خطبه 1 صبحی صالح
1- و من خطبة له ( عليه السلام ) يذكر فيها ابتداء خلق السماء و الأرض و خلق آدم و فيها ذكر الحج و تحتوي على حمد الله و خلق العالم و خلق الملائكة و اختيار الأنبياء و مبعث النبي و القرآن و الأحكام الشرعية
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَا يَبْلُغُ مِدْحَتَهُ الْقَائِلُونَ وَ لَا يُحْصِي نَعْمَاءَهُ الْعَادُّونَ وَ لَا يُؤَدِّي حَقَّهُ الْمُجْتَهِدُونَ الَّذِي لَا يُدْرِكُهُ بُعْدُ الْهِمَمِ وَ لَا يَنَالُهُ غَوْصُ الْفِطَنِ الَّذِي لَيْسَ لِصِفَتِهِ حَدٌّ مَحْدُودٌ وَ لَا نَعْتٌ مَوْجُودٌ وَ لَا وَقْتٌ مَعْدُودٌ وَ لَا أَجَلٌ مَمْدُودٌ فَطَرَ الْخَلَائِقَ بِقُدْرَتِهِ وَ نَشَرَ الرِّيَاحَ بِرَحْمَتِهِ وَ وَتَّدَ بِالصُّخُورِ مَيَدَانَ أَرْضِهِ:
أَوَّلُ الدِّينِ مَعْرِفَتُهُ وَ كَمَالُ مَعْرِفَتِهِ التَّصْدِيقُ بِهِ وَ كَمَالُ التَّصْدِيقِ بِهِ تَوْحِيدُهُ وَ كَمَالُ تَوْحِيدِهِ الْإِخْلَاصُ لَهُ وَ كَمَالُ الْإِخْلَاصِ لَهُ نَفْيُ الصِّفَاتِ عَنْهُ لِشَهَادَةِ كُلِّ صِفَةٍ أَنَّهَا غَيْرُ الْمَوْصُوفِ وَ شَهَادَةِ كُلِّ مَوْصُوفٍ أَنَّهُ غَيْرُ الصِّفَةِ فَمَنْ وَصَفَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فَقَدْ قَرَنَهُ وَ مَنْ قَرَنَهُ فَقَدْ ثَنَّاهُوَ مَنْ ثَنَّاهُ فَقَدْ جَزَّأَهُ وَ مَنْ جَزَّأَهُ فَقَدْ جَهِلَهُ وَ مَنْجَهِلَهُ فَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ وَ مَنْ أَشَارَ إِلَيْهِ فَقَدْ حَدَّهُ وَ مَنْ حَدَّهُ فَقَدْ عَدَّهُ وَ مَنْ قَالَ فِيمَ فَقَدْ ضَمَّنَهُوَ مَنْ قَالَ عَلَا مَ فَقَدْ أَخْلَى مِنْهُ:
كَائِنٌ لَا عَنْ حَدَثٍ مَوْجُودٌ لَا عَنْ عَدَمٍ مَعَ كُلِّ شَيْءٍ لَا بِمُقَارَنَةٍ وَ غَيْرُ كُلِّ شَيْءٍ لَا بِمُزَايَلَةٍ فَاعِلٌ لَا بِمَعْنَى الْحَرَكَاتِ وَ الْآلَةِ بَصِيرٌ إِذْ لَا مَنْظُورَ إِلَيْهِ مِنْ خَلْقِهِ مُتَوَحِّدٌ إِذْ لَا سَكَنَ يَسْتَأْنِسُ بِهِ وَ لَا يَسْتَوْحِشُ لِفَقْدِهِ
خلق العالم
أَنْشَأَ الْخَلْقَ إِنْشَاءً وَ ابْتَدَأَهُ ابْتِدَاءً بِلَا رَوِيَّةٍ أَجَالَهَا وَ لَا تَجْرِبَةٍ اسْتَفَادَهَا وَ لَا حَرَكَةٍ أَحْدَثَهَا وَ لَا هَمَامَةِ نَفْسٍ اضْطَرَبَ فِيهَا أَحَالَ الْأَشْيَاءَ لِأَوْقَاتِهَا وَ لَأَمَ بَيْنَ مُخْتَلِفَاتِهَا وَ غَرَّزَ غَرَائِزَهَا وَ أَلْزَمَهَا أَشْبَاحَهَا عَالِماً بِهَا قَبْلَ ابْتِدَائِهَا مُحِيطاً بِحُدُودِهَا وَ انْتِهَائِهَا عَارِفاً بِقَرَائِنِهَا وَ أَحْنَائِهَا:
ثُمَّ أَنْشَأَ سُبْحَانَهُ فَتْقَ الْأَجْوَاءِ وَ شَقَّ الْأَرْجَاءِ وَ سَكَائِكَ الْهَوَاءِ فَأَجْرَى فِيهَا مَاءً مُتَلَاطِماً تَيَّارُهُ مُتَرَاكِماً زَخَّارُهُ حَمَلَهُ عَلَى مَتْنِ الرِّيحِ الْعَاصِفَةِ وَ الزَّعْزَعِ الْقَاصِفَةِ فَأَمَرَهَا بِرَدِّهِ وَ سَلَّطَهَا عَلَى شَدِّهِ وَ قَرَنَهَا إِلَى حَدِّهِ الْهَوَاءُ مِنْ تَحْتِهَا فَتِيقٌ وَ الْمَاءُ مِنْ فَوْقِهَا دَفِيقٌ ثُمَّ أَنْشَأَ سُبْحَانَهُ رِيحاً اعْتَقَمَ مَهَبَّهَا وَ أَدَامَ مُرَبَّهَا وَ أَعْصَفَ مَجْرَاهَا وَ أَبْعَدَ مَنْشَأَهَا فَأَمَرَهَا بِتَصْفِيقِ الْمَاءِ الزَّخَّارِ وَ إِثَارَةِ مَوْجِ الْبِحَارِ فَمَخَضَتْهُ مَخْضَالسِّقَاءِ
وَ عَصَفَتْ بِهِ عَصْفَهَا بِالْفَضَاءِ تَرُدُّ أَوَّلَهُ إِلَى آخِرِهِ وَ سَاجِيَهُ إِلَى مَائِرِهِ حَتَّى عَبَّ عُبَابُهُ وَ رَمَى بِالزَّبَدِ رُكَامُهُ فَرَفَعَهُ فِي هَوَاءٍ مُنْفَتِقٍ وَ جَوٍّ مُنْفَهِقٍ فَسَوَّى مِنْهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ جَعَلَ سُفْلَاهُنَّ مَوْجاً مَكْفُوفاً وَ عُلْيَاهُنَّ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَ سَمْكاً مَرْفُوعاً بِغَيْرِ عَمَدٍ يَدْعَمُهَا وَ لَا دِسَارٍ يَنْظِمُهَا
ثُمَّ زَيَّنَهَا بِزِينَةِ الْكَوَاكِبِ وَ ضِيَاءِ الثَّوَاقِبِ وَ أَجْرَى فِيهَا سِرَاجاً مُسْتَطِيراً وَ قَمَراً مُنِيراً فِي فَلَكٍ دَائِرٍ وَ سَقْفٍ سَائِرٍ وَ رَقِيمٍ مَائِرٍ.
خلق الملائكة
ثُمَّ فَتَقَ مَا بَيْنَ السَّمَوَاتِ الْعُلَا فَمَلَأَهُنَّ أَطْوَاراً مِنْ مَلَائِكَتِهِ مِنْهُمْ سُجُودٌ لَا يَرْكَعُونَ وَ رُكُوعٌ لَا يَنْتَصِبُونَ وَ صَافُّونَ لَا يَتَزَايَلُونَ وَ مُسَبِّحُونَ لَا يَسْأَمُونَ لَا يَغْشَاهُمْ نَوْمُ الْعُيُونِ وَ لَا سَهْوُ الْعُقُولِ وَ لَا فَتْرَةُ الْأَبْدَانِ وَ لَا غَفْلَةُ النِّسْيَانِ وَ مِنْهُمْ أُمَنَاءُ عَلَى وَحْيِهِ وَ أَلْسِنَةٌ إِلَى رُسُلِهِ وَ مُخْتَلِفُونَ بِقَضَائِهِ وَ أَمْرِهِ وَ مِنْهُمُ الْحَفَظَةُ لِعِبَادِهِ وَ السَّدَنَةُ لِأَبْوَابِ جِنَانِهِ وَ مِنْهُمُ الثَّابِتَةُ فِي الْأَرَضِينَ السُّفْلَى أَقْدَامُهُمْ وَ الْمَارِقَةُ مِنَ السَّمَاءِ الْعُلْيَا أَعْنَاقُهُمْ وَ الْخَارِجَةُ مِنَ الْأَقْطَارِ أَرْكَانُهُمْ وَ الْمُنَاسِبَةُ لِقَوَائِمِ الْعَرْشِ أَكْتَافُهُمْ نَاكِسَةٌ دُونَهُ أَبْصَارُهُمْ مُتَلَفِّعُونَ تَحْتَهُ بِأَجْنِحَتِهِمْ مَضْرُوبَةٌ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ مَنْ دُونَهُمْ حُجُبُ الْعِزَّةِ وَ أَسْتَارُ الْقُدْرَةِ لَا يَتَوَهَّمُونَ رَبَّهُمْ بِالتَّصْوِيرِوَ لَا يُجْرُونَ عَلَيْهِ صِفَاتِ الْمَصْنُوعِينَ وَ لَا يَحُدُّونَهُ بِالْأَمَاكِنِ
وَ لَا يُشِيرُونَ إِلَيْهِ بِالنَّظَائِرِ
صفة خلق آدم ( عليه السلام )
ثُمَّ جَمَعَ سُبْحَانَهُ مِنْ حَزْنِ الْأَرْضِ وَ سَهْلِهَا وَ عَذْبِهَا وَ سَبَخِهَا تُرْبَةً سَنَّهَا بِالْمَاءِ حَتَّى خَلَصَتْ وَ لَاطَهَا بِالْبَلَّةِ حَتَّى لَزَبَتْ فَجَبَلَ مِنْهَا صُورَةً ذَاتَ أَحْنَاءٍ وَ وُصُولٍ وَ أَعْضَاءٍ وَ فُصُولٍ أَجْمَدَهَا حَتَّى اسْتَمْسَكَتْ وَ أَصْلَدَهَا حَتَّى صَلْصَلَتْ لِوَقْتٍ مَعْدُودٍ وَ أَمَدٍ مَعْلُومٍ ثُمَّ نَفَخَ فِيهَا مِنْ رُوحِهِ فَمَثُلَتْ إِنْسَاناً ذَا أَذْهَانٍ يُجِيلُهَا وَ فِكَرٍ يَتَصَرَّفُ بِهَا وَ جَوَارِحَ يَخْتَدِمُهَا وَ أَدَوَاتٍ يُقَلِّبُهَا وَ مَعْرِفَةٍ يَفْرُقُ بِهَا بَيْنَ الْحَقِّ وَ الْبَاطِلِ وَ الْأَذْوَاقِ وَ الْمَشَامِّ وَ الْأَلْوَانِ وَ الْأَجْنَاسِ مَعْجُوناً بِطِينَةِ الْأَلْوَانِ الْمُخْتَلِفَةِ وَ الْأَشْبَاهِ الْمُؤْتَلِفَةِ وَ الْأَضْدَادِ الْمُتَعَادِيَةِ وَ الْأَخْلَاطِ الْمُتَبَايِنَةِ مِنَ الْحَرِّ وَ الْبَرْدِ وَ الْبَلَّةِ وَ الْجُمُودِ وَ اسْتَأْدَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمَلَائِكَةَ وَدِيعَتَهُ لَدَيْهِمْ وَ عَهْدَ وَصِيَّتِهِ إِلَيْهِمْ فِي الْإِذْعَانِ بِالسُّجُودِ لَهُ وَ الْخُنُوعِ لِتَكْرِمَتِهِ فَقَالَ سُبْحَانَهُ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ اعْتَرَتْهُ الْحَمِيَّةُ وَ غَلَبَتْ عَلَيْهِ الشِّقْوَةُ وَ تَعَزَّزَ بِخِلْقَةِ النَّارِ وَ اسْتَوْهَنَ خَلْقَ الصَّلْصَالِ فَأَعْطَاهُ اللَّهُ النَّظِرَةَ اسْتِحْقَاقاً لِلسُّخْطَةِ وَ اسْتِتْمَاماً لِلْبَلِيَّةِ وَ إِنْجَازاً لِلْعِدَةِ فَقَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ثُمَّ أَسْكَنَ سُبْحَانَهُ آدَمَ دَاراً أَرْغَدَ فِيهَا عَيْشَهُ وَ آمَنَ فِيهَا مَحَلَّتَهُ وَ حَذَّرَهُ إِبْلِيسَ وَ عَدَاوَتَهُ فَاغْتَرَّهُ عَدُوُّهُ نَفَاسَةً عَلَيْهِ بِدَارِ الْمُقَامِ وَ مُرَافَقَةِ الْأَبْرَارِ فَبَاعَ الْيَقِينَ بِشَكِّهِ وَ الْعَزِيمَةَ بِوَهْنِهِ وَ اسْتَبْدَلَ بِالْجَذَلِ وَجَلًا وَ بِالِاغْتِرَارِ نَدَماًثُمَّ بَسَطَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُ فِي تَوْبَتِهِ وَ لَقَّاهُ كَلِمَةَ رَحْمَتِهِ وَ وَعَدَهُ الْمَرَدَّ إِلَى جَنَّتِهِ
وَ أَهْبَطَهُ إِلَى دَارِ الْبَلِيَّةِ وَ تَنَاسُلِ الذُّرِّيَّةِ
اختيار الأنبياء
وَ اصْطَفَى سُبْحَانَهُ مِنْ وَلَدِهِ أَنْبِيَاءَ أَخَذَ عَلَى الْوَحْيِ مِيثَاقَهُمْ وَ عَلَى تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ أَمَانَتَهُمْ لَمَّا بَدَّلَ أَكْثَرُ خَلْقِهِ عَهْدَ اللَّهِ إِلَيْهِمْ فَجَهِلُوا حَقَّهُ وَ اتَّخَذُوا الْأَنْدَادَ مَعَهُ وَ اجْتَالَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ عَنْ مَعْرِفَتِهِ وَ اقْتَطَعَتْهُمْ عَنْ عِبَادَتِهِ فَبَعَثَ فِيهِمْ رُسُلَهُ وَ وَاتَرَ إِلَيْهِمْ أَنْبِيَاءَهُ لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ فِطْرَتِهِ وَ يُذَكِّرُوهُمْ مَنْسِيَّ نِعْمَتِهِ وَ يَحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بِالتَّبْلِيغِ وَ يُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُولِ وَ يُرُوهُمْ آيَاتِ الْمَقْدِرَةِ مِنْ سَقْفٍ فَوْقَهُمْ مَرْفُوعٍ وَ مِهَادٍ تَحْتَهُمْ مَوْضُوعٍ وَ مَعَايِشَ تُحْيِيهِمْ وَ آجَالٍ تُفْنِيهِمْ وَ أَوْصَابٍ تُهْرِمُهُمْ وَ أَحْدَاثٍ تَتَابَعُ عَلَيْهِمْ وَ لَمْ يُخْلِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ خَلْقَهُ مِنْ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ أَوْ كِتَابٍ مُنْزَلٍ أَوْ حُجَّةٍ لَازِمَةٍ أَوْ مَحَجَّةٍ قَائِمَةٍ رُسُلٌ لَا تُقَصِّرُ بِهِمْ قِلَّةُ عَدَدِهِمْ وَ لَا كَثْرَةُ الْمُكَذِّبِينَ لَهُمْ مِنْ سَابِقٍ سُمِّيَ لَهُ مَنْ بَعْدَهُ أَوْ غَابِرٍ عَرَّفَهُ مَنْ قَبْلَهُ عَلَى ذَلِكَ نَسَلَتِ الْقُرُونُ وَ مَضَتِ الدُّهُورُ وَ سَلَفَتِ الْآبَاءُ وَ خَلَفَتِ الْأَبْنَاءُ
مبعث النبي
إِلَى أَنْ بَعَثَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مُحَمَّداً رَسُولَ اللَّهِ ( صلى الله عليه وآله وسلم )لِإِنْجَازِ عِدَتِهِ وَ إِتْمَامِ نُبُوَّتِهِ مَأْخُوذاً عَلَى النَّبِيِّينَ مِيثَاقُهُ مَشْهُورَةً سِمَاتُهُ كَرِيماً مِيلَادُهُ وَ أَهْلُ الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ مِلَلٌ مُتَفَرِّقَةٌ وَ أَهْوَاءٌ مُنْتَشِرَةٌ وَ طَرَائِقُ مُتَشَتِّتَةٌ بَيْنَ مُشَبِّهٍ لِلَّهِ بِخَلْقِهِ أَوْ مُلْحِدٍ فِي اسْمِهِ أَوْ مُشِيرٍ إِلَى غَيْرِهِ فَهَدَاهُمْ بِهِ مِنَ الضَّلَالَةِ وَ أَنْقَذَهُمْ بِمَكَانِهِ مِنَ الْجَهَالَةِ ثُمَّ اخْتَارَ سُبْحَانَهُ لِمُحَمَّدٍ ( صلى الله عليه وسلم )لِقَاءَهُ وَ رَضِيَ لَهُ مَا عِنْدَهُوَ أَكْرَمَهُ عَنْ دَارِ الدُّنْيَا وَ رَغِبَ بِهِ عَنْ مَقَامِ الْبَلْوَى فَقَبَضَهُ إِلَيْهِ كَرِيماً ( صلى الله عليه وآله )وَ خَلَّفَ فِيكُمْ مَا خَلَّفَتِ الْأَنْبِيَاءُ فِي أُمَمِهَاإِذْ لَمْ يَتْرُكُوهُمْ هَمَلًا بِغَيْرِ طَرِيقٍ وَاضِحٍ وَ لَا عَلَمٍ قَائِمٍ
القرآن و الأحكام الشرعية
كِتَابَ رَبِّكُمْ فِيكُمْ مُبَيِّناً حَلَالَهُ وَ حَرَامَهُ وَ فَرَائِضَهُ وَ فَضَائِلَهُ وَ نَاسِخَهُ وَ مَنْسُوخَهُ وَ رُخَصَهُ وَ عَزَائِمَهُ وَ خَاصَّهُ وَ عَامَّهُ وَ عِبَرَهُ وَ أَمْثَالَهُ وَ مُرْسَلَهُ وَ مَحْدُودَهُ وَ مُحْكَمَهُ وَ مُتَشَابِهَهُ مُفَسِّراً مُجْمَلَهُ وَ مُبَيِّناً غَوَامِضَهُ بَيْنَ مَأْخُوذٍ مِيثَاقُ عِلْمِهِ وَ مُوَسَّعٍعَلَى الْعِبَادِ فِي جَهْلِهِ وَ بَيْنَ مُثْبَتٍ فِي الْكِتَابِ فَرْضُهُ وَ مَعْلُومٍ فِي السُّنَّةِ نَسْخُهُ وَ وَاجِبٍ فِي السُّنَّةِ أَخْذُهُ وَ مُرَخَّصٍ فِي الْكِتَابِ تَرْكُهُ وَ بَيْنَ وَاجِبٍ بِوَقْتِهِ وَ زَائِلٍ فِي مُسْتَقْبَلِهِ
وَ مُبَايَنٌ بَيْنَ مَحَارِمِهِ مِنْ كَبِيرٍ أَوْعَدَ عَلَيْهِ نِيرَانَهُ أَوْ صَغِيرٍ أَرْصَدَ لَهُ غُفْرَانَهُ وَ بَيْنَ مَقْبُولٍ فِي أَدْنَاهُ مُوَسَّعٍ فِي أَقْصَاهُ
و منها في ذكر الحج
وَ فَرَضَ عَلَيْكُمْ حَجَّ بَيْتِهِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلَهُ قِبْلَةً لِلْأَنَامِ يَرِدُونَهُ وُرُودَ الْأَنْعَامِ وَ يَأْلَهُونَ إِلَيْهِ وُلُوهَ الْحَمَامِ وَ جَعَلَهُ سُبْحَانَهُ عَلَامَةً لِتَوَاضُعِهِمْ لِعَظَمَتِهِ وَ إِذْعَانِهِمْ لِعِزَّتِهِ وَ اخْتَارَ مِنْ خَلْقِهِ سُمَّاعاً أَجَابُوا إِلَيْهِ دَعْوَتَهُ وَ صَدَّقُوا كَلِمَتَهُ وَ وَقَفُوا مَوَاقِفَ أَنْبِيَائِهِ وَ تَشَبَّهُوا بِمَلَائِكَتِهِ الْمُطِيفِينَ بِعَرْشِهِ يُحْرِزُونَ الْأَرْبَاحَ فِي مَتْجَرِ عِبَادَتِهِ وَ يَتَبَادَرُونَ عِنْدَهُ مَوْعِدَ مَغْفِرَتِهِ جَعَلَهُ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى لِلْإِسْلَامِ عَلَماً وَ لِلْعَائِذِينَ حَرَماً فَرَضَ حَقَّهُ وَ أَوْجَبَ حَجَّهُ وَ كَتَبَ عَلَيْكُمْ وِفَادَتَهُ فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ
شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج1
فمن خطبة له عليه السلام يذكر فيها ابتداء خلق السماء و الارض و خلق آدم عليه السلام و هي الخطبة الاولى من المختار فى باب الخطب
و يذكر فيها صفة الحجّ و وجوبه، و هي من جلائل خطبه و مشاهيرها، و قد رواها المحدث العلّامة المجلسى طاب ثراه في كتاب البحار إلى قوله الى يوم الوقت المعلوم آخر الفصل الحادي عشر من كتاب عيون الحكمة و المواعظ لمحمّد بن علي الواسطي مرسلة كما في الكتاب، و شرحها في ضمن فصول:
الفصل الاول
الحمد للّه الّذي لا يبلغ مدحته القائلون، و لا يحصي نعمائه العادّون و لا يؤدّي حقّه المجتهدون.
اللغة
(الحمد) و المدح و الشكر متقاربة المعاني و مشتركة في الدّلالة على الثّناء الجميل، و ربّما يحكم باتحاد الأوّلين و كونهما أخوين قال في الكشاف: الحمد و المدح أخوان، و هو الثّناء و النّداء على الجميل من نعمة و غيرها، تقول: حمدت الرّجل على انعامه و حمدت على حسنه و شجاعته انتهى، و نسبه الشّارح المعتزلي إلى أكثر الادباء و المتكلمين، و مثل لهما بقوله: حمدت زيدا على إنعامه و مدحته على إنعامه، و حمدته على شجاعته و مدحته على شجاعته، ثم قال: فهما سواء يدخلان فيما كان من فعل الانسان، و فيما ليس من فعله كما ذكرناه من المثالين هذا و لكنّ المعروف أخصّية الحمد من المدح بوجوه:
أحدها أن الحمد هو الثّناء على ذي علم و حياة لكماله، و المدح هو الثّناء على الشّيء لكماله، سواء كان ذا علم و حياة أم لا، أ لا ترى أنّ من رأى لؤلؤة في غاية الحسن، أو ياقوتة كذلك، فانّه قد يمدحها، و يستحيل أن يحمدها.
الثّاني أن الحمد لا يكون إلّا بعد الاحسان، و المدح قد يكون قبل الاحسان و قد يكون بعده.
الثّالث أن الحمد هو الثّناء على الجميل الاختياري، تقول: حمدته على كرمه، و لا تقول: على حسنه، و المدح يعم الاختياري و غيره.
و أما الشكر فربما يعرّف بأنّه تعظيم المنعم من حيث انّه منعم على الشّاكر، فيكون أخصّ من الحمد من وجه و اعم منه بوجه آخر.
أمّا الأوّل فلأنّ الشكر لا يكون الّا على النّعمة الواصلة إلى الشاكر، و الحمد يكون على النّعمة و غيرها، و على النّعمة العائدة إلى الحامد و غيرها و أمّا الثّاني فلأن الحمد لا يكون إلّا باللّسان، و الشكر يكون باللّسان و الجوارح و القلب،
قال الشّاعر:
أفادتكم النّعماء منّي ثلاثة يدي و لساني و الضمير المحجبا
أقول: هكذا فرق جماعة بينهما منهم الزّمخشري و التّفتازاني و البيضاوي و غيرهم، إلّا أن تخصيص مورد الحمد باللّسان يشكل بقوله سبحانه: وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ اللّهمّ إلّا أن يراد باللّسان الأعم من لسان الحال و لسان المقال، بعنوان عموم المجاز، فانّه سبحانه حيث بسط بساط الوجود على أفراد الممكنات و آحاد الموجودات، و وضع عليه موائد كرمه و ألطافه التي لا تتناهى، فكلّ ذرّة من ذرات الوجود لسان حال ناطق بحمده، و نظيره إرادة الخضوع التكويني و الافتقار الذّاتي من السّجود الظاهر في وضع الجبهة في قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ وَ النُّجُومُ وَ الْجِبالُ وَ.
فان قلت: سلّمنا هذا كله و لكنّك ما تصنع بقوله: و لكن لا تفقهون تسبيحهم، فان التّسبيح و الحمد بلسان الحال مفقوه معلوم قلنا: الخطاب للمشركين، و هم و إن كانوا إذا سئلوا عن خالق السّماوات و الأرض قالوا: اللّه، إلّا أنّهم لما جعلوا معه آلهة مع إقرارهم فكأنّهم لم ينظروا و لم يقرّوا، لأنّ نتيجة النّظر الصحيح و الاقرار الثّابت خلاف ما كانوا عليه، فاذن لم يفقهوا التّسبيح و لم يستوضحوا الدلالة على الخالق هذا، و مثل هذا الاشكال و الجواب يجري في قوله سبحانه: وَ يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ.
و لا حاجة إلى تكلف التّأويل بانّه يسبّح سامع الرّعد من العباد، الرّاجين للمطر حامدين له كما تحمله في الكشاف، و يأتي ان شاء اللّه تحقيق ذلك في شرح المختار المأة و التسعين بما لا مزيد عليه.
(و اللّه) اسم جامد علم للذّات المستجمع لصفات الكمال، و اختار جموده جماعة من المفسرين و غيرهم محتجّين بحجج مذكورة في محالها.
و ذهب الكوفيون إلى أنّ الأولين قالوا: باشتقاقه من إله على وزن فعال، فادخلت عليه الألف و اللّام للتّعظيم، فصار الاله، فخذفت الهمزة استثقالا لكثرة جريانها على الألسنة، فاجتمع لامان فادغمت الاولى، و الآخرين قالوا: بأن اصله لاه، فادخلت عليه الألف و اللّام، فقيل اللّه، و أمّا لفظة الالاه، فقال الزّمخشري و تبعه الشّارح المعتزلي و غيره: إنّه من أسماء الأجناس اسم يقع على كلّ معبود بحقّ أو باطل، ثم غلب على المعبود بالحقّ كالنّجم للثّريا، و الكتاب لكتاب سيبويه، و البيت لبيت اللّه، و السّنة لعام القحط.
و ذهب جماعة الى اشتقاقها و اختلفوا في أصلها على أقوال شتّى: فقيل إنّها مأخوذة من أله إلاهة و الوهة و الوهية، من باب منع إذا عبد عبادة، فالاله بمعنى مألوه، ككتاب بمعنى مكتوب، و بساط بمعنى مبسوط، و انكار الشّارح المعتزلي له لا وجه له مع تصريح جماعة من اللغويّين و المفسرين به، و لكونها بهذا المعنى صحّ تعلق الظرف بها في قوله: هُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَ فِي الْأَرْضِ إِلهٌ.
و قيل: إنّها مأخوذة من أله إذا تحيّر، لتحيّر العقول في معرفة ذاته.
و قيل: إنّها مأخوذة من ألهت إلى فلان، أى سكنت إليه، لأن القلوبتطمئن بذكره سبحانه، و الأرواح تسكن إلى معرفته، أو من ألهت إلى فلان، أى فزعت إليه، لأن العائذ يفزع إليه و هو يجيره.
و قيل: إنّها من لاه مصدر لاه يليه ليها و لاها إذا احتجب و ارتفع، لأنّه تعالى محجوب عن إدراك الأبصار، و مرتفع على كلّ شيء، و قيل أقوال اخر يطول ذكرها.
فان قيل: ما معنى الاشتقاق الذي ذكرته قلت: الاشتقاق على ما ذكره الزّمخشري و غيره هو أن ينتظم الصّيغتين فصاعدا معنى واحد و هذا موجود بينها و بين الاصول المذكورة (و البلوغ) هو الوصول أو المشارفة يقال: بلغ المكان بلوغا من باب نصر إذا وصل إليه أو شارف عليه، و الثاني أكمل و أبلغ بالنّسبة إلى المقام (و المدحة) قال الشّارح المعتزلي: هي هيئة المدح، كالركبة هيئة الركوب، و الجلسة هيئة الجلوس، و في القاموس مدحه كمنعه مدحا و مدحة، أحسن الثّناء عليه (و المجتهد) من اجتهد في الأمر إذا بذل وسعه و طاقته في طلبه ليبلغ مجهوده و يصل إلى نهايته.
الاعراب
الحمد مرفوع بالابتداء، و خبره للّه، و أصله النّصب، و به قرء بعضهم في الكتاب العزيز باضمار فعله، على انّه من المصادر السّادة مساد الأفعال، مثل شكرا و كفرا، و العدول من النّصب إلى الرّفع للدّلالة على الثبات و الاستقرار، و مثله قوله تعالى: قالُوا: سَلاماً، قالَ: سَلامٌ.
حيث رفع الثّاني للدلالة على أن إبراهيم عليه السلام حيّاهم بتحية أحسن من تحيّتهم، لأنّ الرّفع دال على معنى ثبات السّلام لهم دون تجدده و حدوثه، و حرف التّعريف الدّاخل عليه للجنس، لأنّه المتبادر إلى الفهم الشّايع في الاستعمال، لا سيّما في المصادر و عند خفاء قراين الاستغراق، أو لأنّ المصادر الخالية عن اللواحق و الدّواخل لا تدلإلّا على الماهية لا بشرط شيء، كما ادّعى السّكاكى إجماع أهل العربية عليه في محكيّ كلامه، و حرف التّعريف لا تفيد إلّا التّعيين و الاشارة، فيكون معناها الاشارة إلى ما يعرفه كل أحد أن الحمد ما هو.
قال في الكشّاف: التّعريف فيه نحو التّعريف في أرسلها العراك، و هو تعريف الجنس إلى أن قال: فالاستغراق الذي يتوهّمه كثير من النّاس و هم، و قيل: إنّها للاستغراق، و ربّما يرجح على الأوّل بما فيه من إفادتها رجوع جميع المحامد إليه سبحانه بخلاف الأوّل.
و فيه أن كونها للجنس لا ينافي ذلك، و ذلك لأنّ اللّام في قوله للّه إمّا للملك كما في قولنا: المال لزيد، أو للاختصاص كما في قولنا: الحصير للمسجد، و على التقديرين فتفيد رجوع المحامد إليه سبحانه، لأنّ معناه أنّ ماهيّة الحمد حق للّه و ملك له و مختص به، و ذلك ينفي كون فرد من أفراد هذه الماهيّة لغير اللّه، فثبت على هذا القول أيضا أنّ قوله عليه السلام: الحمد للّه ينفي حصول الحمد لغير اللّه.
فان قيل: أ ليس أنّ المنعم يستحقّ الحمد من المنعم عليه و الاستاذ من التلميذ قلنا: كلّ من أنعم على غيره فالانعام في الحقيقة من اللّه سبحانه، لأنّه تعالى لو لا خلق تلك الدّاعية في قلب المنعم لما أقدم على ذلك الانعام، و لو لا أنّه خلق تلك النّعمة و سلّط ذلك المنعم عليها و مكن المنعم عليه من الانتفاع لما حصل الانتفاع بتلك النّعمة، فثبت أنّ المنعم في الحقيقة هو اللّه سبحانه قال تعالى: وَ ما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ و الالف و اللّام في القائلون للاستغراق، لعدم خلاف ظاهر بين أصحابنا في إفادة الجمع المعرّف للعموم، و هو المتبادر منه أيضا و يدلّ عليه أيضا جواز الاستثناء مطردا، و منه يظهر فساد ما توهّمه القطب الرّاوندي على ما حكاه عنه الشّارح المعتزلي من كونها فيه للجنس كما في الحمد، مضافا إلى لزوم إرادة الاستغراق و العموم في خصوص المقام و إن لم نقل به في ساير المقامات، لعدم تماميّة المعنى إلّا به،لأنّ المبالغة بل الحقّ المحض عجز جميع القائلين عن حمده، و معلوم أنّ الجنس لا يفيد ذلك.
المعنى
(الحمد للّه) أى الثناء الحسن حقّ و مخصوص للذّات المستجمع للصّفات الجماليّة و الجلاليّة.
و عن تفسير الامام عليه السلام عن أمير المؤمنين عليه السلام: اللّه هو الذي يتأله إليه كلّ مخلوق عند الحوائج و الشّدائد، إذا انقطع الرّجاء من كلّ من دونه، و تقطع الأسباب من جميع من سواه.
و عنه عليه السلام أيضا اللّه أعظم اسم من أسماء اللّه عزّ و جلّ، لا ينبغي أن يتسم به غيره.
و في التّوحيد عنه عليه السلام أيضا اللّه معناه المعبود الذي يأله«» فيه الخلق و يوله إليه، و المستور عن درك الأبصار، المحجوب عن الأوهام و الخطرات.
و فيه عن الباقر عليه السلام اللّه معناه المعبود الذي أله الخلق عن درك مائيّته، و الاحاطة بكيفيّته، و يقول العرب: أله الرّجل إذا تحيّر في الشيء فلم يحط به علما، و وله إذا فزع إلى شيء ممّا يحذره و يخافه، فالاله هو المستور عن حواس الخلق (الذي لا يبلغ مدحته القائلون) أى لا يشارف على مدحه أحد من آحاد القائلين، فكيف يصلون إليه و هو إشارة إلى العجز عن القيام بحمده سبحانه كما هو أهله و مستحقّه، و من ثمّ قال صلّى اللّه عليه و آله: لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك.
فان قلت: روى في الكافي عن الصّادق عليه السلام ما أنعم اللّه على عبده بنعمته صغرت أو كبرت فقال: الحمد للّه إلّا أدّى شكرها، فكيف التّوفيق بينه و بين النّبويّ و الخطبة
قلت: يمكن الجمع بينهما بأنّ المراد بها إظهار العجز عن الحمد و الثّناء اللّايق بحضرته سبحانه كما أشرنا إليه، و المراد بأداء الشكر فيه، أداؤه اللّايق بحال العبد الموجب لسقوط تكليف الشكر عنه و المحصّل لرضائه سبحانه و تعالى عنه بهذا المقدار بكرمه العميم و لطفه الجسيم.
و يشير إليه ما رواه الصّادق عن أبيه عليهما السّلام قال: فقد أبي بغلة له، فقال: لان ردّها اللّه تعالى لأحمدنّه بمحامد يرضاها، فما لبث أن اتي بها بسرجها و لجامها فلما استوى عليها و ضمّ إليه ثيابه رفع رأسه إلى السماء، فقال: الحمد للّه، و لم يزد، ثمّ قال: و ما تركت و ما أبقيت شيئا جعلت كلّ أنواع المحامد للّه عزّ و جلّ، ما من حمد إلّا هو داخل فيما قلت انتهى.
قيل: و إنّما اختار عليه السلام القائلين على المادحين، لكونه أبلغ، من حيث إنّ القائل أعمّ من المادح، و عدم بلوغ الأعم بمدحته مستلزم لعدم بلوغ الأخص.
أقول: و الأولى أن يقال: إنّ السّر في العدول عنه إليه هو أنّ الغرض من الجملة الوصفيّة الاشارة إلى عدم إمكان القيام على مدحته حسبما عرفت سابقا، فاذا لم يمكن القيام عليه لم يوجد هناك من قام به المدح، فلا يوجد له مادح في الحقيقة، و التّعبير بالمادحين ينافي هذا الغرض، كما أنّ التّعبير بالقائلين يؤكده، لأنّ فيه إشعارا بأنّ من صدر عنه مدح فهو قول يليق بقائله و ليس بمدح حقيقي يليق به تعالى كما لا يخفى، و يأتي إن شاء اللّه تمام التّحقيق في عدم إمكان مدحه و وصفه سبحانه في شرح الخطبة المأة و السّابعة و السّبعين (و لا يحصي نعمائه العادّون) إذ النّعم غير محصورة، و الفيوضات غير متناهية، فلا يحيط بها عدّ، و لا يضبطها حدّ.
قال سبحانه: وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها قال البيضاوي: لا تحصروها، و لا تطيقوا عدّ أنواعها فضلا من أفرادها، فانّها غير متناهيّة، ثمّ قال: و فيه دليل على أنّ المفرد يفيد الاستغراق بالاضافة.
أقول: أمّا إفادة المفرد المضاف للعموم في الآية فممّا لا غبار عليه، لقيام القرينة، و أمّا دلالته عليه مطلقا فمحلّ منع كما برهن في الاصول (و لا يؤدّي حقّه المجتهدون) أى حقّه اللّازم على العباد و إن بذلوا وسعهم و طاقتهم، و اجتهدوا في أدائه و قضائه، و المراد بالحقّ اللّازم هو القيام على شكر النّعماء، و حمد الآلاء، فأشار عليه السلام إلى أنّه لا يمكن القيام بوظايف حمده، لأنّ الحمد من جملة نعمه، فيستحق عليه حمدا و شكرا، فلا ينقضي ما يستحقه من المحامد، لعدم تناهي نعمه، فالأولى حينئذ الاعتراف بالعجز و القصور.
كما اعترف به داود النبيّ عليه السلام فيما روي عنه، حيث قال: يا ربّ كيف أشكرك، و شكري لك نعمة اخرى توجب علىّ الشكر لك، فاوحى اللّه إليه، إذا عرفت أنّ النّعم منّي رضيت منك بذلك شكرا.
و مثله موسى عليه السلام روى في الكافي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: أوحى اللّه عزّ و جلّ إلى موسى: يا موسى اشكرني حقّ شكري، فقال: يا ربّ كيف أشكرك حقّ شكرك و ليس من شكر أشكرك به إلّا و أنت أنعمت به علىّ، قال: يا موسى الآن شكرتني حين علمت أن ذلك منّي.
و من طريق العامة في مناجاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، أنت يا ربّ أسبغت علىّ النّعم السّوابغ فشكرتك عليها، فكيف لي بشكر شكرك فقال اللّه تعالى: تعلّمت العلم الذي لا يفوته علم، فحسبك أن تعلم أنّ ذلك من عندي، و في هذا المعنى قال محمود الورّاق:
شكر الاله نعمة موجبة لشكره
و كيف شكري برّه و شكره من برّه
و قال آخر:
إذا كان شكري نعمة اللّه نعمة
علىّ بها في مثلها يجب الشّكر
فكيف بلوغ الشّكر إلّا بفضله
و إن طالت الأيّام و اتصل العمر
و في الكافي عن السّجاد عليه السلام، أنّه إذا قرء قوله تعالى: وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها
يقول: سبحان من لم يجعل في أحد من معرفة نعمه إلّا المعرفة بالتّقصير عن معرفتها، كما لم يجعل في أحد من معرفة إدراكه أكثر من العلم أنّه لا يدرك، فشكر اللّه تعالى معرفة العارفين بالتّقصير عن معرفة شكره، فجعل معرفتهم بالتّقصير شكرا كما علّم العالمين أنّهم لا يدركونه، فجعله اللّه إيمانا، علما منه أنّه قد وسع العباد فلا يتجاوز ذلك، فان شيئا من خلقه لا يبلغ مدى عبادته، و كيف يبلغ مدى عبادته من لا مدى له و لا كيف تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا.
الترجمة
يعنى ستايش مر خداوند معبود بحقّ واجب الوجودى راست كه نمى رسد بثناى او يا بهيئة ثناى او جميع گويندگان، و شمار نمى توانند نمايند نعمتهاى او را جميع شمارندگان، و بجا نمى توانند آورد حق نعمت او را سعى و كوشش كنندگان، و لنعم ما قيل:
حق شكر تو نداند هيچكس
حيرت آمد حاصل دانا و بس
آن بزرگى گفت با حقّ در نهان
كاى پديد آرنده هر دو جهان
اى منزّه از زن و فرزند و جفت
كى توانم شكر نعمتهات گفت
پيك حضرت دادش از ايزد پيام
گفتش از تو اين بود شكر مدام
چون در اين ره اين قدر بشناختى
شكر نعمتهاى ما پرداختى
الفصل الثاني
الّذي لا يدركه بعد الهمم و لا يناله غوص الفطن الّذي ليس لصفته حدّ محدود و لا نعت موجود و لا وقت معدود و لا أجل ممدود.
اللغة
(البعد) ضدّ القرب (و الهمم) جمع الهمّة و هو العزم و الجزم الثّابت الذي لا يعتريه فتور (و النيل) الاصابة (و الغوص) النّزول تحت الماء لاستخراج ما فيه، و منه قيل: غاص في المعاني إذا بلغ أقصاها حتّى استخرج ما بعد منها (و الفطن)جمع الفطنة و هي الجودة و الحذاقة (و الوقت) مقدار حركة الفلك (و الاجل) هو الوقت المضروب للشّيء الذي يحلّ فيه، و منه أجل الانسان للوقت المقدر فيه موته، و أجل الدّين للوقت الذي يحل فيه قضاؤه.
الاعراب
الذي موصول اسميّ و هو مع صلته في محل الجرّ صفة للّه، و الجملة بعده صلة له، و لا محلّ لها من الاعراب، و اضافة البعد إلى الهمم، لفظية بمعنى اللام، كاضافة الغوص إلى الفطن، و ليست من قبيل إضافة الصّفة إلى الموصوف على ما قاله بعضهم، لأنّ هذه الاضافة بعد الاغماض عن الاشكال في أصلها و البناء على مذهب الكوفيّين من صحّتها، لا يمكن جريانها في المقام، إذ المطابقة بين الصّفة و الموصوف في الافراد و نقيضيه لازمة، و هي في المقام منتفية، اللّهم إلّا أن يوجّه بان الصّفة هنا مصدر، و يستوي فيه التّذكير و التّأنيث و الافراد و الجمع و لا باس به.
المعنى
(الذي لا يدركه بعد الهمم) أى لا يدركه همم أصحاب النّظر و أوهام أرباب الفكر و ان علت و بعدت، و المراد ببعدها تعلقها بالامور المعظمة، و المبادي العالية (و لا يناله غوص الفطن) أى لا يصيب كنه ذاته غوص أرباب الفطن في بحار معرفته و كنه حقيقته.
قال الصّدر الشّيرازي: و اسناد الغوص إلى الفطن على سبيل الاستعارة، إذ الحقيقة إسناده إلى الحيوان بالنّسبة، و هو مستلزم لتشبيه العلوم العقلية بالماء و وجه الاستعارة هاهنا أنّ صفات الجلال و نعوت الكمال، في عدم تناهيها و الوصول إلى حقايقها و أغوارها، تشبه البحر الخضم الذي لا يصل السّابح له إلى الساحل، و لا ينتهي الغائص فيه إلى قرار، و كان السّابح لذلك البحر، و الخائض في تياره هي الفطن الثّاقبة، لا جرم كانت الفطنة شبيهة بالغائص في البحر، فاسند الغوص إليها، و في معناه الغوص في الفكر، و يقرب منه إسناد الادراك إلى بعد الهمم، اذ كان الادراك حقيقة في لحوق جسم لجسم آخر.
ثمّ وجه الحسن في إضافة بعد الهمم، و غوص الفطن و قد مرّ أنّه من باب إضافة الصّفة بلفظ المصدر إلى الموصوف دون أن يقول كما هو الأصل: الهمم البعيدة، و الفطن الغائصة، أنّ المقصود لما كان هو المبالغة في عدم إصابة وصفه تعالي بالفطنة من حيث هي ذات غوص، و بالهمّة من حيث هي ذات بعد، كانت تلك الحيثيّة مقصودة بالقصد الأوّل، و البلاغة تقتضي تقديم الأهمّ و المقصود الأوّل على ما ليس بأهمّ على ما هو المقرّر عند أهل البيان، و يشهد له الأذواق السّليمة.
اذا عرفت ذلك فنقول: هاتان الفقرتان إشارتان إلى عدم إمكان إدراك ذاته، و الوصول إلى حقيقته و هو ممّا لا ريب فيه.
و برهانه ما رواه في الكافي عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن بعض أصحابه، عن هشام بن الحكم، قال: الأشياء لا تدرك إلّا بأمرين بالحواس و القلب، و الحواس إدراكها على ثلاثة معان: إدراك بالمداخلة، و إدراك بالمماسة، و إدراك بلا مداخلة و لا مماسة.
فامّا الادراك الذي بالمداخلة فالأصوات و المشام و الطعوم.
و أمّا الادراك بالمماسة فمعرفة الأشكال من التّربيع و التّثليث، و معرفة اللين و الخشن، و الحرّ و البرد.
و أمّا الادراك بلا مماسة و لا مداخلة فالبصر، فانّه يدرك الأشياء بلا مماسة و لا مداخلة في حيّز غيره لا في حيّزه، و إدراك البصر له سبيل و سبب، فسبيله الهواء، و سببه الضّياء، فاذا كان السّبيل متّصلا بينه و بين المرئي و السّبب قائم أدرك ما يلاقي من الألوان و الأشخاص، فاذا حمل البصر على ما لا سبيل له فيه رجع راجعا فحكى ما ورائه، كالنّاظر في المرآة لا ينفذ بصره في المرآة، فاذا لم يكن له سبيل رجع راجعا و يحكي ما ورائه، و كذلك النّاظر إلى الماء الصّافي يرجع راجعا فيحكي ما ورائه، إذ لا سبيل له في إنفاذ بصره، فأمّا القلب فإنّما سلطانه على الهواء، فهو يدرك جميع ما في الهواء و يتوهّمه، فاذا حمل القلب على ما ليس في الهواء موجودا، رجع راجعا فحكى ما في الهواء، فلا ينبغي للعاقل أن يحمل قلبه على ما ليس موجودا في الهواء من أمر التّوحيد، فانّه إن فعل ذلك لم يتوهم إلّا ما في الهواء موجود، كما قلنا في أمر البصر تعالى اللّه أن يشبهه خلقه انتهى.
توضيحه أنّ المدارك على كثرتها منحصرة في أمرين، لأنّ العوالم على كثرتها منحصرة في عالمين أحدهما عالم الدّنيا و الشّهادة، و الثاني عالم الغيب و الآخرة، فالمدرك لما في عالم الشّهادة هو إحدى الحواس الخمس، و المدرك لما في عالم الغيب هو القلب، و المراد بالقلب مجمع المشاعر الباطنة، أعني الخيال و الوهم و العقل.
أمّا مدركات الحواس فلا تتجاوز عن المحسوسات، و هي منحصرة في الجسم و الجسمانيات، و اللّه سبحانه منزّه عن ذلك.
و أمّا مدركات القلوب فانّما هي منحصرة لما في الهواء، و المراد بالهواء هو الفضاء ما بين السّماء و الأرض، و لعل المراد به هنا عالم الامكان طولا و عرضا، و تسميته بالهواء من باب تسمية الكلّ باسم الجزء.
و أنّما قلنا إن المراد به ذلك، لأنّ إدراك القلب غير مقصور على مدركات الحواس، و لا مشروط بشرايط إدراك الحواس فيدرك جميع ما في الهواء بوساطة و لا بوساطة بالتّوهم، فاذا حمل القلب على إدراك ما ليس بموجود في الهواء يعود راجعا، فيخترع صورة من عنده، فيحكي لما ليس بموجود في العين بما يخترع في وهمه، و هكذا عادته في المواضع المظلمة و المخاوف، فلا بدّ للعاقل أن لا يحمل قلبه على إدراك ما ليس بموجود، كحمله على الموجود، و لا يحمل على ما ليس بمحسوس لأن لا يقع في غلط الوهم، و كذا من طلب إدراك الحق من طرق الحواس وقع في الزّيغ و الضّلال، فانّه سبحانه أجلّ و أعظم من أن يطلب و ينال من سبيل الحس و الخيال، و لذلك قال الباقر عليه السلام: كلما ميّزتموه بأوهامكم في أدقّ معانيه مصنوع مثلكم، مردود إليكم.
فقد تلخّص ممّا ذكرنا كله أن كلّ سابح في بحار جلاله غريق، و كلّ مدّع للوصول إليه فبأنوار كبريائه حريق، سبحانه و تعالى شانه علوّا كبيرا (الذي ليس لصفته حدّ محدود) الظاهر أنّ المراد بصفته: الصّفات الذّاتية، و هي العلم و الحياة و القدرة و الاختيار و أمثالها، و المراد بالحدّ: الغاية و النّهاية، يقال: هذا حدّ الأرض أى غايتها و منتهاها، و المحدود من حدّ الشّيء عن الشّيء إذا عيّنه، فالمعنى أنّه ليس لصفاته غاية معينة، و نهاية مميّزة.
و يشهد به ما رواه في الكافي باسناده عن الكابلي قال: كتبت إلى أبي الحسن عليه السلام في دعاء: الحمد للّه منتهى علمه، فكتب إلىّ لا تقولن منتهى علمه، فليس لعلمه منتهى، و لكن قل منتهى رضاه، هذا و يحتمل أن يكون المراد بالحدّ: الحدّ المنطقي، و هو ما يعرّف به الشّيء فيكون المعنى أنّه ليس لذاته حدّ يعرف به قياسا على الأشياء المحدودة، و ذلك لأنّه ليس بمركب و كلّ محدود مركب، و في الكافي عن أبي حمزة، قال: قال لي عليّ بن الحسين عليهما السّلام: يا با حمزة إنّ اللّه لا يوصف بمحدوديّة، عظم ربّنا عن الصّفة، و كيف يوصف بمحدوديّة من لا يحدّ.
أقول: يعنى من ليس له حدّ لتنزّهه عن الاجزاء و النّهايات، و الحدّ مستلزم للتّجزية و التكثّر المنافي للوجوب الذّاتي، و عدم الافتقار، و يمكن أن يكون وصف الحدّ بالمحدود من باب المبالغة و التّأكيد من قبيل شعر شاعر، و حجرا محجورا، و نسيا منسيّا، و نحو ذلك، أو المفعول بمعنى الفاعل كما في قوله تعالى: حِجاباً مَسْتُوراً أي ساترا وَ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا أى آتيا (و لا نعت موجود) أى رسم موجود يرسم به قياسا على الأشياء المرسومة بلوازمها و أوصافها، و الّا يلزم كون الذّات محلّا للأعراض و الأوصاف و هو منزّه عن ذلك.
و يدل عليه ما رواه في الكافي عن الفضيل بن يسار قال: إنّ اللّه لا يوصف، و كيف يوصف و قد قال في كتابه: وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ فلا يوصف بقدر إلّا كان أعظم من ذلك، و في رواية أبي حمزة، عن عليّ بن الحسين عليهما السّلام، قال: قال: لو اجتمع أهل السّماء و الأرض أن يصفوا اللّه بعظمته لم يقدروا.
قال بعض المحقّقين لأنّ الذات الأحدية و الهوية القيوميّة، ممّا لا ماهيّة له، و لا جزء لذاته، فلا جدّ له و لا صورة تساويه، فلا حكاية عنه، و لأن وجوده الذي هو عين ذاته غير متناه الشّدة في النّوريّة فلا يكتنهه لاحظ، و لا يستقر لادراكه ناظر (و لا وقت معدود، و لا أجل ممدود) لأنّه أزليّ أبدي واجب الوجود لا يختصّ وجوده بوقت دون وقت، و بأجل دون أجل، بل هو خالق الوقت و الأجل لا ابتداء لوجوده، و لا انتهاء لبقائه.
و لذلك نهي في الأخبار الكثيرة عن السؤال عنه سبحانه بمتى، كما في الكافي عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال: جاء حبر من الأحبار إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال يا أمير المؤمنين: متى كان ربّك فقال له: ثكلتك امّك و متى لم يكن حتّى يقال متى كان، كان ربّنا قبل القبل بلا قبل، و بعد البعد بلا بعد، و لا غاية و لا منتهى لغاية، انقطعت الغايات عنده، فهو منتهى كلّ غاية، فقال: يا أمير المؤمنين أ فنبيّ أنت فقال: ويلك إنّما أنا عبد من عبيد محمّد صلّى اللّه عليه و آله.
قال بعض شرّاح الحديث: متى عبارة عن نسبة المتغيرات إلى الزّمان، و هذا يستلزم أن يكون الموجود في شطر من الزّمان، غير موجود فيه سابقا و لا لاحقا، فاذا قيل لشيء متى كان فمعناه السّؤال عن خصوصيّة الوقت الذي اتّفق وجوده فيه، دون ساير الأوقات، كما إذا قيل أين كان، فمعناه السّؤال عن خصوصية مكانه الذي وجد فيه دون ساير الأمكنة.
و بالجملة الزّمان لكونه مقدار الحركة علة تغيّر الأشياء الزّمانيّة و لا علّة لتغيره لأنّه بنفسه متغير غير قارّ الذّات، و لمّا لم يكن وجوده سبحانه زمانيّا، لأنّه غير متغيّر أصلا و لا بمتحرّك، و لا علاقة له بمتحرّك، لا يكون واقعا في الزّمان فلا يصحّ السّؤال عنه بمتى و لذلك نبّه على فساد السّؤال عنه بمتى بقوله: و متى لم يكن حتّى يقال متى كان، فانّ من خاصيّة المنسوب إلى الزّمان أنّه ما لم ينقطع نسبته عن بعض أجزاء الزّمان، لم ينسب إلى بعض آخر فالموجود في هذا اليوم غير الموجود في الغد، و لا في الأمس، و لكن الباري جل جلاله لكونه محيطا بجميع الموجودات إحاطة قيوميّة، فنسبته إلى الثّابت و المتغيّر و المجرّد و المكان نسبة واحدة، و لم يزل و لا يزال من غير أن يتصوّر في حقّه تغيّر، و تجدّد بوجه من الوجوه، لا في ذاته و لا في صفته و لا في إضافته و نسبته، فصحّ القول بأنّه لا يخلو منه زمان.
و قوله عليه السلام: قبل القبل بلا قبل، أى هو قبل كلّ من يفرض له القبليّة، و مثله بعد البعد بلا بعد و لا غاية أى و لا نهاية لوجوده في جهة القبليّة و البعديّة، لكونه أزليّا أبديّا، و لا منتهى لغاية أى ليس نهاية لامتداد إذ ليس له كميّة مقتضية لاتّصافة بالأطراف و النّهايات و اقترانه بالامتداد و الغايات، انقطعت الغايات عنده فهو منتهى كلّ غاية، لأنّه منتهى غرض الخلايق و مفزعهم في المهمّات و المقاصد، فهو منتهى سير السّايرين، و غاية شوق المسافرين، و نهاية قصد الطالبين.
الترجمة
يعنى همچنان خداوندى كه نمى تواند درك كند كنه ذات شريف او را بلندى همتهاى صاحبان فكر و نظر اگر چه تعمّق نمايند و امعان نظر بكنند، و نمى تواند برسد بر حقيقت او غوطه خوردن حذاقتها و فهمها در درياى معرفت ذات او اگر چه سعى و كوشش ورزند.
بعقل نازى حكيم تا كى
بفكرت اين ره نمىشود طى
بكنه ذاتش خرد برد پى
اگر رسد خس بقعر دريا
و آن خدائى كه نيست أوصاف جماليّة و صفات كماليّه او را غايت و نهايتى معيّن كه از آنجا تجاوز ننمايد، يا اين كه نيست صفات ذاتيّه او را معرّفى كه بكنهه او را تعريف و تحديد نمايد و نه معرّفى كه بعوارض و اوصاف شرح ماهيت آنرا دارد، و نيست اوصاف او را وقتى شمرده شده، و نه مدّتى كشيده گرديده.
الفصل الثالث
فطر الخلائق بقدرته، و نشر الرّياح برحمته، و وتد بالصّخور ميدان أرضه.
اللغة
(فطر) اللّه الخلق فطرا من باب نصر خلقهم و الاسم الفطرة، كالخلقة لفظا و معنى و (النّشر) البسط، يقال: نشر المتاع ينشره نشرا إذا بسط، و منه ريح نشور و رياح نشر، (و الرّياح) جمع الرّيح، و الياء فيها منقلبة عن الواو لانكسار ما قبلها، و جمع القلة أرواح بالواو إذ لم يوجد فيه ما يوجب الاعلال، و ربّما يفرق بين الرّيح و الرّياح بأنّ الثّانية من أسباب الرّحمة و آثارها، و الاولى ليست كذلك و قد روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه كان يقول اذا هبّت ريح: اللّهمّ اجعلها رياحا، و لا تجعلها ريحا. و يشهد به الاستقراء أيضا قال سبحانه: يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَ أَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ و قال: وَ أَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ وَ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ.
إلى غير هذه من الآيات و (وتد) كوعد يتد وتدا و تدة يقال: وتد الوتد إذا ثبّته و قد يستعمل لازما يقال: وتد الوتد إذا ثبت و (ميدان) بفتح الميم و الياء مصدر يقال: مادا الشّيء يميد ميدا، من باب ضرب و ميدانا، مثل نزعان إذا تحرّك.
الاعراب
الجملات الثّلاث لا محل لها من الأعراب و إضافة ميدان إلى الأرض بمعنى اللّام، و قيل انّها من قبيل إضافة الصّفة إلى الموصوف بتاويل أرضه المائدة و الأوّل أولى.
المعنى
قوله: (فطر الخلائق) أى خلقهم (بقدرته) و هذه اللفظة مأخوذة منالكتاب العزيز، قال سبحانه: الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ و في سورة إبراهيم: أَ فِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ و في الانعام: قُلْ أَ غَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا، فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ.
أى خالقهما، و في بعض التّفاسير أى مبتدئهما و مبتدعهما، استشهادا بما عن ابن عباس قال: ما كنت أدري ما فاطر السّماوات و الأرض حتّى اختصم إلى أعرابيّان في بئر فقال أحدهما: أنا فطرتها، أى ابتدأتها انتهى.
و قيل إن فاطر من الفطر بمعنى الشّق، كما في قوله سبحانه: إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ اي انشقّت.
أقول: و يشهد به ما في حديث الخلقة في بيان الاشباح لآدم عليه السلام: و هذه فاطمة، و أنا فاطر السّماوات و الأرض، فاطم أعدائي من رحمتي يوم فصل قضائي، و فاطم أوليائي عمّا يعرهم و يشينهم، فشققت لها اسما من اسمي، و سيأتي الحديث بتمامه عند شرح خلقة آدم في التّنبيه الثّاني من تنبيهات الفصل العاشر هذا، و في قوله عليه السلام بقدرته اشارة إلى ان خلق الأشياء بنفس القدرة التي هي عين ذاته، لا بشيء آخر، و أما ساير الصّناع و الفواعل فليسوا كذلك، فان صنعهم، و فعلهم بشيء غير ذواتهم كآلة أو ملكة نفسانية، أو مادة أو معاون، مثلا إذا أنشأ إنسان كتابا فانّه يحتاج إلى آلة كاليد و القلم، و إلى ملكة الكتابة، و إلى مادة كالمداد و القرطاس و إلى معاون يتّخذ له الآلة الخارجة و يصلح مادّة الكتابة، و أمّا صنعه سبحانه، فلا يحتاج إلى شيء من ذلك، و إنّما هو بنفس ذاته الواجب، و نفس قدرته الكاملة.
و القدرة في الأصل القوة و عند المتكلّمين هي الصّفة التي يتمكن معها الحيّ من الفعل و تركه بالارادة، و أمّا عند الحكماء عبارة عن كون الفاعل بحيث إن شاء فعل، و إن لم يشأ لم يفعل، و قدرته تعالى قيل: هو كون ذاته بذاته في الأزلبحيث يصحّ منه خلق الاشياء فيما لا يزال على وفق علمه بها، و هي عين ذاته، و قيل هي علمه بالنّظام الأكمل من حيث إنه يصحّ صدور الفعل عنه، و قيل: هي عبارة عن نفي العجز عنه، و قيل: هي فيض الأشياء عنه بمشيّته التي لا تزيد على ذاته، و هي العناية الأزليّة، و سيأتي تحقيق الكلام فيها و في غيرها من الصّفات الثّبوتيّة، عند شرح قوله عليه السلام: و كمال الاخلاص له نفي الصّفات عنه، فانتظر.
و (نشر الرّياح برحمته) أى بسطها و فرقها على الأطراف و الأكناف برحمته الواسعة، و نعمته السّابغة، لما فيها من المصالح و المنافع التي لا تعدّ و لا تحصى، منها ما اشير اليه في الآية الشّريفة، قال سبحانه في سورة الأعراف: وَ هُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ، حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ، فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ، فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ.
أى يرسل الرّياح و يطلقها منتشرة في الأرض على قراءة نشرا بالنّون، أو مبشّرة بالغيث على قراءة عاصم بالباء، بين يدي رحمته، و هو المطر، حتّى اذا حملت سحابا ثقالا بالماء، سقنا السّحاب إلى بلد ميّت، خال من الماء و الكلاء، فأنزلنا به أى بالسّحاب الماء، فأخرجنا بالماء من كلّ الثّمرات، و إلى هذا المضمون أيضا اشير في سورة الفرقان و النّمل و الرّوم.
و الجملة فالرّياح من أعظم النّعماء، و أسبغ الآلاء، لما فيها من إنبات النّبات و الأزهار، و إلقاح الأشجار و ايناع الثمار و رفع كثافات الهواء، و تطيب الماء و الكلاء، إلى غير ذلك من الثّمرات التي لا يعلمها إلّا هو سبحانه و تعالى هذا و بقي الكلام في مهبّ الرّياح و أقسامها.
فنقول: روى الصدوق في العلل باسناده عن العرزمي قال: كنت مع أبي عبد اللّه عليه السلام جالسا في الحجر«» تحت الميزاب، و رجل يخاصم رجلا و أحدهما يقول لصاحبه و اللّه ما تدري من أين تهب الرّيح، فلما أكثر عليه قال له أبو عبد اللّه عليه السلام: هل تدري أنت من أين تهب الرّيح قال: لا و لكنّي أسمع النّاس يقولون، فقلت لأبي عبد اللّه عليه السلام من أين تهب الرّيح فقال: إنّ الرّيح مسجونة تحت هذا الرّكن الشّامي فاذا أراد اللّه عزّ و جل أن يرسل منها شيئا أخرجه إمّا جنوبا فجنوب، و إمّا شمالا فشمال، و إما صبا فصبا، و إمّا دبورا فدبور، ثم قال: و آية ذلك أنّك ترى هذا الرّكن متحرّكا أبدا في الصّيف و الشّتاء و اللّيل و النّهار.
قال المحدث العلّامة المجلسي: و لعلّ المراد بحركة الرّكن حركة الثّوب المعلق عليه.
و في الفقيه و الكافي عن أبي بصير، قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن الرّياح الأربع: الشّمال، و الجنوب، و الصبا، و الدبور، و قلت له: إنّ النّاس يقولون إنّ الشّمال من الجنّة، و الجنوب من النّار، فقال: إن للّه جنودا من رياح، يعذب بها من يشاء ممّن عصاه، فلكلّ ريح منها ملك موكل بها، فاذا أراد اللّه عزّ ذكره أن يعذب قوما بنوع من العذاب، أوحى إلى الملك الموكل بذلك النّوع من الرّيح التي يريد أن يعذبهم بها، قال: فيأمرها الملك فتهيج كما يهيج الأسد المغضب، و قال: و لكلّ ريح منهنّ اسم: أما تسمع قوله عزّ و جلّ: كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَ نُذُرِ، إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ و قال الرِّيحَ الْعَقِيمَ و قال: رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ و قال: فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ.
و ما ذكر من الرّياح التي يعذب اللّه بها من عصاه، و قال عليه السلام و للّه عزّ ذكره رياح رحمة لواقح، و غير ذلك ينشرها بين يدي رحمته، منها ما يهيّج السّحاب للمطر، و منها رياح تحبس السّحاب بين السّماء و الأرض، و رياح تعصر السّحاب فتمطر باذن اللّه، و منها رياح تفرّق السّحاب، و منها رياح ممّا عدّ اللّه في الكتاب.
فأمّا الرّياح الأربع: الشّمال، و الجنوب، و الصبا، و الدّبور، فانّما هي أسماء الملائكة الموكلين بها، فاذا أراد اللّه أن يهب شمالا، أمر الملك الذي اسمه الشّمال، فيهبط على البيت الحرام، فقام على الرّكن الشّامي فضرب بجناحيه، فتفرّقت ريح الشّمال«» حيث يريد اللّه من البرّ و البحر.
و إذا أراد اللّه أن يبعث جنوبا أمر الملك الذي اسمه الجنوب، فيهبط على البيت الحرام، فقام على الرّكن الشّامي فضرب بجناحيه فتفرّقت ريح الجنوب في البرّ و البحر حيث يريد اللّه.
و إذا أراد اللّه أن يبعث الصّبا أمر الملك الذي اسمه الصّبا فهبط على البيت الحرام، فقام على الرّكن الشّامي فضرب بجناحيه، فتفرّقت ريح الصّبا حيث يريد اللّه عزّ و جلّ في البرّ و البحر.
و إذا أراد اللّه أن يبعث دبورا، أمر الملك الذي اسمه الدّبور فهبط على البيت فقام على الرّكن الشّامي فضرب بجناحيه، فتفرّقت ريح الدّبور حيث يريد اللّه من البرّ و البحر.
ثم قال أبو جعفر عليه السلام: أما تسمع لقوله«»: ريح الشمال، و ريح الجنوب، و ريح الدّبور، و ريح الصّبا، إنّما تضاف إلى الملائكة الموكلين بها.
أقول: يعني إضافة بمعنى اللّام لا إضافة بيانيّة هذا.
و عن الشّهيد في الذكرى أنّ الجنوب محلّها ما بين مطلع سهيل إلى مطلع الشّمس في الاعتدالين، و الصّبا محلّها ما بين الشّمس إلى الجدى، و الشّمالمحلها من الجدى إلى مغرب الشّمس في الاعتدالين، و الدّبور من مغرب الشّمس إلى مطلع سهيل انتهى.
لا يقال: إن المستفاد من الرّواية السّابقة، كون مهبّ جميع الرّياح جهة القبلة، و هو مناف لما ذكره الشّهيد.
لانّا نقول: إن ظاهره و إن كان ذلك إلّا أنّه يمكن تأويلها بأنّ الملك لعظمه و عظم جناحه يمكن أن يحرّك رأس جناحه بأىّ موضع أراد و يرسلها إلى أىّ جهة امر بالارسال إليها، و إنّما امر بالقيام على الكعبة لشرافتها، و قيل: ضرب الجناح علامة أمر الملك الرّيح للهبوب، و إنّما احتجنا إلى التأويل، لأنّ كون جميع الرّياح من طرف القبله خلاف ما يشهد به الوجدان (و وتد بالصّخور ميدان أرضه) يعني ثبّت بالجبال حركة أرضه و اضطرابها، فهي كالوتد لها مانعة عن اضطرابها. قال سبحانه في سورة النّحل: وَ أَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ أى كراهة أن تميد، و مثلها في سورة لقمان، و في الانبياء: وَ جَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ و الرّواسي جمع الراسية أى الجبال العالية الثّابتة، و في سورة النّبأ: أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً، وَ الْجِبالَ أَوْتاداً روى عن ابن عبّاس أنّ الأرض بسطت على الماء فكانت تكفأ«» بأهلها كما تكفأ السّفينة، فأرساها اللّه بالجبال.
و عن الخصال عن الصّادق عن أبيه عن جدّه، عليهم السّلام، أنّ النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم قال: إنّ اللّه تبارك و تعالى لمّا خلق البحار فخرت و زخرت و قالت: أىّ شيء يغلبني فخلق اللّه الفلك، فأدارها به و ذللها، ثمّ إنّ الأرض فخرت و قالت: أيّشيء يغلبني فخلق اللّه الجبال فأثبتها في ظهرها أوتادا من أن تميد بما عليها، فذلت الأرض و استقرت، و يأتي فيه طائفة من الأخبار في شرح الفصل الثّامن من فصول الخطبة هذا، و الاشكال بعد في كيفيّة كون الجبال سببا لسكون الأرض، و قد ذكروا فيها وجوها: منها ما ذكره الفخر الرّازي في التّفسير الكبير، و هو أنّ السّفينة اذا القيت على وجه الماء، فانّها تميل من جانب إلى جانب و تضطرب، فاذا وقعت الأجرام الثّقيلة فيها، استقرّت على وجه الماء، فكذلك لمّا خلق اللّه الأرض على وجه الماء اضطربت، و مادت، فخلق اللّه عليها هذه الجبال و وتدها بها، فاستقرّت على وجه الماء بسبب ثقل الجبال.
ثم قال: لقائل أن يقول: هذا يشكل من وجوه الأوّل أنّ هذا المعلّل إمّا أن يقول بأن حركات الأجسام بطباعها، أو يقول ليست بطباعها بل هي واقعة بايجاد الفاعل المختار.
فعلى التّقدير الأوّل نقول لا شكّ إنّ الأرض أثقل من الماء، و الأثقل يغوص في الماء و لا يبقى طافيا عليه، فامتنع أن يقال: إنّها كانت تميد و تضطرب، بخلاف السّفينة، فانّها متّخذة من الخشب، و في داخل الخشب تجويفات، غير مملوة، فلذلك تميد و تضطرب على وجه الماء، فاذا ارسيت بالأجسام الثقيلة استقرت و سكنت، فظهر الفرق.
و أمّا على التّقدير الثّاني و هو أن يقال: ليس للأرض و الماء طبايع يوجب الثّقل و الرّسوب، و الأرض إنّما تنزل لأن اللّه تعالى أجرى عادته بجعلها كذلك، و إنّما صار الماء محيطا بالأرض، لمجرّد إجراء العادة، و ليس هاهنا طبيعة للأرض و لا للماء توجب حالة مخصوصة، فنقول: على هذا التّقدير علّة سكون الأرض هي انّ اللّه يخلق فيها السّكون، و علّة كونها مائدة مضطربة، هو أنّ اللّه يخلق فيها الحركة فيفسد القول بأنّ اللّه خلق الجبال لتبقى الأرض ساكنة، فثبت أنّ التّعليل مشكل على كلا التّقديرين انتهى.
ثم ذكر ساير الاشكالات الواردة على المعلّل، تركنا التعرّض لها مخافة الاطناب.
أقول: و يمكن الجواب عن الاشكال بأن يقال: إنّا نختار أنّ الأرض بطبيعتها طالبة للمركز، لكن إذا كانت خفيفة كان الماء يحرّكها بأمواجه حركة قسريّة، و يزيلها عن مكانها الطبيعي بسهولة، فكانت تميد و تضطرب بأهلها و تغوص قطعة منها، و تخرج قطعة منها، و لمّا أرساها اللّه بالجبال، و أثقلها قاومت الماء و أمواجه بثقلها، فكانت كالأوتاد و مثبتة لها، و منها ما ذكره أيضا و اختاره حيث قال: و الذي عندي في هذا الموضع المشكل أن يقال: إنّه ثبت بالدلائل اليقينيّة أنّ الأرض كرة و أنّ هذه الجبال على سطح هذه الكرة جارية مجرى خشونات و تضريسات تحصل على وجه هذه الكرة، إذا ثبت هذا فنقول، لو فرضنا أنّ هذه الخشونات كانت معدومة بل كانت الأرض كرة حقيقة خالية عن هذه الخشونات و التّضريسات، لصارت بحيث تتحرك بالاستدارة بأدنى سبب لأنّ الجرم البسيط المستدير و إن لم يجب كونه متحرّكا بالاستدارة عقلا، إلّا أنّه بأدنى سبب يتحرك على هذا الوجه، امّا إذا حصل على سطح كرة الأرض هذه الجبال، و كانت كالخشونات الواقعة على وجه الكرة، فكلّ واحد من هذه الجبال إنّما يتوجه بطبعه إلى مركز العالم، و توجه ذلك الجبل نحو مركز العالم، بثقله العظيم و قوته الشّديدة، يكون جاريا مجرى الوتد الذي يمنع كرة الأرض من الاستدارة فكان تخليق هذه الجبال على الأرض كالأوتاد المغروزة في الكرة المانعة لها من الحركة المستديرة، و كانت مانعة للأرض عن الميد و الميل و الاضطراب بمعنى أنّها منعت الأرض عن الحركة المستديرة، فهذا ما وصل إليه خاطري في هذا الباب و اللّه أعلم انتهى.
و اعترض عليه بأنّ كلامه لا يخلو عن تشويش و اضطراب، و الذي يظهر من أوائل كلامه، هو أنّه جعل المناط في استقرار الأرض الخشونات و التّضريسات من حيث إنّها خشونات و تضريسات، و ذلك إمّا لممانعة الأجزاء المائية الملاصقة لتلك التّضريسات، لاستلزام حركة الأرض زوالها عن مواضعها و حينئذ يكون علّة السّكون هي الجبال الموجودة في الماء، لا ما خلقت في الرّبع المكشوف من الأرض و هو خلاف الظاهر من قوله تعالى: وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها.
و القول: بأنّ ما في الماء أيضا من فوقها، فلعلّ المراد تلك الجبال لا يخلو عن بعد مع أنّها ربّما كانت معاونة لحركة الأرض، كما إذا تحركت كثرة الماء بتموّجها أو تموّج أبعاضها المقارنة لتلك الخشونات، و إنّما تمانعها عن الحركة احيانا عند حركة بعضها، و امّا لممانعة الأجزاء الهوائية المقاربة للجبال الكائنة على الرّبع الظاهر، فكانت الأوتاد مثبتة لها في الهواء، مانعة عن تحريك الماء بتموّجه إيّاها كما يمانع الجبال المخلوقة في الماء عن تحريك الرّياح إيّاها، و حينئذ يكون وجود الجبال في كلّ منهما معاونا لحركة الأرض في بعض الصّور، معاوقا عنها في بعضها، و لا مدخل حينئذ لثقل الجبال و تركبها في سكون الأرض و استقرارها.
و منها ما اختاره العلّامة المجلسي في البحار، و هو أن يكون مدخليّة الجبال لعدم اضطراب الأرض بسبب اشتباكها و اتّصال بعضها ببعض في أعماق الأرض بحيث تمنعها عن تفتّت أجزائها و تفرّقها، فهي بمنزلة الأوتاد المغروزة المثبتة في الأبواب المركبة عن قطع الخشب الكثيرة، بحيث تصير سببا لالصاق بعضها ببعض و عدم تفرّقها، و هذا معلوم ظاهر لمن حفر الآبار في الأرض، فانّها تنتهي عند المبالغة في حفرها إلى الأحجار الصّلبة، و أنت ترى أكثر قطع الأرض واقعة بين جبال محيطة بها، فكأنّها مع ما يتّصل بها من القطعة الحجريّة المتّصلة بها من تحت تلك القطعات، كالظرف لها، تمنعها عن التفتّت و التفرّق و الاضطراب عند عروض الأسباب الداعية إلى ذلك، إلى غير ذلك من الوجوه التي ذكروها، و اللّه العالم بحقايق الامور.
الترجمة
يعنى آفريد و پيدا كرد يا اين كه شق كرد نور وجود مخلوقات را از ظلمت عدم بقدرت كامله خودش، و نشر و پراكنده نمود بادها را برحمت شامله خود، و ثابت و محكم گردانيد حركت و اضطراب زمين را با سنگها و كوهها.
الفصل الرابع
أوّل الدّين معرفته، و كمال معرفته التّصديق به، و كمال التّصديق به توحيده، و كمال توحيده الإخلاص له، و كمال الإخلاص له نفي الصّفات عنه لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف، و شهادة كلّ موصوف أنّه غير الصّفة فمن وصف اللّه سبحانه فقد قرنه، و من قرنه فقد ثنّاه، و من ثنّاه فقد جزّاه، و من جزّاه فقد جهله.
اللغة
(الاوّل) ذهب جمهور البصريّين إلى أنّه على وزن أفعل مهموز الوسط، فقلبت الهمزة الثّانية واوا ثم ادغمت، و عن الجوهري أنّه يدلّ عليه قولهم هذا أوّل منك، و الجمع الأوائل و الاوالي على القلب، و ذهب الكوفيون و طائفة من البصريّين إلى أنّ أصله و وئل على وزن فوعل، قلبت الواو الاولى همزة.
إذا علمت ذلك فمعنى الأوّل في اللّغة ابتداء الشّيء، ثم قد يكون له ثان، و قد لا يكون، كما يقول: هذا أول ما اكتسبته، فقد يكسب بعده شيئا، و قد لا يكسب، و استدلّ الزّجاج عليه بقوله تعالى حكاية عن الكفار المنكرين للبعث، إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى.
فعبّر بالاولى و ليس لهم غيرها (و الدّين) الطاعة و الانقياد و العبادة و الاسلام، قال سبحانه: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ.
و تقول: دنت دينا أى أسلمت و دان الرّجل إذا أطاع، قال الطريحي: الدّين وضع إلهي لاولي الألباب يتناول الاصول و الفروع (و المعرفة) العلم و قيل: هي إدراك البسائط و الجزئيات، و العلم إدراك المركبات و الكليات، و من ثم يقال: عرفت اللّه، و لا يقال: علمته، و قيل هي عبارة عن الادراك التصوري، و العلم عبارة عن الادراك التّصديقي، و قيل: هي إدراك الشّيء ثانيا بعد توسّط نسيانه فلذلك يسمّى الحق سبحانه بالعالم، دون العارف، قيل: و هذا أشهر الأقوال في تعريف المعرفة.
أقول: و على هذا فاستعمال المعرفة في المقام«» نظرا الى سبق إدراك ذاته سبحانه في عالم الذّر، أو عند أخذ الميثاق من العقول المجرّدة، فافهم«» (و التّوحيد) جعل الشّيء واحدا أى الحكم بوحدانيته، و قد يطلق على التّفريق بين شيئين بعد الاتصال، و على الاتيان بالفعل الواحد منفردا، و في الاصطلاح إثبات ذات اللّه بوحدانيّته، و وحدانيّته بمعنى أنّه لا ثاني له في الوجود، و بمعنى أنّه لا كثرة فيه مطلقا لا في عين الذّات، لانتفاء التركيب و الأجزاء، و لا في مرتبة الذّات لانتفاء زيادة الوجود، و لا بعد مرتبة الذّات لانتفاء زيادة الصّفات، و قد يقصد بها معنى أنّه لم يفته شيء من كماله، بل كلّ ما ينبغي له فهو له بالذّات و الفعل (و الاخلاص) مصدر من أخلص الشّيء إذا جعله خالصا ممّا يشوبه، يقال: خلص الماء اذا صفا من الكدر، و كلّ شيء صفا عن شوبه و خلص يسمّى خالصا قال تعالى: مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَ دَمٍ لَبَناً خالِصاً.
أى لا شوب فيه من الفرث و الدّم، و الاخلاص في الطاعة ترك الريا، و الاخلاص في الدّين ترك الشّرك (و قرن) بين الحجّ و العمرة من باب قتل و في لغة من باب ضرب: جمع بينهما في الاحرام و (ثنيت) الشّيء بالتثقيل: جعلته اثنين و (جزأت) الشيء تجزأة قسمته، و جعلته أجزاء.
الاعراب
لفظ الأوّل له استعمالان أحدهما أن يكون اسما مجردا عن الوصفيّة فيكون منصرفا، و منه قولهم: ما له أوّل و لا آخر، قال أبو حيّان في الارتشاف في محفوظي إنّ هذا يؤنّث بالتّاء و يصرف أيضا فيقال: أوّلة و آخرة، الثّاني أن يكون صفة، اى أفعل تفضيل بمعنى الأسبق فيعطى حكم غيره من صيغ أفعل التّفضيل، من منع الصّرف، و عدم تأنيثه بالتّاء، و ذكر من التّفضيليّة بعده، يقال: هذا أوّل من هذين، و لقيته عاما أوّل بنصب أوّل ممنوع الصّرف، على انّه، صفة للمنصوب، و اللام في قوله كمال توحيده الاخلاص له زائدة للتقوية، مفيدة للتوكيد، كما في قوله: فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ… مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ… نَزَّاعَةً لِلشَّوى و نحو ضربي لزيد حسن، و هي من أقسام اللّام الجارّة التي تفتح مع الضمير دائما إلّا المتكلّم، فتكون مكسورة معه، و مكسورة مع الظاهر إلّا المستغاث فتكون مفتوحة، نحو يا لزيد فرقا بينها و بين لام المستغاث لأجله، لأنّها مكسورة و من في قوله فمن وصف اللّه و ما يتلوه، من كلم المجازات اسم شرط مرفوع المحل على الابتداء، و خبره الجزاء، لتمامية الفائدة به، و قيل: الشّرط لتحمله ضمير المبتدأ، و قيل هما معا.
المعنى
اعلم أنّ هذه الفقرة من الخطبة مع وجازتها متضمّنة لأكثر العلوم الالهيّة ببراهينها السّاطعة، و لذلك تحير في إدراك معناها اولو الأفهام، و عجزت عن الوصول إلى مغزاها العقول و الأوهام، و لا بأس بالاشارة إلى نبذ من كنوز أسرارها، و أنموذج من رموز أنوارها ثم نتبعها بما ذكره بعض الأعلام، في تفسير المقام.
فنقول: قوله عليه السلام (أوّل الدّين معرفته) يعني ابتداء الطاعة و العبادة معرفة اللّه سبحانه، إذ الطاعة و العبادة أى كون العبد عبدا فرع معرفة المطاع و المعبود، فما لم يعرف لا يمكن اطاعته، و لذلك أنّ أمير المؤمنين عليه السلام بعد ما سأل عنه حبربقوله: هل رأيت ربّك حين عبدته أجاب بقوله: ويلك ما أعبد ربّا لم أره، قال: و كيف رأيته قال: ويلك لا تدركه العيون في مشاهدة الأبصار، و لكن رأته القلوب بحقايق الايمان، رواه في الكافي باسناده عن أبي عبد اللّه عليه السلام، و رواه السّيد قد (ره) أيضا في المتن باختلاف، و هو المختار المأة و الثّامن و السّبعون.
ثمّ إنّ معرفته سبحانه قد تكون ناقصة، و قد تكون تامة، أمّا النّاقصة فهو إدراك أنّ للعالم صانعا مدبّرا، و أمّا التّامة فقد أشار اليها بقوله: (و كمال معرفته التّصديق به) أى الاذعان بوجوده و وجوبه، لأنّ التّصور للشّىء إذا اشتدّ يصير إذعانا و حكما بوجوده، إذ من ضرورة كونه صانع العالم و الهه أن يكون موجودا في نفسه فان ما لم يكن موجودا في نفسه، استحال أن يصدر عنه أثر موجود، فهذا الحكم اللّاحق هو كمال معرفته و تصوّره.
ثمّ إنّ التّصديق به قد يكون ناقصا و قد يكون تاما، أمّا النّاقص فهو التّصديق به مع تجويز الشّريك له، و أمّا التّام فقد أشار إليه بقوله: (و كمال التّصديق به توحيده) أى الحكم بوحدانيّته، و أنّه لا شريك له في ذاته، لأن طبيعة واجب الوجود لو فرض اشتراكها بين اثنين لزم أن يكون لكلّ واحد منهما من مميّزو راء ما به الاشتراك، فيلزم التّركيب في ذاتيهما، و كلّ مركب ممكن، و بعبارة اخرى، لو فرضنا موجودين واجبي الوجود لكانا مشتركين في وجوب الوجود، و متغايرين بامر من الامور، و إلّا لم يكونا اثنين، و ما به الامتياز إمّا أن يكون تمام الحقيقة، أو لا يكون تمام الحقيقة بل جزؤها، لا سبيل إلى الأول، لأنّ الامتياز لو كان بتمام الحقيقة لكان وجوب الوجود المشترك بينهما خارجا عن حقيقة كلّ واحد منهما، و هو محال، لأنّا بيّنا أنّ وجوب الوجود نفس حقيقة الواجب لذاته، و لا سبيل إلى الثّاني، لأنّ كل واحد منهما يكون مركبا ممّا به الاشتراك و ممّا به الامتياز، و كلّ مركب يحتاج إلى غيره أى إلى جزئه، فيكون ممكنا لذاته هذا خلف.
ثمّ إنّ التّوحيد قد يكون ناقصا و قد يكون تاما، أمّا النّاقص فهو الحكم بوحدانيّته مع عدم الاخلاص له، و أمّا التّام فهو ما أشار اليه بقوله (و كمال توحيده الاخلاص له) أى جعله خالصا عن النّقايص أى سلب النّقايص عنه ككونه جسما أو عرضا أو نحوهما ممّا هو من صفات النّقص هذا.
و قيل: إن المراد بالاخلاص إخلاص العمل له، و على هذا فاللّام للتّعليل قال سبحانه: وَ ما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ.
قال الشّارح البحراني و صدر الدّين الشّيرازي في شرح الكافي في قوله: و كمال توحيده الاخلاص له: فيه إشارة إلى أنّ التّوحيد المطلق للعارف إنّما يتمّ بالاخلاص له، و هو الزّهد الحقيقي الذي هو تنحية كل ما سوى الحقّ الأوّل عن سنن الايثار و بيان ذلك أنّه ثبت في علم السّلوك أن العارف ما دام يلتفت مع ملاحظة جلال اللّه و عظمته الى شيء سواه فهو بعد واقف دون مقام الوصول، جاعل مع اللّه غيرا، حتّى أنّ أهل الاخلاص ليعدّون ذلك شركا خفيّا، كما قال بعضهم:
من كان في قلبه مثقال خردلة سوى جلالك فاعلم أنه مرض
و أنّهم ليعتبرون في تحقّق الاخلاص أن يغيب العارف عن نفسه حال ملاحظته لجلال اللّه، و ان لحظها فمن حيث هي لاحظة لا من حيث هي مزيّنة بزينة الحق، فاذن التّوحيد المطلق أن لا يعتبر معه غيره مطلقا انتهى و لكن الاظهر«» ما قلناه«».
ثمّ إنّ الاخلاص له قد يكون ناقصا و قد يكون تاما، أمّا النّاقص فهو جعله خالصا عن صفات النّقصان مع اثبات صفات الكمال، و أمّا التام فهو ما أشار إليه بقوله (و كمال الاخلاص له نفى الصّفات عنه) أى الصّفات التي وجودها غير وجود الذّات، و إلا فذاته بذاته مصداق لجميع النّعوت الكمالية، و الأوصاف الالهية، من دون قيام أمر زائد بذاته تعالى فرض أنّه صفة كماليّة له، فعلمه و إرادته و قدرته و حياته و سمعه و بصره كلّها، موجودة بوجود ذاته الأحديّة، مع أنّ مفهوماتها متغايرة،و معانيها متخالفة، فانّ كمال الحقيقة الوجوديّة في جامعيّتها للمعاني الكثيرة الكماليّة مع وحدة الوجود هذا.
و قد تحصّل ممّا ذكره عليه السلام أنّ مراتب العرفان خمسة.
الاولى مرتبة التّصوّر و هي إدراك أنّ للعالم مؤثرا، و هذه المرتبة هي التي نفوس الخلائق مجبولة إليها باقتضاء فطرتها التي فطر النّاس عليها، و كلّ مولود يولد على الفطرة إلّا أنّ أبويه يهوّد انه أو ينصّرانه أو يمجّسانه.
الثّانية مرتبة التّصديق و الاذعان بوجوده و وجوبه بالبراهين السّاطعة، و الأدلة القاطعة، قال سبحانه: قالَتْ رُسُلُهُمْ أَ فِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ.
الثّالثة مرتبة التّوحيد و التّفريد عن الشركاء قُلْ: هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ… قُلْ: إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ.
الرّابعة مرتبة الاخلاص أى جعله خالصا عن النّقايص.
اللَّهُ الصَّمَدُ اى المتعالي عن الكون و الفساد لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ أو جعل العمل خالصا له فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً، وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً.
الخامسة مرتبة نفي الصّفات و هي غاية العرفان و منتهى قوة الانسان.
و قد ظهر ممّا ذكره عليه السلام أيضا أنّ كلّ واحدة من المراتب الأربعة الاولى مبدء لما بعدها، و كلّ مرتبة من المراتب الأربعة الأخيرة كمال لما قبلها، و هذه المراتب الخمسة في التمثيل كقشر الجوز، و قشر قشره، و لبّه، و لبّ لبّه، و الدّهن المستخرج منه.
فالمرتبة الاولى كالقشرة العليا من الجوز لا خير فيها ألبتّة، إن اكلت فهو مرّ المذاق، بعيدة عن المساغ، و لكنّها تحفظ القشرة الصّلبة السّفلى.
و المرتبة الثّانية مثل القشرة الثّانية، فانّها ظاهرة النّفع بيّنة الجدوى، تصون اللّبّ عن الفساد و تربّيه إلى وقت الحصاد، لكنّها نازلة القدر، زهيدة النفع بالنّظر إلى اللب.
و المرتبة الثالثة كالغطاء المحيط باللّب المأكول بتبعية اللبّ.
و المرتبة الرّابعة كاللّب.
و المرتبة الخامسة كالدّهن المستخرج من اللّب الصّافي من المشوبات، و الخالص عن الكدورات الذي يكاد يضيء و لو لم تمسسه نار هذا.
و لبعض العرفاء في تفسير كلامه عليه السلام تقرير آخر لا بأس بتحريره، قال: الدّين الانقياد و الطاعة، و المراد من أوّلية المعرفة للانقياد إمّا توقفه عليها، أو كونه ابتداء له، لأنّ المراد من المعرفة إمّا التصور، و إمّا عقد القلب عليه، و هو ما يحصل بالموعظة الحسنة، و أمّا التّصديق الذي هو كمال المعرفة فهو إنّما يحصل بالحكمة و البرهان و لعلّ المراد من التّصديق به هو مرتبة علم اليقين، و من كمال التّصديق به توحيده هو مرتبة عين اليقين، و من كمال توحيده الاخلاص له هو مرتبة حق اليقين، و هو الذي يحصل عند الفناء، و من كمال الاخلاص له نفي الصّفات عنه هو الفناء عن الفناء، و هذه المراتب مترتّبة في الحصول للسّالك التّارك، و يكون كلّ مرتبة لاحقة، غاية للسّابقة عليها، و لذا عبّر عليه السلام عن كلّ مرتبة لاحقة بالكمال بالنسبة الى السّابقة، و أيضا كلّ مرتبة لاحقة أخص من السّابقة عليها، و السّابقة أعمّ منها، و وجود العام إنّما يكون بالخاص فيكون كمالا له و قوله عليه السلام: و كمال توحيده الاخلاص له، أى سلب النّقايص باثبات الكمالات المقابلة لها، كسلب الجهل عنه باثبات العلم، و سلب العجز عنه باثبات القدرة له، و هكذا، و إنّما كان هذا كمال التّوحيد، لأنّه يدلّ على أنّ وحدته تعالى ليست وحدة ناقصة هي ما سوى الوحدة الحقة الحقيقة من أقسام الوحدة، بل وحدته وحدة حقّة هي حقّ الوحدة، و لما كان الاخلاص له مستلزما لاثبات الصّفات له، قال عليه السلام: و كمال الاخلاص له نفي الصّفات عنه، أى جعل الكمالات الحاصلة الثّابتة له بسلب النّقايص عنه عين ذاته الاحدية، فيكون ذاته كلّ الكمالات على وجه أعلى و أشرف، فهو الكلّ في وحدته، و يحتمل أن يكون المراد من نفي الصّفات عنه، أن وصف الواصفين له غير لايق بجنابه مسلوب عنه، كلّ ما ميّزتموه بأوهامكم في أدقّ معانيه فهو مخلوق مثلكم مردود إليكم
عجز الواصفون عن صفتك
اعتصام الورى بمغفرتك
تب علينا فانّنا بشر
ما عرفناك حق معرفتك
فيكون غاية غايات المعرفة العجز عنها، لا احصى ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك هذا، و قوله عليه السلام (لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف، و شهادة كلّ موصوف أنّه غير الصفة) المراد بالشهادة هنا شهادة الحال، و هي الدّلالة، فان حال الصفة يشهد بحاجتها إلى الموصوف و عدم قيامها بدونه، و حال الموصوف يشهد بالاستغناء عن الصفة في أصل الوجود و القيام بالذّات بدونها، و افتقاره إليها في كماله الذي لا يكمل إلّا بها، فلا يكون أحدهما عين الآخر.
ثم إن هذه الفقرة إشارة إلى برهان نفى الصّفات العارضة التي فرضت قديمة، كما يقوله الأشاعرة، و ذلك لأن الصفة إذا كانت عارضة كانت مغايرة للموصوف لا محالة حسبما عرفت، و كلّ متغايرين في الوجود لا بدّ أن يكون كلّ واحد منهما متميّزا عن صاحبه بشيء، و مشاركا له بشيء آخر، لاشتراكهما في الوجود، و محال أن يكون جهة الاشتراك عين جهة الامتياز، و إلّا لكان الواحد بما هو واحد كثيرا، بل الوحدة بعينها كثيرة، هذا محال، فاذن لا بدّ أن يكون كلّ منهما مركبا من جزء به الاشتراك، و جزء به الامتياز، فيلزم التّركيب في ذات الواجب، و قد ثبت أنّه بسيط الحقيقة، و إلى ذلك أشار عليه السلام بقوله: (فمن وصف اللّه سبحانه فقد قرنه) أى من وصفه تعالى بصفة زايدة فقد قرنه بغيره في الوجود (و من قرنه فقد ثنّاه) أي من قرنه بغيره فقد جعل له ثانيا في الوجود، لأنّه قد أثبت قديمين (و من ثنّاه فقد جزّاه) لأن من فرضه ثاني اثنين، فقد جعله مركبّا ذا جزئين، بأحدهما يشاركه في الوجود، و بالآخر يباينه، و أمّا ما ذكره الشارح المعتزلي في تعليل التجزية بقوله: لأنّه أذا اطلق لفظ اللّه على الذّات و العلم القديم، فقد جعل مسمّى هذا اللّفظ و فايدته متجزّية، كاطلاق لفظ الأسود على الذّات التي حلّها السّواد، فليس بشيء، لأنّ الكلام في مرتبة الذّات من حيث هي، لا من حيث إطلاق لفظة عليها، كما هو ظاهر (و من جزّاه فقد جهله) لأنّه اعتقد خلاف ما هو الواقع.
تذنيبات
الاول في تحقيق صفاته سبحانه على ما حقّقها بعض العارفين
فنقول: ان الصّفات على ثلاثة أقسام: منها سلبيّة محضة كالقدوسيّة و الفردية، و منها إضافية محضة كالمبدئية و الرّازقية، و منها حقيقية سواء كانت ذات إضافة كالعالمية و القادرية أولا، كالحياة و البقاء، و لا شك أنّ السّلوب و الاضافات زائدة على الذّات، و زيادتها لا توجب انفعالا و لا تكثّرا، لأنّ اعتبارها بعد اعتبار المسلوب بها عنها، و المضاف إليها، لكن يجب أن يعلم أنّ السّلوب عنه تعالى كلّها راجعة إلى سلب الامكان، فانّه يندرج فيه سلب الجوهريّة، و سلب الجسميّة، و سلب المكان و الحيز و الشّريك و النّقص و العجز و الآفة، و غير ذلك.
و الاضافات في حقّه تعالى كلها راجعة إلى الموجديّة التي تصحح جميع الاضافات، كالخالقية و الرازقية و الكرم و الجود و الرّحمة و الغفران، و لو لم يكن له إضافة واحدة اتحدت فيها جميع الاضافات اللّايقة به لأدّى تخالف حيثياتها إلى اختلاف حيثيات في الذّات الأحديّة، و امّا الصّفات الحقيقية فكلها غير زائدة على ذاته، و ليس معنى عدم زيادتها مجرّد نفى أضدادها عنه تعالى، حتى يكون علمه تعالى عبارة عن نفى الجهل، و قدرته عبارة عن نفى العجز، و على هذا القياس في السمع و البصر و غيرهما ليلزم التعطيل، و لا أيضا معنى كونه عالما و قادرا أن يترتب على مجرّد ذاته ما يترتب على الذّات مع الصّفة، بأن ينوب ذاته مناب تلك الصّفات، ليلزم أن لا يكون إطلاق العلم و القدرة و غيرهما عليه تعالى على سبيل الحقيقة، فيكون عالما قادرا حيّا سميعا بصيرا بالمجاز، فيصحّ سلبها عنه، لأنّه علامة المجاز و لازمه.
فان قلت: فما معنى قوله عليه السلام: و كمال الاخلاص له نفى الصّفات عنه قلنا: معناه حسبما أشرنا إليه كونها صفات عارضة موجودة بوجود زايد، كالعالم و القادر في المخلوقات، فان العلم فينا صفة زائدة على ذاتنا، و كذا القدرة كيفية نفسانية، و كذا ساير الصّفات، و المراد أنّ هذه المفهومات ليست صفات له تعالى، بل صفاته ذاته و ذاته صفاته، لا أنّ هناك شيئا هو الذّات، و شيئا آخر هو الصّفة، ليلزم التركيب فيه تعالى عنه علوّا كبيرا، فذاته وجود و علم و قدرة و إرادة و حياة و سمع و بصر، و هو أيضا موجود عالم قادر حي مريد سميع بصير.
فان قلت: الموجود ما قام به الوجود، و العالم ما قام به العلم، و كذا ساير المشتقات.
قلنا: ليس كذلك، بل ذلك متعارف أهل اللغة لما رأوا أنّ أكثر ما يطلق عليه المشتق لا بدّ فيه من صفة زائدة على الذّات، كالابيض و الكاتب و الضّاحك و غيرها، فحكموا على الاطلاق أنّ المشتقّ ما قام به المبدأ، و التحقيق و الاستقراء يوجبان خلافه، فانّا لو فرضنا بياضا قائما بنفسه لقلنا: انّه مفرّق للبصر، و إنّه أبيض، فكذا الحال فيما سواه من العالم و القادر، فالعالم ما ثبت له العلم سواء كان بثبوت عينه أو بثبوت غيره.
الثاني في الاشارة إلى جملة من الأخبار الواردة في بعض مراتب العرفان
و هي كثيرة جدّا، و نحن نذكر شطرا منها تيمنا و تبرّكا.
فنقول: روى الصّدوق في التّوحيد باسناده عن زيد بن وهب عن أبي ذرّ (ره) قال: خرجت ليلة من الليالي، فاذا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يمشي وحده ليس معه إنسان فظننت أنّه يكره أن يمشي معه أحد، قال (ره): فجعلت أمشي في ظلّ القمر فالتفت فرآني، فقال صلّى اللّه عليه و آله: من هذا فقلت أبو ذر جعلني اللّه فداك، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلم يا أبا ذر تعال فمشيت معه ساعة، فقال: إن المكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلّا من أعطاه اللّه خيرا فنفخ منه بيمينه و شماله و بين يديه و ورائه، و عمل فيه خيرا قال: فمشيت ساعة، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلم: اجلس هاهنا، و أجلسني في قاع حوله حجارة، فقال لي: اجلس حتّى أرجع إليك، قال: و انطلق في الحرّة«» حتّى لم أره و توارى عنّي و أطال اللّبث، ثم إنّي سمعته عليه السلام و هو مقبل يقول: و إن زنى و إن سرق، قال: فلما جاء لم أصبر حتى قلت له: يا نبيّ اللّه جعلني اللّه فداك من تكلّمه في جانب الحرّة فانّي ما سمعت أحدا يردّ عليك شيئا، فقال عليه السلام، ذاك جبرئيل، عرض لي في جانب الحرّة، فقال: ابشر امّتك أنّه من مات لا يشرك باللّه عزّ و جلّ شيئا دخل الجنّة، قال: قلت يا جبرئيل، و إن زنى و إن سرق و إن شرب الخمر، قال: نعم، و إن شرب الخمر.
قال الصّدوق (ره) بعد ذكر الحديث يعني بذلك أنّه يوفّق للتّوبة حتّى يدخل الجنّة.
و فيه أيضا عن الأسود بن هلال، عن معاذ بن الجبل، قال: كنت رفقت النّبي صلّى اللّه عليه و آله، فقال يا معاذ: هل تدري ما حقّ اللّه على العباد يقولها ثلاثا، قلت: اللّه و رسوله أعلم، فقال رسول اللّه: حق اللّه عزّ و جلّ على العباد أن لا يشركوا به شيئا، ثم قال: هل تدري ما حق العباد على اللّه إذا فعلوا ذلك قلت: اللّه و رسوله أعلم، قال: أن لا يعذّبهم، أو قال: أن لا يدخلهم النّار.
و فيه أيضا عن ابن عبّاس، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: و الذي بعثني بالحق نبيّا، لا يعذّب اللّه بالنّار موحدا ابدا، و انّ أهل التّوحيد ليشفّعون فيشفعون، ثم قال صلّى اللّه عليه و آله و سلم إنّه إذا كان يوم القيامة أمر اللّه تبارك و تعالى بقوم سائت أعمالهم في دار الدّنيا إلى النّار، فيقولون: يا ربّنا كيف تدخلنا النّار و قد كنّا نوحّدك في دار الدّنيا و كيف تحرق بالنّار ألسنتا و قد نطقت بتوحيدك في دار الدّنيا، و كيف تحرق قلوبنا و قد عقدت على أن لا إله إلّا اللّه، أم كيف تحرق وجوهنا و قد عفّرناها لك في التّراب، أم كيف تحرق أيدينا و قد رفعناها بالدّعاء إليك، فيقول اللّه عزّ و جلّ: عبادي سائت أعمالكم في دار الدّنيا فجزاكم نار جهنّم، فيقولون: يا ربّنا عفوك أعظم أم خطيئتنا فيقول اللّه عزّ و جلّ: بل عفوي، فيقولون رحمتك أوسع أم ذنوبنا فيقول اللّه عزّ و جلّ: بل رحمتي، فيقولون إقرارنا بتوحيدك أعظم أم ذنوبنا فيقول اللّه عزّ و جلّ: بل إقراركم بتوحيدى أعظم، فيقولون: يا ربّنا فليسعنا عفوك و رحمتك التي وسعت كلّ شيء، فيقول اللّه جلّ جلاله: ملائكتي و عزّتي و جلالي ما خلقت خلقا أحب إلىّ من المقرّين بتوحيدي و أن لا إله غيري، و حقّ عليّ أن لا اصلى بالنّار أهل توحيدي، ادخلوا عبادي الجنّة.
الثالث
ينبغي أن يعلم أن مجرّد الاعتقاد بالتّوحيد و نفى الشّرك و الاعتراف بالوحدانيّة لا يكفي في ترتّب الثّواب و دفع العقاب، بل لا بدّ مع ذلك من الاعتقاد بالولاية، و الأخبار الواردة في أبواب التّوحيد و المعرفة و إن كانت مطلقة إلّا أنّها يقيّدها مضافة إلى إجماع أصحابنا «قد» أخبار اخر مفيدة لكون الولاية شرطا في التّوحيد ككونها شرطا في صحّة الفروع و قبولها، و بدونها لا ينتفع بشيء منها، و هذه الأخبار كثيرة جدّا بالغة حدّ الاستفاضة بل التّواتر.
منها ما رواه في جامع الأخبار باسناده عن محمّد بن عمارة عن أبيه، عن الصّادق جعفر بن محمّد، عن أبيه محمّد بن عليّ، عن آبائه الصّادقين عليهم السّلام، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إنّ اللّه تبارك و تعالى جعل لأخي عليّ بن أبي طالب عليه السلام فضائل لا يحصي عددها غيره، فمن ذكر فضيلة من فضائله مقرّا بها غفر اللّه له ما تقدّم من ذنبه و ما تأخر، و لو أتى القيامة بذنوب الثقلين، و من كتب فضيلة من فضائل عليّ ابن أبي طالب عليه السلام، لم تزل الملائكة يستغفر له ما بقى لتلك الكتابة رسم، و من استمع فضيلة غفر اللّه له الذّنوب التي اكتسبها بالاستماع، و من نظر إلى كتابة في فضائله غفر اللّه له الذّنوب التي اكتسبها بالنّظر، ثم قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: النّظر إلى عليّ بن أبي طالب عليه السلام عبادة، و ذكره عبادة، و لا يقبل ايمان عبد إلّا بولايته، و البراءة من أعدائه.
و في الكافي باسناده عن أبي حمزة، قال: قال لي أبو جعفر عليه السلام إنّما يعبد اللّه من يعرف اللّه، فأمّا من لا يعرف اللّه فانّما يعبده هكذا ضلالا، قلت جعلت فداك: فما معرفة اللّه قال: تصديق اللّه عزّ و جل و تصديق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم، و موالاة عليّ و الايتمام به و بالأئمة عليهم السّلام، و البراءة إلى اللّه عزّ و جل من عدوّهم، هكذا يعرف اللّه.
و في الوسائل و مجمع البيان عن أبي حمزة الثّمالي قال: قال لنا عليّ بن الحسين عليهما السّلام: أىّ البقاع أفضل فقلنا: اللّه و رسوله و ابن رسوله أعلم، فقال: أفضل البقاع لنا ما بين الرّكن و المقام، و لو أنّ رجلا عمر«» ما عمر نوح عليه السلام في قومه ألف سنة إلّا خمسين عاما، يصوم النّهار و يقوم اللّيل في ذلك المكان، ثم لقى اللّه بغير ولايتنا لم ينفعه ذلك شيئا.
و في الوسائل أيضا باسناده عن المعلّى بن خنيس، قال: قال أبو عبد اللّه عليه السلام يا معلّى لو أنّ عبدا عبد اللّه مأئة عام ما بين الركن و المقام، يصوم النهار و يقوم الليل حتّى يسقط حاجباه على عينيه، و يلتقى تراقيه هرما، جاهلا بحقّنا لم يكن له ثواب.
و فيه أيضا عن جعفر بن محمّد، عن أبيه عليهما السّلام قال: نزل جبرئيل على النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم، فقال: يا محمّد السّلام يقرئك السّلام، و يقول خلقت السّماوات السّبع و ما فيهنّ، و خلقت الأرضين السبع و من عليهنّ، و ما خلقت موضعا أعظم من الرّكن و المقام، و لو أنّ عبدا دعاني منذ خلقت السّماوات و الأرض، ثم لقيني جاحدا لولاية عليّ لأكببته في سقر.
و روى عليّ بن ابراهيم القمي باسناده عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام، في حديث، قال: ذروة الأمر و سنامه و مفتاحه و باب الاشياء و رضى الرّحمن: الطاعة للامام بعد معرفته، أما لو أنّ رجلا قام ليله و صام نهاره و تصدّق بجميع ماله و حجّ جميع دهره، و لم يعرف ولاية وليّ اللّه فيواليه و يكون جميع أعماله بدلالته، ما كان له على اللّه حقّ في ثوابه، و لا كان من أهل الايمان.
و بالجملة فقد تحصل من هذه الأخبار و غيرها من الأخبار الكثيرة: أنّ معرفة الامام و الطاعة له شرط في صحّة الفروع و الاصول، كما ظهر أنّ اللازم أخذ الأحكام الشّرعيّة، و المسائل الدّينيّة عنهم، لأنّهم الباب الذي أمر اللّه أن يؤتى منه، حيث قال.
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَ، الْحَجِّ وَ لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَ.
روى في الصّافي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال نحن البيوت التي أمر اللّه أن يؤتى أبوابها، نحن باب اللّه و بيوته التي يؤتى منه، فمن تابعنا و أقرّ بولايتنا فقد أتى البيوت من أبوابها، و من خالفنا و فضّل علينا غيرنا، فقد أتى البيوت من ظهورها، إنّ اللّه لو شاء عرّف نفسه حتّى يعرفونه و يأتونه من بابه، و لكن جعلنا أبوابه و صراطه و سبيله و بابه الذي يؤتى منه، قال: فمن عدل عن ولايتنا، و فضل علينا غيرنا، فقد أتى البيوت من ظهورها، و انّهم عن الصّراط لناكبون.
و في الكافي باسناده عن محمّد بن مسلم قال سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: كلّ من دان اللّه عزّ و جلّ بعبادة يجهد فيها نفسه و لا إمام له من اللّه، فسعيه غير مقبول، و هو ضالّ متحيّر، و اللّه شانئ«» لأعماله، و مثله كمثل شاة ضلت عن راعيها و قطيعها، فهجمت ذاهبة او جائية يومها، فلما جنّها الليل بصرت بقطيع غنم مع غير«» راعيها، فحنت إليها، و اغترّت بها، فباتت معها في مربضها، فلمّا أن ساق الرّاعي قطيعه، أنكرت راعيها و قطيعها، فهجمت متحيّرة تطلب راعيها، و قطيعها، فبصرت بغنم مع راعيها، فحنت اليها و اغترت بها، فصاح بها الرّاعي الحقي براعيك و قطيعك، فانت تائهة متحيّرة عن راعيك و قطيعك، فهجمت ذعرة متحيرة تائهة لا راعي لها يرشدها إلى مرعاها، أو يردّها، فبينا هي كذلك إذا اغتنم الذّئب ضيعتها فأكلها، و كذلك و اللّه يا محمّد، من أصبح من هذه الامّة و لا إمام له من اللّه عزّ و جلّ ظاهر عادل، أصبح ضالّا تائها، و إن مات على هذه الحالة مات ميتة كفر و نفاق، و اعلم يا محمّد أنّ أئمة الجور و أتباعهم لمعزولون عن دين اللّه عزّ و جلّ، قد ضلوا و أضلوا، فأعمالهم التي يعملونها: كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ، لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ.
إلى غير ذلك من الأخبار البالغة حدّ الاستفاضة، بل هي متواترة معنى، و سيأتي كثير منها في تضاعيف الكتاب، و اللّه الهادي إلى الصّواب.
الترجمة
يعنى ابتداء اطاعت و انقياد شناختن خداوند عالم است، و كمال و تمامى شناختن حضرت او تصديق و اعتقاد به وجود اوست، و كمال تصديق به او حكم به وحدانيّت و يكتا دانستن و منزّه و مبرّا نمودن اوست از شريك، و كمال يكتا دانستن او خالص نمودن اوست از صفات نقصان يا خالص نمودن عمل است براى او، و كمال خالص نمودن نفى صفات زايده بر ذات است از او و آنرا عين ذات دانستن است، بجهة آنكه هر صفت شهادت و دلالت دارد بر آنكه غير موصوف است، و هر موصوف شاهد و دليل است بر اين كه آن غير صفت، پس بنا بر اين هر كه وصف كرد خداوند را با صفتى كه زايد بر ذات است پس بتحقيق قرين كرد ذات را با صفت، و هر كه قرين پيدا كرد او را پس بتحقيق حكم بدوئيّت نمود،و هر كه ابداء دوئيّت نمود پس بتحقيق كه مجزّى ساخت او را، و هر كه ابداء تجزيه كرد پس بتحقيق جاهل شد بذات شريف او، از جهت اين كه اعتقاد خلاف واقع را نمود، تعالى اللّه عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا.
الفصل الخامس
و من أشار إليه فقد حدّه و من حدّه فقد عدّه و من قال فيم فقد ضمّنه و من قال على م فقد أخلى منه.
اللغة
(ضمنه) مأخوذ من ضمّنته الشّيء أى جعلته محتويا عليه فتضمّنه أى فاشتمل عليه و احتوى و (اخلى) مشتقّ من خلا المنزل من أهله يخلو خلوّا و خلاء، فهو خال و أخليته جعلته خاليا و وجدته كذلك.
الاعراب
أصل فيم و على م فيما و على ما، حرفان دخلا على ماء الاستفهاميّة و الاولى للظرفية، و الثّانية للاستعلاء، و حذف ألف ما لاتّصالها بهما تخفيفا في الاستفهام، و هذه قاعدة كليّة.
قال ابن هشام: و يجب حذف ألف ماء الاستفهاميّة إذا جرّت و بقاء الفتحة دليلا عليها نحو فيم، و إلى م، و على م، قال:
فتلك ولاة السّوء قد طال مكثهم فحتّى م حتّى م العناء المطوّل
و ربّما تبعت الفتحة الألف في الحذف، و هو مخصوص بالشّعر كقوله:
يا أبا الاسود لم خلفتني لهموم طارقات
ثم قال: و ذكروا أنّ علّة حذف الألف الفرق بين الاستفهام و الخبر، و لهذا حذفت في نحو:
فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها… فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ… لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ و ثبتت في لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ… يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ… ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ.
المعنى
قوله عليه السلام (و من أشار إليه) أى من أشار إليه باشارة عقليّة أو حسية (فقد حدّه) أى جعله محدودا بحدّ خاص، لأنّ المشار إليه لا بدّ أن يكون في جهة مخصوصة، و كلّ ما هو في جهة فهو محدود و له حدّ و حدود، اى أقطار و أطراف ينتهي إليها (و من حده فقد عدّه) أى من جعله محدودا متناهيا فقد عدّه في الاشياء المحدثة، و ذلك لأنّ حقيقة ذاته حقيقة الوجود الصّرف الذي شدّة قوّته لا تنتهي إلى حدّ و نهاية، بل هو فوق ما لا يتناهى بما لا يتناهى، أمّا كونه غير متناه فلأنّ مقدوراته غير متناهية هذا.
و يحتمل أن يكون المراد بقوله: فقد عدّه كونه ذا عدد، و ذلك لأنّ كون وجود الشّيء محدودا متناهيا يستلزم التركيب من أصل الوجود و من شيء آخر يقتضي تناهيه الى هذا الحدّ المعين، إذ نفس كون الشّيء وجودا أو موجودا لا يقتضي هذا التّناهي، و الّا لم يوجد غيره، فهناك أمران، فيكون المحدود ذا عدد هذا.
و يأتي إن شاء اللَّه توضيح هذه الفقرة و تحقيقها بنحو آخر في شرح الخطبة المأة و الثانية و الخمسين.
ثم لا يخفى أنّ المراد بالاشارة في كلامه عليه السلام: الاشارة الحضورية الحسيّة التي لا يجوز في حقّه سبحانه و تعالى، و أمّا الاشارة الغيبيّة فتجوز في حقّه، و قد وقعت في كتاب العزيز، قال سبحانه: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ و تحقيق ذلك ما حقّقه الباقر عليه السلام في حديث التّوحيد: من أنّ كلمة هو اسم مكنّى مشاربه إلى غايب، فالهاء تنبيه، و الواو إشارة إلى الغائب عن الحواس، كما أنّ هذا اشارة إلى الشّاهدو ذلك ان الكفّار نبّهوا عن آلهتهم بما يشاربه إلى الشّاهد المدرك، فقالوا: هذه آلهتنا المحسوسة المدركة بالأبصار، فأشر أنت يا محمّد إلى إلهك الذي تدعو إليه حتّى نراه و ندركه لا ناله فيه، فانزل اللَّه تبارك و تعالى: قل هو إشارة إلى كونه تعالى عن ذلك بل هو يدرك الأبصار و هو اللّطيف الخبير، اللَّه معناه المعبود الذي اله الخلق عن ادراك ذاته، و الاحاطة بكنهه، أحد معناه الفرد المتفرّد الذي لا نظير له، و هاهنا لطيفة، و هي أنّ قوله: قل هو اللَّه أحد ثلاثة ألفاظ، كلّ منها إشارة إلى مقام من مقامات السّالكين:
المقام الأول مقام المقرّبين، و هو أعلى مقامات السائرين إلى اللَّه، و هؤلاء هم الذين نظروا إلى ماهيّات الأشياء و حقايقها، من حيث هي هي، فلا جرم ما رأوا موجودا في الحقيقة سوى اللَّه، لانحصار وجوب الوجود فيه، و كون ما عداه ممكنا فيكون هو إشارة إليه سبحانه، و لم يفتقر في تلك الاشارة إلى مميّز، لأنّ الحاجة إلى المميز إنما يحصل إذا كان هناك موجودان، و قد عرفت أنّهم ما شاهدوا بعقولهم إلا الواحد فقط، فكفى لفظ لفظة هو في حصول العرفان التام.
المقام الثّاني مقام أصحاب اليمين الذي أدون من المقام الأوّل، و ذلك أنّهم شاهدوا الحقّ موجودا، و شاهدوا الخلق موجودا، فحصلت كثرة في الموجودات فلم تكن لفظة هو كافية، فاحتاجوا إلى اقتران لفظة اللَّه بلفظة هو حتّى يحصل التميز.
المقام الثّالث مقام أصحاب الشّمال الذي هو أحسن المقامات، و هم الذين يجوزون أن يكون واجب الوجود أكثر من واحد، فقرن لفظ أحد بما تقديم ردّا على هؤلاء، و إبطالا لمقالتهم فقيل قل هو اللَّه أحد (و من قال فيم فقد ضمنه، و من قال على م فقد أخلى منه) هاتان القضيتان في تقدير شرطيّتين متّصلتين يراد بهما تنزيه الحق سبحانه عن مثل هذين الاستفهامين في حقّه. و تأديب الخلق أن لا يستفهموا عنه كذلك، و بيان المراد منهما باستثناء نقيض تاليهما، و حذف الاستثناء هاهناالذي هو كبرى القياس على ما هو المعتاد في القياس المضمر، و تقدير المتّصلة الاولى أنّه لو صحّ السّؤال عنه بفيم، لكان له محلّ يتضمّنه و يصدق عليه أنّه فيه، صدق العرض في المحلّ، أو الجسم في المكان، لكنّه يمتنع كونه في محل و نحوه فيمتنع السّؤال عنه بفيم، بيان الملازمة أنّ في لمّا كان مفيدا للظرفية و المحل، فالاستفهام بفيم، يقتضي صحّة كونه في محلّ أو مكان إذا لا يصحّ الاستفهام عن المحلّ لشيء إلّا إذا صحّ كونه حالا فيه، و أمّا بطلان التّالي فلأنه لو صحّ كونه في المحلّ لكان إمّا أن يجب كونه فيه، فيلزم أن يكون محتاجا إلى ذلك المحلّ، و المحتاج إلى الغير ممكن بالذات، و إن لم يجب حلوله جاز أن يستغنى عنه، و الغني في وجوده عن المحلّ يستحيل أن يعرض له ما يحوجه إلى المحلّ، فان الكون في المحل يستلزم الافتقار إليه، و إذا استحال أن يكون في محلّ امتنع السّؤال عنه بفيم.
و تقدير المتّصلة الثّانية أنّه لو صحّ السّؤال عنه بعلى م، لجاز خلوّ بعض الجهات و الأماكن عنه، لكنّه لا يجوز خلوّ مكان عنه، فامتنع الاستفهام بعلى م، بيان الملازمة أنّ لفظة على لمّا كانت مفيدة للعلوّ و الفوقية، فالاستفهام بعلى م، عن شيء لا يصحّ إلّا إذا صحّ كونه عاليا على شيء، و ذلك يستلزم أمرين، أحدهما بالواسطة، و الآخر بلا واسطة، فالذي بالواسطة هو إخلاء ساير الجهات و الأماكن عنه، و هو ما ذكره عليه السلام، و الذي بلا واسطة هو إثبات الجهة المعيّنة أعني جهة فوق، إذ اختصاصه بجهة معيّنة مستلزم نفى كونه في ساير الجهات.
و إنّما جعل عليه السلام لازم هذه المتّصلة كونه قد أخلى منه، ليلزم من بطلان اللازم و هو الاخلاء منه، بطلان ملزومه أعني اختصاصه بالجهة، ليلزم منه بطلان المقدم، و هو صحّة السّؤال عنه بعلى م. و أمّا بطلان التّالي فلقوله تعالى: وَ هُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَ فِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَ جَهْرَكُمْ و قوله: وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ
لا يقال: مثبت الجهة لا يجهل هذه الآيات، بل له أن يقول: بعدم التّنافي بين الاختصاص و بين مفاد تلك الآيات، اذ المقصود من كونه في السّماء و في الأرض، كونه عالما بما فيهما، و كذلك المراد بالمعية، و المراد من كونه في جهة فوق، كونه فيها بذاته، فلا دلالة فيها على بطلان التّالي.
قلنا: إنّما جعل عليه السلام قوله: فقد أخلى منه لازما في هذه القضيّة، لأن نفي هذا اللّازم بهذه الآيات ظاهر، و ذلك، لأنّ مثبت الجهة إنّما اعتمد في إثبات دعويها على ظواهر الآيات المفيدة له من أمثال قوله تعالى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى فكانت معارضة مقتضاها بظواهر هذه الآيات أنفع في الخطابة، و أوقع في قلوب العامة من البراهين العقليّة على نفي الجهة، فلو ارتكب الخصم المثبت للجهة للتّأويل فيها، باحاطة العلم لارتكبناه فيما تمسّك به من الآيات، و قلنا إنّ المراد بالاستواء هو الاستيلاء بالقدرة حسبما سيأتي تحقيقه.
فان قيل: إنّما خصّ جهة العلوّ بانكار اعتقادها.
قلنا: لأنّ كلّ معتقد للّه جهة يخصّصه بها، لما توهّم أنّه أشرف الجهات، لأنّها التي نطق بها الكتاب الكريم، فكانت شبهة المجسمة في إثباتها أقوى، و كيف كان، فقد تحصّل ممّا ذكرنا، أنّه لا يصحّ السّؤال عنه بفيم، و على م، كما لا يجوز اعتقاد كونه في شيء، أو على شيء.
و يشهد به أيضا ما رواه في الكافي باسناده عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: من زعم أنّ اللّه من شيء أو في شيء أو على شيء فقد كفر، قلت: فسّر لى، قال: أعني بالحواية من الشيء له أو بامساك له أو من شيء سبقه، قال و في رواية اخرى: من زعم أنّ اللّه من شيء فقد جعله محدثا، و من زعم أنّه في شيء فقد جعله محصورا، و من زعم أنّه على شيء فقد جعله محمولا.
قال بعض شرّاح الكافي في شرح هذا الحديث: يعني أن إطلاق شيء من هذه الألفاظبالمعنى الذي هو متعارف أهل اللّغة عليه تعالى مستلزم لاعتقاد التّجسيم في حقه تعالى و ذلك الاعتقاد كفر، فمن زعم أنّ أحد هذه المعاني صادق في حقّه تعالى فقد كفر.
ثم فسر عليه السلام الألفاظ على ترتيب اللف، فقوله: أعني بالحواية من الشّيء، تفسير لمعنى في شيء، لأنّ كلّ ما هو في شيء فيحويه ذلك الشّيء، و قوله: أو بامساك له، تفسير لمعنى على شيء، لأنّ كلّ ما هو على شيء فذلك الشّيء ممسك له، و قوله: أو من شيء سبقه، تفسير لمعنى من شيء، لأنّ ما كان من شيء فذلك الشيء مبدؤه و سابق عليه، و لذلك قال في الرّواية الأخيرة: من زعم أنّ اللّه من شيء فقد جعله محدثا، لأنّ معنى المحدث هو الموجود بسبب شيء سابق عليه بالوجود، و قال عليه السلام: و من زعم أنّه في شيء فقد جعله محصورا، أى محويّا، فيلزمه الحواية من ذلك الشّيء، و قال عليه السلام: و من زعم أنّه على شيء فقد جعله محمولا، فاذن له حامل يملكه هذا.
و قد تحقّق من ذلك كلّه، أنّ اللّه سبحانه لا يكون محصورا في شيء، و لا يخلو عنه شيء، فلا يكون في أرض و لا في سماء، و لا يخلو عنه أرض و لا سماء، كما ورد في الحديث: لو دليتم بحبل على الأرض السّفلى لهبط على اللّه، و لهذا قال عليه السلام: و من قال: فيم، فقد ضمنه، و من قال: على م، فقد أخلى منه، تصديقا لقوله تعالى: هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ و قوله: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَ لا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ و قوله: وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ.
و قول النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم: إنّه فوق كلّ شيء و تحت كل شيء، قد ملاء كلّ شيء عظمته، فلم يخل منه أرض و لا سماء و لا برّ و لا بحر و لا هواء.
و في الكافي باسناده عن أبي حمزة الثمالى، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: مكتوب في التّوراة التي لم تغير أنّ موسى عليه السلام سأل ربّه، فقال: يا رب أ قريب أنت منّي فاناجيك، أم بعيد فاناديك فأوحى اللّه عزّ و جلّ إليه: يا موسى أنا جليس من ذكرني الحديث.
فان قلت: سلمنا هذا كله، و لكن ما تقول في قوله تعالى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى.
فان الظاهر من الاستواء هو الاستقرار و الجلوس عليه.
قلنا: هذه الآية هي التي تعلقت بها المشبّهة في أنّ معبودهم جالس على العرش، و بعد ما قام البراهين العقلية و الحجج النقلية على نفي المكان عنه حسبما عرفته و تعرف إن شاء اللّه أيضا تفصيلا في شرح الخطبة المأة و السّابعة و السّبعين، ثبت تجرده عن جميع الأحياز و الأمكنة، و إذا ثبت تجرّده عنها ثبت أنّ نسبته إلى الكلّ نسبة واحدة، فلا بدّ من ارتكاب التّأويل في الآية الشّريفة.
و قد ذكروا فيه وجوها و أقوالا كثيرة، أقربها ما ذكره القفال من علماء المعتزلة و هو أنّ المقصود من هذا الكلام تصوير عظمة اللّه و كبريائه.
و تقريره أنّه لما خاطب اللّه عباده في تعريف ذاته و صفاته بما اعتادوه في ملوكهم و عظمائهم، فمن ذلك أنّه جعل الكعبة بيتا يطوف الناس به كما يطوفون بيوت ملوكهم، و أمر النّاس بزيارته كما يزورون بيوت ملوكهم، و ذكر في الحجر الأسود أنّه يمين اللّه في أرضه، ثم جعله موضع تقبيلهم كما يقبل النّاس أيدي ملوكهم و كذلك ذكر في محاسبة العباد يوم القيامة من حضور الملائكة و النّبيّين و الشّهداء و وضع الموازين، فعلى هذا القياس أثبت لنفسه عرشا فقال: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ثم قال: وَ تَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ و قال: وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ و قال: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ.
ثم أثبت لنفسه كرسيّا، فقال: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ إذا عرفت هذا فنقول: إنّ كلّ ما جاء من الألفاظ الموهمة للتّشبيه، من العرش و الكرسي فقد ورد مثلها بل أقوى منها في الكعبة، و الطواف، و تقبيل الحجر، و لما توقفنا هاهنا على أن المقصود تصوير عظمة اللّه و كبريائه، مع القطع، بأنّه منزّه عن أن يكون في الكعبة، فكذا الكلام في العرش، و الكرسى، انتهى كلامه على ما حكي عنه، و تبعه على ذلك التّأويل جماعة من العامة، منهم الزّمخشري، و الرازي، و النيسابوري، و البيضاوي، على ما حكي عنهم.
و لكنّك خبير بأنّ الآية من المتشابهات، و ما يعلم تأوليها إلّا اللّه و الرّاسخون في العلم، و حملها على ما ذكره القفال، تفسير بالرّأى و تأويل بالباطل، لأنّ حمل الآيات القرآنية على مجرّد التخيّيل و التمثيل، من غير حقيقة دينيّة و أصل ايمانيّ يوجب قرع باب السّفسطة و التّعطيل، و سدّ باب الاهتداء و التّحصيل، و فتح باب التّأويل في المعاد الجسماني من عذاب القبر و البعث و الميزان و الحساب و الكتاب و الصّراط و الجنان و النيران.
بل الحقّ المعتمد تفويض تأويل أمثال هذه إلى أهل بيت العصمة الذين هم ينابيع العلم و الحكمة، فقد ذكروا عليهم السّلام فيه وجوها مثل ما رواه في الكافي باسناده عن أبي عبد اللّه عليه السلام، أنّه سئل عن قول اللّه عزّ و جلّ: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى.
فقال استوى على كلّ شيء فليس شيء أقرب إليه من شيء و فيه أيضا عنه عليه السلام بعد ما سئل عنه، فقال: استوى من كلّ شيء، فليس شيء أقرب إليه من شيء و فى ثالث عنه عليه السلام أيضا أنّه قال بعد السّؤال عنه: استوى في كلّ شيء، فليس شيء أقرب إليه من شيء لم يبعد منه بعيد، و لم يقرب منه قريب، استوى في كلّ شيء، إلى غير ذلك من الأخبار.
و توضيح ما ذكره عليه السلام على وجه يتّضح به المرام، من الآية الشّريفة أيضا يستدعي بسطا في الكلام، فنقول: إنّ الاستواء على ما ذكره المحدث المجلسي «قده» أن الاستواء يطلق على معان الاول الاستقرار و التمكن على الشّيء الثاني قصد الشّيء و الاقبال عليه الثالث الاستيلاء على الشّيء،
قال الشّاعر:
قد استوى رجل على العراق بغير سيف و دم مهراق
الرابع الاعتدال، يقال: سوّيت الشّيء فاستوى الخامس المساواة في النّسبة.
أمّا المعنى الأوّل فقد علمت استحالته على اللّه سبحانه و اما الثاني فمن المفسّرين من حمل الآية عليه، أى أقبل على خلقه، و قصد إلى ذلك، و قد رووا أنّه سئل أبو العباس أحمد بن يحيى عن هذه الآية، فقال: الاستواء الاقبال على الشّيء و نحو هذا قال الفراء و الزّجاج: في قوله: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ.
و الأكثرون منهم حملوها على الثالث أى استولى عليه و ملكه و دبّره، و يحتمل أن يراد به المعنى الرابع بأن يكون كناية عن نفي النّقص عنه تعالى من جميع الوجوه، فيكون على العرش حالا و اما المعنى الخامس فهو الظاهر من الأخبار التي اسلفناها.
ثمّ اعلم أنّ العرش قد يطلق على الجسم العظيم المحيط بساير الجسمانيات، و قد يطلق على جميع المخلوقات، و قد يطلق على العلم أيضا كما نطقت به الأخبار الكثيرة.
فاذا عرفت ذلك، فنقول: إنّه يصحّ أن يفسّر العرش بمجموع الأشياء، و ضمن الاستواء معنى الاستيلاء و نحوه ممّا يتعدى بعلى، أى استوت نسبته إلى كلّ شيء حالكونه مستوليا عليه، أو يفسّر بالعلم، و يكون متعلق الاستواء مقدّرا، أى تساوت نسبته من كلّ شيء حالكونه متمكنا على عرش العلم، فيكون إشارة إلى بيان نسبته تعالى، و أنّها بالعلم و الاحاطة، أو يفسّر بعرش العظمة و الجلال و القدرة، كما فسّر
بها في بعض الأخبار، أى استوى من كلّ شيء مع كونه في غاية العظمة، و متمكنا على عرش التّقدس و الجلال، و الحاصل أنّ علوّ قدره ليس مانعا من دنوّه بالحفظ و التّربية و الاحاطة، و كذا العكس، و على التّقادير، فقوله: استوى خبر، و قوله: على العرش حال.
هذا غاية ما وصل إليه نظري الفاتر في تحقيق المرام، و جملة ما نقدته من كلمات الأعلام في توضيح المقام، و اللّه العالم بحقايق كلامه.
الترجمة
يعنى و هر كسى كه اشاره كرد بسوى او با اشاره عقليه يا با اشاره حسيّه پس بتحقيق كه محدود نمود او را بحدّى معين، و هر كه او را محدود كرد پس بتحقيق او را در شمار آورد و معدود نمود او را در عداد مخلوقين، و هر كس گفت خداوند در كدام محل يا در كدام مكان است پس بتحقيق متضمن گردانيد او را در ضمن محل و مكان، و هر كه گفت كه او بر چيست پس بتحقيق خالى گردانيد بعض امكنه را از آن و حال آنكه نسبت حضرت او سبحانه بجميع امكنه و همه اشياء برابر است و هيچ مكان از او خالى و هيچ شيء از او غائب نيست و لنعم ما قيل.
در عالم اگر فلك اگر ماه و خور است
از باده هستى تو پيمانه خور است
فارغ ز جهانى و جهان غير تو نيست
بيرون ز مكانى و مكان از تو پر است
الفصل السادس
كائن لا عن حدث، موجود لا عن عدم، مع كلّ شيء لا بمقارنة، و غير كلّ شيء لا بمزايلة، فاعل لا بمعنى الحركات و الالة، بصير إذ لا منظور إليه من خلقه، متوّحد إذ لا سكن يستأنس به، و لا يستوحش لفقده.
اللغة
(كائن) اسم فاعل من كان قال الفيومي: كان زيد قائما أى وقع منه قيام و انقطع و تستعمل تامّة فتكتفى بمرفوع، نحو كان الأمر، اى حدث و وقع، قال تعالى: وَ إِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ أى و إن حصل، و قد تأتي بمعنى صار، و زائدة، كقوله تعالى: مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً.
أى من هو في المهد، و اللّه عليم حكيم انتهى.
و قال الصّدر الشّيرازي في شرح الكافي: اعلم أنّ كلمة كان تستعمل في اللّغة على ثلاثة اوجه.
أحدها بصيغتها دالة على الوجود و الزّمان، و يسمّى في عرف النّحاة كان التّامّة، كقول الشّاعر:
اذا كان«» الشّتاء فادفئونى، أى اذا وجد و حدث.
الثّاني ما يدلّ على النّسبة و الزّمان، فيحتاج في الدلالة على الوجود إلى خبر يتمّ به، و هي النّاقصة و استعمالها أكثر، و هي أداة عند المنطقيين و إن كانت على قالب الكلمة و الفعل، لأنّ معناها غير مستقلّ في الانفهام، كقوله تعالى: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً و قوله: ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا الثّالث أن يكون زائدة خالية عن الدلالة على وجود و زمان، كقوله:
على كان المسوّمة العراب أى على المسوّمة
إذا عرفت هذا، فنقول: إن كلمة كائن ماخوذة من كان التّامة، أى موجود لا عن حدث (و الحدث) من حدث الشّيء حدوثا كقعد تجدّد وجوده، فهو حادث و حديث، و منه يقال حدث به عيب اذا تجدّد، و كان معدوما قبل ذلك (و المزايلة) من زايله زيالا إذا فارقه (و السّكن) بالفتحتين من سكنت إلى الشّيءو هو ما يسكن إليه من اهل و مال و نحوهما، هو سكن له (و استانست) به و تأنست به إذا سكن القلب و لم ينفر، و الأنيس الذي يستأنس به (و استوحش) الرّجل إذا وجد الوحشة.
الاعراب
كلمة لا في جميع الفقرات للنّفى، ففي الخمس الاولى بمعنى ليس و في قوله: إذ لا منظور إذ لا سكن، لنفى الجنس، و كلمة عن في الفقرتين بمعنى من، على حدّ قوله سبحانه: وَ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَ يَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ و يجوز كونها في الفقرة الثّانية بمعنى بعد، كما في قوله تعالى: عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ و إذ في قوله: إذ لا منظور، ظرف زمان كما في قوله: فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا و في قوله: إذ لا سكن، كذلك على ما نبّه عليه الشّارح المعتزلي، و لكنّ الأظهر كونها تعليليّة على حدّ قوله: لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ.
لاحتياج جعلها ظرفا إلى تكلّف كما لا يخفى، و لا يستوحش لفقده جملة استينافيّة كما ذكره القطب الراوندي، و ايراد الشّارح المعتزلي عليه بأنّه كيف يكون مستأنفا و الهاء في فقده ترجع إلى المذكور، فاسد جدّا.
أمّا اوّلا فلأنّ وجود الضمير لا ينافي الاستيناف كما لا ينافيه وجود الواو، و هذا بعينه مثل قوله تعالى: ثُمَّ يُعِيدُهُ بعد قوله: أَ وَ لَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ فانّهم ذكروا أنّه جملة مستأنفة نظرا إلى أنّ إعادة الخلق لم يقع بعد، فيقرّروا برؤيتها و أمّا ثانيا فلأنّه لو لم يكن كلاما مستأنفا لا بدّ و أن يجعل معطوفا، إمّا على جملة الصّفة أعني قوله: يستأنس، أو على الموصوف مع صفته، و كلاهما غير ممكن، كما هو واضح، فقد تحقّق كون الجملة استينافيّة، اللّهم إلّا أن يقال إنّه عطف على جملة الصّفة، و لا زايدة، كما في قوله تعالى: ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ.
و احتمل العلامة المجلسي كونها حالا، و الأوّل أظهر.
المعنى
قد عرفت معانى كلمة كان، و الأنسب بل المتعين في المقام هو أن يجعل المبدأ في قوله: (كائن) هو التّامّة، و لكن لمّا كان المفهوم منه حسبما عرفت، الوجود المقارن للزّمان الذي قد انقضى، و كان ذاته سبحانه منزّهة عن الزّمان، استحال أن يقصد وصفه بالكون الدّالّ على الزّمان المستلزم للتّجدد و الحدثان، و إذا استحال ذلك لم يكن له دلالة إلّا على الوجود المجرّد عن القيدين، فلذلك قيّده عليه السلام بقوله: (لا عن حدث) تنبيها على أنّ وجوده سبحانه ليس وجودا حدوثيا، و أنّه سبحانه كائن بلا كينونية، و قوله: (موجود لا عن عدم) إشارة إلى أنّ وجوده سبحانه ليس على حدّ وجودات ساير الأشياء ناشيا من العدم و مسبوقا به، و الفرق بين الفقرتين بعد اتحادهما في الدّلالة على نفى الوجود التّجددي هو أنّ الاولى نافية للحدوث الزّماني، و الثّانية نافية للحدوث الذاتي، و هي أبلغ في الدّلالة على وجوب الوجود من الاولى كما لا يخفى، و مساقهما مساق قوله عليه السلام في الخطبة المأة و الخامسة و الثّمانين: سبق الأوقات كونه و العدم وجوده، فليلاحظ ثمّة (مع كلّ شيء لا بمقارنة) هذه الفقرة كسابقتيها و تاليتها مركبة من قضيّتين، إحداهما ايجابيّة و الاخرى سلبيّة.
أمّا الاولى فهي أنّ اللَّه سبحانه مع كلّ شيء عالم بهم، شاهد عليهم، مصاحب معهم، غير غايب عنهم، كما قال:
وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ و قال: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ، وَ لا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ و أما الثّانية فهي ما أشار إليه بقوله: لا بمقارنة، تنبيها على أنّ معيته سبحانه للأشياء ليست بعنوان التّقارن المتبادر إلى الأذهان القاصرة، و الاوهام النّاقصة كما توهّمه كثير من النّاس، حيث إنّهم لم يعرفوا من المعيّة و الحضور الّا معيّة حال بمحلّ، أو محلّ بحال، أو حضور جسم عند جسم، أو حضور جسم في مكان، و لذلك استبعدوا كونه مع كلّ شيء، و حضوره في كلّ مكان، زعما منهم أنّ كونه مع شيء أو في مكان مستلزم لكونه فاقدا لمعيّة ساير الأشياء، و خلوّ ساير الأمكنة عنه، و لم يدروا أنّ ما توهّموه إنّما هو من لوازم معيّة الأجسام مع أمثالها، و خصايص حضور الجسمانيات عند اشباهها، و أمّا اللَّه العظيم القيّوم ذو القوة الشديدة الغير المتناهية، فنسبة جميع الأمكنة و المكانيات و أضعاف أضعافها إلى ذاته، كنسبة القطرة إلى بحر لا يتناهى، و كذلك نسبة جميع الأزمنة إلى تسرمد بقائه، كنسبة الان الواحد إلى زمان لا ينقطع، فلا يشغله شأن عن شأن و لا عالم عن عالم.
و برهان ذلك أنّه سبحانه فاعل الخلق و مبدئهم و موجدهم و غايتهم و تمامهم فكيف يكون غائبا عنهم، و الشّيء مع نفسه بالامكان بين أن يكون و بين أن لا يكون و مع موجوده بالوجوب و الضرورة، فكيف يصحّ الشيء أن ينفك و يغيب عنه موجده و خالقه الذي هو به موجود، و لا ينفك و لا يغيب عنه نفسه التي هو بها هو فقط، فبهذا البرهان ظهر أنّه سبحانه مع خلقه، شاهد عليهم أقرب إليهم من ذواتهم، كما قال: وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ الذي هو جزء من البدن، فاذا كان كذلك فيرى أشخاصهم، و يسمع كلامهم و يعلم أسرارهم.
كما نبّه عليه الامام عليه السلام في جواب ابن أبي العوجاء، على ما رواه في الكافي باسناده عن عيسى بن يونس، قال: قال ابن أبي العوجاء لأبي عبد اللَّه عليه السلام في بعض ما كان يحاوره: ذكرت اللَّه فأحلت«» على غائب، فقال أبو عبد اللَّه عليه السلام: ويلك كيف يكون غائبا من هو مع خلقه شاهد، و اليهم أقرب من حبل الوريد، يسمع كلامهم، و يرى أشخاصهم، و يعلم أسرارهم، فقال ابن أبي العوجاء: أ هو في كلّ مكان أ ليس إذا كان في السّماء كيف يكون في الأرض و إذا كان في الأرض كيف يكون في السّماء فقال أبو عبد اللَّه عليه السلام: إنّما وصفت المخلوق الذي إذا انتقل عن مكان اشتغل به مكان، و خلا منه مكان، فلا يدري في المكان الذي صار إليه ما حدث في المكان الذي كان فيه، فأمّا اللَّه العظيم الشأن الملك الدّيان، فلا يخلو منه مكان، و لا يشتغل به مكان، و لا يكون إلى مكان أقرب منه إلى مكان.
و رواه الصّدوق أيضا في الفقيه في باب الحج (و غير كلّ شيء لا بمزايلة) يعنى أنّه سبحانه مغاير لجميع الأشياء، مغايرة ذاتية من حيث عدم النّسبة بين الرّب و المربوب، و الصّانع و المصنوع، و الحادّ و المحدود، إذ ذاته لا تماثل به ذات شيء من الموجودات، و صفاته لا تشابه صفات شيء من الممكنات، و من ذلك تحقّق أن غيريّته ليست على جهة المزايلة، كالمتغايرين من الأجسام على وجه التعاند أو التّضادّ اللذين وجود أحدهما في محلّ أو مكان مستلزم لزوال الآخر عنه، لأنّه سبحانه لا يضادّه شيء و لا يعانده شيء، كيف و هو خالق الأضداد، فلو كان معاندا لشيء أو مضادّا له، للزم احتياجه إلى المحلّ أو المكان المنافي لوجوب الوجود فظهر، أنّ تغايره سبحانه للأشياء و تميّزه عنها إنّما هو بنفس ذاته المقدّسة التي في غاية الكمال و التّمام، و كون ما سواه في نهاية الافتقار و النّقصان، و يأتي مزيد تحقيق لذلك إن شاء اللَّه تعالى في شرح الكلام الثّامن و المأتين (فاعل) للأشياء و صانع لهم بنفس قدرته الكاملة و إرادته التّامّة الجامعة (لا) فاعل (بمعنى الحركات و الآلة) لأنّه لا يحتاج في خلقه و فعله إلى حركة ذهنيّة أو بدنيّة كما يفتقر غيره إليها في أفعاله و صنايعه، لأن الحركة من عوارض الجسم و الجسمانيات و اللَّه سبحانه منزّه عن ذلك، كما أنّه غير محتاج إلى آلة.
أمّا اجمالا فلأنّ افتقاره إلى الآلة من صفات الممكن.
و أمّا تفصيلا، فلأنّه لو صدر عنه شيء من الآثار بآلة فإمّا أن تكون تلك الآلة من فعله أم لا.
و على الأوّل، فهي إمّا بتوسط آلة اخرى أو بدونها، فان كانت بدونها، فقد صدق أنّه فاعل بالذات لا بآلة، و إن كانت بتوسّط آلة اخرى فالكلام فيها، كالكلام في الاولى و يلزم التّسلسل.
و على الثّاني يلزم أن يكون الباري جلّ شأنه مفتقرا في تحقّق فاعليّته و قدرته إلى الغير و المفتقر إلى الغير ممكن بالذّات هذا خلف (بصير إذ لا منظور إليه من خلقه) يعني أنّه سبحانه كان بصيرا في الأزل و لا مبصر، كما أنّه كان سميعا و لا مسموع.
و اختلف العلماء في أنّ السّمع و البصر هل هو عين العلم بالمسموعات و المبصرات، أو صفة اخرى فذهب المحقّقون على ما عزى إليهم إلى الأوّل و ذهب طائفة إلى الثّاني استدلالا بذكرهما مع العلم في كثير من الآيات و الرّوايات و بتجشّم الاستدلال في إثباتهما بعد إثبات العلم بجميع المعلومات.
و يضعّف بأن ذكر الخاص مع العام شايع و تكلف الاستدلال في إثباتهما تنبيها على تحقق هذا العلم المخصوص له سبحانه أعني العلم بالمسموع و المبصر من حيث إنّه مسموع و مبصر، حتّى أنّهما حاضران عنده، على هذه الحيثيّة المشاهدة الذّاتية بلا آلة، كما أنهما حاضران عندك بالمشاهدة العينيّة و توسط الآلة، فاثبات السّمع و البصر من حيث إنّهما علم داخل تحت إثبات العلم مطلقا و من حيث الخصوصيّة المذكورة محتاج إلى دليل مستقلّ.
و ممّا ذكرنا ظهر ما في كلام بعض الأعلام حيث أورد بقوله: فان قلت:
لم يكن شيء من المبصرات و المسموعات في الأزل فلم يكن اللَّه سميعا و بصيرا في الأزل، إذ لا يعقل سماع المسموعات الحادثة و إبصار المبصرات الحادثة في الأزل و أجاب بقوله: قلنا: إنّه سميع و بصير في الأزل بمعنى أنّه كان على وجه إذا وجد المسموع و المبصر لإدراكهما عند وجودهما انتهى كلامه.
و توضيح ما أجاب به ما حكاه الشّارح المعتزلي عن أبي هاشم و أصحابه، حيث قال: إنّهم يطلقون عليه في الأزل أنّه سميع بصير و ليس هناك مسموع و لا مبصر، و معنى ذلك كونه بحال يصحّ منه إدراك المسموعات و المبصرات إذا وجدت و ذلك يرجع إلى كونه حيّا لا آفة به، و لا يطلقون عليه أنّه سامع مبصر في الأزل، لأن السّامع هو المدرك بالفعل لا بالقوّة، و كذلك المبصر.
و أنت بعد الخبرة بما ذكرناه، تعرف فساد جميع ما ذكروا من السّؤال و الجواب و ما حكيناه عن أبي هاشم و أصحابه.
أمّا السّؤال فلأن السمع و البصر حسبما عرفت عبارة عن العلم، و العلم بالشّيء غير متوقّف على وجوده، و قد يتحقّق ذلك في أفراد البشر، فكيف الباري الذي لا يخفى عليه شيء و أما الجواب، فلأن فيه اعترافا بورود السّؤال، و أنّه تعالى لا يدرك المسموع و المبصر قبل وجودهما، و إشعارا بأنّ فيه جلّ شانه استعدادا لحصول العلم و الادراك كما ينبّه عليه ما حكيناه عن أبي هاشم، من أنّ القول بذلك ضروري البطلان، حيث إن الصّفات الذّاتية الكمالية كلّها فعليّة في حقه سبحانه، و ليست شأنية كما برهن في محلّه.
فقد تحقق مما ذكرنا كله أنّه سبحانه مدرك للمسموعات و المبصرات في الأزل، كادراكه لها في الأبد من غير تفاوت بينهما أصلا.
و يشهد به ما رواه في الكافي باسناده عن أبي بصير، قال: سمعت أبا عبد اللَّه عليه السلام يقول: لم يزل اللَّه عزّ و جلّ ربّنا و العلم ذاته و لا معلوم، و السّمع ذاته و لا مسموع، و البصر ذاته و لا مبصر، و القدرة ذاته و لا مقدور، فلمّا أحدث الأشياء، و كان المعلوم وقع العلم منه على المعلوم، و السّمع على المسموع، و البصر على المبصر،و القدرة على المقدور، الحديث. و سيأتي، مزيد تحقيق لهذا الحديث في الفصل الآتي عند شرح قوله عليه السلام: عالما بها قبل ابتدائها فانتظر (متوحّد) في ملكه و ملكوته و سلطانه (إذ لا سكن) له أى لا يمكن أن يكون له سكن (يستأنس به و لا) أنيس (يستوحش لفقده) بل توحّد بالتّحميد، و تمجّد بالتمجيد، و علا عن اتّخاذ الأبناء، و تطهر و تقدّس عن ملامسة التّساء، عزّ و جلّ عن مجاورة الشّركاء و إنّما امتنع في حقّه السّكن و الأنيس و الاستيناس و الاستيحاش أما إجمالا فلأنّ الانس و الوحشة من توابع المزاج و لواحق الحيوان، الذي يأخذ لنفسه من جنسه أو من غير جنسه أنيسا يستأنس بصحبته، و يستوحش بفقدانه، و اللَّه سبحانه منزّه عن ذلك.
و أمّا تفصيلا فلأنّه سبحانه جامع الكمالات و الخيرات بلا فقد شيء عنه، لأنّه كلّ وجود «و منشأ خ ل» و مبدء كلّ موجود، فلذلك علا عن اتّخاذ الأبناء، و تقدس عن مباشرة النّساء، و جلّ عن أخذ الشّركاء، لأنّ الحاجة إلى الأولاد و النّساء و الشّركاء و أمثالها سببها قصور الوجود، و قلّة الابتهاج بمجرّد الذّات، و كثرة التوحّش عن الانفراد بالوجود المشوب بالاعدام و النّقايص، فيجبر القصور، و يزول التّوحش بوجود الأمثال و الاشباه، استيناسا بها، و تخلصا عن وحشة الفراق بسببها و أمّا الذّات الالهية الجامعة لجميع الخيرات، و السّعادات، و الابتهاجات، فكلّ الموجودات به مبتهجة مسرورة، و إليه مفتقرة، و منه مستفيضة، بل هو في الحقيقة انس كلّ مستوحش غريب، و به سرور كلّ محزون كئيب.
و بعبارة اخرى أوضح و ألطف ان الاستيحاش و التّوحش الحاصل للانسان و نحوه عن التفرّد عن الأمثال و الاشباه، لنقص جوهره و قصور وجوده من الكمال، و خلو ذاته عن الفضيلة التّامة، و استصحابه للاعدام و الظلمات، فيستوحش من ذاته الخالية عن نور الفضيلة و الكمال، و يستأنس بغيره من الأشباه و الأمثال، و أمّا الباري سبحانه فالأشياء الصّادرة عنه، وجوداتها رشحات لبحر وجوده، و لمعات لشمس حقيقته، و البحر لا يستزيد بالرشحة و النداوة، و الشّمس لا تستنير بلمعاتها و ذراتها، فكيف يستأنس ذاته المقدّسة بما يفيض عنها.
هذا كلّه مضافا إلى أن حصول الاستيناس و زوال الاستيحاش إنّما يكون بوجود الأشباه، و هو تعالى لا يشبه شيئا مذكورا، سواء كان موجودا في العين أم لا، فانّ المذكور قد لا يكون موجودا، و هو أعمّ من الموجود، و نفى الأعمّ يستلزم نفى الأخص كما هو ظاهر.
الترجمة
يعنى ثابت است نه از روى حدوث و تجدّد، و موجود است نه از كتمان عدم، با همه چيز است نه بعنوان مقارنه، و غير هر چيز است نه بعنوان مفارقت.
و لنعم ما قيل:
اى با همه در كمال نزديكى دور
حسنت بنقاب لن ترانى مستور
نور تو چو آفتاب خاكم بدهن
در پرده اختفاست از فرط ظهور
و فاعلست نه بمعنى حركات و توسط آلات، بيناست در وقتى كه هيچ منظور اليه نبوده او را از مخلوقات، متفرّد و يكانه است بجهة آنكه مونسى ندارد كه با آن انس بگيرد و مونسى نيست او را كه بجهة فقدان آن مستوحش شده باشد.
مبرّا ذات پاكش از انيسى
معرّا و منزّه از جليسى
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة(الخوئي)//«میرزا حبیب الله خوئی»میر حبیب الله خوئی