و من كتاب له عليه السّلام إلى عبد اللّه بن العباس رحمه اللّه
و كان عبد اللّه يقول: ما انتفعت بكلام بعد كلام رسول اللّه، صلّى اللّه عليه و آله كانتفاعى بهذا الكلام. أَمَّا بَعْدُ- فَإِنَّ الْمَرْءَ قَدْ يَسُرُّهُ دَرْكُ مَا لَمْ يَكُنْ لِيَفُوتَهُ- وَ يَسُوؤُهُ فَوْتُ مَا لَمْ يَكُنْ لِيُدْرِكَهُ- فَلْيَكُنْ سُرُورُكَ بِمَا نِلْتَ مِنْ آخِرَتِكَ- وَ لْيَكُنْ أَسَفُكَ عَلَى مَا فَاتَكَ مِنْهَا- وَ مَا نِلْتَ مِنْ دُنْيَاكَ فَلَا تُكْثِرْ بِهِ فَرَحاً- وَ مَا فَاتَكَ مِنْهَا فَلَا تَأْسَ عَلَيْهِ جَزَعاً- وَ لْيَكُنْ هَمُّكَ فِيمَا بَعْدَ الْمَوْتِ
اللغة
أقول: الدرك: اللحوق. و لا تأس: و لا تحزن.
المعنى
و حاصل الفصل النهى عن شدّة الفرح بما يحصل من المطالب الدنيويّة و شدّة الأسف على ما يفوت منها، و بيان ما ينبغي للإنسان أن يسرّ بحصوله و يأسف لفقده ممّا لا ينبغي له. فأشار إلى الأوّل بقوله: فإنّ المرء إلى قوله: ليدركه، و هو خبر في معنى النهي، و لفظ ما في الموضعين مهمل يراد به المطالب الدنيويّة، و نبّه بقوله: ما لم يكن ليفوته. على أنّ ما يحصل من مطالب الدنيا أمر واجب في القضاء الإلهىّ وصوله إلى من يحصل له فهو كالحاصل فلا ينبغي أن يشتدّ فرحه عند حصوله، و بقوله: ما لم يكن ليدركه. على أنّ ما يفوت منها فهو أمر واجب فوته فالأسف عليه ممّا لا يجدي نفعا بل هو ضرر عاجل. ثمّ خصّصه بالخطاب على سبيل الوصيّة و الموعظة و فصّل له ما ينبغي أن يسرّ و يأسف عليه ممّا لا ينبغي له فأمّا ما ينبغي أن يسرّ به فهو ما ناله من آخرته و ما ينبغي أن يأسف عليه فهو ما فاته منها، و أمّا ما ينبغي أن لا يفرح به ممّا ناله من دنياه لما عرفت من وجوب فنائها و كون القرب منها مستلزما للبعد عن الآخرة و ما ينبغي أن لا يأسف عليه ممّا لم ينله منها لكون البعد عنها مستلزما للقرب من الآخرة.
فإن قلت: كيف قال: ما نلت من آخرتك. و معلوم أنّه لا ينال شيء من الآخرة إلّا بعد الموت.
قلت: يحتمل وجهين: أحدهما: لا نسلّم أنّ من مطالب الآخرة لا يحصل إلّا بعد الموت فإنّ الكمالات النفسانيّة من العلوم و الأخلاق الفاضلة و الفرح بها من الكمالات الاخرويّة و إن كان الإنسان في الدنيا. الثاني: يحتمل أن يريد فليكن سرورك بما نلت من أسباب آخرتك. فحذف المضاف و أقام المضاف إليه مقامه.
و كذلك بيّن له ما ينبغي أن يكون همّه متوجّها نحوه و قصده متعلّقا به و هو ما بعد الموت من أحوال الآخرة من سعادة دائمة يسعى في تحصيلها أو شقاوة لازمة يعمل للخلاص منها. و باللّه التوفيق.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحرانی)، ج 4 ، صفحهى 402