نامه 8 صبحی صالح
8- و من كتاب له ( عليه السلام ) إلى جرير بن عبد الله البجلي لما أرسله إلى معاوية
أَمَّا بَعْدُ فَإِذَا أَتَاكَ كِتَابِي فَاحْمِلْ مُعَاوِيَةَ عَلَى الْفَصْلِ وَ خُذْهُ بِالْأَمْرِ الْجَزْمِ
ثُمَّ خَيِّرْهُ بَيْنَ حَرْبٍ مُجْلِيَةٍ أَوْ سِلْمٍ مُخْزِيَةٍ فَإِنِ اخْتَارَ الْحَرْبَ فَانْبِذْ إِلَيْهِ وَ إِنِ اخْتَارَ السِّلْمَ فَخُذْ بَيْعَتَهُ وَ السَّلَامُ
شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج17
و من كتاب له عليه السلام الى جرير بن عبد الله البجلى لما أرسله الى معاوية، و هو الكتاب الثامن من باب المختار من كتبه عليه السلام و رسائله
أما بعد فإذا أتاك كتابي فاحمل معاوية على الفصل، و خذه بالأمر الجزم، ثم خيره بين حرب مجلية، أو سلم مخزية [أو سلم محظية- خ ل] فإن اختار الحرب فانبذ إليه، و إن اختار السلم فخذ بيعته، و السلام.
اللغة
(فاحمل معاوية على الفصل) يقال: حمله على الأمر إذا أغراه به. و الفصل القطع أي إبانة أحد الشيئين من الاخر حتى تكون بينهما فرجة يقال: فصلت الشيء فانفصل أي قطعته و انقطع. و القضاء بين الحق و الباطل من حيث إنه يفصل بين الحق و الباطل، و منه قوله تعالى إنه لقول فصل (الطارق- 14) أي فاصل قاطع، و حديث و فد عبد القيس: فمرنا بأمر فصل، أي لا رجعة فيه و لا مرد كما في النهاية الأثيرية.
و قوله تعالى هذا يوم الفصل (المرسلات- 38) أي اليوم يبين الحق من الباطل و يفصل بين الناس بالحكم، فالمراد: فاحمل معاوية على الحكم القطعي من الطاعة أو العصيان و يقرب منه معنى قوله: (و خذه بالأمر الجزم) يقال: جزم الأمر أي قطع به قطعا لا عودة فيه. تقول: أمرته أمرا جزما و هذا حكم جزم و حلف يمينا جزما، فالمراد: خذه بالأمر المقطوع به إما الحرب أو السلم.
(مجلية) من الإجلاء و هو الإخراج من الوطن قهرا. يقال: أجلى فلان القوم عن بلدهم و ديارهم إذا أخرجهم عنها قهرا.(مخزية) أي مهينة مذلة فاضحة من الخزي بالكسر فالسكون بمعنى الهوان و الذل يقال: أخزاه إخزاء إذا أوقعه في الخزي، و أخزى الله فلانا أي فضحه.و في نسخة نصر في كتاب صفين الاتي ذكرها: محظية. من الحظوة بضم الحاء و كسرها، و الحظة كالعدة: المكانة و الحظ من الرزق يقال: أحظاه أي جعله ذا حظوة، و أحظاه به أي تفضل عليه به، و روي أيضا: مجزية، بالجيم أي كافية.(فانبذ إليه) نبذت الشيء من يدي من باب ضرب إذا طرحته و رميت به.
قال أبو كبير الهذلي (الحماسة 12):
و إذا نبذت له الحصاة رأيته | فزعا لوقعتها طمور الأخيل | |
و النبذ أيضا إلقاء الخبر إلى من لا يعلمه. و قال الفيومي في المصباح: نبذت العهد لهم نقضته: و قوله تعالى: فانبذ إليهم على سواء (الأنفال- 61) معناه إذا هادنت قوما فعلمت منهم النقض للعهد فلا توقع بهم سابقا إلى النقض حتى تعلمهم أنك نقضت العهد، فيكون في علم النقض مستويين ثم أوقع بهم.
الاعراب
الفاء الاولى جواب أما، و الثانية جواب إذا، و الثالثة للتفصيل، و الأخيرتان جوابا الشرط كالاوليين. مجلية صفة للخرب و الحرب تؤنث و قد تذكر، قال الله تعالى: حتى تضع الحرب أوزارها (سورة محمد- 6). قال الجوهري في الصحاح قال المبرد: الحرب قد تذكر و أنشد:
و هو إذا الحرب هفا عقابه | مرجم حرب تلتقى حرابه | |
قال الخليل: تصغيرها حريب بلاهاء رواية عن العرب، قال المازني: لأنه في الأصل مصدر و قال الفيومي في المصباح: إنما سقطت الهاء كيلا يلتبس بمصغر الحربة التي هي كالرمح.
مخزية صفة للسلم قال الجوهري في المصباح: السلم: الصلح، يفتح و يكسر و يذكر و يؤنث قال الله تعالى: و إن جنحوا للسلم فاجنح لها (الأنفال- 64) و في أقرب الموارد: و يؤنث حملا على نقيضه الحرب و قال بعض أهل الأدب:تأنيث الحرب باعتبار المحاربة و السلم للمسالمة.
ضمير إليه يرجع إلى معاوية. و السلام مبتداء و خبره محذوف، أي و السلام لأهله ككتابه الاتي بعد هذا. أو و السلام على من اتبع الهدى و نحوهما.
«سند الكتاب»
رواه نصر بن مزاحم المنقري في كتاب صفين (ص 32 من الطبع الناصري) عن محمد بن عبيد الله و صالح بن صدقة مسندا، و على نسخة نصر كان مكان قوله عليه السلام (أو سلم مخزية) أو سلم محظية، و مكان قوله (فانبذ إليه) فانبذ له.
و نقل الكتاب ابن قتيبة الدينوري المتوفى سنة 276 ه في الإمامة و السياسة على صورة اخرى، قال: و ذكروا أن عليا كتب إلى جرير: أما بعد فإن معاوية إنما أراد بما طلب ألا يكون لي في عنقه بيعة و أن يختار من أمره ما أحب، و قد كان المغيرة بن شعبة أشار علي و أنا بالمدينة أن أستعمله على الشام فأبيت ذلك عليه و لم يكن الله ليراني أتخذ المضلين عضدا، فإن بايعك الرجل و إلا فأقبل (ص 95 ج 1 طبع مصر 1377 ه).
أقول: قد ذكرنا هذا الكتاب في شرح الكتاب السابع منقولا عن كتاب صفين لنصر بن مزاحم. و بين النسختين اختلاف في الجملة. ثم يمكن أن يكون أنه عليه السلام أرسل إلى جرير في تلك الواقعة كتابين أو أنهما كانا كتابا واحدا فتشتت كما ذكرنا نبذا من نظائره فلا حاجة إلى جعلهما كتابا واحدا. و نقل هذا الكتاب المجلسي رحمه الله في البحار عن كتاب صفين لنصر أيضا (ص 470 ج 8 من الطبع الكمباني).
المعنى
قال أبو العباس المبرد في الكامل (ص 190 ج 1 من طبع مصر، أول الباب 27): وجه علي بن أبي طالب عليه السلام إلى معاوية يأخذه بالبيعة له فقال له: إن حولي من ترى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله من المهاجرين و الأنصار، و لكني اخترتك لقول رسول الله صلى الله عليه و آله فيك: خير ذي يمن: ائت معاوية فخذه بالبيعة.
فقال جرير: و الله يا أمير المؤمنين ما أدخرك من نصرتي شيئا و ما أطمع لك في معاوية. فقال علي عليه السلام: إنما قصدي حجة اقيمها عليه.
و قال اليعقوبي في التاريخ (ص 160 ج 2 طبع النجف 1358 ه): خرج علي عليه السلام من البصرة متوجها إلى الكوفة و قدم الكوفة في رجب سنة ست و ثلاثين و كان جرير بن عبد الله على همذان فعزله، فقال لعلي عليه السلام: وجهني إلى معاوية فان جل من معه قومي فلعلي أجمعهم على طاعتك. فقال له الأشتر: يا أمير المؤمنين لا تبعثه فان هواه هواهم. فقال: دعه يتوجه فإن نصح كان ممن أدى أمانته، و إن داهن كان عليه وزر من اوتمن و لم يؤد الأمانة و وثق به فخالف الثقة و يا ويحهم مع من يميلون و يدعونني فوالله ما أردتهم إلا على إقامة حق، و لا يريدهم غيري إلا على باطل.
قال المبرد: فلما أتى جرير معاوية دافعه معاوية فقال له جرير: إن المنافق لا يصلي حتى لا يجد من الصلاة بدا، و لا أحسبك تبايع حتى لا تجد من البيعة بدا، فقال له معاوية: إنها ليست بخدعة الصبي عن اللبن، إنه أمر له ما بعده فابلعني ريقي.
فناظر عمرا- يعني عمرو بن العاصي- فطالت المناظرة بينهما، و ألح عليه جرير فقال له معاوية: ألقاك بالفصل في أول مجلس إن شاء الله تعالى. ثم نقل كتاب معاوية إلى أمير المؤمنين عليه السلام و جوابه عليه السلام عن كتابه كما ذكرناهما في شرح الكتاب السابع.
و قد نقلنا عن نصر في شرح الكتاب السابق أن جريرا أبطأ عند معاوية حتى انهمه الناس، و قال علي عليه السلام: وقت لرسولي وقتا لا يقيم بعده إلا مخدوعا أو عاصيا و أبطأ على علي عليه السلام حتى أيس منه.
قال نصر: و في حديث محمد بن عبيد الله و صالح بن صدقة قالا: و كتب علي عليه السلام إلى جرير بعد ذلك: أما بعد فإذا أتاك كتابي- إلخ.
و بالجملة لما أتى جرير معاوية يأخذه بالبيعة لأمير المؤمنين عليه السلام سوف معاوية و ما طل في البيعة و لما رأى أمير المؤمنين عليه السلام ذلك كتب إليه ذلك الكتاب قوله عليه السلام: (فإذا أتاك كتابي فاحمل معاوية على الفصل و خذه بالأمر الجزم) يعني لا تترك معاوية يسوف في البيعة و يماطلك بها و تدعك حيران لا تدري كيف يعامل بك، بل احمله على الحكم القطعي و الأمر المقطوع به إما أن يدخل في الطاعة فيبايع، و إما أن يأذن بالحرب.
مجاز قوله عليه السلام: (ثم خيره بين حرب مجلية أو سلم محظية) لا يخفى حسن صنيعته عليه السلام حيث أمر جريرا أن يوقع معاوية بين الخوف و الرجاء و التخويف و الاستعطاف أي إن عصى و تمرد عن البيعة فلا بد له من أن يحاربنا و الحرب تجليه عن التي اتخذها وطنا و هي الشام.
و هذا تهديد و تفزيع له بأنه إن اختار الحرب يجليه جنود الحق أي أنصار أمير المؤمنين علي عليه السلام و أعوانه عن بلده قهرا، فإسناد الإجلاء إلى الحرب مجاز و إن أسلم فاختار السلم و الصلح فاعزاز و إفضال باطاعته، فنسبة الإحظاء إلى السلم مجاز أيضا فتفسير كلامه عليه السلام على هذا الوجه بين لا غبار عليه و لا يخلو من لطف.
و أما على نسخة المخزية، بالزاء فقيل: السلم المخزية الصلح الدال على العجز و الخطل في الرأي الموجب للخزي.
و الظاهر أن مراده من هذا التفسير هو ما ذكره الفاضل الشارح المعتزلي حيث قال: و إنما جعل السلم مخزية لأن معاوية امتنع أولا من البيعة، فاذا
دخل في السلم فإنما يدخل فيها بالبيعة، و إذا بايع بعد الامتناع فقد دخل تحت الهضيم و رضى بالضيم، و ذلك هو الخزي.
أقول: و على هذه النسخة عرض أمير المؤمنين عليه السلام له في قوله هذا بأنه سواء كان بايع أم لم يبايع مهان ذليل مقهور، لأنه إن بايع فالسلم تخزيه، و إن أبى و استكبر و أذن بالحرب فالحرب تجليه، و أما على رواية الجيم فواضح.
قوله عليه السلام: (فان اختار الحرب- إلخ) هذا تفصيل لقوله: ثم خيره. أي إذا خيرته بين الحرب و السلم فإن اختار الحرب فارمها إليه. و إن اختار السلم فخذ بيعته. و السلام لأهله.
أو أن قوله عليه السلام: فانبذ إليه، إشارة إلى قوله تعالى: و إما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين (الأنفال- 61) و ذلك أن المراد من الخيانة في الاية نقض العهد بدليل سياق الايات المتقدمة عليها و نظمها في ذلك، و إجماع المفسرين عليه.
و الايات المتقدمة قوله تعالى: إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة و هم لا يتقون فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون و إما تخافن الاية و النبذ إلقاء الخبر إلى من لا يعلمه. و بمعنى نقض العهد أيضا كما مر.
فمعنى الاية: و إن خفت من قوم معاهدين أي قوم بينك و بينهم عهد لأن نقض العهد يدل على تقدم العهد، نقض العهد لم يظهر منهم بعد، و ذلك لأن قوله تعالى: و إن خفت، يدل على عدم ظهوره بل يخاف ذلك منهم بامارات تلوح فيه فانبذ إليهم على سواء، أي ألق إليهم العهد الذي بينك و بينهم، يعني أعلمهم جهارا و أخبرهم إخبارا مكشوفا بأنك قد نقضت ما شرطت لهم على سواء، أي على سواء في العلم بمعنى أن يكون الفريقان متساويين في العلم بنقض العهد، أو معناه على طريق قصد مستوفي العداوة و هذا يرجع إلى الأول أيضا.
و بالجملة أمره الله تعالى أن لا يبدأ القوم بالقتال و هم على توهم بقاء العهد بل يعلمهم إعلاما مكشوفا بنقض العهد أولا ثم يوقع بهم، فان المناجزة قبل الاعلام به خيانة، إن الله لا يحب الخائنين.
فالمراد من قوله عليه السلام: فان اختار الحرب فانبذ إليه، أن معاوية إن اختار الحرب فاطرح إليه عهد الأمان و أعلنه أنت بالحرب أيضا مجاهرا و أخبره إخبارا مكشوفا من غير مداهنة حتى يتم الحجة عليه بإعلام نقض العهد و لا يتوهم متوهم أن مناجزتنا إياه كانت خيانة و خدعة.
إن قلت: لم يكن بينه عليه السلام و بين معاوية عقد عهد حتى يستفاد هذا المعنى من قوله عليه السلام، فكيف التوفيق؟.
قلت: قد احتج أمير المؤمنين عليه السلام في الكتاب السادس عليه بأن أهل الشورى من المهاجرين و الأنصار لما اجتمعوا على خلافته و إمامته كان ذلك الإجماع لله تعالى رضى و حجة على الغائب و الشاهد كما في الخلفاء الذين سبقوه عليه السلام بالزمان حتى لو خرج من إجماعهم خارج بطعن أو بدعة كانوا يردونه على ما خرج منه فإن أبى قاتلوه.
و قد بينا في شرح ذلك الكتاب أن هذا الاحتجاج إنما كان على سبيل المماشاة و الإلزام، و في اصطلاح أهل الميزان على طريق القياس الجدلي، فلزم معاوية و أتباعه على قبول خلافة أمير المؤمنين عليه السلام و إمامته و التسليم و الانقياد لأمره على ما عاهده عليه أهل الحل و العقد من امة محمد صلى الله عليه و آله كما لزمهم قبول خلافة من سبق منه و التسليم لهم، فوقع بين أمير المؤمنين عليه السلام و بين معاوية عهد.
جرير بن عبد الله البجلى من هو؟
قال ابن الأثير في اسد الغابة: جرير بن عبد الله بن جابر البجلي أسلم قبل وفاة النبي صلى الله عليه و آله بأربعين يوما، و كان حسن الصورة. و قال النبي صلى الله عليه و آله لما دخل عليه جرير فأكرمه: إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه. و كان له في الحروب بالعراق القادسية و غيرها أثر عظيم. و مات في قرقيسيا، و قيل: مات بالسراة، و روى عنه بنوه: عبيد الله، و المنذر، و ابراهيم، و روى عنه قيس بن أبي حازم، و الشعبي، و همام ابن الحارث، و أبو وائل، و أبو زرعة بن عمرو بن جرير و غيرهم. و أرسله رسول الله صلى الله عليه و آله إلى ذي الخلصة و هي بيت فيه صنم لخثعم ليهدمه، فخرج في مائة و خمسين راكبا من قومه فأحرقها.
ثم روى ابن الأثير باسناده عن قيس بن أبي حازم، عن جرير بن عبد الله قال:خرج علينا رسول الله صلى الله عليه و آله ليلة البدر فقال: إنكم ترون ربكم يوم القيامة كما ترون هذا لا تضامون في رؤيته.
قال: و توفى جرير سنة إحدى و خمسين، و قيل: سنة أربع و خمسين. انتهى ما أردنا من نقل كلام ابن الأثير في ترجمة جرير ملخصا.
قال نصر في صفين (ص 17 من الطبع الناصري): عن عمر بن سعد، عن نمير بن وعلة، عن عامر الشعبي أن عليا عليه السلام حين قدم من البصرة نزع جريرا عن همدان، فجاء حتى نزل الكوفة فأراد علي عليه السلام أن يبعث إلى معاوية رسولا فقال له جرير: ابعثني إلى معاوية فانه لم يزل لي مستنصحا و ودا نأتيه فأدعوه على أن يسلم لك هذا الأمر و يجامعك على الحق على أن يكون أميرا من امرائك و عاملا من عمالك ما عمل بطاعة الله و اتبع ما في كتاب الله، و أدعو أهل الشام إلى طاعتك و ولايتك، و جلهم قومي و أهل بلادي و قد رجوت أن لا يعصوني.
قال: فقال له الأشتر: لا تبعثه و دعه و لا تصدقه فوالله إني لأظن هواه هواهم و نيته نيتهم.
فقال له علي عليه السلام: حتى ننظر ما يرجع به إلينا.
نصر: صالح بن صدقة باسناده قال (ص 34): لما رجع جرير إلى علي عليه السلام كثر قول الناس في التهمة لجرير في أمر معاوية، فاجتمع جرير و الأشتر عند علي عليه السلام فقال الأشتر: أما و الله يا أمير المؤمنين لو كنت أرسلتني إلى معاوية لكنت خيرا لك من هذا الذي أرخا من خناقه و أقام حتى لم يدع بابا يرجو روحه إلا فتحه، أو يخاف غمه إلا سده.
فقال جرير: و الله لو أتيتهم لقتلوك، و خوفه بعمرو و ذي الكلاع و حوشب ذي ظليم و قد زعموا أنك من قتلة عثمان.
فقال الأشتر: لو أتيته و الله يا جرير لم يعيني جوابها و لم تثقل علي محملها و لحملت معاوية على خطة أعجله فيها عن الفكر. قال: فأتهم إذا. قال: الان و قد أفسدتهم و وقع بينهم الشر.
نصر عمر بن سعد، عن نمير بن و علة، عن عامر الشعبي قال: اجتمع جرير و الأشتر عند علي عليه السلام فقال الأشتر: أليس قد نهيتك يا أمير المؤمنين أن تبعث جريرا و أخبرتك بعداوته و غشه، و أقبل الأشتر يشتمه و يقول: يا أخا بجيلة إن عثمان اشترى منك دينك بهمدان، و الله ما أنت بأهل أن تمشي فوق الأرض حيا، إنما أتيتهم لتتخذ عندهم يدك بمسيرك إليهم ثم رجعت إلينا من عندهم تهددنا بهم، و أنت و الله منهم، و لا أرى سعيك إلا لهم، و لئن أطاعني فيك أمير المؤمنين ليحبسنك و أشباهك في محبس لا تخرجوا منه حتى تستبين هذه الامور، و يهلك الله الظالمين.
قال جرير: وددت و الله أنك كنت مكاني بعثت إذا و الله لم ترجع. قال:و لما سمع جرير ذلك لحق بقرقيسا و لحق به اناس من قيس فسر من قومه و لم يشهد صفين من قيس غير تسعة عشر، و لكن أحمس شهدها منهم سبع مأئة رجل، و خرج علي إلى دار جرير فشعث منها، و حرق مجلسه و خرج أبو زرعة بن عمرو ابن جرير فقال: أصلحك الله إن فيها أرضا لغير جرير، فخرج علي منها إلى دار ثوير بن عامر فحرقها و هدم منها و كان ثوير رجلا شريفا و كان قد لحق بجرير.
قال: و قال الأشتر فيما كان من تخويف جرير إياه بعمرو و حوشب ذي ظليم و ذي الكلاع:
لعمرك يا جرير لقول عمرو | و صاحبه معاوية الشامي | |
و ذي كلع و حوشب ذي ظليم | أخف علي من زف النعام | |
إذا اجتمعوا علي فخل عنهم | و عن باز مخالبه دوام | |
فلست بخائف ما خوفوني | و كيف أخاف أحلام النيام | |
و همهم الذى حاموا عليه | من الدنيا و همي ما أمامي | |
فان أسلم أعمهم بحرب | يشيب لهو لها رأس الغلام | |
و إن اهلك فقد قدمت أمرا | أفوز بفلجه يوم الخصام | |
و قد زادوا إلى و أوعدوني | و من ذا مات من خوف الكلام | |
و المنقول عن ابن قتيبة في المعارف أن جريرا قدم على رسول الله صلى الله عليه و آله سنة عشر من الهجرة في شهر رمضان فبايعه و أسلم، و كان طوالا ينقل في ذروة البعير من طوله، و كانت نعله ذراعا، و كان يخضب لحيته بالزعفران من الليل و يغسلها إذا أصبح، فتخرج مثل لون التبر، و اعتزل عليا عليه السلام و معاوية و أقام بالجزيرة و نواحيها حتى توفي بالشراة سنة أربع و خمسين في ولاية الضحاك بن قيس على الكوفة.
و في شرح المعتزلي عند شرح قوله عليه السلام: أما أنه سيظهر عليكم بعدي رجل رحب البلعوم مند حق البطن- إلخ: أن أشعث بن قيس الكندي و جرير بن عبد الله البجلي يبغضانه و هدم علي عليه السلام دار جرير بن عبد الله، قال إسماعيل بن جرير: هدم علي عليه السلام دارنا مرتين.
و روى الحارث بن حضيرة أن رسول الله صلى الله عليه و آله دفع إلى جرير بن عبد الله نعلين من نعاله و قال: احتفظ بهما فإن ذهابهما ذهاب دينك، فلما كان يوم الجمل ذهبت إحداهما، فلما أرسله علي عليه السلام إلى معاوية ذهبت الاخرى. ثم فارق عليا عليه السلام و اعتزل الحرب.
بحث حكمى عقلى فى ابطال رؤيته تعالى بالابصار فى الدنيا و الاخرة و يتبعه بحث روائى فى ذلك
ما روى ابن الأثير عن جرير من حديث الرؤية أوجب علينا البحث عن معنى الرؤية و تحقيقها في المقام، فإن ظاهر الرواية يزل الأقدام عن صوب الصواب.
قال ابن الأثير فى مادة «ضمم» من النهاية: في حديث الرؤية: لا تضامون في رؤيته، يروى بالتشديد و التخفيف، فالتشديد معناه لا ينضم بعضكم إلى بعض تزدحمون وقت النظر إليه، و يجوز ضم التاء و فتحها على تفاعلون و تتفاعلون و معنى التخفيف لا ينالكم ضيم في رؤيته فيراه بعضكم دون بعض، و الضيم: الظلم.
قال الشهرستاني في الملل و النحل عند ترجمة الطائفة الحائطية (ص 28 طبع ايران 1288 ه): و من ذلك أصحاب أحمد بن حائط، و كذلك الحدثية أصحاب فضل الحدثي كانا من أصحاب النظام، و طالعا كتب الفلاسفة أيضا، و ضما إلى مذهب النظام ثلاث بدع- إلى أن قال: البدعة الثالثة حملهما كلما ورد في الخبر من رؤية الباري تعالى مثل قوله صلى الله عليه و آله «إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته» على رؤية العقل الأول الذي هو أول مبدع، و هو العقل الفعال الذي منه تفيض الصور على الموجودات، و إياه عنى النبي صلى الله عليه و آله:
أول ما خلق الله العقل فقال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، فقال و عزتى و جلالي ما خلقت خلقا أحسن منك، بك اعز و بك اذل، و بك أعطي، و بك أمنع، فهو الذي يظهر يوم القيامة و ترتفع الحجب بينه و بين الصور التي فاضت منه، فيرونه كمثل القمر ليلة البدر، فأما واهب العقل فلا يرى ألبتة و لا يشبه إلا مبدع. انتهى ما أردنا من نقل كلامه.
و اعلم أنما تشعبت الاراء في رؤيته تعالى على أقوال و كادت أن تنتهي إلى أكثر من عشرة أقوال، فذهبت الحكما و الإمامية و المعتزلة إلى استحالة رؤيته تعالى بالأبصار في الدنيا و الاخرة، لتجرده تعالى، و هذا هو المذهب المختار الحق ذهب إليه جل الحكماء المتألهين، و العلماء الشامخين، و بذلك شهدا العقل و حكم به جميع الأنبياء و المرسلين، و نطق القرآن الكريم، و تواترت الأخبار عن أئمتنا الهدى صلوات الله عليهم أجمعين، و سنذكر طائفة من تلك الأخبار و شرحها بعون الله تعالى.
و إنما قيدنا الرؤية بالأبصار لأن الرؤية إذا كانت بمعنى الشهود العقلي و الحضور العلمي و الانكشاف التام بالبصيرة القلبية لا بالبصر الحسي و الخيالي فلا كلام في صحتها و وقوعها للكملين من الموحدين كما سيتضح لك في البحث الاتي عن الأخبار إنشاء الله تعالي.
و ذهبت المجسمة و الكرامية إلى جواز رؤيته بالبصر مع المواجهة فقالت الكرامية و الحنابلة: يرى في جهة فوق.
قال الشهرستاني في الملل و النحل عند ترجمة الفرقة المشبهة (ص 48 طبع ايران 1288 ه): و أما مشبه الحشوية فحكى الأشعري عن محمد بن عيسى أنه حكى عن مضر و كهمش و أحمد الهجيمي أنهم أجازوا على ربهم الملامسة و المصافحة و أن المخلصين من المسلمين يعانقونه في الدنيا و الاخرة إذا بلغوا في الرياضة و الاجتهاد إلى حد الإخلاص و الاتحاد المحض.و حكى الكعبي عن بعضهم أنه كان يجوز الرؤية في الدنيا و أن يزوروه و يزورهم.
و حكى عن داور الجواري أنه قال: اعفوني عن الفرج و اللحية و اسألوني عما وراء ذلك و قال: إن معبوده جسم و لحم و دم و له جوارح و أعضاء من يد و رجل و رأس و لسان و عينين و اذنين، و مع ذلك جسم لا كالأجسام، و لحم لا كاللحوم، و دم لا كالدماء، و كذلك سائر الصفات، و هو لا يشبه شيئا من المخلوقات و لا يشبهه شيء.و يحكى عنه أنه قال: هو أجوف من أعلاه إلى صدره، مصمت ما سوى ذلك و أن له وفرة سوداء، و له شعر قطط.
و أما ما ورد في التنزيل من الإستواء و اليدين و الوجه و الجنب و المجيء و الاتيان و الفوقية و غير ذلك فأجروها على ظاهرها أعني ما يفهم عند الإطلاق على الأجسام. و كذلك ما ورد في الأخبار من الصورة في قوله عليه السلام: خلق الله آدم على صورة الرحمن. و قوله: حتى يضع الجبار قدمه في النار. و قوله: وضع يده أو كفه على كتفي فوجدت (حتى وجدت- خ ل) برد أنا مله بين ثديي (على كتفى- خ ل) إلى غير ذلك أجروها على ما يتعارف في صفات الأجسام.
ثم قال: و زادوا في الأخبار أكاذيب و ضعوها و نسبوها إلى النبي صلى الله عليه و آله و أكثرها مقتبسة من اليهود، فإن التشبيه فيهم طباع حتى قالوا: اشتكت عيناه فعادته الملائكة و بكى على طوفان نوح عليه السلام حتى رمدت عيناه. و أن العرش ليأط من تحته كأطيط الرحل الحديد، و أنه ليفضل من كل جانب أربع أصابع.
و روت المشبهة عنه صلى الله عليه و آله أنه قال: لقيني ربي فصافحني و كافحني و وضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله في صدري. انتهى ما أردنا من نقل كلامه.
و الأشاعرة مع أنهم اعتقدوا تجرده تعالى قالوا بصحة رؤيته، و خالفوا بذلك جميع العقلاء، و لذا قالوا: إنه تعالى يرى لا كما قال هؤلاء القائلون بجسميته بل يرى و ليس فوقا، و لا تحتا، و لا يمينا، و لا شمالا، و لا أماما، و لا وراء، و لا يرى كله و لا بعضه، و لا هو في مقابلة الرائي، و لا منحرفا عنه، و لا يصح الإشارة إليه إذا رأي و مع ذلك يرى و يبصر.
قال بعض الأشاعرة: فقال: ليس مرادنا بالرؤية الانطباع أو خروج الشعاع بل الحالة التي تحصل من رؤية الشيء بعد حصول العلم به، و تحذلق بعضهم فقال:
معنى الرؤية هو أن ينكشف لعباده المؤمنين في الاخرة انكشاف البدر المرئي.
نقلهما الفاضل المقداد في شرحه الموسوم بالنافع يوم الحشر في شرح الباب الحادي عشر للعلامة الحلي قدس روحهما.
و ذهب ضرار بن عمرو إلى أن الله تعالى يرى يوم القيامة بحاسة سادسة لا بهذا البصر.
و قال قوم: يجوز أن يحول الله تعالى قوة القلب إلى العين فيعلم الله تعالى بها، فيكون ذلك الإدراك علما باعتبار أنه بقوة القلب، و رؤية باعتبار أنه قد وقع بالمعنى الحال في الغير.
ثم القائلون برؤيته يوم القيامة اختلفوا في أنه هل يحوز أن يراه الكافر؟
فقال أكثرهم: إن الكفار لا يرونه، لأن رؤيته كرامة و الكافر لا كرامة له.
و قالت السالمية و بعض الحشوية: إن الكفار أيضا يرونه يوم القيامة.
و ذهب قوم إلى أنهم لا يزالون يرون الله تعالى و أن الناس كلهم كافرهم و مؤمنهم يرونه و لكن لا يعرفونه. و تحذلق بعضهم فقال: لا يجوز أن يرى بعين خلقت للفناء، و إنما يرى في الاخرة بعين خلقت للبقاء.
هذه نبذة من الأقوال و الاراء في رؤيته تعالى و قد تمسك كل فرقة بظاهر بعض الايات و الأخبار، و لم يقدروا على الخروج من حكم الوهم إلى قضاء العقل و التمييز بينهما كما أشار إليه المحقق خواجه نصير الدين الطوسي في كتابه قواعد العقائد حيث قال: و عند أهل السنة إن الله تعالى يصح أن يرى مع امتناع كونه في جهة من الجهات، و احتجوا لها بالقياس على الموجودات المرئية و بنصوص القرآن و الحديث، انتهى ما أردنا من نقل كلامه.
ثم إنا لو تعرضنا لهدم بنيان ما تمسك بها كل فرقة على البسط و التفصيل لطال بنا الخطب و لخرجنا عن موضوع الكتاب، و لكن نذكر طائفة من الاصول الكلية العقلية الهادمة لما أسسوا و بنوا عليها تلك الاراء الردية ثم نعقبها بذكر ما روي عن أئمتنا المعصومين عليهم السلام لأن مقالاتهم موازين القسط في كل باب، و فيصل الخطاب في كل حكم لاولي الألباب.
و اعلم أن المعتمد في اصول الايمان هو العقل فقط و النقل إن وافقه و إلا فإن كان له محمل صحيح من وجوه الاستعارات و الكنايات و غيرهما المتداولة في لسان العرب أو غيرهم المؤيدة بالشواهد و القرائن التي لها وجه وجيه و أدركناها فنحمله عليه، و إلا إما تتوقف في تفسيره و تقريره كما لو كانت آية من آي القرآن المخالفة بظاهرها لحكم العقل الصريح و لم نصل إلى فهم مراده، و لكنا نعلم أن ظاهرها ليس بمراد كما نعلم أن لها معنى صحيحا لو رزقنا ادراكه وجدناه معاضدا لحكم العقل، و إما نعرض عنه كالخبر الواحد المخالف للعقل و القرآن.
و هدانا إلى ذلك رسول الله صلى الله عليه و آله و أئمتنا عليهم السلام فقد روى الشيخ أبو الفتوح الرازي في تفسيره حديثا عن النبي صلى الله عليه و آله: إذا أتاكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله و حجة عقولكم، فان وافقهما فاقبلوه، و إلا فاضربوا به عرض الجدار.
و في باب الأخذ بالسنة و شواهد الكتاب من الكافي رويت عدة روايات فيذلك عن أهل بيت العصمة و الطهارة حذروا الناس عن أخذ ما خالف كتاب الله، منها:
علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله عليه السلام قال:قال رسول الله عليه السلام: إن على كل حق حقيقة و على كل صواب نورا، فما وافق كتاب الله فخذوه، و ما خالف كتاب الله فدعوه.
محمد بن يحيى، عن عبد الله بن محمد، عن علي بن الحكم، عن أبان بن عثمان عن عبد الله بن أبي يعفور قال: و حدثني حسين بن أبي العلاء أنه حضر ابن أبي يعفور في هذا المجلس قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن اختلاف الحديث يرويه من تثق به، و منهم من لا تثق به، قال: إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهدا من كتاب الله أو من قول رسول الله صلى الله عليه و آله، و إلا فالذي جاءكم به أولى به.
عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن النضر بن سويد، عن يحيى الحلبي، عن أيوب بن الحر قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: كل شيء مردود إلى الكتاب و السنة، و كل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف.
محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن فضال، عن علي بن عقبة عن أيوب بن راشد، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف.
محمد بن اسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن الحكم و غيره عن أبي عبد الله عليه السلام قال: خطب النبي صلى الله عليه و آله بمنى فقال: أيها الناس ما جاءكم عني يوافق كتاب الله فأنا قلته، و ما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله.
و في باب اختلاف الحديث و الحكم من الكافي باسناده عن أبان بن أبي عياش عن سليم بن قيس الهلالي، قال: قلت لأمير المؤمنين عليه السلام: إني سمعت من سلمان و المقداد و أبي ذر شيئا من تفسير القرآن و أحاديث عن نبي الله غير ما في أيدي الناس، ثم سمعت منك تصديق ما سمعت منهم، و رأيت في أيدي الناس أشياء كثيرة من تفسير القرآن و من الأحاديث عن نبي الله أنتم تخالفونهم فيها و تزعمون أن ذلك كله باطل، أفترى الناس يكذبون على رسول الله صلى الله عليه و آله متعمدين و يفسرون القرآن بارائهم؟
قال: فأقبل عليه السلام علي فقال: قد سألت فافهم الجواب إن في أيدي الناس حقا و باطلا، و صدقا و كذبا، و ناسخا و منسوخا، و عاما و خاصا، و محكما و متشابها، و حفظا و وهما، و قد كذب على رسول الله صلى الله عليه و آله على عهده حتى قام خطيبا فقال: أيها الناس قد كثرت علي الكذابة فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار، ثم كذب عليه من بعده و إنما أتاكم الحديث من أربعة ليس لهم خامس:
رجل منافق يظهر الايمان متصنع بالإسلام لا يتأثم و لا يتحرج أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه و آله متعمدا فلو علم الناس أنه منافق كذاب لم يقبلوا منه و لم يصدقوه، و لكنهم قالوا: هذا قد صحب رسول الله صلى الله عليه و آله و رآه و سمع منه فيأخذون عنه و هم لا يعرفون حاله، و قد أخبر الله عن المنافقين بما أخبره و وصفهم بما وصفهم فقال تعالى: و إذا رأيتهم تعجبك أجسامهم و إن يقولوا تسمع لقولهم ثم بقوا بعده فتقربوا إلى أئمة الضلال و الدعاة إلى النار بالزور و الكذب و البهتان فولوهم الأعمال، و حملوهم على رقاب الناس، و أكلوا بهم الدنيا، و إنما الناس مع الملوك و الدنيا إلا من عصم الله، فهذا أحد الأربعة.
و رجل سمع من رسول الله صلى الله عليه و آله شيئا لم يحمله على وجهه و وهم فيه و لم يتعمد كذبا فهو في يده يقول به و يعمل به و يرويه فيقول: أنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه و آله، فلو علم المسلمون أنه و هم لم يقبلوه، و لو علم هو أنه و هم لرفضه. الى آخر ما أفاد عليه السلام.
و أتى بهذه الرواية الرضي- ره- في باب الخطب من نهج البلاغة و الصدوق في الباب الخامس و الأربعين من رسالته في الاعتقادات و إنما أردنا نقل هذا المقدار من كلامه عليه السلام ليعلم أن الكذابة قد كثرت على رسول الله صلى الله عليه و آله و أن هؤلاء المتكذبين اختلقوا الأخبار، و افتروا على الله و رسوله فلا يكون كل خبر مروي على حياله حجة إلا ما يوافقه شاهد صادق كالعقل و القرآن و الأحاديث الصحيحة.
و أوضح منه في مقصودنا هذا ما روي عن الحسن بن الجهم، عن الرضا عليه السلام أتى به الفيض قدس سره في باب اختلاف الحديث و الحكم من الوافي (ص 66 ج 1) قال: قلت له عليه السلام: يجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة، قال: ما جاءك عنا فاعرضه على كتاب الله عز و جل و أحاديثنا فان كان يشبههما فهو منا و إن لم يشبههما فليس منا. الحديث.
و قال ثقة الإسلام أبو جعفر الكليني قدس سره في أوائل الكافي:يا أخي أرشدك الله أنه لا يسع أحدا تمييز شيء مما اختلف الرواية فيه عن العلماء عليهم السلام برأيه إلا على ما أطلقه العالم عليه السلام بقوله: اعرضوها على كتاب الله فما وافق كتاب الله عز و جل فخذوه، و ما خالف كتاب الله فردوه.
و قال العالم الرباني أبو جعفر محمد بن بابويه الملقب بالصدوق قدس سره الشريف في الباب الأول من رسالته في الاعتقادات:اعلم أن اعتقادنا في التوحيد أن الله تعالى واحد ليس كمثله شيء، قديم لم يزل و لا يزال سميعا، بصيرا، عليما، حكيما، حيا، قيوما، عزيزا، قدوسا عالما، قادرا، غنيا، لا يوصف بجوهر، و لا جسم، و لا صورة، و لا عرض، و لا خط و لا سطح، و لا ثقل، و لا خفة، و لا سكون، و لا حركة، و لا مكان، و لا زمان فإنه تعالى متعال من جميع صفات خلقه خارج عن الحدين حد الإبطال و حد التشبيه و أنه تعالى شيء لا كالأشياء، أحد صمد لم يلد فيورث، و لم يولد فيشارك، و لم يكن له كفوا أحد، و لا ندله، و لا ضد، و لا شبه، و لا صاحبة، و لا مثل، و لا نظير، و لا شريك له، لا تدركه الأبصار و هو يدرك الأبصار، و لا الأوهام و هو يدركها، لا تأخذه سنة و لا نوم، و هو اللطيف الخبير، خالق كل شيء لا إله إلا هو له الخلق و الأمر تبارك الله رب العالمين، و من قال بالتشبيه فهو مشرك، و من نسب إلى الامامية غير ما وصف في التوحيد فهو كاذب، و كل خبر يخالف ما ذكرت في التوحيد فهو موضوع مخترع، و كل حديث لا يوافق كتاب الله فهو باطل، و إن وجد في كتب علمائنا فهو مدلس و الأخبار التي يتوهمها الجهال تشبيها لله تعالى بخلقه فمعانيها محمولةعلى ما في القرآن من نظائرها، إلى آخر ما قال.
أقول: لله دره فانه- ره- أجاد و أفاد بما قضى به العقل الصريح و النقل الصحيح، إلا أنه رحمه الله ذهب إلى أن من قال بالتشبيه فهو مشرك.
فإن عنى بذلك الشرك المصطلح عند المتشرعة بأن يكون قائله كافرا بحيث يترتب عليه أحكامه من النجاسة و عدم حل ذبيحته و سائر أحكامه التي دونت في الكتب الفقهية كما هو ظاهر كلامه- ره- فلا نسلم، لأن القائل برؤيته تعالى بالأبصار مثلا و إن كان شبهه تعالى بالجسم و أثبت له صفات المخلوق المركب المرئي إلا أنه ذهب إليه من غير شعور بتلك التوالي الفاسدة و اللوازم الباطلة غير اللائقة بذاته تعالى، و لو تنبه بها أعرض عنها، و ذلك القائل أطاع الوهم من حيث لا يشعر فأضله السبيل حيث رأى أن الأرض و الماء و الكواكب و غيرها مرئية محسوسة أو قابلة للرؤية، قاده الوهم إلى أن كل ما هو موجود فهو مرئي محسوس فالله تعالى موجود فتصح رؤيته و ما درى أن ذلك القول ينتهي إلى التركيب و الافتقار و سائر صفات الجسم في الله تعالى و لم يعلم من الشرع أن القائل بما تترتب عليه لوازم غير بينة من حيث لا يشعر مأخوذ و محكوم بأحكام تلك اللوازم الشرعية، بل المعلوم خلافه، نعم لو كانت اللوازم بينة و مع ذلك مال إليها و شبهه تعالى بما يعلم تواليه الفاسدة المترتبة على رأيه يمكن أن يقال إنه مشبه مشرك كافر.
و إن عنى معناه اللغوي العاري عن الأحكام الشرعية توسعا، أو أن هذا قول المشرك و هو لا يعلم به أو نظائر هذين الوجهين فلا كلام فيه إلا أن نحو هذا القائل ليس بمشرك كافر.
و قال- ره- في باب ما جاء في الرؤية من كتابه القيم المفيد في التوحيد (ص 108 طبع ايران 1321 ه): و الأخبار التي رويت في هذه المعنى- يعني في الرؤية- صحيحة و إنما تركت إيرادها في هذا الباب خشية أن يقرؤها جاهل بمعانيها فيكذب بها فيكفر بالله عز و جل و هو لا يعلم.
و الأخبار التي ذكرها أحمد بن محمد بن عيسى في نوادره و التي أوردها محمد بن أحمد بن يحيى في جامعه في معنى الرؤية صحيحة لا يردها إلا مكذب بالحق أو جاهل به، و ألفاظها ألفاظ القرآن، و لكل خبر منها معنى ينفي التشبيه و التعطيل و يثبت التوحيد و قد أمرنا الأئمة صلوات الله عليهم أن لا نكلم الناس إلا على قدر عقولهم.
و معنى الرؤية الواردة في الأخبار العلم، و ذلك أن الدنيا دار شكوك و ارتياب و خطرات فإذا كان يوم القيامة كشف للعباد من آيات الله و اموره في ثوابه و عقابه ما يزول به الشكوك و يعلم حقيقة قدرة الله عز و جل، و تصديق ذلك في كتاب الله عز و جل: لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد (ق- 22).
فمعنى ما روي في الحديث أنه عز و جل يرى أي يعلم علما يقينيا كقوله عز و جل أ لم تر إلى ربك كيف مد الظل (الفرقان- 45) و قوله تعالى: أ لم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه (البقرة- 258) و قوله تعالى: أ لم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم و هم ألوف حذر الموت (البقرة- 243) و قوله تعالى:
أ لم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل (الفيل- 2) و أشباه ذلك من رؤية القلب و ليست من رؤية العين. إلى آخر ما أفاد قدس سره و إنما نقلنا موضع الحاجة من كلامه.
أقول: قوله- ره- فيكفر بالله عز و جل و هو لا يعلم، كأنما أراد به المعنى الثاني من المعنيين المتقدمين فلا بأس أن يجعل كلامه في التوحيد قرينة على حمل كلامه في الاعتقادات على ذلك أيضا، أي و من قال بالتشبيه فهو مشرك و هو لا يعلم.
فنقول: إن ما يدرك بالقوة الباصرة لا بد من أن يكون جسما كثيفا، لأن للرؤية شروطا.
فمنها أن يكون المرئي مقابلا للرائي أو في حكم المقابل، و الثاني كرؤية الانسان وجهه في المرآة و رؤية الأعراض، لأن المقابل حقيقة هو الجسم و اعراضه مقابلة للرائي بالتبع فهي في حكم المقابل.
و منها عدم البعد المفرط.
و منها عدم القرب المفرط.
و منها عدم الصغر المفرط.
و منها عدم الحاجب بين الرائي و المرئي.
و منها أن يكون المرئي مضيئا إما من ذاته أو من غيره.
و منها أن يكون المرئي كثيفا أي مانعا للشعاع من النفوذ فيه فلو لم يكن كثيفا لا يمكن رؤيته.
سواء قيل: إن الابصار بخروج الشعاع من العين على هيئة مخروط رأسه عند مركز البصر و قاعدته عند سطح المبصر.
إما يكون ذلك المخروط مصمتا أو مركبا من خطوط شعاعية مستقيمة أطرافه التي يلي البصر مجتمعة عند مركزه ثم تمتد متفرقة إلى البصر، فما ينطبق عليه من المبصر أطراف تلك الخطوط أدركه البصر و ما وقع بين أطراف تلك الخطوط لم يدركه.
و إما لم يكن الشعاع مخروطا أصلا بل هو خط مستقيم خارج من العين فإذا انتهى إلى المرئي تحرك على سطحه في جهتي طوله و عرضه حركة في غاية السرعة و يتخيل بحركته هيئة مخروطة كما يتخيل القطر النازل خطا مستقيما و النقطة الدائرة بسرعة خطا مستديرا، و هذا قول الرياضيين ذهب إلى كل واحدة من الشعب المذكورة طائفة منهم.
و سواء قيل: إن الابصار بالانطباع و هو مذهب الطبيعيين و هو المختار عند أرسطو و أتباعه كالشيخ الرئيس حيث اختاره في الشفاء.
أو قيل: إن المشف الذي بين البصر و المرئي يتكيف بكيفية الشعاع الذي هو في البصر و يصير بذلك آلة للإبصار كما ذهب اليه طائفة من الحكماء.
أو قيل: لا انطباع و لا شعاع و إنما الابصار بمقابلة المستنير للباصرة فيقع حينئذ للنفس علم اشراقي حضوري على المبصر كما مال إليه الشيخ الاشراقي شهاب الدين السهروردي.
أو أن الإبصار بإنشاء صورة مماثلة له بقدرة الله من عالم الملكوت النفساني مجردة عن المادة الخارجية حاضرة عند النفس المدركة قائمة بها قيام الفعل بفاعله لا قيام المقبول بقابله.
و بالجملة أن المحسوس لكل حاسة هو الصورة الإدراكية المفارقة عن المادة، لا التي هي في مادة جسمانية و مع ذلك لا بد في الإبصار من مقابلة البصر لما يقع صورته عند القوة المدركة و البصر، و من تحقق سائر شروط الرؤية كما ذهب إليه المولى صدر المتألهين في السفر الرابع من الأسفار. و حجة كل طائفة مذكورة في محالها و لسنا الان في ذلك المقام.
و قد أشار إلى تلك الاراء في كيفية الابصار الحكيم السبزواري قدس سره في غرر الفرائد بقوله منظوما:
قد قيل الابصار بالانطباع | و قيل بالخارج من شعاع | |
مضطرب الاخر أو مخروطي | مصمت أو الف من خطوط | |
لدى الجليدية رأسه ثبت | قاعدة منه على المرئي حوت | |
تكيف المشف باستحالة | بكيف ضوء العين بعض قاله | |
و بانتساب النفس و الاشراق | منها لخارج لدى الاشراقي | |
و صدر الاراء هو رأى الصدر | فهو بجعل النفس رأيا يدري | |
للعضو أعداد إفاضة الصور | قامت قياما عنه كالذي استتر | |
و كيف كان و لو جازت رؤيته تعالى بالأبصار لزم أن يكون جسما ذا جهة لأن المرئي بالعين يجب أن يكون كثيفا مقابلا للرائي. و ليس ذلك إلا الأشياء التي قبلنا، فاذن يلزم تركيبه تعالى و تحديده و افتقاره و غيرها من التوالي الباطلة و المفاسد اللازمة على هذا الرأي السخيف، تعالى الله عما يقول الجاهلون علوا كبيرا.
فلما كانت البراهين العقلية تمنعنا عن القول برويته تعالى بل برؤية المفارقات مطلقا سواء كانوا عقولا أو نفوسا بالأبصار فلا يصح لنا الأخذ بظواهر الأحاديث المروية في الرؤية بل بظاهر الايات القرآنية الناطقة فيها، و قد نعلم قطعا أن الله تعالى و حججه ما أرادوا معانيها الظاهرة، و لذلك تصدى العقلاء إلى درك معانيها الحقيقية و حمل ظاهرها على ما يوافقه صريح العقل و صحيح النقل.
مثلا أنهم بينوا في قوله تعالى: وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة (القيامة- 23) الذي تمسك به الأشعري و أتباعه في القول بالرؤية وجوها من المعاني الصحيحة التي تناسب حكم العقل و لا يأبى عنها طباع الاية.
روى الصدوق قدس سره في الباب الحادى عشر من عيون أخبار الرضا عليه السلام باسناده عن ابراهيم بن أبي محمود قال: قال علي بن موسى الرضا عليه السلام في قول الله تعالى وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة يعني مشرقة ينتظر ثواب ربها.
و قال علم الهدى السيد المرتضى- ره- في كتابه غرر الفوائد و درر القلائد (ص 16 طبع طهران 1272 ه):
إن أصحابنا قد اعتمدوا فى إبطال ما ظن أصحاب الرؤية في قوله تعالى وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة على وجوه معروفة، لأنهم بينوا أن النظر ليس يفيد الرؤية و لا الرؤية من أجل محتملاته. و دلوا على أن النظر ينقسم إلى أقسام كثيرة منها تقليب الحدقة الصحيحة حيال المرئي طلبا لرؤيته، و منها النظر الذي هو الانتظار، و منها النظر الذي هو التعطف و الرحمة، و منها النظر الذي هو الفكر و التأمل، و قالوا: إذا لم يكن في أقسام النظر الرؤية لم يكن للقوم بظاهرها تعلق و احتجنا جميعا إلى طلب تأويل الاية من غير جهة الرؤية، و تأولها بعضهم على الانتظار للثواب و إن كان المنتظر في الحقيقة محذوفا و المنتظر منه مذكورا على عادة للعرب معروفة و سلم بعضهم أن النظر يكون الرؤية بالبصر و حمل الاية على رؤية أهل الجنة لنعم الله تعالى عليهم على سبيل حذف المرئي في الحقيقة، و هذا الكلام مشروح في مواضعه و قد بينا ما يورد عليه و ما يجاب عن الشبهة المعترضة فيه في مواضع كثيرة.
قال: و ههنا وجه غريب في الاية حكي عن بعض المتأخرين- قيل: إن ذلك البعض هو الصاحب بن عباد- لا يفتقر معتمده إلى العدول عن الظاهر أو إلى تقدير محذوف، و لا يحتاج إلى منازعتهم في أن النظر يحتمل الرؤية أولا يحتملها، بل يصح الاعتماد عليه، سواء كان النظر المذكور في الاية هو الانتظار بالقلب أو الرؤية بالعين، و هو أن يحمل قوله تعالى إلى ربها على أنه أراد به نعمة ربها لأن الالاء النعم و في واحدها أربع لغات يقال: ألى مثل قفا، و إلى مثل معى و ألي مثل ظبي، و إلى مثل حسى: قال الأعشى بكر بن وائل:
255
أبيض لا يرهب الهزال و لا | يقطع رحما و لا يخون إلى | |
أراد أنه لا يخون نعمة و أراد تعالى بإلى ربها نعم ربها، و اسقط التنوين للإضافة.
قال: فإن قيل: أي فرق بين هذا الوجه و بين تأويل من حمل الاية على أنه اريد بها إلى ثواب ربها ناظرة يعني رائية لنعمه و ثوابه؟
قلنا: ذلك الوجه يفتقر إلى محذوف لأنه إذا جعل إلى حرفا و لم يعلقها بالرب تعالى فلا بد من تقدير محذوف و في الجواب الذي ذكرناه لا يفتقر إلى تقدير محذوف، لأن إلى فيه اسم تتعلق به الرؤية فلا يحتاج إلى تقدير محذوف غيره، و الله أعلم بالصواب، انتهى كلامه رفع مقامه، و ذكر البيت الطبرسي- ره- أيضا فى التفسير و استشهد به بأن إلى في الاية اسم مفرد الالاء.
و جميع الايات التي تمسك بها الأشاعرة كان من هذا القبيل، و كذا الأخبار الظاهرة في الرؤية، و لو كان خبر ناصا في مقصودهم بالفرض لرفضناه و نضربه على الجدار لعلمنا بأنه موضوع و إلا لما خالف العقل و القرآن.
على أن للروايات التي تعلقوا بها أيضا معاني صحيحة كما سنشير إلى نبذة منها عند شرح الأحاديث الاتية المروية عن الأئمة عليهم السلام في إبطال رؤيته تعالى بالأبصار.
ثم إن الأشاعرة سلكوا في قولهم هذا مسلك قولهم في الكلام النفسي حيث زعموا في ماهية كلامه تعالى أنه معنى قديم قائم بذاته ليس بحرف و لا صوت و لا أمر و لا نهي و لا خبر و لا استخبار و غير ذلك من أساليب الكلام، لأنهم مع ذهابهم إلى تجرده تعالى قالوا برؤيته بالأبصار و لكنه يرى لا كما يرى الاجسام بل يرى و ليس فوقا و لا تحتا و لا يمينا- الى آخر ما نقلنا من مذهبهم في الرؤية.
ثم إن بعض الأشاعرة لما التفتوا إلى سخافة رأي شيخهم في الرؤية تصدى لحمل كلامه على وجه لعله يوافق حكم العقل فقال: ليس مرادنا بالرؤية الانطباع أو خروج الشعاع، بل الحالة التي تحصل من رؤية الشيء بعد حصول العلم به.
و مراده من كلامه هذا أنه ليس المراد بالرؤية هو الانكشاف التام المسلم جوزاه عند الكل، و لا ارتسام صورة المرئي في العين المسلم امتناعه عند الكل بل أمر آخر وراء ذلك يسمونه بالحالة التي تحصل من رؤية الشيء بعد حصول العلم كما صرح به شارح الفصوص المنسوب إلى الفارابي، و الفخر الرازي في المحصل و الرجلان من كبار الأشاعرة.
فقال الأول (ص 126 طبع طهران 1318 ه): مذهب أهل الحق و هم الأشاعرة أن الله تعالى يجوز أن يرى منزها عن المقابلة و الجهة و المكان، و خالفهم في ذلك سائر الفرق، و لا نزاع للنافين في جواز الانكشاف التام العلمي، و لا للمثبتين في امتناع ارتسام صورة المرئي في العين، و اتصال الشعاع الخارج من العين بالمرئي إنما محل النزاع إذا عرفنا الشمس مثلا بحد أو رسم كان نوعا من الإدراك، ثم إذا بصرناها و غمضنا العين كان نوعا آخر فوق الأول، ثم إذا فتحنا العين يحصل لنا من الإدراك نوع آخر فوق الأولين نسميها الرؤية و لا يتعلق في الدنيا إلا بما هو في جهة أو مكان، فمثل هذه الحالة الادراكية هل يصح أن يقع بدون المقابلة و الجهة و أن يتعلق بذات الله تعالى منزهة عن الجهة و المكان أم لا فالأشاعرة يثبتونها و المعتزلة و سائر الفرق ينكرونها. انتهى كلامه.
و لا يخفى عليك أنه لم يأت بما يغنيهم و ينجيهم من مهالك رأيهم الكاسد، و أورد عليه الفخر في المحصل اعتراضات كثيرة مع أنه حرر البحث أيضا مثل ذلك الرجل و قال: محل النزاع ذلك الأمر الاخر لا الأولان، و اختار آخر الأمر أن المعتمد في مسألة الرؤية الدلائل السمعية.
و نقل كلامه و إن كان مفضيا إلى إطناب، و لكن لما كان الرجل من أعاظم الأشعرية، و قوله يعتنى به في تقرير ما ذهبوا إليه يعجبني نقله حتى يعلم منه أنهم لما رأوا ركاكة رأي رئيسهم تصدوا إلى تحصيل مخلص، فتراهم أنهم في كل و اديهيمون، فذهب بعضهم الى أن المراد من الرؤية تلك الحالة، و الاخر إلى أنه الكشف التام، و ثالث إلى أن المعتمد الدلائل السمعية مع أن شيخهم أبا الحسن علي ابن إسماعيل الأشعري اعتقد خلاف ما بينوه.
قال الشهرستاني في الملل و النحل (ص 45 طبع ايران 1288 ه): و من مذهب الأشعري أن كل موجود فيصح أن يرى، فإن المصحح للرؤيه إنما هو الوجود، و الباري تعالى موجود فيصح أن يرى، و قد ورد السمع بأن المؤمنين يرونه في الاخرة قال الله تعالى وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة إلى غير ذلك من الايات و الأخبار. قال: و لا يجوز أن تتعلق به الرؤية على جهة و مكان و صورة و مقابلة و اتصال شعاع أو على سبيل انطباع فإن ذلك مستحيل.انتهى قوله.
و أقول: إن قول الأشعري يضاهي ما ذهب إليه الملحدون قديما و حديثا حيث قالوا: كل ما يرى فهو موجود، فلو كان الله موجودا كان مرئيا، فحيث لم نره فليس بموجود.
على أنه يرد على الأشعري أن المعاني و المشمومات و المسموعات و كثيرا من الأجسام كالهواء و الفلك و جميع المشف الذي ينفذ فيه نور البصر لا تصح أن ترى، اللهم إلا أن يقال: إن الرجل لما كان يعتقد بالإرادة الجزافية و يجوز تخلف المسببات عن الأسباب إلا أن عادة الله جرت باحراق النار و تبريد الماء مثلا لا أن النار سبب للإحراق، يقول في عدم رؤية تلك الأشياء أيضا بتخلفها عن أسبابها و بأن إرادة الله لم تجر برؤيتها.
أما كلام الفخر الرازي في المحصل فقال (ص 137 طبع مصر 1323 ه) «مسألة» الله تعالى يصح أن يكون مرئيا، خلافا لجميع الفرق، أما الفلاسفة و المعتزلة فلا إشكال في مخالفتهم، و أما المشبهة و الكرامية فلأنهم إنما جوزوا رؤيته لاعتقادهم كونه تعالى في المكان و الجهة و أما بتقدير أن يكون هو تعالى منزها عن الجهة فهم يحيلون رؤيته، فثبت أن هذه الرؤية المنزهة عن الكيفية مما لا يقول به أحد إلا أصحابنا.
و قبل الشروع في الدلالة لا بد في تلخيص محل النزاع.
فإن لقائل أن يقول: إن أردت بالرؤية الكشف التام فذلك مسلم، لأن المعارف تصير يوم القيامة ضرورية، و إن أردت بها الحالة التي نجدها من أنفسنا عند اتصال الشعاع الخارج من العين إلى المرئي أو عن حالة مستلزمة لارتسام الصورة أو لخروج الشعاع و كل ذلك في حق الله تعالى محال، و إن أردت به أمرا ثالثا فلا بد من إفادة تصوره، فإن التصديق مسبوق بالتصور.
و الجواب أنا إذا علمنا الشيء حال مالا نراه ثم رأيناه فانا ندرك تفرقة بين الحالين. و قد عرفت أن تلك التفرقة لا يجوز عودها إلى ارتسام الشبح في العين، و لا إلى خروج الشعاع منها، فهي عائدة إلى حالة اخرى مسماة بالرؤية فندعي أن تعلق هذه الصفة بذات الله جائز، هذا هو البحث عن محل النزاع، و المعتمد أن الوجود في الشاهد علة لصحة الرؤية فيجب أن يكون في الغائب كذلك.
قال: و هذه الدلالة ضعيفة من وجوه:أحدها أن وجود الله تعالى عين ذاته، و ذاته مخالف لغيره فيكون وجوده مخالفا لوجود غيره فلم يلزم من كون وجودنا علة لصحة الرؤية كون وجوده كذلك.
سلمنا أن وجودنا يساوي وجود الله تعالى و مجرد كونه وجودا لكن لا نسلم أن صحة الرؤية في الشاهد مفتقرة إلى العلة، فإنا بينا أن الصحة ليست أمرا ثبوتيا فتكون عدمية، و قد عرفت أن العدم لا يعلل.
سلمنا أن صحة رؤيتنا معللة فلم قلت إن العلة هي الوجود؟ قالوا: لأنا نرى الجوهر و اللون قد اشتركا في صحة الرؤية، و الحكم المشترك لابد له من علة مشتركة و لا مشترك إلا الحدوث و الوجود، و الحدوث لا يصلح للعلية، لأنه عبارة عن وجود مسبوق بالعدم، و العدم نفي محض، و العدم السابق لا دخل له في التأثير فيبقى المستقل بالتأثير محض الوجود، فنقول: لا نسلم أن الجوهر مرئي على ما تقدم.
سلمناه لكن لا نسلم أن صحة كون الجوهر مرئيا يمنع حصولها في اللون مرئيا، فلم لا يجوز أن يقال: الصحتان نوعان تحت جنس الصحة، تحقيقه أن صحة كون الجوهر مرئيا يمتنع حصولها في اللون، لأن اللون يستحيل أن يرى جوهرا و الجوهر يستحيل أن يرى لونا، و هذا يدل على اختلاف هاتين الصحتين في الماهية سلمنا الاشتراك في الحكم فلم قلت: إنه يلزم من الاشتراك في الحكم الاشتراك في العلة؟ بيانه ما تقدم من جواز تعليل الحكمين المتماثلين بعلتين.
مختلفتين.
سلمنا وجوب الاشتراك فلم قلت: إنه لا مشترك سوى الحدوث و الوجود و عليكم الدلالة. ثم نحن نذكره و هو الإمكان و لا شك أن الإمكان مغاير للحدوث فان قلت: الامكان عدمي قلت: فامكان الرؤية أيضا عدمي، و لا استبعاد في تعليل عدمي بعدمي.
سلمنا أنه لا مشترك سوى الحدوث و الوجود فلم قلت: إن الحدوث لا يصلح قوله لأنه عبارة عن مجموع عدم و وجود؟ قلنا: لا نسلم بل هو عبارة عن كون الوجود مسبوقا بالعدم و مسبوقية الوجود بالعدم غير نفس العدم. و الدليل عليه أن الحدوث لا يحصل إلا في أول زمان الوجود، و في ذلك الزمان مستحيل حصول العدم فعلمنا أن الحدوث كيفية زائدة على العدم.
سلمنا أن المصحح هو الوجود فلم قلت: إنه يلزم من حصوله في حق الله تعالى حصول الصحة فان الحكم كما يعتبر في تحققه حصول المقتضي يعتبر فيه أيضا انتفاء المانع، فلعل ماهية الله تعالى أو ماهية صفة من صفاته ينافي هذا الحكم و مما يحققه إن الحياة مصححة للجهل و الشهوة، ثم إن حياة الله تعالى لا تصححها إما لأن الاشتراك ليس إلا في اللفظ، أو اشتراكا في المعنى لكن ماهية ذات الله تعالى و ماهية صفة من صفاته ينافيهما، و على التقديرين فإنه يجوز في هذه المسألة ذلك أيضا.
سلمنا أنه لم يوجد المنافي لكن لم لا يجوز أن يكون حصول هذه الرؤية في أعيننا موقوفا على شرط يمتنع تحققه بالنسبة إلى ذات الله تعالى، فإنا لا نرى المرئي إلا إذا انطبعت صورة صغيرة متساوية للمرئي في الشكل في أعيننا، و في المحتمل أن يكون حصول الحالة المسماة بالرؤية مشروطا بحصول هذه الصورة أو كان مشروطا بحصول المقابلة، و لما امتنع حصول هذه الامور بالنسبة إلى ذات الله لا حرم امتنع علينا أن نرى ذات الله تعالى و المعتمد في المسألة الدلائل السمعية:
أحدها أن رؤية الله تعالى معلقة باستقرار الجبل و هو ممكن و المعلق على الممكن ممكن فالرؤية ممكنة.
و ثانيها أن موسى عليه الصلاة و السلام سأل الرؤية و لو لم تكن الرؤية جائزة لكان سؤال موسى عبثا أو جهلا.
و ثالثها قوله تعالى وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة انتهى ما أردنا من نقل كلامه في المسألة فعلمت أنه صرح بأن المراد بالرؤية عند الأشعري و أتباعه ليس الانكشاف التام، و لا ارتسام صورة المرئي في العين، لعدم الخلاف في صحة الأول و بطلان الثاني بل المراد تلك الحالة الإدراكية التي فسرت.
و لما كان هذا المعنى أيضا غير مستقيم بوجوه اشير إلى بعضها عدل عنه الفخر و تمسك بظاهر الايات الثلاث، مع أنها لا تدل على مرادهم.
و العجب من الفخر كيف اعتمد على الايات في إفادة ذلك المعنى الذي يأبى عنه العقل و النقل أيضا كقوله تعالى لا تدركه الأبصار و هو يدرك الأبصار و هو اللطيف الخبير. (الأنعام- 104) و كيف تدركه الأبصار و هو اللطيف الخبير. و في كلمة اللطيف في المقام لطائف يفهمها من كان له قلب.
نعم الوجه الأول الذي بينه بعض آخر منهم من أن معنى الرؤية عندهم الكشف التام أي ينكشف لعباده المؤمنين في الاخرة انكشاف البدر المرئي متين غاية المتانة، لما علمت آنفا من أن الدنيا دار شكوك و ارتياب، فاذا كان يوم القيامة كشف للعباد ما يزول به الشكوك.
قال بعض المحققين كما نقل المولى صدرا عنه في الفصل الرابع من الموقف السابع من السفر الرابع من الأسفار:إن الإنسان ما دام في مضيق البدن و سجن الدنيا مقيدا بقيود البعد و المكان و سلاسل الحركة و الزمان، لا يمكنه مشاهدة الايات الافاقية و الأنفسية على وجه التمام و لا يتلوها دفعة واحدة إلا كلمة بعد كلمة، و حرفا بعد حرف، و يوما بعد يوم و ساعة بعد ساعة.
فيتلو آية و يغيب عنه اخرى، فيتوارد عليه الأوضاع، و يتعاقب له الشئون و الأحوال، و هو على مثال من يقرأ طومارا و ينظر إلى سطر عقيب آخر، و ذلك لقصور نظره و قوة إدراكه عن الإحاطة بالتمام دفعة واحدة قال تعالى: و ذكرهم بأيام الله إن في ذلك لآيات (ابراهيم- 5).
فإذا قويت بصيرته و تكحلت عينه بنور الهداية و التوفيق كما يكون عند قيام الساعة فيتجاوز نظره عن مضيق عالم الخلق و الظلمات إلى عالم الأمر و النور فيطالع دفعة جميع ما في هذا الكتاب الجامع للايات من صور الأكوان و الأعيان كمن يطوى عنده السجل الجامع للسطور و الكلمات، و إليه الإشارة بقوله تعالى يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب (الأنبياء- 104) و قوله: و السماوات مطويات بيمينه.
و إنما قال بيمينه لأن أصحاب الشمال و أهل دار النكال ليس لهم نصيب في طي السماء بالقياس إليهم و في حقهم غير مطوية أبدا، لتقيد نفوسهم بالأمكنة و الغواشي كما قال تعالى لهم من جهنم مهاد و من فوقهم غواش (الأعراف- 42)
فلو كانت الأشاعرة عنوا من قولهم هذا المعنى أعني ذلك الكشف التام الذي بينه ذلك البعض، فنعم الوفاق، و إلا فلا يتصور منه إلا الرؤية بالبصر و هو باطل عقلا و سمعا، و لكن قد عرفت أن هذا المعنى اللطيف الصحيح ليس بمراد الأشعري و أتباعه كما صرح به الرجلان و الشهرستاني في الملل و غيرهم.
ثم إن حمل الحائطية و الحدثية خبر رؤية الباري تعالى مثل قوله صلى الله عليه و آله «إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته» و أشباهه على رؤية العقل الأول كما نقل عنهما الشهرستاني في الملل على ما قدمنا آنفا فليس بصحيح أيضا.
و ذلك لأنهما حملا كلمة الرب في الحديث على العقل الأول من حيث إنه مرب لما دونه من الموجودات و هذا لا بأس به كما برهن في محله أن لكل نوع من الامور التي تلينا فردا مجردا عقلانيا على صورته يسمى رب ذلك النوع و هو تعالى رب أرباب النوعيات، و لكنهما أخطئا في هذا الرأي أيضا من حيث إنهما اختاراه حذرا من الإشكال الوارد على ظاهر الحديث أعني ما يتبارد إليه الذهن من أن كلمة الرب هو الله تعالى رب العالمين و قد كرا إلى ما فرا منه، لأن العقل الأول لا يمكن رؤيته بالأبصار، لأنه من الموجودات النورية المحضة و المجردات الصرفة، و المفارقات مطلقا سواء كانوا عقولا أو نفوسا لا يمكن رؤيتهم بالأبصار، لأنهم ليسوا بجسم و لا جسماني، و ليس لهم جهة و كثافة و ثقل و غيرها من أوصاف الجسم.
على أن الأجسام المشفة و كثيرا من الأعراض مع كونها في جهة لا ترى و حكم بما أشرنا إليه العقل و عاضده الشرع، فقد قام البرهان على أن الصادر الأول لا يكون إلا عقلا، و العقل لا يكون إلا مجردا. و قد قال الله تعالى: ثم أنزل الله سكينته على رسوله و على المؤمنين و أنزل جنودا لم تروها (التوبة- 26) و قال تعالى: فأنزل الله سكينته عليه و أيده بجنود لم تروها (التوبة- 40) و قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا و جنودا لم تروها (الأحزاب- 10) و الجنود في الايات الملائكة، و ذلك أن الله تعالى قال: لقد نصركم الله في مواطن كثيرة و يوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا و ضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ثم أنزل الله سكينته على رسوله و على المؤمنين و أنزل جنودا لم تروها و عذب الذين كفروا و ذلك جزاء الكافرين (التوبة- 25 و 26).
و من تلك المواطن بدر و قد قال الله تعالى: و لقد نصركم الله ببدر و أنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون إذ تقول للمؤمنين أ لن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين بلى إن تصبروا و تتقوا و يأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين (آل عمران 121- 123).
و قال تعالى. إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين (الأنفال- 10).
و قد قال أمير المؤمنين عليه السلام حين سئل عن العالم العلوي: صور عارية عن المواد، خالية عن القوة و الاستعداد، تجلى لها فأشرقت، و طالعها فتلألأت، ألقى في هويتها مثاله، و أظهر عنها أفعاله. الحديث.
و هذه الصور قد يعبر عنهم بالعقول، و قد يعبر عنهم بالملائكة، و إذا كانوا عارين عن المواد لا يمكن رؤيتهم بالأبصار، لما أشرنا إليه آنفا من أن المرئي بالبصر يجب أن يكون ماديا كثيفا، و قد قدمنا في المباحث السابقة نبذة من الكلام في ذلك (راجع ص 79 ج 2 من التكملة).
و أما جواب الأقوال التي نقلها الشهرستاني من أن داود الجواري ذهب إلى أن معبوده جسم و لحم و دم- إلخ، و أن مضر و كهمش و الهجيمي أجازوا على ربهم الملامسة و المصافحة، و أن المخلصين يعانقونه في الدارين و غيرهما من أقوال المشبهة فهو أنهم شبهوه تعالى بأنفسهم.
على حذوما أفاده مولانا الامام الخامس محمد بن علي الباقر عليه السلام: هل سمي عالما قادرا إلا لما وهب العلم للعلماء، و القدرة للقادرين؟ و كلما ميزتموه بأوهامكم في أدق معانيه فهو مخلوق مصنوع مثلكم.
و في رواية اخرى عن الصادق عليه السلام: كلما ميزتموه بأوهامكم في أدق معانيه مخلوق مصنوع مثلكم مردود إليكم، و لعل النمل الصغار تتوهم أن لله سبحانه زبانتين، فان ذلك كمالها، و تتوهم أن عدمهما نقصان لمن لا يتصف بهما، و كذا حال العقلاء فيما يصفون الله سبحانه و تعالى به.
و أما الروايات الموعودة فقد رويت عن أئمتنا المعصومين عليهم السلام في إبطال رؤيته تعالى بالأبصار مطلقا روايات لطيفة دقيقة لو تأمل فيها من كان له قلب سليم و سر نقي علم أن تلك الدقائق الحكمية و المعارف الحقة الالهية، و الاشارات التوحيدية و الاصول الكلية العقلية التي لم تبلغ إليها أفكار أوحدي الناس في تلك الأعصار فضلا عن غيرهم، و لا يدركها الراسخون في العلوم الالهية و المعارف العقلية إلا بعد تلطيف سر، و تصفية فكر، و تجريد ذهن، و مدد سماوي إنما فاضت من سماء صدور الذين هم المستضيئون بأنوار الرحمن، و العارفون ببطون القرآن، و العالمون بالعلوم اللدنية المستفاضة من لدن مبدء العالم عليهم و هم الذين فتحوا أبواب الاستدالال العقلي على العلوم الربوبية.
و المتضلع في أقوال علماء الشرع و مباحثهم الكلامية المنقولة من الخاصة و العامة علم أن قصارى استدلالهم على اصول العقائد و غيرها كانت مقصورة بمفاهيم الايات و الأحاديث الظاهرة و لم يعهد منهم إقامة نحو تلك البراهين العقلية المأثورة عن آل محمد صلى الله عليه و آله.
فعليك بما رواه عنهم ثقة الإسلام أبو جعفر الكليني في الكافي، و الشيخ الأجل الصدوق في التوحيد و الأمالي، و الشيخ الجليل الطبرسي في الاحتجاج، و بما استنبط منها المتألهون من مطالب عرشية رقيقه، و نكات عقلية أنيقة مما يضيء العقل و يقويه و يحييه.
إذا شئت أن ترضى لنفسك مذهبا | و تعرف صدق القول من كذب أخبار | |
فوال أناسا قولهم و حديثهم | روى جدنا عن جبرئيل عن الباري | |
و دونك شرح الحكيم المتأله المولى صدر الشيرازي، و شرح الحكيم المولى محمد صالح المازندراني، و شرح الحكيم الفيض في الوافي على اصول الكافي و شرح الحكيم القاضي السعيد القمي على كتاب التوحيد للصدوق، و شروح غيرهم من فحول العلماء على الكافي و التوحيد و غيرهما مما رويت عن أئمتنا الطاهرين حتى يتبين لك أن المعارف الحقة في الاصول الإعتقادية هي التي أفادوها و بينوها لأهلها، و أن من حاد عنها فقد سلك طريقة عمياء قاده الهوى إليها، و أطاع الوهم فأضله الجادة الوسطى و أن من عزى إلى الإمامية غير ما هداهم إليها أئمتهم فقد افترى.
فقد يخلق بنا الان أن نذكر عدة روايات في ذلك الموضوع المعنون و نفسرها بقدر الوسع على الإيجاز و الاختصار، دون التطويل و الإكثار عسى أن ينفع طالب الرشاد و باغي السداد فنقول و بالله التوفيق و عليه التكلان:
إن الكليني قدس سره قد نقل في الباب التاسع من كتاب التوحيد من جامعه اصول الكافي المترجم بباب إبطال الرؤية أحاديث عنهم عليهم السلام و أتى بطائفة منها الصدوق قدس سره في التوحيد و الأمالي، و الشيخ الجليل الطبرسي- ره- في الاحتجاج، و العلامة المجلسي في البحار، و نحن اخترنا منها ما نوردها ههنا و نبحث عن معانيها و نكشف القناع عن دقائقها و لطائفها بعون الله تعالى.
الحديث الاول
و هو الحديث الرابع من ذلك الباب من الكافي رواه باسناده عن أحمد بن إسحاق قال: كتبت إلى أبي الحسن الثالث عليه السلام أسأله عن الرؤية و ما اختلف فيه الناس، فكتب عليه السلام: لا يجوز الرؤية ما لم يكن بين الرائي و المرئي هواء ينفذه البصر فاذا انقطع الهواء عن الرائي و المرئي لم تصح الرؤية، و كان في ذلك الاشتباه، لأن الرائي متى ساوى المرئي في السبب الموجب بينهما في الرؤية وجب الاشتباه و كان ذلك التشبيه لأن الأسباب لا بد من اتصالها بالمسببات.
و روى الحديث الصدوق في باب ما جاء في الرؤية من كتابه التوحيد عن الحسين بن أحمد بن إدريس، عن أبيه، عن أحمد بن إسحاق أيضا، و بينهما اختلاف في الجملة و على ما في التوحيد: قال: كتبت إلى أبي احسن الثالث عليه السلام عن الرؤية و ما فيه الناس- فاذا انقطع الهواء و عدم الضياء بين الرائي- و كان في في ذلك التشبيه- إلخ. و قال المجلسي- ره- في مرآة العقول: و في بعض النسخ لم ينفذه البصر.
و رواه أيضا الشيخ الجليل الطبرسي في الاحتجاج عن أحمد بن اسحاق عنه عليه السلام: قال: كتبت إلى أبي الحسن علي بن محمد عليهما السلام أسأله عن الرؤية و ما فيه الخلق، فكتب عليه السلام: لا يجوز الرؤية، و في وجوب اتصال الضياء بين الرائي و المرئي وجوب الاشتباه، و الله منزه عن الاشتباه، فثبت أنه لا يجوز على الله تعالى الرؤية بالأبصار، لأن الأسباب لا بد من اتصالها بالمسببات.
أقول: يعلم من عقد ذلك الباب في الكافي و التوحيد و في الغرر و الدرر للشريف المرتضى علم الهدى، و في أوائل المقالات للشيخ الأجل المفيد، و في غيرها من الكتب الكلامية و الروائية، و من سؤال الناس الأئمة عليهم السلام عن الرؤية سيما من سؤال محمد بن عبيد أبا الحسن الرضا عليه السلام عن الرؤية و ما ترويه العامة و الخاصة و من سؤال عبد السلام بن صالح الهروي عنه عليه السلام رواه الطبرسي في الاحتجاج و الصدوق في أول الباب الحادى عشر من عيون أخبار الرضا عليه السلام قال: قلت لعلي بن موسى الرضا عليه السلام: يا ابن رسول الله ما تقول في الحديث الذي يرويه أهل الحديث أن المؤمنين يزورون ربهم إلخ. و من سؤال أحمد بن إسحاق أبا الحسن الثالث عليه السلام عن الرؤية و ما اختلف فيه الناس و غيرها مما سيأتي طائفة منها و بيانها أن البحث عن الرؤية كان دارجا و رائجا في تلك الأعصار جدا.
قال القاضي نور الله نور الله مرقده في المجالس عند ترجمة اسماعيل بن علي ابن إسحاق بن أبي سهل بن نوبخت البغدادي نقلا عن النجاشي أنه صنف كتابا في استحالة رؤية القديم.
اغتر كثير من الناس بظاهر الايات و الأخبار، و تفننت الاراء فيها و كان محضر الأئمة مختلف الناس يسألونهم عن الرؤية و كان الأئمة عليهم السلام يقودهم إلى الصراط السوي، و يهديهم إلى مناهج الصدق ببراهين متقنة متفننة على حسب اختلاف عقول الناس و وسعهم.
ثم لما كان ذلك البحث دائرا و مال غير فرقة إلى التشبيه و الرؤية بالأبصار و كانت فطرة الناس السليمة تأبى عن قبول الرؤية و التشبيه و أشباههما التجئوا إلى الأئمة الهداة المهديين لعلمهم بأنهم عليهم السلام خزنة علمه تعالى و عيبة وحيه، و بأن عندهم مفاتيح الحكمة و علم الكتاب و فصل الخطاب، فتبصر ثم استقم.
أبو الحسن الثالث هو الإمام العاشر علي بن محمد الهادي العسكري عليه السلام كما في رواية الطبرسي في الاحتجاج.
و أحمد بن إسحاق بن سهل القمي كان ثقة قال الكشي في الرجال: إنه عاش بعد وفاة أبي محمد (الحسن بن علي العسكري عليهما السلام).
سأله عليه السلام عن الرؤية هل يجوزها أم لا و عما اختلف فيه الناس من جوازها عند بعض و استحالتها عند آخر، و المراد أنه سأله عليه السلام عن المذهب الحق في ذلك فكتب عليه السلام إليه بأن رؤيته تعالى بالأبصار مستحيلة. لأن الرؤية تلازم تجسم الباري و تحيزه، و ذلك لأن الرؤية إنما تتحقق إذا كان بين الرائي و المرئي هواء نيفذه البصر، فإذا انقطع الهواء عن الرائي و المرئي بأن وقع بينهما حائل مثلا لم تصح الرؤية، فاذا لا بد أن يكون المرئي شبيها بالرائي من حيث انهما وقعا في طرفي امتداد فاصل هو الهواء و تحقق بينهما الوضع بمعنى تمام المقولة على هيئة مخصوصة لازمة للإبصار.
و المراد بالاشتباه هو هذا المعنى في المقام أي كون المرئي شبيها بالرائي في تلك الصفات الخاصة بالأجسام من الوضع و المحاذاة و التقابل و الطرف و الجهة و غيرها يقال: اشتبه الشيئان إذا أشبه كل منهما الاخر، و كان ذلك الاشتباه تشبيهه تعالى بالأجسام و هو منزه عن ذلك فلا تدركه الأبصار.
و إنما يجب في الرؤية واسطة الهواء بين الرائي و المرئي و كونهما طرفي الواسطة بحيث يساوي أي يسامت الرائي المرئي، و ذلك كله يكون موجبا لكون المرئي شبيها بالأجسام، لأن الهواء المتوسط سبب للرؤية، و هي سبب لمسامتة الرائي و المرئي في طرفي الواسطة، و المسامتة سبب لكون كل منهما في حيز وجهة فهي أسباب لوجوب المشابهة بينه تعالى و الأجسام، و الأسباب لا بد أن تكون متصلة بمسبباتها غير منفكة عنها.
و بالجملة إنه عليه السلام احتج على بطلان رؤيته تعالى بالأبصار بقياسين: أحدهما قياس اقتراني مؤلف من متصلتين، و الاخر قياس استثنائي مؤلف من شرطية هي نتيجة الأول و حملية، و صورتهما:كلما كان الشيء مرئيا بالأبصار وجب أن يكون طرف الهواء المتوسط و مقابلا للرائي، و كلما كان كذلك فهو جسم، ينتج كلما كان الشيء مرئيا بالأبصار فهو جسم، ثم نقول: لو كان الله تعالى مرئيا بالأبصار فهو جسم، لكنه ليس بجسم فليس بمرئي.
إن قلت: قد يرى الأشياء و هي أو الرائي تحت الماء الصافية فليس بينهما إلا ماء نيفذها نور البصر، و ليس من شروط الإبصار أن يكون الواسطة هواء ليس إلا فكيف قال عليه السلام: ما لم يكن بين الرائي و المرئي هواء ينفذه البصر؟
أقول: المذهب المصنور في الإبصار سواء كان بخروج الشعاع أو الانطباع أو غيرهما أنه لا بد من توسط جسم شفاف كما سيأتي برهانه، و أما كونه هواء فقط فليس بواجب و لكن لما كان أكثر ما يبصر بالقوة الباصرة إنما كان الهواء بينهما متوسطا و كان انس الناس به آكد لهج به عليه السلام على سبيل ذكر مصداق لا على سبيل الانحصار.
و ذهب بعض أعاظم العصر إلي أن الهواء في الحديث ليس الهواء الذي هو أحد العناصر حيث قال: الهواء في لغة العرب هو الخلاء العرفي قال الله تعالى:و أفئدتهم هواء أي خالية من العقل و التدبر، و قال جرير: و مجاشع قصب هوت أجوافه أي خلت أجوافه، و في الصحاح كل خال هواء، و هدا هو المراد هنا لا الهواء المصطلح للطبيعيين و هو جسم رقيق شفاف كما حمله عليه صدر المتألهين قدس سره و هذا الهواء الذي هو جسم رقيق عند العرف بمنزلة العدم.
و الحاصل أنه لا بد للرؤية من فاصلة بين الرائي و المرئي، و يتحقق الفاصلة بعدم وجود جسم كثيف، و الأجسام الفلكية غير مانعة للرؤية لأنها أشف و أرق من هذا الهواء المكتنف للأرض، فهي بمنزلة الهواء فيكون الهواء في لغة العرب أقرب من البعد المفطور الذى يقول به بعض الفلاسفة، انتهى موضع الحاجة من نقل كلامه.
أقول: لا كلام في أن الهواء أحد معانيه ما ذكره كما قدمنا البحث عن ذلك في شرح الكتاب السابع، و لكن ليس هذا المعنى بمراد في الحديث، لبطلان الخلاء أولا، و عدم تحقق الرؤية بلا واسطة جسم شفاف بين الرائي و المرئي ثانيا و إن ذهب بعض إلى أن الواسطة كلما كانت أرق كانت الرؤية أولى و أسرع كالمرئي في الهواء و الماء ثم قال بالقياس فلو كانت الواسطة خلاء محضا لكانت الرؤية أكمل لكن حجته داحضة و الحق أن في الرؤية لا بد من توسط جسم شفاف كما اختاره الحكيم المولى صدرا قدس سره في آخر الباب الرابع من السفر الرابع من الأسفار، و أقام فيه برهانا بما لا مزيد عليه حيث قال:
«فصل» في أنه لا بد في الابصار من توسط الجسم الشفاف. و اعلم أن الحجة على ذلك أن تأثير القوى المتعلقة بالأجسام في شيء و تأثرها عنه لا يكون إلا بمشاركة الوضع و منشأ ذلك أن التأثير و التأثر لا يكون إلا بين شيئين بينهما علاقة علية و معلولية، و هذه العلاقة متحققة بالذات بين القوة و ما يتعلق به من مادة أو موضوع أو بدن، لأنها إما علة ذاته أو علة تشخصه أو كماله، و متحققة بالعرض بينها و بين ماله نسبة وضعية إلى ذلك المتعلق به، فإن العلاقة الوضعية في الأجسام بمنزلة العلاقة العلية في العقليات إذ الوضع هو بعينه نحو وجود الجسم و تشخصه فإذا كان الجسمان بحيث يتجاوران بأن يتصل طرفاهما فكأنهما كانا جسما واحدا فإذا وقع تأثير خارجي على أحدهما فيسري ذلك التأثير إلى الاخر كما تسخن بعض جسم بالنار فانه يتسخن بعضه الاخر أيضا بذلك التسخين، و كما استضاء سطح أحدها بضوء النير يستضيء سطح آخر وضعه إلى الأول كوضعه إلى ذلك النير.
و إنما قيدنا التأثير بالخارجي لأن التأثير الباطني الذي لا يكون بحسب الوضع لا يسري فيما يجاور الشيء.فإذا تقرر هذا فنقول: إن الإحساس كالإبصار و غيره هو عبارة عن تأثر القوى الحاسة من المؤثر الجسماني، و هو الأمر المحسوس الخارجي فلا بد ههنا من علاقة وضعية بين مادة القوة الحاسة و ذلك الأمر المحسوس، و تلك العلاقة لا يتحقق بمجرد المحاذاة من غير توسط جسم مادي بينهما إذ لا علاقة بين أمرين لا اتصال بينهما وضعا و لا نسبة بينهما طبعا، بل العلاقة إما ربط عقلي، أو اتصال حسي فلا بد من وجود جسم و اصل بينهما.
و ذلك الجسم إن كان جسما كثيفا مظلما تسخن فليس هو في نفسه قابلا للأثر النوري فكيف يوجب ارتباط المبصر بالبصر أو ارتباط المنير بالمستنير فإن الرابط بين الشيئين لا بد و أن يكون من قبلهما، لا أن يكون منافيا لفعلهما، فإذا لا بد أن يكون بينهما جسم مشف غير حاجز و لا مانع لوقوع أحد الأثرين أعني النور من النير إلى المستنير أو من البصر إلى المبصر أو تأدية الشبح من المبصر إلى البصر.
فعلى هذا يظهر فساد قول من قال: المتوسط كلما كان أرق كان أولى، فلو كان خلاء صرفا لكان الإبصار أكمل حتى كان يمكن ابصارنا النملة على الصماء.
لا بما ذكروه في جوابه بأن هذا باطل فليس إذا أوجب رقة المتوسط زيادة قوة في الإبصار لزم أن يكون عدمه يزيد أيضا في ذلك، فإن الرقة ليست طريقة إلى عدم الجسم لأن اشتراط الرقة في الجسم المتوسط لو كان لأجل أن لا يمنع نفوذ الشعاع فصح أنه إذا كان رقة الجسم منشأ سهولة النفوش كان عدم الجسم فيما بين أولى في ذلك و كانت الرقة على هذا التقدير طريقا إلى العدم.بل فساده لأنه لو لم يكن بين الرائي و المرئي أمر وجودي متوسط موصل رابط لم يكن هناك فعل و انفعال.
فان قلت: إن الشيخ اعترف بأن هذا النوع من الفعل و الانفعال لا يحتاج إلى ملاقات الفاعل و المنفعل، فلو قدرنا الخلاء بين الحاس و المحسوس فأي إلى ملاقات الفاعل و المنفعل، فلو قدرنا الخلاء بين الحاس و المحسوس فأي محال يلزم من انطباع صورة المحسوس في الحاس، بل الخلاء محال في نفسه و الملاء واجب.؟
قلنا: إن ملاقاتهما، و إن لم يكن واجبا لكن يجب مع ذلك إما الملاقاة و إما وجود متوسط جسماني بينهما يكون مجموع المتوسط و المنفعل في حكم جسم واحد بعضه يقبل التأثير لوجود الاستعداد فيه، و بعضه لا يقبل لعدم الاستعداد فلو فرض أن ليس بين النار و الجسم المتسخن جسم متوسط لم يتحقق هناك تسخين و تسخن، لعدم الرابطة، و كذا لو لم يكن بين الشمس و الأرض جسم متوسط لم يقبل الأرض ضوء و لا سخونة، انتهى كلامه رفع مقامه.
و قد أشار إلى هذا البرهان اجمالا العلامة الخواجه نصير الدين الطوسي في شرحه على أواخر النمط الثاني من الاشارات للشيخ الرئيس بقوله: الأجسام العنصرية قد تخلو عن الكيفيات المبصرة و المسموعة و المشمومة و المذوقة و السبب في ذلك أن إحساس الحواس الأربعة بهذه المحسوسات إنما يكون بتوسط جسم ماكالهواء و الماء- إلخ.
و لعمري أن هذا كلام صدر من معدن تحقيق و فاض من عين صافية، و عليه جل علماء هذه الأعصار من افرنج و غيره أيضا، حيث ذهبوا بأن الإترهو حامل النور من الشمس و القمر و الكواكب، و هو منفوش بين السماء و الأرض، فإذا أصاب النور الأجسام الكثيفة كالأرض مثلا ينكسر قهرا، و الانكسار مولد للحرارة كما اختاره الرياضيون من سالف الدهر و بالجملة لو لم يكن بين الرائي و المرئي متوسط مشف لا يمكن الرؤية، و المتوسط إما هواء أو إتر أو غيرها، و المخالف مكابر.
ثم إن قوله عليه السلام: الأسباب لا بد من اتصالها بالمسببات. حكم كلي أصيل عقلي رد على من زعم أن القول بتأثير الأسباب و الوسائط ينافي كونه تعالى مستغنيا عن غيره، و يفضي إلى إنكار معجزات الأنبياء عليهم السلام و الشرك بالله تعالى و غيرها من الأوهام الباطلة.
كما ذهب إليه الأشاعرة و قالوا: إن استناد الاثار الصادرة عن الانسان و عن الطبائع و غيرها من الممكنات جميعا إلى واجب الوجود ابتداء من غير واسطة حتى تسخين النار و تبريد الماء، فلا النار سبب للإحراق و لا الماء للتبريد و لا الفكر لتحصيل النتيجة و هكذا الكلام في سائر الأسباب فيقول بجواز تخلف الاحراق عن النار و التبريد عن الماء و النتيجة عن المقدمات الفكرية إلا أن عادة الله جرت بترتب تلك الاثار عنها من غير تأثير لشيء منها فيها.
و العقل بفطرته الأصلية يكذب هذا القول و ينفر عنه و الكلمات الالهية تنادي بأعلى صوتها بشناعته، و الموحد مع أنه يرى الكل من الله تعالى و يقول بحقائق الايمان: ليس المؤثر في الوجود إلا الله، يقول: أبى الله أن يجري الامور إلا بأسبابها، و يرى ما سواه معدات مسخرات بأمره تعالى، و المؤثر في الحقيقه هو تعالى و مع ذلك يقول: لا يجوز تخلف المسببات عن الأسباب، و نعم ما قاله الحكيم السبزواري في اللالي المنتظمة عند الأقوال في نتيجة القياس:
و الحق ان فاض من القدسي الصور | و إنما إعداده من الفكر | |
قال تعالى في القرآن الكريم: الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء و يجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله (الروم- 48) فهو تعالى أرسل الرياح ثم أسند اليها أنها تثير سحابا.
و قال تعالى: و هو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات
كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون (الاعراف- 57).
و الايات الالهية من هذا القبيل كثيرة، و المخالف يخالف فطرته و يكذبها و نعم ما قيل:
إذا لم تكن للمرء عين صحيحة | فلا غرو أن يرتاب و الصبح مسفر | |
الحديث الثاني
و هو الثاني من ذلك الباب من الكافي أيضا روى الكليني قدس سره عن أحمد بن إدريس، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان بن يحيى قال: سألني أبو قرة المحدث أن ادخله إلى أبي الحسن الرضا عليه السلام، فاستأذنته في ذلك فأذن لي فدخل عليه، فسأله عن الحلال و الحرام و الأحكام حتى بلغ سؤاله إلى التوحيد فقال أبو قرة: إنا روينا أن الله قسم الرؤية و الكلام بين نبيين، فقسم الكلام لموسى و لمحمد الرؤية، فقال أبو الحسن عليه السلام: فمن المبلغ عن الله إلى الثقلين من الجن و الانس لا تدركه الأبصار و لا يحيطون به علما و ليس كمثله شيء، أليس محمد؟ قال: بلى، قال: كيف يجيء رجل إلى الخلق جميعا فيخبرهم أنه جاء من عند الله و أنه يدعوهم إلى الله بأمر الله فيقول: لا تدركه الأبصار و لا يحيطون به علما و ليس كمثله شيء ثم يقول: أنا رأيته بعيني و أحطت به علما و هو على صورة البشر، أما تستحيون ما قدرت الزنادقة أن ترميه عليه السلام بهذا أن يكون يأتي من عند الله بشيء ثم يأتي بخلافه من وجه آخر.
ثم قال أبو قرة: فانه تعالى يقول «و لقد رآه نزلة أخرى» فقال أبو الحسن عليه السلام: إن بعد هذه الاية ما يدل على ما رأى حيث قال ما كذب الفؤاد ما رأى يقول ما كذب فؤاد محمد صلى الله عليه و آله ما رأت عيناه. ثم أخبر بما رأى فقال «لقد رأى من آيات ربه الكبرى» فايات الله غير الله، و قد قال الله: و لا يحيطون به علما، فاذا رأته الأبصار فقد أحاط به العلم و وقعت المعرفة.
فقال أبو قرة: فنكذب بالروايات؟ فقال أبو الحسن عليه السلام: إذا كانت الروايات مخالفة للقرآن كذبتها و ما أجمع المسملون عليه أنه لا يحاط به علما و لا تدركه الأبصار و ليس كمثله شيء، انتهى الحديث على ما في الكافي.
أقول: روى الحديث أبو جعفر محمد بن بابويه الصدوق في باب ما جاء في الرؤية من كتابه في التوحيد قال: حدثنا علي بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق قال: حدثنا محمد بن يعقوب الكليني، عن أحمد بن إدريس- إلخ، و فيه: بين اثنين مكان بين نبيين. إلى الثقلين الجن و الانس، ليس فيه كلمة من الجارة. قال:فكيف يجيء رجل، مع كلمة الفاء، و يقول لا تدركه، مكان فيقول لا تدركه. يأتي عن الله بشيء، مكان يأتي من عند الله بشيء، كذبت بها مكان كذبتها و ما اجتمع المسملون مكان و ما أجمع المسلمون.
و كذا رواه الطبرسي في الاحتجاج و بين النسخ اختلاف في الألفاظ في الجملة و الحديث على ما في الكافي و التوحيد يكون على مقدار خمس ما في الأخير.
و قد صرح الشيخ الطبرسي في الاحتجاج بأن أبا قرة المحدث صاحب شبرمة و قد مضى في شرح المختار 237 في البحث الروائي عن الأخبار الناهية عن العمل بالقياس في الدين أن عبد الله بن شبرمة القاضي كان يعمل بالقياس، و قال أبو عبد الله عليه السلام: ضل علم ابن شبرمة عند الجامعة إلخ.
و لكن ابن شبرمة هذا لم يدرك أبا الحسن الرضا عليه السلام قال المحدث القمي- ره- في مادة شبرم من السفينة: ابن شبرمة هو عبد الله البجلي الكوفي الضبي كان قاضيا لأبي جعفر المنصور على سواد الكوفة و كان شاعرا توفي سنة 144 ه.
و قال الاستاذ الشعراني في تعليقته على شرح المولى صالح المازندراني على اصول الكافي: أبو قرة و شبرمة كلاهما مجهولان و ليس عبد الله بن شبرمة المتوفي سنة 144 على عهد الصادق عليه السلام لأنه لم يدرك الرضا عليه السلام، و قد ذكر ابن حجر في التقريب موسى بن طارق القاضي المكنى بأبي قرة من الطبقة التاسعة و هو معاصر للرضا عليه السلام فلعله هو. انتهى كلامه مد ظله.
و نقل في شرح المذكور عن بعض الأصحاب أن أبا قرة هذا هو علي بن أبي قرة أبو الحسن المحدث رزقه الله تعالى الاستبصار و معرفة هذا الأمر أخيرا، ثم
قال الشارح: و انما وصفه بالمحدث لئلا يتوهم أنه أبو قرة النصراني اسمه يوحنا صاحب جاثليق.
قوله: فدخل عليه فسأله عن الحلال و الحرام و الأحكام حتى بلع سؤاله إلى التوحيد، أقول: قد ذكرنا أن هذا الحديث يكون في الاحتجاج على مقدار خمسة أمثال ما في الكافي، على أن الطبرسي لم ينقل الحديث بتمامه و لا بأس بذكره على ما في الاحتجاج لا شتماله على فوائد عظمى في مسائل شتى.
قال الطبرسي- ره-: و عن صفوان بن يحيى قال: سألني أبو قرة المحدث صاحب شبرمة أن ادخله إلى أبي الحسن الرضا عليه السلام فاستأذنته فأذن له، فدخل فسأله عن أشياء من الحلال و الحرام و الأحكام و الفرائض حتى بلغ كلامه «سؤاله- خ ل» إلى التوحيد.
فقال له: أخبرني جعلني الله فداك عن كلام الله تعالى لموسى.
فقال: الله أعلم و رسوله بأي لسان كلمه بالسريانية أم بالعبرانية.
فأخذ أبو قرة بلسانه فقال: إنما أسألك عن هذا اللسان.
فقال أبو الحسن عليه السلام: سبحان الله مما تقول، و معاذ الله أن يشبه خلقه أو يتكلم بمثل ما هم به يتكلمون، و لكنه عز و جل ليس كمثله شيء و لا كمثله قائل فاعل.
قال: كيف ذلك؟
قال: كلام الخالق لمخلوق ليس ككلام المخلوق لمخلوق، و لا يلفظ بشق فم و لا لسان، و لكن يقول له كن فكان بمشيته ما خاطب به موسى من الأمر و النهي من غير تردد في نفس.
فقال له أبو قرة: فما تقول في الكتب؟
فقال أبو الحسن عليه السلام: التوراة و الانجيل و الزبور و القرآن و كل كتاب انزل كان كلام الله أنزله للعالمين نورا و هدى و هي كلها محدثة و هي غير الله حيث يقول «أو يحدث لهم ذكرا» و قال «ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه
و هم يلعبون» و الله أحدث الكتب كلها الذي أنزلها.
فقال أبو قرة: فهل تفنى؟
فقال أبو الحسن عليه السلام: أجمع المسلمون على أن ما سوى الله فان و ما سوى الله فعل الله، و التوراة و الانجيل و الزبور و القرآن فعل الله، ألم تسمع الناس يقولون رب القرآن و أن القرآن يوم القيامة يقول يا رب هذا فلان و هو أعرف به منه قد اظمأت نهاره و أسهرت ليله فشفعنى فيه و كذلك (فكذلك- خ ل» التوراة و الانجيل و الزبور و هي كلها محدثة مربوبة أحدثها من ليس كمثله شيء هدى لقوم يعقلون، فمن زعم أنهن لم يزلن فقد أظهر أن الله ليس بأول قديم و لا واحد و أن الكلام لم يزل معه، و ليس له بدؤ و ليس بإله.
قال أبو قرة: فإنا روينا أن الكتب كلها تجيء يوم القيامة و الناس في صعيد واحد صفوف قيام لرب العالمين ينظرون حتى ترجع فيه لأنها منه و هي جزء منه فإليه تصير.
قال أبو الحسن عليه السلام: فهكذا قالت النصارى في المسيح إن روحه جزء منه و يرجع فيه، و كذلك قالت المجوس في النار و الشمس إنهما جزء منه و يرجع فيه تعالى ربنا أن يكون متجزيا أو مختلفا، و انما يختلف و يأتلف المتجزي لأن كل متجز متوهم و القلة و الكثرة مخلوقة دالة على خالق خلقها.
فقال أبو قرة: فاناروينا أن الله قسم الرؤية و الكلام بين نبيين، فقسم لموسى الكلام و لمحمد الرؤية- الى آخر ما نقلناه عن الكافي و بعده: و سأله عن قوله تعالى سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى.
فقال أبو الحسن عليه السلام: قد أخبر الله أنه أسرى به ثم أخبر لم اسرى به فقال لنريه من آياتنا فايات الله غير الله فقد أعاد «أعذر- خ ل» و بين لم فعل ذلك به و ما رآه، و قال فبأي حديث بعد الله و آياته يؤمنون فأخبر أنه غير الله.
فقال أبو قرة: فأين الله؟
فقال عليه السلام: الأين مكان و هذه مسألة شاهد عن غائب، فالله ليس بغائب و لا يقدمه قادم، و هو بكل مكان موجود مدبر صانع حافظ يمسك السماوات و الأرض.
فقال أبو قرة: أليس هو فوق السماء دون ما سواها؟
فقال أبو الحسن عليه السلام: هو الله في السماوات و في الأرض و هو الذي في السماء إله و في الأرض إله، و هو الذى يصوركم في الأرحام كيف يشاء، و هو معكم أينما كنتم، و هو الذي استوى إلى السماء و هي دخان، و هو الذي استوى إلى السماء فسويهن سبع سموات، و هو الذى استوى إلى العرش قد كان و لا خلق و هو كما كان إذ لا خلق لم ينتقل مع المنتقلين.
فقال أبو قرة: فما بالكم إذا دعوتم رفعتم أيديكم إلى السماء؟
فقال أبو الحسن عليه السلام: إن الله استعبد خلقه بضروب من العبادة و لله مفازع يفزعون إليه و مستعبد فاستعبد عباده بالقول و العلم و العمل و التوجه و نحو ذلك استعبدهم بتوجه الصلاة إلى الكعبة و وجه إليها الحج و العمرة، و استعبد خلقه عند الدعاء و الطلب و التضرع ببسط الأيدي و رفعها إلى السماء لحال الاستكانة و علامة العبودية و التذلل.
قال أبو قرة: فمن أقرب إلى الله الملائكة أو أهل الأرض؟
قال أبو الحسن عليه السلام: إن كنت تقول بالشبر و الذراع فان الأشياء كلها باب واحد هي فعله لا يشتغل ببعضها عن بعض يدبر أعلى الخلق من حيث يدبر أسفله و يدبر أوله من حيث يدبر آخره، من غير عناء و كلفة، و لا مؤنة و لا مشاورة و لا نصب، و إن كنت تقول: من أقرب إليه في الوسيلة فأطوعهم له، و أنتم تروون أن أقرب ما يكون العبد إلى الله و هو ساجد، و رويتم أن أربعة أملاك التقوا:أحدهم من أعلى الخلق، و أحدهم من أسفل الخلق، و أحدهم من شرق الخلق و أحدهم من غرب الخلق، فسأل بعضهم بعضا فكلهم قال: من عند الله أرسلني بكذا و كذا، ففي هذا دليل على أن ذلك في المنزلة دون التشبيه و التمثيل.
فقال أبو قرة: أتقر أن الله محمول؟
فقال أبو الحسن عليه السلام: كل محمول مفعول و مضاف إلى غيره محتاج فالمحمول اسم نقص في اللفظ، و الحامل فاعل و هو في اللفظ ممدوح، و كذلك قول القائل: فوق و تحت و أعلى و أسفل، و قد قال الله تعالى لله الأسماء الحسنى فادعوه بها (الأعراف- 180) و لم يقل في شيء من كتبه انه محمول، بل هو الحامل في البر و البحر و الممسك للسماوات و الأرض، و المحمول ما سوى الله و لم نسمع أحدا آمن بالله و عظمه قط قال في دعائه: يا محمول.
قال أبو قرة: أفتكذب بالرواية إن الله إذا غضب إنما يعرف غضبه أن الملائكة الذين يحملون العرش يجدون ثقله على كواهلهم، فيخرون سجدا، فإذا ذهب الغضب خف فرجعوا إلى مواقفهم؟
فقال أبو الحسن عليه السلام: أخبرني عن الله تعالى منذ لعن إبليس إلى يومك هذا و إلى يوم القيامة غضبان هو على إبليس و أوليائه أو عنهم راض؟
فقال: نعم هو غضبان عليه.
قال: فمتى رضي فخف و هو في صفتك لم يزل غضبانا عليه و على أتباعه.
ثم قال: و يحك كيف تجتريء أن تصف ربك بالتغير من حال إلى حال و أنه يجري عليه ما يجري على المخلوقين سبحانه لم يزل مع الزائلين و لم يتغير مع المتغيرين.
قال صفوان: فتحير أبو قرة و لم يحر جوابا حتى قام و خرج.
قوله «إنا روينا» بضم الراء و تشديد الواو المكسورة مبنية للمفعول من التروية قال الشهاب الفيومي في المصباح المنير: روى البعير الماء يرويه من باب رمى حمله فهو راوية، و الهاء فيه للمبالغة ثم اطلقت الراوية على كل دابة يستقى الماء عليها، و منه قيل، رويت الحديث إذا حملته و نقلته و يعدى بالتضعيف فيقال:
رويت زيدا الحديث، و يبنى للمفعول فيقال: رويت الحديث. انتهى كلامه.
قوله: «إن الله قسم الرؤية و الكلام بين نبيين فقسم الكلام لموسى و لمحمد الرؤية» فهم أبو قرة أن المراد بالرؤية رؤيته تعالى بالأبصار و لذا تصدى الإمام عليه السلام على عدم صحتها مستدلا عليه بما سيأتي شرحه. فجوابه عليه السلام إنما كان على حذو زعم أبي قرة و إلا فالرؤية القلبية التي هي الانكشاف التام للمخلصين و الكملين فلا كلام في صحتها كما سيجيء بيانه من الأئمة الهداة المهديين عليهم السلام ثم لما كان على مشرب العرفان للحق سبحانه و تعالى في كل خلق ظهور خاص به و هو تعالى متجل للعباد على حسب استعداداتهم المتنوعة بالعطايا الأسمائية الفائضة عليهم بالفيض المقدس، بل له تعالى بحسب كل يوم هو في شأن شئونات و تجليات في مراتبه الإلهية و قد قال الامام جعفر الصادق عليه السلام: إن الله تعالى قد يتجلى لعباده في كلامه و لكنهم لا يعلمون كما نقله عنه عليه السلام القيصري في شرحه على فصوص الحكم لمحي الدين في أول فص حكمة سبوحية في كلمة نوحية.
و لما كان وجود العالم مستندا إلى الأسماء لأن كل فرد من أفراد الموجودات تحت تربية اسم خاص من أسماء الله تعالى و قد تقرر في محله أن للأسماء دولا بحسب ظهوراتها و ظهور أحكامها اتصف كل موجود بمقتضى الاسم الخاص الغالب عليه، فبتلك الاشارات يعلم إجمالا سر اتصاف بعض الأنبياء و الأولياء ببعض الأوصاف دون بعض كما وصف آدم عليه السلام بصفي الله، و نوح عليه السلام بنجي الله، و إبراهيم عليه السلام بخليل الله،، و موسى عليه السلام بكليم الله، و مثل ما وصف الامام علي بن الحسين عليه السلام بالسجاد، و ابنه الامام أبو جعفر محمد عليه السلام بباقر العلوم.
و لما كان خاتم النبيين صلى الله عليه و آله منفردا بمقام الجمعية الإلهية الذي ما فوقه إلا مرتبة الذات الأحدية لأنه صلى الله عليه و آله مظهر اسم الله، و هو الاسم الجامع للأسماء و النعوت كلها، فتخصيص الكلام و سائر النعوت الكمالية بموسى عليه السلام و غيره من الأنبياء غير ثابتة بل هي ثابتة له صلى الله عليه و آله أيضا.
قوله: «فقال أبو الحسن عليه السلام فمن المبلغ عن الله الثقلين من الجن و الانس لا تدركه الأبصار- الى قوله- و هو على صورة البشر» لما زعم أبو قرة الرؤية بالأبصار احتج عليه الامام، أبو الحسن الرضا عليه السلام: بتلك الايات المنزلة من عند الله تعالى بلسان نبيه الخاتم و سأله على صورة الاستفهام للتقرير بأن مبلغها ليس محمد صلى الله عليه و آله؟ قال: بلى، أي هو صلى الله عليه و آله مبلغها.
ثم سأله على صورة الاستفهام للإنكار كيف يخبر الخلائق عن الله تعالى رسوله المبعوث إليهم بأن الأبصار لا تدركه ثم يقول هو: و رأيته بعيني كما تكلم المتكلمون في رؤيته صلى الله عليه و آله ربه تعالى ليلة الاسراء، فذهب بعضهم كأبي الحسن الأشعري أنه صلى الله عليه و آله رآه بعيني رأسه.
ثم إن ضمير هو في قوله: و هو على صورة البشر، يرجع إلى الله تعالى أعنى أن الجملة الأخيرة مقولة الرجل أي النبي صلى الله عليه و آله كالاوليين لا أنها مقولة الامام عليه السلام حتى تكون حالية، و إنه عليه السلام رتب ثلاثة امور على الايات الثلاث على اللف و النشر المرتبين فرتب أنا رأيته بعيني على لا تدركه الأبصار، و أحطت به علما على لا يحيطون به علما، و هو على صورة البشر على ليس كمثله شيء.
أما وجه دلالة الاية الاولى على نفي الرؤية بالعين فلأن إدراك كل قوة من قوى ظاهرية كانت أو باطنية على حسبها، فإذا سمعت الاذن كلاما فقد أدركته و إذا رأت العين شيئا فقد أدركته و ان كان المدرك في الحقيقة هو النفس و القوى آلاتها، لأن الادراك إذا تعلق بما يكون ماديا تدركه النفس بالة تخصه، و إلا تدركه النفس بذاتها، و على الأول يكون حقيقة ذلك الشيء متمثلة عند المدرك أي النفس بواسطة الحس بانتزاعها صورته من نفس حقيقته على تجريد بين في محله.
و لذا قال الشيخ في الاشارة الثالثة من النمط الثالث من الاشارات: إدراك الشيء هو أن يكون حقيقته متمثلة عند المدرك يشاهدها ما به يدرك، و الفعل في سياق النفي كالنكرة في سياقه يفيد العموم، فالحجة أن النبي صلى الله عليه و آله أخبر عن الله بأنه لا تدركه عين فكيف يقول هو: رأيته تعالى بعيني و هل هذا إلا التناقض في قوله.
و أما الاية الثانية فوجه الاحتجاج بها أن النبي صلى الله عليه و آله أخبرهم بأنهم لا يحيطون به علما، فكيف يقول هو بالتناقض: إني أحطت به علما.
سواء كانت تلك الإحاطة بالإبصار لأن إبصار الشيء إحاطة ما علمية به كما صرح به الامام عليه السلام في قوله الاتي: فاذا رأته الأبصار فقد أحاط به العلم و وقعت المعرفة.
أو كانت بادراك آخر من غير إبصار كالوهم و العقل فان إحاطته تعالى بأية قوة مدركة كانت مستحيلة، فالاية الثانية تدل على نفي الرؤية أيضا.
و أما الاية الثالثة فوجه الاحتجاج بها أنه تعالى أخبرهم بأمره تعالى بأنه ليس كمثله شيء فكيف يقول: إنه تعالى على صورة البشر.
و هذا إشارة إلى ردما رووا عن رسول الله صلى الله عليه و آله من أن الله تعالى خلق آدم على صورته كما في الملل و النحل للشهرستاني عند الكلام في المشبهة (ص 48 طبع ايران 1288 ه)، و إلى رد ما رووا عنه صلى الله عليه و آله من أنه قال: رأيت ربي في أحسن صورة. نقله الشهرستاني أيضا في ص 49 من الكتاب. و نقل بعضهم عنه صلى الله عليه و آله انه رآه تعالى ليلة المعراج على صورة شاب حسن الوجه أو على صورة الشاب المراهق و نحوهما من المنقولات الظاهرة في أنه تعالى على صورة البشر.
روي في عيون أخبار الرضا عليه السلام للصدوق و في الاحتجاج للطبرسي قدس سرهما عن الحسين بن خالد أنه قال: قلت للرضا عليه السلام: إن الناس يقولون: إن رسول الله صلى الله عليه و آله قال: إن الله خلق آدم على صورته، فقال: قاتلهم الله لقد حذفوا أول الحديث إن رسول الله صلى الله عليه و آله مر برجلين يتسابان فسمع أحدهما يقول: قبح الله وجهك و وجه من يشبهك فقال صلى الله عليه و آله له: يا عبد الله لا تقل هذا لأخيك فان الله خلق آدم على صورته.
روى لكليني في باب النهي عن الصفة بغير ما وصف به نفسه من جامعه الكافي باسناده عن إبراهيم بن محمد الخزاز و محمد بن الحسين قالا: دخلنا على أبي الحسن الرضا عليه السلام فحكينا له أن محمدا صلى الله عليه و آله رأى ربه في صورة الشاب الموفق في سن أبناء ثلاثين سنة- الى أن قال: ثم قال عليه السلام: يا محمد إن رسول الله صلى الله عليه و آله حين نظر إلى عظمة ربه كان في هيئة الشاب الموفق و سن أبناء ثلاثين سنة؟! يا محمد عظم ربي عز و جل أن يكون في صفة المخلوقين- الى أن قال عليه السلام: يا محمد ما شهد له الكتاب و السنة فنحن القائلون به.
فبما حققنا دريت أن الاية الاولى مطابقة للسؤال عن الرؤية، و الأخيرتين إنما ذكرتا على نحو التمثيل و التنظير، و هذا الدأب ليس بعزيز في الاحتجاجات و إن كان مورد السؤال نفي الرؤية، على أنه يمكن إرجاع الايات الثلاث إلى دلالتها على نفي الرؤية أيضا ضمنا.
أما وجه دلالة الاوليين عليه فقد علم، و أما دلالة الأخيرة عليه فلأنه لو تعلق الادراك بالبصر عليه تعالى لزم أن يكون مماثلا لأجسام كثيفة حتى يتحقق الرؤية بالعين، لما علم في شرح الحديث الأول من أن الرؤية انما تعلق على الأجسام التي لا ينفذ عنها نور البصر، فلا تكون إلا كثيفا ذا وضع و جهة فيلزم من القول بالرؤية أن يكون له تعالى مماثل من الأجسام، لأن كلما يدرك بالأبصار فهو ذو مثل، و هذه الدقيقة مستفادة ضمنا و يؤيده قوله عليه السلام بعد ذا: فاذا رأته الأبصار فقد أحاط به العلم و وقعت المعرفة.
و يحتمل بعيدا أن يرجع ضمير هو في «و هو على صورة البشر» إلى الرجل أي النبي صلى الله عليه و آله بأن تكون الجملة حالية و الايات الثلاث استشهد بها لدلالتها على نفي الرؤية و منساقة اليه رأسا، لا أنه يستفاد ضمنا كما ذهب إليه جم غفير من شراح الحديث.
فيكون المعنى أنه صلى الله عليه و آله أخبرهم عن الله تعالى بأمره، لا تدركه الأبصار و لا يحيطون به علما و ليس كمثله شيء، تدل كل واحدة منها على نفي رؤيته تعالى بالأبصار، ثم يقول ذلك المخبر أنا رأيت الله بعيني و أحطت به علما برؤيتي إياه بعيني أيضا و الحال أنه على صورة البشر أي إذا لم يكن للبشر إدراكه و إحاطته بالأبصار فكيف يجوز له صلى الله عليه و آله و هو من البشر أيضا.
و لكن طبع الحديث يأبى عن هذا الاحتمال جدا كما لا يخفى على المتدرب بصناعة الكلام من متن الحديث و اسلوبه، و المختار هو المتعين.
و بعض نسخ الكافي بلا ضمير هو، أي و أحطت به علما على صورة البشر فعلى هذا الوجه إما أن تتعلق على بضمير الفاعل في أحطت فيكون الرائي أي النبي صلى الله عليه و آله على صورة البشر، و إما أن تتعلق بالضمير المجرور في به فيكون المرئي أي الله تعالى على صورة البشر.
و بما حققناه يعلم أن تلك النسخة ليست بصواب و اسقط الضمير من الكاتب و كم له من نظير.
قوله عليه السلام: «أما تستحيون ما قدرت الزنادقة أن ترميه عليه السلام بهذا أن يكون يأتي من عند الله بشيء ثم يأتي بخلافه من وجه آخر» و في بعض النسخ أما تستحون و هي صحيحة أيضا لأنها مخففة الاولى و لغة منها. و كلمة ما في قوله:ما قدرت، نافية.
قوله: أن ترميه عليه السلام بهذا أي تنسبه به و الضمير يرجع إلى رسول الله صلى الله عليه و آله و قال العلامة المجلسي- ره- في مرآة العقول: و إرجاع الضمير إلى الله بعيد جدا. و أقول: بل هو و هم رأسا لعدم مناسبته الحجة و لا لفظ الحديث.
قوله: أن يكون «اه» بدل لقوله هذا و بيان و تفصيل له. و المراد أن الزنادقة مع كفرهم و عنادهم لا ينسبونه صلى الله عليه و آله إلى ما نسبتموه إليه من المناقضة في أقواله و كذبه على الله تارة يقول من أمر الله لا تدركه الأبصار و تارة يقول إني رأيته ببصري فكيف أنتم مع اعترافكم بنبوته صلى الله عليه و آله ترمونه به.
قوله: «ثم قال أبو قرة فانه تعالى يقول و لقد رآه نزلة اخرى» لما بين الإمام عليه السلام استحالة إدراكه تعالى بالأبصار استدل أبو قرة في مقام المعارضة بقوله تعالى على أن رسول الله صلى الله عليه و آله رآه تعالى بعينه بناء على أن ضمير المفعول في رآه راجع إليه تعالى، فأجابه الإمام عليه السلام بأن القرآن يفسر بعضه بعضا و أن بعد هذه الاية ما يدل على ما رأى حيث قال تعالى ما كذب الفؤاد ما رأى و فسرها عليه السلام بقوله ما كذب فؤاد محمد ما رأت عيناه، ثم استشهد بالاية التالية المبينة لما رأت عيناه صلى الله عليه و آله «ما زاغ البصر و ما طغى. لقد رأى من آيات ربه الكبرى» فضمير المفعول في رآه راجع إلى المخلوق لا إلى الخالق حيث قال: لقد رأى من آيات ربه الكبرى و آيات الله غير الله. ثم احتج عليه بقوله تعالى و لا يحيطون به علما ثم فسره زيادة توضيح و بيان في دلالة الاية على نفى الرؤية بالأبصار بقوله:فإذا رأته الأبصار فقد أحاط به العلم و وقعت المعرفة.
ثم إن كثيرا من نسخ مخطوطة و مطبوعة من الكافي متفقة في تأنيث فعل أحاط أي «فقد أحاطت به العلم» و لكنها من تصحيف النساخ ظنا منهم أن ضمير الفعل راجع إلى الأبصار، و هو و هم لأن العلم فاعله و إلا يلزم أن يكون العلم تميزا و التميز يجب أن يكون نكرة.
قال الجوهري في الصحاح: أحاط به علمه، و أحاط به علما، و أحاطت الخيل بفلان، و احتاطت به أي أحدقت. و في الوحي الإلهي و لا يحيطون به علما و أن الله قد أحاط بكل شيء علما.
قوله: «فقال أبو قرة فتكذب بالروايات» لما استدل الامام عليه السلام بالدليلين العقلي و النقلي على استحالة رؤيته تعالى بالأبصار و لم يبق لأبي قرة دليل يستدل به على مطلوبه اعترض على الإمام فقال على صورة الاستفهام للانكا: أ فتكذب بالروايات؟ يعني إذا لم تكن تلك الروايات دالة على رؤيته تعالى لزم تكذيبها أي القول بعدم اسنادها إلى النبي صلى الله عليه و آله.
فأجابه الامام بالتزامه فقال: إذا كانت مخالفة للقرآن كذبتها، و ذلك لأنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، فهو الأصل الصدق و المعيار الحق و لا يعارضه الأخبار المتخالفة المختلفه، و لا يجوز التجاوز في التوحيد عما في القرآن المجيد و قد أدب الأئمة عليهم السلام أصحابهم بذلك.
ففي الحديث الحادي و الثلاثين من الباب الأول من كتاب التوحيد للصدوق- ره- باسناده عن الفضل بن شاذان، عن ابن أبي عمير قال: دخلت على سيدي موسى ابن جعفر عليهما السلام فقلت له: يا ابن رسول الله علمني التوحيد، فقال: يا أبا أحمد لا تتجاوز في التوحيد ما ذكره الله تعالى في كتابه فتهلك، الحديث.
فما وافقته من الأخبار و إلا تضرب بالجدار، و لا يخفى أن الأخبار التي يمكن الجمع بينها و بين الكتاب ليست بمخالفة له، و نسخة التوحيد للصدوق: كذبت بها، و هي أنسب بقول أبي قرة فتكذب بالروايات مطابقة.
قوله: «و ما أجمع المسلمون عليه أنه لا يحاط به علما، و لا تدركه الأبصار و ليس كمثله شيء» قوله عليه السلام انه لا يحاط به علما إشارة إلى قوله تعالى يعلم ما بين أيديهم و ما خلفهم و لا يحيطون به علما (طه- 111).
و لا تدركه الأبصار بعض آية 104 من الأنعام قوله تعالى: لا تدركه الأبصار و هو يدرك الأبصار و هو اللطيف الخبير.
و ليس كمثله شيء بعض آية 10 من الشورى قوله تعالى: فاطر السماوات و الأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا و من الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء و هو السميع البصير.
و كلمة ما موصولة اسمي مبتداء و خبره كل واحد من أنه لا يحاط به علما و لا تدركه الأبصار، و ليس كمثله شيء، و ليست معطوفة على القرآن حتى يكون التقدير: إذا كانت الروايات مخالفة لما أجمع المسلمون عليه كذبتها، و لو كانت معطوفة عليه لوجب أن تقدم على كذبتها.
و معنى العبارة أن القرآن لما كان منزلا من عند الله تعالى و أجمع المسلمون قاطبة على تسليم ما فيه و منه قوله تعالى: لا يحيطون به علما، و لا تدركه الأبصار و ليس كمثله شيء، لم يجز الاعراض عنه و خرقه بروايات تنافيه و تخالفه و من تمسك بها خالف القرآن و إجماع المسلمين.
و إلى هنا تمت الحجة على أبي قرة على أتم بيان و أكمل برهان في استحالة إدراكه تعالى بالأبصار ما فاه بشيء من مناقضة أو معارضة في المسألة أصلا، بل انتقل إلى أسالة اخرى قدمناها من رواية الطبرسي في الاحتجاج و في آخرها:
قال صفوان: فتحير أبو قرة و لم يحر جوابا حتى قام و خرج.
تقديم مطالب يليق أن يشار اليها
الاول:
أن قوله عليه السلام: «فمن المبلغ عن الله إلى الثقلين من الجن و الإنس و قوله عليه السلام «كيف يجيء رجل إلى الخلق جميعا» أفادا ثلاثة امور.
الأول: أن الثقلين بفتحتين هما الجن و الانس و عليه إجماع أهل اللغة و التفسير في قوله تعالى: سنفرغ لكم أيه الثقلان (الرحمن- 33) و يفسر الثقلين بالجن و الانس آيات اخرى من سورة الرحمن كقوله تعالى خلق الإنسان من صلصال كالفخار و خلق الجان من مارج من نار و قوله تعالى يا معشر الجن و الإنس الاية. و قوله تعالى فيومئذ لا يسئل عن ذنبه إنس و لا جان.
قال القاضي البيضاوي في تفسير أنوار التنزيل: الثقلان الإنس و الجن سميا بذلك لثقلهما على الأرض، أو لرزانة رأيهم و قدرهم، أو لأنهما مثقلان بالتكليف انتهى قوله.
و الجن و الانس يؤنثان باعتبار أنهما طائفة أو جماعة، قال المرزوقي في شرح قول إياس بن مالك الطائي (الحماسة 194).
كلا ثقلينا طامع بغنيمة | و قد قدر الرحمن ما هو قادر | |
قوله: كلا ثقلينا، أي كل واحد من جماعتينا، و الثقل «بالتحريك» الجماعة. و الثقلان الجن و الانس.
الأمر الثاني: أن الجن مكلفون بما كلف بها الأنس.
الأمر الثالث: أن رسول الله صلى الله عليه و آله مبعوث إليهم أيضا، و القرآن الكريم ناطق بذين في عدة مواضع.
قال تعالى: قل لئن اجتمعت الإنس و الجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله و لو كان بعضهم لبعض ظهيرا (الاسراء- 91) وجه الاستدلال بالاية عليه أنهم لو لم يكونوا مكلفين بما كلف بها الانس و لم يكن خاتم النبيين مبعوثا إليهم أيضا لما تحديهم الله تعالى بالاتيان بمثل القرآن.
و قال تعالى: و يوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس و قال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض و بلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم و كذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون يا معشر الجن و الإنس أ لم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي و ينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا و غرتهم الحياة الدنيا و شهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين (الانعام- 130- 132) أي اذكر يوم يحشرهم الله تعالى، بالياء على قراءة حفص عن عاصم، و على قراءة أبي بكر عنه يوم نحشرهم بالنون، و ضميرهم لمن يحشر من الثقلين.
و وجه الاستدلال بهما بين، فان لهم حشرا و ثوابا و عقابا فهم مكلفون.
و الاية الأخيرة صريحة على أن رسلا ارسلوا إليهم، و أما أن هؤلاء الرسل المبعوثون إلى الانس فلا تدل عليه هذه الاية صريحة و إن دلت على أن رسول الله صلى الله عليه و آله مبعوث اليهم، لأنهم مخاطبون بالقرآن، و لو لا القرآن كتابهم و الرسول صلى الله عليه و آله بعث إليهم ايضا لما خوطبوا به و انما الكلام في الرسل الذين كانوا قبله صلى الله عليه و آله.
و انما قلنا لا تدل الاية عليه صريحا، لا مكان ارجاع الضمير في قوله: رسل منكم إلى الانس خاصة لما سنشير اليه بعيد هذا، و لكن الاية ظاهرة في أن لكل طائفتين نبيا من جنسهما.
و قال تعالى في سورة الملك: و لقد زينا السماء الدنيا بمصابيح و جعلناها رجوما للشياطين و أعتدنا لهم عذاب السعير و للذين كفروا بربهم عذاب جهنم و بئس المصير إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا و هي تفور تكاد تميز من الغيظ كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها أ لم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا و قلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير و قالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير.
فالايات تدل على أن للجن ثوابا و عقابا حيث قال تعالى: و أعتدنا لهم عذاب السعير، ثم إن لهم نذيرا أيضا حيث قالوا بلى قد جاءنا نذير، و الذين كفروا يشملهم أيضا بدليل قولهم لو كنا- نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير و قال تعالى أولا: و أعتدنا لهم عذاب السعير فأصحاب السعير شامل للكافرين من الجن أيضا و تدل ايضا على أن رسول الله صلى الله عليه و آله بعث إليهم بدليل المخاطبة و الانذار، و أما أن جميع نذرهم هل كانوا منهم أو من الانس فلا تدل الاية عليه.
و نظير هذه الايات الدالة على أنه كان لهم نذير في كل زمان قوله تعالى و إن من أمة إلا خلا فيها نذير (فاطر- 23) لأن الجنة امة أيضا بلا كلام و القرآن ناطق بذلك.
قال تعالى فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله قالوا ضلوا عنا و شهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن و الإنس في النار كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف و لكن لا تعلمون و قالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون الاعراف 37- 39) نعم و لقائل أن يقول: إن جميع نذرهم لم يكونوا من الانس بدليل قوله تعالى و الجان خلقناه من قبل من نار السموم (الحجر- 28).
وجه الاستدلال أن الجان خلق من قبل خلق الانس من نار السموم، و قال تعالى و إن من أمة إلا خلا فيها نذير فكان لهم نذير و لم يكن خلق الانسان بعد، و الله تعالى أعلم، و ما اوتينا من العلم إلا قليلا.
ثم إن الشياطين في سورة الملك هم بعض من طائفة الجن و كذا قوله تعالى فو ربك لنحشرنهم و الشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا (مريم- 71).
و ذلك لأنه تعالى قال: و لسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها و كنا بكل شيء عالمين و من الشياطين من يغوصون له و يعملون عملا دون ذلك و كنا لهم حافظين (الانبياء- 82 و 83) و كذا قال: «و لقد فتنا سليمان- الى قوله: فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب و الشياطين كل بناء و غواص و آخرين مقرنين في الأصفاد (ص، 35- 39).
و إذا أضفناها إلى قوله تعالى و لسليمان الريح غدوها شهر و رواحها شهر و أسلنا له عين القطر و من الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه و من يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير يعملون له ما يشاء من محاريب و تماثيل و جفان كالجواب و قدور راسيات اعملوا آل داود شكرا و قليل من عبادي الشكور فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين (سباء، 12- 14) و إلى قوله تعالى: و حشر لسليمان جنوده من الجن و الإنس و الطير فهم يوزعون (النمل- 19) و إلى قوله تعالى: قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك (النمل- 42) تنتج أن هؤلاء الشياطين كانوا من الجن.
و كذا إذا أضفنا قوله تعالى: و لقد زينا السماء الدنيا بمصابيح و جعلناها رجوما للشياطين (الملك- 6) إلى قوله تعالى: قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن- إلى قوله تعالى مخبرا عنهم: و أنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا و شهبا و أنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا (الجن، 2- 10) ينتج أن الشياطين طائفة من الجن.
و قال تعالى: سنفرغ لكم أيه الثقلان (الرحمن- 33) أي سنجرد لحسابكم و جزائكم و ذلك يوم القيامة قال القاضي: و فيه تهديد مستعار من قولك لمن تهدده: سأفرغ لك فان المتجرد للشيء كان أقوى عليه و أحد فيه. و وجه الاستدلال به ظاهر.
و كذا آية اخرى من تلك السورة و هي قوله تعالى فيومئذ لا يسئل عن ذنبه إنس و لا جان بل المخاطب فيها الجن و الانس في آيات فبأي آلاء ربكما تكذبان، بدليل قوله تعالى: سنفرغ لكم أيه الثقلان، و قوله تعالى: يا معشر الجن و الإنس، و بعض آي اخرى و عليه إجماع المفسرين، و لو لم يكن الرسول صلى الله عليه و آله مبعوثا إليهم أيضا لما خوطبوا بالقرآن الكريم.
و قال تعالى في سورة الجن: قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به و لن نشرك بربنا أحدا إلى قوله تعالى مخبرا عنهم: و أنا منا الصالحون و منا دون ذلك كنا طرائق قددا و أنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض و لن نعجزه هربا و أنا لما سمعنا الهدى آمنا به فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا و لا رهقا و أنا منا المسلمون و منا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا و أما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا.
و قال تعالى آخر الأحقاف: و إذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق و إلى طريق مستقيم يا قومنا أجيبوا داعي الله و آمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم و يجركم من عذاب أليم و من لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض و ليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين.
وجه الاستدلال بايات هاتين السورتين ظاهر و أنها تدل مع كونهم مكلفين على أن القرآن كتابهم أيضا فرسول الله صلى الله عليه و آله مبعوث اليهم أيضا، بل ما في الأحقاف تدل على أن أنبياء السلف من الانس كانوا مبعوثين إليهم أيضا حيث قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا انزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه، كما تدل على أن هؤلاء النفر من الجن كانوا يهودا ما آمنو بعيسى عليه السلام.
و لعل هؤلاء النفرهم القوم الذين أخبر الله تعالى عنهم: و من قوم موسى أمة يهدون بالحق و به يعدلون (الأعراف- 161) أو أن هذه الاية تشملهم أيضا كقوله الاخر: و ممن خلقنا أمة يهدون بالحق و به يعدلون (الأعراف- 282) و الله تعالى أعلم.
و قال تعالى: و لقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين- الى قوله تعالى: قال اخرج منها مذؤما مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين (الأعراف، 12- 19) وجه الاستدلال به أن العقاب فرع التكليف، و قال تعالى: لأملأن جهنم منكم أجمعين، عدل عن الغيبة إلى الخطاب ليشمل الحكم و الخطاب كلا الفريقين من الجن و الانس.
نظير قوله تعالى أيضا: و إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس إلى قوله: قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا (الاسراء- 64- 66) و يفسره قوله تعالى آيات آخر ص: فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس استكبر و كان من الكافرين الى قوله تعالى: قال فالحق و الحق أقول لأملأن جهنم منك و ممن تبعك منهم أجمعين و قوله تعالى: و تمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة و الناس أجمعين (هود- 121) و قوله تعالى:و لكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة و الناس أجمعين (السجدة- 15) و قوله تعالى: و لقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن و الإنس لهم قلوب لا يفقهون بها الاية (الأعراف- 180).
و كذا يبين أن المراد كلا الفريقين قول أمير المؤمنين عليه السلام (الخطبة الاولى من النهج): فقال سبحانه اسجدوا لادم فسجدوا إلا ابليس و قبيله- إلخ، و في بعض النسخ إلا ابليس و جنوده.
و بالجملة أن الايات القرآنية تدل على أن الجن مكلفون كالإنس و لا ريب أن من شرائط التكليف أن يكون المكلف عاقلا، فلهم عقل و تمييز و لذا هدى هؤلاء النفر من الجن عقولهم إلى الهداية و الرشد حيث قالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به و لن نشرك بربنا أحدا و قال تعالى و لقدذرأنا الاية، و القلب في القرآن بمعنى العقل.
كما تدل أنهم رجال و اناث كالانس حيث قال تعالى مخبرا عنهم: و أنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن (الجن- 7) و أخبر تعالى أن بعضهم فرسانا و الاخر مشاة حيث قال: و استفزز من استطعت منهم بصوتك و أجلب عليهم بخيلك و رجلك (الاسراء- 67).
فالايات تنتج بأنهم ليسوا بمجردين، لأن التكثر إنما يصح فيما كان له مادة.على أن الله تعالى صرح بذلك أيضا في قوله: و خلق الجان من مارج من نار (الرحمن- 16) و قوله تعالى: و الجان خلقناه من قبل من نار السموم (الحجر- 28) و قوله تعالى: و لقد فتنا سليمان- إلى قوله تعالى: فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب و الشياطين كل بناء و غواص و آخرين مقرنين في الأصفاد (الزمر 35- 39).
وجه الاستدلال به أن كونهم مقرنين في الأصفاد إنما يصح مع عدم تجردهم، و قال تعالى و ترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد (ابراهيم- 51) و الله أعلم.
و كذا القرآن يدل على أنهم يتوالدون، لدلالة النارية على ذلك، و قد قال الله تعالى: و إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أ فتتخذونه و ذريته أولياء من دوني و هم لكم عدو بئس للظالمين بدلا (الكهف- 49). و حيث قال عز من قائل: فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم و لا جان (الرحمن- 58).
ثم إذا كانت الجن مادية جسمانية و مع ذلك أنا لا نراهم و هم يرونا كما قال عز من قائل: يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما إنه يراكم هو و قبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون (الاعراف- 28) علمنا أنهم من الأجسام اللطيفة و ليس بلازم أن يدرك بالأبصار كل ما هو جسم فإن بعض الأجسام الذي قبلنا لا نراه بالعين كالهواء مثلا.
و الشيطان في الاية هو ابليس و ابليس من الجن بدليل قوله تعالى:
و إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه الاية المتقدمة. و قوله تعالى و كذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس و الجن (الانعام- 113). و قوله تعالى ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين- إلى قوله تعالى مخبرا عنه: قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم- إلى قوله تعالى: فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما (الاعراف 12- 21).
و كذا إذا أضفنا قوله تعالى: و قال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق و وعدتكم فأخلفتكم و ما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني و لوموا أنفسكم الاية (ابراهيم- 28) إلى قوله تعالى و لقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين و ما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك الاية (سبأ- 21) ينتج أن الشيطان هو ابليس.
و قوله تعالى: و إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس- إلى قوله تعالى و عدهم و ما يعدهم الشيطان إلا غرورا إن عبادي ليس لك عليهم سلطان و كفى بربك وكيلا (الاسراء 64- 68) كالصريح بأن الشيطان هو ابليس.
فقد تحصل من الايات المتقدمة أن الجن مكلفون و لهم عقل و تمييز و أن رسول الله صلى الله عليه و آله مبعوث إليهم أيضا، و أن بعضهم مسلم و بعضهم قاسط و كافر كما اعترفوا في سورة الجن بذلك حيث قالوا: و أنا منا المسلمون و منا القاسطون و قال تعالى في الاية المتقدمة من الكهف فسجدوا إلا إبليس كان من الجن إلخ، و قال تعالى فسجدوا إلا إبليس أبى و استكبر و كان من الكافرين (البقرة- 24)
فبعض الجن كافر.
و أن من كان من الجن و الإنس شريرا متمردا عن الله تعالى فهو شيطان قال تعالى: و إذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم (البقرة- 14) و قال تعالى: و كذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس و الجن (الانعام- 13) و أن بعض أنبياء الانس مبعوثون إليهم أيضا، و أن نذيرا أو نذرا من جنسهم بعثوا إليهم.
ثم
ههنا يخلق بنا أن نبحث عن مسائل: منها أن أنبياء الانس كيف بعثوا إلى الجن و هما ليسا من جنس واحد، و قد مر في شرح الخطبة 237 (ص 79- 82 ج 16) البحث عن لزوم التناسب و التجانس في ذلك و قد قال تعالى: و ما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أ بعث الله بشرا رسولا قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا (الاسراء- 98).
و حيث أنكر الناس أن يكون الرسل بشرا قال تعالى لرسوله صلى الله عليه و آله «قل» جوابا لشبهتهم «لو كان في الأرض» الاية و ذلك لتمكينهم من الاجتماع بالرسول و التلقي منه. و قريب من هذه الاية قوله تعالى: و لو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا (الأنعام- 10).
و منها أن شياطين الإنس و الجن كيف يضلون غيرهم من الجن و الانس عن سواء الصراط ، و على أي نحو كان سلطانهم عليهم، و ما معنى قوله تعالى من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة و الناس . و منها لم بعث بعض الأنبياء من الانس إليهم أيضا
و بعضهم الاخر من جنسهم و ما سر التبعيض، أو أن قوله تعالى: يا معشر الجن و الإنس أ لم يأتكم رسل منكم الاية (الانعام- 131).
ليس المراد أن بعث إلى كل من الثقلين رسل من جنسهم بل إنما المراد الرسل من الانس خاصة، و لكن لما جمعوا مع الجن في الخطاب صح ذلك، نظير
قوله تعالى يخرج منهما اللؤلؤ و المرجان و المرجان يخرج من الملح دون العذب.
أو أن الرسل من الجن رسل الرسل إليهم لقوله تعالى: ولوا إلى قومهم منذرين.
و منها أن الجن إذا كانوا مكلفين فلابد لهم في كل زمان من نبي، قال الله تعالى و لو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لو لا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل و نخزى (طه- 136) و لما كان بدؤخلقهم قبل الانس بلا ارتياب فلابد من أن يكون لهم نبي من جنسهم من قبل بلا كلام، و يحمل قوله تعالى في سورة الأنعام أ لم يأتكم رسل منكم على ظاهره.
و غيرها من المسائل التي يحتاج عنوانها و حلها و البحث عنها و عن الروايات المروية في المقام إلى تدوين كتاب على حدة، و لعلنا نبحث عن بعضها في أثناء مباحثنا الاتية.
المطلب الثاني:
أن احتجاجه عليه السلام على أبي قرة بقوله: إن بعد هذه الاية ما يدل على ما رأى- إلخ، تحريض الناس على التدبر في آيات القرآن الكريم، و تعليمهم باسلوب التنعم من تلك المأدبة الإلهية و قد فهمنا بعمله هذا أن القرآن يفسر بعضه بعضا.
و قد مضى الكلام من سميه و جده باب مدينة العلم أمير المؤمنين عليه السلام في ذلك عند شرحنا على المختار الأول من باب الكتب و الرسائل قال عليه السلام: كتاب الله تبصرون به و تنطقون به و تسمعون به يفسر بعضه بعضا و يشهد بعضه على بعض (ص 254 ج 2 من تكملة المنهاج).
و كذلك قد تبين في (ص 89 منها) أن الله تعالى نزل القرآن تبيانا لكل شيء، و قال عز من قائل: و نزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء (النحل- 92) و قال تعالى ما فرطنا في الكتاب من شيء (الانعام- 39).
فكيف لا يكون تبيانا لنفسه. و الله تعالى حث عباده على التدبر في كلامه، قال عز من قائل: أ فلا يتدبرون القرآن و لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا (النساء- 85). و قال تعالى: أ فلايتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها (محمد- 27). و قال سبحانه: كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته و ليتذكر أولوا الألباب (ص- 30).
فمما بينا دريت أن من ذهب إلى عدم جواز التدبر في آيات الله و الأخذ بها إلا بما ورد تفسيره عنهم عليهم السلام خالف كتاب الله، و قد ذهب إلى هذا القول الأخباريون على ما نقل الخوانساري في روضات الجنات عند ترجمة محمد أمين الأخباري الاسترابادي عن الشيخ عبد الله بن صالح السماهيجي البحراني في الفروق بين المجتهدين و الأخباريين.[1] حيث قال: الفرق الخامس عشر إنهم يجوزون الأخذ بظاهر الكتاب بل يرجحونه على ظاهر الخبر و الأخباريون لا يجوزون الأخذ إلا بما ورد تفسيره عنهم عليهم السلام. حتى أن بعض الأخباريين لا يعد الكتاب من الأدلة أيضا و يقتصر على السنة فقط، و هذا الفرق بينهما في التمسك بالكتاب و عدمه إنما هو في الفروع و أما في الاصول فانهم لا يجوزون أخذ العقائد من القرآن و أخبار الاحاد، و الأخباريون يقولون بعكس ذلك.
و لا يخفى عليك أن الأخباريين سلكوا في الفروع و الاصول مسلكي الافراط و التفريط. و لو قيل بجواز أخذ الاصول من الكتاب ليلزم الدور لأن اعتقاد أن رسول الله صلى الله عليه و آله مبعوث من عند الله تعالى مثلا لو كان بأخذ آية يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا الاية، مثلا إنما يصح إذا اعتقد أنه رسول الله و كلامه وحي من عنده تعالى، و لو كان الاعتقاد به من نفس هذه الاية و لم يثبت نبوته بعد مثلا لكان هو الدور.
المطلب الثالث:
أنه عليه السلام في جواب أبي قرة لما سأله فتكذب بالروايات؟
قال: إذا كانت الروايات مخالفة للقرآن كذبتها. و ذلك أن القرآن هو معيارالحق و ميزان الصدق، و هو الأصل في المعارف و ميزان كل شيء بحسبه، فاذا كانت رواية لم يمضها القرآن و لو كانت من الكتب الأربعة لا يجوز الأخذ بها.
و ذهب الأخباريون إلى أن جملة ما فيها صحيحة، فلو كانت دعواهم أن جميع الروايات المنقولة فيها موافقة لكتاب الله ففيه القطع بأن بعضها لا يوافقه الكتاب و لا العقل، فمجرد أن الرواية منقولة فيها لا يوجب صحتها و المعيار كتاب الله كما قدمنا البحث عن ذلك في صدر هذه المسألة في الرؤية.
المطلب الرابع
قوله عليه السلام: و ما أجمع المسلمون عليه الى آخره دليل على حجية الاجماع ففي كل مسألة تحقق فيها إجماع المسلمين عليها فلا يجوز التخلف عنها، و أجمعوا على حجية القرآن و هو ناطق بعدم إدراك الأبصار إياه تعالى، و المتبع الإجماع المحقق.
و العجب من الأخباريين كيف يقتصرون في الأدلة على الكتاب و السنة بل بعضهم على الثاني فقط كما دريت و يدعون الإجماع و العقل مع شدة اهتمامهم بالتمسك بالأخبار، و هذا هو خبر مروي في الكافي ذهب الأخباريون إلى أن جملة ما فيه صحيحة، و ينادي الامام عليه السلام بأعلى صوته بأن ما أجمع المسلمون عليه لا يجوز الاعراض عنه، فهل هذا إلا الإعراض عن الكتاب و السنة.
المطلب الخامس
أن أبا قرة لما زعم من الرؤية، الرؤية بالأبصار احتج الامام عليه السلام عليه على مقدار فهمه و حذاء زعمه بعدم رؤيته تعالى بها، و إلا فسيأتي أخبار اخر في صحة رؤيته تعالى بمعنى آخر أدق و ألطف لا يعقله إلا الأوحدي من الناس.
الحديث الثالث
رواه الكليني قدس سره في باب إبطال الرؤية من جامعه الكافي عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن أبي هاشم الجعفري، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال سألته عن الله هل يوصف؟ فقال: أما تقرأ القرآن؟ قلت: بلى، قال: أما تقرأ قوله تعالى لا تدركه الأبصار و هو يدرك الأبصار قلت: بلى، قال: فتعرفون الأبصار؟ قلت: بلى، قال: ماهي؟ قلت: أبصار العيون، فقال: إن أوهام القلوب أكبر من أبصار العيون، فهو لا تدركه الأوهام و هو يدرك الأوهام.
و قريب منه رواية اخرى في ذلك الباب من الكافي أيضا رواها عن محمد بن أبي عبد الله، عمن ذكره، عن محمد بن عيسى، عن داود بن القاسم أبي هاشم الجعفري قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: لا تدركه الأبصار و هو يدرك الأبصار؟ فقال: يا أبا هاشم أوهام القلوب أدق من أبصار العيون، أنت قد تدرك بوهمك السند و الهند و البلدان التي لم تدخلها و لا تدركها ببصرك، و أوهام القلوب لا تدركه فكيف أبصار العيون.
و قد رواهما الصدوق قدس سره في باب ما جاء في الرؤية من كتابه في التوحيد فروى الأول باسناده عن محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد، عن محمد بن الحسن الصفار، عن أحمد بن محمد، عن أبي هاشم الجعفري، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام.
و الثاني عن علي بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق، عن محمد بن أبي عبد الله على حذو ما في الكافي.
و روى في المجلس الرابع و الستين من أماليه عن الحسين بن إبراهيم بن أحمد ابن هشام المؤدب قال: حدثنا أبو الحسين محمد بن جعفر الأسدي، قال: حدثني محمد ابن إسماعيل بن بزيع، قال: قال أبو الحسن علي بن موسى الرضا عليه السلام في قول الله عز و جل لا تدركه الأبصار و هو يدرك الأبصار قال: لا تدركه أوهام القلوب فكيف تدركه أبصار العيون.
بيان: أبو جعفر عليه السلام هو الامام التاسع محمد بن علي الرضا، بقرينة رواية أبي هاشم الجعفري عنه، و صرح به الصدوق في التوحيد حيث قال في ذلك الاسناد:عن داود بن القاسم عن أبي هاشم الجعفري قال: قلت لأبي جعفر ابن الرضا عليه السلام.
الأوهام جمع و هم و هو يطلق في الكتب الحكمية على القوة الوهمية التي من شأنها إدراك المعاني الجزئية المتعلقة بالمحسوسات كعداوة زيد و محبة عمرو قال الشيخ في الشفاء: القوة المسماة بالوهم هي الرئيسة الحاكمة في الحيوان حكما
ليس فصلا كالحكم العقلي، و لكن حكما تخييلا مقرونا بالجزئية و بالصورة الحسية و عنه يصدر أكثر الأفعال الحيوانية، انتهى كلامه.
و كما أن العقل رئيس الوهم و مخدومه كذلك الوهم رئيس الحواس الظاهرة و الباطنة و مستعملها و مستخدمها و لذا بينوا أن آلتها الدماغ كله و لكن الأخص بها التجويف الأوسط على التفصيل الذي بين في محله.
و لكن المراد بالوهم في تلك الروايات معناه اللغوي أي ما يقع في القلب من الخاطر. قال الطريحي في مجمع البحرين: الوهم ما يقع في الخاطر يقال:
و همت الشيء أهمه و هما من باب ضرب أي وقع في خلدي. و قال الفيومي في المصباح: و همت و هما وقع في خلدي، و الجمع أوهام.
فالمراد بأوهام القلوب إدراكاتها و منه قول الصادق و الباقر عليهما السلام: كلما ميزتموه بأوهامكم في أدق معانيه فهو مخلوق مصنوع مثلكم- الحديث الذي ذكرناه في صدر هذا البحث.
و قد مر غير مرة أن القلب في الايات و الأخبار بمعنى النفس و العقل. و الوهم بذلك المعنى أعني الإدراك المتعلق بالقوة العقلية المتعلقة بالمعقولات في الأخبار غير عزيز بل شائع ذائع.
و لا يبعد أن يقال: وجه التعبير بالأوهام إنما كان من جهة عدم إحاطة العقول به تعالى أعني أن هذا التعبير يشير ضمنا إلى أن تلك الادراكات في صفة الباري تعالى أوهام من الوهم بمعنى الغلط و خيالات لا أنها حقائق و معقولات صحيحة.
و إنما كان إدراكات القلوب أكبر من أبصار العيون لأن القلب أعني العقل مجرد و العقل قد لا يحتاج في إدراكه إلى المادة و الجهة و غيرهما مما يحتاج إليها غيره من القوى المدركة في إدراكاتها.
و لا يخفى أن إدراك البصر مثلا مقصور على ما هو محصور في المادة و لا بد أن يكون ذا جهة و وضع وضوء و لون و أن لا يكون بعيدا مفرطا عن محسة الرؤية و لا قريبا منها كذلك، و أن لا يكون صغيرا جدا مما يحتاج في رؤيتها إلى الالات المكبرة و أن لا يكون بينهما حاجب مما قدمنا في صدر هذا البحث من شرائط الابصار و أما العقل فيدرك ما هو مجرد عن المادة و الجهة و لا يشترط في رؤيته وجود الواسطة و عدم الظلمة و عدم القرب و البعد المفرطين و لا عدم الحاجب، فانه يدرك مطلقا و لذا قال عليه السلام: أنت قد تدرك بوهمك أي بعقلك السند و الهند- إلخ، و المجرد عن المادة يكون أدق و ألطف و أكبر و أعظم وجودا من إدراكات البصر، لأن مدركاتها محبوسة محصورة.
و في نسخة مخطوطة مصححة من توحيد الصدوق موجودة عندنا: أن أوهام القلوب أكثر من أبصار العيون، بالثاء المثلثة و هذا صحيح أيضا، و الكل يشير إلى معنى واحد أي أوسع وجودا.
و بالجملة أن كل ما تدركه أوهام القلوب لا تدركه العيون، بخلاف العكس و أن العقل مجرد عن المادة و مدركاتها كذلك، و ساير القوى ليست في مرتبته، و كذلك مدركاتها.
فالمدركات العقلية أدق و أكبر و أكثر وجودا من الحسية، قل كل يعمل على شاكلته، فاذا لم يكن الوهم قادرا على إدراكه تعالى و الإحاطة به فما ظنك بالعيون التي دون الوهم بمراحل، فنفي إدراكه تعالى بالوهم الذي هو أوسع وجودا و أتم إدراكا يستلزم نفي إدراكه بالأبصار بطريق أولى، فان نفي الأعم يستلزم نفي الأخص، كما أن نفي الحيوان يستلزم نفي الانسان على ما بين في صنعة الميزان.
ثم لا يخفى على من ساعده التوفيق أن هذه الأخبار الصادرة من أهل بيت العصمة تشير إلى تجرد الروح الانساني الذي به امتاز الانسان عن سائر الحيوانات و به كرم الله بني آدم عليهم، فالحيوانات و إن كانت قوية في إدراكاتها الحسية لكنها عاجزة عن نيل ما رزق به الانسان من تعقل المعقولات و إدراك الحقائق المجردة و المعاني اللطيفة الخفية من فعل العقل، و الفرق بين المعاني الحسية و بين المعاني العقلية شرفا كالفرق بين الحاسة و العقل.
و المراد من سؤال أبي هاشم الجعفري أبا الحسن الرضا عليه السلام عن الله هل يوصف يعني هل يدرك سبحانه بالحواس و العقول ثم يوصف بأن يقال: إن الله ذاته كذا و صفاته كذا و لا محالة ينجر إلى محدوديته تعالى و إلى وصفه بالصورة و التخطيط و غيرها من صفات خلقه كما يستفاد من الأخبار الواردة في باب النهي عن الصفة بغير ما وصف به نفسه جل و علا كما في الكافي و التوحيد و غيرهما.
ثم إن هذه الأخبار لا تفسر الأبصار بالأوهام، بل لما انجر الكلام إلى إدراك الأبصار الحق تعالى قالوا عليهم السلام: إن أوهام القلوب لا تدركه تعالى فكيف الأبصار تقدر على إدراكه، و كذا أنه تعالى يدرك أوهام القلوب مع دقتها و سعتها فكيف لا يدرك الأبصار و يظهر ما قلنا بأدنى تأمل في سياق تلك الأخبار، فقدوهم من قال إنها فسر الأبصار بأوهام القلوب.
نعم رواية اخرى منقولة في باب في قوله تعالى، لا تدركه الأبصار و هو يدرك الأبصار من الكافي و في باب ما جاء في الرؤية من توحيد الصدوق بسند واحد و متن واحد من غير اختلاف ظاهرة في أنها تفسر الأبصار بأبصار القلوب.
ففيهما باسنادهما عن محمد بن يحيى العطار، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن أبي نجران، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله لا تدركه الأبصار قال: إحاطة الوهم، ألا ترى إلى قوله: «قد جاءكم بصائر من ربكم» ليس يعني بصر العيون «فمن أبصر فلنفسه» ليس يعني من البصر بعينه «و من عمي فعليها» ليس يعني عمي العيون إنما عنى إحاطة الوهم كما يقال: فلان بصير بالشعر، و فلان بصير بالفقه، و فلان بصير بالدراهم، و فلان بصير بالثياب، الله أعظم من أن يرى بالعين، انتهى.
و كأنه عليه السلام أراد من قوله هذا مفسرا كما أن للعين بصرا كذلك للقلب بصر و بصر القلب يسمى بصيرة، فالمراد من إحاطة الوهم إحاطة بصيرة القلب و مع ذلك لا يبعد أن يقال: إنه عليه السلام أراد من كلامه هذا التنبيه على إرادة أبصار القلوب بالاية أيضا لا أبصار العيون فقط، أي أن الأبصار في الاية تشمل أبصار العيون و القلوب كليهما.
و أشار عليه السلام في صحة إرادة إدراك القلبي من الأبصار إلى إطلاق البصر على بصيرة القلب في القرآن الكريم بقوله: ألا ترى إلى قوله تعالى قد جاءكم بصائر من ربكم إلخ، و إلى إطلاقه عليها في العرف أيضا بقوله: كما يقال:فلان بصير- إلخ. و قوله: إنما عنى إحاطة الوهم، أي إنما أراد الله من قوله:لا تدركه الأبصار إحاطة الوهم.
إن قلت: هذه الأخبار تكذب إدراكه تعالى بأوهام القلب، و قد رويت أخبار اخر أن القلوب تدركه بحقائق الايمان فكيف التوفيق؟.
قلت: المراد من الأخبار النافية، إدراكه تعالى بالاكتناه و الإحاطة، و من الأخبار المثبتة إدراكه بوجه بمعنى الانكشاف التام الحضوري و الشهود العلمي من غير اكتناه كما نتلوها عليك مبينة.
«الحديث الرابع»
في الكافي عن محمد بن أبي عبد الله، عن علي بن أبي القاسم، عن يعقوب بن إسحاق قال: كتبت إلى أبي محمد عليه السلام أسأله كيف يعبد العبد ربه و هو لا يراه؟ فوقع عليه السلام يا با يوسف جل سيدي و مولاي و المنعم علي و على آبائي أن يرى، قال: و سألته هل رأى رسول الله صلى الله عليه و آله ربه؟ فوقع عليه السلام: إن الله تبارك و تعالى أرى رسوله بقلبه من نور عظمته ما أحب.
أقول: هذا هو الحديث الأول من باب في إبطال الرؤية من اصول الكافي و قريب منه الحديث الثامن منه.
قال: محمد بن يحيى و غيره عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن أبي نصر، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله: لما اسري بي إلى السماء بلغ بي جبرئيل مكانا لم يطأه قط جبرئيل فكشف له فأراه الله من نور عظمته ما أحب و رواه الصدوق في التوحيد عن أبيه، عن محمد العطار، عن ابن عيسى، عن البزنطي عن الرضا عليه السلام.
بيان: محمد بن أبي عبد الله هو الذي أكثر المشايخ الثلاثة رضوان الله عليهم الرواية عنه. و علي بن أبي القاسم عبد الله بن عمران البرقي المعروف أبوه بما جيلويه يكنى أبا الحسن، و ذهب المولى صالح المازندراني و المولى صدرا الشيرازي في شرحهما على اصول الكافي إلى إن يعقوب بن إسحاق هو الشيخ أبو يوسف يعقوب بن إسحاق ابن السكيت الدورقي، و ابن السكيت هذا من أكابر علماء العربية و عظماء الشيعة و هو من أصحاب الجواد و الهادي عليهما السلام، و مؤلف كتاب إصلاح المنطق.
قال ابن خلكان في وفيات الأعيان: قال بعض العلماء: ما عبر على جسر بغداد كتاب من اللغة مثل إصلاح المنطق و قال: قال أبو العباس المبرد: ما رأيت للبغداديين كتابا أحسن من كتاب ابن السكيت.
و قال الشيخ الجليل النجاشي في الفهرست: يعقوب بن إسحاق السكيت أبو يوسف كان مقدما عند أبي جعفر الثاني و أبي الحسن عليهما السلام و كان يختصانه (و كان يخصانه- ظ) و له عن أبي جعفر عليه السلام رواية و مسائل، و قتله المتوكل لأجل التشيع و أمره مشهور، و كان وجيها في علم العربية و اللغة ثقة مصدق لا يطعن عليه و له كتب ثم عد كتبه.
قال ابن النديم في الفهرست: و كان يعقوب بن السكيت يكنى بأبي يوسف و كان مؤدبا لولد المتوكل و يقال: إن المتوكل ناله بشيء حتى مات في سنة ست و أربعين و مائتين، و ليعقوب ابن يقال له: يوسف نادم المعتضد و خص به، انتهى ما أردنا من نقل كلامه.
و في وفيات الأعيان و كان يميل في رأيه و اعتقاده إلى مذهب من يرى تقديم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال أحمد بن عبيد: شاورني ابن السكيت في منادمته المتوكل فنهيته، فحمل قولي على الحسد و أجاب إلى ما دعى إليه من المنادمة فبينما هو مع المتوكل يوما جاء المعتز و المؤيد فقال المتوكل: يا يعقوب أيما أحب إليك ابناي هذان أم الحسن و الحسين؟ فغض ابن السكيت من ابنيه و ذكر الحسن و الحسين رضي الله عنهما بما هما أهله، فأمر الأتراك فداسوا بطنه فحمل إلى داره فمات بعد غد ذلك اليوم، و كان ذلك في سنة أربع و أربعين و مائتين- إلى أن قال:
و قد روي في قتله غير ما ذكرته أولا، فقيل: إن المتوكل كان كثير التحامل على علي بن أبي طالب رضي الله عنه و ابنيه الحسن و الحسين رضي الله عنهم أجمعين، و كان ابن السكيت من المغالين في محبتهم و التوالي لهم، فلما قال له المتوكل تلك المقالة قال ابن السكيت: و الله إن قنبر خادم علي رضي الله عنه خير منك و من ابنيك، فقال المتوكل: سلوا لسانه من قفاه، ففعلوا ذلك به فمات و ذلك في ليلة الاثنين لخمس خلون من رجب سنة أربع و أربعين و مائتين، و قيل: سنة ثلاث و أربعين. و بلغ عمره ثمانيا و خمسين سنة.
و قال المجلسي- ره- في مرآة العقول: و ظن أصحاب الرجال أن يعقوب ابن إسحاق هو ابن السكيت، و الظاهر أنه غيره، لأن ابن السكيت قتله المتوكل في زمان الهادي عليه السلام و لم يلحق أبا محمد عليه السلام. انتهى كلامه- ره-.
أقول: أبو محمد في الروايات هو الحسن بن علي العسكري الامام الحادى عشر والد الامام المنتظر عليهما السلام.
قال في الكافي: ولد أبو محمد الحسن بن علي عليهما السلام في شهر رمضان و في نسخة اخرى في شهر ربيع الاخر سنة اثنتين و ثلاثين و مائتين، و قبض عليه السلام يوم الجمعة لثمان ليال خلون من شهر ربيع الأول سنة ستين و مائتين و هو ابن ثمان و عشرين سنة.
و في الكافي أن والده أبا الحسن الثالث علي بن محمد الهادي الامام العاشر عليه السلام قبض سنة أربع و خمسين و مائتين فكان أبو محمد عليه السلام عند وفات أبيه الهادي عليه السلام ابن اثنتين و عشرين سنة، و عند وفاة ابن السكيت ابن اثنتين و عشر سنة، فابن السكيت لحق أبا محمد عليه السلام إلا أن نقل ابن السكيت عنه عليه السلام مستغرب في ظاهر الأمر فلا يبعد احتمال المجلسي- ره- عن الصواب.
فالظاهر أن يعقوب بن إسحاق هذا هو أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي فيلسوف الغرب المتوفي- 246 ه- و لما كان هو و ابن السكيت في الاسم و الكنية و اسم الوالد مشتركين، و كانا أيضا معاصرين اشتبه على الشراح أحدهما بالاخر.
و مما يؤيد هذا الاحتمال الاحتجاج الذي وقع بين أبي محمد عليه السلام و بين الكندي لما أخذ في تأليف تناقض القرآن على زعمه نقله المجلسي- ره- في احتجاجات البحار عن مناقب ابن شهر آشوب قال:
أبو القاسم الكوفي في كتاب التبديل إن اسحاق الكندي كان فيلسوف العراق في زمانه، أخذ في تأليف تناقض القرآن و شغل نفسه بذلك و تفرد به في منزله و أن بعض تلامذته دخل يوما على الامام الحسن العسكري عليه السلام فقال له أبو محمد عليه السلام: أما فيكم رجل رشيد يردع استاذكم الكندي عما أخذ فيه من تشاغله بالقرآن؟ فقال التلميذ: نحن من تلامذته كيف يجوز منا الاعتراض عليه في هذا أو في غيره؟ فقال أبو محمد عليه السلام: أتؤدي إليه ما ألقيه إليك؟ قال: نعم، قال فصر إليه (فسر إليه- خ ل) و تلطف في مؤانسته و معونته على ما هو بسبيله، فاذا وقعت المؤانسة في ذلك فقل: قد حضرتني مسألة أسألك عنها فإنه يستدعي ذلك منك فقل له: إن أتاك هذا المتكلم بهذا القرآن هل يجوز أن يكون مراده بما تكلم به منه غير المعاني التي ظننتها أنك ذهبت إليها؟ فانه سيقول: إنه من الجائز لأنه رجل يفهم إذا سمع، فاذا أوجب ذلك فقل له: فما يدريك لعله قد أراد غير الذي ذهبت أنت إليه فتكون واضعا لغير معانيه، فصار الرجل الى الكندي و تلطف إلى أن ألقى إليه (عليه- خ ل) هذه المسألة فقال له: أعد علي فأعاد عليه فتفكر في نفسه و رأى ذلك محتملا في اللغة و سائغا في النظر.
و مما يؤيد هذا الاحتمال أيضا أن السؤال عن نحو هذه المسألة أنسب بحال الكندي من ابن السكيت لأنه كان فيلسوفا حكيما، و قد عد ابن النديم في الفهرست من كتبه الفلسفية أكثر من عشرين كتابا، و كأنه أراد اختبار الإمام فيه تعالى فأجابه عليه السلام بما يناسبه.
و لكن مع ذلك كله ههنا كلاما يختلج بالبال و هو أن علي بن أبي القاسم لم يكن ممن يروي عن الكندي أو يكون أحد تلامذته و لم نجد في الكتب الرجالية و الفهارس من عده من تلامذته أو رواته بل عدوه من رواة ابن السكيت و منهم المولى الأردبيلي- ره- في جامع الرواة.
ثم إن أبا محمد عليه السلام كان عند وفاة الكندي ابن أربع عشرة سنة لما مضى من تاريخ وفاتهما، و عند وفاة ابن السكيت ابن اثنتين و عشرة سنة كما دريت، فكان الفاصلة بين وفاة ابن السكيت و الكندي سنتين، فلو كان نقل ابن السكيت عنه عليه السلام مستغربا لكان كذلك الكلام في نقل الكندي عنه كما لا يخفى و قول المجلسي- ره- إن ابن السكيت لم يلحق أبا محمد ليس بصواب كما علم.
و قال بعضهم في تعليقة على جامع الرواة المذكور آنفا في المقام ما هذا لفظه فيه اشتباه لأن يعقوب بن إسحاق السكيت لم يروعن أبي محمد جزما إذ كما صرح المؤلف أيضا قتله المتوكل فكيف يمكن روايته عن أبي محمد عليه السلام، فالظاهر أنه يعقوب بن إسحاق البرقي لأنه من رواة العسكري كما صرح «مح» انتهى قوله.
و فيه أولا أن ابن السكيت أدرك أبا محمد عليه السلام كما علم.
و ثانيا أن يعقوب بن إسحاق البرقي لم يكن بأبي يوسف، على أنه مجهول الحال عده الشيخ- ره- في الفهرست بعنوان يعقوب بن إسحاق من أصحاب الهادي عليه السلام و بزيادة وصفه بالبرقي من أصحاب العسكري عليه السلام، و لم يعلم من هو و من روى عنه و لم يذكر أحد أن علي بن أبي القاسم روى عنه. و الله تعالى أعلم.
و أما سؤال أبي يوسف أبا محمد عليه السلام عن رؤيته تعالى ففيه كلام أيضا، لأن السائل إن كان ابن السكيت فكيف لم يكن استحالة رؤيته تعالى بالأبصار معلومة له و هو أدرك الجواد و العسكريين عليه السلام و قال النجاشي: و له عن أبي جعفر الثاني عليه السلام رواية و مسائل.
نعم إن كان السائل الكندي فلا ضير فيه لأنه سأله اختبارا و كيف كان فأجابه عليه السلام بأن الله تعالى جل أن يرى بالأبصار، لما دريت آنفا أن ما يدرك بالأبصار يجب أن يكون جسما كثيفا له ضوء و لون وجهة و مكان و سائر ما يشترط في الأبصار حتى يرى، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
ثم سأله من باب المكاتبة أيضا بدليل مقابلته بالتوقيع هل رأى رسول الله صلى الله عليه و آله ربه و إنما سأل عن ذلك لأن طائفة من الروايات و بعض آيات النجم تدل على أنه صلى الله عليه و آله رآه تعالى، و يتبادر وهم العامة في أمثال هذه المعاني إلى ما يتوهمونها في الأجسام فيزعمون أن كل ما هو موجود فهو مرئي فما لم يكن بمرئي فليس بموجود، أو أن كل ما هو مرئي فهو مرئي بالأبصار فقط، و لا يعلمون أن الرؤية بعين القلب أعني العقل أتم و أكمل و أشرف و أقوى و أبقى من الرؤية بعين الرأس، و الفرق بين الرؤيتين كالفرق بين المدركين من العقل و العين.
فأجابه عليه السلام بأتم بيان بأنه تعالى أرى رسوله بقلبه من نور عظمته ما أحب نفى رؤيته تعالى بالبصر و قال: أرى رسوله بقلبه ما أحب من نور عظمته.
و رؤية القلب أشرف من رؤية العين، لعدم احتياجها إلى ما يشترط في الابصار بالعين، بل هو انكشاف تام و وصول لا يتأتى بيانه بالقلم يفهمه من كان له قلب و قال أبو الحسن الرضا عليه السلام في الحديث المقدم ذكره: فكشف له فأراه- إلخ، كأنه بيان لقول أبي محمد عليه السلام أرى بقلبه أي الإرائة ههنا هي الكشف التام.
و قوله عليه السلام: من نور عظمته، بيان لكلمة ما قدم عليها توسعة للظرف.
و اسلوب الكلام يقتضي إرجاع ضمير أحب إليه تعالى لا إلى رسوله.
و قوله عليه السلام: من نور عظمته، بيان لكلمة ما قدم عليها توسعة للظرف.
و اسلوب الكلام يقتضي إرجاع ضمير أحب إليه تعالى لا إلى رسوله.
فبما حققنا في المقام علمت أن أبا الحسن عليه السلام احتج على أبي قرة في الحديث المقدم على زنة معرفته و قدر عقله، و لو وجده الامام أهلا للاشارات الرقيقة لفسر له قوله تعالى ما كذب الفؤاد ما رأى بما رأى الفؤاد كما في الحديث الاتي.
و علمت أيضا أن ما جاء في الروايات بأنه صلى الله عليه و آله رآه تعالى، فالمراد رؤيته بالقلب من غير إحاطة لا بالبصر جمعا بين ما حكم به العقل الناصع و بين ظاهر النقل.
فنعم ما أشار إليه العالم الجليل الصدوق- ره- في باب ما جاء في الرؤية من كتابه في التوحيد حيث قال: حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد، قال: حدثنا إبراهيم بن هاشم، عن ابن أبي عمير، عن مرازم، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سمعته يقول: رأى رسول الله صلى الله عليه و آله ربه عز و جل- يعني بقلبه- و تصديق ذلك ما حدثنا به محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد، قال: حدثنا محمد بن الحسن الصفار، عن محمد بن الحسين بن أبي الخطاب، عن محمد بن الفضيل قال: سألت أبا الحسن عليه السلام هل رأى رسول الله صلى الله عليه و آله ربه عز و جل؟ فقال: نعم بقلبه رآه. أما سمعت الله عز و جل يقول ما كذب الفؤاد ما رأى أي لم يره بالبصر و لكن رآه بالفؤاد. انتهى ما أفاده- ره-
الحديث الخامس
في الكافي: عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن أبي الحسن الموصلي، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: جاء حبر إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال: يا أمير المؤمنين هل رأيت ربك حين عبدته؟ قال فقال: ويلك ما كنت أعبد ربا لم أره، قال: و كيف رأيته؟ قال: ويلك لا تدركه العيون في مشاهدة الأبصار و لكن رأته القلوب بحقائق الايمان.
أقول: هذه الرواية جاءت في الجوامع بطرق متعددة بينها اختلاف لفظا و كما في الجملة و ما أتى به الكليني في هذا الباب من جامعه الكافي جزء مما نقل في الجوامع الاخر.
ثم إن الظاهر أن ذلك الحبر هو ذعلب اليماني و الحديث بعض حديث دعلب المشهور رواه الخاصة و العامة بألفاظ مختلفة متقاربة و أسناده متعددة.
نعم لا يبعد أن يذهب إلى أن ذلك السؤال و الجواب وقع بينه عليه السلام و بين ذلك الحبر مرة، و بينه و بين ذعلب مرة اخرى، و لكن مشاركتهما في هيئة السؤال و الجواب و نضد الألفاظ تأبيان بظاهرهما عن ذلك الاحتمال.
ففي باب التوحيد من الكافي و في الوافي ص 95 ج 1 في باب جوامع التوحيد و في مرآة العقول ص 91 ج 1: محمد بن أبي عبد الله رفعه عن أبي عبد الله عليه السلام قال:بينا أمير المؤمنين يخطب على منبر الكوفة إذ قام إليه رجل يقال له: ذعلب ذو لسان بليغ في الخطب شجاع القلب فقال: يا أمير المؤمنين هل رأيت ربك؟
فقال: ويلك يا ذعلب ما كنت أعبد ربا لم أره.
فقال: يا أمير المؤمنين كيف رأيته؟
قال: ويلك يا ذعلب لم تره العيون بمشاهدة هذه الأبصار، و لكن رأته القلوب بحقايق الايمان، ويلك يا ذعلب إن ربي لطيف اللطافة لا يوصف باللطف، عظيم
العظمة لا يوصف بالعظم، كبير الكبرياء لا يوصف بالكبر، جليل الجلالة لا يوصف بالغلظ، قبل كل شيء لا يقال شيء قبله، و بعد كل شيء لا يقال له بعد، شاء (شيأ خ ل) الأشياء لا بهمة، دراك لا بخديعة، في الأشياء كلها غير متمازج بها و لا بائن منها، ظاهر لا بتأويل المباشرة، متجل لا باستهلال رؤية، نائي لا بمسافة، قريب لا بمداناة، لطيف لا بتجسم، موجود لا بعد عدم، فاعل لا باضطرار، مقدر لا بحركة مزيد لا بهامة، سميع لا بالة، بصير لا بأداة، لا تحويه الأماكن، و لا تضمنه الأوقات و لا تحده الصفات، و لا تأخذه السنات، سبق الأوقات كونه، و العدم وجوده، و الابتداء أزله، بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له، و بتجهيره الجواهر عرف أن لا جوهر له، و بمضادته بين الأشياء عرف أن لا ضد له، و بمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له، ضاد النور بالظلمة، و اليبس بالبلل، و الخشن باللين، و الصرد بالحرور، مؤلف بين متعادياتها، مفرق بين متدانياتها، دالة بتفريقها على مفرقها و بتأليفها على مؤلفها، و ذلك قول الله تعالى و من كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون.
ففرق بين قبل و بعد ليعلم أن لا قبل له و لا بعد، شاهدة بغرائزها أن لا غريزة لمغرزها، مخبرة بتوقيتها أن لا وقت لموقتها، حجب بعضها عن بعض ليعلم أن لا حجاب بينه و بين خلقه، كان ربا إذ لا مربوب، و إلها إذ لا مألوه، و عالما إذ لا معلوم و سميعا إذ لا مسموع. انتهى ما في الكافي.
و رواه الصدوق في باب إثبات حدوث العالم من كتابه في التوحيد بطريقين و كل واحد منهما يشتمل على أكثر مما في الكافي إلا أن ما في الكافي واقع في أثناء الطريق الأول و أما الطريق الثاني فمبتدأ بما في الكافي.
فعلى الثاني قال: حدثنا علي بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق- ره- قال: حدثنا محمد بن أبي عبد الله الكوفي قال: حدثنا محمد بن إسماعيل البرمكي قال:حدثنا الحسين بن الحسن قال: حدثنا عبد الله بن زاهر قال: حدثني الحسين بن يحيى الكوفي قال: حدثني قثم بن قتادة، عن عبد الله بن يونس، عن أبي عبد الله عليه السلام
قال: بينا أمير المؤمنين عليه السلام يخطب على منبر الكوفة إذ قام إليه رجل يقال له ذعلب ذرب اللسان بليغ في الخطاب شجاع القلب- إلى آخر ما في الكافي، إلا أن في التوحيد شائي الأشياء على صورة الفاعل و يمكن أن يكون ما في الكافي أيضا على اسم فاعل منون كرام. و في التوحيد: لا تصحبه الأوقات. ضاد النور بالظلمة و الجسو بالبلل، ليعلم أن لا حجاب بينه و بين خلقه غير خلقه.
و جاء ذيل الحديث بعد قوله و سميعا إذ لا مسموع أبيات على هذا الوجه: ثم أنشأ يقول:
و لم يزل سيدي بالحمد معروفا | و لم يزل سيدي بالجود موصوفا | |
و كنت إذ ليس نور يستضاء به | و لا ظلام على الافاق معكوفا | |
و ربنا بخلاف الخلق كلهم | و كلما كان في الأوهام موصوفا | |
و من يرده على التشبيه ممتثلا | يرجع أخا حصر بالعجز مكتوفا | |
و في المعارج يلقى موج قدرته | موجا يعارض طرف الروح مكفوفا | |
فاترك أخا جدل في الدين منعمقا | قد باشر الشك فيه الرأي موؤفا | |
و اصحب أخا ثقة حبا لسيده | و بالكرامات من مولاه محفوفا | |
أمسى دليل الهدى في الأرض منتشرا | و في السماء جميل الحال معروفا | |
قال: فخر ذعلب مغشيا عليه ثم أفاق و قال: ما سمعت بمثل هذا الكلام و لا أعود إلى شيء من ذلك، انتهى.
أقول: و الأبيات مذكورة في الديوان المنسوب إلى الأمير عليه السلام، و بين النسختين اختلاف في الجملة.
و أما الطريق الأول فالظاهر من التوحيد- إن لم يكن صريحا- أن حديث ذعلب إنما كان من جملة ما قالها عليه السلام في أول خطبة خطب بها الناس على المنبر بعد ما بايعوه.
قال الصدوق- ره-: حدثنا أحمد بن الحسن القطان و علي بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق- ره- قالا: حدثنا أحمد بن يحيى بن زكريا القطان، قال:
حدثنا محمد بن العباس، قال: حدثني محمد بن أبي السرى قال: حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، عن سعد الكناني، عن الأصبغ بن نباتة قال: لما جلس علي عليه السلام الخلافة و بايعه الناس خرج إلى المسجد متعمما بعمامة رسول الله صلى الله عليه و آله، لا بسا بردة رسول الله صلى الله عليه و آله، متنعلا نعل رسول الله صلى الله عليه و آله، متقلدا سيف رسول الله صلى الله عليه و آله فصعد المنبر فجلس عليه متمكنا ثم شبك أصابعه فوضعها أسفل بطنه ثم قال:
يا معاشر الناس سلوني قبل أن تفقدوني هذا سفط العلم هذا لعاب رسول الله صلى الله عليه و آله هذا ما زقني رسول الله زقازقا، سلوني فان عندي علم الأولين و الاخرين، أما و الله لو ثنيت لي الوسادة فجلست عليها لأفتيت لأهل التوراة بتوراتهم حتى تنطق التوراة فتقول: صدق علي ما كذب لقد أفتاكم بما أنزل الله في. و أفتيت أهل الإنجيل بإنجيلهم حتى ينطق الانجيل فيقول: صدق علي ما كذب لقد أفتاكم بما أنزل الله في. و أفتيت أهل القرآن بقرآنهم حتى ينطق القرآن فيقول: صدق علي ما كذب لقد أفتاكم بما أنزل الله في. و أنتم تتلون القرآن ليلا و نهارا فهل فيكم أحد يعلم ما نزل فيه، و لولا آية في كتاب الله لأخبرتكم بما كان و ما يكون و ما هو كائن إلى يوم القيامة و هي هذه الاية يمحوا الله ما يشاء و يثبت و عنده أم الكتاب.
ثم قال: سلوني قبل أن تفقدوني فو الله الذي فلق الحبة و برأ النسمة لو سألتموني عن آية آية في ليل انزلت، أو في نهارا نزلت، مكيها، و مدنيها، سفريها لأخبرتكم.
فقام إليه رجل يقال له: ذعلب و كان ذرب اللسان بليغا في الخطب شجاع القلب فقال: لقد ارتقى ابن أبي طالب مرقاة صعبة لأخجلنه اليوم لكم في مسألتي إياه فقال: يا أمير المؤمنين هل رأيت ربك؟
قال: ويلك يا ذعلب لم أكن بالذي أعبد ربا لم أره قال: فكيف رأيته صفه لنا؟
قال: ويلك يا ذعلب إن ربي لا يوصف بالبعد، و لا بالحركة، و لا بالسكون و لا بالقيام قيام انتصاب، و لا بمجيء و لا ذهاب، لطيف اللطافة لا يوصف باللطف، عظيم العظمة لا يوصف بالعظم، كبير الكبرياء لا يوصف بالكبر، جليل الجلالة لا يوصف بالغلظ، رؤوف الرحمة لا يوصف بالرقة، مؤمن لا بعبادة، مدرك لا بمحسة، قائل لا باللفظ، هو في الأشياء على غير ممازجة، خارج منها على غير مباينة، فوق كل شيء فلا يقال شيء فوقه، و أمام كل شيء و لا يقال له أمام، داخل في الأشياء لا كشيء في شيء داخل، و خارج منها لا كشيء من شيء خارج.
فخر ذعلب مغشيا ثم قال: تالله ما سمعت بمثل هذا الجواب و الله لا عدت إلى مثلها.
ثم قال عليه السلام: سلوني قبل أن تفقدوني.
فقام إليه الأشعث بن قيس فقال: يا أمير المؤمنين كيف يؤخذ من المجوس الجزية و لم ينزل عليهم كتاب و لم يبعث إليهم نبي؟
قال: بلى يا أشعث قد أنزل الله عليهم كتابا، و بعث إليهم رسولا حتى كان لهم ملك سكرذات ليلة فدعا بابنته إلى فراشه فارتكبها، فلما أصبح تسامع به قومه فاجتمعوا إلى بابه فقالوا: أيها الملك دنست علينا ذيننا فأهلكته فاخرج نطهرك و نقيم عليك الحد. فقال لهم: اجتمعوا و اسمعوا كلامي فإن يكن لي مخرج مما ارتكبت و إلا فشأنكم، فاجتمعوا فقال لهم: هل علمتم أن الله لم يخلق خلقا أكرم عليه من أبينا آدم و امنا حواء؟ قالوا: صدقت أيها الملك. قال: أ فليس قد زوج بنيه بناته و بناته من بنيه؟ قالوا: صدقت هذا هو الدين فتعاقدوا على ذلك فمحى الله ما في صدورهم من العلم و رفع عنهم الكتاب، فهم الكفرة يدخلون النار بلا حساب و المنافقون أشد حالا منهم.
قال الأشعث: و الله ما سمعت لمثل هذا الجواب، و الله لاعدت إلى مثلها أبدا.
ثم قال عليه السلام: سلوني قبل أن تفقدوني.
فقام إليه رجل من أقصى المسجد متوكيا على عصاه فلم يزل يتخطى الناس
حتى دنا منه، فقال: يا أمير المؤمنين دلني على عمل إذا أنا عملته نجاني الله من النار.
فقال له: اسمع يا هذا ثم افهم ثم استيقن قامت الدنيا بثلاثة: بعالم ناطق مستعمل لعلمه، و بغني لا يبخل بماله على أهل دين الله، و بفقير صابر. فاذا كتم العالم علمه، و بخل الغني، و لم يصبر الققير فعندها الويل و الثبور، و عندها يعرف العارفون بالله أن الدار قد رجعت إلى بدئها أي الكفر بعد الايمان.
أيها السائل فلا تغترن بكثرة المساجد و جماعة أقوام أجسادهم مجتمعة و قلوبهم شتى.
أيها الناس إنما الناس ثلاثة: زاهد، و راغب، و صابر، فأما الزاهد فلا يفرح بشيء من الدنيا أتاه و لا يحزن على شيء منها فاته، و أما الصابر فيتمناها بقلبه فإن أدرك منها شيئا صرف عنها نفسه لم «لماظ» يعلم من سوء عاقبتها، و أما الراغب فلا يبالي من حل أصابها أم من حرام.
قال له: يا أمير المؤمنين فما علامة المؤمن في ذلك الزمان؟
قال: ينظر إلى ما أوجب الله عليه من حق فيتولاه، و ينظر إلى ما خلفه فيتبرأ منه و إن كان حميما قريبا.
قال: صدقت يا أمير المؤمنين ثم غاب الرجل فلم نره فطلبه الناس فلم يجدوه فتبسم علي عليه السلام على المنبر ثم قال: ما لكم هذا أخي الخضر عليه السلام.
ثم قال: سلوني قبل أن تفقدوني فلم يقم إليه أحد فحمد الله و أثنى عليه و صلى على نبيه صلى الله عليه و آله.
ثم قال للحسن عليه السلام: يا حسن قم فاصعد المنبر فتكلم بكلام لا تجهلك قريش من بعدي فيقولون: إن الحسن بن علي لا يحسن شيئا، قال الحسن عليه السلام: يا أبه كيف أصعد و أ تكلم و أنت في الناس تسمع و ترى؟ قال له: بأبي و امي و أرى «اواري ظ» نفسي عنك و أسمع و أرى و أنت لا تراني.
فصعد الحسن عليه السلام المنبر فحمد الله بمحامد بليغة شريفة و صلى على النبي صلى الله عليه و آله صلاة موجزة ثم قال:
أيها الناس سمعت جدي رسول الله صلى الله عليه و آله يقول: أنا مدينة العلم و علي بابها و هل تدخل المدينة إلا من بابها، ثم نزل، فوثب إليه علي عليه السلام فحمله و ضمه إلى صدره.
ثم قال للحسين عليه السلام: يا بني قم فاصعد المنبر و تكلم بكلام لا تجهلك قريش من بعدي فيقولون: إن الحسين بن علي لا يبصر شيئا، و ليكن كلامك تبعا لكلام أخيك.
فصعد الحسين عليه السلام المنبر فحمد الله و أثنى عليه و صلى على نبيه صلاة موجزة ثم قال:
يا معاشر الناس سمعت رسول الله صلى الله عليه و آله و هو يقول: إن عليا هو مدينة هدى فمن دخله نجى و من تخلف عنها هلك. فوثب إليه علي عليه السلام فضمه إلى صدره و قبله ثم قال: معاشر الناس اشهدوا أنهما فرخا رسول الله وديعته التي استودعنيها، و أنا أستودعكموها، معاشر الناس و رسول الله سائلكم عنهما. انتهى ما في التوحيد.
و روى هذا الطريق في أول المجلس الخامس و الخمسين من أماليه بهذا الاسناد في التوحيد.
و اعلم أن كلامه عليه السلام في جواب ذعلب مذكور في النهج أيضا، و هو الكلام 177 من باب الخطب أوله: و من كلامه عليه السلام و قد سأله ذعلب اليماني فقال: هل رأيت ربك يا أمير المؤمنين؟ فقال عليه السلام: أ فأعبد ما لا أرى، قال: و كيف تراه- إلخ.
لكن ما في النهج يكون قريبا من ثلث ما في الكافي و التوحيد، على أن نسخة النهج لا يوافقهما في الألفاظ و العبارات و بينهما تفاوت إلا في صدر الرواية حيث قال عليه السلام:
لا تدركه العيون بمشاهدة العيان و لكن تدركه القلوب بحقائق الايمان. و أما سائر كلامه هذا ليس بمذكور في النهج إلا أن قوله عليه السلام: قامت الدنيا بثلاثة: بعالم ناطق مستعمل علمه- إلخ، شبيه بقوله عليه السلام لجابر بن عبد الله الأنصاري: يا جابر قوام الدنيا بأربعة: عالم مستعمل علمه- إلخ، و هو الحكمة 372 من باب المختار من حكمه عليه السلام من النهج.
تنبيه :
قد قدمنا في شرح المختار الأول من كتبه عليه السلام (ص 357 ج 2 من تكملة المنهاج) اختلاف الأقوال في أول خطبة خطبها عليه السلام بعد ما بويع له بالخلافة و قد حققنا هنا لك أن الخطب: 21 و 28 و 166 و 176 من النهج كانت جميعا خطبة واحدة، فبما نقلنا من رواية التوحيد ههنا علمت أن كلامه في جواب ذعلب أي ذلك الكلام 177 من باب الخطب أيضا كان منها، و أن الجميع مما قالها في جلسة واحدة حين صعد المنبر بعد ما بويع له عليه السلام بالخلافة.
و روى الكليني في ذلك الباب من الكافي حديثا عن أبي جعفر عليه السلام وقع بينه و بين رجل من الخوارج مثل ما وقع بين أمير المؤمنين عليه السلام و ذعلب فأجاب الرجل بما يقرب من كلام أمير المؤمنين عليه السلام.
قال: علي بن إبراهيم عن أبيه، عن علي بن معبد، عن عبد الله بن سنان، عن أبيه قال: حضرت أبا جعفر عليه السلام فدخل عليه رجل من الخوارج فقال: يا با جعفر أي شيء تعبد؟ قال: الله، قال: رأيته؟ قال: بلى لم تره العيون بمشاهدة الأبصار و لكن رأته القلوب بحقائق الايمان، لا يعرف بالقياس، و لا يدرك بالحواس، و لا يشبه بالناس، موصوف بالايات، معروف بالعلامات، لا يجور في حكمه، ذلك الله لا إله إلا هو، قال: فخرج الرجل و هو يقول: الله أعلم حيث يجعل رسالته. انتهى.
و رواه الصدوق في المجلس السابع و الأربعين من أماليه و في باب ما جاء في الرؤية من التوحيد أيضا. و أبو جعفر هذا هو محمد بن علي الباقر عليه السلام لا الامام التاسع بقرينة رواية سنان عنه عليه السلام صرح به في اسناد الأمالي حيث قال: عن عبد الله بن سنان عن أبيه قال: حضرت أبا جعفر محمد بن علي الباقر عليه السلام.
قال الصدوق في التوحيد بعد نقل حديث ذعلب: في هذا الخبر ألفاظ قد ذكرها الرضا عليه السلام في خطبته، و هذا تصديق قولنا في الأئمة عليهم السلام أن علم كل واحد منهم مأخوذ عن أبيه حتى يتصل ذلك بالنبي صلى الله عليه و آله. انتهى قوله رحمه الله.
أقول: إن ما يجب أن يعتقد و يذعن فيهم عليهم السلام أن علمهم من معدن واحد لا يخالفون الحق و لا يختلفون فيه، و لقد أجاد الصدوق رحمه الله بما أفاد، و لكن ذلك الحديث المروي في الكافي عن أبي جعفر عليه السلام منسوب إلى أمير المؤمنين عليه السلام على نسق واحد.
روى الطبرسي في كتاب الاحتجاج في باب احتجاج أمير المؤمنين عليه السلام فيما يتعلق بتوحيد الله و تنزيهه عما لا يليق به ما هذا لفظه:
و روى أهل السير أن رجلا جاء إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن الله أ رأيته حين عبدته؟ فقال له أمير المؤمنين: لم أك بالذي أعبد من لم أره، فقال له: كيف رأيته يا أمير المؤمنين؟ فقال له: ويحك لم تره العيون بمشاهدة العيان، و لكن رأته العقول بحقائق الايمان، معروف بالدلالات، منعوت بالعلامات لا يقاس بالناس، و لا يدرك بالحواس، فانصرف الرجل و هو يقول: الله أعلم حيث يجعل رسالته، انتهى.
و الناقد في الأحاديث يرى أن ذينك الحديثين واحد قاله أحدهما عليهما السلام و وقعت تلك الواقعة لأحدهما و تعددت من سهو الراوي فتأمل و الله تعالى أعلم.
أما بيان الحديث فيجوز قراءة الأبصار بالفتح و الكسر، فعلى الأول جمع و على الثاني مصدر، و في نسختي النهج و الاحتجاج بمشاهدة العيان، و المراد بالقلوب العقول. كما في الاحتجاج، و قد بينا في شرح المختار 237 من باب الخطب أن المراد من القلب في الايات و الأخبار و اصطلاح الإلهيين هو اللطيفة القدسية الربانية التي يعبر عنها بالقوة العقلية، لا الجسم اللحمي الصنوبري.
قوله عليه السلام: لا تدركه العيون في مشاهدة الأبصار. قد عرفت في شرح الأحاديث المتقدمة أن ما تدركه الأبصار لا بد من أن يكون جسما ذا ضوء و لون، و ما يقبل الضوء و اللون لا بد من أن يكون كثيفا، فلزم من رؤيته تعالى بالأبصار كونه جسما، و الجسم مركب حادث ذو جهة و وضع، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
و أما قوله: و لكن رأته القلوب بحقائق الايمان فاعلم أن السائل الحبر لما سأله عليه السلام هل رأيت ربك حين عبدته و أجابه عليه السلام ما كنت أعبد ربا لم أره، حمل الرؤية على الرؤية بالعين، لأن المرتكز عند عامة الناس إنما تكون الرؤية بهذا المعنى لأنهم يتبادرون إلى الأحكام التي تحس بمحسة لحشرهم معها و انسهم بها.
و أما التوجه إلى ما وراء الطبيعة و السير إلى باطن عالم الشهود بقدم المعرفة فلا تيسر لهم إلا بعد تنبيه و ايقاظ و إرشاد، و لما رأى عليه السلام أنه حمل الرؤية على ذلك بين له أن المراد من الرؤية هو الرؤية القلبية لا العينية، و قال عليه السلام رأته القلوب بحقائق الإيمان.
و أما الرؤية القلبية بحقائق الايمان فلابد من أن نمهد مقدمة في بيانه كي يتضح المراد و هي:أن حقيقته تعالى غير معلومة لأحد بالعلم الحصولي الصوري كما أنها غير معلومة لأحد أيضا بالعلم الاكتناهي أعني إحاطته تعالى بالعقل أو الحس أو بغيرهما من القوى المدركة، و اتفق على امتناع ذينك العلمين به تعالى الحكماء الالهيون و العرفاء الشامخون.
أما الأول فلأن العلم الحصولي به تعالى إنما يتمشي فيما له ماهية حتى يصح تعدد أنحاء الوجود لتلك الماهية فيحصل نحو من وجوده في الأذهان، و العلم الحصولي هو حصول صورة الشيء و ارتسامه في الذهن، و العلم بالشيء ليس إلا نحو وجوده لدى الذات العاقلة المجردة، فهذا الوجود الذهني نحو من وجود ذلك الشيء الخارجي، غاية الأمر أن للذهني بالنسبة إلى الخارجي تجردا ما، و لكن الواجب تعالى لما كان حقيقته وجوده العيني الخاص و تعينه عين ذاته و إنيته ماهيته لا يتطرق إليه التعدد و الكثرة، فلا يرتسم في الذهن، فلا يكون معلوما لأحد بالعلم الحصولي.
و أما الثاني فلأن ما سواه معلول له، و أنى للمعلول أن يحيط بعلته و هو دونها و شأن من شئونها، و هو تعالى لشدة نورية وجوده الغير المتناهي العيني الخاص به و نهاية كماله وسعة عظمته و قاهرية ذاته و تسلطه على من سواه حجب العقول المجردة و النفوس الكاملة، فضلا عن الأوهام و الأبصار عن الإحاطة به و اكتناه ذاته لقصورها و فتورها.
و في الحديث: إن الله قد احتجب عن العقول كما احتجب عن الأبصار، و أن الملأ الأعلى يطلبونه كما تطلبونه أنتم و في الكتاب الإلهي لا يحيطون به علما و عنت الوجوه للحي القيوم (طه- 110) و العلم به تعالى على ما هو عليه مختص به.
سبحان من تحير في ذاته سواه | فهم خرد بكنه كمالش نبرده راه | |
از ما قياس ساحت قدسش بود چنانك | مورى كند مساحت گردون ز قعر چاه | |
و كما أن أبصارنا عاجزة عن أن تملأ من نور الشمس المشرقة و عن إحاطة الرؤية بها و اكتناهها، كذلك بصيرتنا عن اكتناه ذاته تعالى.
على أن هذا التمثيل للتقريب، كيف؟ و هو تعالى أجل و أعلى عن التشبيه و التمثيل و القياس بمخلوقاته و لله المثل الأعلى و هو العزيز الحكيم (النحل- 61).
اى برون از وهم و قال و قيل من | خاك بر فرق من و تمثيل من | |
نكتة:
فاذا كان الأبصار عاجزة عن أن تملأها من نور الشمس المشرقة فما ظنك برؤية من هو في شدة نوريته فوق ما لا يتناهى بما لا يتناهى.
و قد روى في ذلك الكليني في باب إبطال الرؤية من جامعه الكافي و الصدوق في باب ما جاء في الرؤية من كتابه في التوحيد عن أحمد بن ادريس، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان بن يحيى، عن عاصم بن حميد، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ذاكرت أبا عبد الله عليه السلام فيما يروون من الرؤية، فقال: الشمس جزء من سبعين جزءا من نور الكرسي، و الكرسي جزء من سبعين جزءا من نور العرش، و العرش جزء من سبعين جزءا من نور الحجاب، و الحجاب جزء من سبعين جزءا من نور الستر، فان كانوا صادقين فليملئوا أعينهم من الشمس ليس دونها سحاب.
فاذا ساقنا البرهان إلى أن العلم به تعالى حصوليا و اكتناهيا محال، فلا جرم يكون المراد من الرؤية القلبية بحقائق الايمان غير هذين النحوين من العلم بل هي طور آخر أدق و ألطف و هو:أن الرؤية القلبية به تعالى هي الكشف التام الحضوري و شهوده تعالى للعبد على مقدار تقربه منه تعالى بقدم المعرفة و درج معارف العقل و عقائد حقانية برهانية، فإنه عز و جل يتجلى للعبد بقدر و عائه الوجودي، لأنه رب العباد و الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق، و هم في وجودهم و بقائهم في جميع الأحوال و العوالم ربط محض و فقر صرف، و الأول تعالى لا ينفك فيضه عليهم طرفة عين، و يفيض عليهم على مقدار قابليتهم و سعة وجودهم و تقربهم، و العارف السالك يشهده على مقدار حقائق ايمانه لا بالكنه، و هذا الشهود الوجودي و الانكشاف التام الحضوري ذو درجات يرفع الله الذين آمنوا منكم و الذين أوتوا العلم درجات (المجادلة- 12).
و تنتهي هذه الدرجات إلى مرتبة يقول العبد السالك النائل بها على لسان صدق و قول حق: لو كشف الغطاء لما ازددت يقينا.
قال يعقوب بن إسحاق الكندي فيلسوف العرب: إذا كانت العلة الاولى متصلة بنا لفيضه علينا و كنا غير متصلين به إلا من جهته، فقد يمكن فينا ملاحظته على قدر ما يمكن للمفاض عليه أن يلاحظ المفيض، فيجب أن لا ينسب قدر إحاطته بنا إلى قدر ملاحظتنا له، لأنها أغزر و أوفر و أشد استغراقا.
و قال المحقق الشهرزوري في الشجرة الإلهية: الواجب لذاته أجمل الأشياء و أكملها، لأن كل جمال و كمال رشح و فيض و ظل من جماله و كماله، فله الجلال الأرفع، و النور الأقهر، فهو محتجب بكمال نوريته و شدة ظهوره، و الحكماء المتألهون العارفون به يشهدونه لا بالكنه، لأن شدة ظهوره و قوة لمعانه و ضعف ذواتنا المجردة النورية يمنعنا عن مشاهدته بالكنه كما منع شدة ظهور الشمس و قوة نورها أبصارنا اكتناهها، لأن شدة نوريتها حجابها، و نحن نعرف الحق الأول و نشاهده، لكن لا نحيط به علما كما ورد في الوحي الإلهي «و لا يحيطون به علما و عنت الوجوه للحي القيوم». نقلهما صدر المتألهين عنهما في الفصل الثالث من المنهج الثاني من أول الأسفار.
و المراد من حقائق الايمان مراتبه لأن الايمان به في كل مرتبة كان حقيقة و عقيدة حقة.
فان قول الأعرابي حيث سئل عن الدليل علي وجود الصانع: البعرة تدل على البعير و آثار الأقدام تدل على المسير، أ فسماء ذات أبراج و أرض ذات فجاج لا تدل على وجود اللطيف الخبير، مرتبة من مراتب الايمان، و هو استدلال بالاثار المحوجة إلى السبب الدال على وجوده تعالى، و هو اعتقاد صدق و ايمان حق.
و قد سلك هذا المسلك أمير المؤمنين عليه السلام في مقام إرشاد من كان وعاء عقله يقتضي هذا القدر من الخطاب بقوله: البعرة تدل على البعير، و الروثة تدل على الحمير و آثار الأقدام تدل على المسير فهيكل علوي بهذه اللطافة، و مركز ثفلي بهذه الكثافة كيف لا يدلان على اللطيف الخبير؟.
و كأن قول الأعرابي مأخوذ من كلامه عليه السلام كما أشار إليه السيد نعمة الله الجزائري في تعليقته على أول كتابه الموسوم بالأنوار النعمانية.
و استدلال المتكلمين بحدوث الأجسام و الأعراض على وجود الخالق و بالنظر في أحوال الخليقة على صفاته تعالى واحدة فواحدة أيضا مرتبة من الإيمان، و هذه المرتبة حقيقة من حقائق الإيمان.
و هذا طريق إبراهيم الخليل عليه السلام في مقام هداية العباد، فانه استدل بالافول الذي هو الغيبة المستلزمة للحركة المستلزمة للحدوث المستلزم لوجود الصانع تعالى.
و ما استدل به الحكماء الطبيعيون من وجود الحركة على محرك، و بامتناع اتصال المحركات لا إلى نهاية على وجود محرك أول غير متحرك، ثم استدلوا من ذلك على وجود مبدء أول أيضا حقيقة من حقائق الايمان و مرتبة من مراتبه و ما استدل به طائفة اخرى من الإلهيين كالعرفاء الشامخين من ذاته على ذاته من غير الاستعانة بابطال الدور و التسلسل، أعني برهان الصديقين حق و حقيقة من مراتب حقائق الايمان. و اشير إليه في الكتاب الإلهي سنريهم آياتنا في الآفاق و في أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أ و لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد (فصلت- 55) فعرفوا بذاته ذاته و وحدانيته شهد الله أنه لا إله إلا هو، و بذاته عرفوا غيره، أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد.
و اعلم أن أظهر الموجودات و أجلاها عند أهل البصيرة هو الله تعالى، و يستدلون بذاته على وجود غيره لا بالعكس كما هو دأب من لم يصل إلى تلك المرتبة العلياء و قد نطق ببرهان الصديقين على أوضح بيان إمام الموحدين سيد الشهداء أبو عبد الله الحسين عليه السلام في دعاء عرفة: كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك، أ يكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك، متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك، و متى بعدت حتى تكون الاثار هي التي توصل إليك- إلخ.
و نعم قال العارف الشبستري:
رهي نادان كه او خورشيد تابان | ز نور شمع جويد در بيابان | |
و لا يخفى أن أتم مراتب الإيمان و حقائقه هذه المرتبة الأخيرة، و هي أيضا بحسب مراتب العرفان متفاوتة، و قد كان الفائزون بهذه الرتبة العلياء و النائلون بهذه النعمة العظمى يكتمونها عن غير أهلها مخافة أن تزل أقدام لم تسلك منازل السائرين، و تضطرب أحلام لم ترق إلى مقامات العارفين.
قد روى الشيخ الجليل السعيد الصدوق قدس سره في باب ما جاء في الرؤية من كتابه في التوحيد حديثا في ذلك.
قال: حدثنا علي بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق، قال: حدثنا محمد بن أبي عبد الله الكوفي، قال: حدثنا موسى بن عمران النخعي، عن الحسين بن يزيد النوفلي، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت له:أخبرني عن الله عز و جل هل يراه المؤمنون يوم القيامة؟ قال: نعم و قد رأوه قبل يوم القيامة. فقلت: متى؟ قال: حين قال لهم: أ لست بربكم قالوا بلى (الأعراف 173) ثم سكت ساعة ثم قال: إن المؤمنين ليرونه في الدنيا قبل يوم القيامة أ لست تراه في وقتك هذا؟ قال أبو بصير: فقلت له: جعلت فداك فاحدث بهذا عنك؟
فقال: لا فانك إذا حدثت به فأنكره منكر جاهل بمعنى ما نقوله ثم قدر أن ذلك تشبيه كفر، و ليست الرؤية بالقلب كالرؤية بالعين، تعالى الله عما يصفه المشبهون و الملحدون.
بيان: قوله: فاحدث جملة استفهامية أو أن أداة الاستفهام محذوفة أي أفاحدث بهذا عنك؟.
و قوله عليه السلام: كفر، فعل ماض جزاء للشرط أعني إذا حدثت به. و المراد بالكفر، الكفر بأهل البيت عليهم السلام، لأن الجاهل بذلك المعنى الرقيق الذي أشار إليه الامام عليه السلام يعتقد أنهم عليهم السلام قائلون بالتشبيه المحال.
و في الفتح الرابع من الفاتحة الاولى من شرح الميبدي على الديوان المنسوب إلى الأمير عليه السلام أبيات منسوبة إلى الإمام السجاد عليه السلام أنه قال:
إني لأكتم من علمي جواهره | كيلا يرى الحق ذو جهل فيفتنا | |
و قد تقدم في هذا أبو حسن | إلى الحسين و وصى قبله الحسنا | |
و رب جوهر علم لو أبوح به | لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا | |
و لا ستحل رجال مسلمون دمي | يرون أقبح ما يأتونه حسنا | |
أو المراد بالكفر، الكفر بالله باعتقاد تشبيهه تعالى بسائر المرئيات بالأبصار كما مر في الحديث الأول عن أبي الحسن الثالث عليه السلام أن الرائي متى ساوى المرئي في السبب الموجب بينهما في الرؤية وجب الاشتباه و كان ذلك التشبيه، و كأن الكفر بهذا المعنى أنسب بسياق العبارة.
و بما حققنا دريت أن معنى الرؤية القلبية هو الانكشاف التام الحضوري الذي شهد على صحته العقل و النقل، و أن الرؤية البصرية على أي نحو كانت محالة في حقه تعالى بشهادة العقل و النقل أيضا.
فقد أخطأ من فسر قوله تعالى: ما كذب الفؤاد ما رأى (النجم- 12) بقوله: إن الله تعالى جعل بصر رسول الله في فؤاده أو خلق لفؤاده بصرا حتى رآه تعالى رؤية العين. و نسب هذا الرأي إلى النواوي من العامة.
و يرد عليه جميع ما يرد على إدراكه تعالى بالعين، لأن الإدراك البصري محال فيه تعالى سواء كانت قوة الإبصار في هذه البنية المخصوصة أعني العين أو في غيرها، و جعل العين في القلب لا يخرج الرؤية عن الإدراك البصري و لا يدخلها في الرؤية القلبية، بل هي رؤية بصرية بلا كلام.
مثلا رؤيتنا زيدا في المنام و إن لم تكن بعين الرأس لكن ما يعتبر فيها حالة اليقظة معتبر في المنام أيضا، فزيد المرئي في المنام محدود ذو جهة مسامت للرائي فرؤيته في المنام بغير هذه المحسة أعني عين الرأس لا تخرج عن أحكام الرؤية العينية و لا تدخل في الرؤية القلبية المجردة عن أوصاف الجسم.
و لو أراد هذا القائل من كلامه ذلك المعنى اللطيف الصحيح الذي بيناه آنفا فنعم الوفاق و لكن صرح غير واحد بأنه لم يرده، و لفظه يأبى عن حمله عليه.
و دريت أيضا أن الذين ذهبوا إلى عكس ما ذهب إليه النواوي أي إلى جواز أن يحول الله تعالى قوة القلب إلى العين فيعلم الله تعالى بها فيكون ذلك الادراك علما باعتبار أنه بقوة القلب، و رؤية باعتبار أنه قد وقع بالمعنى الحال في العين سلكوا طريقة عمياء أيضا، و يرد عليهم الإيراد من وجوه رأينا الاعراض عنها أجدر.
و لما كان هذا البحث الحكمي العقلي حاويا لتلك النكات الأنيقة و المطالب الرقيقة، أكثرها كان مستفادا من كلمات الأئمة الهداة عليهم السلام، رأينا أن نشير إليها على حسب ما يقتضي المقام، و لعمري من ساعده التوفيق و أخذت الفطانة بيده اغتنم ذلك البحث العقلي الجامع لكثير من ضوابط عقلية تزيده بصيرة و رقيا في معرفة الله تعالى و فقها في الأخبار المروية في الرؤية و غيرها مما يغتر المنتسبون إلى العلم بظاهرها. الحمد لله الذي هدانا لهذا و ما كنا لنهتدي لو لا أن هدانا الله .
الترجمة
اين نامه ايست كه امير المؤمنين علي عليه السلام بجرير بن عبد الله بجلي گاهى كه او را بسوى معاويه گسيل داشت تا از وى بيعت بگيرد، نوشت.
معاويه در بيعت با آن بزرگوار به تسويف و مماطله مى گذرانيد و ببهانه هاى بيجا امروز و فردا مى كرد، و بدين سبب جرير مدتى دراز در شام سرگردان بود و أمير المؤمنين عليه السلام چون ديد كه معاويه در أمر بيعت دو دل است و به لعل و عسى روزگار مى گذراند اين نامه را بجرير نوشت:
أما بعد اى جرير برسيدن نامه ام، معاويه را وادار كه قبول بيعت يا امتناع آنرا يكسره كند، و فرا گيرش كه در إطاعت يا عصيان بجزم سخن گويد، پس او را ميان كارزارى كه آواره اش كند، و يا گردن نهادني كه ارجش دهد و بهره اش رساند[1]، مخير گردان. اگر كارزار را بر گزيد عهد أمان بسويش افكن و اعلام جنگ در ده، و اگر بصلح گرايد بيعت از وى بستان. و السلام.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی
__________________________________________________________
[1] ( 1)- نقل 29 فرقا فيما اختلف فيها المجتهدون و الاخباريون من كتاب السماهيجى الموسوم بمنية الممارسين لا يخلو من فائدة فراجع،.