و من كتاب له عليه السّلام إلى معاوية
فَأَرَادَ قَوْمُنَا قَتْلَ نَبِيِّنَا وَ اجْتِيَاحَ أَصْلِنَا- وَ هَمُّوا بِنَا الْهُمُومَ وَ فَعَلُوا بِنَا الْأَفَاعِيلَ- وَ مَنَعُونَا الْعَذْبَ وَ أَحْلَسُونَا الْخَوْفَ- وَ اضْطَرُّونَا إِلَى جَبَلٍ وَعْرٍ- وَ أَوْقَدُوا لَنَا نَارَ الْحَرْبِ- فَعَزَمَ اللَّهُ لَنَا عَلَى الذَّبِّ عَنْ حَوْزَتِهِ- وَ الرَّمْيِ مِنْ وَرَاءِ حُرْمَتِهِ- مُؤْمِنُنَا يَبْغِي بِذَلِكَ الْأَجْرَ وَ كَافِرُنَا يُحَامِي عَنِ الْأَصْلِ- وَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ قُرَيْشٍ خِلْوٌ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ بِحِلْفٍ يَمْنَعُهُ- أَوْ عَشِيرَةٍ تَقُومُ دُونَهُ فَهُوَ مِنَ الْقَتْلِ بِمَكَانِ أَمْنٍ- وَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ص إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ- وَ أَحْجَمَ النَّاسُ- قَدَّمَ أَهْلَ بَيْتِهِ- فَوَقَى بِهِمْ أَصْحَابَهُ حَرَّ السُّيُوفِ وَ الْأَسِنَّةِ- فَقُتِلَ عُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ يَوْمَ بَدْرٍ- وَ قُتِلَ حَمْزَةُ يَوْمَ أُحُدٍ- وَ قُتِلَ جَعْفَرٌ يَوْمَ مُؤْتَةَ- وَ أَرَادَ مَنْ لَوْ شِئْتُ ذَكَرْتُ اسْمَهُ- مِثْلَ الَّذِي أَرَادُوا مِنَ الشَّهَادَةِ- وَ لَكِنَّ آجَالَهُمْ عُجِّلَتْ وَ مَنِيَّتَهُ أُجِّلَتْ- فَيَا عَجَباً لِلدَّهْرِ- إِذْ صِرْتُ يُقْرَنُ بِي مَنْ لَمْ يَسْعَ بِقَدَمِي- وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ كَسَابِقَتِي- الَّتِي لَا يُدْلِي أَحَدٌ بِمِثْلِهَا- إِلَّا أَنْ يَدَّعِيَ مُدَّعٍ مَا لَا أَعْرِفُهُ وَ لَا أَظُنُّ اللَّهَ يَعْرِفُهُ- وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ- وَ أَمَّا مَا سَأَلْتَ مِنْ دَفْعِ قَتَلَةِ عُثْمَانَ إِلَيْكَ- فَإِنِّي نَظَرْتُ فِي هَذَا الْأَمْرِ- فَلَمْ أَرَهُ يَسَعُنِي دَفْعُهُمْ إِلَيْكَ وَ لَا إِلَى غَيْرِكَ- وَ لَعَمْرِي لَئِنْ لَمْ تَنْزِعْ عَنْ غَيِّكَ وَ شِقَاقِكَ- لَتَعْرِفَنَّهُمْ عَنْ قَلِيلٍ يَطْلُبُونَكَ- لَا يُكَلِّفُونَكَ طَلَبَهُمْ فِي بَرٍّ وَ لَا بَحْرٍ- وَ لَا جَبَلٍ وَ لَا سَهْلٍ- إِلَّا أَنَّهُ طَلَبٌ يَسُوءُكَ وِجْدَانُهُ- وَ زَوْرٌ لَا يَسُرُّكَ لُقْيَانُهُ وَ السَّلَامُ لِأَهْلِهِ
أقول: هذا الفصل ملتقط من كتاب كتبه إلى معاوية جواب كتابه إليه. و صورة كتاب معاوية: من معاوية بن أبي سفيان إلى عليّ بن أبي طالب. سلام عليك. فإنّي أحمد إليك اللّه الّذي لا إله إلّا هو. أمّا بعد فإنّ اللّه اصطفى محمّدا بعلمه و جعله الأمين على وحيه و الرسول إلى خلقه و اجتبى له من المسلمين أعوانا أيّده بهم فكانوا في منازلهم عنده على قدر فضائلهم في الإسلام فكان أفضلهم في الإسلام و أنصحهم [و أنصفهم خ] للّه و لرسوله الخليفة من بعده و خليفة الخليفة من بعد خليفته و الثالث الخليفة عثمان المظلوم. فكلّهم حسدت و على كلّهم بغيت. عرفنا ذلك في نظرك الشزر و قولك البجر
[الهجر خ] و في تنفّسك الصعداء و إبطائك عن الخلفاء. و في كلّ ذلك تقاد كما يقاد الجمل المخشوش حتّى تبايع و أنت كاره. ثمّ لم يكن لك لأحد منهم حسدا مثل ما منك لابن عمّك عثمان و كان أحقّهم أن لا تفعل ذلك به في قرابته و صهره فقطعت رحمه و قبّحت محاسنه و ألببت عليه الناس و بطنت و ظهرت حتّى ضربت إليه آباط الإبل و قيدت إليه الخيل العتاق و حمل عليه السلاح في حرم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقتل معك في المحلّة و أنت تسمع في داره الهايعة لا تردع عن نفسك فيه بقول و لا فعل. و اقسم قسما صادقا لو قمت فيما كان من أمره مقاما تنهنه الناس عنه ما عدل بك من قبلنا من الناس أحدا و لمحا ذلك عندهم ما كانوا يعرفونك به من المجانبة لعثمان و البغى عليه. و اخرى أنت بها عند أنصار عثمان ظنين ايواك قتلة عثمان فهم عضدك و أنصارك و يدك و بطانتك و قد ذكر لى إنّك تنتصل من دمه فإن كنت صادقا فأمكنّا من قتلة عثمان نقتلهم به و نحن من أسرع الناس إليك و إلّا فإنّه ليس لك و لأصحابك إلّا السيف و الّذي لا إله غيره لنطلبنّ قتلة عثمان في الجبال و الرمال و البرّ و البحر حتّى يقتلهم اللّه أو لنلحقنّ أرواحنا باللّه. و السلام. ثمّ دفع الكتاب إلى أبي مسلم الخولانىّ فقدم به الكوفة. فكتب عليه السّلام جوابه: من عبد اللّه عليّ أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان أمّا بعد فإنّ أخا خولان قدم عليّ بكتاب منك تذكر فيه محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ما أنعم اللّه عليه من الهدى و الوحى فالحمد للّه الّذي صدّقه الوعد و تمّم له النصر و مكّن له في البلاد و أظهره على أهل العداوة و الشنئان من قومه الّذين و ثبوابه و شنعوا له و أظهروا له التكذيب و بارزوه بالعداوة و ظاهروا على إخراجه و على إخراج أصحابه و ألبّوا عليه العرب و جامعوه على حربه و جهدوا عليه و على أصحابه كلّ الجهد و قلّبوا له الامور حتّى ظهر أمر اللّه و هم كارهون.و كان أشدّ الناس عليه اسرته و الأدنى فالأدنى من قومه إلّا من عصم اللّه منهم. يابن هند فلقد خبأ لنا الدهر منك عجبا. و لقد أقدمت فأفحشت إذ طفقت تخبرنا عن بلاء اللّه تبارك و تعالى في نبيّه محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و فينا فكنت في ذلك كجالب التمر إلى هجر أو كداعى مسدّده إلى النضال. و ذكرت أنّ اللّه اجتبى له من المسلمين أعوانا أيّدهم به فكانوا في منازلهم عنده على قدر فضائلهم في الإسلام و كان أفضلهم في الإسلام كما زعمت و أنصحهم للّه و لرسوله الخليفة الصدّيق و خليفة الخليفة الفاروق. و لعمرى إنّ مكانهما في الإسلام لعظيم، و أنّ المصايب بهما لجرح في الإسلام شديد يرحمها اللّه و جزاهما بأحسن ما عملا. غير أنّك ذكرت أمرا إن تمّ اعتزلك كلّه و إن نقص لم يلحقك ثلمة. و ما أنت و الصدّيق فالصدّيق من صدّق بحقّنا و أبطل باطل عدوّنا، و ما أنت و الفاروق فالفاروق من فرّق بيننا و بين أعدائنا. و ذكرت أنّ عثمان كان في الفضل ثالثا فإن يك عثمان محسنا فسيلقى ربّا غفورا لا يتعاظمه ذنب يغفره. و لعمرى إنّى لأرجو إذا أعطى اللّه الناس على قدر فضايلهم في الإسلام و نصيحتهم للّه و لرسوله أن يكون نصيبنا في ذلك الأوفر. إنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا دعا إلى الايمان باللّه و التوحيد كنّا أهل البيت أوّل من آمن به و صدّق ما جاء به فلبثنا أحوالا محرمة و ما يعبد اللّه في الربع ساكن من العرب غيرنا. ثمّ يتّصل به. قوله: فأراد قومنا. إلى قوله: نار الحرب. ثمّ يتّصل به أن قال: و كتبوا علينا بينهم كتابا لا يؤاكلونا و لا يشاربونا و لا يناكحونا و لا يبايعونا و لا نأمن فيهم حتّى يدفع إليهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيقتلونه و يمثّلوا به فلم يكن نأمن فيهم إلّا من موسم إلى موسم. ثمّ يتّصل به قوله: فعزم اللّه. إلى قوله: بمكان أمن. ثمّ يتّصل به أن قال: فكان ذلك ما شاء اللّه أن يكون ثمّ أمر اللّه رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالهجرة ثمّ أمره بعد ذلك بقتل المشركين. ثمّ يتّصل به قوله: فكان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا أحمرّ البأس. إلى قوله: اخّرت. و يتّصل به أن قال: و اللّه ولىّ الاحسان إليهم و الامتنان عليهم بما قد أسلفوا من الصالحات فما سمعت بأحد هو أنصح للّه في طاعة رسوله و لا أطوع لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في طاعة ربّه و لا أصبر على الأذى و الضرار حين البأس و مواطن المكروه مع النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من هؤلاء النفر الّذين سمّيت. كذلك و في المهاجرين خير كثير تعرفه جزاهم اللّه بأحسن أعمالهم.
ثمّ ما أنت و التمييز بين المهاجرين الأوّلين و ترتيب درجاتهم و تعريف طبقاتهم هيهات. لقد حنّ قدح ليس منها، و طفق يحكم فيها من عليه الحكم لها. ألا تربع أيّها الإنسان على ظلعك و تعرف قصور ذرعك و تتأخّر حيث أخّرك القدر فما عليك غلبة المغلوب و لا لك ظفر الظافر. و إنّك لذهّاب في التيه روّاغ عن القصد لا ترى غير متجار لك لكن بنعمة اللّه احدّث. ثمّ يتّصل به أوّل الكلام المذكور في كتابه إلى معاوية و هو من محاسن الكتب. إلى قوله عليه السّلام: توكّلت. ثمّ يتّصل به قوله من ذلك الكتاب: و ذكرت أنّه ليس لى و لأصحابي. إلى آخره. ثمّ يتّصل به قوله: و لعمرى. إلى آخر، و هذا خبط عجيب من السيّد- رحمه اللّه- مع وجود كتبه عليه السّلام في كثير من التواريخ و لنرجع إلى الشرح فنقول:
اللغة
الاجتياح: الاستيصال. و الهموم: القصود. و الحلس: كساء رقيق يجعل تحت قتب البعير: و الوعر: الصعب المرتقى. و الحوزة: الناحية، و حوزة الملك بيضته. و الحلف: العهد بين القوم. و الإحجام: التأخّر عن الأمر. و احد: جبل بالمدينة. و موته- بالضم- : اسم أرض بأدنى البلقاء دون دمشق. و الإدلاء بالشيء: التقريب به. و نزع عن الأمر: انتهى عته. و الغىّ: الضلال. و الشقاق: الخلاف و الزور: الزائرون.
المعنى
و اعلم أنّه عليه السّلام أجاب عن كلّ فصل من كلام معاوية بفصل و هذا الفصل يشتمل على ذكر بلائه و بلاء من يقرب إليه من بني هاشم و فضيلتهم في الإسلام و الكفر في جواب تفضيل معاوية لغيره عليه حيث قال في صدر كتابه في ذكر محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و اجتبى له من المسلمين أعوانا أيّده بهم. إلى قوله: و الثالث الخليفة المظلوم عثمان. و صدر هذا الفصل من قوله: و لعمرى إنّي لأرجو. إلى قوله: الأوفر.
إيماء إلى أنّه أفضل الجماعة لأنّ النصيب الأوفر من الثواب إذا كان على قدر الفضيلة كان مستلزما للأفضليّة.
و قوله: إنّ محمّدا. إلى قوله: و منيّته اخّرت. شرح لفضيلته و فضيلة أهل بيته، و تقرير لما أشار إليه من دعوى الأفضليّة. و هو يجرى مجرى قياس ضمير من الشكل الأوّل، و تقريرها أنّ هذه الحال المشروحة من كوننا أوّل آمن باللّه و صدّق ما جاء به و عبده و صبر على بلائه و مجاهدة أعدائه مع رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الصبر المشروح إلى الغاية المذكورة. و قد سبقت منّا الإشارة إلى أنّه عليه السّلام أوّل من عبد اللّه تعالى مع الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هو و خديجة و من لحق بهم من المسلمين و أنّهم بقوا على ذلك عدّة سنين يتعبّدون بشعاب مكّة و غيرها سرّا، و كانت المشركون يبالغون في أذاهم، و قيل: إنّ المشركين بعد ظهور النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالنبوّة لم تنكر عليه القريش حتّى سبّ آلهتهم فأنكروا عليه و بالغوا في أذاه و أغروا به صبيانهم فرموه بالحجارة حتّى أدموا عقبه و بالغوا في أذى المسلمين. فأمرهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالخروج إلى الحبشة فخرج في الهجرة إليها أحد عشر رجلا منهم عثمان بن عفّان و الزبير و عبد الرحمن بن عوف و عبد اللّه بن مسعود و خرجت قريش في طلبهم ففاتوهم فخرجوا في طلبهم إلى النجّاشي فلم يمكّنهم منهم و لم يزالوا يبالغون في أذى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و يعملون الحيلة في هلاكه. و روى أحمد في مسنده عن ابن عبّاس قال: إنّ الملأ من قريش اجتمعوا في الحجر فتعاهد و ا باللات و العزّى و مناة الثالثة الاخرى لو قد رأينا محمّدا قمنا إليه قيام رجل واحد فلا نفارقه حتّى نقتله.
قال: فأقبلت فاطمه عليها السّلام حتّى دخلت عليه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأخبرته بقولهم و قالت له: لو قد رأوك لقتلوك و ليس منهم رجل إلّا و قد عرف نصيبه من دمك. فقال: يا بنيّتى أرينى وضوءا. فتوضّأ ثمّ دخل عليهم المسجد. فلمّا رأوه غضّوا أبصارهم ثمّ قالوا: هو ذا. ثمّ لم يقم إليه منهم أحد فأقبل صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتّى قام على رؤوسهم فأخذ قبضة من تراب فحصبهم بها. و قال: شاهت الوجوه. فما أصاب رجلا منهم شيء منه إلّا قتل يوم بدر كافرا. فذلك معنى قوله: فأراد قومنا إهلاك نبيّنا و اجتياح أصلنا.
إلى قوله: نار الحرب. و قوله: و همّوا بنا الهموم. أى أرادوا بنا الإرادات و الأفاعيل إرادات إيقاع الشرور بهم و الأفعال القبيحة. و قيل: أراد بالهموم الأحزان: أى همّوا أن يفعلوا بنا ما يوجب الأحزان.
و قوله: و منعونا العذب. أى طيب العيش. و استعار لفظ الأحلاس لإلزامهم الخوف و إشعارهم إيّاه ملاحظة لمشابهته بالحلس في لزومه بهم. و كذلك استعار لفظ النار للحرب. ملاحظة لشبهها بالنار في الأذى و افتناء ما يقع فيها. و رشّح بذكر الايقاد. فأمّا قوله: و اضطرّونا إلى جبل و عر، و قوله: و كتبوا علينا بينهم كتابا. فروى أنّه لما أسلم حمزة و عمر و حمى النجّاشي من عنده من المسلمين و حامى أبو طالب عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فشا الإسلام في القبايل فاجتهد المشركون في إطفاء نور اللّه و اجتمعت قريش و أتمر بينهم أن يكتبوا كتابا يتعاهدون فيه أن لا ينكحوا إلى بنى هاشم و بنى عبد المطّلب و لا ينكحوهم، و لا يبيعوهم شيئا و لا يتبايعوا منهم فكتبوا بذلك وثيقة و توافقوا عليها و علّقوها في جوف الكعبة توكيدا لذلك الأمر على أنفسهم فلمّا فعلوا ذلك انحازت بنى هاشم و بنو عبد المطّلب إلى أبي طالب فدخلوا معه في شعبه. و خرج من بنى هاشم أبو لهب و ظاهر المشركين. و قطعوا عنهم الميرة و المارّة، و حصروهم في ذلك الشعب في أوّل سنة سبع من النبوّة فكانوا لا يخرجون إلّا من موسم إلى موسم حتّى بلغهم الجهد و سمع صوت صبيانهم من وراء الشعب من شدّة الجوع فمن قريش من سرّه ذلك و منهم من ساءه فأقاموا على ذلك ثلاث سنين حتّى أوحى اللّه إلى رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّ الأرضة قد أكلت صحيفتهم و محت منها ما كان فيه ظلم و جور و بقى منها ما كان ذكر اللّه.
فأخبر بذلك عمّه أبا طالب فأمره أن يأتي قريشا فيعلمها بذلك فجاء إليهم، و قال: إنّ ابن أخى أخبرنى بكذا و كذا فإن كان صادقا نزعتم عن سوء رأيكم و إن كان كاذبا دفعته إليكم فقتلتموه أو استحييتموه. فقالوا: قد أنصفتنا. فأرسلوا إلى الصحيفة فوجدوها كما أخبر صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فسقط في أيديهم و عرفوا أنّهم بالظلم و القطيعة. فذلك معنى قوله: و اضطرّونا إلى جبل و عر. إلى آخره. و قوله: فعزم اللّه لنا. أى أراد لنا الإرادة الجازمة منه، و اختار لنا أن نذبّ عن حوزة الإسلام و نحمى حرمته أن تتهتّك، و كنّى عن حماها بالرمى من ورائها.
و قوله: مؤمننا. إلى قوله: عن الأصل. أى كنّا بأجمعنا نذبّ عن دين اللّه و نحمى رسوله فكان من آمن منّا يريد بذلك الأجر من اللّه، و من كان حينئذ على كفره كالعبّاس و حمزة و أبي طالب على قول فإنّهم كانوا يمنعون عن رسول اللّه مراعاة لأصلهم. و قوله: من أسلم من قريش. إلى قوله: يوم موتة. فالواو في قوله: و من. للحال: أى كنّا على تلك الحال من الذبّ عن دين اللّه حال ما كان من أسلم من قريش عدا بنى هاشم و بنى عبد المطّلب خالين ممّا نحن فيه من البلاء آمنين من الخوف و القتل فمنهم من كان له حلف و عهد من المشركين يمنعه، و منهم من كان له عشيرة يحفظه. و بذلك يظهر فضله عليه السّلام و فضيلة بنى هاشم و بنى المطّلب و بلاؤهم في حفظ رسول اللّه. ثمّ لمّا أمر اللّه بقتال المشركين كان يقدّم أهل بيته فيقى بهم أصحابه حرّ السيوف و أسنّة الرماح. و كنّى باحمرار البأس عن شدّة الحرب. إذ البأس فيها مستلزم لظهور حمرة الدماء و إن كان استعمال هذا اللفظ لم يبق تلك الملاحظة في الكناية، و منه موت أحمر كناية عن شدّته و ذلك في الحرب أيضا و ما يستلزم ظهور الدماء. و بدر اسم بئر سمّيت بحافرها. و أمّا عبيدة بن الحرث بن عبد المطّلب فقتله عتبة بن ربيعة و ذلك أنّه لمّا التقى المسلمون و المشركون ببدر برز عتبة بن ربيعة و أخوه شيبة و ابنه الوليد و طلبوا المبارزة فخرج إليهم رهط من الأنصار. فقالوا: نريد أكفائنا من المهاجرين. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: قم يا حمزة، قم يا عبيدة، قم يا علىّ. فبارز عبيدة و هو أسنّ القوم عتبة بن ربيعة و بارز حمزة شيبة و بارز علىّ الوليد. فقتل علىّ و حمزة قرينهما و اختلف عبيدة و عتبة بضربتين فكلاهما أثبت صاحبه و أجهز حمزة و علىّ بأسيافهما على عتبة فقتلاه و احتملا عبيدة فجاء به إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قد قطعت رجله و مخّها يسيل فقال: يا رسول اللّه أ لست شهيدا قال: بلى. فقال عبيدة: لو كان أبو طالب حيّا يعلم أنّي أحقّ بما قال فيه حيث يقول:
و نسلمه حتّى نصرّع حوله و نذهل عن أبنائنا و الحلايل و أمّا حمزة بن عبد المطّلب فقتله وحشىّ في وقعة احد بعد وقعة بدر في سنة ثلاث من الهجرة و كان سببها أنّه لمّا رجع من حضر بدرا من المشركين إلى مكّة و جدوا العير الّتي قدم فيها أبو سفيان موقوفة في دار الندوة فحشر أشراف قريش و مشوا إلى أبي سفيان فقالوا: نحن طيّبوا الأنفس بأن يجهّز بربح هذه العير جيشا إلى محمّد. فقال أبو سفيان: أنا أوّل من أجاب إلى ذلك و معى بنو عبد مناف. فباعوها و كانت ألف بعير فكان المال خمسين ألف دينار فسلّم إلى أهل العير رءوس أموالهم و عزلت الأرباح و بعثوا الرسل إلى العرب يستنفرونهم فاجتمعوا في ثلاثة ألف فيهم سبع مائة درع و مائتا فرس و ثلاثة ألف بعير، و باتت جماعة بباب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
و رأى في نومه كأنّه في درع حصينة و كأنّ سيفه- ذو الفقار- قد انفصم و كأنّ بقرا ينحر و كأنّه مردف كبشا فقال: أمّا الدرع فالمدينة و البقر يقتل بعض أصحابه و انفصام سيفه مصيبة في نفسه و الكبش كبش الكتيبة يقتله اللّه. فكان المصيبة أن رماه عتبة بن أبي وقاص بحجر فدقّ رباعيّته و هشم أنفه و كلّم وجهه. و قيل: الّذي فعل ذلك عمرو بن قميئة و كان ذلك اليوم صعبا على المسلمين، و روى أنّ هندا قامت في ذلك اليوم في نسوة معها تمثّل بقتلى المسلمين و تجدع الآذان و الانوف حتّى اتّخذت منها قلائد، و بقرت عن كبد حمزة و لاكتها فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها، و منه سمّى معاوية ابن آكلة الأكباد. و أمّا جعفر بن أبي طالب فقتل في وقعة موتة و كانت هذه الوقعة في جمادى الاولى سنة ثمان من الهجرة و كان من سببها أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعث الحرث بن عميرة الأزدى إلى ملك بصرى فلمّا نزل موتة عرض له شر حبيل بن عمرو الغسانى فقتله و لم يقتل له رسول قبل ذلك. فشقّ عليه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذلك فندب المسلمين و عسكر في ثلاثة آلاف. و قال: أميركم زيد بن حارثة فإن قتل فجعفر بن أبى طالب فإن قتل فعبد اللّه بن رواحة فإن قتل فليرتض المسلمون منهم رجلا، و أمرهم أن يأتوا مقتل الحرث بن عميرة و يدعوا من هناك إلى الإسلام فإن أجابوا و إلّا قتلوهم. فسمع العدوّ بهم فجمعوا لهم و جمع لهم شرحبيل أكثر من مائة ألف فمضوا إلى موتة فوفّا هم المشركون فأخذ اللواء زيد فقاتل حتّى قتل ثمّ أخذه جعفر فقاتل حتّى قطعت يداه، و قيل: ضربه رجل من الروم فقطعه نصفين فوجد في أحد نصفيه أحد و ثمانون جرحا، و سمّاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذا الجناحين يطير بهما في الجنّة لقطع يديه يومئذ. و قوله: و أراد من لو شئت ذكرت اسمه. إلى قوله: اجّلت. إشارة إلى نفسه. إذ كان لكلّ امّة مدّة مربوطة به فإذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة و لا يستقدمون. و لمّا أشار إلى دليل أفضليّته و أهل بيته أردفه بالتعجّب من الدهر حيث انتهى في إعداده و فعله إلى أن صار بحيث يقرن في الذكر و المرتبة من ليس له مثل سابقته في الفضيلة الّتي لا يتقرّب أحد إلى اللّه بمثلها. و قوله: إلّا إن يدّعى مدّع ما لا أعرفه. أراد بالمدّعى معاوية و بما لا يعرفه ما عساه يدّعيه من الفضيلة في الدين و السابقة في الإسلام.
و قوله: و لا أظنّ اللّه يعرفه. نفى ظنّ معرفة اللّه لذلك المدّعى لأنّه لمّا نفى لذلك المدّعى فضيلة يعرفها نفى أيضا عن نفسه طريق معرفة اللّه لها، و هو إشارة إلى أنّه لا وجود لتلك الفضيلة و ما لا وجود له امتنع أن يعرف اللّه تعالى وجوده، و لمّا أشار إلى أفضليّته و عدم الفضيلة لمنافره حسن إردافه بحمد اللّه فحمده على كلّ حال. و الاستثناء هنا منقطع لأنّ الدعوي ليست من جنس السابقة. و أمّا جوابه لسؤاله قتلة عثمان فحاصله يعود إلى أنّه عليه السّلام فكّر في أمرهم فرأى أنّه لا يسعه تسليم المعترفين بذلك إلى معاوية، و لا إلى غيره و ذلك من وجوه: أحدها: أنّ تسليم الحقّ إلى ذى الحقّ عند المنافرة إنّما يكون بعد تعيين المدّعى عليه و ثبوت الحقّ عليه، و إنّما يكون ذلك بعد مرافعة الخصمين إلى الحاكم و إقامة البيّنة بالدعوى أو الاعتراف من المدّعى عليه. و معلوم أنّ معاوية و من طلب بدم عثمان لم يفعل شيئا من ذلك، و لذلك قال عليه السّلام لمعاوية في موضع آخر: و أمّا طلبك إلىّ قتلة عثمان فادخل فبما دخل الناس فيه ثمّ حاكمهم إلىّ أحملك و إيّاهم على الحقّ
الثاني: أنّ القوم الّذين رضوا بقتله أو شركوا في ذلك كانوا على حدّ من الكثرة و فيهم المهاجرون و الأنصار كما روى أنّ أبا هريرة و أبا الدرداء أتيا معاوية فقالا له: علام تقاتل عليّا و هو أحقّ بالأمر منك لفضله و سابقته فقال: لست اقاتله لأنّى أفضل منه و لكن ليدفع إلىّ قتلة عثمان. فخرجا من عنده و أتيا عليّا. فقالا له: إنّ معاوية يزعم أنّ قتلة عثمان عندك و في عسكرك فادفعهم إليه فإن قاتلك بعدها علمنا أنّه ظالم لك. فقال علىّ: إنّى لم أحضر قتل عثمان يوم قتل و لكن هل تعرفان من قتله فقالا: بلغنا أنّ محمّد بن أبي بكر و عمّار و الأشتر و عدّى بن حاتم و عمرو بن الحمق و فلانا و فلانا ممّن دخل عليه . فقال علىّ: فامضيا إليهم فخذوهم. فأقبلا إلى هؤلاء النفر و قالا لهم: أنتم من قتلة عثمان و قد أمر أمير المؤمنين بأخذكم. قال: فوقعت الصيحة في العسكر بهذا الخبر فوثب من عسكر علىّ أكثر من عشرة ألف رجل في أيديهم السيوف و هم يقولون: كلّنا قتلته. فبهت أبو هريرة و أبو الدرداء. ثمّ رجعا إلى معاوية و هما يقولان: لا يتمّ هذا الأمر أبدا. فأخبراه بالخبر. و إذا كان القاتلون و المتعصّبون لهم بهذه الكثرة فكيف يمكنه عليه السّلام تسليمهم و تمكين أحد منهم. الثالث: أنّه كان في جماعة الصحابة المشهود لهم بالجنّة من يرى أنّ عثمان كان يستحقّ القتل بأحداثه كما روى نضر بن مزاحم أنّ عمّارا في بعض أيّام صفّين قام في أصحابه و قال: امضوا معى عباد اللّه إلى قوم يطلبون فيما يزعمون بدم الظالم إنّما قتله الصالحون المنكرون للعدوان الآمرون بالإحسان. فإن قال هؤلاء الّذين لا يبالون لو سلمت لهم دنياهم لو درس هذا الدين: لم قتلتموه. فقلنا: لأحداثه.
و إن قالوا: ما أحدث شيئا. و ذلك لأنّه كان أمكنهم من الدنيا فهم يأكلونها و يرعونها و لا يبالون لو انهدمت عليهم الجبال. فإذا اعترف مثل هذا الرجل على جلالته بالمشاركة في قتلهم و علّل ذلك بأحداثه احتمل أن يقال: إنّه عليه السّلام فكّر في هذا الأمر فرأى أنّ هذا الجمع العظيم من المهاجرين و الأنصار و التابعين لا يجوز أن يقتلوا برجل واحد أحدث أحداثا نقموها عليه جملة المسلمون و قد استعتب مرارا فلم يرجع فأدّى ذلك إلى قتله، و لم يسعه تسليمهم إلى من يطلب بدمه لما يستلزمه ذلك من ضعف الدين و هدمه. ثمّ أقسم عليه السّلام مهدّدا له بمن طلب من القوم إن لم يرجع عن ضلالته إلى طريق الحقّ عن طرق الباطل و ينزل عن خلافه أن يكونوا هم الطالبين له. و محلّ يطلبونك النصب مفعولا ثانيا لتعرف بمعنى تعلم، و يأتي الكلام من تمام التهديد. و مراده بالزور المصدر، و لذلك أفرد ضميره في لقيانه، و يحتمل أن يريد الزائرين و أفرد الضمير نظرا إلى إفراد اللفظ، و باللّه التوفيق.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحرانی)، ج 4 ، صفحهى 360