خطبه 105 صبحی صالح
105- و من خطبة له ( عليه السلام ) في بعض صفات الرسول الكريم
و تهديد بني أمية و عظة الناس
الرسول الكريم
حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّداً ( صلى الله عليه وآله )شَهِيداً وَ بَشِيراً وَ نَذِيراً
خَيْرَ الْبَرِيَّةِ طِفْلًا
وَ أَنْجَبَهَا كَهْلًا
وَ أَطْهَرَ الْمُطَهَّرِينَ شِيمَةً
وَ أَجْوَدَ الْمُسْتَمْطَرِينَ دِيمَةً
بنو أمية
فَمَا احْلَوْلَتْ لَكُمُ الدُّنْيَا فِي لَذَّتِهَا
وَ لَا تَمَكَّنْتُمْ مِنْ رَضَاعِ أَخْلَافِهَا
إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا صَادَفْتُمُوهَا
جَائِلًا خِطَامُهَا
قَلِقاً وَضِينُهَا
قَدْ صَارَ حَرَامُهَا عِنْدَ أَقْوَامٍ بِمَنْزِلَةِ السِّدْرِ الْمَخْضُودِ
وَ حَلَالُهَا بَعِيداً غَيْرَ مَوْجُودٍ
وَ صَادَفْتُمُوهَا وَ اللَّهِ ظِلًّا مَمْدُوداً إِلَى أَجْلٍ مَعْدُودٍ
فَالْأَرْضُ لَكُمْ شَاغِرَةٌ
وَ أَيْدِيكُمْ فِيهَا مَبْسُوطَةٌ
وَ أَيْدِي الْقَادَةِ عَنْكُمْ مَكْفُوفَةٌ
وَ سُيُوفُكُمْ عَلَيْهِمْ مُسَلَّطَةٌ
وَ سُيُوفُهُمْ عَنْكُمْ مَقْبُوضَةٌ
أَلَا وَ إِنَّ لِكُلِّ دَمٍ ثَائِراً
وَ لِكُلِّ حَقٍّ طَالِباً
وَ إِنَّ الثَّائِرَ فِي دِمَائِنَا كَالْحَاكِمِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ
وَ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا يُعْجِزُهُ مَنْ طَلَبَ
وَ لَايَفُوتُهُ مَنْ هَرَبَ
فَأُقْسِمُ بِاللَّهِ يَا بَنِي أُمَيَّةَ عَمَّا قَلِيلٍ لَتَعْرِفُنَّهَا فِي أَيْدِي غَيْرِكُمْ وَ فِي دَارِ عَدُوِّكُمْ
أَلَا إِنَّ أَبْصَرَ الْأَبْصَارِ مَا نَفَذَ فِي الْخَيْرِ طَرْفُهُ
أَلَا إِنَّ أَسْمَعَ الْأَسْمَاعِ مَا وَعَى التَّذْكِيرَ وَ قَبِلَهُ
وعظ الناس
أَيُّهَا النَّاسُ اسْتَصْبِحُوا مِنْ شُعْلَةِ مِصْبَاحٍ وَاعِظٍ مُتَّعِظٍ
وَ امْتَاحُوا مِنْ صَفْوِ عَيْنٍ قَدْ رُوِّقَتْ مِنَ الْكَدَرِ
عِبَادَ اللَّهِ لَا تَرْكَنُوا إِلَى جَهَالَتِكُمْ
وَ لَا تَنْقَادُوا لِأَهْوَائِكُمْ
فَإِنَّ النَّازِلَ بِهَذَا الْمَنْزِلِ نَازِلٌ بِشَفَا جُرُفٍ هَارٍ
يَنْقُلُ الرَّدَى عَلَى ظَهْرِهِ مِنْ مَوْضِعٍ
إِلَى مَوْضِعٍ لِرَأْيٍ يُحْدِثُهُ بَعْدَ رَأْيٍ
يُرِيدُ أَنْ يُلْصِقَ مَا لَا يَلْتَصِقُ
وَ يُقَرِّبَ مَا لَا يَتَقَارَبُ
فَاللَّهَ اللَّهَ أَنْ تَشْكُوا إِلَى مَنْ لَا يُشْكِي شَجْوَكُمْ
وَ لَا يَنْقُضُ بِرَأْيِهِ مَا قَدْ أَبْرَمَ لَكُمْ
إِنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْإِمَامِ إِلَّا مَا حُمِّلَ مِنْ أَمْرِ رَبِّهِ
الْإِبْلَاغُ فِي الْمَوْعِظَةِ
وَ الِاجْتِهَادُ فِي النَّصِيحَةِ
وَ الْإِحْيَاءُ لِلسُّنَّةِ
وَ إِقَامَةُ الْحُدُودِ عَلَى مُسْتَحِقِّيهَا
وَ إِصْدَارُ السُّهْمَانِ عَلَى أَهْلِهَا
فَبَادِرُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِ تَصْوِيحِ نَبْتِهِ
وَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُشْغَلُوا بِأَنْفُسِكُمْ عَنْ مُسْتَثَارِ الْعِلْمِ مِنْ عِنْدِ أَهْلِهِ
وَ انْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَ تَنَاهَوْا عَنْهُ
فَإِنَّمَا أُمِرْتُمْ بِالنَّهْيِ بَعْدَ التَّنَاهِي
شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج7
و من خطبة له عليه السّلام و هي المأة و الرابعة من المختار في باب الخطب
و شرحها في فصلين:
الفصل الاول
حتّى بعث اللّه محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم شهيدا و بشيرا و نذيرا خير البريّة طفلا، و أنجبها كهلا، و أطهر المطهّرين شيمة، و أجود المستمطرين ديّمة، فما أحلولت لكم الدّنيا في لذّاتها، و لا تمكّنتم من رضاع أخلافها، إلّا من بعد ما صادفتموها جائلا خطامها، قلقا وضينها، قد صار حرامها عند أقوام بمنزلة السّدر المخضود، و حلالها بعيدا غير موجود، و صادفتموها و اللّه ظلّا ممدودا إلى أجل معدود، فالأرض لكم شاغرة، و أيديكم فيها مبسوطة، و أيدي القادة عنكم مكفوفة، و سيوفكم عليهم مسلّطة، و سيوفهم عنكم مقبوضة، ألا إنّ لكلّ دم ثائرا، و لكلّ حقّ طالبا، و إنّ الثّائر في دمائنا كالحاكم في حقّ نفسه، و هو اللّه الّذي لا يعجزه من طلب، و لا يفوته من هرب، فاقسم باللّهيا بني أميّة عمّا قليل لتعرفنّها في أيدي غيركم، و في دار عدوّكم.
اللغة
(الكهل) بفتح الأوّل من جاوز الثلاثين، و قيل من بلغ الأربعين، و قيل من جاوز أربعا و ثلاثين إلى إحدى و خمسين و (جادت) السماء جودا بالفتح أمطرت و قيل الجود المطر الغزير و (المستمطرين) في أكثر النسخ بصيغة المفعول و هو الأظهر و في بعض النسخ بصيغة الفاعل و (الدّيمة) المطر الدّايم في سكون.
و (احلولى) الشيء صار حلوا و (الرّضاع) بالفتح مصدر رضع الصّبىّ أمّه بالكسر اى امتصّ ثديها و (الأخلاف) جمع خلف بالكسر و هو حلمة ضرع الناقة أو نفس الضرع لكلّ ذات خفّ و ظلف و (الخطام) بالكسر ما يقاد به البعير و (قلق) ككتف المضطرب المتحرّك الذي لا يستقرّ في مكانه و (الوضين) بطان منسوج بعضه ببعض يشدّ به الرّحل على البعير كالخرام للسّرج.
و قال الشّارح المعتزلي ما يشدّ به الهودج على بطن البعير كالبطان للقتب و التصدير للرحل و الحزام للسرج و (المخضد) عطف العود اللّين يقال خضدت العود فانخضد أى ثنيته فانثنى من غير كسر و خضدت الشجر أى قطعت شوكه و السدر المخضود الذي انثنى أغصانه من كثرة الحمل أو الذي قطع شوكه فصار ناعما أملس.
و (شغرت) الأرض كمنعت أى لم يبق بها أحد يجمعها و يضبطها و بلدة شاغرة برجها اذا لم تمنع من غارة أحد، و عن النهاية قيل الشغر الاتساع و منه حديث علىّ عليه السّلام فالأرض لكم شاغرة أى واسعة و (الثار) الدّم و الطّلب به و ثار به كمنع طلب دمه كثاره و قتل قاتله و الثائر الذى لا يبقى على شيء حتى يدرك ثاره
الاعراب
شهيدا و بشيرا و نذيرا منصوبات على الحال من مفعول بعث، و خير البريةو المعطوفات عليه منصوبات على الوصف و تحتمل الحال أيضا، و طفلا و كهلا منصوبان على الحال أيضا و اضافة أطهر إلى المطهّرين معنويّة، و شيمة تميز، و إضافة أجود إلى المستمطرين معنوية أيضا بمعنى من إن كان المضاف إليه بصيغة المفعول كما في أكثر النسخ و بمعنى اللام إن كان بصيغة الفاعل.
و ديمة تميز على الأوّل و على الثاني يحتمل التميز و هو الأظهر و يحتمل أن يكون مفعولا للمستمطرين فتدبّر، و الفاء في قوله: فالأرض فصيحة، و عن في قوله عمّا قليل بمعنى بعد، و ما زايدة كما مرّ غيره مرّة.
المعنى
اعلم أنّ صدر هذا الفصل من كلامه عليه السّلام مسوق لذكر محامد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و مناقبه، و بعده اشارة إلى بيان حال بني اميّة لعنهم اللّه قاطبة، و ذيله اخبار بما سيكون من مآل حال بني اميّة و تنبيه على أنهم يسعون في دماء عترة الرّسول فينتقم اللّه منهم و يجزيهم بما كسبت أيديهم، و اللّه عزيز ذو انتقام قال عليه السّلام (حتّى بعث اللّه محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم شهيدا) على أوصيائه و امّته و على الأنبياء و اممهم كما قال تعال: وَ يَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ جِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ.
و قد مرّ تحقيق هذه الشهادة في شرح الخطبة الاحدى و السّبعين بما لا مزيد عليه فليراجع إليه (و بشيرا و نذيرا) و هما من ألفاظ الكتاب العزيز قال تعالى: إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَ نَذِيراً وَ لا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ قال الطبرسيّ أرسلناك يا محمد بالحقّ قيل: بالقرآن، و قيل: بالاسلام، و قيل على الحقّ بشيرا من اتّبعك بالثواب، و نذيرا من خالفك بالعقاب و لا تسأل عن أصحاب الجحيم أى لا تسأل عن أحوالهم، و فيه تسلية للنّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذ قيل له:إنّما أنت بشير و نذير و لست تسأل عن أصحاب الجحيم و ليس عليك اجبارهم على القبول منك.
(خير البريّة طفلا) لأنّ الخيريّة إنّما هى بالأعمال الصّالحة و الأخلاق الفاضلة، و التسديد بسلوك سبيل الحقّ و هو صلّى اللّه عليه و آله و سلّم منذ أيّام طفوليته و صباه كان ملازما لذلك سابقا فيه على غيره.
(و أنجبها كهلا) أى أفضلها، و قيل: أكرمها فلقد كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في حال كهوليّته و دعوته منبع كلّ كرم و فضل (أطهر المطهرين شيمة) أى طبيعة و جبلة و خلقا لم تدنسه الجاهلية بأنجاسها، و لم تلبسه من مدلهمّات ثيابها (و أجود المستمطرين ديمة) أى أجود الأشخاص الذين يطلب منهم الأمطار و يرجى منهم الاحسان«»، أو أكثر جودا للّذين يطلبون البذل و الانعام، و على كلّ تقدير فقد شبّهه عليه السّلام بالسّحاب الماطر و الغيث الهاطل، و أراد بذلك كثرة جوده و عطاياه، فلفظ المستمطرين استعارة للراجين أو المرجوّين منهم الاحسان، و ذكر الجود و الدّيمة ترشيح للاستعارة، هذا.
و قوله عليه السّلام: (فما احلولت لكم الدّنيا في لذّاتها) قال الشارح المعتزلي الخطاب لمن في عصره من بقايا الصّحابة و لغيرهم من التّابعين الذين لم يدركوا عصر النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قيل: الخطاب لبني امية و أمثالهم، و الأول أوفق بظاهر المخاطبة، و الثّاني أظهر بملاحظة سياق الكلام و الفقرات الآتية.
و كيف كان فالمعنى أنّه ما صارت لكم الدّنيا حلوا في لذّاتها (و لا تمكنتم من رضاع أخلافها) استعارة بالكناية شبه عليه السّلام الدّنيا بناقة مرضعة تنتفع بها و يمتصّ من ثدييها، و الجامع وجوه الانتفاع و أثبت لها الأخلاف تخييلا و ذكر الرّضاع ترشيح، و المقصود أنّكم ما تمكنتم من الانتفاع بالدّنيا و الابتهاج بلذّاتها (إلّا من بعد ما صادفتموها) أى أصبتموها و وجدتموها (جائلا خطامها قلقا وضينها)استعارة بالكناية أيضا و ذكر الخطام و الوضين تخييل و ذكر الجولان و القلق ترشيح قال المحدّث المجلسيّ (ره): و الغرض عدم تمكّنهم من الانتفاع بالدّنيا و صعوبتها عليهم و عدم انقياد هالهم كما يستصعب النّاقة على راكبها إذا كانت جائلة الخطام قلقة الوضين لا يثبت رحلها تحت راكبها.
أقول: و الأظهر عندى أنّ الغرض بذلك الاشارة إلى أنهم لم يتمكّنوا من الانتفاع بالدّنيا و من رضاع أخلافها و تولية أمرها إلّا من بعد ما أصابوها و ليس لها صاحب و لا فيها أمر و سلطان حقّ يمنعهم من تولى أمرها و التّصرف فيها بمنزلة ناقة ليس لها صاحب و لا لها راكب فانّ الناقة إذا كان لها راكب يركبها يمسك خطامها و يشدّ وضينها و يملك أمرها و يمنع من تسلّط الغير عليها، فجولان الخطام و اضطراب الوضين إنّما يكونان مع عدم من يملك أمرها و بتلك الحال يتمكّن منها من يصادفها.
و يؤيد ما ذكرته قوله (قد صار حرامها عند أقوام بمنزلة السدر المخضود) فانه ظاهر في أنّ المراد بالأقوام الخلفاء المتقدّمين الذين و لوها بلا وجه شرعيّ فانجرّ الأمر منهم إلى بني اميّة و تداولوها بينهم دولة جاهلية هذا.
و تشبيه الحرام بالسّدر المخضود إشارة إلى كثرة أكلهم له و رغبتهم به إن كان المخضود بمعنى المعطوف من كثرة الحمل، و إن كان بمعنى مقطوع الشّوك فوجه الشّبه أنّ نواهى اللّه سبحانه و وعيداته على فعل الحرام تجرى مجرى الشوك للسّدر في كونها مانعة منه زاجرة عنه كما يمنع الشوك عن اجتناء ثمرة السّدر و لما كان هؤلاء الأقوام قد اغمضوا عن النّواهى و الوعيدات و لم يبالوا بها فصار الحرام عندهم بمنزلة السّدر النّاعم الأملس الخالي عن الشّوك في سهولة التناول (و) من أجل عدم المبالات أيضا صار (حلالها بعيدا غير موجود) أى بين هؤلاء الأقوام أو بين عموم الناس لعدم دليل لهم يرشدهم إلى الحلال و ينقذهم من الحرام ثمّ نبّه عليه السّلام على سرعة زوال الدّنيا و انقضائها بقوله (و صاد فتموها و اللّه ظلّا ممدودا إلى أجل معدود) تهديدا لهم عن الابتهاج بها و تحذيرا عن الاغترار بلذّاتها.
ثمّ أشار إلى تسلّطهم في الأرض و تمكّنهم من التّصرف فيها بأيّ نحو شاءوا و قال (فالأرض لكم شاغرة) أى ليس بها حام يحميها و لا أمير يضبطها و يمنعكم منها بل هى مخلاة لكم أو أنها غير ضيقة عليكم و أنتم فيها في اتساع (و أيديكم فيها مبسوطة) بالجور و العدوان و وجوه التّصرّف بأىّ نحو كان (و أيدي القادة) أى الولاة الحقّ (عنكم مكفوفة) لقلّة النّاصر و المعين و غلبة الشقاق و النّفاق (و سيوفكم عليهم مسلّطة و سيوفهم عنكم مقبوضة) و كأنه إشارة إلى وقعة كربلا و ما كان من بني اميّة و تابعيهم فيها من سفك الدّماء.
و نبّه عليه السّلام على أنّ الدّم الذى سفكوه لا يكون هدرا، و أنّ له طالبا يطلبه فقال (ألا إنّ لكلّ دم ثائرا و لكلّ حق طالبا و أنّ الثائر في دمائنا) و الطّالب لحقنّا (كالحاكم في حقّ نفسه) يستوفي حقه بنفسه و يحكم بعلمه من غير افتقار إلى بيّنة و إثبات و حكم حاكم آخر (و هو اللّه الذى لا يعجزه من طلب و لا يفوته من هرب) أى لا يعجزه مطلوب و لا يفوته هارب بل ينتقم منه و يأخذ بقوده و لا يخفى ما في هذه الفقرات من التأكيد و التهديد، حيث استفتح الكلام أوّلا بكلمة ألا الاستفتاحية المفيدة للايقاظ و التّنبيه، و أكّده بكلمة إنّ و الّلام و الجملة الاسميّة، و عقّبه بأنّ ثائر دمهم هو اللّه القوىّ العزيز الشّأن، و وصفه بأنه حاكم مختار غير مفتقر و قادر قاهر مدرك مقتدر.
ثمّ لا يخفى ما فى حصر ثائرهم في اللّه، فانّ دمائهم قد سفكت باللّه و اللّه و في سبيل اللّه، فحرىّ لها أن يكون ثائرها هو اللّه تعالى، لاضافة تلك الدّماء الطيّبة إليه سبحانه و تعلّقها عليه دون غيره.
و يشير إلى ذلك المعنى ما في زيارته عليه السّلام: السّلام عليك يا ثار اللّه و ابن ثاره، فانّ معنى الاضافة هو أنهم عليهم السّلام لمّا قتلوا مظلومين في سبيل اللّه، و لم يسفك دمائهم إلّا أن قالوا: ربنا اللّه، فصار تلك الدّماء حقيقا بأن تضاف إليه سبحانه و تكون حقّا له مختصة به تعالى، و يحقّ له جلّ شأنه أن يكون ثائرها بالاستقلال بالانتقام أو نصرة من وليّه على القصاص و قد قال تعالى: وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً روى في الكافي عن الصّادق عليه السّلام أنّها نزلت في الحسين عليه السّلام لو قتل أهل الأرض به ما كان مسرفا، هذا.
و يجوز أن يكون الاضافة في ثار اللّه تشريفا و تكريما، فانّ اللّه أجلّ و أعلى من أن يوصف بأوصاف الجسم و يكون له ثار و دم و نحوهما، و إنما يضاف إليه بعض الأشياء إظهارا لرفعة شأنه و علوّ قدره، كما يقال روح اللّه و بيت اللّه ثمّ إنّه لما هدّدهم بانتقام اللّه منهم أخبرهم بزوال الملك عنهم فقال عليه السّلام: (فاقسم باللّه يا بني أمية عما قليل لتعرفنّها) أى الخلافة و الامارة، أو الدّنيا كما هى مرجع الضمائر المتقدّمة (في أيدى غيركم و في دار عدوّكم) و قد وقع الأمر بموجب اخباره عليه السّلام، فانّ الأمر بقي في أيدى بني اميّة نيفا و ثمانين سنة، ثمّ عاد إلى البيت الهاشمي، و انتقل إلى أشدّ النّاس عداوة لهم أعنى بني العباس قال الشارح المعتزلي سار عبد اللّه«» بن عليّ بن عبد اللّه بن العباس في جمع عظيم للقاء مروان بن محمّد بن مروان، و هو آخر خلفاء الاموييّن، فالتقيا بالزّاب من أرض الموصل و مروان في جموع عظيمة و اعداد كثيرة، فهزم مروان، و استولى عبد اللّه بن عليّ على عسكره، و قتل من أصحابه قتلا عظيما، و فرّ مروان هاربا حتى أتى الشام و عبد اللّه يتبعه فسار إلى مصر فاتّبعه عبد اللّه بجنوده، فقتله بنوصبر الاشمونين من صعيد مصر، و قتل خواصه و بطانته كلّها.
و قد كان عبد اللّه قتل من بني اميّة على نهرابى فطرس من بلاد فلسطين قريبا من ثمانين رجلا قتلهم مثلة، و احتذى أخوه داود بن عليّ بالحجاز فعله، قتل منهم قريبا من هذه العدّة بأنواع المثل.
و كان مع مروان حين قتل أبناء عبد اللّه و عبيد اللّه، و كانا وليّى عهده، فهربافي خواصهما إلى اسوان من صعيد مصر، ثمّ صارا إلى بلاد النّوبة و نالهم جهد شديد و ضرّ عظيم.
فهلك عبد اللّه بن مروان في جماعة ممّن كان معه قتلا و عطشا و ضرّا، و شاهد من بقى منهم أنواع الشدائد و ضروب المكاره.
و وقع عبيد اللّه في عدّة ممن يجامعه من أهله و مواليه في البلاد مستترين راضين أن يعيشوا سوقة بعد أن كانوا ملوكا، فظفر بعبيد اللّه أيّام السّفاح فحبس فلم يزل في السّجن بقيّة أيّام السّفاح، و أيّام المنصور، و أيّام المهدى، و أيّام الهادى، و بعض أيام الرّشيد و أخرجه الرشيد و هو شيخ ضرير، فسأله عن خبره فقال حبست غلاما بصيرا و اخرجت شيخا ضريرا، و قتل عبد اللّه بن عليّ بدمشق خلقا كثيرا من أصحاب مروان و موالى بني امية و أتباعهم، و نزل عبد اللّه على نهرابي فطرس فقتل من بني امية هناك بضعا و ثمانين رجلا و ذلك في ذى القعدة من سنة اثنتين و ثلاثين و مأئة.
و روى أبو الفرج الاصفهاني في كتاب الأغاني قال: نظر عبد اللّه بن عليّ في الحرب إلى فتى عليه ابهة الشرف و هو يحارب مستقبلا فناداه يافتى لك الأمان و لو كنت مروان بن محمّد قال: إن لا أكنه فلست بدونه، فقال: لك الأمان و لو كنت من كنت فأطرق ثمّ أنشد:
أذلّ الحياة ذكرة الممات
فكلّا أراه طعاما وبيلا
و إن لم يكن غير احداهما
فسيرا إلى الموت سيرا جميلا
ثمّ قاتل حتّى قتل فاذا هو ابن مسلمة بن عبد الملك بن مروان.
أقول: انقراض الدّولة الأمويّة و استيصالهم و قتل نفوسهم كان بيد عبد اللّه بن محمّد المكنّى بأبي العباس الملقب، بالسّفاح، و هو أوّل خلفاء العبّاسية كما صرّح به و باسمه و لقبه في القاموس، و المعروف أنّ اسمه أحمد، و قد بويع له بالخلافة يوم الجمعة لثلاث عشرة ليله خلت من شهر الرّبيع الأوّل سنة اثنتين و ثلاثين و مأئة صعد المنبر يوم بويع و خطب النّاس، فقام إليه السيد الحميرى فأنشده:
ردتكموها يا بني هاشم
فجدّدوا من آيها الطامسا
ردتكموها لا على كعب من
أمسى عليكم ملكها نافسا
ردتكموها فالبسوا تاجها
لا تعدموا منكم له لابسا
خلافة اللّه و سلطانه
و عنصر كان لكم دارسا
قد ساسها قبلكم ساسة
لم يتركوا رطبا و لا يابسا
لو خيّر المنبر فرسانه
ما اختار إلّا منكم فارسا
و الملك لو شودر في سائس
لما ارتضى غيركم سايسا
لم يبق عبد اللّه بالشام من
آل أبي العاص امرأ عاطسا
فلست من أن تملكوها إلى
هبوط عيسى منكم آيسا
و قد روى حديثه مع بنى امية ابو مخنف لوط بن يحيى بطرز غريب و نهج عجيب، بعبارات فصيحة، و ألفاظ بليغة أحببت ايرادها بعينها.
قال حديث السّفاح لمّا جلس على كرسيّ الامارة للخلافة و سبب قتل بني اميّة على يده تحريص العبد سديف مولا بني هاشم رضى اللّه عنه قال حدّثنا محمّد بن قتادة عن زيد بن عليّ أنه كان في مجلس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قد سمع أنّ ملك بني امية إذا ماد و انقضى رجعت الخلافة إلى بني العبّاس، و أول من وليّها السّفاح، و قد تسامعت به ملوك الأرض و أذعنوا له بالطّاعة و خطبوا له في مشارق الأرض و مغاربها، و قد نقش اسمه على الدّراهم، و خافت الملوك و التجأت إليه الامم و هربت من سطوته شياطين العرب و العجم، و تطايرت بنو اميّة شرقا و غربا و سهلا و جبلا مخافة من سلطانه و شدّة بأسه و سيفه و قهره، و لما كان بينهم من الضغائن و الحقود القديمة و الامور السالفة.
ثمّ إنهم كتبوا إليه يطلبون منه الامان، و يسألونه التعطف و الاحسان، و أن لا يؤاخذهم بما كان من المداخلة، و أن يجعلهم أهل بطانته و ظهارته و أهل مملكته فكتب لهم كتابا و ذكر لهم أنه غير غنيّ عنهم و أنه يحتاج إلى خدمتهم، و ضمن لهم الأموال و العطايا و الاقطاع.
و اجتمع إليه منهم الكبير و الصّغير، و الرّؤسا و آل زياد و آل مروان و آليزيد بن معاوية فلمّا اجتمعوا كلّهم إليه و كان عدّتهم سبعين ألف فارس و يقدمهم يزيد بن عبد الملك بن مروان ساروا في رتبتهم و عددهم حتى قدموا الأنبار و دخلوا إلى أبى العباس أحمد السّفاح على مراتبهم، و أعدّ لهم كراسي من الذهب و الفضة ليجلسوا عليها يسلّمون عن يمينه و شماله.
ثمّ إنّه جعل منهم أمراء و حجابا و ندما و وكلاء و كانوا يجلسون من حوله و أقرب النّاس إليه و أعزّهم عليه و كان الخاص و العام يتعجبون منه و من فعله بهم و يقولون ما رأينا رجلا أعجب من هذا الرّجل قطّ، يقرّب أعدائه و يقفى أشغالهم و يعطيهم أمواله و ضياعه، و كان العاقل يقول إنما يفعل بهم ذلك ليبيدهم و ينعم عليهم حتى يجتمعوا و يتكاملوا ثمّ يأخذهم أخذة شديدة فينذرهم.
قال أبو الحسن: فبينما ذات يوم جالس على مرتبته و بنو اميّة من حوله و عليهم الدّروع المطرزة بطراز الذهب و العمايم الملوّنة متقلدين بالسيوف المحلّاة بالذهب و الفضة، و فى أوساطهم المناطق المحلّاة بالجوهر.
إذ دخل بعض حجابه و هو مذعور، فقال له: يا أمير المؤمنين العجب كلّ العجب، فقال له: و ما ذلك العجب قال: يا أمير المؤمنين إنّ على الباب رجلا ذميم المنظر عظيم المخبر شخب اللّون رثّ الأطمار و علاه الغبار ممّا حلّ به من الأسفار و من تحته مطية بالية قد قطع بها غياهب الدّجى و مهامه«» الثرى فلو أنّ لها لسانا لنطقت به ممّا لحقها من التعب و النصب، و الرّجل فوقها جالس كالنسر البالى و الشيخ الفانى، فاني أتعجّب منه و من مطيته و قد أناخها ببابك و عقلها بفاضل زمامها ثمّ قال لها بشرى يا ناقتي بالكرامة الكبرى و المسرّة العظمى، و قد بلغت ما هو لك في سرور و حبور«» و حللت بمن هو أهل للمحل السعد و قد نال أعلى المراتب فالحمد للّه فما عليك بعد اليوم سفر و لا تعب و لا جهد، فقلت له: إنّك لعديم العقل تخاطب ناقة عجماء فقال: نعم اخاطبها و ابشّرها ثمّ أنشا يقول:
أقول لها يا ناق سيري و ابشرى
بجود كريم الوالدين هجان
فتى أبتغى منه الكرامة و العطاء
و من سفرى تعفى و طول هواني
ألا أيّها السّفاح و السّيد الذي
له همم تسطو بكلّ مكان
أتت ناقتي تشكو إليك تأسّفا
فصنها من الأسفار و السّيران
ثمّ إنّه أقبل يريد الدّخول عليك عاجلا و الورود إليك راجلا فمنعته من ذلك و قلت له: ما الذى تريد منه فقال: استأذن بالدخول على أمير المؤمنين فانّي قد أتيت إليه من بلد بعيد و سفر صعب شاق شديد، كنت أخوض سواد اللّيل و حنادس الظلام و أقطع المهامه و الآكام«» شوقا إلى طلعته و محبته في بهجته، و اريد التطلع إلى رؤيته و الأمور كامنة فى الجوارح، و النّيران مضرمة في الجوانح، اريد برؤيته اخمادها و اطفاء شهوقها من كلامه و فتح منظره و مرآه فقلت له: امض و تطيّب و غيّر أثوابك ليطرد منك و عث السفر ثمّ أقبلك حتى اوصلك إلى أمير المؤمنين.
فنظر إلىّ بعين الغضب و هو مزور«» و قال: إنّى آليت على نفسى أن لا أنزع ثوبا و لا أستعمل طيبا و لا ألذّ بعيش حتى أصل إلى أمير المؤمنين و ها هو على الباب منتظر ردّ الجواب عن أمير المؤمنين.
قال: فلمّا سمع السّفاح بنعته و صفته قال صاحبنا و عبدنا سديف و ربّ الكعبة ثمّ إنّه أذن له بالدخول عليه و قال: إنّه عزيز علينا قريب إلى قلوبنا.
قال: فلما سمع بنو امية بذكر سديف تغيّر لونهم و اقشعرّت منهم الأبدان و نظر بعضهم إلى بعض و ارتعدت منهم الفرائص و أخذهم الجزع و الهلع«» قبل دخول سديف عليهم.
قال أبو الحسن: و كان من خبر سديف معهم أنّه كان عبدا لبني هاشم و كان فصيح اللّسان قويّ الجنان شاعرا ماهرا يصول بلسانه مقتدرا بكلامه، و كان كلّ موسم من مواسم الحج يخرج فيعلوقبّة زمزم ثمّ يصيح بالناس فيجتمعوا إليه و يعتمدوا بين يديه، فاذا تكاملوا عنده يبسط لسانه بمدح مواليه من بني هاشم و يهجو بنى اميّة و يصغر ملكهم و يحرّض النّاس عليهم ليخلعوا الخلافة منهم و يجعلوها في بنى هاشم الذين جعلها اللّه فيهم و هم أهل بيت محمّد المصطفى صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
فلمّا كان في بعض الأعوام و قد حضر النّاس الموسم أكمل ما يكون من المواسم أقبل سديف فصعد زمزم ثمّ صاح برفيع صوته يا أهل الأرض و يا أهل الأبطح و الصّفا و باب مكّة و الكعبة العليا و من ساير الأقطار شرقا و غربا، فدونكم فاسمعوا ما أقول و اللّه على ما أقول وكيل.
ثمّ تكلّم في بني اميّة بكلّ شؤم فأخذه بنو اميّة فضربوه حتّى ظنّوا أنّهم قد قتلوه و ألقوه على مزبلة فأقبلت إليه امرئة فسقته شرابا و لجأ إلى رءوس الجبال قال فلمّا سمع بنو اميّة الذين هم عند السّفاح بذكر سديف قال بعضهم لبعض: أليس قد قتل اللّه سديفا فأراحنا منه و إنّا لنراه قد عاش بعد موته لينال مناه منّا.
ثمّ انه دخل على السّفاح و نظر إلى بني اميّة و ما هم عليه و انشأ يقول:
أصبح الملك ثابت الأساس
بالبهاليل«» من بني العباس
طلبوا ثار هاشم فسقوها
بعد ميل من الزمان و ياس
لا تقيلن عبد شمس عثارا
و اقطعوا كلّ وصلة و غراس«»
ذلها أظهر التودّد منها
و بها منكم كجز «كحدخ» المواسي
فلقد غاظني و غاظ سواى
قربها من نمارق و كراسى
أنزلوها بحيث أنزلها اللّه
بدار الهوان و الاتعاس
و اذا كروا مصرع الحسين و زيد
و قتيلا بجانب المهراس«»
و القتيل الذي بحرّ ان أضحى«»
ثاويا بين غربة و تناسي
و قيل: انّ سديف دخل على السّفاح و يده على يد سليمان بن عبد اللّه ثمّ انشأ يقول:
لا يغرّنك ما ترى من رجال
إنّ بين الضّلوع داء دويا
فضع السّيف و ارفع الصوت حتى
لا ترى فوق ظهرها امويا
طيّب نفسك و قرّ عينك هنيّة
إنّ صبرك هو الجميل اديّا
قال: فقال له السّفاح: أهلا بطلعتك و مرحبا برؤيتك، قدمت خير مقدم، و غنمت خير مغنم، فلك الاكرام و الانعام، و أما ما أنت له من الأعداء فالصّفح أجمل، فانّ أكرم النّاس من عفا إذا قدر، و صفح إذا ظفر.
ثمّ إن السّفاح نادى يا غلام عليّ بتخت من الثياب و كيس من الورق، فأتاه بذلك، فقال السّفاح: خذه و غيّر ثيابك و أصلح حالك وعد إلينا في غداة غد إنشاء اللّه فلك عندنا ما تحبّ و ترضى، و ستبلغ الرّضا و فوق الرّضا.
قال: فخرج سديف من عند السّفاع و هو فرحان شديد الفرح.
قال: و إنّ بني اميّة بقوا في دهشة و بهتة و حيرة ينظر بعضهم إلى بعض، فعلم السّفاح ما عندهم و ما خامرهم فاراد أن يطمئنّهم حتّى يطمئنّوا إليه و يقبلوا بأجمعهم إليه.
فقال لهم: يا بني اميّة لا يكبرنّ عليكم ما سمعتم من هذا العبد، فانه ما تكلّم إلّا بقلّة عقله و كثرة جهله، و ليس له رأى سديد و لا ينبغي أن يلتفت إلى قوله و لا إلى رأى العبيد، و لعمرى إنّه ما كان الواجب أن يذكر مواليه و أن يفعل ذلك الفعال التي لا يفعلها إلّا الجهال، فترك ما في قلوبهم و ما خامرهم، فقال: إنّ لكم علىّ أفضل الهبات و فوق ما تأملون من الكرامات، فانّ هذا زمان و ذاك زمان و نحن جرثومة العفو و دعامته فابشروا و طيبوا قلوبكم، فانّي اقدّم لكم العطايا، و أحسن لكم الجزاء و ابلغكم الأمل و المنى.
فخرجوا من عنده و قد كشف السّفاح بعض ما كانوا يحذرون من الهمّ و الغمّ ثمّ اجتمعوا في مسائهم بالمشورة.
فقال قائلهم: الهرب الهرب ما دام العبد سديف لكم في الطلب، و اللّه لاقرّ لكم قرار، و لا كان لكم منجأ و لا من طلبه و ثاره ملجأ، و قد كان يعاديكم و هو وحيد فريد لا معين له و لا نصير و لا مجير، فكيف و قد أتت أيّامه و ارتفعت أعلامه و ظهرت عداوته، فخذوا لأنفسكم و انظروا امائكم من قبل أن يغشيكم من هذا الرّجل أمر شنيع.
فقالوا: يا ويلك إنّ أمير المؤمنين قد أحسن إلينا في الخطاب، و وعدنا بجايزة و سديف أقلّ عنده من ذلك و تفرّقوا إلى منازلهم.
فلمّا كان من الغد بكر القوم إلى السّفاح فدخلوا إليه، و سلّموا إليه، فردّ عليهم بأحسن ردّ، و قرّب مراتبهم، و أعلى منازلهم، و رفع مجالسم، ففرحوا بذلك فرحا شديدا، ثمّ أقبل إليهم و سألهم من حالهم و مجيئهم إليه و قضى لهم الحوائج.
فبينما هم فى أسر ما كانوا فيه إذ دخل عليهم سديف و قد غيّر أثوابه، فسلّم على السّفاح و أشار إليه بيده، و قال: نعم صباحك، و بان فلاحك، و ظهر نجاحك كشف اللّه بك رواكد الهموم، و فداك أبي لانّك آخذ بالثّار، و كاشف عن قومك و ضيمة«» العار، و الضارب بالسّيف الثار، و قاتل الاشرار، فحاشاك يا بن الرّؤساء من بني العبّاس، و السّادة من بني هاشم، و السّراة من بنى عبد مناف ثمّ أنشأ يقول
أصبح الملك عالي الدّرجات
بكرام و سادة و حمات
يا سليل المطهّرين من الرجس
و يا رأس منبر الحاجات
لك أعنى خليفة اللّه في الأرض
ذا المجد و أهل الحياة و الممات
غدرونا بنو اميّة حتى
صار جسمي سقيما بالمصيبات
و استباحوا حريمنا و سبونا
و رمونا بالذّل و النّكبات
أين زيد و اين عون و من
حلّ ثاويا بالفرات
و الامام الذى بحران أضحى
هو امام الهدى و رأس الثقات
كيف أسلو ممن قتلوه جهرا
و هتكوا بعد ذلك الحرمات
قال: فلما سمع السّفاح كلام سديف أطرق إلى الأرض زمانا حتى سكن ما لحقه ثمّ إنّه رفع رأسه و قال له: قل كلامك و تذكر ما فات، و خذ ما هو آت، فانّ أحلم الناس من صفح عمن ثلمه، و صان عرضه عمن ظلمه، فلك عندنا أفضل الكرامة و الجزاء، و حسن المنظر و بلوغ المنى، فانصرف يا سديف و لا تعد إلى مثلها أبدا.
فخرج سديف من عند السّفاح يفور غضبا و يذمّ صحبته. فلمّا خرج من عندهم أقبل السّفاح على بني اميّة و هم مطرقون و جلون، فقال لهم: إنّي أعلم أنّ كلام هذا الشّيخ العبد قد أرجفكم و قد أثّر في قلوبكم، فلا تعبأوا بكلامه، فانّي لكم كما تحبّون و فوق ما تأملون، و سأزيد لكم العطاء، و أقرب لكم الجزاء و أقدّمكم على غيركم.
فخرجوا من عنده و قد سكن مابهم، و اجتمعوا للمشورة فيما بينهم.
فقال قائل منهم: هلمّوا بنا حتّى ندخل بكليتنا السّفاح و نسأله أن يسلّم الينا العبد فنقتله أو نستعبده، فجدّو يا قوم في طلبه فانّ السّفاح لا يمنعنا من ذلك و لا يعصينا و نحن سبعون ألف سيّد لأجل عبد ذميم، و إنّكم إن فاتكم أو توانيتم لم يزل العبد معه حتّى يهلككم و يدمّركم، و أنه لا شك قد نصب لكم أشراكا فلا يفلت منكم أحد فاحذروا ثم احذروا.
و قال قائل منهم: إنّ السّفاح إنّما يظهر لكم ما يظهر لتطمئنّوا إليه ثمّ لتؤخذوا على ما كان منكم، فلا تعبأوا بكلام السّفاح.
فقال بعضهم فما كان يمنعه منّا و هو مالك رقابنا و ما نراه إلّا مجسنا إلينا و وطأ مجالسنا و رفع مواضعنا و وعدنا بالخير و العطاء الجزيل.
قال يا قوم قد أضعتم قولي و عصيتم أمري و خالفتموني فاذا دخلتم عليه فليدخل بعضكم و يبقى بعضكم على الباب حتّى ننظر ما يكون، فاذا أكرم قوما بالجزاء و العطاء دخل الباقون و يفعلون مثل ما فعلوا أوّل مرّة، و تقدّموا عليه و أنتم آمنون على هذا الترتيب.
قال فلمّا انسدل الظلام و هجع النّوام بعث السّفاح إلى سديف فأحضره عنده فلّما دخل عليه سديف قال له: يا ويلك يا سديف إنّك لعجول في أمرك، مفش لسرّك، لا تستعمل الكتمان.
فقال سديف: الكتمان قد قتلنى، و التحمّل أمرضنى، و النّظر إلى هؤلاء الظالمين قد أسقمنى، و لن يخفى عليك شيء من أمري و ما حلّ بى و بأهلك و عشيرتك و مواليك و أقاربك: من قتل الرّجال، و ذبح الأطفال، و هتك النسوان، و حمل حريم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على الأقتاب بغير غطاء و لا وطاء، يطاف بهم البلدان، فأيّ عين لا ترقا مدامعها، و أىّ قلب لا يتفجع عليهم، فاستوف لهم الدّماء، و اضرب بحسامك العدى، و خذ بالثّار من الظلمة لأئمة الهدى و مصابيح الدّجى، و سادة الآخرة و الاولى.
ثمّ إنّ سديفا بكى و أنشأ يقول:
يحقّ لي أن ادم ما عشت في حزن
أجرى الدّموع على الخدّين و الذّقن
يا آل أحمد ما قد كان حزبكم
كأنّ حزبكم في النّاس لم يكن
رجالكم قتلوا من غير ذى سبب
و أهلكم هتكوا جهرا على البدن
سكينة لست انسيها و قد خرجت
في هيئة فجعة من شدّة الحزن
أبكي الحسين أم أبكي نسوة هتكت
أم ابكي فاطمة أم ابكي الحسن
أم ابكى ليث الوغافي الروع حيدرة
أم ابكى ابن رسول اللّه ذى المنن
اشكو إلى اللّه ما ألقاه من امم
ما أرتضى منهم بالفعل و السّنن
قال فعند ذلك بكى السّفاح بكاء شديدا و زاد عليه الأمر حتى اصفرّ لونه و نادى بأعلى صوته: وا محمّداه وا عليّاه وا سيّداه وا قوماه وا أهلاه و اعشيرتاه و بكى سديف حتّى اغمى عليه.
فلمّا أفاق قال له السّفاح: يا سديف قد بلغ الكتاب أجله، و قد حان و قرب ما تؤمله فكان بي و قد اطلقت لك السّبيل تضرب بسيفك في أعراضهم كيف شئت.
قال سديف: أما و اللّه لان أطلقت لي السّبيل لأرضينّ الجليل، و آخذ منهم ثار الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ارضينّك يا مولاى.
قال له السّفاح: نم ليلتك قرير العين و أتنى في غداة غد اعطيك أملك، و ابلغك رجاك.
قال: فبات سديف في تلك أرقا قلقا يدعو ربّه و يسأله تمام ما وعده السّفاح.
ثمّ إنّ السّفاح لمّا أصبح ذلك اليوم سّماه يوم النيروز و هو الذى سمّاه بنو العبّاس نوروز القتل لأنه اليوم الذى قتل السفاح فيه بنى امية و سنّ تلك بني العباس، فأمر السّفاح مناديا ينادي، إنّ أمير المؤمنين أبا العبّاس السّفاح قد بسط الأنطاع، و صبّ عليها خزائنه و قال: اليوم يوم عطاء و جوائز، و ضربت البوقات و الطّبول، و نشرت الرايّات و خفقت الأعلام.
ثمّ انّ السّفاح نصب سرير ملكه و زيّن قصره و بسط الأنطاع بين يديه، و أفرغ الدّنانير و الدّراهم و الأسورة و مناطق المراكب الثقال من الذهب و الفضّة.
قال: فلما فرغ من ذلك، و رتب الزينة و العدّة عمد إلى أربع مأئة من غلمانه أشدّهم و أشجعهم، فدفع إليهم الأعمدة و السّيوف، و قال لهم: كونوا في الخبرة و أسبلوا عليكم السّتور، فاذا رأيتموني قد جلدت بقلنسوتي الأرض اخرجوا وضعوا السّيوف في رقاب كلّ من ترونه و لو كانوا من بني عمّي.
قالوا: سمعا و طاعة، و قرّر معهم الوصيّة، فلما تعالى النّهار أقبل إليه النّاس في الزّينة و البهجة الحسنة للسلام و العطاء.
قال: و أقبل بنو اميّة حتّى تكاملوا السّبعين ألف من آل يزيد و آل مروان فلمّا بلغوا القصر نزلوا عن خيولهم و دفعوا عدادهم و سيوفهم إلى عبيدهم و دخلوا على جارى عادتهم و هم يرفلون في حللهم و أثوابهم و لم يعلموا ما يراد بهم، و يزعمون أنّهم مسرورون.
قال: و كان فيهم رجل من جلساء السّفاح و كان شاعرا و قد مدح السّفاح بقصيدة حسنة، و قد أجازه السّفاح عليها فقال له الحجاب الذين عرفوه: ارجع فما هو يوم عطاء و إنّما هو يوم مكر و خداع، فلا تورد نفسك مورد الهلاك و الموت، فقد رأينا أمير المؤمنين قد أعطاك و أرضاك، فما نحبّ أن تقع في الهلاك، قال: رضيت أن أرد مورد قومى، و أصدر مصدرهم، فقالوا له: ادخل إلى اللعنة و الخزى، فدخل مع القوم على مراتبهم.
و صعد السّفاح إلى أعلى البيت و هو متقلّد بسيفه، ثمّ التفت إلى بني اميّة فقال: هذا اليوم الذى كنت أعدكم فيه الجزاء و العطاء فمن تحبّون أن أبدأ بالعطاء فقالوا ا ليقربوا إليه و يدخلوا في قلبه: يا أمير المؤمنين ابدء ببني هاشم واحدا بعد واحد، فانهم خير العالم و أرباب المراسم، فصاح السّفاح بعبد كان عن يمينه و قد أعلمه بما يريد و كان فصيح اللّسان فرفعه حتى صار دونه.
ثمّ قال له: ناد يا غلام بني هاشم واحدا بعد واحد حتى نجزل لهم العطاء و نحسن لهم الجوائز عن رضى بلا غضب.
فنادى الغلام برفيع صوته و قال: أين أبو عبيدة بن الحارث بن هاشم هلمّ إلينا فاقبض عطاك، فقال سديف: يا شيخ و أين أبو عبيدة بن الحارث، قال: و ما فعل اللّه به قال: قتله شيخ من هؤلاء القوم يقال له: شيبة بن ربيعة بن عبد الشّمس، فقال: ما علمت بذلك يا غلام اضرب على اسمه إذا غاب و ادع لنا غيره.
فنادى الغلام أين أسد اللّه و أسد رسوله حمزة بن عبد المطلب بن هاشم هلمّ إلينا و اقبض عطاك، فقال سديف: و اين حمزة فقال السّفاح: ما فعل اللّه به قال: قتله امرأة من هؤلاء القوم يقال لها هند بنت عتبة بن ربيعة في أحد، و ذلك لأنها أعطت الوحشى مولا حيدر بن طاهر عدة حتّى قتله، و أقبلت فشقت جوفه و أخذت كبدته لتأكلها فحوّلها اللّه تعالى في فيها حجرا فسمّيت آكلة الأكباد،فلمّا لم تقدر أن تأكلها قطعت أصابعه و جعلها قلّادة في عنقها، فقال السّفاح: ما علمت بذلك يا غلام اضرب باسمه إذا غاب و ادع لنا غيره.
قال فنادى الغلام أين عقيل بن عبد المطلب بن هاشم هلمّ إلينا و خذ عطاك، قال سديف: يا أمير المؤمنين و أين عقيل قال: و ما فعل اللّه به قال: قتله هؤلاء القوم و هو خارج من الشام يريد مدينة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، قال السّفاح: ما علمت بذلك يا غلام اضرب على اسمه إذا غاب و هات غيره.
فنادى الغلام أين مسلم بن عقيل هلمّ إلينا و اقبض عطائك، قال سديف: يا مولاى و أين مسلم بن عقيل قال: و ما فعل اللّه به قال: قتله هؤلاء القوم فأخذه عبيد اللّه بن زياد فرمى به عن قصر الامارة و ربطوا برجليه حبلا و جرّوه في أسواق الكوفة و نادوا هذا جزاء من خرج على خلافة بني امية و سبّوا آبائه و جدّه، قال: ما علمت بذلك يا غلام اضرب على اسمه إذا غاب و هات غيره.
فنادى الغلام أين أول الناس اسلاما و أفضل الوصيين و يعسوب الدين و الامام البطين على بن أبي طالب هلمّ إلينا و خذ عطائك، فقال سديف: يا مولاى و أين عليّ بن أبي طالب قال: و ما فعل اللّه به قال: قتله المرادي عبد الرّحمن بن ملجم و زيّن معاوية الشّام بقتله أيّاما و فرح فرحا شديدا فقال سفّاح: ما علمت بذلك يا غلام اضرب على اسمه اذا غاب و هات غيره.
فنادى الغلام أين ابن بنت رسول اللّه الحسن بن على بن أبي طالب عليهم السلام سيّد شباب أهل الجنة هلمّ إلينا فاقبض عطائك، فبكى سديف و قال: يا مولاى و اين الحسن بن عليّ بن أبي طالب قال السفاح: و ما فعل بولد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: قتلته جعدة امرأته بسمّ دسّه إليها معاوية من الشّام، فقال: ما علمت بذلك يا غلام اضرب على اسمه إذا غاب و هات غيره.
فنادى الغلام اين ابن بنت رسول الله و سيد شباب أهل الجنة الحسين ابن على بن أبى طالب عليهم السّلام هلمّ إلينا فاقبض عطائك، فبكى سديف و قال: يا مولاى و أين الحسين بن عليّ بن أبي طالب قال السفّاح: و ما فعل لولد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:
قال: قتله أمير هؤلاء الذين هم مقرّبون و هم على كراسيّ الذّهب و الفضة بحضرتك قاعدون، قتلوه بأرض كربلا عطشانا و الفرات ملآن، و أخذوا رأسه و جعلوه على رمح طويل و حملوه من الكوفة إلى أن أدخلوه دمشق إلى يزيد بن معاوية حتّى ندبته الجنّ، ثمّ رثاه رجل من بعض النّاس يقول:
هلال بدا و هلال أفل
كذلك يجرى صروف الدّول
فقال: ما علمت بذلك يا غلام اضرب على اسمه إذا كان غائبا و هات غيره.
و نادى الغلام و اين العباس بن على بن أبى طالب أخو الحسين عليهم السّلام هلمّ إلينا فاقبض عطائك، فقطع سديف عليه الكلام، ثمّ قال: كأنّك يا أمير المؤمنين تريد تؤاخذ هؤلاء القوم بما فعلوا أو تجازيهم بما صنعوا هؤلاء الذين ذكرتهم بكأس المنية قتلهم هؤلاء بأرض كربلا جياعا عطاشا عرايا، قال السّفاح: ما علمت بذلك يا غلام اضرب على اسمه إذا غاب و هات غيره.
فقال الغلام و أين زيد بن على بن أبي طالب هلمّ إلينا فاقبض عطائك، قال سديف: يا مولاى و أين زيد قال السّفاح: و ما فعل اللّه به قال: قتله واحد من هؤلاء القوم يقال له هشام بن عبد الملك بن مروان، و صلبه منكوسا و عششت الفاختة جوفه، ثمّ إنهم بعد ذلك أحرقوه بالنار و سحقوا عظامه في الهاون و ذروه في الهوى فاجتمع على وجه الماء ثمّ غاص و خرج خلقا سويّا و هو ينادى برفيع صوته إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ و قتلوا ولده من بعده و قبره هنالك، فقال السّفاح: ما علمت بذلك يا غلام اضرب على اسمه و هات غيره.
ثمّ قال: إنّ هؤلاء ساداتنا عاشوا سعداء و ماتوا شهداء بأسياف العدى.
ثم نادى الغلام: اين الامام ابراهيم بن محمد بن عبد اللّه بن العباس هلمّ إلينا و اقبض عطائك، فسكت سديف و لم يعد قولا و لا ردّ جوابا، و أيقن بنو اميّة بالهلاك، لأنّهم هم الذين قتلوه، فقال السّفاح: و يلك يا سديف كنت إذا ذكر لك رجل من بني هاشم تسرع في الجواب فما لك قد عجزت عن الخطاب عند ذكر أخى قال: لأنّى أستخيى أن اقابلك فأواجهك بما قد فعل بأخيك، فقال السفّاح: سألتك باللّه إلّا ما تخبرني ما فعل بأخي، قال: قبضه رجل من هؤلاء القوم يقال له مروان و أدخل رأسه في جراب بقر و ركب في أسفله كور الحدّادين و أمر النافخ أن ينفخ و الجلّاد يجلد حتّى ضربه عشرة آلاف سوط في ثلاثة أيّام فقام من أوسط القوم رجل يقال له: يزيد بن عبد الملك و قال: يا و يلك يا عبد السّوء لقد عظم تعريضك على بني اميّة لقد أشرف أمير المؤمنين على هلاكنا أجمع فقال: إنّ مقصودى ذلك، فرهق السّفاح لسديف بمؤخّر عينيه و قد امتلاء حنقا و غيظا ثمّ أنشأ يقول:
حسبت اميّة أن سترضى هاشم
عنها و يذهب زيدها و حسينها
كذبت و حقّ محمّد و وصيّه
حقا ستبصر ما يسىء ظنونها
ستعلم ليلى أىّ دين تداينت
و أىّ ديون في البرايا ديونها
قال: ثمّ إنّ السّفاح بكى و علا صياحه، ثمّ خلع قلنسوته عن رأسه و جلد بها سرير ملكه، و نادى: يا لثارات الحسين، يا لثارات بني هاشم، يا لثارات بني عبد المطلب قال: فلمّا نظر الغلمان إلى السّفاح و فعاله فتحوا أبواب الخزاين و خرجوا و في أيديهم السيوف و الأعمدة فوضعوها في رقاب بني امية فعاد الشاعر يدور بينهم يمينا و شمالا و هو يقول: أنا الذي مدحت السّفاح فقال السّفاح لو لم تكن منهم لما دخلت معهم، فقتله السّفاح بيده، و جرّد سيفه و عاد يضرب يمينا و شمالا فلم تكن إلّا ساعة أو كحلب ناقة حتى قتلوا عن آخرهم.
فبينما العبيد و الخدم و الغلمان حول القصر إذ خرج إليهم الدّم من الأفنية و امتلاء البواليع من دماء القتلى كأنّه السّيل أو كأفواه القرب، فعظموا ذلك و أنكروه.
فلمّا فرغ السّفاح من القوم أمرهم أن يجمعوا القتلى و يجعلوهم مثل المصطبة و يفرشوا فوقهم الأنطاع، ففعلوا ذلك و جلس عليها السّفاح و سديف و جماعة من بني هاشم و حشمه.
ثمّ أمر بالموائد فنصبت، و نقلوا إليها الطعام فأكل السفاح و أهله و قومهو جعل القتلى يضطربون من تحتهم.
ثمّ أقبل السّفاح على سديف و قال له: برّد ما بقلبك من الغليل فقال: و اللّه يا سيدى ما أكلت أطيب من أكلتى هذه أبدا.
ثمّ انّ سديف قال: و اللّه لقتل هؤلاء القوم و كبرائهم و أشرافهم في منازلهم قد تفرقوا في أقطاعهم و أعمالهم، قال: يا سديف ليت شعرى ما أخرج هؤلاء القوم خفت أن يعلموا ما حلّ بقومهم فينهزموا شرقا و غربا و سهلا و جبلا، و لكن يا سديف الذي عمل هذه الحيلة قادر أن يعملها على الباقين حتى لا يبقى منهم صغير و لا كبير على وجه الأرض فقال سديف: فيها يكون زوال القرحة.
فقال السّفاح: يا سديف سترى منّي حيلة ما سبقني إليها أحد و تبلغ ما تحبّه، فأحضر الصّناع فقا لهم: امكّنكم من الأموال و من كلّ ما تريدون ثمّ رسم لهم الأساس فحفروه و كانوا ألف و خمس مأئة صانع، فلمّا فرغوا من حفر الأساس نقل على الحمير و البغال الملح و سدّ به الأساس و لم يزالوا كذلك حتّى اكتفا الاساس من الملح.
ثمّ أمرهم أن يجعلوا اللّبن فوق الملح ففعلوا ذلك و استحلف الصناع بالايمان المغلّظة أنّهم لا يفشون ذلك إلى أحد و أنهم متى فعلوا ذلك حلّ دمائهم و أموالهم فكتموه و لم يظهروه و وعدهم أن يجزل لهم العطا و أمرهم أن يكونوا في جوانب القصر و أن يخرقوا مجارى القصر للماء إلى الأساس و يصبروا عليه إلى وقت الحاجة ففعلوا ذلك و أحكموه.
ثمّ انّهم أخذوا في البناء و العمل و رتّب قوما في البناء و قوما في عمل المقاصير و قوما في السّقوف و قوما في التجصيص و قوما يزوّقون الأبواب بالذّهب و الفضّة و قوما في تحت العاج و الآبنوس، فما مضت عليهم إلّا أيّام قلائل حتّى فرغوا من القصر و سقوفه و جميع آلاته، و رفعوا مجالسه و ركبوا أبوابه و أضاءوا مقاصيره، فلما فرغوا من جميع ذلك علّقوا السّتور الملوّنة.
ثمّ إنهم فرشوه و زيّنوه و حملوا إليه جميع الآلات الحسنة الرّفيعة الغالية من أفخر ما يكون، ثم أذّن للناس بالدّخول و التّفرّج و التّنزّه فيه، فدخل الخاص و العام و جنح إليه الناس من جميع الأقطار يتعجّبون من حسنه و كماله.
و دخل بنو اميّة أوّلهم و آخرهم صغيرهم و كبيرهم، فلما نظروه و عاينوه حاروا و دهشوا و تخالفوا أنه أشبه بارم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد.
و جعلوا يقولون لمن عمل هذا القصر و اعدّت هذه الآلات المفتخرة و الزينة، فقال قوم: لا شك إنه يكون هذا القصر لأخيه أبي جعفر المنصور، و قال آخرون: ما هو إلّا لعمّه صالح، و اختلف أقاويلهم فيه.
و بلغ ذلك أبا العباس السّفاح فركب إليهم و قال: يا بني اميّة سيروا إلىّ حتى أجزل لكم العطاء، و افضّلكم على العرب و السّادات من ذوى الرتب، فنفروا منه نفورا عظيما، فبعث إليهم يقول: يا بني اميّة ما عملت هذا القصر إلّا لكم فاطمئنّوا بكلامي و ثقوا بما أقول، فانّ قومكم أخبروني بما دخل قلوبكم من الاضطراب و أنّكم تتخلّفون فزعا منى و من سطوتى و بأسى، و من يمنعني منكم إذا أردت بكم بأسا، فادخلوا القصر و لا تدخلونه إلّا و هو لكم و أنا أحلف لكم باللّه و رسوله إنّه لكم.
قال: فلمّا جائتهم البشارة اطمأنّوا بها و قال بعضهم: يا ويلكم اسعوا إلى مقاصيركم و منازلكم لكن ألبسوا سلاحكم و شدّوا عدّتكم، فان ثار عليكم أحد من النّاس القوه، ثمّ إنّكم إن تحصّنوا في هذا القصر لا يقدر عليكم أحد، فقالوا هذا هو الرّأى و الصواب الذى ليس فيه ارتياب، و قال بعضهم: إنا نخشى أنا إذا حصلنا توثق علينا أبوابه و تركب علينا العساكر فنحاصر في القصر فتصير المقاصير و الأحجار قبورنا، فقال أحدهم: هيهات هيهات ما يكون ذلك أبدا، لأنّه رجل و له اتصال برسول اللّه و هو زعيم القوم و خليفة اللّه على خلقه.
ثمّ اجتمع رأيهم على الانتقال إلى القصر و شاع في النّاس أنّه لم يرقطّ أحلم من السّفاح، لأنه عمد إلى قوم قتلوا أسلافه و عشيرته فأقطعهم القطايع و بنى لهم الجنان و رفع لهم المراتب.
قال: فأقبلت إليه السّادات ينقلون إلى القصر واحدا بعد واحد يتسابقون إليه و كلّ واحد يطلب له موضعا، فاذا استوى الرّجل في مقامه لم يغالبه فيه أحد ثمّ إنّهم لم يطمئنوا حتى أو قفوا نفرأ مع عبيدهم على الباب بالسّلاح مخافة الكبسة.
فلمّا تكاملوا أمر السّفاح أن يبسط لهم البسطو عمل سماطا«» حسنا، و أكثر من الذبائح و الحلاوات ثمّ إنه أجلس القوم على الموائد و جاء إليه الناصح من خلف ظهره و أعلمه بأنّهم كلّهم قد حصلوا في القصر إن أردت أن تقتلهم فافعل فما بقى من أعداء اللّه و رسوله إلّا و قد حضر في القصر.
فلم يكن إلّا ساعة حتّى إذا دار الماء بجوانب القصر و ذاب الملح و القوم في القصر على الموائد ما يدرون ما حلّ بهم فارتجّ القصر و انصدع فهمّوا بالهزيمة فتصايحت حيطانه و انهدمت أركانه و اهتزّت العمد ففزع القوم من ذلك و دهشوا و وضعوا رؤوسهم على ركبهم و ظنّوا أنّ الأمر من السّماء قد نزل بهم، فقال قائلهم: قد اخذنا بما كان منا، فهم فى الكلام إذ سقطت الجدران و انهدمت الأركان و وقع القصر عليهم بأجمعهم فعجّل اللّه بأرواحهم إلى النّار و بئس القرار، فهلكوهم و عبيدهم و امائهم و نسلهم و ذراريهم فكأنما الأرض قد ابتلعتهم.
و بلغ ذلك السّفاح، فركب و ركب سديف معه و ساروا إلى القصر فوجدوهم قد هلكوا، فسجدوا للّه شكرا.
فقال السّفاح لسديف: هل أخذت بثارك و ثار مواليك فقال سديف: و اللّه لو قتل مثل هؤلاء ألف ضعف ما وفى و لا عدل شسع نعل الحسين عليه السّلام و لا لأحد من مواليه عليه السّلام، و قد بلغنى أنّ بالشام خلقا كثيرا من الامويين و أنّ دمشق مملوّة منهم و من أكابرهم فأنا أرجو من اللّه أن لا يفوتني منهم أحد.
فقال السّفاح قلت في هذا المعنى شيئا يا سديف قال، نعم يا مولاى و اسمع ما أقول:
ألا أبلغن سادات هاشم معشرى
و جمع قريش و القبايل من فهر
تميما و مخزونا و أبناء غالب
و سكّان بيت اللّه و الركن و الحجر
و من كان منهم بالمدينة ثاويا
قريبا من النور المغيب في القبر
و من بالقرى افدى و من سكن الغرى
وصيّ نبي صاحب النهى و الأمر
و من سكن الطفّ المعظّم قدره
حسين الرضا المدفون فى البلد القفر
و من حوله من أهله و مواليه
و اخوته من خير نسل و من طهر
بأنّ سديفا قد شفى اللّه قلبه
بزرق طوال ثمّ مرهفة تبر
فعلت أبا العبّاس فعل أهالك
فأوفيت ما أنذرت في سالف الدهر
من أخذ لثارات الحسين بن حيدر
و فاطمة و السّبط الحسن البرّ
و من حلّ بالنهرين في أرض كربلا
و من حوله صرعى من الأنجم الزهر
سلام و رضوان على سادة الورى
خيار بني حوّا و آدم ذو الطهر
صلاة من الرحمن تغشى أئمة
هداة اصيبوا بالخديعة و المكر
فاحمد أبا العبّاس يا خير ناصر
سديف يرجى منك أن تجلى الفقر
و تجلى كما أجليت منهم قلوبنا
فقد أيّدك ربّ البرية بالنّصر
على الارض منهم لا تخلّى واحدا
و اشف نفوسا صادعات من الضرّ
فانّك منصور و نور مشرق
و حسبك إنّ الحقّ أيّدك بالنصر
و كم كربة أجليتها من قلوبنا
بعزم و تأييد تساوى البحر
فيا ساير الأذقان خرّوا و سجّدوا
لهيبة أبي العباس في الليل و الفجر
و لا تقنطوا من فضل من بان فضله
فمنه إليكم يعقب النهى و الأمر
على ظالميهم لعنة اللّه ما دجى
سحير و ما أضواه ليل من الهجر
قال أبو مخنف: ثمّ إنّ السفاح رجع إلى قصره و بات تلك اللّيلة فرحانا مسرورا بما أنا له اللّه من العزّ و الهيبة.
فلمّا أصبح دعا بعمّه صالح بن عبد اللّه بن العبّاس، و عقد له لواء على عسكر و اختار من خيار فرسانه و أمره بالمسير إلى الشّام و قال له: و كلتك دمشقو أعمالها فسر إليها و جاز المحسن على إحسانه و المسيء على قدر اسائته، و انظر إلى من بيننا و بينه معاداة فلا تقصر في إهلاكه و دماره، و هذا سديف عندنا فخذه في صحبتك فقد علمت نصحه و مروته فلا تمنعه أمرا يريده و امنه على صحبتك و عشيرتك.
فقال صالح: حبّا و كرامة و لو لم توص به لكان حقا علىّ أن لا أفعل شيئا حتّى اوقعه عليه و اشاوره فيه.
فلمّا سمع السّفاح كلام عمّه شكره و جزاه خيرا و جرّد الجيش معه و ضمّ إليه سديفا و ساروا جميعا يجدّون في سيرهم حتّى دخلوا دمشق فلمّا دخلوها و جلسوا دار الامارة جعل يرتّب الأعمال في المواضع من أعمالها.
فلما استقرّ أمره جعل يسأل عن أولاد يزيد و آل مروان بن الحكم فيحضرون بين يديه، و كان يقطعهم القطايع الجيّدة و يعطى لكلّ منهم ما يطلبه، و سديف يستأذن فيهم و يحمل عليهم فيبيدهم ضربا و طعنا حتى قتل منهم بدمشق ثلاثين ألفا و هو يقول: و اللّه لو قتلت أضعافا مضاعفا من بني اميّة بل كلّ من طلعت عليه الشمس منهم لما وا فى شسع نعل مولى الحسين عليه السّلام.
و بلغ السّفاح ما فعل سديف فسرّه ذلك، فكتب إلى سديف كتابا و أعاد فيه الشعر الذي قاله فيه قبل سيره مع صالح، فلما فعل صالح ما فعل و قتل من بقى من بني اميّة انهزم قوم منهم إلى الساحل و ركبوا البحر طالبين إلى بلاد العرب، فجعل يتابعهم و يأخذ خبرهم فاخبر أنهم ركبوا البحر، فبعث خلفهم سريّة و قتل كلّ من انهزم و لم يسلم منهم أحد إلّا قوم ترسموا بزينة النّسوان و هم الملثّمة إلى يومنا هذا.
فلمّا عاد صالح إلى دمشق و فى بنذر السّفاح و كان قد نذر أنّه متى أفنى بني اميّة أن يخرب ديارهم، فأخربها جميعا و لم يبق لهم غير الجامع نعمان و دام ملك بني العباس إلى أن ملك منهم أربعون.
حتّى تمّ قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعمّه العبّاس لما قال له: يابن أخى رأيت كان قد ظهر من دبرى أربعون زنبورا، فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، يا عمّ سيظهر لك من مليك اربعون رجلا و يأخذون الخلافة، فحزن العباس و هجم نفسه، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا يا عمّ فقد قضى الأمر و حقّ بالقول و كان ذلك في الكتاب مسطورا.
أقول: هذا ما انتهى إلينا من خبر السّفاح و سديف و انقراض الدولة الأموية و رويته كما وجدته و لم يكن النسخة التي نقلنا منها خالية من السّقم و الاختلال فأصلحت ما أمكن بحسب ما أدّى إليه النّظر، و أستعيذ باللّه من هفوات اللّسان و زلّات البيان.
و قد روى الشارح المعتزلي في الشرح بعض الرّوايات في هذا المعنى من كتاب الكامل للمبرّد، و كتاب الاغاني لأبي الفرج الاصفهاني، و مروج الذّهب للمسعودى و غيرها على غير نظم و ترتيب، و استطرفت بعض ما اوردها، لاشتماله على أشعار جيدة و أحببت أن لا يخلو الشرح منها.
فأقول: في الشّرح سئل بعض شيوخ بني اميّة عقيب زوال الملك عنهم ما كان سبب زوال ملكهم فقال: جار عمّالنا على رعيتنا فتمنّوا الراحة منّا، و تحومل على أهل خراجنا فحملوا عنّا، و خربت ضياعنا فخلت بيوت أموالنا، و وثقنا بوزرائنا فآثروا مرافقهم على منافعنا، و امضوا امورا دوننا أخفوا علمها عنّا، و تأخّر عطاء جندنا فزالت طاعتهم لنا، و استدعاهم عدوّنا فظافروه على حربنا، و طلبنا أعدائنا فعجزنا منهم لقلّة أنصارنا، و كان استتار الأخبار عنا من أوكد أسباب زوال ملكنا و فيه لما أتى أبو العباس برأس مروان سجد فأطال، ثمّ رفع رأسه و قال: الحمد للّه الذي لم يبق ثارنا قبلك و قبل رهطك، الحمد للّه الذي أظفرنا بك و أظهرنا عليك، ما ابالى متى طرقنى الموت، و قد قتلت بالحسين عليه السّلام ألفا من بني اميّة و احرقت شلو هشام بابن عمّي زيد بن عليّ كما أحرقوا شلوه و تمثّل:
لو يشربون دمى لم يروشا ربهم
و لا دمائهم جمعا تروّيني
ثمّ حوّل وجهه إلى القبلة فسجد ثانية ثمّ جلس فتمثّل:
أيا قومنا ان تنصفونا فأنصفت
قواطع في أيماننا تقطر الدّما
إذا خالطت هام الرجال تركتها
كبيض نعام في الثرى قد تحطما
ثمّ قال: فأمّا مروان فقتلناه بأخى إبراهيم، و قتلنا ساير بني اميّة بحسين عليه السّلام و من قتل معه و بعده من بني عمّنا أبي طالب.
و فيه عن أبي الفرج الاصفهاني قال حدّث الزبير بن بكار عن عمه أنّ السّفاح «سديفا ظ» أنشد يوما قصيدة مدح بها أبا العباس و عنده قوم من بني امية كان آمنهم على أنفسهم فأقبل على بعضهم فقال: أين هذا مما مدحتم فقال: هيهات و اللّه لا يقول أحد فيكم مثل قول ابن قيس الرقيات فينا:
ما نقموا من بني اميّة إلّا
أنهم يحلمون إن غضبوا
و أنهم معدن الملوك فما
تصلح إلّا عليهم العرب
فقال له يا ماص كذا من امّه و انّ الخلافة لفى نفسك بعد خذوهم فاخذوا فقتلوا و روى أبو الفرج أيضا أنّ أبا العباس دعا بالغداحين قتلوا و أمر ببساط فبسط عليهم فجلس فوقه يأكل و هم يضطربون تحته، فلما فرغ قال ما أعلم أنى أكلت أكلة قط كانت أطيب و لا أهنأ في نفسي من هذه، فلما فرغ من الأكل قال: جرّوا بأرجلهم و ألقوهم في الطّريق ليلعنهم الناس أمواتا كما لعنوهم أحياء، قال: فلقد رأينا الكلاب يجرّ بأرجلهم و عليهم سراويلات الوشى حتّى انتنوا، ثمّ حفروا لهم بئرا فالقوا فيها.
و فيه عن أبي الفرج أيضا في كتاب الأغاني إنّ سديفا أنشد أبا العباس و عنده رجال بني اميّة فقال:
يابن عمّ النّبيّ أنت ضياء
استنبابك اليقين الجليّا
جرّد السيف و ارفع العفو حتى
لا ترى فوق ظهرها امويّا
قطن البغض في القديم و أضحى
ثابتا في قلوبهم مطويّا
و هى طويلة فقال أبو العبّاس: يا سديف خلق الانسان من عجل، ثمّ انشد أبو العبّاس متمثّلا:
احيى الضّغاين آباء لنا سلفوا
فلن تبيد و للآباء أبناء
ثمّ امر بمن عنده فقتلوا.
قال أبو الفرج و أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال: أنشدني محمّد بن يزيد المبرّد لرجل من شيعة بني العباس يحضّهم على بني امية:
ايّاكم أن تلينوا لاعتذارهم
فليس ذلك إلّا الخوف و الطّمع
لو انهم أمنوا أبدوا عداوتهم
لكنهم قمعوا«» بالذّلّ فانقمعوا
أليس في ألف شهر قد مضت لهم
سقيتم جرعا من بعدها جرع
حتّى إذا ما انقضت أيّام مدّتهم
متوا اليكم بالأرحام التي قطعوا
هيهات لا بدّ أن يسقوا بكأسهم
ريّا و أن يحصدوا الزرع الذى زرعوا
إنا و اخواننا الأنصار شيعتكم
إذا تفرّقت الأهواء و الشيع
و فيه دخلت احدى نساء بني امية على سليمان بن عليّ و هو يقتل بني امية بالبصرة فقالت: أيها الأمير إنّ العدل ليملّ من الاكثار منه و الاسراف فيه، فكيف لا تملّ من الجور و قطيعة الرحم فأطرق، ثمّ قال لها:
سننتم علينا القتل لا تنكرونه
فذوقوا كما ذقنا على سالف الدّهر
ثمّ قال: يا أمة اللّه أوّل راض سنة من يسيرها ألم تحاربوا عليّا و تدفعوا حقّه ألم تسمّوا حسنا عليه السّلام و تنقضوا شرطه ألم تقتلوا حسينا و تسيروا رأسه ألم تقتلوا زيدا و تصلبوا جسده ألم تقتلوا يحيى و تمثلوا به ألم تلعنوا عليّا عليه السّلام على منابركم ألم تضربوا أبانا عليّ بن عبد اللّه بسياطكم ألم تخنقوا الامام بجراب النورة في حبسكم ثمّ قال: ألك حاجة قالت: قبض عمّالك أموالي، فأمر بردّ أموالها عليها.
و فيه لما استوسق الأمر لأبي العباس السّفاح و فد اليه عشرة من امراء الشام فحلفوا له باللّه و بطلاق نسائهم و بايمان البيعة أنّهم لا يعلمون إلى أن قتل مروان أنّ لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أهلا و لا قرابة إلّا بني اميّة.
أقول و ذلك لأنهم أرادوا أن يطفئوا نور اللّه بأفواههم فأبى اللّه إلّا أن يتمّ نوره و لو كره الكافرون، و سيعلم الذين ظلموا أىّ منقلب ينقلبون
الترجمة
از جمله خطب بليغه آن حضرتست كه صدر آن متضمن بيان محامد حضرت رسالت مآب صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و ذيل آن اشاره است بأحوال بني اميه لعنهم اللّه و مآل كار ايشان چنانچه فرموده: تا آنكه مبعوث فرموده خداوند متعال محمّد مصطفى را در حالتي كه شاهد بود بر امّتان، و بشارت دهنده بود بمطيعان، و ترساننده بود عاصيان را، كه بهترين خلايق بود در حال كودكى، و كريمترين مردمان بود در حال پيرى، پاكيزهترين پاك شدگان بود از حيثيت طبيعت، و بخشندهترين اشخاصى بود كه از ايشان اميد باران احسان گرفته شود از حيثيت بارش.
پس شيرين نشد از براى شما دنيا در لذّتهاى خود، و متمكن نشديد از مكيدن پستانهاى آن مگر بعد از اين كه يافتيد آنرا و رسيديد بآن در حالتى كه در جولان بود مهار آن، و مضطرب بود تنگ پالان آن.
بتحقيق كه گرديده بود حرام آن در نزد طايفه بمنزله درخت سدر پر بار خالى از خار، و حلال آن دور بلكه غير موجود در نزد أهل روزگار، و يافتيد آنرا قسم بخدا در حالتى كه سايه بود كشديده شده تا وقت شمرده شده، پس صفحه زمين از براى شما خاليست از معارض و مانع، و دستهاى شما در آن گشاده شده است و دستهاى پيشوايان از شما باز داشته شده، و شمشيرهاى شما برايشان مسلّط است و شمشيرهاى ايشان از شما باز گرفته شده.
آگاه باشيد بدرستى كه هر خونى را خونخواهى است، و هر حقى را طالبى هست، و بدرستى كه طالب قصاص در خونهاى ما همچه حكم كننده ايست در حق نفس خود و آن عبارتست از حق سبحانه كه عاجز نمىكند او را كسى كه او سبحانه طلبكند او را، و فوت نمىشود از او كسى كه فرار نمايد از او.
پس سوگند مىخورم بخداى لايزال أى بني اميه پس از زمان اندكى هرآينه البته مىشناسيد دنيا را يا خلاف و امارت را در دستهاى غير خودتان و در خانه دشمنان خود كه عبارتست از بني عباس كه انتقال خلافت بايشان شد.
الفصل الثاني
ألا إنّ أبصر الأبصار ما نفذ في الخير طرفه، ألا إنّ أسمع الأسماع ما وعي التّذكير و قبله، أيّها النّاس استصبحوا من شعلة مصباح واعظ متعّظ، و امتاحوا من صفو عين قد روّقت من الكدر، عباد اللّه لا تركنوا إلى جهالتكم، و لا تنقادوا إلى أهوائكم، فإنّ النّازل بهذا المنزل نازل بشفا جرف هار، ينقل الرّدى عن ظهره من موضع إلى موضع لرأي يحدثه بعد رأي، يريد أن يلصق ما لا يلتصق، و يقرّب ما لا يتقارب، فاللّه اللّه أن تشكوا إلى من لا يشكى شجوكم، و لا ينقض برأيه ما قد أبرم لكم، إنّه ليس على الإمام إلّا ما حمّل من أمر ربّه: الإبلاغ في الموعظة، و الاجتهاد في النّصيحة، و الإحياء للسّنّة، و إقامة الحدود على مستحقّيها، و إصدار السّهمان على أهلها، فبادروا العلم من قبل تصويح نبته، و من قبل أن تشغلوا بأنفسكم عن مستثار العلم من عند أهله، و انهوا غيركم عن المنكر و تناهواعنه، فإنّما أمرتم بالنّهي بعد التّناهي.
اللغة
(الطرف) بالفتح نظر العين و (استصبح) بالمصباح استسرج به و (الامتياح) نزول البئر و ملؤ الدلاء منها و (الترويق) التصنفية و منه الرواق بالكسر و هو الصافي من الماء و غيره و (الشفا) شفير الشّيء و جانبه و (الجرف) بالضمّ و بضمّتين ما تجرّفته السّيول و أكلته من الأرض و (الهار) الضعيف الساقط المنهدم يقال هار الجرف يهور هورا فهو هائر و هار كقاض.
و (اشكيت) زيدا بهمزة الأفعال أزلت شكايته و (الشجو) الهمّ و الحزن و (ابرم) الأمر أى أحكمه، و الحبل أى جعله طاقين ثمّ فتله و (الاصدار) الارجاع من الصدر و هو الرّجوع و (السهمان) كالسهمة بالضّم فيهما جمع السهم و هو الحظ و النّصيب و (صوّح) النبت أى يبس و تشقّق أو جفّ أعلاه و (المستثار) مصدر بمعنى الاستثارة و هو الانهاض و التهييج.
الاعراب
مصباح في بعض النسخ بالتّنوين فيكون واعظ بدلا و في بعضها بلا تنوين بالاضافة، و على ذلك فيحتمل أن يكون الاضافة لامية و أن تكون من اضافة المشبّه به إلى المشبّه من قبيل لجين الماء، و فى نسخة الشارح المعتزلي من شعلة بمصباح واعظ بتنوين شعلة و اضافة مصباح مع الباء الجارة و هى باء الآلة منعلّقة باستصبحوا.
و ينقل الرّدى عن ظهره عن بمعنى على كما في قوله:
لاه ابن عمّك لا أفضلت في حسب
عنّى و لا أنت ديّانى فتخزوني
أى للّه درّ ابن عمّك لا أفضلت في حسب علىّ، و في أكثر النّسخ على ظهره و هو الأنسب، و قوله فاللّه اللّه بالنصب فيهما و العامل محذوف أى اتقوا اللّه، و احذرّكم اللّه و قوله الابلاغ في النّصيحة بالرفع بدل بعض من ما.
المعنى
اعلم أنه عليه السّلام لما نبّه في الفصل السّابق على تقصير المخاطبين من بني امية و من يحذ و حذوهم فيما يجب عليهم رعايته، و أشار إلى أنّ المقصرين في حقهم و الظالمين لهم و السّاعين في دمائهم مؤاخذون بتقصيرهم مجزيّون بسوء أعمالهم، عقّبه بهذا الفصل حثا لهم على طاعته و ملازمته، و ترغيبا على الاقتباس من أنوار هدايته، و تحذيرا من الركون إلى الجهالة و التيه في بوادى الرّدى و الضّلالة، و صدّر ذلك بذكر محاسن التفكّر و البصيرة توطئة و تمهيدا فقال: (ألا إنّ أبصر الابصار ما نفذ في الخير طرفه) أراد بنفوذه في الخير رؤيته المحاسن و اتباعها، فانّ أفضل ابصار البصر ما يفيد للمبصر بصيرة و يجلب له فايدة في تحصيل السّعادة الأبدية و الكمالات النفسانية (ألا إنّ أسمع الأسماع ما وعى التذكير و قبله) أى أفضل سماع الاسماع أن يحفظ التذكير و المواعظ و يتدبّر فيها فيقبلها.
(أيّها النّاس استصبحوا من شعلة مصباح واعظ متّعظ) أى استسرجوا من شعلة سراج واعظ لغيره متّعظ في نفسه، فانّ من لم يكن متّعظا في نفسه لا يكون موعظته مؤثرة في القلوب، بل تكون القلوب نافرة منه و النفوس مشمئزّة قال الشاعر:
لا تنه عن خلق و تأتى مثله
عار عليك إذا فعلت عظيم
و لا يخفى عليك أنّ اضافة مصباح إلى واعظ إن كانت من اضافة المشبّه به الى المشبّه فذكر الشعلة و الاستصباح ترشيح للتّشبيه و وجه الشبه كونهما من أسباب الهداية، و إن كانت الاضافة بمعنى اللام فلفظ المصباح استعارة لموعظة الواعظ و الشعلة و الاستصباح ترشيح الاستعارة، و يحتمل أن يكون ذكر الشعلة تخييلا و الاستصباح ترشيحا على ما ذهب إليه بعض البيانييّن من عدم الملازمة بين التخييل و الاستعارة بالكناية و إمكان وجوده بدونها، و كذلك لو كان مصباح منوّنا و واعظ بدلا منه إلّا أنّ المستعار له على الأوّل هو الموعظة، و على الثاني يحتمل أن يكون الموعظة و أن يكون نفس الواعظو كيف كان فالاشارة بالواعظ المتّعظ إلى نفسه الشريف و مثله قوله: (و امتاحوا من صفوعين قدر وقّت من الكدر) فانه استعار صفو العين للعلوم الحقة و هو من استعارة المحسوس للمعقول و الجامع أنّ العلم به حياة للأرواح كما أنّ صفو العين به حياة الأبدان و ذكر الترويق و الامتياح ترشيح للاستعارة أو الترويق تخييل و الامتياح ترشيح على ما مرّ و أراد الترويق من الكدر خلوّ تلك العلوم من شوائب الأوهام و بالامتياح أخذها من منبعها و هو أمر لهم باقتباس العلوم الشّرعية و المعارف الحقة منه عليه السّلام.
و لما أمر بذلك أردفه بالنهى عن الركون إلى الجهالة فقال عليه السّلام (عباد اللّه لا تركنوا إلى جهالتكم) أى لا تميلوا إليها (و لا تنقادوا إلى أهوائكم) أى الأهواء الباطلة المخرجة عن كرائم الأخلاق إلى رذائلها و عن حقّ المصالح إلى باطلها (فانّ النازل بهذا المنزل).
يحتمل أن يكون المراد به من ادّعى الخلافة من غير استحقاق لها الذي وضع نفسه في مقام و نزل بمنزل ليس له أهليّة به و يشعر بذلك ما سيأتي من نهيه عليه السّلام عن الشكاية إلى من لا يقدر على ازالة الشكوى و ما ذكر بعده من أوصاف الامام الحقّ عليه السّلام.
إلّا أنّ الأظهر بقرينة ما سبق أنّ المقصود به من نزل منزل الركون إلى الجهالة و مقام الانقياد إلى الأهواء، فانه لما نهى عن الركون و الانقياد علّله بذلك و أردفه به، يعني أنّ من ركن إلى جهالته و انقاد إلى هواه و استبدّ برأيه و استغنى به عن امامه فقد أسّس بنيان دينه على باطل لاقوام له و لاثبات.
و مثله مثل (نازل بشفا جرف هار) مشرف على السقوط و الانهدام و هو اقتباس من قوله سبحانه: أَ فَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَ رِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ يعني من أسّس بنيان دينه على قاعدة محكمة هى الحقّ الذي هو التّقوى من اللّه و طلب مرضاته بالطاعة خير أمّن أسّس بنيانه على قاعدة هى أضعف القواعد و هو الباطل و النفاق الذي مثله مثل شفا جرف هار في قلّة الثّبات و الاستمساك.
قال الزمخشري في الكشاف: وضع شفا الجرف في مقابل التقوى لأنّه جعله مجازا عمّا ينافي التقوى ثمّ قال: فان قلت: فما معنى قوله فانهار به في نار جهنّم قلت لما جعل الجرف الهائر مجازا عن الباطل قيل فانهار به في نار جهنّم على معنى فطاح به الباطل في نار جهنّم إلّا أنّه رشح المجاز فجيء بلفظ الانهيار الذى هو للجرف، و ليصوّر أن المبطل كأنّه أسّس بنيانه على شفا جرف من أودية جهنّم فانهار به ذلك الجرف فهوى في قعرها، و لا ترى أبلغ من هذا الكلام و لا أدّل على حقيقة الباطل و كنه أمره منه، هذا.
و لما نبّه عليه السّلام على أنّ الرّاكن إلى جهالته و المنقاد إلى هواه المستبدّ برأيه الزاعم لنفسه الاستقلال مقيم على باطل و نازل بمنزل في معرض السّقوط و التهدّم، و كان الباطل مستلزما للهلاك الدّائم، عقّبه بقوله (ينقل الرّدى) أى الهلاك الناشى عن باطله (على «عن» ظهره من موضع إلى موضع لرأى) فاسد (يحدثه بعد رأى يريد أن يلصق ما لا يلتصق و يقرّب مالا يتقارب) أى يريد اثبات باطله بحجج باطلة ثمّ حذّرهم عن الرّجوع إلى الجهّال و عن اتباع أئمة الضّلال بقوله: (فاللّه اللّه أن تشكوا إلى من لا يشكى شجوكم) أى لا يقدر على إزالة حزنكم برفع الأسباب الموجبة له، و ذلك لعدم بصيرته في مجارى الامور و عدم معرفته بوجوه المصالح (و لا ينقض برأيه ما قد أبرم لكم) أى لا يقدر على كشف المعضلات و حلّ المشكلات في المعاش و المعاد لقلّة البصيرة و المعرفة، و في بعض النسخ: و ينقض برأيه بدون لا، و هو أولى، أى لا تشكوا إلى من ينقض برأيه الفاسد و نظره الكاسد ما قد أحكمه الشرع في حقكم بالآيات الباهرة و السنة الزاهرة.
ثمّ لما نهاهم من الرجوع إلى من لا يتمكّن من إزالة الشّكوى و الشّجوى و لايستطيع حلّ المبرمات المغلقات، أردفه ببيان ما يجب على الامام بالنسبة إلى رعيّته ليعرفوا وظايف الامام و لوازم الامامة، فيتابعوا من اتّصف بها و يراجعوا إليه في أمر الدّين و الدّنيا، و يرفضوا غيره و ينتهوا عنه فقال عليه السّلام (إنه ليس على الامام) الحقّ (إلّا) القيام ب (ما حمّل من أمر ربّه) و هو امور خمسة: (الابلاغ في الموعظة، و الاجتهاد في النصيحة، و الاحياء للسنة، و إقامة الحدود على مستحقّيها، و إصدار السّهمان على أهلها) و من المعلوم أنه عليه السّلام قام بتلك الوظايف فأدّى ما حمّله و بالغ في الموعظة و النصيحة و كفى به شهيدا ما ضمنه خطبه الشريفة، و أحيى الشريعة و أمات البدعة، و أقام الحدود من دون أن يأخذه في اللّه لومة لائم، و عدل في القسمة شهد بكلّ ذلك المؤالف و المخالف.
و أمّا غيره عليه السّلام من المنتحلين للخلافة فقد قصّروا في ذلك و أحيوا البدعة، و فرّطوا في إجراء الحدود، و فضلوا في قسمة السّهام كما يظهر ذلك بالرّجوع إلى ما ذكره الأصحاب من مطاعنهم، و قد تقدّمت في غير موضع من الشرح و تأتي أيضا في مقاماتها اللّائقة، هذا.
و لعلّ غرضه من النفى أعني قوله عليه السّلام ليس على الامام إلّا ما حمّل قطع الأطماع الفاسدة و التوقّع للتفضّل في القسمة كما كان دأب المتخلّفين و ديدنهم.
و لمّا نهيهم عن الرّكون إلى الجهل و الرّجوع إلى قادة الضلال عرفهم ما يجب رعايته على الامام من لوازم منصب الامامة و أمرهم بالرجوع إليه و بالأخذ من قبسات علمه فقال عليه السّلام: (فبادروا العلم من قبل تصويح نبته) أى من قبل أن يجفّ نباته، و هو كناية عن ذهاب رونقه أو عن اختفائه بفقدانه عليه السّلام (و من قبل أن تشغلوا بأنفسكم عن مستثار العلم من عند أهله) أى من قبل أن تكونوا مشغولين بتخليص أنفسكم من شرور بني امية و فتنها التي ستنزل بكم عن استثارة العلم و تهييجه و استخراجه من عند أهله، و أراد بأهله نفسه الشريف (و انهوا غيركم عن المنكر و تناهوا عنه فانما امرتم بالنّهى بعد التّناهي).
قال الشارح المعتزلي: في هذا الموضع اشكال، و ذلك أنّ لقائل أن يقول النهى عن المنكر واجب على العدل و الفاسق فكيف قال: إنّما امرتم بالنّهى بعد التناهى و الجواب إنه لم يرد أنّ وجوب النهى عن المنكر مشروط بانتهاء ذلك الناهي من المنكر، و إنما أراد أني لم آمركم بالنّهى عن المنكر إلّا بعد أن أمرتكم بالانتهاء عن المنكر فالترتيب إنّما هو في أمره عليه السّلام لهم بالحالتين المذكورتين لا في نهيهم و تناهيهم.
فان قلت: فلما ذا قدّم أمرهم بالانتهاء على أمرهم بالنهى قلت: لأنّ إصلاح المرء لنفسه أهمّ من الاعتناء باصلاحه لغيره انتهى.
و أقول: لا حاجة إلى ما تكلّفه في الجواب، و الأولى أن يقال: إنّه عليه السّلام أمر بالنهى و التناهي معا أوّلا، و هو دليل على وجوب الأمرين كليهما، و اتبعه بقوله: فانّما امرتم بالنهى آه تنبيها على أنّ التناهى في نظر الشارع مقدّم على النّهى و وجوبه آكد، لأنّ إصلاح النفس مقدّم على إصلاح حال الغير، و لأنّ النهى إنما يثمر بعد التناهي، و يكون تأثيره في النفوس أقوى، و انفعال الطّبايع منه أشد أو آكد كما يشهد به العقول السليمة و التجربة المستمرة و توافقت عليه الشرائع و الآراء و دلّت عليه الأحاديث و الأخبار.
ففى الوسائل عن الكليني باسناده عن طلحة بن زيد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قوله تعالى.
فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ.
قال عليه السّلام كانوا ثلاثة أصناف: صنف ائتمروا و أمروا فنجوا، و صنف ائتمروا و لم يأمروا فمسخوا، و صنف لم يأتمروا و لم يأمروا فهلكوا.
و عن الصّدوق باسناده عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال في وصيّته لولده محمّد بن الحنفية: يا بني اقبل من الحكماء مواعظهم و تدبّر أحكامهم، و كن آخذ النّاسبما تأمر به، و أكفّ الناس عما تنهى عنه و أمر بالمعروف تكن من أهله، فانّ استتمام الامور عند اللّه تبارك و تعالى الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر.
و من الخصال مسندا عن محمّد بن أبي عمير رفعه إلى أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إنما يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر من كانت فيه ثلاث خصال: عامل بما يأمر به تارك لما ينهى عنه، عادل فيما يأمر عادل فيما ينهى، رفيق فيما يأمر رفيق فيما ينهى.
و من المجالس باسناده عن المفضل بن عمر قال قلت لأبي عبد اللّه الصّادق عليه السّلام بم يعرف الناجي فقال: من كان فعله لقوله موافقا فهو ناج، و من لم يكن فعله لقوله موافقا فانما ذلك مستودع.
و عن أبي حمزة عن عليّ بن الحسين عليهما السّلام في حديث وصف المؤمن و المنافق قال عليه السّلام: و المنافق ينهى و لا ينتهى و يأمر بما يأتي.
و عن الارشاد للحسن بن محمّد الدّيلمي قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: رأيت ليلة أسرى بي إلى السماء قوما تقرض شفاههم بمقاريض من نار ثمّ يرمى، فقلت يا جبرئيل من هؤلاء فقال: خطباء امّتك يأمرون النّاس بالبرّ و ينسون أنفسهم و هم يتلون الكتاب أفلا يعقلون.
و الرّوايات في هذا المعنى كثيرة و فيما رويناه كفاية لمن له دراية، و في هذا المعنى قال أبو الأسود الدّئلي:
و إذا جريت مع السّفيه كما جرى
فكلا كما في جريه مذموم
و إذا عتبت على السّفيه و لمته
في مثل ما تأتى فأنت ظلوم
لا تنه عن خلق و تأتى مثله
عار عليك إذا فعلت عظيم
و ابدء بنفسك فانهها عن عيبها
فاذا انتهيت عنه فأنت حكيم
فهناك يقبل ما و عظت و يقتدى
بالعلم منك و ينفع التعليم
و اللّه الهادي و هو الموفق.
الترجمة
فصل دويم از اين خطبه متضمن نهى از ركون بجهالت و أمر باقتباس أنوار علم و هدايت است چنانچه فرموده: آگاه باشيد بدرستى كه بيناترين چشمها آن چشمى است كه نفوذ كند در أمر خير نظر با بصيرت او، آگاه باشيد بدرستي كه شنواترين گوشها آن گوشى است كه حفظ كند نصيحت را و قبول نمايد آنرا.
اى گروه مردمان طلب افروختن چراغ نمائيد از شعله چراغ پند دهنده و پند گيرنده، و بكشيد دلو آب معرفت را از چشمه صافي زلال كه صافى شده باشد از كدورت و تيرهگى شبهات باطله.
اى بندگان خدا ميل ننمائيد بسوى جهالت خود، و اطاعت نكنيد مر خواهشهاى نفسانيه خود را، پس بتحقيق كه نازل شونده باين منزل نازل شده است بكنار رودخانه سيل برده افتاده در حالتى كه نقل مي كند هلاكت را بر پشت خود از محلّى بمحلّي بجهت رأى فاسدى كه پديد مىآرد آنرا بعد از رأى فاسد ديگر، إراده ميكند كه بچسباند چيزى را كه قابل چسبيدن نيست، و نزديك گرداند چيزى را كه قابل نزديك شدن نيست.
پس مى ترسانم شما را از خدا از اين كه شكايت كنيد بكسى كه زايل نتواند نمايد اندوه شكايت شما را، و بكسى كه نتواند بشكند باراى صائب خود آن چيزى را كه محكم شده براى شما، يعني نتواند حل مشكلات شما را نمايد.
بدرستى كه نيست بر امام مگر آنچه كه بار كرده شده است بر او از أمر پروردگار خود و آن عبارتست از إكمال موعظه و جهد نمودن در نصيحت، و زنده كردن سنّت نبويّه، و إقامه حدود بر مستحقان آن، و باز گردانيدن سهمها و نصيبها بر أهل آن پس مبادرت كنيد بعلم و معرفت پيش از خشك شدن گياه آن و پيش از اين كه مشغول شده باشيد بخلاصي نفس خود از فتنها از بيرون آوردن علم از نزد أهل آن و نهى كنيد از كار زشت و قبيح، و باز ايستيد از آن پس جز اين نيست كه مأمورشده ايد شما بنهى كردن غير بعد از باز ايستادن خود
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»