خطبه 198 صبحی صالح
198- و من خطبة له ( عليه السلام ) ينبه على إحاطة علم اللّه بالجزئيات، ثم يحث على التقوى، و يبين فضل الإسلام و القرآن
يَعْلَمُ عَجِيجَ الْوُحُوشِ فِي الْفَلَوَاتِ وَ مَعَاصِيَ الْعِبَادِ فِي الْخَلَوَاتِ وَ اخْتِلَافَ النِّينَانِ فِي الْبِحَارِ الْغَامِرَاتِ وَ تَلَاطُمَ الْمَاءِ بِالرِّيَاحِ الْعَاصِفَاتِ وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً نَجِيبُ اللَّهِ وَ سَفِيرُ وَحْيِهِ وَ رَسُولُ رَحْمَتِهِ
الوصية بالتقوى
أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ الَّذِي ابْتَدَأَ خَلْقَكُمْ وَ إِلَيْهِ يَكُونُ مَعَادُكُمْ وَ بِهِ نَجَاحُ طَلِبَتِكُمْ وَ إِلَيْهِ مُنْتَهَى رَغْبَتِكُمْ وَ نَحْوَهُ قَصْدُ سَبِيلِكُمْ وَ إِلَيْهِ مَرَامِي مَفْزَعِكُمْ
فَإِنَّ تَقْوَى اللَّهِ دَوَاءُ دَاءِ قُلُوبِكُمْ وَ بَصَرُ عَمَى أَفْئِدَتِكُمْ وَ شِفَاءُ مَرَضِ أَجْسَادِكُمْ وَ صَلَاحُ فَسَادِ صُدُورِكُمْ وَ طُهُورُ دَنَسِ أَنْفُسِكُمْ وَ جِلَاءُ عَشَا أَبْصَارِكُمْوَ أَمْنُ فَزَعِ جَأْشِكُمْ وَ ضِيَاءُ سَوَادِ ظُلْمَتِكُمْ
فَاجْعَلُوا طَاعَةَ اللَّهِ شِعَاراً دُونَ دِثَارِكُمْ وَ دَخِيلًا دُونَ شِعَارِكُمْ وَ لَطِيفاً بَيْنَ أَضْلَاعِكُمْ وَ أَمِيراً فَوْقَ أُمُورِكُمْ
وَ مَنْهَلًا لِحِينِ وُرُودِكُمْ وَ شَفِيعاً لِدَرَكِ طَلِبَتِكُمْ وَ جُنَّةً لِيَوْمِ فَزَعِكُمْ وَ مَصَابِيحَ لِبُطُونِ قُبُورِكُمْ وَ سَكَناً لِطُولِ وَحْشَتِكُمْ وَ نَفَساً لِكَرْبِ مَوَاطِنِكُمْ
فَإِنَّ طَاعَةَ اللَّهِ حِرْزٌ مِنْ مَتَالِفَ مُكْتَنِفَةٍ وَ مَخَاوِفَ مُتَوَقَّعَةٍ وَ أُوَارِ نِيرَانٍ مُوقَدَةٍ
فَمَنْ أَخَذَ بِالتَّقْوَى عَزَبَتْ عَنْهُ الشَّدَائِدُ بَعْدَ دُنُوِّهَا وَ احْلَوْلَتْ لَهُ الْأُمُورُ بَعْدَ مَرَارَتِهَا وَ انْفَرَجَتْ عَنْهُ الْأَمْوَاجُ بَعْدَ تَرَاكُمِهَا وَ أَسْهَلَتْ لَهُ الصِّعَابُ بَعْدَ إِنْصَابِهَا
وَ هَطَلَتْ عَلَيْهِ الْكَرَامَةُ بَعْدَ قُحُوطِهَا. وَ تَحَدَّبَتْ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ بَعْدَ نُفُورِهَا وَ تَفَجَّرَتْ عَلَيْهِ النِّعَمُ بَعْدَ نُضُوبِهَا وَ وَبَلَتْ عَلَيْهِ الْبَرَكَةُ بَعْدَ إِرْذَاذِهَا
فَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي نَفَعَكُمْ بِمَوْعِظَتِهِ وَ وَعَظَكُمْ بِرِسَالَتِهِ وَ امْتَنَّ عَلَيْكُمْ بِنِعْمَتِهِ فَعَبِّدُوا أَنْفُسَكُمْ لِعِبَادَتِهِ وَ اخْرُجُوا إِلَيْهِ مِنْ حَقِّ طَاعَتِهِ
فضل الإسلام
ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْإِسْلَامَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي اصْطَفَاهُ لِنَفْسِهِ وَ اصْطَنَعَهُ عَلَى عَيْنِهِ وَ أَصْفَاهُ خِيَرَةَ خَلْقِهِ وَ أَقَامَ دَعَائِمَهُ عَلَى مَحَبَّتِهِ
أَذَلَّ الْأَدْيَانَبِعِزَّتِهِ وَ وَضَعَ الْمِلَلَ بِرَفْعِهِ وَ أَهَانَ أَعْدَاءَهُ بِكَرَامَتِهِ وَ خَذَلَ مُحَادِّيهِ بِنَصْرِهِ وَ هَدَمَ أَرْكَانَ الضَّلَالَةِ بِرُكْنِهِ وَ سَقَى مَنْ عَطِشَ مِنْ حِيَاضِهِ وَ أَتْأَقَ الْحِيَاضَ بِمَوَاتِحِهِ
ثُمَّ جَعَلَهُ لَا انْفِصَامَ لِعُرْوَتِهِ وَ لَا فَكَّ لِحَلْقَتِهِ وَ لَا انْهِدَامَ لِأَسَاسِهِ وَ لَا زَوَالَ لِدَعَائِمِهِ وَ لَا انْقِلَاعَ لِشَجَرَتِهِ وَ لَا انْقِطَاعَ لِمُدَّتِهِ وَ لَا عَفَاءَ لِشَرَائِعِهِ
وَ لَا جَذَّ لِفُرُوعِهِ وَ لَا ضَنْكَ لِطُرُقِهِ وَ لَا وُعُوثَةَ لِسُهُولَتِهِ وَ لَا سَوَادَ لِوَضَحِهِ وَ لَا عِوَجَ لِانْتِصَابِهِ وَ لَا عَصَلَ فِي عُودِهِ وَ لَا وَعَثَ لِفَجِّهِ وَ لَا انْطِفَاءَ لِمَصَابِيحِهِ وَ لَا مَرَارَةَ لِحَلَاوَتِهِ
فَهُوَ دَعَائِمُ أَسَاخَ فِي الْحَقِّ أَسْنَاخَهَا وَ ثَبَّتَ لَهَا آسَاسَهَا وَ يَنَابِيعُ غَزُرَتْ عُيُونُهَا وَ مَصَابِيحُ شَبَّتْ نِيرَانُهَا وَ مَنَارٌ اقْتَدَى بِهَا سُفَّارُهَا وَ أَعْلَامٌ قُصِدَ بِهَا فِجَاجُهَا وَ مَنَاهِلُ رَوِيَ بِهَا وُرَّادُهَا.
جَعَلَ اللَّهُ فِيهِ مُنْتَهَى رِضْوَانِهِ وَ ذِرْوَةَ دَعَائِمِهِ وَ سَنَامَ طَاعَتِهِ فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ وَثِيقُ الْأَرْكَانِ رَفِيعُ الْبُنْيَانِ مُنِيرُ الْبُرْهَانِ مُضِيءُ النِّيرَانِ عَزِيزُ السُّلْطَانِ مُشْرِفُ الْمَنَارِ مُعْوِذُ الْمَثَارِ
فَشَرِّفُوهُ وَ اتَّبِعُوهُ وَ أَدُّوا إِلَيْهِ حَقَّهُ وَ ضَعُوهُ مَوَاضِعَهُ
الرسول الأعظم
ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّداً ( صلى الله عليه وآله )بِالْحَقِحِينَ دَنَا مِنَ الدُّنْيَا الِانْقِطَاعُ وَ أَقْبَلَ مِنَ الْآخِرَةِ الِاطِّلَاعُ وَ أَظْلَمَتْ بَهْجَتُهَا بَعْدَ إِشْرَاقٍ وَ قَامَتْ بِأَهْلِهَا عَلَى سَاقٍ وَ خَشُنَ مِنْهَا مِهَادٌ
وَ أَزِفَ مِنْهَا قِيَادٌ فِي انْقِطَاعٍ مِنْ مُدَّتِهَا وَ اقْتِرَابٍ مِنْ أَشْرَاطِهَا وَ تَصَرُّمٍ مِنْ أَهْلِهَا وَ انْفِصَامٍ مِنْ حَلْقَتِهَا وَ انْتِشَارٍ مِنْ سَبَبِهَا وَ عَفَاءٍ مِنْ أَعْلَامِهَا وَ تَكَشُّفٍ مِنْ عَوْرَاتِهَا وَ قِصَرٍ مِنْ طُولِهَا
جَعَلَهُ اللَّهُ بَلَاغاً لِرِسَالَتِهِ وَ كَرَامَةً لِأُمَّتِهِ وَ رَبِيعاً لِأَهْلِ زَمَانِهِ وَ رِفْعَةً لِأَعْوَانِهِ وَ شَرَفاً لِأَنْصَارِهِ
القرآن الكريم
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ نُوراً لَا تُطْفَأُ مَصَابِيحُهُ وَ سِرَاجاً لَا يَخْبُو تَوَقُّدُهُ وَ بَحْراً لَا يُدْرَكُ قَعْرُهُ وَ مِنْهَاجاً لَا يُضِلُّ نَهْجُهُ وَ شُعَاعاً لَا يُظْلِمُ ضَوْءُهُ
وَ فُرْقَاناً لَا يُخْمَدُ بُرْهَانُهُ وَ تِبْيَاناً لَا تُهْدَمُ أَرْكَانُهُ وَ شِفَاءً لَا تُخْشَى أَسْقَامُهُ وَ عِزّاً لَا تُهْزَمُ أَنْصَارُهُ وَ حَقّاً لَا تُخْذَلُ أَعْوَانُهُ
فَهُوَ مَعْدِنُ الْإِيمَانِ وَ بُحْبُوحَتُهُ وَ يَنَابِيعُ الْعِلْمِ وَ بُحُورُهُ وَ رِيَاضُ الْعَدْلِ وَ غُدْرَانُهُ وَ أَثَافِيُّ الْإِسْلَامِ وَ بُنْيَانُهُ وَ أَوْدِيَةُ الْحَقِّ وَ غِيطَانُهُ
وَ بَحْرٌ لَا يَنْزِفُهُ الْمُسْتَنْزِفُونَ وَ عُيُونٌ لَا يُنْضِبُهَا الْمَاتِحُونَ وَ مَنَاهِلُ
لَا يَغِيضُهَا الْوَارِدُونَ وَ مَنَازِلُ لَا يَضِلُّ نَهْجَهَا الْمُسَافِرُونَ وَ أَعْلَامٌ لَا يَعْمَى عَنْهَا السَّائِرُونَ وَ آكَامٌ لَا يَجُوزُ عَنْهَا الْقَاصِدُونَ
جَعَلَهُ اللَّهُ رِيّاً لِعَطَشِ الْعُلَمَاءِ وَ رَبِيعاً لِقُلُوبِ الْفُقَهَاءِ وَ مَحَاجَّ لِطُرُقِ الصُّلَحَاءِ وَ دَوَاءً لَيْسَ بَعْدَهُ دَاءٌ وَ نُوراً لَيْسَ مَعَهُ ظُلْمَةٌ وَ حَبْلًا وَثِيقاً عُرْوَتُهُ وَ مَعْقِلًا مَنِيعاً ذِرْوَتُهُ
وَ عِزّاً لِمَنْ تَوَلَّاهُ وَ سِلْماً لِمَنْ دَخَلَهُ وَ هُدًى لِمَنِ ائْتَمَّ بِهِ وَ عُذْراً لِمَنِ انْتَحَلَهُ وَ بُرْهَاناً لِمَنْ تَكَلَّمَ بِهِ وَ شَاهِداً لِمَنْ خَاصَمَ بِهِ وَ فَلْجاً لِمَنْ حَاجَّ بِهِ
وَ حَامِلًا لِمَنْ حَمَلَهُ وَ مَطِيَّةً لِمَنْ أَعْمَلَهُ وَ آيَةً لِمَنْ تَوَسَّمَ وَ جُنَّةً لِمَنِ اسْتَلْأَمَ وَ عِلْماً لِمَنْ وَعَى وَ حَدِيثاً لِمَنْ رَوَى وَ حُكْماً لِمَنْ قَضَى
شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج12
و من خطبة له عليه السّلام و هى المأة و السابعة و التسعون من المختار فى باب الخطب
و شرحها في فصول ثلاثة:
الفصل الاول
يعلم عجيج الوحوش في الفلوات، و معاصي العباد في الخلوات، و اختلاف النّينان في البحار الغامرات، و تلاطم الماء بالرّياح العاصفات، و أشهد أنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله نجيب اللّه و سفير وحيه، و رسول رحمته. أمّا بعد فإنّي أوصيكم بتقوى اللّه الّذي ابتدء خلقكم، و إليه يكون معادكم، و به نجاح طلبتكم، و إليه منتهى رغبتكم، و نحوه قصد سبيلكم، و إليه مرامي مفزعكم، فإنّ تقوى اللّه دواء داء قلوبكم، و بصر عمى أفئدتكم، و شفاء مرض أجسادكم، و صلاح فساد صدوركم و طهور دنس أنفسكم، و جلاء غشاء أبصاركم، و أمن فزع جاشكم، و ضياء سواد ظلمتكم.
فاجعلوا طاعة اللّه شعارا دون دثاركم، و دخيلا دون شعاركم، و لطيفا بين أضلاعكم، و أميرا فوق أموركم، و منهلا لحين ورودكم، و شفيعا لدرك طلبتكم، و جنّة ليوم فزعكم، و مصابيح لبطون قبوركم، و سكنا لطول وحشتكم، و نفسا لكرب مواطنكم. فإنّ طاعة اللّه حرز من متالف مكتنفة، و مخاوف متوقّعة، و أوار نيران موقدة، فمن أخذ بالتّقوى غربت «عزبت خ» عنه الشّدايد بعد دنوّها، و احلولت له الامور بعد مرارتها، و انفرجت عنه الأمواج بعد تراكمها، و أسهلت له الصّعاب بعد انصابها، و هطلت عليه الكرامة بعد قحوطها، و تحدّبت عليه الرّحمة بعد نفورها، و تفجّرت عليه النّعم بعد نضوبها، و وبلت عليه البركة بعد إرذاذها. فاتّقوا اللّه الّذي نفعكم بموعظته، و وعظكم برسالته، و امتنّ عليكم بنعمته، فعبّدوا أنفسكم لعبادته، و اخرجوا إليه من حقّ طاعته.
اللغة
(عجّ) عجّا من باب ضرب و عجيجا أيضا رفع صوته بالتّلبية، و منه الحديث أفضل الأعمال إلى اللّه العجّ و الثجّ، فالعجّ رفع الصّوت في التّلبية، و الثجّ إسالة الدّماء من الذّبح و النحر في الأضاحي.
و (النّينان) جمع نون و هو الحوت قال تعالى وَ ذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباًو نهر (غامر) أى كثير الماء يغمر من يدخله أى يغطّيه و يستره، و غمره البحر من باب نصر أى إذا علاه و غطاه و (الطلبة) بكسر الّام ما طلبته.
و (غشاء) أبصاركم في بعض النسخ بالغين المعجمة و المدّ وزان كساء و هو الغطاء قال تعالى فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ أى جعلنا على أبصارهم غشاوة و غطاء و في بعضها بالعين المهملة و القصر سوء البصر بالليل و النّهار مصدر عشى يقال عشى عشى من باب تعب ضعف بصره فهو أعشى و المرأة عشواء، و (الجاش) القلب.
و (الشّعار) الثّوب الملاصق للبدن و هو الذي يلي شعر الجسد و (الدّثار) ما فوق الشّعار من الثياب و (دخلة) الرّجل و دخله و دخيلته و دخيله نيّته و مذهبه و خلده و (المنهل) المشرب و الشرب و الموضع الذى فيه المشرب و (الطلبة) بكسر اللّام كالطلب محرّكة اسم من طالبه بحقه مطالبة، و قال الشارح المعتزلي: الطلبة ما طلبته من شيء فيكون اسم عين.
و (النفس) محرّكة اسم وضع موضع المصدر الحقيقي من نفس تنفيسا و نفسا أى فرّج تفريجا و (الاوار) بضمّ الهمزة وزان غراب حرّ النّار و الشّمس و العطش و اللهب و (هطل) السّماء تهطل من باب ضرب امطرت هطلا و هو بالفتح تتابع المطر المتفرّق العظيم القطر و المطر الضعيف الدائم و (نضب) الماء نضوبا غار و (وبلت) السماء تبل امطرت وابلا و هو المطر الشديد الضخم القطر و (ارذّت) السماء بتشديد الذال المعجمة أمطرت رذاذا، و هو بالفتح كسحاب المطر الضّعيف أو الساكن الدائم الصغار القطر كالغبار.
الاعراب
الباء في قوله: بالرّياح سببيّة و نحوه منصوب بنزع الخافض، و الفاء في قوله فانّ تقوى اللّه للتعليل، و في قوله: فاجعلوا فصيحة
المعنى
اعلم أنّ الغرض الأصلى من هذا الفصل من الخطبة الشريفة هو النصح و الموعظة و الوصية بالتقوى و الطاعة و الترغيب عليهما بالتنبيه على عظم ما يترتب عليهما من الثمرات و المنافع المرّغبة، و صدّر الفصل باقتضاء صناعه البلاغة و رعاية براعة الاستهلال بذكر إحاطة علمه بجزئيات الموجودات تنبيها به على أنه عزّ و جلّ لا يخفى عليه طاعة المطيعين و معصية المذنبين فقال عليه السّلام: (يعلم عجيج الوحوش في الفلوات) أى صياحها فيها بالتسبيح و رفع أصواتها إلى عزّ جنابه تبارك و تعالى بالتّقديس و تضرّعها إليه سبحانه في إنجاح طلباتها و تنفيس كرباتها و سؤالها منه لدفع شدايدها.
و فيه حثّ للمخاطبين على الطلب و السّؤال و التّضرّع و الابتهال و الانابة إليه عزّ و علا على كلّ حال، لأنهم أولى بذلك من الحيوانات العجم.
و يشهد بذلك الحديث الذي قدّمناه: أفضل الأعمال إلى اللّه العجّ و الثجّ.
و فى حديث آخر مروىّ فى الوسايل من الكافي عن حريز رفعه قال: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا أحرم أتاه جبرئيل فقال له: مر أصحابك بالعجّ و الثجّ، و العجّ رفع الصّوت بالتلبية، و الثجّ نحر البدن.
و فى الكافي في كتاب الدّعاء باسناده عن حنان بن سدير عن أبيه قال: قلت لأبي جعفر عليه السّلام: أىّ العبادة أفضل قال: ما من شيء أفضل عند اللّه عزّ و جلّ من أن يسأل و يطلب ممّا عنده، و ما أحد أبغض إلى اللّه عزّ و جلّ ممّن يستكبر عن عبادته و لا يسأل ما عنده.
و فيه عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن حمّاد بن عيسى عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال سمعته يقول: ادع و لا تقل قد فرغ من الأمر، فانّ الدّعاء هو العبادة إنّ اللّه عزّ و جلّ يقول وَ قالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ و قال: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ.
و فيه بسنده عن ميسر بن عبد العزيز عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال لي: يا ميسر ادع و لا تقل إنّ الأمر قد فرغ منه، إنّ عند اللّه عزّ و جلّ منزلة لا تنال إلّا بمسألة، و لو أنّ عبدا سدّفاه و لم يسأل لم يعط شيئا فاسأل تعط، يا ميسر إنه ليس من باب يقرع إلّا يوشك أن يفتح لصاحبه.
(و) يعلم (معاصى العباد في الخلوات) بمقتضى عموم علمه بالسرّ و الخفيّات و ما تحت الثرى و فوق الأرضين و السّماوات، و فيه تحذير للسامعين عن ارتكاب الخطيئات و حثّ لهم عن الازعاج من السيئات و تخصيصها بها لكون الخلوة مظنّة الوقوع في المعصية بعدم وجود الرّادع و الحاجز.
(و اختلاف النينان في البحار الغامرات) أى تردّدها فيها و سبحها في البحر صعودا و هبوطا طولا و عرضا (و تلاطم الماء بالرّياح العاصفات) أى اضطراب ماء البحار و تراكم أمواجها بالرّياح الشّديدة الهبوب، ثمّ عقّب بالشهادة بالرّسالة فقال: (و أشهد أنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نجيب اللّه) أى الكريم الحسيب أفضل الناس حسبا و نسبا شرّفه اللّه تعالى بهذا الوصف الشامخ و اختاره به من خلقه.
(و سفير وحيه و رسول رحمته) كما قال عزّ من قائل وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ أى نعمة عليهم لأنّ ما بعث به سبب لصلاح معاشهم و معادهم موجب للسّعادة الدائمة و كونه رحمة للكفّار أمنهم به من الخسف و المسخ و عذاب الاستيصال قال في مجمع البيان: قال ابن عباس: رحمة للبرّ و الفاجر و المؤمن و الكافر فهو رحمة للمؤمن في الدنيا و الاخرة و رحمة للكافر بأن عوفى ممّا أصاب الامم من الخسف و المسخ.
قال: و روي أنّ النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال لجبرئيل عليه السّلام لما نزلت هذه الاية: هل أصابك من هذه الرّحمة شيء قال: نعم إنّى كنت أخشى عاقبة الأمر فامنت بك لما أثنى اللّه علىّ بقوله «ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ» و قيل: إنّ الوجه في أنّه نعمة على الكافر أنّه عرّضه للايمان و الثّواب الدائم و هداه و إن لم يهتد كمن قدّمالطعام إلى جائع فلم يأكل فانّه منعم عليه و إن لم يقبل.
(أمّا بعد فانّى اوصيكم) عباد اللّه (ب) ما لا أزال اوصيكم به أعنى (تقوى اللّه الذى ابتدء خلقكم) و فى الاتيان بهذه الجملة و ما يتلوها من الجملات الوصفية تعظيم لشأنه عزّ و جلّ و تأكيد للغرض المسوق له الكلام، لأنّ العلم باتّصافه بهذه الصفات يوجب مزيد الملازمة بالتقوى و المواظبة على أوامره و نواهيه عزّ و تعالى.
و المراد بهذه الجملة انّ اللّه الذى حباكم خلعة الخلقة و أخرجكم من العدم و أفاض عليكم نعمة الوجود الّتي هى أصل جميع النّعم صغيرها و كبيرها و جليلها و حقيرها أحرى بأن يخشى منه و يتّقى و لا يقابل نعمه العظام بالكفران و آلائه الجسام بالتّمرّد و الطغيان.
(و إليه يكون معادكم) أى عودكم و رجوعكم يوم حشركم و نشركم، فانّ الكلّ إليه راجعون فيجازيهم بما كانوا يعملون، و أمّا الذين اتّقوا، فأولئك هم الفائزون و أما الذين ظلموا فلا ينفع معذرتهم و لا هم يستعتبون كما قال عزّ من قائل: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَ عُيُونٍ. وَ فَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ. كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ.
(و به نجاح طلبتكم و إليه منتهى رغبتكم) أى الظفر بمطالبكم و قضاء مقاصدكم و نيل حوائجكم، فانّه تعالى قاضى حوائج السائلين و منجح طلبات الرّاغبين، و من كان هذا شأنه يجب أن يطاع و يعبد لا أن يعصى لحكمه و يتمرّد.
(و نحوه قصد سبيلكم) لأنّه منتهى سير السالكين و غاية مراد المريدين، فلا بدّ من سلوك صراطه المستقيم المؤدّى إلى قربه و زلفاه، و هو صراط الملازمين لطاعته و تقواه و أمّا غيرهم فانّهم عن الصراط لناكبون، و عن لقائه محرومون.
(و إليه مرامى مفزعكم) يعنى إذا دهمكم الخوف و الفزع ترميكم الأفزاع نحوه، لأنه يجيب المضطرّ إذا دعاه و يكشف السوء عنه إذا ناداه.
و فى الحديث ليس وراء اللّه مرمى، قال الطريحي: أى مقصد ترمى إليه الامال و يوجه نحوه الرّجاء، تشبيها بالهدف الّتي ترمى إليها السّهام، و إذا كان شأنه العزيز انّه إذا فاجاكم الفزع فاليه تضرّعون، و إذا مسّكم الضرّ فاليه تجأرون، فلا بدّمن أن يطاع و لا يعصى و يذكر و لا ينسى.
ثمّ لمّا وصف اللّه عزّ و علا بأوصاف توجب منه الاتّقاء أردفه بالتنبيه على منافع التّقوى و الثمرات المترتّبة عليها في الدّين و الدّنيا لمزيد الحثّ و الترغيب إليها فقال: (فانّ تقوى اللّه دواء داء قلوبكم) يعنى أنّها رافعة للأمراض القلبيّة و الرّزائل النّفسانية الموبقة من البخل و الحسد و النفاق و العداوة و البغضاء و غيرها، لأنها مضادّة لها كما أنّ الدواء ضدّ الدّاء (و بصر عمى افئدتكم) بيان ذلك أنّ حصول وصف العمى للأعمى لمّا كان موجبا لعجزه عن إدراكه للمحسوسات، و سببا لضلاله عن الطريق، فكذلك حصول هذا الوصف للأفئدة الناشي من اتّباع الهوى و الانهماك في الشهوات، موجب لقصورها عن إدراك المعقولات، و عن الاهتدا إلى الصراط المستقيم.
و كما أنّ بحسّ البصر يرتفع عمى الأبصار الظاهرة و يحصل إدراك المحسوسات فكذلك بالتقوى يرتفع عمى الأفئدة و يتمكّن من إدراك المعقولات و يهتدى إلى الصراط المستقيم، لكونها مانعة من متابعة الهوى و انهماك الشهوات الموجبين لعماها، و هذا معنى كونها بصرا لعمى أبصار الأفئدة.
روى في الصافي في تفسير قوله تعالى أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَ لكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ من التوحيد و الخصال عن السجاد عليه السّلام أنّ للعبد أربع أعين: عينان يبصر بهما أمر دينه و دنياه، و عينان يبصر بهما أمر آخرته، فاذا أراد اللّه بعبد خيرا فتح اللّه له العينين اللّتين في قلبه فأبصر بهما الغيب و أمر آخرته، و إذا أراد اللّه به غير ذلك ترك القلب بما فيه.
و فيه من الكافي عن الصادق عليه السّلام إنّما شيعتنا أصحاب الأربعة أعين: عينان في الرّأس، و عينان في القلب، ألا و إنّ الخلايق كلّهم كذلك إلّا أنّ اللّه عزّ و جلّ فتح أبصاركم و أعمى أبصارهم.
(و شفاء مرض أجسادكم) هذا وارد مورد الغالب، لأنّ عمدة سبب المرض هوالشبع و البطنة و أهل التقوى لكونه متّصفا بقلّة الأكل و قناعته بالحلال حسبما عرفت في الخطبة المأة و الثانية و التّسعين و شرحها يسلم جسده غالبا من الأمراض و الأسقام.
و يرشد إلى ذلك ما رواه المحدّث الجزائرى في زهر الرّبيع أنّ حكيما نصرانيا دخل على الصادق عليه السّلام فقال: أ فى كتاب ربّكم أم فى سنّة نبيّكم شيء من الطب فقال: أما في كتاب ربّنا فقوله تعالى كُلُوا وَ اشْرَبُوا وَ لا تُسْرِفُوا و أما في سنّة نبيّنا: الاسراف في الاكل رأس كلّ داء و الحميّة منه أصل كلّ دواء.
و فيه أيضا عنه عليه السّلام أنه لو سئل أهل القبور عن السبب و العلّة في موتهم لقال اكثرهم: التخمة.
و فيه أيضا قال: و روى أنّ المؤمن ياكل في معاء واحد و الكافر يا كل في سبعة أمعاء.
و قد تقدّم في شرح الفصل الثاني من الخطبة المأة و التاسعة و الخمسين فصل واف في فوايد الجوع و آفات الشّبع فليراجع ثمة.
(و صلاح فساد صدوركم) لأنّ فساد الصدور و هو كونها ساقطة عن الاعتبار خالية عن المنفعة إنّما ينشأ من طريان ما يفسدها من الغلّ و الحقد و الحسد و نحوها من الوساوس النّفسانية عليها، و بالتقوى يرتفع هذه كلّها و يحصل صلاحها، و به يظهر أيضا معنى قوله: (و طهور دنس أنفسكم) لأنّ هذه الطوارى أيضا أوساخ موجبة لتدنّس النّفوس بها، و التقوى مطهرة لذلك الدّنس و الوسخ.
(و جلاء غشاء أبصاركم) يعنى أنّ التّقوى تجلو و تكشف غطاء أبصار البصاير و تستعدّ بذلك لادراك المعقولات، كما أنّ الباصرة إذا ارتفع حجابها و انجلى غشاوتها تصلح لادراك المبصرات.
(و أمن فزع جاشكم) إذ بها تحصل قوّة القلب في الدّنيا، و هى أمان من أفزاع يوم القيامة و أخاويفها كما قال تعالى في سورة الأعراف فَمَنِ اتَّقى وَ أَصْلَحَفَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ و في سورة النّمل مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَ هُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ و في سورة الأنبياء لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَ تَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (و ضياء سواد ظلمتكم) الظاهر أنّ المراد بالظلمة هو ظلمة القلوب الحاصلة لها من اكتساب الاثام و انهماك الشهوات، فانّ المعاصى توجب ظلمة القلب و اسوداد الوجه، و بالتّقوى و الطاعة يحصل له نور و ضياء و استعداد لقبول الافاضات الالهيّة، هذا.
و لا يخفى ما في هذه الفقرة و ما تقدّمت عليها من الفقرات السّبع من حسن المطابقة و لطفها.
و لمّا أوصى بالتّقوى و رغّب فيها بالتنبيه على ما يترتّب عليها من الثمرات العظيمة أكّد ذلك بالأمر بملازمة الطاعة المحصّلة لها و بالغ في المواظبة عليها فقال: (فاجعلوا طاعة اللّه شعارا دون دثاركم) أى بمنزلة الشّعار الملاصق للبدن لا الدّثار الذى فوق الشعار، و هو إشارة إلى المواظبة عليها باطنا لا ظاهرا فقط، و أكّد استبطانها بقوله: (و دخيلا دون شعاركم) أى داخلا في باطنكم تحت الشعار، و بقوله (و لطيفا بين أضلاعكم) و هو غاية المبالغة في ادخالها في الباطن، و آكد دلالة عليه من سابقيه و الغرض منه جعلها مكنونا في الخلد متمكّنا في القلوب.
و قوله: (و أميرا فوق اموركم) أى يكون ورودكم و صدوركم في اموركم الدنيويّة بأمره و نهيه كساير الامراء بالنّسبة إلى الرّعيّة.
(و منهلا لحين ورودكم) أى مشربا تشربون من صفوها و عذبها حين الورود يوم القيامة كما قال عزّ من قائل إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً. عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً.
(و شفيعا لدرك طلبتكم) أى واسطة و وسيلة لادراك مطالبكم الدّنيويّة و الاخرويةإذ بالتّقوى و الطاعة يحصل الاستعداد لدركها كما قال تعالى فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَ أَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ فقد دلّ قوله: يجعل له مخرجا، على أنّها حصن حصين و حرز حريز بها يحصل النّجاة من الشدائد و الوقاية من المكاره، و قوله: و يرزقه من حيث لا يحتسب على أنّها كنز كاف بها يدرك المطالب و يفاز بالمارب، و قوله: و من يتوكل على اللّه فهو حسبه، على أنّه تعالى كاف لمن توكّل عليه و اكتفاه، قادر على إنجاح ما يبتغيه و يتمنّاه (و جنّة ليوم فزعكم) أى وقاية يوم القيامة من النّار و غضب الجبّار كما قال تعالى ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا.
و مصابيح لبطون قبوركم) فانّ القبر بيت الظّلمة، و العمل الصّالح يضيء قبر صاحبه كما يضيء المصباح الظلمة على ما جاء في الخبر.
(و سكنا لطول وحشتكم) أي في القبور فانّها بيت الغربة و الوحدة و الوحشة و الأعمال الصّالحة كما ورد في أخبار كثيرة تتصوّر في صور حسنة يستأنس بها صاحبها و يسكن إليها و يطيب بها نفسه و يرفع عنه وحشة القبر.
روى في الكافي بسنده عن سالم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: ما من موضع قبر إلّا و هو ينطق كلّ يوم ثلاث مرّات: أنا بيت التراب أنا بيت البلا أنا بيت الدّود.
قال عليه السّلام: فاذا دخله عبد مؤمن قال مرحبا و أهلا أما و اللّه لقد كنت احبّك و أنت تمشي على ظهري فكيف إذا دخلت بطنى فسترى ذلك.
قال: فيفسح له مدّ البصر و يفتح له باب يرى مقعده من الجنّة.
قال: و يخرج من ذلك رجل لم تر عيناه شيئا قطّ أحسن منه فيقول: يا عبد اللّه ما رأيت شيئا قط أحسن منك فيقول: أنا رأيك الحسن الّذى كنت عليه و عملك الصّالح الّذى كنت تعمله قال: ثمّ يؤخذ روحه فتوضع في الجنّة حيث رأى منزله ثمّ يقال له: نم قرير العين فلا تزال نفحة من الجنّة يصيب جسده و يجد لذّتها و طيبها حتّى يبعث.
و فى البحار من المحاسن باسناده عن أبي بصير عن أحدهما عليها السّلام قال: إذا مات العبد المؤمن دخل معه في قبره ستّة صور فيهنّ صورة أحسنهنّ وجها و أبهاهنّ هيئة و أطيبهنّ ريحا و أنظفهنّ صورة.
قال: فيقف صورة عن يمينه و اخرى عن يساره و اخرى بين يديه و اخرى خلفه و اخرى عند رجله، و تقف الّتى هي أحسنهنّ فوق «رأسه ظ»، فان اتى عن يمينه منعته الّتى عن يمينه، ثم كذلك إلى أن يؤتى من الجهات السّتّ قال: فتقول أحسنهنّ صورة: و من أنتم جزاكم اللّه خيرا فتقول الّتى عن يساره: أنا الزكاة، و تقول الّتي بين يديه: أنا الصّيام، و تقول الّتي خلفه: أنا الحجّ و العمرة، و تقول الّتي عند رجليه: أنا برّ من وصلت من إخوانك، ثمّ يقلن: من أنت فأنت أحسننا وجها و أطيبنا ريحا و أبهانا هيئة فتقول: أنا الولاية لال محمّد صلوات اللّه عليهم أجمعين.
(و نفسا لكرب مواطنكم) أى سعة و روحا لكرب منازل الاخرة و مواقف القيامة (فانّ طاعة اللّه حرز من متالف مكتنفة) أى عوذة من المهالك المحيطة (و مخاوف متوقّعة) أى مخاوف الاخرة المنتظره الوقوع (و آوار نيران موقدة) أراد به حرّ نار الجحيم.
(فمن أخذ بالتّقوى) و عمل صالحا (غربت) أى بعدت و غابت (عنه الشّدائد بعد دنوّها) أى شدايد الاخرة و أهاويلها، و يجوز أن يراد بها الأعمّ لأنّ المتّقى بقناعته و خفّة مؤنته و اعتزاله من مخالطة أبناء الدّنيا و مجالستهم سالم غالبا من المحن و الشّدايد و ايذاء أبناء النّوع.
(و احلولت له الامور بعد مرارتها) أى صارت الأمرار الدّنيوية و الاخروية حلوا له، أمّا الدّنيوية كضيق العيش و الجوع و الفقر و العرى و ما ضاهاها فلما له من الرّضا بالقضاء، و أما الاخروية كمشاقّ الطاعات و العبادات فلكونها أحلى و ألذّ عنده من كلّ شيء و إن كان مرّا في ذوقه في مبدء السلوك، و ذلك لما له من علم اليقين بأنّ هذه المشقّة القليلة توجب راحة طويلة، و تلك المرارة اليسيرة تجلب لذّة دائمة.
(و انفرجت عنه الأمواج بعد تراكمها) أى انكشفت عنه أمواج الفتن الدّنيوية بعد تراكمها و كثرتها، و ذلك لأنّ الاخذ بالتقوى لكونه بمعزل من الدّنيا و أهلها سالم من الفتن و المحن التي ابتلي بها أهلها.
(و أسهلت له الصّعاب بعد انصبابها) أى صارت الامور الصعبة و المشاق النفسانية سهلة له بعد ايقاعها اياه في النصب و التعب، و ذلك لما عرفت آنفا من أنّ المتّقى لمعرفته بعظم ما يترتّب على طاعته و تقواه من الثمرات الاخروية يسهل عليه كلّ خطب و يهون له الشدائد (و هطلت عليه الكرامة بعد قحوطها) شبه كرامة اللّه سبحانه الشاملة للمتقى بالمطر العظيم القطر المتتابع على سبيل الاستعارة المكنية، و إثبات الهطل تخييل و القحوط ترشيح. و نظيرها الفقرتان المتقدّمتان فانهما أيضا من قبيل الاستعارة المكنية التخييلية الترشيحية.
و المراد أنّ أهل التقوى انصبت عليه و تتابعت في حقه كرامة اللّه العزيز عزّ و جلّ بسبب اتصافه بالتقوى بعد احتباسها و منعها عنه، و ذلك قبل أن يستعدّ بالتقوى لها و يشهد بذلك أي بافاضة كرامته على المتقي صريحا نصّ قوله سبحانه يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ.
(و تحدبت عليه الرحمة بعد نفورها) أى تعطفت عليه الرحمة الالهية بعد ما كانت نافرة عنه حين ما لم يكن متصفا بالتقوى و مستعدا لها، و هذه الفقرة أيضا مثل سوابقها حيث شبه الرحمة بالناقة العاطفة على ولدها على سبيل الاستعارة بالكناية و أثبت التحدّب تخييلا و النفور ترشيحا.
(و تفجّرت عليه النّعم بعد نضوبها) إمّا استعارة مكنية مثل ما مرّت تشبيها للنعم بالينابيع الجارية المنفجرة، فيكون ذكر التفجّر و النضوب تخييلا و ترشيحا، أى انفجرت عليه ينابيع النعم بعد اغورارها.
و يجوز أن يراد بالتفجر التتابع بعلاقة الملازمة فيكون مجازا مرسلا، و النعم قرينة التجوز أو اريد بالتفجر الافاضة و الجامع التتابع و الدوام فيكون استعارة تبعية و على هذين الاحتمالين فيراد بالنضوب الفقدان مجازا و لا يخفى على المتدبّر أنّ هذين الاحتمالين يأتيان أيضا في بعض القراين المتقدّمة كالقرينة المتأخّرة أعنى قوله:
(و وبلت عليه البركة بعد ارذاذها) فيجوز أن تكون الاستعارة بالكناية بأن يشبه البركة بالمطر الشديد العظيم القطر و الوبل و الارذاذ تخييل و ترشيح، و أن تكون استعارة تبعية بأن يستعار الوبل للفيض الكثير و الجامع الكثرة، و أن يكون مجازا مرسلا و يراد بالوبل النزول، و على التقديرين فيراد بالارذاذ القلّة و الضعف مجازا.
ثمّ بعد التنبيه على جملة من ثمرات التقوى و المنافع العظيمة المترتّبة عليها عاد إلى الأمر بها تأكيدا و تقوية لما قدّم فقال: (فاتّقوا اللّه الذي نفعكم بموعظته) و هى ما وعظكم بها في كتابه المبين و لسان نبيّه الأمين و هداكم بها إلى الجنّة و أنقذكم بها من النار و أىّ منفعة أعظم من هذه و أنفع.
(و وعظكم برسالته) التي بعث بها رسله و لم يبق عذر لعاذر بعد مواعظهم البليغة في ترك التقوى و الطاعة.
(و امتنّ عليكم بنعمته) الغير المحصاة التي لا يجوز للعاقل أن يقابلها بالكفران و يكافئها بترك التقوى و الطاعة و العصيان.
(فعبّدوا أنفسكم لعبادته) أى ذللوها لحمل أثقال العبادة.
(و اخرجوا إليه من حقّ طاعته) أى من طاعته التي هو حق عليكم و ثابت في ذمتكم، أو من طاعته التي حقيق به عزّ و جلّ أى اخرجوا إليه من كمال طاعته التي يليق بحضرته.
الترجمة
مي داند خداوند تبارك و تعالى صداى وحشيان را در بيابانها، و معصيتهاى بندگان را در مكان خلوت، و تردّد ماهيان را در درياهاى گود، و تلاطم آب درياها را با بادهاى تند و زنده، و شهادت مى دهم باين كه محمّد مصطفى صلوات اللّه و سلامه عليه و آله بنده نجيب خداست و ايلچى وحى او و پيغمبر رحمت اوست.
اما پس از ثناى خدا پس بدرستى كه من وصيّت مي كنم شما را بتقوى و پرهيزكارى خداوندى كه ايجاد فرموده خلقت شما را و بسوى اوست بازگشت شماو با عنايت اوست رسيدن مطالب شما و بطرف اوست قصد راه شما و بسوى اوست نشانگاه فزع و خوف شما پس بدرستى كه تقوى دواى درد قلبهاى شماست، و چشم كورى دلهاى شما، و شفاى ناخوشى بدنهاى شما، و صلاح فساد سينهاى شما، و پاكيزگى كثافت نفسهاى شماست، و جلاى پردهاى بصرهاى شما، و خاطر جمعى خوف قلبهاى شما، و روشنى سياهى تاريكى قلب شما است.
پس بگردانيد طاعت و عبادت پروردگار را لباس باطنى خودتان نه لباس ظاهرى و داخل در باطن خود نه شعار ظاهرى، و چيزى لطيف در ميان دندهاى خودتان، و أمير حكمران بالاى جميع كارهاى خودتان و محل آب خور از براى زمان ورود آن، و واسطه از براى درك مطالب خودتان، و سپر از براى روز فزع خود و چراغها از براى بطون قبرهاى خود، و مايه انس از براى طول وحشت خود، و فرج و راحت از براى اندوه و محنت مواطن خودتان.
پس بدرستى كه طاعت خدا حرز است، از مهلكه هاى محيطه و از محلّهاى خوفى كه متوقعست و از حرارت آتشهاى روشن شده، پس كسى كه اخذ نمود تقوى را غايب شد از آن شدتها بعد از نزديكى آنها باو، و شيرين شد از براى او كارها بعد از تلخى آنها، و منكشف شد از او موجها بعد از تراكم و تلاطم آنها، و آسان شد از براى او كارهاى صعب بعد از مشقت انداختن آنها، و باريد باو بارانهاى كرامت بعد از قحطى آن، و برگشت با مهربانى بر او رحمت خدا بعد از رميدن آن، و منفجر شد بر او چشمهاى نعمتها بعد از نايابى آنها، و باريد بأو باران بركت با شدّت بعد از ضعف و قلّت آن.
پس پرهيز نمائيد از خدا چنان خداوندى كه نفع بخشيد بشما با موعظه بالغه خود، و موعظه فرمود بشما با رسالت رسولان خود، و منت گذاشت بر شما با نعمت فراوان خود، پس ذليل نمائيد نفسهاى خودتان را با بار عبادت او، و خارج شويد بسوى او از حق اطاعت او كه لايق حضرت او است
الفصل الثاني
ثمّ إنّ هذا الإسلام دين اللّه الّذي اصطفاه لنفسه، و اصطنعه على عينه، و أصفاه خيرة خلقه، و أقام دعائمه على محبّته، أذلّ الاديان بعزّته، و وضع الملل برفعه، و أهان أعدائه بكرامته، و خذل محادّيه بنصره، و هدم أركان الضّلالة بركنه، و سقى من عطش من حياضه، و أتاق الحياض بمواتحه. ثمّ جعله لا انفصام لعروته، و لا فكّ لحلقته، و لا انهدام لاساسه و لا زوال لدعائمه، و لا انقلاع لشجرته، و لا انقطاع لمدّته، و لا عفاء لشرايعه، و لا جذّ لفروعه، و لا ضنك لطرقه، و لا وعوثة لسهولته و لا سواد لوضحه، و لا عوج لانتصابه، و لا عصل فى عوده، و لا وعث لفجّه، و لا انطفاء لمصابيحه، و لا مرارة لحلاوته. فهو دعائم أساخ في الحقّ أسناخها، و ثبّت لها أساسها، و ينابيع غزرت عيونها، و مصابيح شبّت نيرانها، و منار اقتدى بها سفّارها، و أعلام قصد بها فجاجها، و مناهل روى بها ورّادها، جعل اللّه فيه منتهى رضوانه، و ذروة دعائمه، و سنام طاعته.
فهو عند اللّه وثيق الاركان، رفيع البنيان، منير البرهان، مضيء النّيران، عزيز السّلطان، مشرف المنار، معوز المثار، فشرّفوه، و أدّوا إليه حقّه، وضعوه مواضعه.
اللغة
(اصطنعه على عينه) افتعال من الصنع و الصنع اتّخاذ الخير لصاحبه كذا في مجمع البيان، و قيل: من الصنيعة و هى العطية و الاحسان و الكرامة يقال اصطنعتك لنفسى اخترتك لأمر أستكفيكه و اصطنع خاتما أمر أن يصنع له قال تعالى في سورة طه مخاطبا لموسى عليه السّلام وَ اصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي. اذْهَبْ أَنْتَ وَ أَخُوكَ بِآياتِي. وَ لا تَنِيا فِي ذِكْرِي.
و قال الشارح المعتزلي: اصطنعه على عينه كلمة يقال لما يشتدّ الاهتمام به، تقول للصانع: اصنع لى خاتما على عينى، أى اصنعه صنعة كالصّنعة التي تصنعها و أنا حاضر اشاهدها.
و قال الزّمخشرى في الكشاف في تفسير قوله تعالى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ لتربى و يحسن إليك و أنا مراعيك و راقبك كما يرعى الرّجل الشيء بعينه إذا اعتنى به، و تقول للصانع اصنع هذا على عينى أنظر إليك لئلّا تخالف به عن مرادى و (الخيرة) بفتح الياء وزان عنبة كالخيرة بسكونها اسم من اخترت الرّجل أى فضلته على غيره و (الدّعائم) جمع الدّعامة بالكسر عماد البيت و الخشب المنصوب للتعريش و (حادّه) محادّة عادّه و غاضبه و خالفه مأخوذ من الحدد و هو الغضب قال تعالى يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ.
و (تئق) الحوض من باب فرح امتلأ ماء و أتاق الحياض ملأها و (المواتح) جمع الماتح و هو الذى يستقى بالدّلو من المتح و هو الاستقاء يقال متحت الدّلوأى استخرجتها و (عروة) الكوز مقبضه و (الجذ) بالذّال المعجمة القطع أو القطع المستأصل، و في بعض النسخ بالحاء المهملة و هو القطع و في بعضها بالجيم و الدّال المهملة و هو القطع أيضا و الفعل في الجميع كمدّ.
و (وعث) الطريق و عوثة من باب قرب و تعب إذا شقّ على السالك فهو وعث و قيل: الوعث رمل دقيق تغيب فيه الأقدام فهو شاق، ثمّ استعير لكلّ أمر شاقّ من تعب و أثم و غير ذلك، و منه و عثاء السفر أى شدّة النصب و التعب.
و (الوضح) محرّكة بياض الصبح و القمر و محجّة الطريق و (العصل) محرّكة الاعوجاج في صلابة و منه العصال بالكسر و هو السهم المعوّج و (الفج) الطريق الواسع بين الجبلين و (ساخت) قوائمه في الأرض أى غابت و ساخت بهم الأرض أى خسفت و يعدى بالهمزة فيقال: أساخه اللّه و (الينبوع) العين ينبع منه الماء أى يخرج و قيل: الجدول الكثير الماء و هو أنسب و (غزر) الماء بضمّ الزّاء المعجمة غزارة كثر فهو غزير و (شبت نيرانها) بضمّ الشين بالبناء على المفعول أى اوقدت و (ورّادها) جمع وارد قال الشارح المعتزلي: و روى روّادها جمع رائد و هو الذى يسبق القوم فيرتاد لهم الماء و الكلاء و (ذروة) الشيء بالكسر و الضمّ أعلاه و (سنام) بالفتح وزان سحاب أيضا أعلاه و (عوز) الشيء عوزا من باب تعب عزّ فلم يوجد، و عزت الشيء أعوزه من باب قال احتجت إليه فلم أجده، و أعوزنى مثل أعجزنى وزنا و معنى، و أعوز الرّجل إعوازا افتقر، و أعوزه الدّهر أفقره و (ثار) الغبار يثور ثورا و ثورانا هاج، و ثار به الناس أى وثبوا عليه، و فلان أثار الفتنة أى هيّجها، و المثار مصدر أو اسم للمكان.
الاعراب
قوله: على عينه ظرف مستقرّ حال من فاعل اصطنع، و قوله: على محبّة يحتمل أن يكون ظرف لغو متعلّق بقوله أقام فالضمير راجع إلى اللّه، و أن يكون ظرفا مستقرّا حالا من فاعل أقام أو من الضمير في دعائمه، فالضمير فيه على الأوّلأيضا راجع إلى اللّه، و على الثاني فيعود إلى الاسلام، و يجوز جعل على بمعنى اللّام للتعليل كما فى قوله تعالى وَ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ و على هذا فايضا ظرف لغو و الضّمير يصحّ عوده إلى اللّه و إلى الاسلام فتدبّر، و الباء في قوله: بعزّته للسّببيّة، و قوله: ثمّ جعله لا انفصام لعروته المفعول الثّاني لجعل محذوف و جملة لا انفصام لعروته صفة له.
المعنى
اعلم أنّه عليه السّلام لمّا أوصى في الفصل السّابق بالتّقوى و الطّاعة أردفه بهذا الفصل المتضمّن لشرف الاسلام و فضايله لكونهما من شئونه فقال: (ثمّ إنّ هذا الاسلام دين اللّه) أى لا دين مرضىّ عند اللّه سوى الاسلام و هو التّوحيد و التّدرّع بالشّرع الّذي جاء به محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كما قال تعالى إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ و قال وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ أى من يطلب غيره دينا يدين به لن يقبل منه بل يعاقب عليه و هو من الهالكين في الاخرة، و فيه دلالة على أنّ الدّين و الاسلام واحد و هما عبارتان عن معبر واحد، و هو التّسليم و الانقياد بما جاء به النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
و هو (الّذي اصطفاه) اللّه و اختاره من بين ساير الأديان (لنفسه) أى لأن يكون طريقا إلى معرفته و طاعته مؤدّيا إلى جنّته.
(و اصطنعه على عينه) أى اتّخذه صنعة و اختاره حالكونه مراعيا حافظا له مراقبا عليه مشاهدا ايّاه، و يجوز جعل العين مجازا في العلم فيكون المعنى أنّه اصطنعه و أسّس قواعده على ما ينبغي و على علم منه به أى حالكونه عالما بدقايقه و نكاته أو بشرفه و فضله.
و يحتمل أن يكون معنى اصطنعه أنّه طلب صنعته أى انّه أمر بصنعته و القيام به حالكونه بمرئى منه أى كالمصنوع المشاهد له، و ذلك أنّ من صنع لغيره شيئا و هو ينظر إليه صنعه كما يحبّ و لا يتهيّأ له خلافه أو أنّه أمر بأن يصنع أي بصنعهو صنيعته أى بكرامته و الاتيان به على وجه الكمال.
و على هذا الاحتمال فالصّانع له أى المأمور بالصّنعة و الصنع و الصنيعة المكلّفون المطلوب منهم الاسلام.
و هذا نظير ما قاله المفسّرون في قوله تعالى وَ لِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي على قراءة لتصنع بلفظ الأمر مبنيّا للمفعول. إنّ المعنى ليصنعك غيرك أى لتربّى و تغذّى و يحسن إليك بمرئى منّي أى يجرى امرك على ما اريد من الرّفاهة.
(و أصفاه خيرة خلقه) أى آثر و اختار للبعثة به خيرة خلقه محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أو جعل خيرة خلقه خالصا لتبليغه دون غيره.
(و أقام دعائمه على محبّته) أى أثبت أركان الاسلام فوق محبّته تعالى، فانّ من أحبّه سبحانه أسلم له، أو أنّه قام دعائم حالكونه تعالى محبّا له أو حال كون الاسلام محبوبا له تعالى، أو لأجل حبّه إياه، أو لأجل محبوبيّته عنده على الاحتمالات المتقدّمة في الاعراب.
ثمّ المراد بدعائمه إما مطلق أركانه التي يأتي تفصيلها منه عليه السّلام في أوائل باب المختار من حكمه و هو الأنسب.
أو خصوص ما اشير إليه في الحديث المرويّ في البحار من أمالى الصدوق بسنده عن المفضل عن الصادق عليه السّلام قال: بني الاسلام على خمس دعائم: على الصّلاة، و الزّكاة، و الصوم، و الحجّ، و ولاية أمير المؤمنين و الأئمّة من ولده صلوات اللّه عليهم (أذلّ الأديان بعزّته) أراد بذلّتها نسخها أو المراد ذلّة أهلها على حذف المضاف و يحتملهما قوله (و وضع الملل برفعه) و يصدّق هاتين القرينتين صريحا قوله تعالى هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى.
(و أهان أعداءه بكرامته) أى أهان أعداء الاسلام و هم اليهود و النصارى و المشركون و كلّ من عانده و لم يتديّن به من أهل الملل المتقدّمة، و إهانتهم بالقتل و الاستيصال و أخذ الجزية و الذلّ و الصّغار.
(و خذل محادّيه بنصره) أى ترك نصرة المخالفين للاسلام المحادّين له و أخزاهمبنصرته للاسلام و أهله.
(و هدم أركان الضّلالة بركنه) ركن الشيء جانبه الّذى يستند إليه و يقوم به، فاستعار أركان الضلالة للعقايد المضلّة أو رؤساء أهل الضّلالة أو الأصنام، و أراد بركنه أصوله و قواعده أو النّبي أو كلمة التوحيد.
(و سقى من عطش من حياضه) المراد بمن عطش الجاهل بقواعد الاسلام المبتغي له، و بالحياض النّبي و الأئمّة سلام اللّه عليهم المملوون بمياه العلوم الحقّة، أو الأعمّ الشامل للعلماء الرّاشدين أيضا و يسقيه هدايته له إلى الاستفادة و أخذ علوم الدّين عنهم عليهم السّلام.
(و أتاق الحياض بمواتحه) أى ملأ صدور اولى العلم عليهم السّلام من زلال المعارف الحقّة و العلوم الدّينية بوساطة المبلّغين من اللّه تعالى من الملائكة و روح القدس و الالهامات الالهيّة. و إن اريد بالحياض الأعمّ الشامل للعلماء فيعمّم المواتح للأئمة لأنهم يستفيدون من علومهم عليهم السّلام و يستضيئون بأنوارهم عليهم السّلام و قيل هنا: معان اخر، و الأظهر ما قلناه.
(ثمّ جعله) وثيقا (لا انفصام لعروته) كما قال تعالى قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها.
قال أمين الاسلام الطبرسي «قد» قد ظهر الايمان من الكفر و الحقّ من الباطل، فمن يكفر بما خالف أمر اللّه و يصدق باللّه و بما جاءت به رسله فقد تمسّك و اعتصم بالعصمة الوثيقة و عقد لنفسه من الدّين عقدا وثيقا لا يحلّه شبهة، لا انفصام لها أى لا انقطاع لها كما لا ينقطع من تمسك بالعروة كذلك لا ينقطع أمر من تمسّك بالايمان، و محصّله أنّ من اعتصم بعروة الاسلام فهي تؤدّيه إلى غاية مقصده من رضاء الحقّ و رضوانه و نزول غرفات جنانه لأنّها وثيقة لا ينقطع و لا تنفصم.
(و) جعله محكما (لا فكّ لحلقته) قال الشّارح البحراني: كناية عن عدم انقهار أهله و جماعته.
(و) مشيّدا (لا انهدام لأساسه) قال البحراني: استعار لفظ الأساس للكتاب و السّنة الّذين هما أساس الاسلام، و لفظ الانهدام لاضمحلالهما انتهى، و لا بأس به، و قد يفسّر في بعض الرّوايات بالولاية.
و هو ما رواه في البحار من أمالي الشيخ باسناده عن جابر بن يزيد عن أبي جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين عن أبيه عن جدّه عليهم السّلام قال: لمّا قضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مناسكه من حجّة الوداع ركب راحلته و أنشأ يقول: لا يدخل الجنّة إلّا من كان مسلما، فقام اليه أبو ذر الغفارى فقال: يا رسول اللّه و ما الاسلام فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: الاسلام عريان و لباسه التقوى، و زينته الحياء، و ملاكه«» الورع و كماله الدّين، و ثمرته العمل، و لكلّ شيء أساس و أساس الاسلام حبّنا أهل البيت.
(و) ثابتا (لا زوال لدعائمه) قال البحراني: استعار لفظ الدّعائم لعلمائه أو للكتاب و السنة و قوانينهما، و أراد بعدم زوالها عدم انقراض العلماء أو عدم القوانين الشرعيّة، انتهى.
و الأولى أن يراد بالدّعائم ما يأتي تفصيلها منه عليه السّلام في أوائل باب المختار من حكمه عليه السّلام و هو ثالث أبواب النّهج.
(و) راسخا (لا انقلاع لشجرته) الظاهر أنّه من قبيل اضافة المشبّه به على المشبّه كما في لجين الماء، و المراد أنّ الاسلام كشجرة ثابتة أصلها ثابت و فرعها فى السماء كما اشير اليه في قوله مثل كلمة طيّبة كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ الاية.
قال الطبرسي: قال ابن عبّاس: هي كلمة التوحيد شهادة أن لا إله إلّا اللّه كشجرة زاكية نامية راسخة اصولها فى الأرض عالية أغصانها، و ثمارها في السماء، و أراد به المبالغة في الرّفعة و الأصل سافل و الفرع عال إلّا أنه يتوصّل من الأصل إلى الفرع.
قال: و قيل: انّه سبحانه شبّه الايمان بالنّخلة لثبات الايمان في قلب المؤمن كثبات النخلة في منبتها، و شبّه ارتفاع عمله إلى السماء بارتفاع فروع النخلة،و شبّه ما يكسبه المؤمنون من بركة الايمان و ثوابه في كلّ وقت و حين بما ينال من ثمرة النخلة في أوقات السّنة كلّها من الرّطب و التّمر.
و فى البحار من علل الشرائع باسناده عن معمّر بن قتادة عن أنس بن مالك في حديث قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال حبيبي جبرئيل عليه السّلام: إنّ مثل هذا الدّين كمثل شجرة ثابتة الايمان أصلها، و الصّلاة، عروقها، و الزّكاة ماؤها، و الصّوم سعفها، و حسن الخلق ورقها، و الكفّ عن المحارم ثمرها، فلا تكمل شجرة إلّا بالثمر كذلك الايمان لا يكمل إلّا بالكفّ عن المحارم.
(و) متماديا (لا انقطاع لمدّته) لاستمراره و بقائه إلى يوم القيامة.
(و) جديدا (لا عفاء لشرايعه) أى لا اندراس لما شرع اللّه منه لعباده و لا انمحاء لطرقه و شعبه الّتي يذهب بسالكها إلى حظاير القدس و محافل الانس (و) زاكيا (لا جذّ لفروعه) أى لا ينقطع ما يتفرّع عليه من الأحكام الّتي يستنبطها المجتهدون بأفكارهم السليمة من الكتاب و السّنة، و يحتمل أن يراد بها ما يتفرّع عليه من الثّمرات و المنافع الدنيويّة و الاخروية.
(و) وسيعا (لا ضنك لطرقه) أى لا ضيق لمسالكه بحيث يشقّ على السّالكين سلوكه، و المراد أنها ملّة سمحة سهلة ليس فيها ثقل على المكلّفين كما كان في الملل السّابقة.
قال تعالى الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ.
قال أمين الاسلام الطبرسي: معناه يبيح لهم المستلذّات الحسنة و يحرّم عليهم القبايح و ما تعافه الأنفس، و قيل: يحلّ لهم ما اكتسبوه من وجه طيّب و يحرّم عليهم ما اكتسبوه من وجه خبيث، و قيل: يحلّ لهم ما حرّمه عليهم رهبانيّهم و أحبارهم و ما كان يحرّمه أهل الجاهلية من البحائر و السوائب و غيرها، و يحرّم عليهم الميتة و الدّم و لحم الخنزير و ما ذكر معها.
و يضع عنهم إصرهم أى ثقلهم شبّه ما كان على بني إسرائيل من التكليف الشديدبالثقل، و ذلك إن اللّه سبحانه جعل توبتهم أن يقتل بعضهم و جعل توبة هذه الامّة الندم بالقلب حرمة للنّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
و الاغلال الّتي كانت عليهم قيل: يريد بالأغلال ما امتحنوا به من قتل نفوسهم في التوبة و قرض ما يصيبه البول من أجسادهم و ما أشبه ذلك من تحريم السّبت و تحريم العروق و الشحوم و قطع الأعضاء الخاطئة و وجوب القصاص دون الدّية انتهى.
و قيل: الاصر الثقل الّذى يأصر حامله أى يحبسه فى مكانه لفرط ثقله.
و قال الزّمخشرى: هو مثل لثقل تكليفهم و صعوبته نحو اشتراط قتل الأنفس فى صحّة توبتهم، و كذلك الاغلال مثل لما كان فى شرايعهم من الأشياء الشّاقة نحو بت القضاء بالقصاص عمدا كان أو خطاء من غير شرع الدّية، و قطع الأعضاء الخاطئة، و قرض موضع النّجاسة من الجلد و الثوب و إحراق الغنايم، و تحريم العروق فى اللّحم و تحريم السبت.
و عن عطا كانت بنو اسرائيل إذا قامت تصلّى لبسوا المسوح و غلّوا أيديهم إلى الأعناق، و ربّما ثقب الرّجل ترقوته و جعل فيها طرف السّلسلة و أوثقها إلى السّارية يحبس نفسه على العبادة.
(و) سهلا (لا وعوثة لسهولته) يعني أنّه على حدّ الاعتدال من السهولة، و ليس سهلا مفرطا كالوعث من الطريق يتعسّر سلوكه و يشقّ المشى فيه لرسوب الأقدام.
(و) واضحا (لا سواد لوضحه) يعنى أنّ بياضه لا يشوبه الظلام كما قال النّبى صلّى اللّه عليه و آله: بعثت اليكم بالحنيفيّة السمحقة السهلة البيضاء، و بياضه كناية عن صفائه عن كدر الباطل.
(و) مستقيما (لا عوج لانتصابه) أى لا اعوجاج لقيامه كما قال تعالى قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ و المراد أنّه صراط مستقيم مؤدّ لسالكه إلى الجنّة، و رضوان اللّه تعالى ليس فيه عوج و لا أمت.
(و) مستويا (لا عصل فى عوده) و هو أيضا كناية عن استقامته و ادائه إلى الحقّ.
(و) يسيرا (لا وعث لفجّه) أراد بالفجّ مطلق الطريق مجازا من إطلاق المقيّدعلى المطلق و يمكن إرادة المعنى الحقيقى و يكون النظر فى التشبيه إلى أنه الجادّة الوسطى بين طرفى الافراط و التفريط، كما أنّ الفجّ هو الطريق الواسع بين الجبلين.
(و) مضيئا (لا انطفاء لمصابيحه) الظاهر أنّ المراد بمصابيحه أئمة الدّين و أعلام اليقين الذينهم مصابيح الدّجى و منار الهدى، و أراد بعدم انطفائها عدم خلوّ الأرض منهم عليهم السّلام.
(و) حلوا (لا مرارة لحلاوته) لأنه أحلى و ألذّ فى أذواق المتديّنين من كلّ حلو، و لذيذ لا يشوبه مرارة مشقّة التكليف.
كما قال الصادق عليه السّلام في قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ: لذّة ما فى النداء أزال تعب العبادة و العناء.
(فهو دعائم أساخ فى الحقّ أسناخها) يعنى أنّ الاسلام دعائم العبوديّة فلا ينافي حملها عليه هنا لما تقدّم سابقا من إضافتها إليه فى قوله: أقام دعائمه على محبّته، و قوله: و لا زوال لدعائمه، نظرا إلى أنّ ظهور الاضافة في التغاير.
وجه عدم المنافاة أنّ الغرض فيما سبق تشبيه الاسلام و الدّين بالبيت فأثبت له الدّعائم على سبيل الاستعارة المكنيّة التخييلية، فهو لا ينافي كون الاسلام نفسه أيضا دعائم لكن للعبوديّة.
و يمكن دفع المنافاة بوجه آخر و هو أنّا قد بيّنا فيما سبق أنّ المراد بدعائم الاسلام إمّا الدعائم الّتي يأتي تفصيلها منه عليه السّلام في باب المختار من حكمه أو خصوص العبادات الخمس أعنى الصلاة و الزّكاة و الصّوم و الحجّ و الولاية حسبما اشير إليه في الحديث الذى رويناه من البحار و في أحاديث كثيرة غيره تركنا ذكرها، و على أىّ تقدير فلمّا كان قوام الاسلام بتلك الدّعائم و ثباته عليها حتّى أنّه بدونها لا ينتفع بشيء من أجزائه فجعله نفس تلك الدّعائم مبالغة من باب زيد عدل.
و يوضح ذلك ما في البحار من الكافي عن زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام في حديث قال: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: الصّلاة عمود دينكم.
و فى الكافى أيضا باسناده عن عبيد بن زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قالرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: مثل الصّلاة مثل عمود الفسطاط إذا ثبت العمود نفعت الأطناب و الأوتاد و الغشاء، و إذا انكسر العمود لم ينفع طناب و لاوتد و لا غشاء.
و أما قوله: أساخ في الحقّ أسناخها، فمعناه أنّه تعالى أثبت اصولها في الحقّ يعني أنّه بناء محكم بني على الحقّ و ثبت قوائمة عليه دون الباطل كما قال تعالى فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ أى ذلك الدّين المستقيم الحقّ.
(و ثبّت لها أساسها) أى أحكم لهذه الدّعائم أبنيتها.
(و ينابيع غزرت عيونها) يعني جداول و أنهار كثيرة ماء عيونها الّتى تجريان منها، و الظاهر أنّه من التّشبيه البليغ، و المراد أنّ الاسلام بما تضمّنه من الأحكام الكثيرة الاسلاميّة بمنزلة ينابيع وصفها ما ذكر، و وجه الشّبه أنّ الينابيع منبع مادّة حياة الأبدان و الأحكام الاسلاميّة منشأ مادّة حياة الأرواح، إذ بامتثالها يحصل القرب من اللّه المحصّل لحياة الأبد.
و في وصف المشبّه به بغزارة العيون إشارة إلى ملاحظة ذلك الوصف في جانب المشبّه أيضا لأنّ الأحكام الاسلاميّة صادرة عن صدر النّبوّة و صدور الأئمة الّتي هى معادن العلوم الالهيّة و عيونها، و كفى بها كثرة و غزارة.
(و مصابيح شبّت نيرانها) و هو أيضا من التّشبيه البليغ، يعني أنّ الاسلام بما فيه من الطّاعات و العبادات الّتي من وظايفه مثل المصابيح الموقدة النّيران المشتعلة الّتي هي في غاية الاضاءة، و وجه الشّبه أنّ المصابيح الّتي وصفها ذلك كما أنها ترفع الظلام المحسوسة، فكذلك الطاعات الموظفة في دين الاسلام إذا اقيست عليها تنوّر القلوب و تجلو ظلمتها المعقولة.
(و منار اقتدى بها سفّارها) يعني أنّه بما فيه من الأدلّة السّاطعة و البراهين القاطعة الّتي يستدلّ بها العلماء في المقاصد، مثل منائر يهتدى بها المسافرون في الفلوات، و إضافة سفار إلى ضمير المنار من التّوسع.
و مثله قوله (و أعلام قصد بها فجاجها) أى مثل أعلام قصد بنصب تلك الأعلامإهداء المسافرين في تلك الفجاج.
(و مناهل روى بها ورّادها) يعني أنّه بما فيه من العلوم الاسلاميّة النقليّة و العقليّة بمنزلة مشارب تروى بمائها العطاش الواردون إليها.
(جعل اللّه فيه منتهى رضوانه) أى غاية رضاه لكونه أتمّ الوسايل و أكملها في الايصال إلى قربه و زلفاه كما اشير إليه في قوله حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ و قوله إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ.
(و ذروة دعائمه) الظاهر أنّ المراد بالدعائم العبادات التي بنيت عليها بيت العبوديّة، و لما كان دين الاسلام أشرف الأديان و أفضلها تكون العبادات الموظفة فيه أفضل العبادات و أعلاها، و إضافة الدعائم إلى اللّه من باب التّشريف و التكريم باعتبار أنّها مجعولات له سبحانه أو من أجل كونها مطلوبة له تعالى.
و به يظهر أيضا معنى قوله (و سنام طاعته) و يستفاد من بعض الأخبار أنّ ذروة الاسلام و سنامه هو خصوص الجهاد.
و هو ما رواه في البحار من الكافي باسناده عن سليمان بن خالد عن أبي جعفر عليه السّلام قال: ألا اخبرك بأصل الاسلام و فرعه و ذروة سنامه قلت: بلى جعلت فداك، قال: أمّا أصله فالصّلاة، و فرعه الزّكاة، و ذروة سنامه الجهاد.
قال المحدّث العلامة المجلسي: الاضافة في ذروة سنامه بيانيّة أو لاميّة إذ للسّنام الذى هو ذروة البعير ذروة أيضا هو أرفع أجزائه، و إنما صارت الصلاة أصل الاسلام لأنه بدونها لا يثبت على ساق، و الزّكاة فرعه لأنه بدونها لا تتمّ، و الجهاد ذروة سنامه لأنه سبب لعلوّه و ارتفاعه، و قيل: لأنه فوق كل برّ كما ورد في الخبر و كيف كان (فهو عند اللّه وثيق الأركان) لابتنائه على أدلّة محكمة و اصول متقنة (رفيع البنيان) كناية عن علوّ شأنه و رفعة قدره على ساير الأديان.
(منير البرهان) أى الدّليل الدّال على حقيّته من الايات و المعجزات الباهرة منير واضح.
(مضيء النيران) كناية عن كون أنواره أى العلوم و الحكم الثاقبة التي فيه في غايةالضياء بحيث لا تخفى على الناظر المتدبّر.
(عزيز السلطان) يريد أنّ حجّته قويّة أو أنّ سلطنته غالبة على ساير الأديان كما قال تعالى لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ.
(مشرف المنار) أى مرتفع المنارة قال الشارح البحراني: و كنى به عن علوّ قدر علمائه و أئمته و انتشار فضلهم و الهداية بهم.
(معوز المثار) قيل: أى يعجز الناس ازعاجه و إثارته لقوّته و ثباته و متانته و قال البحراني: أى يعجز الخلق إثارة دفائنه و استخراج ما فيه من كنوز الحكمة و لا يمكنهم استقصاؤها، و في بعض النسخ معوز المثال أى يعجز الخلق عن الاتيان بمثله، و في بعضها معوز المنال أى يعجزون عن النيل و الوصول إلى نكاته و دقائقه و أسراره.
(فشرّفوه) أى عظّموه و عدّوه شريفا و اعتقدوه كذلك (و اتّبعوه و أدّوا إليه حقّه) أى ما يحقّه من الاتّباع الكامل (و ضعوه مواضعه) أراد به الكفّ عن تغيير أحكامه و العلم بمرتبته و مقداره الذى جعله اللّه له، أو العمل بجميع ما تضمّنه من الأوامر و النواهي، و فّقنا اللّه لذلك بجاه محمّد و آله سلام اللّه عليه و عليهم.
الترجمة
فصل ثانى از اين خطبه شريفه در وصف اسلام است و ذكر فضايل آن مى فرمايد: پس بدرستى اين اسلام دين خداست كه پسند فرموده آنرا از براى خودش و برگزيده آنرا در حالتى كه عالمست بفضيلت آن، و خالص گردانيده بأو بهترين خلق خود را كه پيغمبر آخر الزّمان صلّى اللّه عليه و آله باشد، و بر پا داشته ستونهاى آن را بر بالاى محبّت خود، ذليل نموده دينها را بسبب عزيزى آن، و پست فرموده ملّتها را بجهت بلندى آن، و خوار نموده دشمنهاى خود را بجهت گرامى داشتن آن، و ذليل كرده معاندين خود را با يارى كردن آن، و خراب كرده أركان ضلالت و گمراهى را با ركن آن، و سيراب فرموده تشنگان را از حوضهاى آن، و پر كرده حوضها رابا آب كشندگان آن.
پس گردانيده آن را كه گسيخته نمى شود جاى دستگير آن، و فك نمى شود حلقه آن، و خرابى نيست اساس آن را و زوال نيست ستونهاى آن را، و بر كندگى نيست درخت آن را، و انقطاع نيست مدّت او را، و اندراس نيست شريعتهاى او را و بريدگى نيست شاخهاى او را، و تنگى نيست راههاى آنرا، و دشوارى نيست أز براى سهولت آن، و سياهى نيست از براى سفيدى آن، و كجى نيست أز براى استقامت آن و اعوجاج نيست از براى چوب آن، و صعوبت نيست از براى راههاى آن، و خاموشى نيست چراغهاى آن را، و تلخى نيست شيريني آنرا.
پس آن اسلام ستونهائيست كه ثابت و محكم كرده خدا در حقّ اصلهاى آنها را، و بغايت مستحكم نموده از براى آنها بنيانهاى آنها را، و نهرهاى پر آبيست كه زياده است آبهاى چشمهاى آنها، و چراغهائيست كه أفروخته شده آتشهاي آنها و منارههائيست كه هدايت يافته با آنها مسافران آنها، و علمهائيست كه قصد كرده شده با آنها راه روندگان گدوكهاى آنها، و سرچشمه هائيست كه سيراب شده با آنها واردين به آنها، گردانيده است خداوند تبارك و تعالى در او غايت رضاى خود را، و بلندتر ستونهاى خود را، و كوهان طاعت خود را.
پس او است در نزد خدا كه محكم است ركنهاى آن، و بلند است بنائى آن نورانى است دليل آن، روشن است آتشهاى آن، عزيز است سلطنت آن، بلند است مناره آن، نا يابست معارضه گرى آن، پس مشرّف و گرامى داريد او را، و تبعيّت نمائيد بان، و أدا كنيد بأو حقّ او را و بگذاريد او را جائى كه لايق او است
الفصل الثالث و الرابع فى بعثة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و نبذ من فضايل القران
ثمّ إنّ اللّه بعث محمّدا صلّى اللّه عليه و آله حين دنا من الدّنيا الانقطاع، و أقبل من الاخرة الاطّلاع، و أظلمت بهجتها بعد إشراق، و قامت بأهلها على ساق، و خشن منها مهاد، و أزف منها قياد، في انقطاع من مدّتها، و اقتراب من أشراطها، و تصرّم من أهلها، و انفصام من حلقتها، و انتشار من سببها، و عفاء من أعلامها، و تكشّف من عوراتها، و قصر من طولها جعله اللّه سبحانه بلاغا لرسالته، و كرامة لامّته، و ربيعا لاهل زمانه، و رفعة لاعوانه، و شرفا لأنصاره. ثمّ أنزل عليه الكتاب نورا لا تطفا مصابيحه، و سراجا لا يخبو توقّده و بحرا لا يدرك قعره، و منهاجا لا يضلّ نهجه، و شعاعا لا يظلم ضوئه و فرقانا لا يخمد برهانه، و بنيانا لا تهدم أركانه، و شفاء لا تخشى أسقامه و عزّا لا تهزم أنصاره، و حقّا لا تخذل أعوانه. فهو معدن الايمان و بحبوحته، و ينابيع العلم و بحوره، و رياض العدل و غدرانه و أثافيّ الاسلام و بنيانه، و أودية الحقّ و غيطانه، و بحرلا ينزفه المستنزفون «المنتزفون خ ل»، و عيون لا ينضبها الماتحون، و مناهل لا يغيضها الواردون و منازل لا يضلّ نهجها المسافرون، و أعلام لا يعمى عنها السّايرن، و آكام لا يجوز عنها القاصدون. جعله اللّه ريّا لعطش العلماء، و ربيعا لقلوب الفقهاء، و محاجّ لطرق الصّلحاء، و دواء ليس معه «بعده خ ل» داء، و نورا ليس معه ظلمة و حبلا وثيقا عروته، و معقلا منيعا ذروته، و عزّا لمن تولّاه، و سلما لمن دخله، و هدى لمن ائتمّ به، و عذرا لمن انتحله، و برهانا لمن تكلّم به، و شاهدا لمن خاصم به، و فلجا لمن حاجّ به، و حاملا لمن حمله، و مطيّة لمن أعمله، و آية لمن توسّم، و جنّة لمن استلام، و علما لمن وعى، و حديثا لمن روى، و حكما لمن قضى.
اللغة
(الاطلاع) الاشراف من موضع عال و (السّاق) الشّدّة قال تعالى وَ الْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ أى اتّصلت آخر شدّة الدّنيا بأوّل شدّة الاخرة و (المهاد) بالكسر كالمهد موضع يهيّا للصّبي و الفراش و (قاد) الرّجل الفرس قودا من باب قال و قيادا بالكسر و هو نقيض السّوق قال الخليل: القود أن يكون الرّجل أمام الدّابة آخذا بقيادها، و السّوق أن يكون خلفها، فان قادها لنفسه قيل: اقتادها، و المقود بالكسر الحبل يقاد به، و القياد مثله مثل لحاف و ملحف.
و (العورة) السوءة و كلّ أمر يستحى منه و (الطول) الامتداد يقول طال الشيءطولا بالضمّ امتدّ و خلاف العرض، و في بعض النسخ من طولها وزان عنب و هو حبل تشدّ به قائمة الدّابة أو تشدّ و تمسك طرفه و ترسلها ترعى، و طال طولك و طيلك و طيالك أى عمرك أو مكثك أو غيبتك.
(و منهاجا لا يضلّ نهجه) المنهاج و النهج وزان فلس الطريق الواضح، و نهج الطريق نهجا من باب منع سلكه، و يضلّ من باب الافعال و في بعض النسخ بصيغة المجرّد.
و (الغدران) جمع الغدير و هو النهر و (الأثافي) بفتح الهمزة و تشديد الياء كاثاف جمع الاثفية بالضمّ و بالكسر و هو الحجر يوضع عليه القدر و الأثافي الأحجار الموضع عليها القدر على شكل مثلّث و (نضب) الماء نضوبا من باب قعد غار في الأرض و ينضب بالكسر من باب ضرب لغة.
و (غاض) الماء غيضا من باب سار نضب و قلّ، و غاضه اللّه بتعدّى و لا يتعدّى فالماء مغيض قال الشارح المعتزلي و روى لا يغيضها بالضمّ على قول من قال أغضت الماء و هي لغة غير مشهورة.
و (الأكمة) بالتحريك التلّ، و قيل: شرفة كالرّابية و هو ما اجتمع من الحجارة في مكان واحد، و ربّما غلظ و الجمع اكم و اكمات مثل قصبة و قصب و قصبات و جمع الاكم اكام مثل جبل و جبال، و جمع الاكام اكم بضمّتين مثل كتاب و كتب و جمع الاكم أكام مثل عنق و أعناق هكذا قال الفيومي.
و (المحجّة) بالفتح جادّة الطريق و (الفلج) بالضّم اسم من الفلج و هو الظفر و الفوز و فلج بحجّته أثبتها، و أفلج اللّه حجّته أظهرها و (وعى) الحديث وعيا من باب وعد حفظه و جمعه و تدبّره.
الاعراب
قوله: في انقطاع من مدّتها ظرف لغو متعلّق بقوله أزف و في بمعنى مع و يحتمل أن يكون ظرفا مستقرّا متعلّقا بمقدّر حالا من قياد، و قوله: نورا بدل من الكتاب، و قوله: و منهاجا لا يضلّ نهجه إن كان من باب الافعال فنهجه منصوب علىالمفعول و الفاعل ضمير مستكن راجع إلى منهاجا، و إن كان بصيغة المجرّد فهو مرفوع على الفاعل و اسناد الفعل اليه من المجاز العقلي أو المصدر بمعنى الفاعل فمجاز لغويّ و الاسناد حينئذ على حقيقته.
المعنى
اعلم أنّه عليه السّلام لمّا ذكر في الفصل السّابق فضل الاسلام و شرفه أردفه بهذا الفصل و أشار فيه إلى بعثة من جاء بالاسلام، و شرح حال زمان البعثة تنبيها بذلك على عظم ما ترتّب على بعثه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من الفوائد العظيمة، ثمّ عقّب بذكر أعظم نعمة أنعم اللّه به على عباده ببعثه و هو تنزيل الكتاب العزيز و ذلك قوله: (ثمّ إن اللّه بعث محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) بالهدى و دين الحقّ (حين دنا من الدّنيا الانقطاع و أقبل من الاخرة الاطلاع) الظاهر أنّ المراد به قرب انقطاع دنيا كلّ امّة و إقبال آخرتهم بحضور موتهم حسبما عرفت تفصيله فى شرح قوله: أمّا بعد فانّ الدّنيا قد أدبرت و آذنت بوداع و أنّ الاخرة قد أقبلت و أشرفت باطلاع، من الخطبة الثامنة و العشرين.
و يحتمل أن يراد به قرب زوالها بالكلّية و إشراف الاخرة و القيامة الكبرى بناء على أنّ ما مرّ من عمر الدّنيا أكثر ممّا بقى، و يعضده بعض الأخبار.
مثل ما رواه في البحار من البرسي في مشارق الأنوار عن الثمالي عن عليّ ابن الحسين عليهما السّلام قال: إنّ اللّه خلق محمّدا و عليّا و الطيّبين من ذريّتهما من نور عظمته و أقامهم أشباحا قبل المخلوقات، ثمّ قال الظنّ إنّ اللّه لم يخلق خلقا سواكم بلى و اللّه لقد خلق اللّه ألف ألف آدم و ألف ألف عالم و أنت و اللّه في آخر تلك العوالم.
و فيه أيضا من جامع الأخبار قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ موسى سأل ربّه عزّ و جلّ أن يعرّفه بدء الدّنيا منذكم خلقت فأوحى اللّه عزّ و جلّ إلى موسى تسألني عن غوامض علمي فقال: يا ربّ أحبّ أن أعلم ذلك، فقال: يا موسى خلقت الدّنيا منذ مأئة ألف ألف عام عشر مرات و كانت خرابا خمسين ألف عام، ثمّ بدءت في عمارتها فعمرتها خمسين ألف عام، ثمّ خلقت فيها خلقا على مثال البقر يأكلون رزقىو يعبدون غيرى خمسين ألف عام، ثمّ امتّهم كلّهم في ساعة واحدة، ثمّ خربت الدّنيا خمسين ألف عام، ثمّ بدءت في عمارتها فمكثت عامرة خمسين ألف عام، ثمّ خلقت فيها بحرا فمكث البحر خمسين ألف عام لا شيء مجاجا من الدّنيا يشرب، ثمّ خلقت دابّة و سلّطتها على ذلك البحر فشربه بنفس واحد، ثمّ خلقت خلقا أصغر من الزّنبور و أكبر من البقّ فسلّطت ذلك الخلق على هذه الدّابّة فلدغها و قتلها، فمكثت الدّنيا خرابا خمسين ألف عام، ثمّ بدءت في عمارتها فمكثت خمسين ألف سنة، ثمّ جعلت الدّنيا كلّها آجام القصب و خلقت السّلاحف و سلّطتها عليها فأكلتها حتّى لم يبق منها شيء، ثمّ أهلكتها في ساعة واحدة فمكثت الدّنيا خرابا خمسين ألف عام، ثمّ بدءت في عمارتها فمكثت عامرة خمسين ألف عام، ثمّ خلقت ثلاثين آدم ثلاثين ألف سنة من آدم إلى آدم ألف سنة، فأفنيتهم كلّهم بقضائي و قدرى، ثمّ خلقت فيها ألف ألف مدينة من الفضّة البيضاء، و خلقت في كلّ مدينة مأئة ألف ألف قصر من الذّهب الأحمر، فملئت المدن خردلا عند الهواء يومئذ ألذّ من الشهد و أحلى من العسل و أبيض من الثلج، ثمّ خلقت طيرا أعمى و جعلت طعامه في كلّ ألف سنة حبّة من الخردل أكلها كلّها حتّى فنيت، ثمّ خرّبتها فمكثت خرابا خمسين ألف عام ثمّ بدءت في عمارتها فمكثت عامرة خمسين ألف عام، ثمّ خلقت أباك آدم بيدى يوم الجمعة وقت الظهر و لم أخلق من الطين غيره، و أخرجت من صلبه النبيّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
و هذان الخبران كما ترى يعضدان ما ذكرناه من كون الغابر من الدّنيا أكثر من الباقي.
لكن العلامة المجلسي «قد» قال في المجلّد التاسع من البحار بعد ايراد رواية البرسي: لا أعتمد على ما تفرّد بنقله، و قال في المجلّد الرّابع عشر بعد رواية الخبر الثاني من جامع الأخبار: هذه من روايات المخالفين أوردها صاحب الجامع فأوردتها و لم أعتمد عليها.
فعلى ذلك لا يمكن التعويل عليهما مع منافاتهما لما رواه المحدّث الجزائرىفى الأنوار عن ابن طاوس «ره» أنّ عمر الدّنيا مأئة ألف سنة يكون منها عشرون ألف سنة ملك جميع أهل الدّنيا، و يكون ثمانون ألف سنة منها مدّة ملك آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الأولى ردّ علم ذلك إلى اللّه و الرّاسخون فى العلم عليهم السّلام هذا.
و قوله (و أظلمت بهجتها بعد اشراق) أراد به أنّه سبحانه بعث محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على حين فترة من الرّسل بعد ما كانت الدّنيا مبتهجة بوجودهم مشرقة مضيئة بأنوار هدايتهم، فأظلمت بهجتها أى ذهب حسنها و نضارتها بطول زمان الفترة و تمادى مدّة الغفلة و الضلالة.
(و قامت بأهلها على ساق) قد مضى تحقيق معنى هذه الجملة في شرح الخطبة المأة و الثامنة و الثلاثين فليراجع ثمّة و محصّل المراد بلوغها حين بعثته إلى غاية الشدّة بأهلها لما كانت عليه العرب حينئذ من ضيق العيش و الضّر و الحروب و القتل و الغارة و إثارة الفتن و تهييج الشرور و المفاسد كما قال عليه السّلام في الخطبة السّادسة و العشرين: إنّ اللّه بعث محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نذيرا للعالمين و أمينا على التنزيل، و أنتم معشر العرب على شرّ دين و فى شرّ دار منيخون بين حجارة خشن و حيات صمّ، تشربون الكدر، و تأكلون الجشب، و تسفكون دمائكم و تقطعون أرحامكم آه.
(و خشن منها مهاد) كناية عن عدم الاستقرار بها و فقدان طيب العيش و الرّاحة، لأنّ ذلك إنّما يتمّ بانتظام الشرائع و ثبات قوانين العدل و يرتفع بارتفاعها.
(و أزف منها قياد) أى قرب منها اقتياد أهلها و تعريضهم بالهلاك و الفناء، أو انقيادها بنفسها للعدم و الزّوال، و الثاني أظهر بملاحظة الظروف الّتي بعدها أعني قوله.
(في انقطاع من مدّتها) و انخراطها في سلك العدم.
(و اقتراب من أشراطها) أي آياتها و علاماتها الدّالّة على زوالها، و المراد بها أشراط السّاعة الّتي اشير اليها في قوله تعالى فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها و قوله وَ إِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ و قوله فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ. مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ.
و انّما جعلها من أشراط الدّنيا مع كونها من أشراط السّاعة لوقوعها في الدّنيا مع أنّها كما تدلّ على قرب القيامة تدلّ على انقطاع الدّنيا و تمامها، فتكون أشراطا لهما معا، و مضى تفصيل هذه الأشراط في شرح الخطبة المأة و التاسعة و الثمانين.
و روى في الصافي في حديث أشراط السّاعة: أوّل الايات الدّخان و نزول عيسى و نار تخرج من قعر عدن ابين تسوق النّاس إلى المحشر.
و فى البحار من مجمع البيان و روى عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: بادروا بالأعمال ستّا: طلوع الشمس من مغربها، و الدّابّة، و الدّجّال، و الدّخان، و خويصة أحدكم أى موته، و أمر العامّة يعني القيامة.
(و تصرّم من أهلها) أى انقطاع منهم (و انفصام من حلقتها) أى انكسار و اندراس من نظام أهلها و اجتماعهم على الشريعة و الدّين (و انتشار من سببها) أى تفرّق من حبلها و ربقتها المشدودة بها رقاب أهلها و هو حبل الاسلام.
(و عفاء من اعلامها) أى دروس منها و هو كناية عن فقدان الأنبياء و العلماء الصّالحين الذين يهتدى بهم في ظلمات الجهالة و يستضاء بأنوارهم في بوادى الضّلالة.
(و تكشّف من عوراتها) أى ظهور من معايبها و مساويها الّتي كانت مستورة بحجاب الشرائع و استار الاسلام.
(و قصر من طولها) أى من تماديها و امتدادها أو المراد قصر عمرها على رواية طول بكسر الطّاء و فتح الواو.
و تعديد هذه الحالات الّتي كان عليها النّاس حين بعثه صلّى اللّه عليه و آله و شرحها و بسطها تذكيرا للمخاطبين بأنّ بعثه في مثل تلك الحالات أعظم من منّ اللّه تعالى به على عباده، ليؤدّ السامعون بتذكّره و ذكراه وظايف شكر تلك النعمة العظمى، و يقوموا بمراسم حمده حيث أنقذهم ببعثه سلام اللّه عليه و آله من ورطات الكفر و الضّلال، و أنجاهم من العقاب و الوبال.
(جعله اللّه سبحانه بلاغا لرسالته) أى تبليغا لها كما في قوله تعالى قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ أى إلّا أداء الرّسالة و بيان الشريعة أو كفاية لها كما في قولهتعالى في وصف القرآن هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَ لِيُنْذَرُوا بِهِ أى موعظة بالغة كافية، و على المعنيين فلا بد من جعل المصدر بمعنى الفاعل أى جعله عزّ و جلّ مبلّغا للرسالة أو كافيا لها أى غير محتاج معه إلى رسول آخر، و لذلك كان صلّى اللّه عليه و آله خاتم النّبوة.
(و كرامة لامّته) أى أكرمهم عزّ و جلّ بجعله رسولا لهم و جعلهم امّة له صلّى اللّه عليه و آله و فضّلهم بذلك على ساير الامم.
(و ربيعا لأهل زمانه) تشبيهه بالرّبيع إمّا من أجل ابتهاجهم ببهجة جماله و بديع مثاله كما يبتهج النّاس بالرّبيع و نضراته و طراوته، أو من أجل أنّ أهل زمانه قد خرجوا بوجوده الشريف من ضنك المعيشة إلى الرّخا و السعة، كما أنّ الناس يخرجون في الرّبيع من جدب الشتاء و ضيق عيشها إلى الدّعة و الرفاهة.
(و رفعة لأعوانه و شرفا لأنصاره) يحتمل رجوع الضميرين الى اللّه كما في الفقرة الاولى و إلى محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كما في الفقرتين الأخيرتين، و على أىّ تقدير فالمراد بالأعوان و الأنصار المسلمون أمّا كونهم أنصارا له صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فواضح، و أمّا جعلهم أنصارا و عونا للّه عزّ و جلّ على الاحتمال الأول فلكونهم أنصار دين اللّه و أعوان رسوله، أضافهما إليه تعالى تشريفا و تكريما.
و كيف كان فقد شرف اللّه تعالى المسلمين و رفع شأنهم فى الدّنيا و الاخرة بمتابعتهم لرسوله و معاونتهم له و سلّطهم على محادّيه و جاحديه لعنهم اللّه تعالى و عذّبهم عذابا أليما، هذا.
و لمّا ذكر بعثة النّبي صلّى اللّه عليه و آله و أشار إلى بعض فوايد بعثه أردفه بذكر أعظم معجزات النّبوة و هو الكتاب العزيز، و أشار إلى جملة من أوصافه و مزاياه تنبيها على علوّ قدره و عزّة شأنه فقال: (ثمّ أنزل عليه الكتاب) و عدّ به اثنين و أربعين منقبة.
أولها كونه (نورا لا تطفى مصابيحه) أمّا أنّه نور فلاهتداء النّاس به من ظلمات الجهل كما يهتدى بالنور المحسوس في ظلمة اللّيل قال تعالى إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ و أمّا مصابيحه فاستعارة لطرق الاهتداء و فنون العلوم الّتي تضمّنها القرآن.
(و) الثانية كونه (سراجا لا يخبو توقده) أمّا أنّه سراجا فلما مرّ آنفا، و أمّا، أنّه لا يخبو توقّده فالمراد به عدم انقطاع اهتداء النّاس به و استضاءتهم بنوره.
(و) الثالثة كونه (بحرا لا يدرك قعره) استعارة البحر له باعتبار اشتماله على النكات البديعة و الأسرار الخفيّة و دقايق العلوم الّتي لا يدركها بعد الهمم و لا ينالها غوص الفطن كما لا يدرك الغائص قعر البحر العميق.
(و) الرابعة كونه (منهاجا لا يضلّ نهجه) أى طريقا واضحا مستقيما إلى الحقّ لا يضلّ سالكه أو لا يضلّ سلوكه.
(و) الخامسة كونه (شعاعا لا يظلم ضوءه) أى حقّا لا يدانيه شكّ و ريب أى لا يشوبه ظلمة الباطل فيغطيه و يستره كما قال تعالى ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ و قال لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ.
قال الطبرسي: قيل: إنّ الباطل الشيطان و معناه لا يقدر الشيطان أن ينقص منه حقّا أو يزيد فيه باطلا، و قيل: لا يأتيه الباطل من جهة من الجهات فلا تناقض في ألفاظه.
و لا كذب في اخباره و لا يعارض و لا يزاد فيه و لا يغيّر بل هو محفوظ حجة على المكلّفين إلى يوم القيامة، و يؤيّده قوله تعالى إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ.
(و) السادسة كونه (فرقانا لا يخمد برهانه) أى فارقا بين الحقّ و الباطل و فاصلا بينهما لا ينتفي براهينه الجليّة و بيّناته الّتي بها يفرق بينهما كما قال تعالى إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَ ما هُوَ بِالْهَزْلِ و قال هُدىً لِلنَّاسِ وَ بَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَ الْفُرْقانِ.
(و) السابعة كونه (بنيانا لا تهدم أركانه) شبّهه ببنيان مرصوص وثيق الأركان فاستعار له لفظه و الجامع انتظام الاجزاء و اتّصال بعضها ببعض، و قوله: لا تهدم أركانه، ترشيح للاستعارة، و فيه إشارة إلى أنّ البنيان الوثيق كما أنّه مأمون من التّهافت و الهدم و الانفراج فكذلك الكتاب العزيز محفوظ من طروّ النقص و الخلل و الاندراس.
(و) الثامنة كونه (شفاء لا تخشى أسقامه) يعني انّه شفاء للأبدان و الأرواح.
أمّا الأبدان فبالتجربة و العيان مضافا إلى الأحاديث الواردة في خواصّ أكثر الايات المفيدة للاستشفاء و التعويذ بها.
مثل ما في الكافي باسناده عن السّكوني عن أبي عبد اللّه عن آبائه عليهم السّلام قال: شكى رجل إلى النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وجعا في صدره فقال: استشف بالقرآن فانّ اللّه عزّ و جلّ يقول: وَ شِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ.
و عن سلمة بن محرّز قال: سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: من لم يبرءه الحمد لم يبرءه شيء.
و عن إبراهيم مهزم عن رجل سمع أبا الحسن عليه السّلام يقول: من قرء آية الكرسي عند منامه لم يخف الفالج انشاء اللّه، و من قرءها في دبر كلّ فريضة لم يضرّه ذو حمة.
و فى مجمع البيان من كتاب العياشي باسناده انّ النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال لجابر بن عبد اللّه الأنصارى: ألا اعلمك أفضل سورة أنزلها اللّه في كتابه قال: فقال له جابر: بلى بأبى أنت و أمّي يا رسول اللّه علّمنيها، قال: فعلّمه الحمد أمّ الكتاب، ثمّ قال: يا جابر ألا اخبرك عنها قال: بلى بأبى أنت و امّى فأخبرني، فقال: هى شفاء من كلّ داء إلّا السّام، و السّام الموت، إلى غير هذه ممّا لا حاجة إلى ايرادها.
و أمّا الأرواح فلأنّه بما تضمّنه من فنون العلوم شفاء لأمراض الجهل.
فقد ظهر بذلك كونه شفاء للأبدان من الأوجاع و الأسقام، و شفاء للقلوب من كلّ شك و ريب و شبهة، و يصدق ذلك قوله تعالى في سورة السجدة قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَ شِفاءٌ و في سورة بني اسرائيل وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَ لا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً.
قال أمين الاسلام الطبرسي وجه الشّفاء فيه من وجوه: منها ما فيه من البيان الّذى يزيل عمى الجهل و حيرة الشكّ.
و منها ما فيه من النظم و التأليف و الفصاحة البالغة حدّ الاعجاز الّذى يدلّ على صدق النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فهو من هذه الجهة شفاء من الجهل و الشكّ و العمى في الدّين و يكون شفاء للقلوب.
و منها أنّه يتبرّك به و بقراءته و يستعان به على دفع العلل و الأسقام و يدفع اللّه به كثيرا من المكاره و المضارّ على ما يقتضيه الحكمة.
و منها ما فيه من أدّلة التوحيد و العدل و بيان الشرائع فهو شفاء للنّاس في دنياهمو آخرتهم، و رحمة للمؤمنين أى نعمة لهم، و إنّما خصّهم بذلك لأنّهم المنتفعون به، انتهى.
فقد تحصّل من ذلك أنّه شفاء لا يخاف أن يعقب سقما، لأنّ الكمالات النفسانية الحاصلة من قراءته و تفكّره و تدبّر آياته تصير ملكات راسخة لا تتبدّل بأضدادها و لا تتغيّر.
(و) التاسعة كونه (عزا لا تهزم أنصاره) أى لا تغلب و لا تقهر.
(و) العاشرة كونه (حقّا لا تخذل أعوانه) و المراد بأعوانه و أنصاره هم المسلمون العارفون بحقّه العاملون بأحكامه و عدم هزمهم و خذلانهم نصّ قوله تعالى لَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا.
قال في مجمع البيان فيه أقوال: أحدها أنّ المراد لن يجعل اللّه لليهود على المؤمنين نصرا و لا ظهورا.
و قيل: لن يجعل اللّه للكافرين على المؤمنين سبيلا بالحجّة و إن جاز أن يغلبوهم بالقوّة، لكن المؤمنين منصورون بالدّلالة و الحجّة.
و قيل: لن يجعل لهم في الاخرة عليهم سبيلا لأنّه مذكور عقيب قوله فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ بيّن اللّه سبحانه أنّه إن يثبت لهم سبيل على المؤمنين في الدّنيا بالقتل و القهر و النهب و الاسر و غير ذلك من وجوه الغلبة فلن يجعل لهم يوم القيامة عليهم سبيلا.
و الحادية عشر ما أشار إليه بقوله (فهو معدن الايمان و بحبوحته).
أمّا أنّه معدن الايمان، فلأنّ المعدن عبارة عن منبت الجوهر من ذهب و فضّة و نحوهما، و لمّا كان الايمان باللّه و رسوله جوهرا نفيسا لا جوهر أنفس منه و لا أغلى عند ذوى العقول، و كان يستفاد من القرآن و يستخرج منه جعله معدنا له.
و أمّا أنّه بحبوحته و وسطه فلأنّ الايمان بجميع أجزائه و شرايطه و مراسمه يدور عليه، فهو بمنزلة القطب و المركز لدائرة الايمان كما هو ظاهر.
(و) الثانية عشر أنّه (ينابيع العلم و بحوره)أمّا أنّه ينابيع العلم فلأنّ العلوم بجميع أقسامه منه تفيض كالعيون الجارية منها الماء.و أمّا أنّه بحوره فلاحتوائه بفنون العلم كاحتواء البحر بمعظم الماء
(و) الثالثة عشر أنّه (رياض العدل و غدرانه).أمّا كونه رياض العدل فلأنّ الرّياض عبارة عن مجامع النّبات و الزّهر و الرّياحين الّتي تبتهج النفوس بخضرتها و نضرتها، و تستلذّ الطباع بحسنها و بهجتها كما قال تعالى حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ فشبّه التّكاليف الشرعيّة المجعولة عن وجه العدل و الحكمة بالزّهر و النبات الحسن لايجابها لذّة الأبد و جعل الكتاب العزيز رياضا لها لاجتماعها فيه و استنباطها منه.
و أمّا كونه غدران العدل فلأنّ الغدير عبارة عن مجمع الماء فشبّه الأحكام العدليّة بالماء لما فيها من حياة الأرواح كما أنّ بالماء حياة الأبدان و جعله غديرا لجامعيّته لها.
(و) الرابعة عشر أنّه (أثافيّ الاسلام و بنيانه) لما قد عرفت من أنّ الأثافي عبارة عن الأحجار الّتي عليها القدر، فجعله أثافى للاسلام لاستقراره و ثباته عليه مثل استقرار القدر على الأثافي.
و بهذا الاعتبار أيضا جعل الصلاة و الزّكاة و الولاية أثافية في حديث البحار من الكافي عن الصّادق عليه السّلام قال: أثافي الاسلام ثلاثة: الصلاة، و الزكاة، و الولاية لا تصحّ واحدة منهنّ إلّا بصاحبتها.
قال العلّامة المجلسيّ: و إنّما اقتصر عليها لأنها أهمّ الأجزاء و يدلّ على اشتراط قبول كلّ منها بالاخرين، و لا ريب في كون الولاية شرطا لصحّة الاخريين.
(و) الخامسة عشر أنّه (أودية الحقّ و غيطانه) يعني أنّ طالب الحقّ إنّما يجده في هذه الأودية و الأراضى المطمئنة قال الشارح البحراني: و اللّفظان مستعاران باعتبار كونه معدنا للحقّ و مظنّة له، كما أنّ الأودية و الغيطان مظانّ الكلاء و الماء.
(و) السادسة عشر أنّه (بحر لا ينزفه المستنزفون) أى لا ينزحه كلّه و لا يفنيهالمستقون، و هو إشارة إلى عدم انتهاء العلوم المستفادة منه، فانّ فيه علم ما كان و ما يكون و ما هو كائن إلى يوم القيامة حسبما عرفت في شرح الفصل السّابع عشر من الخطبة الاولى.
(و) السابعة عشر أنّه (عيون لا ينضبها الماتحون) أى لا يغيّرها المستسقون.
(و) الثامنة عشر أنّه (مناهل لا يغيضها الواردون) أى مشارب لا ينقص مائها الواردون على كثرة ورودهم عليها.
(و) التاسعة عشر أنّه (منازل لا يضلّ نهجها المسافرون) يعني أنّه منازل السّالكين إلى اللّه لا يضلّ مسافروه منهاج تلك المنازل لكونه واضحا جليّا و جادّة مستقيمة
(و) العشرون أنّه (أعلام لا يعمى عنها السّائرون) لاستنارتها و اضاءتها.
(و) الحادية و العشرون أنّه (آكام لا يجوز عنها القاصدون) قال الشّارح البحراني: استعار لفظ الاعلام و الاكام للأدلّة و الامارات فيه على طريق إلى معرفته و احكامه باعتبار كونها هادية إليها كما تهدى الأعلام و الجبال على الطّرق.
و الثانية و العشرون أنّه (جعله اللّه تعالى ريّا لعطش العلماء) شبّه شدّة اشتياق نفوس العلماء و حرصهم على المعارف الحقّة الالهيّة بعطش العطاش، و حيث إنّ الكتاب العزيز كان رافعا لغللهم جعله مرويّا لهم كما يروى الماء الغليل.
(و) الثالثة و العشرون أنّه جعله سبحانه (ربيعا لقلوب الفقهاء) لابتهاج قلوبهم به و استلذاذهم منه كما يبتهج النّاس بالرّبيع.
(و) الرابعة و العشرون أنّه جعله (محاجّ لطرق الصلحاء) أى جواد واضحة مستقيمة لا عوج فيها و لا خفاء، لأنّه يهدى للّتي هي أقوم.
(و) الخامسة و العشرون أنّه جعله (دواء ليس معه داء) حسبما عرفته في شرح قوله: و شفاء لا تخشى أسقامه.
(و) السادسة و العشرون أنّه جعله (نورا ليس معه ظلمة) أى حقّا لا يشوبه باطل حسبما عرفته في شرح قوله، و شعاعا لا يظلم نوره.
و فى الكافى باسناده عن أبى جميلة قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: كان في وصيّة أمير المؤمنين عليه السّلام أصحابه: إنّ هذا القرآن هدى النهار و نور اللّيل المظلم على ما كان من جهد و فاقة.
و فيه عن طلحة بن زيد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إنّ هذا القرآن فيه منار الهدى و مصابيح الدّجى فليجل جال بصره و يفتح للضياء نظره فانّ التّفكّر حياة قلب البصير كما يمشي المستنير في الظّلمات بالنور.
(و) السابعة و العشرون أنّه جعله (حبلا وثيقا عروته) لا يخشى من انفصامه من تمسّك به و اتّبع بأحكامه نجا و من تركه هلك.
(و) الثامنة و العشرون أنّه جعله (معقلا منيعا ذروته) أى ملجأ و حصنا حصينا يمنع الملتجى إليه من أن يناله المكروه و سوء العذاب.
(و) التاسعة و العشرون أنّه جعله (عزّا لمن تولّاه) يعني من اتّخذه وليّا و ألقى إليه أزمّة اموره و عمل بأوامره و نواهيه فهو عزّة له في الدّارين.
(و) الثلاثون أنّه جعله عزّ و جلّ (سلما لمن دخله) قال الشارح البحراني أى أمنا، و دخوله الخوض في تدبّر مقاصده و اقتباسها و بذلك الاعتبار يكون مأمنا من عذاب اللّه و من الوقوع في الشّبهات الّتي هي مهاوى الهلاك، و قيل: استعار لفظ السّلم باعتبار عدم اذاه لمن دخله فهو كالمسالم له.
(و) الحادية و الثلاثون أنّه جعله (هدى لمن ائتمّ به) و هو واضح كما قال تعالى ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ.
(و) الثانية و الثلاثون أنه جعله (عذرا لمن انتحله) و لعلّ المراد كونه عذرا منجيا من العذاب يوم القيامة لمن دان به و جعله نحلته و قيل: إنّ المراد أنّ من انتسب اليه بأن جعل نفسه من أهل القرآن و افتخر بذلك كان القرآن نفسه عذرا له، لعلوّ شأنه، و ما ذكرناه أقرب.
(و) الثالثة و الثلاثون أنّه جعله (برهانا لمن تكلّم به) أى حجّة واضحة و بيانا جليا لمن احتجّ به.
(و) الرابعة و الثلاثون أنه جعله (شاهدا لمن خاصم به) أى دليلا محكما للمستدلّ.
(و) الخامسة و الثلاثون أنّه جعله (فلجأ لمن حاجّ به) أى ظفرا و فوزا للمخاصم يعني أنّ من خاصم و احتجّ به فاز بمقصده و غلب خصمه.
روى في البحار من كنز الفوايد باسناده عن أبي جعفر عليه السّلام قال: يا معشر الشّيعة خاصموا بسورة إنّا أنزلناه في ليلة القدر تفلجوا، فو اللّه إنّها لحجّة اللّه تبارك و تعالى على الخلق بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إنّها لسيّدة دينكم و إنّها لغاية علمنا، يا معشر الشّيعة خاصموا بحم و الكتاب المبين فانّها لولاة الأمر خاصة بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
(و) السادسة و الثلاثون أنه جعله (حاملا لمن حمله) يعني أنّ من حمل القرآن و حفظه و عمل به و اتّبع أحكامه حمله القرآن إلى دار القدس و غرفات الجنان.
روى في الكافي باسناده عن جابر عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا معاشر قرّاء القرآن اتّقوا اللّه عزّ و جلّ فيما حملكم من كتابه فاني مسئول و انكم مسئولون، إنّي مسئول عن تبليغ الرّسالة، و أما أنتم فتسألون عما حملتم من كتاب اللّه و سنّتي.
و فيه عن السكونى عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: حملة القرآن عرفاء أهل الجنّة و المجتهدون قوّاد أهل الجنّة و الرّسل سادات أهل الجنّة.
و عن عمرو بن جميع عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ أحقّ النّاس بالتخشّع في السّرّ و العلانية لحامل القرآن، و إنّ أحقّ النّاس في السرّ و العلانية بالصلاة و الصّوم لحامل القرآن، ثمّ نادى بأعلى صوته يا حامل القرآن تواضع به يرفعك اللّه و لا تعزّ زبه فيذلّك اللّه، يا حامل القرآن تزيّن به للّه يزيّنك اللّه به و لا تزيّن به للنّاس فيشينك اللّه به، من ختم القرآن فكأنّما ادرجت النّبوة بين جنبيه و لكنّه لا يوحى إليه، و من جمع القرآن فنوله لا يجهل مع من يجهل عليه و لا يغضب فيمن يغضب عليه و لا يحدّ فيمنيحدّ عليه و لكنّه يعفو و يصفح و يغفر و يحلم لتعظيم القرآن، و من اوتى القرآن فظنّ أنّ أحدا من النّاس اوتى أفضل ممّا اوتى فقد عظّم ما حقّر اللّه، و حقّر ما عظّم اللّه.
(و) السابعة و الثلاثون أنّه جعله (مطيّة لمن أعمله) أى مركبا سريع السّير يبلغ بمن أعمله إلى منزله و مقصده، و هو حظاير القدس و مجالس الانس، و المراد باعماله هو حفظه و المواظبة عليه و عدم الغفلة عنه.
روى في الكافي باسناده عن ابن أبي يعفور قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: إنّ الرّجل إذا كان يعلم السّورة ثمّ نسيها و تركها و دخل الجنّة أشرفت عليه من فوق فى أحسن صورة فتقول: تعرفني فيقول: لا، فتقول: أنا سورة كذا و كذا لم تعمل بي و تركتني أما و اللّه لو عملت بي لبلغت بك هذه الدّرجة، و أشارت بيدها إلى فوقها.
و عن يعقوب الأحمر قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: إنّ عليّ دينا كثيرا و قد دخلني شيء ما كاد القرآن يتفلّت مني، فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: القرآن القرآن إنّ الاية من القرآن و السّورة لتجيء يوم القيامة حتّى تصعد ألف درجة يعني في الجنّة، فتقول: لو حفظتني لبلغت بك ههنا.
و عن أبي بصير قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: من نسي سورة من القرآن مثّلت له في صورة حسنة و درجة رفيعة في الجنّة، فاذا رآها قال: ما أنت ما أحسنك ليتك لي، فيقول: أما تعرفني أنا سورة كذا و كذا و لو لم تنسني لرفعتك إلى هذا.
(و) الثامنة و الثلاثون أنّه جعله (آية لمن توسّم) أى دلالة للمتفكّر المعتبر و علامة يستدلّ بها المتفرّس، و أصل التوسّم هو النظر في السمة أى العلامة الدّالة قال تعالى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ أى دلالات للمتفكّرين المعتبرين.
قال في مجمع البيان: و قد صحّ عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: اتّقوا فراسة المؤمن و انّه ينظر بنور اللّه، و قال: إن للّه عبادا يعرفون الناس بالتوسّم ثمّ قرء هذه الاية.
(و) التاسعة و الثلاثون أنه جعله (جنّة لمن استلام) أى وقاية و سلاحا لطالبالدّرع و السلاح، و المراد كونه وقاية لقارئه من مكاره الدّنيا و الاخرة أما الاخرة فواضحة، لأنه يوجب النجاة من النار و الخلاص من غضب الجبار جلّ جلاله.
و أما الدّنيا فيدلّ على كونه وقاية من مكارهها صريح قوله تعالى وَ إِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً.
قال الطبرسيّ: قال الكلبيّ: و هم أبو سفيان و النّضر بن الحرث و أبو جهل و امّ جميل امرأة أبي لهب، حجب اللّه رسوله عن أبصارهم و كانوا يأتونه و يمرّون به و لا يرونه.
و فى الصافى من قرب الاسناد عن الكاظم عليه السّلام انّ امّ جميل امرأة أبي لهب أتته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حين نزلت سورة تبّت و مع النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أبو بكر بن أبي قحافة، فقال: يا رسول اللّه هذه امّ جميل منخفضة أو مغضبة تريدك و معها حجر تريد أن ترميك به فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّها لا تراني، فقالت لأبي بكر: أين صاحبك قال: حيث شاء اللّه، قالت: لقد جئته و لو أراه لرميته فانّه هجاني و اللّات و العزّى إنّي لشاعرة، فقال أبو بكر: يا رسول اللّه لم ترك قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا، ضرب اللّه بيني و بينها حجابا مستورا.
و أما ساير النّاس فيشهد بكونه جنّة لهم من المكاره.
ما رواه في الكافي باسناده عن الاصبغ بن نباته عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: و الّذى بعث محمّدا بالحقّ و أكرم أهل بيته ما من شيء تطلبونه من حرز من حرق أو غرق أو سرق أو إفلات دابة من صاحبها أو آبق إلّا و هو في القرآن، فمن أراد ذلك فليسألني عنه.
قال: فقام اليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين أخبرني عمّا يؤمن من الحرق و الغرق فقال عليه السّلام: اقرء هذه الايات إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَ هُوَ… وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ- الى قوله سُبْحانَهُ- وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ فمن قرأها فقد أمن من الحرق و الغرق، قال: فقرأها رجل و اضطرمت النار في بيوت جيرانه و بيته وسطها فلم يصبه شيء.
ثمّ قام اليه رجل آخر فقال: يا أمير المؤمنين إنّ دابتي استصعبت عليّ و أنا منها على وجل فقال: اقرء في اذنها اليمني أَ فَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَ لَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ طَوْعاً فقرأها فذلّت له دابّته.
و قام إليه آخر فقال: يا أمير المؤمنين إنّ أرضي أرض مسبعة إنّ السباع تغشى منزلي و لا تجوز حتى تأخذ فريستها فقال: اقرء لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ فقرأهما الرّجل فاجتنبته السباع.
ثمّ قام إليه آخر فقال: يا أمير المؤمنين إنّ في بطني ماء أصفر فهل من شفاء فقال: نعم بلا درهم و لا دينار و لكن اكتب على بطنك آية الكرسي و تغسلها و تشربها و تجعلها ذخيرة في بطنك فتبرء باذن اللّه عزّ و جلّ، ففعل الرّجل فبرء باذن اللّه.
ثمّ قام إليه آخر فقال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن الضّالّة فقال عليه السّلام اقرء يس في ركعتين و قل: يا هادى الضالّة ردّ عليّ ضالّتي ففعل فردّ اللّه عليه ضالّته.
ثمّ قام إليه آخر فقال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن الابق فقال عليه السّلام: اقرء «أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ- إلى قوله- وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ» فقالها الرّجل فرجع إليه الابق.
ثمّ قام إليه آخر فقال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن السّرق فانّه لا يزال قد يسرق لي الشيء بعد الشيء ليلا، فقال له: اقرء إذا آويت إلى فراشك «قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ- إلى قوله- وَ كَبِّرْهُ تَكْبِيراً» ثمّ قال أمير المؤمنين عليه السّلام: من بات بأرض قفر فقرأ هذه الاية إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ- إلى قوله- تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ حرسته الملائكة و تباعدت عنه الشّياطين.
قال: فمضى الرّجل فاذا هو بقرية خراب فبات فيها و لم يقرأ هذه الاية فغشاه الشّياطين و إذا هو آخذ بخطمه فقال له صاحبه: انظره، و استيقظ الرّجل فقرأ الاية فقال الشيطان لصاحبه: ارغم اللّه أنفك احرسه الان حتّى يصبح.
فلمّا أصبح رجع الى أمير المؤمنين عليه السّلام فأخبره فقال له رأيت في كلامك الشفاء و الصّدق و مضى بعد طلوع الشمس فاذا هو بأثر شعر الشّياطين مجتمعا في الأرض.
(و) الاربعون أنّه جعله (علما لمن وعى) أى علما كاملا بالمبدإ و المعاد لمن حفظه و عقله و جعله في وعاء قلبه قال الطريحي: و في الحديث لا يعذّب اللّه قلبا وعي القرآن، أى عقل القرآن ايمانا منه و عملا، فأمّا من حفظ ألفاظه و ضيّع حدوده فهو غير واع له، و فيه: خير القلوب أوعاها، أى أحفظها للعلم و أجمعها له.
(و) الحادية و الاربعون أنّه جعله (حديثا لمن روى) قال أمين الاسلام الطبرسي في تفسير قوله تعالى اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ يعنى القرآن، و إنّما سمّاه اللّه حديثا لأنّه كلام اللّه و الكلام سمّى حديثا كما يسمّى كلام النبىّ حديثا، لأنه حديث التنزيل بعد ما تقدّمه من الكتب المنزلة على الأنبياء، و هو أحسن الحديث لفرط فصاحته و لاعجازه و لاشتماله على جميع ما يحتاج المكلّف إليه من التنبيه على أدلّة التوحيد و العدل و بيان أحكام الشرائع و غير ذلك من المواعظ و قصص الأنبياء و الترغيب و الترهيب، كتابا متشابها يشبه بعضه بعضا و يصدق بعضه بعضا ليس فيه اختلاف و تناقض، و قيل: إنه يشبه كتب اللّه المتقدّمة و ان كان أعم و أجمع و أنفع.
(و) الثانية و الاربعون أنه جعله (حكما لمن قضى) يعنى من يقضى بين الناس، فالقرآن حكم له لا حكم له غيره لأنه الحكم الحقّ و غيره باطل كما قال تعالى وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ و فى آية اخرى فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ و فى ثالثة فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ.
قيل فى توجيهه: إنّ الحاكم بغير ما أنزل اللّه إن كان لا مع الاعتقاد فهو إمّا ظالم أو فاسق، و ان حكم بذلك مع اعتقاد أنّه غير ما أنزل اللّه فهو كافر، هذا.
و قد تقدّم في شرح الفصل السابع عشر من الخطبة الاولى و غيره فصل واف في فضل الكتاب العزيز و ما يتعلّق به فليراجع هناك، و نسأل اللّه سبحانه أن يجعلنا من العارفين بفضله، و العاملين بأحكامه، و الواعين لعلمه، و الرّاوين لحديثه، و القاضينبحكمه بجاه محمّد و آله سلام اللّه عليه و عليهم.
الترجمة
فصل سيّم و چهارم از اين خطبة در بيان بعثت حضرت رسالتماب صلوات اللّه و سلامه عليه و آله و اشاره بر فوايد بعثت است و ذكر نزول كتاب كريم و إشاره بر مناقب آن مى فرمايد: پس بدرستى كه خداوند تعالى مبعوث فرمود محمّد بن عبد اللّه صلّى اللّه عليه و آله را با حقّ هنگامى كه نزديك شده از دنياى فانى بريده شدن آن، و اقبال كرده بود از آخرت مشرف بودن آن، و ظلمانى شده بود شكفتگى دنيا بعد از روشنائى آن، و بر پا ايستاده بود بأهل خود بغايت شدّت، و ناهموار شده بود از آن بساط آن، و نزديك شده بود از آن انقياد آن بزوال در انقطاع مدّت آن، و نزديكى علامتهاى فناى آن، و بريده شدن أهل آن، و گسيخته شدن حلقه آن، و تفرّق ريسمان آن، و اندراس علمهاى آن، و انكشاف قبايح آن، و كوتاهى درازى آن.
گردانيد او را حق تعالى كفايت كننده از براى رسالت خود، و كرامت از براى امّت او، و بهار از براى أهل زمان او، و سر بلندى بجهت اعوان او، و شرف مر ياران او را.
پس نازل فرمود بر آن بزرگوار كتاب عزيز خود را نورى كه خاموش نمى باشد چراغهاى آن، و چراغى كه نابود نمىگردد اشتعال آن، و دريائى كه درك نمى شود ته آن، و جاده واضحى كه ضلالت نمى افتد سالك آن، و شعائى كه تاريك نمى باشد روشنائى آن، و فرقانى كه خاموش نمى شود برهان و دليل آن، و بنيادى كه خراب نمى شود ركنهاى آن، و شفائى كه ترسيده نمى شود مرضهاى آن، و عزيزى كه مغلوب نمى باشد ناصران آن، و حقى كه خوار نمى باشد ياران آن.
پس آن كتاب معدن ايمان و وسط او است، و چشمهاى علم و درياهاى او است و باغهاى عدالت و گودالهاى آب او است، و پايهاى اسلام و بنيان او است، و بيابانهاىحق و گوديهاى او است، و دريائيست كه نمى تواند بكشد آب آن را آب كشندگان و چشمهائيست كه تمام نمى كند آب آنرا آب بردارندگان، و سرچشمه هائى است كه ناقص نمى نمايد آن را واردان، و منزلهائيست كه گم نمى كند راه آن را مسافران، و علامتهائيست كه نابينا نمى شود از آنها سير كنندگان، و تلهائيست كه تجاوز نمى نمايد از آنها قاصدان.
گردانيد خداوند آن را سيرابى از براى تشنگى عالميان، و بهار از براى قلبهاى فقيهان، و راههاى روشن از براى طرق صالحان، و دوائى كه نيست بعد از آن دردى، و نورى كه نيست با وجود آن ظلمتى، و ريسمانى كه محكم است جاى دستگير آن، و پناهگاهى كه مانع است بلندى آن، و عزيزى از براى كسى كه آنرا بجهت خود دوست اخذ نموده باشد، و أمن امان أز براى كسى كه داخل آن شود و هدايت از براى كسى كه اقتدا نمايد بان، و عذر از براى كسى كه نسبت آنرا بخود بدهد، و برهان واضح بجهت كسى كه با آن تكلّم نمايد، و شاهد صادق بجهت كسى كه مخاصمه نمايد با آن، و غلبه و ظفر براى كسى كه احتجاج كند با آن، و بردارنده مر حاملان خود را، و مركب از براى كسى كه إعمال نمايد آنرا، و علامت از براى كسى كه تفكر نمايد، و زره از براى كسى كه طالب سلاح باشد، و علم كامل كسي را كه حفظ كند آنرا، و حديث صحيح كسى را كه روايت نمايد، و حكم بحق از براى كسى كه حكم نمايد.
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»