google-site-verification: googledc28cebad391242f.html
180-200 خطبه شرح وترجمه میر حبیب الله خوئیخطبه ها شرح و ترجمه میر حبیب الله خوئی

نهج البلاغه خطبه ها خطبه شماره 192 (شرح میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی») همام(صفات متقین)

خطبه 193 صبحی صالح

193- و من خطبة له ( عليه ‏السلام  ) يصف فيها المتقين‏

روي أن صاحبا لأمير المؤمنين ( عليه ‏السلام  ) يقال له همام كان رجلا عابدا فقال له يا أمير المؤمنين صف لي المتقين حتى كأني أنظر إليهم فتثاقل ( عليه ‏السلام  ) عن جوابه

ثم قال يا همام اتق الله و أحسن ف إن الله مع الذين اتقوا و الذين هم محسنون فلم يقنع همام بهذا القول حتى عزم عليه فحمد الله و أثنى عليه و صلى على النبي ( صلى ‏الله ‏عليه‏ وآله  ) ثم قال( عليه ‏السلام  )

أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ حِينَ خَلَقَهُمْ غَنِيّاً عَنْ طَاعَتِهِمْ آمِناً مِنْ مَعْصِيَتِهِمْ لِأَنَّهُ لَا تَضُرُّهُ مَعْصِيَةُ مَنْ عَصَاهُ وَ لَا تَنْفَعُهُ طَاعَةُ مَنْ أَطَاعَهُ فَقَسَمَ بَيْنَهُمْ مَعَايِشَهُمْ وَ وَضَعَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا مَوَاضِعَهُمْ

فَالْمُتَّقُونَ فِيهَا هُمْ أَهْلُ الْفَضَائِلِ مَنْطِقُهُمُ الصَّوَابُ وَ مَلْبَسُهُمُ الِاقْتِصَادُ وَ مَشْيُهُمُ التَّوَاضُعُ

غَضُّوا أَبْصَارَهُمْ عَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ وَقَفُوا أَسْمَاعَهُمْ عَلَى الْعِلْمِ النَّافِعِ لَهُمْ

نُزِّلَتْ أَنْفُسُهُمْ مِنْهُمْ فِي الْبَلَاءِ كَالَّتِي نُزِّلَتْ فِي الرَّخَاءِ وَ لَوْ لَا الْأَجَلُ الَّذِي كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ لَمْ تَسْتَقِرَّ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ طَرْفَةَ عَيْنٍ شَوْقاً إِلَى الثَّوَابِ وَ خَوْفاً مِنَ الْعِقَابِ

عَظُمَ الْخَالِقُ فِي أَنْفُسِهِمْ فَصَغُرَ مَا دُونَهُ فِي أَعْيُنِهِمْ فَهُمْ وَ الْجَنَّةُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُنَعَّمُونَ وَ هُمْ وَ النَّارُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُعَذَّبُونَ

قُلُوبُهُمْ مَحْزُونَةٌ وَ شُرُورُهُمْ مَأْمُونَةٌ وَ أَجْسَادُهُمْ نَحِيفَةٌ وَ حَاجَاتُهُمْ‏خَفِيفَةٌ وَ أَنْفُسُهُمْ عَفِيفَةٌ

صَبَرُوا أَيَّاماً قَصِيرَةً أَعْقَبَتْهُمْ رَاحَةً طَوِيلَةً تِجَارَةٌ مُرْبِحَةٌ يَسَّرَهَا لَهُمْ رَبُّهُمْ أَرَادَتْهُمُ الدُّنْيَا فَلَمْ يُرِيدُوهَا وَ أَسَرَتْهُمْ فَفَدَوْا أَنْفُسَهُمْ مِنْهَا

أَمَّا اللَّيْلَ فَصَافُّونَ أَقْدَامَهُمْ تَالِينَ لِأَجْزَاءِ الْقُرْآنِ يُرَتِّلُونَهَا تَرْتِيلًا يُحَزِّنُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ وَ يَسْتَثِيرُونَ بِهِ دَوَاءَ دَائِهِمْ

فَإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَشْوِيقٌ رَكَنُوا إِلَيْهَا طَمَعاً وَ تَطَلَّعَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَيْهَا شَوْقاً وَ ظَنُّوا أَنَّهَا نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ وَ إِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَخْوِيفٌ أَصْغَوْا إِلَيْهَا مَسَامِعَ قُلُوبِهِمْ وَ ظَنُّوا أَنَّ زَفِيرَ جَهَنَّمَ وَ شَهِيقَهَا فِي أُصُولِ آذَانِهِمْ

فَهُمْ حَانُونَ عَلَى أَوْسَاطِهِمْ مُفْتَرِشُونَ لِجِبَاهِهِمْ وَ أَكُفِّهِمْ وَ رُكَبِهِمْ وَ أَطْرَافِ أَقْدَامِهِمْ يَطْلُبُونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي فَكَاكِ رِقَابِهِمْ

وَ أَمَّا النَّهَارَ فَحُلَمَاءُ عُلَمَاءُ أَبْرَارٌ أَتْقِيَاءُ قَدْ بَرَاهُمُ الْخَوْفُ بَرْيَ الْقِدَاحِ يَنْظُرُ إِلَيْهِمُ النَّاظِرُ فَيَحْسَبُهُمْ مَرْضَى وَ مَا بِالْقَوْمِ مِنْ مَرَضٍ وَ يَقُولُ لَقَدْ خُولِطُوا وَ لَقَدْ خَالَطَهُمْ أَمْرٌ عَظِيمٌ

لَا يَرْضَوْنَ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الْقَلِيلَ وَ لَا يَسْتَكْثِرُونَ الْكَثِيرَ فَهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ مُتَّهِمُونَ وَ مِنْ أَعْمَالِهِمْ مُشْفِقُونَ

إِذَا زُكِّيَ أَحَدٌ مِنْهُمْ خَافَ مِمَّا يُقَالُ لَهُ فَيَقُولُ أَنَا أَعْلَمُ بِنَفْسِي مِنْ غَيْرِي وَ رَبِّي أَعْلَمُ بِي مِنِّي بِنَفْسِي اللَّهُمَّ لَاتُؤَاخِذْنِي بِمَا يَقُولُونَ وَ اجْعَلْنِي أَفْضَلَ مِمَّا يَظُنُّونَ وَ اغْفِرْ لِي مَا لَا يَعْلَمُونَ

فَمِنْ عَلَامَةِ أَحَدِهِمْ أَنَّكَ تَرَى لَهُ قُوَّةً فِي دِينٍ وَ حَزْماً فِي لِينٍ وَ إِيمَاناً فِي يَقِينٍ وَ حِرْصاً فِي عِلْمٍ وَ عِلْماً فِي حِلْمٍ

وَ قَصْداً فِي غِنًى وَ خُشُوعاً فِي عِبَادَةٍ وَ تَجَمُّلًا فِي فَاقَةٍ وَ صَبْراً فِي شِدَّةٍ وَ طَلَباً فِي حَلَالٍ وَ نَشَاطاً فِي هُدًى وَ تَحَرُّجاً عَنْ طَمَعٍ

يَعْمَلُ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ وَ هُوَ عَلَى وَجَلٍ يُمْسِي وَ هَمُّهُ الشُّكْرُ وَ يُصْبِحُ وَ هَمُّهُ الذِّكْرُ يَبِيتُ حَذِراً وَ يُصْبِحُ فَرِحاً حَذِراً لِمَا حُذِّرَ مِنَ الْغَفْلَةِ وَ فَرِحاً بِمَا أَصَابَ مِنَ الْفَضْلِ وَ الرَّحْمَةِ

إِنِ اسْتَصْعَبَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِيمَا تَكْرَهُ لَمْ يُعْطِهَا سُؤْلَهَا فِيمَا تُحِبُّ قُرَّةُ عَيْنِهِ فِيمَا لَا يَزُولُ وَ زَهَادَتُهُ فِيمَا لَا يَبْقَى يَمْزُجُ الْحِلْمَ بِالْعِلْمِ وَ الْقَوْلَ بِالْعَمَلِ

تَرَاهُ قَرِيباً أَمَلُهُ قَلِيلًا زَلَلُهُ خَاشِعاً قَلْبُهُ قَانِعَةً نَفْسُهُ مَنْزُوراً أَكْلُهُ سَهْلًا أَمْرُهُ حَرِيزاً دِينُهُ مَيِّتَةً شَهْوَتُهُ مَكْظُوماً غَيْظُهُ الْخَيْرُ مِنْهُ مَأْمُولٌ وَ الشَّرُّ مِنْهُ مَأْمُونٌ

إِنْ كَانَ فِي الْغَافِلِينَ كُتِبَ فِي الذَّاكِرِينَ وَ إِنْ كَانَ فِي الذَّاكِرِينَ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغَافِلِينَ يَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَهُ وَ يُعْطِي مَنْ حَرَمَهُ

وَ يَصِلُ مَنْ قَطَعَهُ بَعِيداً فُحْشُهُ لَيِّناً قَوْلُهُ غَائِباً مُنْكَرُهُ حَاضِراً مَعْرُوفُهُ‏مُقْبِلًا خَيْرُهُ مُدْبِراً شَرُّهُ

فِي الزَّلَازِلِ وَقُورٌ وَ فِي الْمَكَارِهِ صَبُورٌ وَ فِي الرَّخَاءِ شَكُورٌ لَا يَحِيفُ عَلَى مَنْ يُبْغِضُ وَ لَا يَأْثَمُ فِيمَنْ يُحِبُّ

يَعْتَرِفُ بِالْحَقِّ قَبْلَ أَنْ يُشْهَدَ عَلَيْهِ لَا يُضِيعُ مَا اسْتُحْفِظَ وَ لَا يَنْسَى مَا ذُكِّرَ وَ لَا يُنَابِزُ بِالْأَلْقَابِ وَ لَا يُضَارُّ بِالْجَارِ وَ لَا يَشْمَتُ بِالْمَصَائِبِ

وَ لَا يَدْخُلُ فِي الْبَاطِلِ وَ لَا يَخْرُجُ مِنَ الْحَقِّ إِنْ صَمَتَ لَمْ يَغُمَّهُ صَمْتُهُ وَ إِنْ ضَحِكَ لَمْ يَعْلُ صَوْتُهُ

وَ إِنْ بُغِيَ عَلَيْهِ صَبَرَ حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي يَنْتَقِمُ لَهُ نَفْسُهُ مِنْهُ فِي عَنَاءٍ وَ النَّاسُ مِنْهُ فِي رَاحَةٍ أَتْعَبَ نَفْسَهُ لِآخِرَتِهِ وَ أَرَاحَ النَّاسَ مِنْ نَفْسِهِ

بُعْدُهُ عَمَّنْ تَبَاعَدَ عَنْهُ زُهْدٌ وَ نَزَاهَةٌ وَ دُنُوُّهُ مِمَّنْ دَنَا مِنْهُ لِينٌ وَ رَحْمَةٌ لَيْسَ تَبَاعُدُهُ بِكِبْرٍ وَ عَظَمَةٍ وَ لَا دُنُوُّهُ بِمَكْرٍ وَ خَدِيعَةٍ

قَالَ فَصَعِقَ همام صعقة كانت نفسه فيها

فقال أمير المؤمنين ( عليه‏ السلام  )

أَمَا وَ اللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أَخَافُهَا عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ أَ هَكَذَا تَصْنَعُ الْمَوَاعِظُ الْبَالِغَةُ بِأَهْلِهَا فقال له قائل فما بالك يا أمير المؤمنين

فقال ( عليه ‏السلام  )وَيْحَكَ إِنَّ لِكُلِّ أَجَلٍ وَقْتاً لَا يَعْدُوهُ وَ سَبَباً لَا يَتَجَاوَزُهُ فَمَهْلًا لَا تَعُدْ لِمِثْلِهَا فَإِنَّمَا نَفَثَ الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِكَ

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه الّذى شرح صدور المؤمنين بمصابيح العرفان و اليقين، و نوّر قلوب المتّقين بأنوار التقوى فى الدّين، فاهتدوا إلى المحجّة البيضاء و لزموا الشرع المبين، و سلكوا الجادّة الوسطى و تمسّكوا بالحبل المتين، و فاز العارفون منهم بعظيم الزلفى و حسن الماب، و خرجت أرواح الواصلين منهم من أبدانهم خوفا من العقاب و شوقا إلى الثواب.

و الصّلاة و السّلام على أشرف الأوّلين و الاخرين محمّد سيّد الأنبياء و المرسلين‏و وصيّه و وزيره الوارث لعلمه، و الحامل لسرّه، و باب مدينة علمه، و دار حكمته عليّ أمير المؤمنين و سيّد الوصيين، و آلهما الخائضين في بحار أنوار الحقائق، و الغائصين في لجج تيّار الدّقائق، أئمة المسلمين الهداة المهديّين الأطيبين الأنجبين الغرّ الميامين:

هم هداة الورى و هم اكرم
النّاس أصولا شريفة و نفوسا

معشر حبّهم يجلّي الهموم‏
و مزاياهم تحلّي طروسا

كرموا مولدا و طابوا اصولا
و زكوا محتدا و طالوا غروسا

ملاؤا بالولاء قلبي رجاء
و بمدحى لهم ملئت الطروسا

أما بعد فهذا هو المجلّد السّادس من مجلّدات منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة إملاء راجي عفو ربّه الغني «حبيب اللّه بن محمد بن هاشم الهاشمي العلوى الموسوى» وفّقه اللّه لما يتمنّاه و جعل عقباه خيرا من اولاه إنّه وليّ الاحسان و الكريم المنّان.

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج12  

و من خطبة له عليه السّلام و هى المأة و الثانية و التسعون من المختار فى باب الخطب

و هي مرويّة في الكافي في باب علامات المؤمن و صفاته باختلاف كثير تطلع عليه بعد الفراغ، من شرح ما أورده السيّد «ره» في المتن.

قال «قده» روى أنّ صاحبا لأمير المؤمنين عليه السّلام يقال له همّام: كان رجلا عابدا فقال له: يا أمير المؤمنين صف لى المتّقين حتّى كأنّي أنظر اليهم، فتثاقل عليه السّلام عن جوابه ثمّ قال عليه السّلام يا همّام:

إتّق اللّه و أحسن فإنّ اللّه مع الّذين اتّقوا و الّذينهم محسنون، فلم يقنع همّام بذلك القول حتّى عزم عليه فحمد اللّه و أثنى عليه و صلّى على النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ثم قال: أمّا بعد فإنّ اللّه سبحانه خلق الخلق حين خلقهم غنيّا عن طاعتهم، آمنا من معصيتهم، لأنّه لا تضرّه معصية من عصاه، و لا تنفعه طاعة من أطاعه، فقسّم بينهم معيشتهم، و وضعهم من الدّنيا مواضعهم. فالمتّقون فيها هم أهل الفضائل، منطقهم الصّواب، و ملبسهم الإقتصاد، و مشيهم التّواضع، غضّوا أبصارهم عمّا حرّم اللّه عليهم، و وقفوا أسماعهم على العلم النّافع لهم، نزلت أنفسهم منهم في البلاء كالّذي نزلت في الرّخاء، و لو لا الأجل الّذي كتب اللّه لهم لم تستقرّ أرواحهم في أجسادهم طرفة عين شوقا إلى الثّواب و خوفا عن العقاب.

عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم، فهم و الجنّة كمن قد رآها فهم فيها منعّمون، و هم و النّار كمن قد رآها فهم فيها معذّبون، قلوبهم محزونة، و شرورهم مأمونة، و أجسادهم نحيفة، و حاجاتهم خفيفة، و أنفسهم عفيفة، صبروا أيّاما قصيرة أعقبتهم راحة طويلة، تجارة مربحة يسّرها لهم ربّهم، أرادتهم الدّنيا فلم‏يريدوها، و أسرتهم ففدوا أنفسهم منها.

أمّا اللّيل فصافّون أقدامهم تالين لأجزاء القرآن يرتّلونه ترتيلا يحزّنون به أنفسهم و يستثيرون به دواء دائهم، فإذا مروّا باية فيها تشويق ركنوا إليها طمعا، و تطلّعت نفوسهم إليها شوقا، و ظنّوا أنّها نصب أعينهم، و إذا مرّوا باية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم، و ظنّوا أنّ زفير جهنّم و شهيقها في أصول آذانهم، فهم حانون على أوساطهم، مفترشون لجباههم، و أكفّهم و ركبهم و أطراف أقدامهم، يطلبون إلى اللّه تعالى في فكاك رقابهم. و أمّا النّهار فحلماء، علماء، أبرار، أتقياء، قد براهم الخوف برى القداح، ينظر إليهم النّاظر فيحسبهم مرضى و ما بالقوم من مرض، و يقول: قد خولطوا و قد خالطهم أمر عظيم، لا يرضون من أعمالهم القليل، و لا يستكثرون الكثير، فهم لأنفسهم متّهمون، و من أعمالهم مشفقون، إذا زكّي أحدهم خاف ممّا يقال له فيقول أنا أعلم بنفسي من غيري و ربّي أعلم منّي بنفسي، ألّلهمّ لا تؤاخذني بما يقولون، و اجعلني أفضل ممّا يظنّون، و اغفر لي ما لا يعلمون.

فمن علامة أحدهم أنّك ترى له قوّة في دين، و حزما في لين،و إيمانا في يقين، و حرصا في علم، و علما في حلم، و قصدا في غنى، و خشوعا في عبادة، و تجمّلا في فاقة، و صبرا في شدّة، و طلبا في حلال و نشاطا في هدى، و تحرّجا عن طمع، يعمل الأعمال الصّالحة و هو على وجل، يمسي و همّه الشّكر، و يصبح و همّه الذّكر، يبيت حذرا، و يصبح فرحا: حذرا لما حذّر من الغفلة، و فرحا بما أصاب من الفضل و الرّحمة، إن استصعبت عليه نفسه فيما تكره لم يعطها سؤلها فيما تحبّ قرّة عينه فيما لا يزول، و زهادته فيما لا يبقى، يمزج الحلم بالعلم، و القول بالعمل.

تراه قريبا أمله، قليلا زلله، خاشعا قلبه، قانعة نفسه، منزورا أكله «أكله خ»، سهلا أمره، حريزا دينه، ميّتة شهوته، مكظوما غيظه، الخير منه مأمول، و الشّرّ منه مأمون، إن كان في الغافلين كتب في الذّاكرين، و إن كان في الذّاكرين لم يكتب من الغافلين، يعفو عمّن ظلمه، و يعطي من حرمه، و يصل من قطعه، بعيدا فحشه، ليّنا قوله، غائبا منكره، حاضرا معروفه، مقبلا خيره مدبرا شرّه، في الزّلازل وقور، و في المكاره صبور، و في الرّخاء شكور لا يحيف على من يبغض، و لا يأثم فيمن يحبّ، يعترف بالحق‏ قبل أن يشهد عليه، لا يضيّع ما استحفظ، و لا ينسى ما ذكّر، و لا ينابز بالألقاب، و لا يضارّ بالجار، و لا يشمت بالمصائب، و لا يدخل في الباطل، و لا يخرج من الحقّ.

إن صمت لم يغمّه صمته، و إن ضحك لم يعل صوته، و إن بغي عليه صبر حتّى يكون اللّه تعالى هو الّذي ينتقم له، نفسه منه في عناء و النّاس منه في راحة، أتعب نفسه لاخرته، و أراح النّاس من نفسه، بعده عمّن تباعد عنه زهد و نزاهة، و دنوّه ممّن دنا منه لين و رحمة، ليس تباعده بكبر و عظمة، و لا دنوّه بمكر و خديعة. قال: فصعق همام صعقة كانت نفسه فيها

فقال أمير المؤمنين: أما و اللّه لقد كنت أخافها عليه، ثمّ قال عليه السّلام: هكذا تصنع المواعظ البالغة بأهلها، فقال له قائل: فما بالك يا أمير المؤمنين فقال عليه السّلام: ويحك إنّ لكلّ أجل وقتا لا يعدوه، و سببا لا يتجاوزه فمهلا لا تعد لمثلها فانما نفث الشيطان على لسانك.

اللغة

(عزم) على الأمر يعزم من باب ضرب عزما و معزما و عزمانا و عزيما و عزيمة و عزمة أراد فعله و قطع عليه أوجدّ فيه فهو عازم و عزم الأمر نفسه عزم عليه و عزم على الرّجل اقسم و (الاقتصاد) ضدّ الافراط و (صغر) من باب شرف و فرح صغارة و صغرا و صغرا و صغرانا أى حقر و انحطّ قدره فهو صغير كحقير لفظا و معنا و (ثار) ثورا و ثورانا أى هاج و أثار الغبار و استثاره هيّجه.

و (تطلّع) الى وروده استشرف و (صغى) إلى الشي‏ء كرضى مال إليه و أصغى اليه سمعه أى أماله نحوه و (حنيت) العود حنوا و حناء عطفته فانحنى و تحنّى، و حنت الناقة على ولدها حنوا عطفت و يقال لكلّ ما فيه اعوجاج من البدن كعظم اللّحى و الضلع و نحوهماالحنو بالكسر و الفتح.

و (برى) السّهم و العود و القلم يبريها بريا نحتها و (القداح) جمع القدح بالكسر فيهما و هو السّهم قبل أن يراش و ينصل و (اختلط) فلان و خولط في عقله أى فسد عقله و اختلّ فهو خلط بيّن الخلاطة أى أحمق، و خالطه مخالطة مازجه و خالطه الدّاء خامره و (تجمل) فلان تزيّن و تكلّف الجميل و (نزر) الشي‏ء ككرم نزرا و نزارة و نزورا قلّ فهو نزر و نزير و منزور أى قليل.

و (اكلة) في بعض النسخ بفتح الهمزة و سكون الكاف فيكون مصدرا و في بعضها بضمّهما و هو الرّزق و الحظّ من الدّنيا فيكون اسما و (الحريز) الحصين يقال هذا حرز حريز أى حصن حصين و الحريزة من الابل الّتي لا تباع نفاسة و (المنابزة) و التنابز التّعاير و التداعى بالألقاب و (صعق) صعقا كسمع و صعقا بالتحريك و صعقة غشى عليه و الصعق بالتحريك أيضا شدّة الصوت و (نفث) ينفث من باب ضرب و نصر نفخ.

الاعراب

قوله: حين خلقهم ظرف زمان، و في بعض النسخ حيث خلقهم بدله، و قوله: نزلت أنفسهم منهم في البلاء كالّذي نزلت في الرّخاء، اختلف الشّراح في اعراب قوله كالذي، فقال الشارح المعتزلي تقدير الكلام من جهة الاعراب: نزلت أنفسهم منهم في حال البلاء نزولا كالنزول الذي نزلت منهم في حال الرّخاء، فموضع كالّذي نصب لأنّه صفة مصدر محذوف، و الذي الموصول قد حذف العايد اليه و هو الهاء في نزلته كقولك: ضربت الّذي ضربت أى ضربت الذي ضربته.

و تبعه على ذلك الشّارح البحراني حيث قال: و الّذي خلقه مصدر محذوف و الضمير العايد إليه محذوف أيضا، و التقدير: نزلت كالنّزول الّذى نزلته في الرّخاء ثمّ احتمل وجها آخر و قال: و يحتمل أن يكون المراد بالذي الذين فحذف النّون كما في قوله تعالى كَالَّذِي خاضُوا و يكون المقصود تشبيه هم حال نزول أنفسهم منهم في البلاء بالّذين نزلت أنفسهم منهم في الرّخاء.

و قال بعضهم: إنّه لا بدّ من تقدير مضاف لأنّ تشبيه الجمع بالواحد لا يصحّ، أى كلّ واحد منهم إذا نزلت في البلاء يكون كالرّجل الذي نزلت نفسه في الرّخاء و نحوه قوله تعالى مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ.

أقول: و أنت خبير بأنّ هذه كلّها تكلّفات يأبي عنها الذّوق السّليم مضافا إلى ما فى الوجه الاخر الذي احتمله البحراني و كذلك الوجه الأخير الذي حكيناه عن بعضهم أنّ المنساق من ظاهر كلامه عليه السّلام تشبيه إحدى حالتى المتّقين بحالتهم الاخرى لا تشبيه هم بغيرهم من أهل الرّخاء.

ثمّ بعد الغضّ عن ذلك و البناء على ما ذكر فلا حاجة في تصحيح تشبيه الجمع بالمفرد إلى تأويل ما هو المفرد ظاهرا بالجمع و المصير إلى حذف النون كما تمحّله الأوّل، أو تأويل الجمع بالمفرد بالمصير إلى تقدير المضاف كما تجشّمه الاخر، لجواز تقدير موصوف الذي لفظ الرّهط و الجمع و نحوهما ممّا يكون مفردا لفظا و جمعا في المعنى، و يكون المعنى نزلت أنفسهم منهم في البلاء كالرّهط أو الجمع الذي نزلت نفسهم منهم في الرّخاء.
قال نجم الأئمة بعد ما قال بأنه قد يحذف نون الذين مستشهدا

بقول الشاعر:

و إنّ الّذي حانت بفيح دمائهم
هم القوم كلّ القوم يا امّ خالد

و يجوز في هذا أن يكون مفردا وصف به مقدّر مفرد اللّفظ مجموع المعني أى و انّ الجمع الّذى و انّ الجيش الّذى كقوله تعالى مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ فحمل على اللّفظ أى الجمع الّذى استوقد نارا، ثمّ قال: بنورهم فحمل على المعني و لو كان في الاية مخفّفا من الّذين لم يجز إفراد الضّمير العايد إليه و كذا قوله تعالى وَ الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَ صَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ و هذا كثير أعني ذكر الّذي مفردا موصوفا به مقدّر مفردا للّفظ مجموع المعنى و أمّا حذف النّون من الّذين فهو قليل، انتهى.

و بعد ذلك كلّه فالأقرب عندي أن يجعل الّذى مصدريّا بأن يكون حكمه حكم‏ماء المصدريّة كما ذهب اليه يونس و الأخفش في قوله سبحانه ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا أى ذلك تبشير اللّه و كذلك قالا في قوله تعالى كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا و على هذا فيكون المعني: نزلت أنفسهم منهم فى البلاء مثل نزولها في الرّخاء و هذا لا تكلّف فيه أصلا.

و قوله: تجارة مربحة، بالرّفع على أنّه خبر محذوف المبتدأ، أى تجارتهم تجارة مربحة، و في بعض النسخ بالنصب على المصدر أى اتّجروا تجارة.
و قوله: أمّا الليل فصافون، بالنصب على الظرف، و الناصب، إما لتضمّنها معني الفعل أو الخبر كما في نحو قولك: أما اليوم فأنا ذاهب و أمّا إذا قلت اما في الدّار فزيد، فالعامل هو أما لا غير كما فى قولهم أما العبيد فذو عبيد، أى مهما ذكرت العبيد فهو ذو عبيد، هذا.

و يروى بالرّفع على الابتداء فيحتاج إلى العايد في الخبر أى صافّون أقدامهم فيها و قوله: تالين حال من فاعل صافّون أو من الضمير المجرور بالاضافة في أقدامهم: و الأول أولى، و جملة يرتّلونه حال من فاعل تالين، و في بعض النسخ يرتّلونها، فالضمير عايد إلى أجزاء القرآن، و نصب أعينهم بنصب النصب على الظرفية، و يروى بالرّفع على أنه خبر انّ و المصدر بمعني المفعول.

و قوله: يطلبون إلى اللّه في فكاك رقابهم، تعدية الطلب بحرف الجرّ أعني إلى لتضمينه معني التضرع و في للظرفية المجازية، أى يتضرّعون إليه سبحانه في فكاك رقابهم.
و أما ما قاله الشارح المعتزلي من أنّ الكلام على الحقيقة مقدّر فيه حال محذوفة يتعلّق بها حرف الجرّ أى يطلبون الى اللّه سائلين فى فكاك رقابهم لأنّ طلبت لا يتعدّى بحرف الجرّ فليس بشى‏ء لأنّ تأويل الطلب بالسؤال لا ينهض باثبات ما رامه كما لا يخفى.

و فى في قوله: و قوّة في دين، ظرف لغو متعلّق بقوّة، و في قوله: و حزما في لين ظرف مستقرّ متعلّق بمقدّر صفة لقوله حزما، و فى المعطوفات بعد ذلك في بعضهاظرف لغو و فى بعضها ظرف مستقرّ وصف لسابقه، فتدبّر تفهم.

المعنى

اعلم أنه قد (روى أنّ صاحبا لأمير المؤمنين) أى رجلا من أصحابه و شيعته و مواليه (يقال له همام) بالتشديد، و هو كما في شرح المعتزلي همام بن شريح بن يزيد بن مرّة بن عمر بن جابر بن يحيى بن الأصهب بن كعب بن الحارث بن سعد ابن عمرو بن ذهل بن سيف بن سعد العشيرة.
و في البحار و الأظهر أنه همام بن عبادة بن خثيم ابن أخ الرّبيع بن خثيم أحد الزّهاد الثمانية كما رواه الكراجكي في كنزه.

و كيف كان فقد (كان رجلا عابدا) زاهدا ناسكا (فقال له يا أمير المؤمنين صف لى المتّقين) و اشرح لي حالهم (حتّى كأنى أنظر إليهم) و ابصر بهم لأقتفي آثارهم و أقتبس أنوارهم.
(فتثاقل عليه السّلام عن جوابه) قال الشارح المعتزلي تثاقله عليه السّلام عن الجواب لعلمه بأنّ المصلحة فى تأخير الجواب، و لعلّه كان فى مجلسه عليه السّلام من لا يحبّ أن يجيب و هو حاضر، فلما انصرف أجاب، أو لأنّه رأى أنّ تثاقله عنه يزيد شوق همام إلى سماعه فيكون أنجع فى موعظته، أو أنه تثاقل عنه لترتيب المعاني و نظمها فى ألفاظ مناسبة ثمّ النطق بها كما يفعله المتروّي في الخطبة و القريض.

و الأولى ما قاله الشارح البحرانى: من أنه عليه السّلام تثاقل عنه لما رأى من استعداد نفسه لأثر الموعظة و خوفه عليه أن يخرج به خوف اللّه إلى انزعاج نفسه و صعوقها.
(ثمّ) إنه عليه السّلام بعد تثاقله عن الجواب و وصف حال المتّقين تفصيلا لما رآه من المصلحة المقتضية لترك التفصيل أجابه بجواب إجمالى و (قال) له (يا همام اتّق اللّه و أحسن) يعنى أنّ الفرض عليك القيام بالتقوى و الأخذ بها على قدر ما حصل لك المعرفة به من معناها و حقيقتها من الكتاب و السنة، و تبين لك إجمالا من ماهيّتها كما يعرفها جميع المؤمنين، و الزائد عن ذلك غير مفروض عليك و لا يجب البحث عنه‏و قد تقدّم شرح معناها و حقيقتها و بعض ما يترتّب عليها من الثمرات الدنيويّة و الاخرويّة في شرح الخطبة الرّابعة و العشرين، و قد روينا هناك عن الصّادق عليه السّلام انّه قال في تفسيرها: أن لا يفقدك اللّه حيث أمرك و لا يراك حيث نهاك، هذا.

و المراد بقوله: و أحسن هو الاحسان في العمل، يعني أنّ اللازم عليك الأخذ بالتقوى و القيام بالحسنى من الأعمال الصّالحة.
و هذا الّذى قلنا أولى ممّا قاله الشارح البحراني من أنّ معني كلامه أنّه أمره بتقوى اللّه أى في نفسه أن يصيبها فادح بسبب سؤاله، و أحسن أى أحسن إليها بترك تكليفها فوق طوقها.
و كيف كان فلمّا أمره بالتّقوى و الاحسان علّله بقوله (فانّ اللّه مع الّذين اتّقوا و الّذين هم محسنون) ترغيبا له إلى القيام بهما، و هو اقتباس من الاية الشريفة خاتمة سورة النحل، يعني أنّه سبحانه مع الّذين اتّقوا ما حرّم عليهم و أحسنوا فيما فرض عليهم أى معين لهم و ناصر لهم و هو وليّهم فى الدّنيا و الاخرة.

(فلم يقنع همّام بذلك القول) و لم يكتف بالاجمال (حتّى عزم عليه عليه السّلام) و أقسم و ألحّ في السؤال.
(ف) أجاب عليه السّلام مسئوله و أنجح مأموله و (حمد اللّه) عزّ و جلّ (و أثنى عليه) بما هو أهله (و صلّى على النبيّ و آله ثمّ قال أما بعد فانّ اللّه سبحانه خلق الخلق حين خلقهم غنيا عن طاعتهم آمنا من معصيتهم).

و انما مهّد هذه المقدّمة لأنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لما كان بصدد شرح حال المتقين تفصيلا حسبما اقترحه همام و كان ربما يسبق إلى الأوهام القاصرة أنّ ما يأتي به المتّقون من مزايا الأعمال و الصالحات و ما كلّفهم اللّه سبحانه به من محامد الخصال و القربات من أجل حاجة منه تعالى عن ذلك إليها، قدّم هذه المقدّمة تنبيها على كونه سبحانه منزّها عن ذلك، متعاليا عن صفات النقص و الحاجة في الأزل كما في الأبد، و أنه لم يكن غرضه تعالى من الخلق و الايجاد تكميل ذاته بجلب المنفعة و دفع المضرّة كما فى ساير الصناع البشرية يعملون الصنائع لافتقارهم إليها و استكمالهم بها بما في ذاتهم‏من النقص و الحاجة، و أمّا اللّه الحيّ القيّوم فهو الغنىّ الكامل المطلق في ذاته و صفاته و أفعاله و لم يخلق ما خلقه لتشديد سلطان و لا تخوّف من عواقب زمان و لا استعانة على ندّ مثاور و لا شريك مكائر و لا ضدّ منافر حسبما عرفته في الخطبة الرّابعة و الستّين و شرحها بما لا مزيد عليه.

و هذا معنى قوله (لأنه لا تضرّه معصية من عصاه و لا تنفعه طاعة من أطاعه) و قد تقدّم فى شرح الخطبة المأة و الخامسة و الثمانين أنّ غرضه من الخلق و الايجاد و من الأمر بالطاعة و الانقياد هو ايصال النفع إلى العباد و إكمالهم بالتكاليف الشرعيّة و رفعهم بالعمل بها إلى حظاير القدس و محافل الانس.
و قوله (فقسّم بينهم معايشهم و وضعهم من الدّنيا مواضعهم) تفريع على قوله: خلق الخلق لا تقرير و تاكيد، لغناه المطلق كما قاله الشارح البحراني.

و المراد أنه تعالى أعطى كلّ شي‏ء خلقه ثمّ هدى و قسّم بينهم معيشتهم أى ما يعيشون به فى الحياة الدّنيا من أنواع الرّزق و الخير و المنافع و النعماء، و وضع كلا منهم موضعه اللّايق بحاله من الفقر و اليسار و الغنى و الافتقار و السعة و الاقتار على ما يقتضيه حكمته البالغة و توجبه المصلحة الكاملة كما اشير اليه فى قوله عزّ و جلّ أَ هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هذا.

و انما فرّع عليه السّلام هذه الجملة على ما سبق و عقّبه بها لتكون توطئة و تمهيدا بقوله (فالمتّقون فيها هم أهل الفضايل) يعني أنّ معايش الخلق فى الدّنيا لما كانت بحسب تقسيم اللّه سبحانه و اقتضاء حكمته اقتضى العناية الالهية و النظم الأصلح فى حقّ المتّقين بمقتضى كونهم من أهل السبق و القربى أن يكون عيشهم فى الدّنيا بخلاف معايش ساير الخلق و يكون حركاتهم و سكناتهم و حالاتهم وراء حالات أبناء الدّنيا، فاتّصفوا بالفضايل النفسانية و تزيّنوا بمكارم الأخلاق و محامد الأوصاف الّتي فصّلها عليه السّلام بالبيان البديع و التفصيل العجيب.

اولها أنّ (منطقهم الصواب) و هو ضدّ الخطاء يعنى أنهم لا يسكتون عما ينبغي أن يقال فيكونون مفرّطين، و لا يقولون ما ينبغي أن يسكت عنه فيكونون مفرطين‏و يحتمل أن يراد به خصوص توحيد اللّه تعالى و تمجيده و الصّلاة على نبيّه و به فسّر في قوله سبحانه لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَ قالَ صَواباً.

(و) الثاني أنّ (ملبسهم الاقتصاد) أى التوسّط بين الافراط و التفريط، و في الاسناد توسّع يعنى أنّ لباسهم ليس بثمين جدا مثل لباس المترفين المتكبّرين، و لا بذلة كلباس أهل الابتذال و الخسّة و الدّنائة بل متوسّط بين الأمرين.

(و) الثالث أنّ (مشيهم التواضع) و فى الاسناد أيضا توسّع، يعنى أنهم لا يمشون على وجه الأشر و البطر و الخيلاء لنهى اللّه سبحانه عن المشى على هذا الوجه فى قوله «وَ لا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَ لَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا و أمره بخلافه فى قوله «وَ اقْصِدْ فِي مَشْيِكَ».

و قد روى فى الكافي عن عمرو بن أبي المقدام عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: فيما أوحى اللّه عزّ و جلّ إلى داود: كما أنّ أقرب الناس من اللّه المتواضعون كذلك أبعد الناس من اللّه المتكبّرون.

(و) الرابع أنهم (غضّوا أبصارهم عمّا حرّم اللّه عليهم) امتثالا لأمره تعالى به فى قوله قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى‏ لَهُمْ أى يغضّوا أبصارهم عما لا يحلّ لهم النظر اليه.
و فى الوسائل من الكافى عن أبي عبد اللّه عليه السّلام كلّ عين باكية يوم القيامة إلّا ثلاثة أعين: عين غضّت عن محارم اللّه، و عين سهرت في طاعة اللّه، و عين بكت في جوف اللّيل من خشية اللّه.

(و) الخامس أنّهم (وقفوا أسماعهم على العلم النافع لهم) في الدّنيا و الاخرة الموجب لكمال القوّة النظرية و الحكمة العمليّة، و أعرضوا عن الاصغاء إلى اللّغو و الأباطيل كالغيبة و الغناء و الفحش و الخناء و نحوها، و قد وصفهم اللّه سبحانه بذلك في قوله «وَ الَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ» و في قوله «وَ الَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً».

و السادس أنّهم (نزلت أنفسهم منهم في البلاء كالّذى نزلت في الرّخاء) يعني‏أنّهم موطّنون أنفسهم على ما قدّره اللّه في حقّهم من الشدّة و الرّخاء و السّراء و الضّراء و الضّيق و السّعة و المنحة و المحنة و محصّله وصفهم بالرّضاء بالقضاء.

روى في الكافي عن ابن سنان عمّن ذكره عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قلت له: بأيّ شي‏ء يعلم المؤمن بأنّه مؤمن قال عليه السّلام: بالتسليم للّه و الرّضا فيما ورد عليه من سرور أو سخط.
و فى رواية أخرى فيه عنه عليه السّلام قال: رأس طاعة اللّه الصّبر و الرّضا عن اللّه فيما أحبّ العبد أو كره، و لا يرضى عبد عن اللّه فيما أحبّ أو كره إلّا كان خيرا له فيما أحبّ أو كره.

و عن محمّد بن عذافر عن أبيه عن أبي جعفر عليه السّلام قال: بينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في بعض أسفاره إذ لقيه ركب فقالوا: السّلام عليك يا رسول اللّه، فقال: ما أنتم فقالوا: نحن المؤمنون يا رسول اللّه، قال: فما حقيقة ايمانكم قالوا: الرّضا بقضاء اللّه، و التفويض الى اللّه، و التسليم لأمر اللّه، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: علماء حكماء كادوا أن يكونوا من الحكمة أنبياء، فان كنتم صادقين فلا تبنوا ما لا تسكنون، و لا تجمعوا ما لا تأكلون، و اتّقوا اللّه الّذى إليه ترجعون.

(و) السابع أنه (لو لا الأجل الّذى كتب اللّه لهم لم تستقرّ أرواحهم في أجسادهم طرفة عين شوقا إلى الثواب و خوفا من العقاب) و هو إشارة إلى غاية نفرتهم عن الدّنيا و فرط رغبتهم إلى الاخرة لما عرفوا من عظمة وعده و وعيده، يعني أنّهم بكليّتهم متوجّهون إلى العقبى مشتاقون إلى الانتقال إليها شدّة الاشتياق، لا مانع لهم من الانتقال إلّا الاجال المكتوبة و عدم بلوغها غايتها.
روى في الوسائل من الكافي عن أبي حمزة قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: من عرف اللّه خاف اللّه و من خاف اللّه سخت نفسه عن الدّنيا.

و الثامن أنّه (عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم) علما منهم بأنّه سبحانه موصوف بالعظمة و الكبرياء و الجلال غالب على الأشياء كلّها، قادر قاهر عليها، و انّ كلّ من سواه مقهور تحت قدرته داخر ذليل في قيد عبوديّته، فهوسبحانه عظيم السلطان عظيم الشأن و غيره أسير في ذلّ الامكان مفتقر اليه لا يقدر على شي‏ء إلّا باذنه.
و أشار عليه السّلام بهذا الوصف إلى شدّة يقين المتّقين و غاية توكّلهم و أنّ اعتصامهم في جميع امورهم به و توكلهم عليه و أنهم لا يهابون معه ممّن سواه.

روى في الكافي عن أبى بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: ليس شي‏ء إلّا و له حدّ قال: قلت: جعلت فداك فما حدّ التوكّل قال: اليقين، قلت: فما حدّ اليقين قال: ألّا تخاف مع اللّه شيئا.
و عن مفضل عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: أوحى اللّه عزّ و جلّ إلى داود: ما اعتصم بي عبد من عبادى دون أحد من خلقي عرفت ذلك من نيّته ثمّ تكيده السماوات و الأرض و من فيهنّ الّا جعلت له المخرج من بينهنّ، و ما اعتصم عبد من عبادى بأحد من خلقي عرفت ذلك من نيّته إلّا قطعت أسباب السماوات من يده و أسخت الأرض من تحته و لم ابال بأيّ واد هلك، هذا.

و لما ذكر في الوصف السابع شدّة اشتياق المتّقين إلى الجنّة و خوفهم من العقاب أتبعه بقوله (فهم و الجنّة كمن قد رآها فهم فيها منعّمون و هم و النار كمن قد رآها و هم فيها معذّبون) إشارة إلى أنهم صاروا فى مقام الرّجاء و الشوق إلى الثواب و قوّة اليقين بحقايق وعده سبحانه بمنزلة من رأى بحسّ بصره الجنّة و سعادتها، فتنعّموا فيها و التذّوا بلذائذها، و فى مقام الخوف من النار و العقاب و كمال اليقين بحقايق وعيده تعالى بمنزلة من شاهد النّار و شقاوتها فتعذّبوا بعذابها و تألّموا بالامها.

و محصّله جمعهم بين مرتبتي الخوف و الرّجاء و بلوغهم فيه إلى الغاية القصوى، و هي مرتبة عين اليقين كما قال عليه السّلام مخبرا عن نفسه. لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا، و هذه المرتبة أعني مرتبة عين اليقين مقام جليل لا يبلغه إلّا الأوحدي من النّاس.

و قد روى في الكافي عن إسحاق بن عمّار قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم صلّى بالنّاس الصبح فنظر إلى شاب في المسجد و هو يخفق و يهوى برأسه مصفرّا لونه قد نحف جسمه و غارت عيناه في رأسه، فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:كيف أصبحت يا فلان قال: أصبحت يا رسول اللّه موقنا، فعجب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من قوله و قال: إنّ لكلّ يقين حقيقة فما حقيقة يقينك فقال: إنّ يقيني يا رسول اللّه هو الّذى أحزنني و أسهر ليلى و أظمأ هو اجرى فعزفت نفسي عن الدّنيا و ما فيها حتّى كأنّي أنظر إلى عرش ربّي و قد نصب للحساب و حشر الخلايق لذلك و أنا فيهم، و كانّي أنظر إلى أهل الجنّة يتنعّمون في الجنّة و يتعارفون على الأرائك يتكئون، و كأنّى أنظر إلى أهل النّار و هم فيها معذّبون مصطرخون، و كأنّى الان أسمع زفير النّار يدور فى مسامعى، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: هذا عبد نوّر اللّه قلبه بالايمان ثمّ قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم له: الزم ما أنت عليه، فقال الشّاب: ادع اللّه لى يا رسول اللّه أن ارزق الشهادة معك، فدعا له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فلم يلبث أن خرج في بعض غزوات النّبي فاستشهد بعد تسعة نفر و كان هو العاشر.
و قد مرّ هذا الحديث فى شرح الخطبة المأة و الثالثة عشر، و رويناه هنا أيضا لاقتضاء المقام كما هو ظاهر.

و التاسع أنّ (قلوبهم محزونة) لما غلب عليهم من الخوف.روى فى الكافى عن معروف بن خربوز عن أبي جعفر عليه السّلام قال: صلّى أمير المؤمنين عليه السّلام بالناس الصبح بالعراق فلما انصرف و عظهم فبكى و أبكاهم من خوف اللّه ثمّ قال: أما و اللّه لقد عهدت أقواما على عهد خليلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أنهم ليصبحون و يمسون شعثا غبرا خمصا بين أعينهم كركب المعزى يبيتون لربّهم سجّدا و قياما، يراوحون بين أقدامهم و جباههم، و يناجون فى فكاك رقابهم من النار، و اللّه لقد رأيتهم مع هذا و هم خائفون مشفقون.

و فيه عن أبى حمزة عن عليّ بن الحسين عليهما السّلام قال: صلّى أمير المؤمنين عليه السّلام الفجر و لم يزل فى موضعه حتّى صارت الشمس على قدر رمح و أقبل على الناس بوجهه فقال: و اللّه لقد أدركت أقواما يبيتون لربّهم سجدا و قياما يخالفون بين جباههم و ركبهم كأنّ زفير النار فى آذانهم، إذا ذكر اللّه عندهم مادوا كما يميد الشجر كأنّما القوم باتوا غافلين، قال عليه السّلام: ثمّ قام فما رئي ضاحكا حتّى قبض.

(و) العاشر أنّ (شرورهم مأمونة) لأنّ مبدء الشرور و المفاسد كلّها و رأس كلّ خطيئة هو حبّ الدّنيا، و المتّقون زاهدون فيها معرضون عنها مجانبون عن شرّها و فسادها.

(و) الحادى عشر أنّ (أجسادهم نحيفة) لا تعاب أنفسهم بالصيام و القيام و قناعتهم بالقدر الضرورى من الطعام.

(و) الثاني عشر أنّ (حاجاتهم خفيفة) لاقتصارهم من حوائج الدّنيا على ضروريّاتها و عدم طلبهم منها أكثر من البلاغ.

(و) الثالث عشر أنّ (أنفسهم عفيفة) أى مصونة عن المحرّمات لكسرهم سورة القوّة الشهويّة.
روى في الوسائل من الكافى عن منصور بن حازم عن أبي جعفر عليه السّلام قال: ما من عبادة أفضل عند اللّه من عفّة فرج و بطن.

و عن عبد اللّه بن ميمون القداح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: كان أمير المؤمنين عليه السّلام يقول: ما من عبادة أفضل من عفّة بطن و فرج

و الرابع عشر أنّهم (صبروا أياما قصيرة أعقبتهم) تلك الأيّام القصيرة (راحة طويلة) يعنى أنهم صبروا فى دار الدّنيا على طوارق المصائب و على مشاق الطاعات و عن لذّات المعاصى بل احتملوا جميع مكاره الدّنيا و استعملوا الصبر فى جميع أهوالها فأوجب ذلك السعادة الدائمة فى الدّار الاخرة.

و يدلّ على ذلك ما رواه فى الكافى عن حمزة بن حمران عن أبى جعفر عليه السّلام قال: الجنّة محفوفة بالمكاره و الصبر، فمن صبر على المكاره فى الدّنيا دخل الجنّة، و جهنّم محفوفة باللّذات و الشهوات فمن أعطى نفسه لذّتها و شهوتها دخل النار.
و فيه عن أبي حمزة الثمالي قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: من ابتلى من المؤمنين ببلاء فصبر عليه كان له مثل أجر ألف شهيد.

و فيه عن العزرمي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: سيأتي على النّاس زمان لا ينال فيه الملك إلّا بالقتل و التّجبّر، و لا الغنى إلّا بالغصب و البخل،و لا المحبّة إلّا باستخراج الدّين و اتباع الهوى، فمن أدرك ذلك الزّمان فصبر على الفقر و هو يقدر على الغنى، و صبر على البغضة و هو يقدر على المحبّة، و صبر على الذّل و هو يقدر على العزّ آتاه اللّه ثواب خمسين صدّيقا ممّن صدّق بي، هذا و في وصف أيّام الصبر بالقصر و الرّاحة بالطول تحريص و ترغيب اليه، و أكّد ذلك بقوله (تجارة مربحة) استعار لفظ التجارة لاكتسابهم الرّاحة في مقابل الصبر، و رشّح بلفظ الرّبح.

و كونها مربحة باعتبار قصر مدّة الصّبر على المكاره و طول مدّة الرّاحة و فناء الشّهوات الدّنيويّة و اللّذائذ النّفسانيّة و بقاء السّعادات الاخرويّة مضافة إلى خساسة الاولى في نفسها و حقارتها، و نفاسة الثّانية و شرافتها.

و أكّد ثالثا بقوله (يسّرها لهم ربّهم) يعني أنّ فوزهم بتلك النّعمة العظمى و السّعادة الدّائمة قد حصل بتوفيق اللّه سبحانه و تأييده و لطفه، ففيه ايماء إلى توجّه العناية الرّبانيّة إليهم و شمول الألطاف الالهيّة عليهم و إلى كونهم بعين رحمة اللّه و كرامته

و الخامس عشر أنّهم (أرادتهم الدّنيا فلم يريدوها) أى أرادت عجوزة الدّنيا أن تفتنهم و تغرّهم و أن يتزوّجوا بها، فأعرضوا عنها و زهدوا فيها بما كانوا يعرفونه من حالها و أنّها قتّالة غوّالة ظاهرة الغرور كاسفة النّور يونق منظرها و يوبق مخبرها قد تزيّنت بغرورها و غرّت بزينتها لا تفي بأحد من أزواجها الباقية كما لم تف بأزواجها الماضية.

(و) السادس عشر أنّ الدّنيا (أسرتهم ففدوا أنفسهم منها) الأشبه أن يكون المراد بقوله: أسرتهم، هو الاشراف على الاسر، يعني أنّهم بمقتضى المزاج الحيواني و القوى النّفسانيّة الّتي لهم كاد أن تغرّهم الدّنيا فيميلوا إليها و يقعوا في قيد اسره و سلسلة رقيّته، لكنّهم نظروا إليها بعين البصيرة و عرفوها حقّ المعرفة و غلب عقلهم على شهوتهم فرغبوا عنها و زهدوا فيها و أعرضوا عن زبرجها و زخارفها، فالمراد بفداء أنفسهم منها هو الاعراض عن الزّخارف الدّنيويّة، فكأنّهم بذلوا تلك الزّخارف‏لها و خلصوا أنفسهم منها.

و إنّما أتى بالواو في قوله: أرادتهم الدّنيا و لم يريدوها، و بالفاء في قوله: و أسرتهم ففدوا أنفسهم منها، لعدم التّرتيب بين الجملتين المتعاطفتين فى القرينة السّابقة، بخلاف هذه القرينة فانّ الفدية مترتّبة على الاسر كما لا يخفى.
و السابع عشر اتّصافهم بالتهجّد و قيام الليل و إليه أشار بقوله (أمّا الليل فصافّون أقدامهم) فيها للصّلاة علما منهم بما فيه من الفضل العظيم و الأجر الخطير و قد مدح اللّه القيام فيها و القائمين في كتابه الكريم بقوله «سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ».

قال الصّادق عليه السّلام في تفسيره: هو السّهر في الصّلاة و بقوله «أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَ قائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَ يَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ» و قال تعالى أيضا إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَ أَقْوَمُ قِيلًا».
قال الصّادق عليه السّلام فيه قيام الرّجل عن فراشه يريد به وجه اللّه تعالى عزّ و جلّ لا يريد به غيره.
و كفى فى فضله ما رواه في الفقية عن جابر بن إسماعيل عن جعفر بن محمّد عن أبيه عليهما السّلام أنّ رجلا سأل عليّ بن أبي طالب عن قيام اللّيل بالقرآن، فقال عليه السّلام ابشر: من صلّى من الليل عشر ليلة مخلصا ابتغاء ثواب اللّه قال اللّه لملائكته: اكتبوا لعبدي هذا من الحسنات عدد ما انبت في الليل من حبّة و ورقة و شجرة و عدد كلّ قصبة و خوص و مرعى.

و من صلّى تسع ليلة أعطاه اللّه عشر دعوات مستجابات و أعطاه اللّه كتابه بيمينه.
و من صلّى ثمن ليلة أعطاه اللّه أجر شهيد صابر صادق النّية و شفّع في أهل بيته.
و من صلّى سبع ليلة خرج من قبره يوم يبعث و وجهه كالقمر ليلة البدر حتى‏يمرّ على الصراط مع الامنين و من صلّى سدس ليلة كتب من الأوابين و غفر له ما تقدّم من ذنبه و ما تأخّر.
و من صلّى خمس ليلة زاحم إبراهيم خليل الرّحمن في قبّته.
و من صلّى ربع ليلة كان في أوّل الفائزين حتى يمرّ على الصراط كالريح العاصف و يدخل الجنة بلا حساب.
و من صلّى ثلث ليلة لم يلق ملكا إلّا غبطه لمنزلته من اللّه و قيل ادخل من أىّ أبواب الجنة شئت.
و من صلّى نصف ليلة فلو اعطى ملؤ الأرض ذهبا سبعين ألف مرّة لم يعدل جزاه و كان له بذلك عند اللّه أفضل من سبعين رقبة يعتقها من ولد إسماعيل عليه السّلام.

و من صلّى ثلثي ليلة كان له من الحسنات قدر رمل عالج أدناها حسنة أثقل من جبل احد عشر مرّات.
و من صلّى ليلة تامّة تاليا لكتاب اللّه راكعا و ساجدا و ذاكرا اعطى من الثواب ما أدناه يخرج من الذنوب كما ولدته امّه، و يكتب له عدد ما خلق اللّه من الحسنات و مثلها درجات و يثبت النّور في قبره و ينزع الاثم و الحسد من قلبه، و يجار من عذاب القبر و يعطى براءة من النّار و يبعث من الامنين، و يقول الربّ لملائكته يا ملائكتي انظروا إلى عبدى أحيا ليله ابتغاء مرضاتي اسكنوه الفردوس و له فيها مأئة ألف مدينة فى كلّ مدينة جميع ما تشتهى الأنفس و تلذّ الأعين و لم يخطر على بال سوى ما أعددت له من الكرامة و المزيد و القربة، هذا.
و لما وصف قيامهم بالصّلاة في اللّيل أشار إلى قراءتهم و وصف قراءتهم تفصيلا بقوله (تالين لأجزاء القرآن) فانّ البيوت الّتي يتلى فيها القرآن تضي‏ء لأهل السّماء كما تضي‏ء الكواكب لأهل الأرض كما روى في غير واحد من الأخبار و تكثر بركتها و تحضرها الملائكة و تهجرها الشّياطين كما رواه في الكافي عن ابن القداح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام عن أمير المؤمنين عليه السّلام.

(يرتّلونه ترتيلا) قال في مجمع البحرين: التّرتيل في القرآن التّأني و تبيين الحروف بحيث يتمكّن السّامع من عدّها.
و فى الكافي عن عبد اللّه بن سليمان قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: بيّنه تبيانا و لا تهذّه هذّ الشّعر، و لا تنثره نثر الرّمل، و لكن افزعوا قلوبكم القاسية و لا يكن همّ أحدكم آخر السّورة.

و فى مجمع البحرين عن أمير المؤمنين عليه السّلام: ترتيل القرآن حفظ الوقوف و بيان الحروف، و فسّر الوقوف بالوقف التامّ و هو الوقوف على كلام لا تعلّق له بما بعده لا لفظا و لا معنا، و بالحسن و هو الّذي له تعلّق، و فسّر الثاني بالاتيان بالصّفات المعتبرة عند القراءة من الهمس و الجهر و الاستعلاء و الاطباق.

و عن الصّادق عليه السّلام الترتيل أن تتمكث فيه و تحسن به صوتك، و إذا مررت باية فيها ذكر الجنة فاسأل اللّه الجنة، و إذا مررت باية فيها ذكر النار فتعوّذ باللّه من النار.
و قوله عليه السّلام (يحزنون به أنفسهم) أى يقرؤنه بصوت حزين.
روى في الكافي عن ابن أبي عمير عمّن ذكره عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إنّ القرآن نزل بالحزن فاقرءوه بالحزن.
و فى الوسائل من الكافي عن حفص قال: ما رأيت أحدا أشدّ خوفا على نفسه من موسى بن جعفر عليهما السّلام و لا أرجى للناس منه، و كانت قراءته حزنا، فاذا قرء فكأنه يخاطب إنسانا.

و قوله: (و يستثيرون به دواء دائهم) الظاهر أنّ المراد بدائهم هو داء الذّنوب الموجب للحرمان من الجنّة و الدّخول في النّار، و بدوائه هو التّدبّر و التفكّر الموجب لقضاء ما عليهم من الحقّ و سؤال الجنّة و طلب الرّحمة و المغفرة و التعوّذ من النّار عند قراءة آيتي الوعد و الوعيد.

كما أوضحه و شرحه بقوله (فاذا مرّوا باية فيها تشويق) إلى الجنّة (ركنوا)أى مالوا و اشتاقوا (إليها طمعا و تطلعت) أى أشرفت (نفوسهم إليها شوقا و ظنّوا أنّها نصب أعينهم) أى أيقنوا أنّ تلك الاية أى الجنّة الموعودة بها معدّة لهم بين أيديهم و إنما جعلنا الظنّ بمعني اليقين لما قد مرّ من اتّصافهم بعين اليقين و أنهم و الجنّة كمن قد رآها فهم فيها منعّمون.

(و إذا مرّوا باية فيها تخويف) و تحذير من النار (أصغوا) أى أمالوا (إليها مسامع قلوبهم و ظنّوا) أى علموا (أنّ زفير جهنّم و شهيقها) أى صوت توقدها (فى اصول آذانهم) أو المراد زفير أهلها و شهيقهم، و الزّفير إدخال النفس و الشهيق إخراجه، و منه قيل: إنّ الزّفير أوّل الصوت و الشهيق آخره، و الزّفير من الصّدر و الشهيق من الحلق، و كيف كان فالمراد أنهم و النار كمن قد رآها فهم فيها معذّبون.

و محصل المراد أنّ المتّقين يقرؤن القرآن بالتّرتيل و الصوت الحسن الحزين و يشتدّ رجاؤهم عند قراءة آيات الرّجا و خوفهم عند تلاوة آيات الخوف.
روى في الوسائل عن الشيخ عن البرقي و ابن أبي عمير جميعا عن بعض أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: ينبغي للعبد إذا صلّى أن يرتّل في قراءته فاذا مرّ باية فيها ذكر الجنّة و ذكر النار سأل اللّه الجنة و تعوّذ باللّه من النار، و إذا مرّ بيا أيها الناس و يا أيها الّذين آمنوا يقول لبّيك ربّنا.

و عنه عن عثمان بن عيسى عن سماعة قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام ينبغي لمن قرء القرآن إذا مرّ باية فيها مسألة أو تخويف أن يسأل عند ذلك خير ما يرجو و يسأل العافية من النار و من العذاب.
و فيه عن الكليني عن الزّهرى في حديث قال: كان عليّ بن الحسين عليهما السّلام إذا قرء مالك «ملك» يوم الدّين يكرّرها حتى يكاد أن يموت، هذا.

و لما ذكر عليه السّلام وصف قيامهم و قراءتهم أشار إلى ركوعهم بقوله (فهم حانون) أى عاطفون (على أوساطهم) يعني أنّهم يحنون ظهرهم فى الرّكوع أى يميلونه في استواء من رقبتهم و من ظهرهم من غير تقويس.

و أشار إلى سجودهم بقوله (مفترشون لجباههم واه كفّهم و ركبهم و أطراف أقدامهم)أى باسطون لهذه الأعضاء السبعة في حالة السجدة على الأرض قال سبحانه وَ أَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً.
قال في مجمع البيان روى أنّ المعتصم سأل أبا جعفر محمّد بن عليّ بن موسى الرّضا عليه السّلام عن هذه الاية فقال عليه السّلام: هي الأعضاء السبعة التي يسجد عليها.

و فى الوسائل عن الشيخ باسناده عن زرارة قال: قال أبو جعفر عليه السّلام قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: السجود على سبعة أعظم: الجبهة، و اليدين، و الرّكبتين، و الابهامين من الرّجلين، و ترغم بأنفك إرغاما أمّا الفرض فهذه السبعة و أمّا الارغام بالأنف فسنّة من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و قوله عليه السّلام (يطلبون إلى اللّه تعالى في فكاك رقابهم) إشارة إلى العلّة الغائيّة لهم من عباداتهم الليلية، يعنى أنهم يتضرّعون اليه سبحانه و يلحّون في فكاك رقابهم من النار و ادخالهم الجنة.
و الثامن عشر اتّصافهم بأوصاف يطلع عليها النّاظرون لهم نهارا، و إليه أشار بقوله (و أمّا النّهار فحلماء علماء أبرار أتقياء) يعني أنّهم متّصفون بالحلم و العلم و البرّ و التّقوى.

أما الحلم فهو فضيلة متوسّطة بين رذيلتي المهانة و الافراط في الغضب، و هو من جنود العقل و يقابله السّفه و هو من جنود الجهل، كما في الحديث المرويّ في الكافي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام.
قال صدر المتألهين في شرح الكافي: الحلم الاناة و هو من شعب الاعتدال في الغضب، و السفه الخفّة و الطيش، و سفه فلان رأيه إذا كان مضطربا لا استقامة له فيكون من شعب الافراط في الغضب ضدّ الحلم الذي من شعب الاعتدال فيه.

و قال بعض شرّاح الكافي: الحلم الاناة و التثبّت في الامور، و هو يحصل عن الاعتدال فى القوّة الغضبية و يمنع من الانفعال عن الواردات المكروهة المؤذية، و من آثاره عدم جزع النفس عند الامور الهايلة و عدم طيشها فى المؤاخذة و عدم صدورحركات غير منتظمة منها و عدم إظهار المزية على الغير و عدم التهاون فى حفظ ما يجب حفظه شرعا و عقلا.

أقول و يشهد بفضل هذا الوصف: ما رواه فى الكافى عن جابر عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنّ اللّه يحبّ الحييّ الحليم العفيف المتعفّف.
و عن سعيد بن يسار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إذا وقع بين رجلين منازعة نزل ملكان فيقولان للسفيه منهما: قلت و قلت و أنت أهل لما قلت ستجزى بما قلت، و يقولان للحليم منهما: صبرت و حلمت سيغفر اللّه لك إن أتممت ذلك، قال: فان ردّه الحليم عليه ارتفع الملكان، هذا.

و فى بعض النسخ بدل قوله عليه السّلام فحلماء: فحكماء بالكاف فيفيد اتّصافهم بالحكمة و هو أيضا من جنود العقل، و يقابله الهوى و هو من جنود الجهل كما فى الحديث الذي أشرنا إليه.
قال صدر المتألهين فى شرح هذا الحديث من الكافى: الحكمة هى العلم بحقايق الأشياء كما هى بقدر الطاقة و العمل على طبقه، و الهوى الرّأى الفاسد و اتّباع النفس شهواتها الباطلة، و يحتمل أن يكون المراد بالحكمة ما يستعمل فى كتب الأخلاق و هو التوسط فى القوّة الفكريّة بين الافراط الذي هو الجربزة و التفريط الذى هو البلاهة فيكون المراد بالهوى الجربزة بما يلزمها من الاراء الفاسدة و العقائد الباطلة، لأنّها تضادّ الحكمة التي بهذا المعنى، و كلا المعنيين من صفات العقل و ملكاته و مقابلاتهما من صفات الجهل و توابعه.

و أما العلم فهو أيضا من جنود العقل، و يقابله الجهل كما فى الحديث المتقدّم إليه الاشارة، و المراد بكونهم علماء كما لهم في القوّة النظرية بالعلم النظرى الذي هو معرفة الصانع و صفاته و العلم الشرعى الذى هو معرفة تكاليفه و أحكامه.

و أما البر فقد يطلق و يراد به الصادق، و قد يطلق على الذى من عادته الاحسان‏و بهما فسّر قوله «انّه هو البرّ الرّحيم» و كثيرا ما يخصّ الأبرار بالأولياء و الزّهاد و العبّاد و به فسّر قوله تعالى إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ أى الأولياء المطيعون في الدّنيا و قال في مجمع البيان في تفسير قوله إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً هو جمع البرّ المطيع للّه المحسن في أفعاله، و قال الحسن: هم الّذين لا يؤذون الذّر و لا يرضون الشرّ و قيل: هم الذين يقضون الحقوق اللازمة و النّافلة.

و اما التقوى فالمراد به هنا الخوف، يعنى أنّهم خائفون من اللّه تعالى و تاركون جميع القبايح البدنيّة و النفسانيّة.
و أشار إلى كمال خوفهم بقوله (قد بريهم الخوف برى القداح) أى نحتهم مثل نحت السّهام و صاروا مثلها في الدّقة و النحافة و إنّما يفعل الخوف ذلك لاشتغال النّفس المدبّرة للبدن به عن النظر في صلاح البدن و وقوف القوّة الشّهويّة و الغاذية عن أداء بدل ما يتحلّل.

و قد كان هذا الوصف أعني كمال الخوف من اللّه سبحانه و نحول البدن من شدّته مأثورا عن عليّ بن الحسين عليهما السّلام.
فقد روى المفيد في الارشاد عن أبي جعفر عليه السّلام قال: كان عليّ بن الحسين عليهما السّلام يصلّى في اليوم و اللّيلة ألف ركعة و كانت الرّيح تميله بمنزلة السّنبلة.
و فيه أيضا عن عبد اللّه بن محمّد القرشي قال: كان عليّ بن الحسين عليهما السّلام إذا توضّأ يصفرّ لونه فيقول له أهله: ما هذا الّذي يغشاك فيقول: أ تدرون لمن أتأهّب للقيام بين يديه.

و فيه أيضا عن سعيد بن كلثوم عن الصّادق عليه السّلام في حديث مدح فيه عليّ بن أبي طالب بما هو أهله و أطراه إلى أن قال: و ما أشبهه من ولده و لا أهل بيته أحد أقرب شبها به في لباسه و فقهه من عليّ بن الحسين عليهما السّلام، و لقد دخل ابنه أبو جعفر عليه فاذا هو قد بلغ من العبادة ما لم يبلغه أحد فرآه قد اصفرّ لونه من السّهر و رمصت عيناه من البكاء و دبرت جبهته و انخرم أنفه من السّجود و ورمت ساقاه و قدماه من‏القيام في الصّلاة قال أبو جعفر: فلم أملك حين رأيته بتلك الحال البكاء فبكيت رحمة له الحديث.

و قد كان شيعتهم عليهم السّلام أيضا متّصفون بذلك.
كما رواه في الوسايل من الخصال عن عمرو بن أبي المقدام عن أبيه قال: قال لي أبو جعفر عليه السّلام يا أبا المقدام إنّما شيعة علىّ الشّاحبون النّاحلون الذّابلون، ذابلة شفاههم خميصة بطونهم متغيّرة ألوانهم مصفرّة وجوههم، إذا جنّهم اللّيل اتّخذوا الأرض فراشا و استقبلوا الأرض بجباههم، كثير سجودهم كثيرة دموعهم كثير دعاؤهم كثير بكاؤهم يفرح النّاس و هم محزونون.

و فيه من أمالي ابن الشيخ قال: روى انّ أمير المؤمنين خرج ذات ليلة من المسجد و كانت ليلة قمراء فأمّ الجبانة و لحقه جماعة يقفون أثره فوقف عليهم ثمّ قال: من أنتم قالوا: شيعتك يا أمير المؤمنين، فتفرّس في وجوههم قال: فما لى لا أرى عليكم سيماء الشيعة قالوا: و ما سيماء الشيعة يا أمير المؤمنين قال: صفر الوجوه من السهر عمش العيون من البكاء حدب الظهور من القيام خمص البطون من الصيام ذبل الشفاه من الدّعاء عليهم غبرة الخاشعين، هذا.
و لغلبة الخوف عليهم و نحول أجسادهم و انحلال أعضائهم و شحب ألوانهم من الجدّ و الاجتهاد في العبادة (ينظر إليهم الناظر فيحسبهم مرضى و) الحال أنه (ما بالقوم من مرض و) لتوجّه نفوسهم بالملاء الأعلى، و خروج أفعالهم عن المعتادة المتعارفة بين الناس (يقول) الناظر لهم إنهم (قد خولطوا) أى اختلّ عقلهم و فسد (و) الحال أنهم ما خولطوا بل (قد خالطهم) أى مازجهم (أمر عظيم) من الخوف فتولهوا لأجله.

التاسع عشر أنّهم (لا يرضون من أعمالهم القليل) أى لا يقنعون بالقليل لعلمهم بشرف الغايات المقصودة من العبادات و عظم ما يترتّب عليها من الثمرات، و هو العتق من النار و الدّخول فى الجنة و الوصول إلى رضوان اللّه الذي هو أعظم اللّذات و أشرف الغايات.

و لذلك أنّ أولياء الدّين و أئمة التقوى و اليقين كان هممهم مقصورة على الجدّ و الاجتهاد و التفرّغ للعبادة.
و لقد قام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كما فى رواية الاحتجاج عن الكاظم عن أبيه عن آبائه عن أمير المؤمنين عليهم السّلام عشر سنين على أطراف أصابعه حتى تورّمت قدماه و اصفرّ وجهه يقوم اللّيل أجمع حتى عوتب فى ذلك فقال اللّه تعالى «طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى‏» بل لتسعد به.

و فى رواية الكافى عن أبى بصير عن الباقر عليه السّلام قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عند عايشة ليلتها فقالت: يا رسول اللّه لم تتعب نفسك و قد غفر لك ما تقدّم من ذنبك و ما تأخّر فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا عايشة ألا أكون عبدا شكورا و كان أمير المؤمنين عليه السّلام يصلّي فى اليوم و اللّيلة ألف ركعة، و كذلك ولده عليّ بن الحسين عليهما السّلام حسبما عرفت آنفا.

و روى فى الوسايل من العلل عن أبى حمزة قال: سألت مولاة لعليّ بن الحسين عليهما السّلام بعد موته فقلت: صفى لى امور علىّ بن الحسين عليهما السّلام فقالت: اطنب أو اختصر فقلت: بل اختصري، قال: ما أتيته بطعام نهارا قطّ و لا فرشت له فراشا بليل قطّ.

و روى فيه أيضا من العيون عن عبد السلام بن صالح الهروى فى حديث انّ الرّضا عليه السّلام كان ربما يصلّى فى يومه و ليلته ألف ركعة، و انما ينفتل من صلاته ساعة فى صدر النهار و قبل الزّوال و عند اصفرار الشمس، فهو فى هذه الأوقات قاعد فى صلاة «مصلاه ظ» يناجى ربه.
إلى غير ذلك من الأخبار الواردة فى وصف عباداتهم عليهم السّلام، و كفى فى تأكد المداومة على العبادة و التفرّغ لها بقوله سبحانه وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ.

روى فى الوسايل من العلل بسنده عن جميل بن درّاج قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: جعلت فداك ما معنى قول اللّه عزّ و جلّ وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ فقال: خلقهم للعبادة.

و فيه عن الكليني عن عمر بن يزيد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال فى التوراة مكتوب يا ابن آدم تفرغ لعبادتى أملاء قلبك غنى و لا أكلك إلى طلبك، و علىّ أن أسدّ فاقتك و أملاء قلبك خوفا منّى.
و عن عمر بن جميع عن أبى عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أفضل النّاس من عشق العبادة فعانقها و أحبّها بقلبه و باشرها بجسده و تفرغ لها فهو لا يبالى على ما أصبح من الدّنيا على عسر أم يسر.

و عن أبى جميلة قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: قال اللّه تبارك و تعالى: يا عبادى الصّديقين تنعّموا بعبادتى فى الدّنيا فانّكم تنعّمون بها فى الاخرة.
(و) العشرون أنّهم (لا يستكثرون) من أعمالهم (الكثير) أى لا يعجبون بكثرة العمل و لا يعدّونه كثيرا و ان أتعبوا فيه أنفسهم و بلغوا غاية جهدهم، لمعرفتهم بأنّ ما أتوا به من العبادات و إن بلغت في كثرتها غاية الغايات زهيدة قليلة في جنب ما يترتّب عليها من الثّمرات، كما أشار إليه في الخطبة الثانية و الخمسين بقوله: فو اللّه لو حننتم حنين الوله العجال و دعوتهم بهديل الحمام و جأرتم جؤار المتبتّلي الرّهبان و خرجتم إلى اللّه من الأموال و الأولاد التماس القربة اليه في ارتفاع درجة عنده أو غفران سيئة أحصتها كتبه و حفظها رسله، لكان قليلا فيما أرجو لكم من ثوابه و أخاف عليكم من عقابه، هذا.

مع ما في استكثار العمل من العجب الموجب لاهباطه و للوقوع في الخزى العظيم و العذاب الأليم.
روى في الوسائل من الخصال عن سعد الاسكاف عن أبي جعفر عليه السّلام قال: ثلاث قاصمات الظّهر: رجل استكثر عمله، و نسى ذنوبه، و أعجب برأيه.

و من الخصال عن عبد الرّحمن بن الحجاج عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال ابليس: إذا استمكنت من ابن آدم في ثلاث لم ابال ما عمل فانّه غير مقبول: إذا استكثر عمله، و نسى ذنبه، و دخله العجب.
و فيه عن الكليني عن سماعة قال: سمعت أبا الحسن عليه السّلام يقول: لا تستكثرواالخير و لا تستقلّوا قليل الذّنوب.
و عن الكليني عن يونس عن بعض أصحابه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في حديث: قال موسى بن عمران لابليس: أخبرني بالذّنب الّذى إذا أذنبه ابن آدم استحوذت عليه قال: إذا أعجبته نفسه، و استكثر عمله، و صغر في عينه ذنبه.

و قال: قال اللّه عزّ و جلّ لداود: يا داود بشّر المذنبين و أنذر الصّديقين، قال: كيف ابشّر المذنبين و أنذر الصدّيقين قال: يا داود بشّر المذنبين أني أقبل التوبة و أعفو عن الذّنب، و أنذر الصدّيقين أن لا يعجبوا بأعمالهم فانّه ليس عبد أنصبه للحساب إلّا هلك و لمّا ذكر عدم رضاهم بالقليل و اعجابهم بالكثير فرّع عليه قوله (فهم لأنفسهم متّهمون و من أعمالهم مشفقون) يعني أنّهم يتّهمون أنفسهم و ينسبونها إلى التقصير في العبادة.

روى في الوسائل عن الكليني عن سعد بن أبي خلف عن أبي الحسن موسى عليه السّلام قال: قال لبعض ولده: يا بنيّ عليك بالجدّ و لا تخرجنّ نفسك من حدّ التقصير في عبادة اللّه عزّ و جل فانّ اللّه لا يعبد حقّ عبادته.
و عن الفضل بن يونس عن أبي الحسن عليه السّلام قال: أكثر من أن تقول: اللّهم لا تجعلني من المعارين و لا تخرجني من التقصير، قال: قلت له: أمّا المعارون فقد عرفت إنّ الرّجل يعار الدّين ثمّ يخرج منه، فما معني لا تخرجني من التقصير فقال: كلّ عمل تريد به وجه اللّه فكن فيه مقصّرا عند نفسك فانّ النّاس كلّهم في أعمالهم فيما بينهم و بين اللّه مقصّرون إلّا من عصمه اللّه.

و عن أبي عبيدة الحذاء عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: قال اللّه عزّ و جلّ: لا يتّكل العاملون لي على أعمالهم الّتي يعملونها لثوابي، فانّهم لو اجتهدوا و أتّعبوا أنفسهم أعمارهم في عباداتي كانوا مقصّرين غير بالغين في عبادتهم كنه عبادتي فيما يطلبون عندى من كرامتي و النعيم في جنّاتي و رفيع الدّرجات العلي في جوارى و لكن برحمتي فليتّقوا «فليثقواظ»، و فضلي فليرجوا، و الى حسن الظنّ بي فليطمئنّوا و أمّا اشفاقهم من أعمالهم فخوفهم من عدم قبولها أو من عدم كونها جامعةلشرائط الصّحة و الكمال على الوجه الّذي يليق به تعالى فيؤاخذوا به، و قد مدح اللّه سبحانه المؤمنين بذلك في قوله «وَ الَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَ قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ».
روى فى الصافى من الكافى عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الاية فقال: هى اشفاقهم و رجاؤهم يخافون أن تردّ عليهم أعمالهم إن لم يطيعوا اللّه و يرجون أن تقبل منهم.

و فى مجمع البيان قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: معناه خائفة أن لا يقبل منهم.
و فى الوسائل من الكافى عن عبد الرّحمن بن الحجاج قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام الرّجل يعمل العمل و هو خائف مشفق ثمّ يعمل شيئا من البرّ فيدخله شبه العجب به فقال عليه السّلام: هو فى حاله الأولى و هو خائف أحسن حالا منه فى حال عجبه.

الحادى و العشرون أنّه (إذا زكي أحدهم) أى وصف و مدح بما فيه من محامد الأوصاف و مكارم الأخلاق و مراقبة العبادات و مواظبة الطاعات (خاف مما يقال له) و اشمئزّ منه (فيقول أنا أعلم بنفسى) أى بعيوبها (من غيري و ربّي أعلم منّي بنفسي) و إنّما يشمئزّ و يخاف من التّزكية لكون الرّضا بها مظنّة الاعجاب بالنفس و الادلال بالعمل.
و لهذه النّكتة أيضا نهى اللّه سبحانه عن تزكية النفس قال تعالى فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى‏ أى لا تثنوا عليها بزكاء العمل و زيادة الخير و الطهارة من المعاصى و الرّذائل، فانّه يعلم التّقى و غيره منكم قبل أن يخرجكم من صلب آدم.
قال فى مجمع البيان: أى لا تعظّموها و لا تمدحوها بما ليس لها فانّى أعلم بها، و قيل: معناه لا تزكوها بما فيها من الخير ليكون أقرب إلى النسك و الخشوع، و أبعد من الرّيا هو أعلم بمن برّ و أطاع و أخلص العمل.
و روى فى الصافى من العلل عن الصّادق عليه السّلام أنّه سئل عنها قال: يقول: لا يفتخر أحدكم بكثرة صلاته و صيامه و زكاته و نسكه، لأنّ اللّه عزّ و جل أعلم بمن اتّقى منكم.

و قوله (اللهمّ لا تؤاخذني بما يقولون و اجعلنى أفضل مما يظنّون و اغفر لى‏ما لا يعلمون) أى لا تؤاخذني بتزكية المزكين التي هى مظنة الاعجاب الموجب للسخط و المؤاخذة، و اجعلنى أفضل مما يظنّون فى التّقوى و الورع، و اغفر لى الهفوات و الاثام التي أنت عالم بها و هى مستورة عنهم و على ما ذكرنا فهذه الجملة الدّعائية متمّ كلام المتّقين الذى حكاه عليه السّلام عنهم، يعنى إذا زكي أحدهم يخاف منه و يجيب المزكّى بقوله: أنا أعلم بنفسى اه، و يدعو ربه بقوله: اللهمّ لا تؤاخذني اه.

و العجب من الشارح المعتزلي حيث زعم أنّ هذه الجملة من كلام أمير المؤمنين نفسه لا حكاية عن المتّقين قال: و قوله: اللهمّ لا تؤاخذني بما يقولون، إلى آخر الكلام مفرد مستقلّ بنفسه منقول عنه عليه السّلام أنه قاله لقوم مرّ عليهم و هم مختلفون فى أمره فمنهم الحامد له و منهم الذّام فقال: اللهمّ لا تؤاخذني اه، و معناه: اللهمّ إن كان ما ينسبه الذّامون إلىّ من الأفعال الموجبة للذمّ حقا فلا تؤاخذني بذلك، و اغفر لى ما لا يعلمونه من أفعالى، و ان كان ما يقوله الحامدون حقا فاجعلنى أفضل مما يظنّونه فيّ، انتهى.

و الأظهر ما ذكرنا كما لا يخفى، هذا.
و لما ذكر جملة من أوصافهم الجميلة أردفها بساير أوصافهم التي بها يعرفون و قال: (فمن علامة أحدهم أنك ترى له قوّة فى دين) أى تراه متصلّبا فيه لا يؤثّر فيه تشكيك المشكك و لا ينخدع بخداع الناس.
(و حزما في لين) أى يكون لينه عن حزم و تثبّت لا عن مهانة و قال الشارح البحراني يكون له الحزم في الامور الدّنيوية و التّثبّت فيها ممزوجا باللّين للخلق و عدم الفظاظة، و هي فضيلة العدل في المعاملة مع الخلق.

(و ايمانا في يقين) أى ايمانا مع يقين، فانّ الايمان و هو معرفة الصّانع و الرّسول و التّصديق بما جاء به من عند اللّه لما كان قابلا للشدّة و الضّعف، فتارة يكون عن وجه التقليد و هو الاعتقاد المطابق لا لموجب، و اخرى عن وجه العلم و هو الاعتقاد المطابق لموجب هو الدّليل، و ثالثة عن العلم به مع العلم بأنّه لا يكون إلّا كذلك و هو علم اليقين، أراد أنّ علمهم باصول العقائد علم يقين لا يتطرّق إليه احتمال‏و فى الكافي عن جابر قال: قال لي أبو عبد اللّه عليه السّلام: يا أخا جعفي انّ الايمان أفضل من الاسلام و إنّ اليقين أفضل من الايمان، و ما من شي‏ء أعزّ من اليقين.

و عن عليّ بن إبراهيم عن محمّد بن عيسى عن يونس قال: سألت أبا الحسن الرّضا عليه السّلام عن الايمان و الاسلام فقال: قال أبو جعفر عليه السّلام: إنّما هو الاسلام و الايمان فوقه بدرجة و التقوى فوق الايمان بدرجة، و اليقين فوق التقوى بدرجة، و لم يقسّم بين النّاس شي‏ء أقلّ من اليقين، قال: قلت: فأىّ شي‏ء اليقين قال: التوكّل على اللّه و التسليم للّه، و الرّضا بقضاء اللّه، و التفويض إلى اللّه، قلت: فما تفسير ذلك قال: هكذا قال أبو جعفر عليه السّلام.
قال بعض شرّاح الكافي في شرح هذا الحديث: الاسلام هو الاقرار و الايمان إما التصديق أو التّصديق مع الاقرار، و على التقديرين فهو فوق الاسلام بدرجة أما على الثاني فظاهر و أمّا على الأوّل فلأنّ التصديق القلبي أفضل و أعلى من الاقرار اللّساني كما أنّ القلب أفضل من اللّسان، و التقوى فوق الايمان بدرجة لأنّ التقوى هو التجنّب عمّا يضرّ في الاخرة و إن كان ضرره يسيرا، و اليقين فوق التقوى لأنّ التقوى قد لا يكون في مرتبة اليقين، و هي الّتي أشار إليها أمير المؤمنين عليه السّلام بقوله: لو كشف الغطاء لما ازددت يقينا.

(و حرصا في علم) أى و حرصا في طلب العلم النّافع فى الاخرة و الازدياد منه (و علما فى حلم) أى علما ممزوجا بالحلم و قد مرّ توضيحه فى شرح قوله و أمّا النّهار فعلماء حلماء.
(و قصدا فى غنى) يحتمل أن يكون المراد اقتصاده فى طلب المال و تحصيل الثروة، يعنى أنّه لا يجاوز الحدّ فى كسب المال و تحصيل الغنى بحيث يؤدّى إلى فوات بعض ما عليه من الفرائض كما هو المشاهد في أبناء الدّنيا، و أن يكون المراد أنّه مع غناه مقتصد فى حركاته و سكناته و مصارف ماله بل جميع أفعاله يعنى أنّ غناه لم يوجب طغيانه و خروجه عن القصد و تجاوزه عن الحدّ كما قال تعالى كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى‏ أَنْ رَآهُ.

(و خشوعا فى عبادة) أى خضوعا و تذللا فى عباداته، و قد وصف اللّه المؤمنين بذلك فى قوله «الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ» قال فى مجمع البيان أى خاضعون متواضعون متذلّلون لا يدفعون أبصارهم عن مواضع سجودهم و لا يلتفتون يمينا و شمالا.
و روى أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رأى رجلا يعبث بلحيته في صلاته فقال: أما انّه لو خشع قلبه لخشعت جوارحه.

و في هذا دلالة على أنّ الخشوع في الصّلاة يكون بالقلب و بالجوارح، فأمّا بالقلب فهو أن يفرغ قلبه بجميع الهمّة لها و الاعراض عمّا سواها فلا يكون فيه غير العبادة و المعبود، و أمّا بالجوارح فهو غضّ البصر و الاقبال عليها و ترك الالتفات و العبث قال ابن عبّاس خشع فلا يعرف من على يمينه و من على يساره.
(و تجمّلا في فاقة) أى يتعفّف و يظهر الغنى في حال فقره و يترك السّؤال و يستر ما هو عليه من الفقر، و أصل التجمّل هو تكلّف الجميل.

و قد مدح اللّه سبحانه أصحاب الصفة بذلك في قوله «لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ» و كانوا نحوا من أربعمائة من فقراء المهاجرين يسكنون صفّة مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يستغرقون أوقاتهم بالتعلّم و العبادة و كانوا يخرجون في كلّ سريّة يبعثها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يظنّهم الجاهل بحالهم و باطن امورهم أغنياء من التعفّف أى من أجل التعفّف و الامتناع من السّؤال و التجمّل فى اللّباس و السّتر لما هم عليه من الفقر و سوء الحال طلبا لرضوان اللّه و جزيل ثوابه تعرفهم بسيماهم أى تعرف حالهم بما يرى فى وجوههم من علامة الفقر من رثاثة الحال و صفرة الوجه لا يسئلون النّاس أصلا فيكون إلحاح أى إصرار فى السّؤال، فهو من قبيل السّالبة بانتفاء الموضوع مثل قولك: ما رأيت مثله و أنت تريد أنّه لا مثل له فيرى، لا أنّ له مثلا ما رأيته.

قال فى مجمع البيان فى الحديث: إنّ اللّه يحبّ أن يرى أثر نعمته على عبده‏و يكره البؤس و التّباؤس، و يحبّ الحليم المتعفّف من عباده و يبغض البذى السّائل الملحف.«» (و صبرا فى شدّة) أى يتحمّل على شدايد الدّنيا و مكارهها و يستحقرها بجنب ما يتصوّره من الفرحة بلقاء اللّه و بما بشّر به من عظيم الأجر للصّابرين فى كتابه المبين مضافا إلى ما فيه من التّأسّي و الاتباع للسلف الصالحين من الأنبياء و المرسلين و أولياء الدّين.

روى فى الكافى عن حفص بن غياث قال: قال لى أبو عبد اللّه عليه السّلام: يا حفص إنّ من صبر صبر قليلا و انّ من جزع جزع قليلا، ثمّ قال: عليك بالصبر فى جميع امورك فانّ اللّه عزّ و جلّ بعث محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأمره بالصبر و الرّفق فقال وَ اصْبِرْ عَلى‏ ما يَقُولُونَ وَ اهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا. وَ ذَرْنِي وَ الْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ و قال تبارك و تعالى وَ لا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَ لَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَ ما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا فصبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتى نالوه بالعظايم و رموه بها، فضاق صدره فأنزل اللّه عزّ و جلّ وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ كُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ثمّ كذّبوه و رموه فحزن لذلك فأنزل اللّه عزّ و جلّ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَ لكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ.

وَ لَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى‏ ما كُذِّبُوا وَ أُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا فألزم النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نفسه الصبر فتعدّوا فذكروا اللّه تعالى و كذّبوه فقال: قد صبرت فى نفسى و عرضى و لا صبر لى على ذكر إلهى فأنزل اللّه عزّ و جلّ وَ لَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَ ما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ.

فَاصْبِرْ عَلى‏ ما يَقُولُونَ فصبر النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فى جميع أحواله ثمّ بشر فى عترته بالأئمة و وصفوا بالصبر فقال جلّ ثناؤه «وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنالَمَّا صَبَرُوا وَ كانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ» فعند ذلك قال صلّى اللّه عليه و آله الصبر من الايمان كالرّأس من الجسد، فشكر اللّه عزّ و جلّ ذلك له فأنزل اللّه عزّ و جلّ وَ أَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَ مَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَ تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى‏ عَلى‏ بَنِي إِسْرائِيلَ بِما فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنه بشرى و انتقام فأباح اللّه عزّ و جلّ له قتال المشركين فأنزل فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَ خُذُوهُمْ وَ احْصُرُوهُمْ وَ اقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ و اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ فقتلهم اللّه على يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أحبائه و عجّل له ثواب صبره مع ما ادّخر له فى الاخرة، فمن صبر و احتسب لم يخرج من الدّنيا حتى يقرّ اللّه عينه فى أعدائه مع ما ادّخر له فى الاخرة.

(و طلبا فى حلال) أى يطلب الرّزق من الحلال و يقتصر عليه و لا يطلبه من الحرام.
روى فى الوسايل عن الكلينىّ باسناده عن أبى حمزة الثمالى عن أبى جعفر عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فى حجة الوداع: ألا إنّ الرّوح الأمين نفث فى روعى أنه لا تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتّقوا اللّه و أجملوا فى الطلب و لا يخفنكم استبطاء شي‏ء من الرّزق أن تطلبوه بمعصية اللّه، فانّ اللّه تبارك و تعالى قسّم الأرزاق بين خلقه حلالا و لم يقسّمها حراما، فمن اتّقى و صبر آتاه اللّه برزقه من حلّه و من هتك حجاب السرّ «كذا» و عجل فأخذه من غير جلّه قصّ به من رزقه الحلال و حوسب عليه يوم القيامة و فيه عن المفيد فى المقنعة قال: قال الصادق عليه السّلام الرّزق مقسوم على ضربين أحدهما واصل إلى صاحبه و ان لم يطلبه، و الاخر معلّق بطلبه، فالذى قسّم للعبد على كلّ حال آتيه و إن لم يسع له، و الذى قسّم له بالسعى فينبغى أن يلتمسه من وجوهه و هو ما أحلّه اللّه له دون غيره، فان طلبه من جهة الحرام فوجده حسب عليه برزقه و حوسب به.

(و نشاطا فى هدى) أى خفة و اسراعا فيه، و بعبارة اخرى أن يكون سلوكه لسبيل اللّه و اتيانه بالعبادات المشروعة الموصلة إلى رضوان اللّه سبحانه بطيب النفس‏و على وجه الخفّة و السهولة لا عن الكسل و التغافل، و ذلك ينشأ عن قوّة اليقين فيما وعد اللّه المتّقين من الجزاء الجميل و الأجر العظيم بخلاف أهل الرّيا فانّه يكسل فى الخلوة و ينشط بين الناس.

كما روى فى الوسايل عن الكلينىّ عن السكونيّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: ثلاث علامات للمرائى: ينشط إذا رأى الناس، و يكسل إذا كان وحده، و يحبّ أن يحمد فى جميع اموره.

(و تحرّجا عن طمع) أى تجنّبا عنه أى لا يطمع فيما في أيدى النّاس لعلمه بأنّه من الرّذايل النّفسانيّة و منشأ المفاسد العظيمة لأنّه يورث الذّل و الاستخفاف و الحقد و الحسد و العداوة و الغيبة و ظهور الفضايح و المداهنة لأهل المعاصي و النّفاق و الرّيا و سدّ باب النّهى عن المنكر و الأمر بالمعروف و ترك التّوكّل على اللّه و التّضرع إليه و عدم الرّضا بقسمه إلى غير ذلك ممّا لا يحصى.

روى في الكافي عن سعدان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال قلت له: الّذى يثبت الايمان في العبد قال: الورع و الذى يخرجه منه قال: الطمع.
و عن الزّهري قال: قال عليّ بن الحسين عليهما السّلام: رأيت الخير كلّه قد اجتمع في قطع الطمع مما في أيدى الناس.
و فيه مرفوعا عن أبي جعفر عليه السّلام قال: بئس العبد عبد له طمع يقوده و بئس العبد عبد له رغبة تذلّه.
(يعمل الأعمال الصالحة و هو على و جل) أى على خوف من ردّها و عدم قبولها لعدم اقترانها بالشرايط المقتضية للقبول كما قال تعالى وَ الَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَ قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ و قد مضى توضيح ذلك في شرح قوله عليه السّلام من هذه الخطبة: و من أعمالهم مشفقون.

(يمسي و همه الشكر و يصبح و همه الذّكر) قال الشارح البحراني أى يكون همّه عند المساء الشكر على ما رزق بالنهار و ما لم يرزق، و يصبح و همّه ذكر اللّه ليذكره اللّه فيرزقه من الكمالات النفسانية و البدنيّة كما قال تعالى فَاذْكُرُونِي‏ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَ اشْكُرُوا لِي وَ لا أقول: ما ذكره (ره) قاصر عن تأدية المراد غير واف بافادة نكتة تقييد الاهتمام بالذكر بالصباح و الاهتمام بالشكر بالمساء، فالأولى أن يقال: أما كون همّه مقصورا على الذّكر في الصباح فلتأكّد استحباب الذكر فيه و يدلّ عليه ما رواه في الوسايل من مجالس الصدوق باسناده عن عمير بن ميمون قال: رأيت الحسن بن عليّ عليهما السّلام يقعد في مجلسه حين يصلّى الفجر حتى تطلع الشمس، و سمعته يقول سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: من صلّى الفجر ثمّ جلس في مجلسه يذكر اللّه حتى تطلع الشمس ستره اللّه من النار ستره اللّه من النار ستره اللّه من النار.

و فيه أيضا من المجالس عن أنس في حديث قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعثمان ابن مظعون: من صلّى الفجر في جماعة ثمّ جلس يذكر اللّه حتى يطلع الشمس كان له في الفردوس سبعون درجة بعد ما بين درجتين كحضر الفرس الجواد المضمر سبعين سنة.

و فيه عن الشيخ عن ابن عمر عن الحسن بن عليّ عليهما السّلام قال: سمعت أبي عليّ بن أبي طالب عليه السّلام يقول: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أيما امرء جلس في مصلّاه الذي صلّى فيه الفجر يذكر اللّه حتى تطلع الشمس كان له من الأجر كحجاج بيت اللّه و غفر له.

و النكتة الاخرى في ذلك أنّ اللّه سبحانه لما خلق النهار لتحصيل المعاش و طلب الرّزق و الابتغاء من فضله كما أنّه خلق اللّيل للدّعة و السّكون و الراحة و النوم و كان للذكر عند الصباح مدخل عظيم في الرّزق لا جرم كان اهتمامهم بالذكر فيه أما أن خلق النهار للرّزق و المعاش فلقوله سبحانه وَ جَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً. وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً. وَ جَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً و أما أنّ الذّكر فى الصبح جالب للرّزق.

فلما رواه فى الوسائل عن الصادق عليه السّلام قال: الجلوس بعد صلاة الغداة في التعقيب و الدعاء حتى تطلع الشمس أبلغ في طلب الرّزق من الضرب في الأرض و فيه عن الكليني عن حماد بن عثمان قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: لجلوس الرّجل فى دبر صلاة الفجر إلى طلوع الشمس أنفذ في طلب الرزق من‏ركوب البحر، قلت: قد يكون للرجل الحاجة يخاف فوتها فقال عليه السّلام: يدلج فيها و ليذكر اللّه عزّ و جلّ فانه في تعقيب ما دام على وضوئه.

و بمعناهما أخبار اخر لا نطيل بروايتها.
و اما كون همّه بالشكر عند المساء، فلأنّ المساء ضدّ الصّباح و إذا كان طلب الرّزق و استنزال النعمة بالذّكر فى أوّل النّهار حسبما عرفت، فناسب أن يكون الشكر على النعم النّازلة فى النّهار فى آخره كما هو واضح.
(يبيت حذرا و يصبح فرحا) الظاهر عدم القصد إلى تخصيص الحذر بالبيات و الفرح بالصّباح، و إنّما المراد أنّه يبيت و يصبح جامعا بين وظيفتى الخوف و الرّجا، فعبّر عن الخوف بالحذر و عن الرّجاء بالفرح لكونه موجبا للفرح و السرور.
و أشار إلى علّتهما بقوله (حذرا لما حذّر) منه (من الغفلة) و التقصير فى رعاية وظايف العبودية، لما عرفت فى شرح قوله: فهم لأنفسهم متّهمون و من أعمالهم مشفقون، من عدم جواز إخراج النّفس من حدّ التّقصير فى عبادته تعالى و إن بولغ فيها.

و بقوله (و فرحا بما أصاب من الفضل و الرّحمة) أى بما وفّق له من فضل اللّه سبحانه و ما تفضّل به عليه من دين الاسلام و موالاة محمّد و آل محمّد عليهم السّلام و ما أتى صلّى اللّه عليه و آله و سلّم به من شرايع الأحكام، فانّ ذلك كلّه فضل منه عزّ و جلّ و رحمة يوفّق له من يشاء من عباده كما قال تعالى وَ لا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى‏ هُدَى اللَّهِ. أَنْ يُؤْتى‏ أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ.

و يحتمل أن يكون المراد بما أصاب خصوص ما أتى به من الفروعات العمليّة و العبادات الشرعية الموجبة لفضل اللّه و رحمته عليه فى الاخرة، فيكون محصل المراد بهذه الجملة سروره و فرحه بحسناته، لما فيها من رجاء الأجر و الثواب، و بالجملة السابقة مساءته و خوفه من الغفلة لما فيها من الوزر و العقاب.
روى فى الوسائل عن الكليني، عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: من سرّته حسنته و ساءته سيّئته فهو مؤمن.

و عن سليمان عمّن ذكره عن أبى جعفر عليه السّلام قال: سئل النّبى صلّى اللّه عليه و آله عن خيار العباد فقال: الّذين إذا احسنوا استبشروا، و إذا أساؤا استغفروا، و إذا اعطوا شكروا، و إذا ابتلوا صبروا، و إذا غضبوا غفروا.
(ان استصعبت عليه نفسه فيما تكره لم يعطها سؤلها فيما تحبّ) لما كان من شأن المتّقى كراهته للمعاصى و محبّته للحسنات، و من شأن نفسه الأمارة بالسوء عكس ذلك أى كراهته للحسنات و محبّته للمعاصى يقول عليه السّلام إنّ نفسه إن لم تطعه و لم يتمكّن له فى إتيان العبادات و الحسنات التي تكرهها و كان ميلها و محبّتها في السيئات لم يعطها سؤلها و لا يطاوعها فيما تريد، بل يقهرها على خلاف ما تكره و تحبّ، و محصّله أنّه يجاهد نفسه لعلمه بأنّها عدوّ له.

روى فى الوسائل عن الكليني عن أحمد بن محمّد بن خالد رفعه قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام لرجل: اجعل قلبك قرينا برّا و ولدا واصلا و اجعل علمك والدا تتبعه و اجعل نفسك عدوّا تجاهده و اجعل مالك عارية تردّها.
و فيه عن الصّدوق قال: و من ألفاظ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: الشّديد من غلب نفسه.
و عن الصّدوق عن المفضّل بن عمر قال قال الصّادق جعفر بن محمّد عليهما السّلام: من لم يكن له واعظ من قلبه و زاجر من نفسه و لم يكن له قرين مرشد استمكن عدوّه من عنقه.

و هذا الجهاد أعنى مجاهدة النفس هو الّذى سمّاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالجهاد الأكبر كما مرّ فى الحديث الّذى رويناه فى شرح الخطبة الخامسة و الثمانين و مضى هنالك أيضا بعض الأخبار المناسبة لهذا المقام فلينظر ثمّة.
(قرّة عينه فيما لا يزول) أى سروره و ابتهاجه المستلزم لقرّة عينه فى الباقيات الصالحات و السعادات الاخرويّة الباقية.

(و زهادته فيما لا يبقى) أى زهده فى الدّنيا و زخارفها الفانية.
(يمزج الحلم بالعلم) قد مرّ الوصف بالحلم و العلم فى قوله: و أما النهار فحلماء علماء، و قدّمنا هناك تفسير معناهما و لا حاجة إلى الاعادة و إنّما أعاد عليه السّلام الوصف بهماقصدا إلى أنّه قد خلط حلمه بعلمه يعنى قد تزيّن مع علمه بالحلم و الوقار و ليس بعالم سفيه جبّار.

كما قال أبو عبد اللّه عليه السّلام فى رواية الكافى: اطلبوا العلم و تزيّنوا معه بالحلم و الوقار و تواضعوا لمن تعلّمونه العلم و تواضعوا لمن طلبتم منه العلم، و لا تكونوا علماء جبّارين فيذهب باطلكم بحقّكم.
و فيه باسناده عن معاوية بن وهب عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: كان أمير المؤمنين عليه السّلام يقول: يا طالب العلم إنّ للعالم ثلاث علامات: العلم، و الحلم، و الصّمت، و للمتكلّف ثلاث علامات: ينازع من فوقه بالمعصية، و يظلم من دونه بالغلبة، و يظاهر الظّلمة.

و فيه بسند مرفوع عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: قال عليه السّلام لا يكون السّفه و الغرّة في قلب العالم، هذا.
و قال بعض الشارحين: معنى قوله يمزج الحلم بالعلم أنّه يحلم مع العلم بفضيلة الحلم لا كحلم بعض الجاهلين عن ضعف النفس و عدم المبالات بما قيل له و فعل به، و لا بأس به.

(و) يمزج (القول بالعمل) أى يكون عمله موافقا لقوله بأن يأمر بالمعروف و يأتي به، و ينهى عن المنكر و يتناهى عنه، و يعد و يفي بوعده لا أن يقول ما لا يفعل و يعد فيخلف فيستحقّ بذلك السخط العظيم و المقت الشديد قال تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ» و قال «فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَ الْغاوُونَ.
روى في الكافي عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السّلام في هذه الاية قال: هم قوم وصفوا عدلا بألسنتهم ثمّ خالفوه إلى غيره.

(تراه قريبا أمله) لأنّ بعد الأمل و طوله ينشأ من حبّ الدّنيا و نسيان الاخرة، حسبما عرفته تحقيقا و تفصيلا في شرح الخطبة الثانية و الأربعين، و المؤمن المتّقي لزهده في الدّنيا و نفرته عنها و اشتياقه إلى الاخرة لا يطول له الأمل البتّة كماهو ظاهر (قليلا زلله) أى خطاه و ذنبه لما له من ملكة العدالة المانعة من ارتكاب الكبائر و إصرار الصغائر.
(خاشعا قلبه) أى خاضعا ذليلا من تصوّر عظمة الربّ المتعال جلّ جلاله (قانعة نفسه) بما قدّره اللّه تعالى في حقّه راضية بالقسم المقسوم مستغنية عن الناس.

روى في الكافي باسناده عن جابر عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من أراد أن يكون أغني النّاس فليكن بما في يد اللّه أوثق منه بما في يد غيره.
و فيه عن عمر بن أبي المقدام عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: مكتوب في التوراة يا ابن آدم كن كيف شئت كما تدين تدان من رضي من اللّه بالقليل من الرّزق قبل اللّه منه اليسير من العمل، و من رضي باليسير من الحلال خفّت مؤنته و زكت مكسبته و خرج من حدّ الفجور.

و فيه عن محمّد بن عرفة عن أبي الحسن الرّضا عليه السّلام قال: من لم يقنعه من الرّزق إلّا الكثير لم يكفه من العمل إلّا الكثير، و من كفاه من الرّزق القليل فانّه يكفيه من العمل القليل.
(منزورا اكله) أى قليلا، فانّ الجوع و التقليل من الطعام يورث رقّة القلب و صفاء الذّهن و انفاذ البصيرة و ايقاد القريحة و الاستعداد للذّة المناجاة و التأثّر بالذّكر و الموعظة، مضافا إلى ما فيه من المنافع الكثيرة الّتي أشرنا إليها في شرح الفصل الثاني من الخطبة المأة و التاسعة و الخمسين.

و كفى في فضله أنّ فيه تأسّيا بالسّلف الصالحين من الأنبياء و المرسلين و الأئمة المعصومين و أصحابهم الأكرمين حسبما عرفت في شرح الخطبة المذكورة فليراجع ثمّة.
(سهلا أمره) أى خفيف المؤنة لا يتكلّف لأحد و لا يكلّفه فانّ شرّ الأخوان من يتكلّف له.
(حريزا دينه) أى محرزا محفوظا من تطرّق الشكوك و الشّبه لرسوخه و كونه عن علم اليقين المانع من عروض الاحتمال و الخلل حسبما عرفت في شرح قوله‏و ايمانا في يقين.

(ميتة شهوته) قال الشارح البحراني لفظ الموت مستعار لخمود شهوته عما حرّم عليه و يعود إلى العفّة.
أقول روى في الكافي عن السّكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ثلاث أخافهنّ على امتى بعدي: الضلالة بعد المعرفة، و مضلّات الفتن، و شهوة البطن و الفرج و فيه عن ميمون القداح قال: سمعت أبا جعفر عليه السّلام: يقول: ما من عبادة أفضل من عفّة بطن و فرج.

و عن عبد اللّه بن ميمون القداح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: كان أمير المؤمنين عليه السّلام يقول: أفضل العبادة العفاف.
و فى الوسائل عن الصّدوق باسناده عن أمير المؤمنين عليه السّلام فى وصيّته لمحمّد ابن الحنفيّة قال: و من لم يعط نفسه شهوتها أصاب رشده.
(مكظوما غيظه) أى محبوسا و كظم الغيظ حبسه و تكلّف الحلم عند هياج الغضب قال تعالى وَ الْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَ الْعافِينَ عَنِ النَّاسِ مدحهم بهذه الصفة يعني أنّهم يحبسون غيظهم و يتجرّعونه عند القدرة.

روى في الكافي عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن بعض أصحابه عن مالك بن حصين السّكوني قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: ما من عبد كظم غيظا إلّا زاده اللّه عزّ و جلّ عزّا في الدّنيا و الاخرة و قد قال اللّه عزّ و جلّ وَ الْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَ الْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ و أثابه اللّه مكان غيظه ذلك.
و فيه باسناده عن أبي حمزة قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: ما من جرعة يتجرّعها العبد أحبّ إلى اللّه عزّ و جلّ من جرعة غيظ يتجرّعها عند تردّدها في قلبه إمّا بصبر و إمّا بحلم.

و عن سيف بن عميرة قال: حدّثنى من سمع أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: من كظم غيظا و لو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ اللّه قلبه يوم القيامة رضاه و عن أبي حمزة عن عليّ بن الحسين عليهما السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من أحبّ السبيل إلى اللّه عزّ و جلّ جرعتان: جرعة غيظ تردّها بحلم و جرعة مصيبة تردّها بصبر.

و الأخبار في فضله كثيرة و قد عقد في الكافي بابا عليه و ما أوردناها كافية في المقام.
(الخير منه مأمول) لكثرة الخيرات الصّادرة منه و غلبتها الموجبة لأن يرجى و يؤمّل منه خيره.
(و الشرّ منه مأمون) لملكة التّقوى المانعة من إقدامه على الشرور الباعثة على الأمن من شرّه.
(ان كان في الغافلين كتب في الذاكرين) قال الشّارح المعتزلي و البحراني و غيرهما: يعنى أنّه إن كان مع الغافلين عن ذكر اللّه و في عدادهم كتب في الذاكرين لكونه ذاكرا للّه بقلبه و إن لم يذكره بلسانه.
أقول: و الأظهر عندى أنّ الغرض به الاشارة إلى دوام ذكره، يعني أنّه مع كونه بين الغافلين و في مجلسهم لا يغفل عن ذكره عزّ و جلّ كغفلتهم عنه، بل يداوم عليه و يكتب في زمرة الذّاكرين لعلمه بأنّ الذّكر في الغافلين يوجب مزيد الأجر.

و يدل عليه ما في الكافي عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن الحسين بن مختار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: الذّاكر للّه عزّ و جلّ في الغافلين كالمقاتل في المحاربين.
و عنه عن أبيه عن النّوفلي عن السّكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ذاكر اللّه في الغافلين كالمقاتل عن الفارّين، و المقاتل عن الفارّين له الجنّة و فى الوسائل عن الشيخ باسناده عن أبي ذر عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: قال: يا أبا ذر الذاكر في الغافلين كالمقاتل في الفارّين في سبيل اللّه.
و فيه من عدّة الدّاعي قال: قال النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من ذكر اللّه في السوق مخلصا عند غفلة الناس و شغلهم بما فيه كتب اللّه له ألف حسنة و غفر اللّه له يوم القيامة مغفرة لم تخطر على قلب بشر.

(و إن كان في الذاكرين لم يكتب من الغافلين) لعدم غفلته عن الذّكر، لأنه مع عدم غفلته عنه مع كونه بين الغافلين كما عرفت آنفا فعدم غفلته عنه إذا كان في‏الذّاكرين بطريق اولى، و يجوز أن يراد به معني آخر و هو الاشارة إلى كون ذكره عن وجه الخلوص و القربة و عدم كتبه من الغافلين لأجل ذلك، و أمّا غيره فربما يكتب من الغافلين و إن كان ذاكرا لعدم كون ذكره عن وجه الاخلاص بل بقصد الرّيا كما قال تعالى في حقّ المنافقين «إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَ هُوَ خادِعُهُمْ وَ إِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى‏ يُراؤُنَ النَّاسَ وَ لا يَذْكُرُونَ اللَّهَ».

قال بعض المفسّرين: إنّما وصف الذّكر بالقلّة لأنّه سبحانه لم يقبله و كلّ ما ردّه اللّه فهو قليل.
روى الطبرسي في مجمع البيان عن العياشي باسناده عن مسعدة بن زياد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام عن آبائه عليهم السّلام أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سئل فيم النّجاة غدا قال: النّجاة أن لا تخادعوا اللّه فيخدعكم فانّه من يخادع اللّه يخدعه و نفسه يخدع لو شعر، فقيل: إنّه فكيف يخادع اللّه، قال: يعمل بما أمره اللّه ثمّ يريد به غيره، فاتّقوا الرّيا فانّه شرك باللّه إنّ المرائي يدعى يوم القيامة بأربعة أسماء: يا كافر، يا فاجر، يا غادر، يا خاسر، حبط عملك و بطل أجرك و لا خلاق لك اليوم فالتمس أجرك ممّن كنت تعمل به.

فقد ظهر بذلك أنّ الذّكر المشوب بالرّيا غير مكتوب في صحايف الحسنات بل في صحايف السيّئات، و الذّاكر كذلك مكتوب في الخائبين الخاسرين فضلا عن الغافلين، هذا.
و لا يخفى حسن المقابلة و المطابقة بين هذه القرينة و القرينة السابقة من كلامه عليه السّلام و هي من مقابلة الثلاثة بالثلاثة.

(يعفو عمّن ظلمه و يعطي من حرمه و يصل من قطعه) هذه الصّفات الثلاث من مكارم الأخلاق و محامد الخصال، فالاولى مندرجة تحت الشجاعة، و الثانية مندرجة تحت السخاء، و الثالثة مندرجة تحت العفّة، و قد ورد الأخبار في فضلها كثيرا.

منها ما رواه في الكافي باسناده عن عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في خطبة: ألا أخبركم بخير خلايق «أخلاق خ» الدّنيا و الاخرة: العفو عمّن ظلمك‏و تصل من قطعك، و الاحسان إلى من أساء إليك، و إعطاء من حرمك.

و عن أبي حمزة الثمالي عن عليّ بن الحسين عليهما السّلام قال: سمعته يقول: إذا كان يوم القيامة جمع اللّه تبارك و تعالى الأوّلين و الاخرين في صعيد واحد ثمّ ينادى مناد أين أهل الفضل، قال: فيقوم عنق من النّاس فتلقّاهم الملائكة فيقولون: و ما كان فضلكم فيقولون: كنّا نصل من قطعنا و نعطى من حرمنا و نعفو عمن ظلمنا، قال: فيقال لهم: صدقتم ادخلوا الجنّة و عن جابر عن أبى جعفر عليه السّلام قال: ثلاث لا يزيد اللّه بهنّ المرء إلّا عزّا: الصّفح عمّن ظلمه، و إعطاء من حرمه، و الصّلة لمن قطعه.

و الأخبار في هذا المعنى كثيرة أوردها الكليني في باب العفو من الكافي و لا مهمّ بنا إلى الاطالة، هذا.
و انّما خصّ العفو بمن ظلمه لقوّة الدّاعي الى الانتقام عنه و حاجة العفو حينئذ إلى مجاهدة نفسانيّة كاملة و كذلك إعطاء من حرمه وصلة من قطعه.
قال بعض شرّاح الكافي: من صفات الكرام العفو عن الظّلم و التّجاوز عن المسي‏ء، و من صفات اللّئام الانتقام و طلب التّشفي و المعاقبة لدفع الغيظ و هو آفة نفسانية تغيّر الجهّال و النّاقصين من أجل تأثّر نفوسهم عن كلّ ما يخالف هواها.

و أمّا إعطاء من حرمك فالمقصود به أنّه إذا أحسنت إلى أحد و لم يقابل إحسانك باحسان أو قابلك بالاساءة و الكفران، فلا ترغب عن احسانه بكفرانه، فانّه إذا لم يشكرك فقد يشكرك غيره و لو لم يشكرك أحد فانّ اللّه يحبّ المحسنين كما نطق به الكتاب المبين، و كفى شرفا و فضلا بأن تخاطب بخطاب أين أهل الفضل يوم حشر الأوّلين و الاخرين.

و أمّا صلة من قطعك فالمراد بها وصله بالمال و اليد و اللّسان و مراقبة أحواله بقدر الامكان لا سيما إذا كان من الأرحام حسبما عرفت في شرح الفصل الثاني من الخطبة الثّالثة و العشرين على بسط و تفصيل.
(بعيدا فحشه) إن اريد بالفحش معناه الظاهر أى السبّ و بذاءة اللّسان فلا بدّمن صرف لفظ البعيد عن ظاهره و جعله كناية عن العدم، و إن ابقى البعد على ظاهره المفيد لاقدامه على الفحش احيانا فلا بدّ من ارتكاب التأويل في لفظ الفحش و جعل المراد به فضول الكلام و القول القبيح الغير البالغ إلى حدّ الحرام لئلّا ينافي ملكة العدالة و التّقوى الّتى للمتّقى.

و كيف كان فالفحش بمعناه الظاهر من الموبقات العظيمة، و قد حذّر منه فى الأخبار الكثيرة و بشّر الفحّاش بالنّار.
مثل ما فى الكافى باسناده عن أبى بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: من علامات شرك الشّيطان الّذى لا يشكّ فيه أن يكون فحاشا لا يبالى بما قال و لا بما قيل له.

و عن عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إذا رأيتم الرّجل لا يبالى ما قال و لا ما قيل له فانّه لغيّة أو شرك شيطان.
و عن سليم بن قيس عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ اللّه حرّم الجنّة على كلّ فحّاش بذيّ قليل الحياء لا يبالى ما قال و لا ما قيل له، فانّك إن فتّشته لم تجده إلّا لغيّة أو شرك شيطان قيل: يا رسول اللّه و فى النّاس شرك شيطان فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أما تقرء قول اللّه عزّ و جل وَ اسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ قال: و سأل رجل فقيها هل فى النّاس من لا يبالى ما قيل له قال: من تعرّض النّاس بشتمهم و هو يعلم انّهم لا يتركونه فذلك لا يبالى ما قال و لا ما قيل له.

و عن سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ من شرّ عباد اللّه من تكره مجالسته لفحشه.
و عن أبى عبيدة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: قال: البذاء من الجفاء و الجفاء فى النّار.
(ليّنا قوله) أى يتكلّم بالرّفق و لا يغلظ فى كلامه، فانّ الرّفق فى القول يوجب المحبّة و يجلب الالفة و يدعو إلى الاجابة عند الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر و لذلك أمر اللّه عزّ و جل موسى و هارون عليهما السّلام عند بعثهما إلى فرعون بأن يقولا له قولا ليّنا ليكون أسرع إلى القبول و أبعد من النّفور.

و روى فى الكافى باسناده عن عمّار السّاباطى عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: كان‏أمير المؤمنين عليه السّلام يقول: ليجتمع فى قلبك الافتقار إلى النّاس و الاستغناء عنهم، فيكون افتقارك اليهم فى لين كلامك و حسن بشرك، و يكون استغناؤك عنهم فى نزاهة عرضك و بقاء عزّك.
(غائبا منكره حاضراً معروفه) أى مفقودا أعماله القبيحة المحرّمة موجودا أعماله الحسنة المتضمّنة للرّجحان الشرعى من الواجبات و المندوبات.

(مقبلا خيره مدبرا شرّه) يعنى أنّه من الأخيار كثير الخير قليل الشرّ كما وصفه سابقا بقوله: الخير منه مأمول و الشرّ منه مأمون.
و محصّل معناه أنّ خيره فى إقبال يزيد شيئا فشيئا و شرّه فى إدبار ينقص شيئا فشيئا إذ بقدر الزيادة فى طلب الخير يحصل النّقيصة فى جانب الشرّ لأنّ كثرة أحد المتضادّين توجب بمقتضى التضّاد قلّة الاخر كما هو ظاهر.
(في الزّلازل وقور) يعني أنّه في النوازل و الشّدايد و الحوادث العظيمة الموجبة لاضطراب النّاس متّصف بشدّة الوقار و الرّزانة و السّكينة و الثّبات كالجبل لا تحرّكه العواصف، و الوقار من جنود العقل و يقابله الخفّة و هي الطيش و العجلة من جنود الجهل.

(و في المكاره صبور و في الرّخاء شكور) لأنّ الايمان نصفان: نصف صبر و نصف شكر كما في الحديث المرفوع في احياء العلوم عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و المتّقي بما له من وصف التّقوى و الايمان قد أكمل بأخذهما كلا شطرى الايمان.
و إنّما كانا نصف الايمان لأنّ الايمان الكامل حسبما عرفت فيما تقدّم هو ما تضمّن العلم و العمل، و كلّ ما يلاقيه العبد من الأعمال ينقسم الى ما ينفعه في الدّنيا و الاخرة و إلى ما يضرّه فيهما، و له بالاضافة إلى ما يضرّه و يكرهه طبعه حال الصبر و بالاضافة الى ما ينفعه حال الشكر.
(لا يحيف على من يبغض) أى لا يظلمه مع قوّة الدّاعي إلى الحيف و هو البغض و العداوة (و لا يأثم فيمن يحبّ) مع قيام الدّاعي إلى الاثم و هو المحبّة.

و محصّل هاتين الفقرتين أنّه لا يخرجه الحبّ و البغض عن تكليفه الشرعي‏إلى ما يخالفه كما هو شأن قضاة السوء و امراء الجور و وظيفة أهل الهوى و العصبيّة.
(يعترف بالحقّ قبل أن يشهد عليه) لأنّ مسيس الحاجة إلى الاشهاد إنّما يكون في صورة الانكار و إنكار الحق كذب صريح مناف للتّقوى و العدالة.

(لا يضيّع ما استحفظ) أى لا يضيّع ما أمر اللّه بمحافظته من الصلوات الخمس و نحوها من الطاعات قال سبحانه حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَ الصَّلاةِ الْوُسْطى‏ و قال أيضا وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ هُمْ عَلى‏ صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ و بشّر الحافظين لها في سورة المؤمنين بقوله وَ الَّذِينَ هُمْ عَلى‏ صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ. أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ و في سورة المعارج بقوله وَ الَّذِينَ هُمْ عَلى‏ صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ. أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ.

و المراد بمحافظتها محافظة أوقاتها و حدودها و مراعات آدابها و شرايطها و المداومة عليها، و ضدّ المحافظة التّهاون و الأوّل من جنود العقل، و الثاني من جنود الجهل كما في حديث الكافي، و المراد بالتضييع هنا الأعمّ من الترك و التهاون و الاخلال بالحدود الموظفة.

(و لا ينسى ما ذكر) التذكّر و النّسيان أمران متقابلان، و الأول من جنود العقل و الثّاني من جنود الجهل.
و توضيح معناهما حسبما أوضحه بعض المحقّقين أنّ الادراك فينا عبارة عن حصول الصّورة العقليّة أو الحسّية في قوّة من قوانا، و تلك القوّة هى المسمّاة بالمدركة، و الحفظ عبارة عن وجود تلك الصّورة في قوّة اخرى فوقها هى المسمّاة بالخزانة و الحافظة، و التّذكّر عبارة عن استحضار تلك الصّورة مرّة اخرى من الحافظة بعد اختزانها فيها، و النّسيان عبارة عن زوالها عن المدركة و الحافظة بما هى حافظة جميعا، و السّهو عبارة عن زوالها من المدركة فقط لا من الحافظة.

إذا عرفت ذلك فأقول: إنّ المراد بقوله لا ينسى ما ذكر أنّه لا ينسى المتّقى ما ذكره اللّه سبحانه بايات كتابه الكريم من الفرائض و الأحكام و العبر و الأمثال و غيرها ممّا فيه تذكرة و ذكرى لاولى الألباب، بل يعمل بها و يداوم على ملاحظتهاو يكثر من اخطارها بباله و لا يغيبها عن نظره.

(و لا ينابز بالألقاب) لكون النّبز منهيّا عنه في الكتاب الحكيم قال سبحانه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ أى لا يدعو بعضكم بعضا باللقب السوء مثل قول الرّجل للرّجل يا كافر يا فاسق يا منافق بئس الشي‏ء تسميته باسم الفسوق يعني الكفر بعد الايمان، و النكتة فى النهى عنه كونه موجبا للتباغض و العداوة و إثارة الفتن.
(و لا يضارّ بالجارّ) لوجوب كفّ الأذى عن الجار كما صرّح به في غير واحد من الأخبار.

روى في الوسائل عن الكليني باسناده عن طلحة بن زيد عن أبي عبد اللّه عن أبيه عليهما السّلام قال: قال: قرأت في كتاب عليّ عليه السّلام انّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كتب بين المهاجرين و الأنصار و من لحق بهم من أهل يثرب: انّ الجار كالنفس غير مضارّ و لا اثم و حرمة الجار على الجار كحرمة امه.

و عن عمرو بن عكرمة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث انّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أتاه رجل من الأنصار فقال: إني اشتريت دارا من بني فلان و انّ أقرب جيراني منّى جوارا من لا أرجو خيره و لا آمن شرّه، قال: فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليا و سلمان و أبا ذر و نسيت آخر و أظنه المقداد أن ينادوا في المسجد بأعلى صوتهم بأنه: لا ايمان لمن لم يأمن جاره بوايقه، فنادوا بها ثلاثا ثمّ اومى بيده إلى كلّ أربعين دارا من بين يديه و من خلفه و عن يمينه و عن شماله.
و عن أبي حمزة قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: المؤمن من آمن جاره بوايقه، قلت: ما بوايقه قال: ظلمه و غشمه.

و فيه عن الصدوق باسناده عن شعيب بن واقد عن الحسين بن زيد عن الصادق عن آبائه عن عليّ عليهم السّلام عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في حديث المناهي قال: من أذى جاره حرّم اللّه عليه ريح الجنة و مأواه جهنّم و بئس المصير، و من ضيّع حقّ جاره فليس منّا و ما زال جبرئيل يوصيني بالجار حتّى ظننت أنه سيورثه، و ما زال يوصيني بالمماليك‏حتى ظننت أنه سيجعل لهم وقتا إذا بلغوا ذلك الوقت اعتقوا، و ما زال يوصيني بالسواك حتى ظننت أنه سيجعله فريضة، و ما زال يوصيني بقيام اللّيل حتى ظننت أنّ خيار امتي لن يناموا.

(و لا يشمت بالمصائب) لأنّ المصائب النازلة إنما هى بقضاء من اللّه عزّ و جلّ و قدر و الشامت بسبب نزولها بغيره في معرض أن تصيبه مثلها فكيف يشمت و يفرح بمصيبة نزلت به.
روى في الكافي باسناده عن أبان بن عبد الملك عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: لا تبدى الشماتة لأخيك فيرحمه اللّه و يصيّرها بك.

و قال عليه السّلام من شمت بمصيبة نزلت بأخيه لم يخرج من الدّنيا حتى يفتتن، هذا.
مضافا إلى أنّ فى الشماتة بالمؤمن كسرا لقلبه و إدخالا للحزن عليه، و هو خلاف غرض الشارع.
و لذلك قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا رأيتم أهل البلا فاحمدوا اللّه و لا تسمعوهم فانّ ذلك يحزنهم رواه فى الكافي عن حفص بن عمر عن أبي عبد اللّه عليه السّلام عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم (و لا يدخل فى الباطل و لا يخرج من الحقّ) الأولى أن يراد بالباطل كلّما يبعد من اللّه تعالى، و بالحقّ كلّما يقرب منه عزّ و جلّ، فالمعنى أنه لا يخرج عن سمت الهدى إلى مسلك الضلال و الرّدى.

(إن صمت لم يغمه صمته) لأنه بمقتضى عقله و كماله يضع كلّا من الصمت و الكلام فى موضعه اللّايق به و مقامه المناسب له، فلا يكون داع إلى التكلّم فى مقام مقتض للصمت حتى يكون إمساكه عن التكلّم موجبا لاغتمامه.
و بعبارة اخرى الاغتمام بالصمت إنما يكون ممن تعود لسانه بالهذر أى الهذيان و فضول الكلام و اعتاد الخوض فيما لا يعنى، و أهل التقوى لعلمهم بما فى الصمت من الثمرات الدّنيوية و الاخروية، و بما فى الكلام من المفاسد و الافات الكثيرة كالخطاء و الكذب و الغيبة و النميمة و الرّيا و النفاق و الفحش و الجدال و تزكية النفس و الخوض‏فى الباطل و الفضول و التحريف و الزّيادة و النقصان و إيذاء الخلق و هتك العورات إلى غير هذه من الافات اعتادوا أن لا يزيدوا فى كلامهم على قدر الحاجة، و التزموا الصمت إلّا فى مقام الضرورة.

و الى ذلك ينظر قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم طوبى لمن أمسك الفضل من لسانه و أنفق الفضل من ماله.
و قال أمير المؤمنين عليه السّلام إن كان كلامك من فضّة فأيقن أن السكوت من ذهب و قيل: أليق شي‏ء يكون فى السجن هو اللسان، و قيل: اللسان صغير الجرم عظيم الجرم قال ابو بكر بن عياش: اجتمع أربعة ملوك: ملك الهند و ملك الصين و كسرى و قيصر فقال أحدهم: أنا أندم على ما قلت و لا أندم على ما لم أقل، و قال الثاني: إنى إذا تكلّمت بكلمة ملكتنى و لم أملكها و إذا لم أتكلّم بها ملكتها و لم تملكنى، و قال الثالث: عجبت للمتكلّم إن رجعت عليه كلمته ضرّته و إن لم ترجع لم تنفعه، و قال الرابع: أنا على ردّ ما لم أقل أقدر منى على ردّ ما قلت.
و قد ورد فى مدح الصمت و ذمّ التكلّم من الأخبار ما هو غير محصور.

مثل ما فى الكافى باسناده عن أحمد بن محمّد بن أبى نصر قال: قال أبو الحسن عليه السّلام: من علامات الفقه العلم و الحلم و الصمت إنّ الصمت باب من أبواب الحكمة إنّ الصمت يكسب المحبة انه دليل على كلّ خير.
و عن الحلبى رفعه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أمسك لسانك فانها صدقة تصدق بها على نفسك ثمّ قال: و لا يعرف عبد حقيقة الايمان حتى يخزن من لسانه.
و عن الحلبى أيضا رفعه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: نجاة المؤمن من حفظ لسانه.
و عن أبى بصير قال: سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: كان أبو ذر يقول: يا مبتغى العلم إنّ هذا اللسان مفتاح خير و مفتاح شرّ فاختم على لسانك كما تختم على ذهبك و ورقك.

و عن عمر بن جميع عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: قال: كان المسيح يقول: لا تكثرواالكلام فى غير ذكر اللّه فانّ الذين يكثرون الكلام فى غير ذكر اللّه قاسية قلوبهم و لكن لا يعلمون.
و عن الوشا قال: سمعت الرّضا عليه السّلام يقول: كان الرّجل من بنى إسرائيل إذا أراد العبادة صمت قبل ذلك عشر سنين.

و عن منصور بن يونس عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: فى حكمة آل داود: على العاقل أن يكون عارفا بزمانه مقبلا على شأنه، حافظا للسانه.
إلى غير هذه ممّا لم نطل بروايتها، و قد مضى بعضها في شرح الخطبة السّابعة و السّبعين.
(و إن ضحك لم يعل صوته) لأنّ ضحك المؤمن التّبسّم و القهقهة من الشيطان كما رواه في الوسائل من الكافي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام.

و فيه أيضا من مجالس الشّيخ عن هارون بن عمرو بن عبد العزيز عن محمّد بن جعفر بن محمّد عن أبيه أبي عبد اللّه عن آبائه عن عليّ عليهم السّلام قال: كان ضحك النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم التّبسّم، فاجتاز ذات يوم بفتية من الأنصار و إذا هم يتحدّثون و يضحكون ملأ أفواههم، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: مه يا هؤلاء من غرّه منكم أمله و قصّر به في الخير عمله فليطلع القبور و ليعتبر بالنّشور و اذكروا الموت فانّه هادم اللّذات و من مجالس الصّدوق بسنده عن معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال كان بالمدينة رجل بطّال يضحك النّاس فقال: قد أعيانى هذا الرّجل أن اضحكه يعني عليّ بن الحسين عليهما السّلام، الحديث و فيه إن عليّ بن الحسين عليهما السّلام قال: قولوا له: إنّ للّه يوما يخسر فيه المبطلون.

و من عيون الأخبار عن الرّضا عن أبيه موسى بن جعفر عليهم السّلام قال: قال الصّادق عليه السّلام: كم ممّن أكثر ضحكه لاغيا يكثر يوم القيامة بكاؤه، و كم ممّن كثر بكاؤه على ذنبه خائفا يكثر يوم القيامة في الجنّة ضحكه و سروره.

(و إن بغي عليه صبر حتّى يكون اللّه هو الّذي ينتقم له) يعني إن ظلمه أحدو تعدّى عليه صبر على ذلك و فوّض أمره إلى اللّه عزّ و جلّ حتّى ينتقم له من الباغي لأنّه تعالى قد وعد له النصرة في كتابه العزيز بقوله «ذلِكَ وَ مَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ» أى من جازى الظالم بمثل ما ظلمه ثمّ ظلم عليه لينصرنّه اللّه أى المظلوم الّذي بغى عليه لا محالة، و إنّما يصبر المتّقى على بغى الباغي و لا يجازيه عملا بقوله سبحانه وَ إِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَ لَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ يعني إن أردتم معاقبة غيركم على وجه المجازاة و المكافاة فعاقبوا بقدر ما عوقبتم به و لا تزيدوا عليه و لئن تركتم المكافاة و القصاص و جرعتم مرارته لهو أى الصّبر خير و أنفع للصّابرين لما فيه من جزيل الثواب.

(نفسه منه في عناء و النّاس منه في راحة) أى نفسه منه في تعب و مشقّة لمجاهدته لها و مخالفته لهواها و حمله إيّاها على ما تكره و ردعه لها عمّا تحبّ كما عرفت في شرح قوله عليه السّلام: إن استصعبت عليه نفسه فيما تكره لم يعطها سؤلها فيما تحبّ، كلّ ذلك لعلمه بأنّها أمّارة بالسّوء و أنّها له عدوّ مبين، و لذلك كان النّاس منه في راحة، لأنّ ايذاء النّاس من هوى الأنفس فاذا كان قاهرا لها على خلاف هواها يكون النّاس مأمونين من شرّها مستريحين من أذاها (أتعب نفسه لاخرته و أراح النّاس من نفسه) و هذه الجملة في الحقيقة تعليل و توضيح للجملة السّابقة، لأنّه لما قال هناك: نفسه منه في عناء، علّله هنا بأنّ إتعابه لنفسه إنّما هو لأجل آخرته.

فقد روى في الوسائل عن الصّدوق عن شعيب العرقوفي عن الصّادق عليه السّلام: قال: من ملك نفسه إذا رغب و إذا رهب و إذا اشتهى و إذا غضب و إذا رضي حرّم اللّه جسده على النّار.
و لمّا قال ثمّة: النّاس منه في راحة، أوضحه هنا بأنّ استراحتهم من شرور نفسه لمجاهدته لها.
كما روى في الوسائل عن الصدوق عن جعفر بن محمّد عن آبائه عليهم السّلام في وصيّة النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعلىّ عليه السّلام: قال: يا على أفضل الجهاد من أصبح لا يهمّ بظلم أحد(بعده عمّن تباعد عنه زهد و نزاهة) يعنى بعده عن أهل الدّنيا و عن مجالسهم من باب الزّهد و التباعد عن مكروههم و أباطيلهم.

(و دنوّه ممّن دنا منه لين و رحمة) أى قربه من المؤمنين من باب التعاطف و التواصل كما قال تعالى مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَ الَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ.
قال فى مجمع البيان: قال الحسن: بلغ تشدّدهم على الكفّار أن كانوا يتحرّزون من ثياب المشركين حتّى لا يلتزق بثيابهم، و عن أبدانهم حتّى لا تمسّ أبدانهم، و بلغ تراحمهم فيهما بينهم أن كان لا يرى مؤمن مؤمنا إلّا صافحه و عانقه.

روى فى الكافى باسناده عن شعيب العقرقوفى قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول لأصحابه: اتّقوا اللّه و كونوا اخوة بررة متحابّين فى اللّه متواصلين متراحمين تزاوروا و تلاقوا و تذاكروا أمرنا و أحيوه.
و عن كليب الصّيداوى عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: تواصلوا و تبارّوا و تراحموا و كونوا اخوة بررة كما أمركم اللّه عزّ و جلّ.

(بعده عمّن تباعد عنه زهد و نزاهة) يعنى بعده عن أهل الدّنيا و عن مجالسهم من باب الزّهد و التباعد عن مكروههم و أباطيلهم.
(و دنوّه ممّن دنا منه لين و رحمة) أى قربه من المؤمنين من باب التعاطف و التواصل كما قال تعالى مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَ الَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ.
قال فى مجمع البيان: قال الحسن: بلغ تشدّدهم على الكفّار أن كانوا يتحرّزون من ثياب المشركين حتّى لا يلتزق بثيابهم، و عن أبدانهم حتّى لا تمسّ أبدانهم، و بلغ تراحمهم فيهما بينهم أن كان لا يرى مؤمن مؤمنا إلّا صافحه و عانقه.

روى فى الكافى باسناده عن شعيب العقرقوفى قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول لأصحابه: اتّقوا اللّه و كونوا اخوة بررة متحابّين فى اللّه متواصلين متراحمين تزاوروا و تلاقوا و تذاكروا أمرنا و أحيوه.
و عن كليب الصّيداوى عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: تواصلوا و تبارّوا و تراحموا و كونوا اخوة بررة كما أمركم اللّه عزّ و جلّ.

و عن أبى المعزا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: تواصلوا و تبارّوا و تراحموا و كانوا اخوة بررة كما أمركم اللّه عزّ و جلّ.
و عن أبى المعزا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: يحقّ على المسلمين الاجتهاد فى التواصل و التعاون على التعاطف و المواساة لأهل الحاجة و تعاطف بعضهم على بعض حتّى تكونوا كما أمركم اللّه عزّ و جلّ رحماء بينهم متراحمين مغتمين لما غاب عنكم من أمرهم على ما مضى عليه معشر الأنصار على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
فقد ظهر بذلك أنّ تباعده و تدانيه عمّن تباعد عنه و دنى منه من باب المواظبة على الوظايف و الاداب الشرعيّة و أنّه (ليس تباعده بكبر و عظمة و لا دنوّه بمكر و خديعة) كما هو فعل أبناء الدّنيا و ذوى الأغراض الفاسدة و من شأن أهل النفاق يخادعون اللّه و هو خادعهم، و إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنّا و اذا خلوا الى شياطينهم قالوا إنّا معكم إنما نحن مستهزؤن.

(قال) الرّاوى للحديث (فصعق همام صعقة) أى غشى عليه غشوة من فزع ما سمع من الموعظة البالغة كما خرّ موسى عليه السّلام صعقا أى مغشيا عليه من هول ما رأى (كانت نفسه فيها) أى مات فى تلك الغشوة و خرج روحه من بدنه‏ قال الشارح المعتزلي: اعلم أنّ الوجد أمر شريف قد اختلف الناس فيه فقالت الحكماء فيه أقوالا، و قالت الصوفية فيه أقوالا.

أما الحكماء فقالوا: الوجد حالة تحدث للنفس عند انقطاع علايقها عن المحسوسات بغتة إذا كان قد ورد عليها وارد مشوّق، و قال بعضهم: الوجد هو اتّصال النفس بمباديها المجرّدة عند سماع ما يقتضي ذلك الاتّصال.
و أمّا الصّوفيّة فقد قال بعضهم: الوجد رفع الحجاب و مشاهدة المحبوب و حضور الفهم و ملاحظة الغيب و محادثة السرّ و هو فناؤك من حيث أنت أنت، و قال بعضهم: الوجد سرّ اللّه عند العارفين و مكاشفة من الحقّ يوجب الفناء، و الأقوال فيه متقاربة المعنى و ان اختلّ العبارة، انتهى.

و هي كلّها مخالفة لمذاق أهل الشّرع ما فيه للأخبار.
و كيف كان (فقال أمير المؤمنين عليه السّلام أما و اللّه لقد كنت أخافها) أى تلك الصعقة الّتي فيها موت همّام (عليه ثمّ قال عليه السّلام: هكذا تصنع المواعظ البالغة بأهلها، فقال له قائل: فما بالك يا أمير المؤمنين) لا تصنع موعظتك بك ما صنعت بهمّام (فقال: ويحك إنّ لكلّ أجل) محتوم (وقتا) معيّنا (لا يعدوه) أى لا يتجاوزه و لا يتأخّر عنه كما قال تعالى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ (و سببا) أى علّة معيّنة (لا يتجاوزه) أى لا يتجاوز عنه إلى سبب آخر.

و محصّل الجواب أنّ كلّ انسان له أجل حتمى مقدّر و وقت معيّن لموته لا يتقدّم و لا يتأخّر و علّة معيّنة لأجله لا تتبدّل و لا تتغيّر كما قال تعالى وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا و على ذلك فانّما مات همّام باستماع الموعظة البالغة لأنّه قد تمّ عمره و بلغت مدّة حياته الّتى قدّرت فى حقّه غايتها مع حصول السبب المعين المكتوب فى امّ الكتاب لموته و هو الانفعال بالموعظة و أما أنا فلم يكمل أيامى بعد و لم يبلغ أجلى غايته و السبب المقدّر فى حقى غير هذا السبب و هو ما أنتظره من ضربة ابن ملجم المرادى عليه اللّعنة و العذاب.

و الحاصل أنّ مشية اللّه و اذنه عزّ و جلّ قد تعلّق بموت همام عن سببه الذى حصل‏و لم يتعلّق بعد بموتى و لم يحصل سببه، و ان شئت مزيد توضيح لذلك فعليك بالكلام الحادى و الستّين و شرحه، هذا.
و لما أجاب عليه السّلام عن اعتراض القائل نهاه عن العود إلى مثل ذلك بقوله (فمهلا لا تعد لمثلها) أى لا ترجع إلى مثل تلك الكلمة (فانما نفث الشيطان) أى نفخ و تكلّم (على لسانك).

تكملة

اعلم أنّ هذه الخطبة الشريفة حسبما اشرت اليه سابقا مرويّة في الكافي باختلاف كثير جدّا اقتضى المقام روايتها بالسّند الّذى فيه و اتباعها ببيان غرايب ألفاظها فأقول و باللّه التوفيق: روى ثقة الاسلام محمّد بن يعقوب الكليني قدّس اللّه روحه عن محمّد بن يحيى عن جعفر عن محمّد بن إسماعيل عن عبد اللّه بن زاهر عن الحسن بن يحيى عن قثم بن أبي قتادة الحرّاني عن عبد اللّه بن يونس عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قام رجل يقال له همّام و كان عابدا ناسكا مجتهدا إلى أمير المؤمنين عليه السّلام و هو يخطب، فقال يا أمير المؤمنين صف لنا صفة المؤمن كأنّنا ننظر إليه فقال عليه السّلام: يا همام المؤمن هو الكيّس الفطن، بشره في وجهه، و حزنه في قلبه، أوسع شي‏ء صدرا، و أذلّ شي‏ء نفسا، زاجر عن كلّ فان، حاض عن كلّ حسن، لا حقود، و لا حسود، و لا وثّاب، و لا سبّاب، و لا عيّاب، و لا مغتاب، يكره الرّفعة، و يشنأ السمعة، طويل الغمّ، بعيد الهمّ، كثير الصّمت، وقور، ذكور، شكور، مغموم بفكره، مسرور بفقره، سهل الخليقة، لين العريكة، رصين الوفاء، قليل الاذى، لا متأفّك، و لا متهتّك، إن ضحك لم يخرق، و إن غضب لم ينزق، ضحكه تبسّم، و استفهامه تعلّم، و مراجعته تفهّم، كثير علمه، عظيم حلمه، كثير الرّحمة، لا يبخل، و لا يعجل، و لا يضجر، و لا يبطر، و لا يحيف في حكمه، و لا يجور في علمه، أصلب من الصلد، و مكادحته أحلى من الشهد، لا جشع، و لا هلع، و لا عنف، و لاصلف، و لا متكلّف، و لا متعمّق، جميل المنازعة، كريم المراجعة، عدل إن غضب، رفيق إن طلب، لا يتهوّر، و لا يتهتّك، و لا يتجبّر، خالص الودّ، وثيق العهد، و فيّ العقد، شفيق وصول، حليم خمول، قليل الفضول، راض عن اللّه عزّ و جلّ، مخالف لهواه، لا يغلظ على من دونه، «يؤذيه خ» و لا يخوض فيما لا يعنيه، ناصر للدّين، محام عن المؤمنين كهف للمسلمين، لا يخرق الثناء سمعه، و لا ينكى الطمع قلبه، و لا يصرف اللّعب حكمه، و لا يطلع الجاهل علمه، قوّال، عمال، عالم، حازم، لا بفحّاش، و لا بطيّاش، وصول في غير عنف، بذول في غير سرف، لا بختّار، و لا بغدّار، و لا يقتفى اثرا، و لا يحيف بشرا، رفيق بالخلق، ساع فى الأرض، عون للضعيف، غوث للملهوف، لا يهتك سترا، و لا يكشف سرّا، كثير البلوى، قليل الشكوى، إن رأى خيرا ذكره، و ان عاين شرّا ستره، يستر العيب، و يحفظ الغيب، و يقيل العثرة، و يغفر الزّلّة، لا يطلع على نصح فيذره، و لا يدع جنح حيف فيصلحه، أمين، رصين، تقيّ، نقيّ، زكيّ، رضيّ، يقبل العذر، و يجمل الذّكر، و يحسن بالنّاس الظنّ، و يتّهم على العيب نفسه، يحبّ في اللّه بفقه و علم، و يقطع في اللّه بحزم و عزم، لا يخرق به فرح، و لا يطيش به مرح، مذكّر للعالم، معلّم للجاهل، لا يتوقّع له بائقة، و لا يخاف له غائلة، كلّ سعى أخلص عنده من سعيه، و كلّ نفس أصلح عنده من نفسه، عالم بعيبه، شاغل بغمّه، لا يثق بغير ربّه، غريب «خ ل قريب»، وحيد حزين، يحبّ في اللّه و يجاهد فى اللّه ليتّبع رضاه، و لا ينتقم لنفسه بنفسه، و لا يوالى فى سخط ربّه، مجالس لأهل الفقر، مصادق لأهل الصّدق، موازر لأهل الحقّ، عون للغريب، أب لليتيم بعل للأرملة، حفي بأهل المسكنة، مرجو لكلّ كريهة، مأمول لكل شدّة، هشّاش، بشّاش، لا بعبّاس، و لا بجسّاس، صليب، كظّام، بسّام، دقيق النظر، عظيم الحذر، لا يبخل، و إن بخل عليه «خ ل عنه» صبر، عقل فاستحيي، و قنع فاستغنى، حياؤه يعلو شهوته، و ودّه يعلو حسده، و عفوه يعلو حقده، لا ينطق بغير صواب، و لا يلبس إلّا الاقتصاد، مشيه التّواضع، خاضع لربّه بطاعته، راض عنه في كل حالاته، نيّته خالصة، أعماله ليس فيها غشّ و لا خديعة،نظره عبرة، و سكوته فكرة، و كلامه حكمة، مناصحا، متبادلا، متواخيا، ناصح فى السرّ و العلانية، لا يهجر أخاه، و لا يغتابه، و لا يمكر به، و لا يأسف على ما فاته، و لا يحزن على ما أصابه، و لا يرجو ما لا يجوز له الرّجا، و لا يفشل في الشدّة، و لا يبطر في الرّخا، يمزج العلم بالحلم، و العقل بالصبر، تراه بعيدا كسله، دائما نشاطه، قريبا أمله، قليلا زلله، متوقعا لأجله، خاشعا قلبه، ذاكرا ربّه، قانعة نفسه، منفيا جهله، سهلا أمره، حزينا لذنبه، ميتة شهوته، كظوما غيظه، صافيا خلقه، آمنا منه جاره، ضعيفا كبره، قانعا بالذى قدّر له، مبينا «متينا خ» صبره، محكما أمره كثيرا ذكره، يخالط النّاس ليعلم، و يصمت ليسلم، و يسأل ليفهم، و يتّجر ليغنم، لا ينصب للخير ليفخر به، و لا يتكلّم ليتجبّر به على من سواه، نفسه منه في عناء، و الناس منه في راحة، أتعب نفسه لاخرته فأراح النّاس من نفسه، إن بغي عليه صبر حتى يكون اللّه الّذي ينتصر له، بعده ممّن تباعد منه بغض و نزاهة، و دنوّه ممّن دنا منه لين و رحمة، ليس تباعده تكبّرا و لا عظمة، و لا دنوّه خديعة و لا خلابة، بل يقتدى بمن كان قبله من أهل الخير، فهو إمام لمن بعده من أهل البرّ.
قال: فصاح همّام صيحة ثمّ وقع مغشيا عليه، فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: أما و اللّه لقد كنت أخافها عليه و قال: هكذا تصنع الموعظة «المواعظ خ» البالغة بأهلها فقال له عليه السّلام قائل: فما بالك يا أمير المؤمنين فقال عليه السّلام: إنّ لكلّ أجلا لن «لا خ» يعدوه و سببا لا يجاوزه، فمهلا لا تعد فانما نفث على لسانك شيطان.

بيان

«الكيس» العاقل من الكيس وزان فلس خلاف الحمق و قيل: جودة القريحة و قوله: «و لا وثاب» أى ليس بخفيف من وثب وثوبا قام بسرعة قوله: «وقور» أى كثير الوقار في الامور الموجبة لاضطراب النّاس.
قوله «لين العريكة» أى سلس مطيع منقاد و العريكة الطّبيعة قوله «رصين الوفاء» بالصّاد المهملة الحكم الثابت و الحفىّ بحاجة صاحبه من رصنه أى أحكمه‏و أكمله قوله «إن ضحك لم يخرق» أى لم يشقّ فاه حتّى يبلغ ضحكه القهقهة قوله «إن غضب لم ينزق» أى لا يأخذه الخفّة و الطيش عند الغضب قوله «و لا بطر» من البطر و هو الطغيان عند النعمة. و قيل التّجبّر و شدّة النشاط.

قوله «أصلب من الصّلد» أى لا يدخل قلبه ريب و لا جرع، و الصّلد الحجر الصّلب الأملس قوله «مكادحته» أى عمله و سعيه أحلى من العسل قوله «لا جشع و لا هلع» الجشع أشدّ الحرص على الطّعام و أسوئه، و الهلع أفحش الجزع قوله «و لا عنف و لا صلف» العنف وزان كتف من لا رفق له في قوله و فعله، و العنيف مثله و الصّلف ككتف أيضا من لا يتكلّم بما يكرهه صاحبه و يمدح نفسه و لا خير عنده يقال سحاب صلف أى قليل الماء كثير الرّعد.
قوله «لا يتهوّر و لا يتهتّك» التّهوّر الوقوع في الأمر بقلّة مبالاة، و التهتّك خرق السّتر و الافتضاح قوله «خمول قليل الفضول» أى خامل الذكر و قليل فضول كلامه قوله «لا يخرق الثّناء سمعه» لكون أعماله للّه لا للنّاس، فلا يؤثّر فيه ثناؤهم و مدحهم.

قوله: «و لا ينكى الطمع قلبه» أى لا يجرحه و لا يؤثّر فيه تأثير الجرح قوله «عالم حازم» في بعض النّسخ بالحاء المهملة من الحزم و هو التثبّت في عواقب الامور، و في بعضها بالجيم قوله «و لا بطيّاش» الطيش النّزق و الخفّة قوله «و لا بختّال» أى بخدّاع من الختل و هو المخادعة قوله «و لا يدع جنح حيف فيصلحه» أى لا يترك ظلام ظلم و اصلاحه قوله «لا يخرق به فرح» من الخرق بالخاء المعجمة و الرّاء المهملة و هو الحمق و الجهل و ضعف العقل قوله «و لا يطيش به مرح» المرح شدّة النّشاط و الفرح.

و «البائقة» النّازلة الشّديدة و الشرّ و الدّاهية و «الغائلة» الفساد و الشرّ و قوله «حفىّ بأهل المسكنة» أى بارّ معين قوله «هشّاش بشّاش» من الهشاشة و هو طلاقة الوجه قوله «لا يهجر أخاه» الهجر الهذيان و يحتمل أن يكون من الهجر أى الترك و المفارقة قوله «و يتّجر ليغنم» أى يتّجر للاخرة.

قوله «و لا دنوّه خديعة و لا خلابة» الخلابة بكسر الخاء المعجمة و تخفيف اللّام الخديعة باللسان بالقول اللطيف من خلبه يخلبه من باب قتل و ضرب خدعه، و الاسم الخلابة و الفاعل خلوب كرسول.

الترجمة

از جمله خطب شريفه آن امام دين است در وصف متقين.

روايت شده كه مصاحبى بود از براى أمير المؤمنين عليه السّلام همام نام كه شخص عابدى بود پس گفت به آن حضرت كه يا أمير المؤمنين وصف كن از براى من پرهيز كاران را تا اين كه گويا من نگاه مى ‏كنم بسوى ايشان، پس سنگينى ورزيدند و درنگ كردند آن حضرت از جواب او، و بعد از آن فرمود اى همّام بپرهيز از خدا و كار نيك بكن پس بدرستى كه خداى تعالى يار پرهيز كارانست و با نيكو كاران.

پس قناعت نكرد همام باين جواب تا اين كه سوگند داد بر حضرت در جواب گفتن پس حضرت حمد و ثناى خدا را بجا آورد و صلوات فرستاد بر پيغمبر و آل او پس گفت: أما بعد پس بتحقيق كه خداوند سبحانه ايجاد فرمود مخلوقات را وقتى كه ايجاد فرمود ايشان را در حالتى كه بى نياز بود از طاعت ايشان، و ايمن بود از ضرر معصيت ايشان، از جهت اين كه ضرر نمى ‏رساند او را معصيت كسى كه معصيت نمود، و منفعت نمى ‏بخشد او را اطاعت كسى كه اطاعت نمود، پس قسمت فرمود در ميان مخلوقات معيشتها و گذرانى ايشان را، و گذاشت ايشان را از دنيا در جايگاه ايشان كه لايق شأن و مناسب حال هر يكى باشد.

پس پرهيز كاران در دنيا ايشانند أهل فضيلتها، گفتار ايشان راست و درست، و لباس ايشان حدّ وسط است، و رفتار ايشان تواضع و فروتنى است، پوشيده ‏اند چشمهاى خود را از چيزى كه خدا حرام كرده برايشان، و واداشته‏ اند گوشهاى خود را بر شنيدن علم منفعت بخشنده از براى ايشان، نازل شد نفسهاى ايشان از ايشان ‏در بلا و شدّت مثل نزول آنها در رفاه و فراخى- يعنى ايشان رضا بقضا دارند و شاكرند بطيب نفس به آن چه كه در حقّ ايشان مقدّر شده- اگر نبود أجل معيّنى كه نوشته شده است از براى ايشان هر آينه قرار نمى‏ گرفت روحهاى ايشان در بدنهاى ايشان لحظه از جهت اشتياق بثواب و ترسيدن از عقاب.

بزرگ شد خالق تعالى در پيش نفسهاى ايشان پس كوچك شد ما سواى خالق در نظر ايشان پس حال ايشان با بهشت حال كسى است با رأى العين ديده باشد او را پس در آنجا بناز و نعمت گذرانده باشد، و حال ايشان با جهنم حال كسى است كه ديده باشد آنرا پس در آنجا معذّب باشد- يعنى ايشان در امر بهشت و جهنم اعتقاد يقيني دارند بمنزله مشاهده- .

قلبهاى ايشان غمگين و محزونست و مردم از شرهاى ايشان آسوده و ايمنند، و بدنهاى ايشان لاغر و ضعيف، و حاجت و خواهشات ايشان سبك و خفيف، نفسهاى ايشان با عفت است، صبر و تحمل كردند بر زحمات چند روز كوتاه كه عاقبت آن راحت و آسايش دراز گرديد، تجارت با منفعتى است كه ميسر ساخت از براى ايشان پروردگار ايشان.

خواست ايشان را دنيا پس نخواستند ايشان دنيا را، و اسير كرد ايشان را دنيا پس دادند نفسهاى خودشان از دنيا- يعني بمقتضاى شهوت و غضب جبلى انسانى كه در ايشان بود نزديك بود كه ايشان مفتون دنيا باشند و أسير شهوات نفسانيه آن شوند و ليكن ايشان بمقتضاى قوّه عقلانيه ترك لذايذ دنيويه كرده خودشان را از قيد اسيرى دنيا خلاص نمودند- أما حالت ايشان در شب پس صف زنندگانند بپاهاى خودشان در حالتى كه تلاوت كنندگان باشند جزئهاى قرآن را در حالتى كه نيك قرائت مى ‏كنند آن را نيك قرائت كردنى، با تأنّى و حفظ وقوف و أداء حروف، محزون مى‏ نمايند بسبب قراءة آن نفسهاى خودشان را، و بهيجان مى ‏آورند با آن دواء درد خودشان را پس اگر بگذرند در اثناى قرائت آن بايه كه در آن تشويقى باشد بسوى بهشت‏ اعتماد مى‏ كنند بان و مايل مى‏ شوند بسوى آن آيه از جهت طمع آن بشارت و مطلع باشد نفسهايشان بسوى آن از روى شوق و گمان كنند كه آن آيه- يعنى وعده بهشت كه مضمون آن آيه است- پيش چشم ايشان است.

و اگر بگذرند بايه كه در آن ترساندن از عذاب باشد متوجه باشند بسوى آن با گوشهاى قلبهاى خودشان، و گمان مى ‏كنند كه صداى افروخته شدن جهنم و شيون اهل آن در بيخهاى گوشهاى ايشانست، پس ايشان خم شوندگان باشند بر كمرهاى خود، پهن سازندگان باشند مر پيشانيهاى خود را و كفهاى دست خود را و زانوهاى خود را و سرهاى پاهاى خودشان را، تضرّع مى‏ كنند بسوى خدا در وا كردن گردنهاى ايشان را از زنجير عذاب.

و أما حالت ايشان در روز پس صاحبان حلم و علمند، نيكو كارانند، پرهيز كارانند، بتحقيق كه باريك كرده و كاهانده است ايشان را ترس خدا مثل باريك شدن چوب تير تراشيده شده، نگاه مى‏ كند بسوى ايشان نگاه كننده پس گمان مى‏ كند كه ايشان مريضانند و حال آنكه نيست در اين جماعت مرضى، و مى‏ گويد كه خبط آورده ‏اند و حال آنكه هر آينه آميخته بايشان امر بزرگى كه اشتياق و عشق بلقاء خدا باشد.

راضى نمى ‏شوند در عبادات و عملهاى خودشان باندك، و بسيار نمى ‏شمارند بسيار را، پس ايشان هميشه بنفسهاى خود تهمت مى ‏زنند بجهت قصور در بندگى و از عبادات خود ترسناكند، اگر تزكيه كرده شود يكى از ايشان مى ‏ترسد از آن چيزى كه در باره او گفته شده پس مى ‏گويد كه: من داناترم بنفس خودم از غير خودم و پروردگار من داناتر است از من بنفس من، با خدايا مؤاخذه مكن مرا بسبب آنچه گفتند در باره من، و بگردان مرا بهتر از آنچه گمان بردند در حق من، و بيامرز از براى من گناهى را كه ايشان نمى‏ دانند.

پس از علامت يكى از ايشانست اين كه تو مى‏ بينى از براى او قوّتى در دين، و احتياطى در نرمى، و ايمانى در كمال يقين، و حرصى در تحصيل علم، و علمى درغايت حلم، و ميانه روى در بى نيازى، و خضوع و خشوعى در عبادت، و استغنائى در عين فقر، و صبرى در حالت شدّت، و طلبى در كسب حلال، و خوشحالى در هدايت، و كناره جوئى از طمع، مى‏ كند عملهاى نيكو را و حال آنكه ترسناك است، روز را بشب مى ‏آورد و حال آنكه همّت او مصروف بشكر است، و شب را بصبح مى‏ رساند و حال آنكه همتش مصروف ذكر است.

بيتوته مى‏ كند در حالتى كه ترسناك است، صباح مى ‏كند در حالتى كه خوشحال، ترسناكى از جهت آنچه كه ترسانده شده از غفلت در عبادت، و خوشحالى بجهت آن چيزى كه رسيده است از فضل و رحمت، اگر دشوار بگيرد بر او نفس او در چيزى كه ناخوش دارد نمى‏ بخشد بنفس خود خواهش او را در چيزى كه دوست دارد آنرا.

چشم روشنى او در نعيم آخرت جاودانيست، و زهد او در لذت دنياى فانى، مخلوط مي كند حلم را بعلم، و گفتار را بكردار، مى ‏بينى او را كه نزديكست آرزوى او، اندك است لغزش او، ترسانست قلب او، قانعست نفس او، اندكست اكل او آسانست كار او، محفوظست دين او، مرده است شهوت او، فرو نشانده شده است خشم او.

خير از او اميد گرفته شده است، و شرّ از او أيمن شده، اگر در ميان غافلان باشد نوشته مى‏ شود از ذكر كنندگان، و اگر در زمره ذاكران باشد نوشته نمى‏ شود از غفلت كنندگان، عفو مي كند از كسى كه ظلم نمايد او را، و عطا مي كند بكسى كه محروم نمايد او را، و صله رحم بجا مى ‏آورد با كسى كه قطع صله رحم او كرده است.
دور است از مردم فحش گفتن او، نرم و ملايمست گفتار او، غايب است از مردمان بدى او، حاضر است از براى ايشان نيكى او، اقبال كننده است خير او، ادبار كننده است شرّ او.

و در شدايد روزگار صاحب تمكين و وقار است، و در مصايب صبر كننده و بردبار، و در حالت وسعت شاكر، ظلم نمى‏ كند بر كسى كه دشمن دارد، و مرتكب‏ گناه نمى‏ شود در باره كسى كه دوست دارد، اقرار بحق مي كند پيش از اين كه شهادت داده شود بضرر او، ضايع نمى‏ سازد چيزى را كه طلب شده در او حفظ آن، و فراموش نمى‏ كند چيزى را كه ياد آورى او شده، و نمى‏ خواند مردم را بلقبهاى بد، و ضرر نمى‏ رساند به همسايه، و شماتت نمى ‏كند بمصيبتها، و داخل نمى ‏شود در امر باطل، و بيرون نمى‏ رود از حق.

اگر ساكت شود غمگين نسازد او را سكوت او، و اگر بخندد بلند نشود آواز او، و اگر مظلوم شود صبر مي كند تا اين كه باشد خداى تعالى او انتقام مى كشد از براى او، نفس او از او در رنج و مشقّت است، و مردمان از او در آسودگى و راحت، بمشقّت انداخته نفس خود را از براى راحت آخرت، و راحت كرده مردمان را از شرّ نفس خود.

دورى او از كسى كه دورى جسته از او از بابت زهد و پاكى است، و نزديكى او از كسى كه نزديك شده باو از بابت ملايمت و دلسوزيست، نيست دورى جستن او بسبب كبر و بزرگى، و نه نزديكى او بسبب مكر و خدعه.

گفت رواى حديث: پس صيحه زد همّام صيحه كه بود روح او در آن صيحه، پس فرمود أمير المؤمنين عليه السّلام: آگاه باشيد سوگند بخدا كه هر آينه بودم مى ‏ترسيدم آن صيحه را بر او، يعني از اين جهت تثاقل مى ‏كردم در جواب، پس از آن فرمود همچنين تاثير مي كند موعظه ‏هاى كامل بأهلش.

پس گفت بان حضرت گوينده: پس چگونه است حال تو أى أمير المؤمنين يعنى چرا به تو اين تأثير نكرد.
پس فرمود: واى بر تو از براى هر مرگى مدّت معيّني است كه تجاوز نمى‏ كند از آن، پس فرمود: ترك كن اين كلام را و رجوع مكن بعد از اين بمثل آن، پس جز اين نيست كه دميده شيطان ملعون اين كلام را بر زبان تو- يعنى اعتراض به امام از إغواء شيطانست.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»

Show More

دیدگاهتان را بنویسید

نشانی ایمیل شما منتشر نخواهد شد. بخش‌های موردنیاز علامت‌گذاری شده‌اند *

این سایت از اکیسمت برای کاهش هرزنامه استفاده می کند. بیاموزید که چگونه اطلاعات دیدگاه های شما پردازش می‌شوند.

Back to top button
-+=