلى صاحبه و تعذّره، لأنّ تعذّر البراءة لا يوجب سقوط الحقّ كما في غير هذا المقام، لكن روى السّكوني عن أبي عبد اللّه عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إنّ كفارة الاغتياب أن تستغفر لمن اغتبته كلّما ذكرته، و لو صحّ سنده أمكن تخصيص الاطلاقات المتقدّمة به، فيكون الاستغفار طريقا أيضا إلى البراءة مع احتمال العدم أيضا لأنّ كون الاستغفار كفّارة لا يدلّ على البراءة، فلعلّه كفّارة للذّنب من حيث كونه حقّا للّه تعالى نظير كفّارة قتل الخطاء الّتي لا توجب برائة القاتل إلّا أن يدّعى ظهور السّياق في البراءة.
ثمّ ذكر كلام الشّهيد الثّاني (ره) و جمعه بين الخبرين المتقدّمين المتعارضين على ما تقدّم ذكره في كلام المحدّث الجزائري (ره) ثمّ أورد عليه بأنّه إن صحّ النّبوى أى ما رواه السّكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله مسندا، فلا مانع عن العمل به بجعله طريقا إلى البراءة مطلقا في مقابل الاستبراء، و إلّا تعيّن طرحه و الرّجوع إلى الأصل و اطلاق الأخبار المتقدّمة و تعذّر الاستبراء أو وجود المفسدة فيه لا يوجب وجود مبرء آخر.
نعم أرسل بعض من قارب عصرنا عن الصّادق عليه السّلام أنّك إن اغتبت فبلغ المغتاب فاستحلّ منه و إن لم يبلغه فاستغفر اللّه له.
و في رواية السّكوني المرويّة في الكافي في باب الظلم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و من ظلم أحدا ففاته فليستغفر اللّه له فانّه كفّارة له.
و الانصاف أنّ الأخبار في هذا الباب كلّها غير نقيّة السّند و أصالة البراءة تقتضى عدم وجوب الاستحلال و لا الاستغفار، و أصالة بقاء الحقّ الثّابت للمغتاببالفتح على المغتاب بالكسر تقتضي عدم الخروج منه إلّا بالاستحلال خاصّة، لكن المثبت لكون الغيبة حقّا بمعني وجوب البراءة منه ليس إلّا الأخبار الغير النّقية السّند، مع أنّ السند لو كان نقيّا كانت الدّلالة ضعيفة لذكر حقوق اخر في الرّوايات لا قائل بوجوب البراءة منها، فالقول بعدم كونه حقّا للنّاس بمعنى وجوب البراءة نظير الحقوق الماليّة لا يخلو عن قوّة، و امكان الاحتياط في خلافه بل لا يخلو عن قرب من جهة كثرة الأخبار الدالّة على وجوب الاستبراء منها بل اعتبار سند بعضها و الأحوط الاستحلال إن تيسّر و إلّا فالاستغفار، غفر اللّه لنا و لمن اغتبناه و لمن اغتابنا بحقّ محمّد و آله الطّاهرين صلوات اللّه عليهم أجمعين.
الترجمة
از جمله كلام آن امام أنام عليه السّلام است در نهى از غيبت مردمان مى فرمايد: و جز اين نيست كه سزاوار است أهل عصمت و طهارت و كسانى كه انعام شده است ايشان را در سلامتى دين اين كه رحم نمايند گناهكاران و أهل معصيت را، و اين كه شود شكر خدا غالب بر ايشان و مانع ايشان از مذمت گنهكاران، پس چگونه است غيبت كننده كه غيبت برادر خود را كند و سرزنش نمايد او را ببلائى كه گرفتار شده است، آيا بيادش نمى آرد مقام پوشانيدن خداوند تعالى بر او از گناهان او گناهى را كه بزرگتر است از گناهى كه عيب سرزنش نمود برادرشرا باو، و چگونه مذمّت ميكند او را بر گناهى كه مرتكب شده است مثل او را پس اگر نبوده باشد مرتكب آن گناه پس بتحقيق معصيت نموده خداى را در غير آن از گناهى كه بزرگتر است از آن.
و قسم بخدا هر آينه اگر نبوده باشد معصيت نموده خدا را در گناه كبير و عصيان نموده او را در گناه صغير هر آينه جرئت و جسارت او بر عيب و غيبت مردمان بزرگتر است اى بنده خدا سرعت مكن در عيب بنده بجهة گناه او پس شايد كه آن گناه آمرزيده شده او را، و أيمن مباش بر نفس خود گناه كوچك را پس شايد تو معذّبباشي بر آن، پس بايد كه خود دارى نمايد آن كسى كه داند از شما عيب ديگرى را از جهة آنكه ميداند از عيب خود، و بايد كه باشد شكر كردن او مشغول كننده او بر سلامتى خود از گناهى كه مبتلا شده است بأو غير او.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»