القول في مقتل حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه
قال الواقدي كان وحشي عبدا- لابنة الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف- و يقال كان لجبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف- فقالت له ابنة الحارث إن أبي قتل يوم بدر- فإن أنت قتلت أحد الثلاثة فأنت حر- محمد و علي بن أبي طالب و حمزة بن عبد المطلب- فإني لا أرى في القوم كفؤا لأبي غيرهم- فقال وحشي أما محمد فقد علمت أني لا أقدر عليه- و أن أصحابه لن يسلموه- و أما حمزة فو الله لو وجدته نائما ما أيقظته من هيبته- و أما علي فألتمسه- قال وحشي فكنت يوم أحد ألتمسه- فبينا أنا في طلبه طلع علي- فطلع رجل حذر مرس كثير الالتفات- فقلت ما هذا بصاحبي الذي ألتمس- إذ رأيت حمزة يفري الناس فريا- فكمنت له إلى صخرة و هو مكبس له كتيت- فاعترض له سباع بن أم نيار- و كانت أمه ختانة بمكة- مولاة لشريف بن علاج بن عمرو بن وهب الثقفي- و كان سباع يكنى أبا نيار- فقال له حمزة و أنت أيضا يا ابن مقطعة البظور ممن يكثر علينا- هلم إلي فاحتمله- حتى إذا برقت قدماه رمى به فبرك عليه- فشحطه شحط الشاة- ثم أقبل علي مكبا حين رآني- فلما بلغ المسيل- وطئ على جرف فزلت قدمه- فهززت حربتي حتى رضيت منها- فأضرب بها في خاصرته حتى خرجت من مثانته- و كر عليه طائفة من أصحابه- فأسمعهم يقولون أبا عمارة فلا يجيب- فقلت قد و الله مات الرجل- و ذكرت هندا و ما لقيت على أبيها و عمها و أخيها- و انكشف عنه أصحابه حين أيقنوا بموته و لا يروني- فأكر عليه فشققت بطنه فاستخرجت كبده- فجئت بها إلى هند بنت عتبة- فقلت ما ذا لي إن قتلت قاتل أبيك قالت سلني- فقلت هذه كبد حمزة فمضغتها ثم لفظتها- فلا أدري لم تسغها أو قذرتها- فنزعت ثيابها و حليها فأعطتنيه- ثم قالت إذا جئت مكة فلك عشرة دنانير- ثم قالت أرني مصرعه فأريتها مصرعه- فقطعت مذاكيره و جدعت أنفه و قطعت أذنيه- ثم جعلت ذلك مسكتين و معضدين و خدمتين- حتى قدمت بذلك مكة و قدمت بكبده أيضا معها- .
قال الواقدي و حدثني عبد الله بن جعفر- عن ابن أبي عون عن الزهري- عن عبيد الله بن عدي بن الخيار قال- غزونا الشام في زمن عثمان بن عفان- فمررنا بحمص بعد العصر- فقلنا وحشي فقيل لا تقدرون عليه- هو الآن يشرب الخمر حتى يصبح- فبتنا من أجله و إننا لثمانون رجلا- فلما صلينا الصبح جئنا إلى منزله- فإذا شيخ كبير قد طرحت له زربية قدر مجلسه- فقلنا له أخبرنا عن قتل حمزة و عن قتل مسيلمة- فكره ذلك و أعرض عنه- فقلنا ما بتنا هذه الليلة إلا من أجلك- فقال إني كنت عبدا لجبير بن مطعم بن عدي- فلما خرج الناس إلى أحد دعاني- فقال قد رأيت مقتل طعيمة بن عدي- قتله حمزة بن عبد المطلب يوم بدر- فلم تزل نساؤنا في حزن شديد إلى يومي هذا- فإن قتلت حمزة فأنت حر- فخرجت مع الناس و لي مزاريق- كنت أمر بهند بنت عتبة- فتقول إيه أبا دسمة اشف و اشتف- فلما وردنا أحدا نظرت إلى حمزة يقدم الناس يهدهم هدا- فرآني و قد كمنت له تحت شجرة- فأقبل نحوي و تعرض له سباع الخزاعي- فأقبل إليه و قال- و أنت أيضا يا ابن مقطعة البظور ممن يكثر علينا- هلم إلي و أقبل نحوه حتى رأيت برقان رجليه- ثم ضرب به الأرض و قتله- و أقبل نحوي سريعا فيعترض له جرف فيقع فيه- و أزرقه بمزراق فيقع في لبته- حتى خرج من بين رجليه فقتله- و مررت بهند بنت عتبة فآذنتها- فأعطتني ثيابها و حليها- و كان في ساقيها خدمتان من جزع ظفار- و مسكتان من ورق- و خواتيم من ورق كن في أصابع رجليها- فأعطتني بكل ذلك- و أما مسيلمة فإنا دخلنا حديقة الموت يوم اليمامة- فلما رأيته زرقته بالمزراق- و ضربه رجل من الأنصار بالسيف- فربك أعلم أينا قتله- إلا أني سمعت امرأة تصيح فوق جدار قتله العبد الحبشي- قال عبيد الله فقلت أ تعرفني فأكر بصره علي- و قال ابن عدي لعاتكة بنت العيص قلت نعم- قال أما و الله ما لي بك عهد- بعد أن دفعتك إلى أمك في محفتك التي كانت ترضعك فيها- و نظرت إلى برقان قدميك حتى كأنه الآن- . و روى محمد بن إسحاق في كتاب المغازي- قال علت هند يومئذ صخرة مشرفة- و صرخت بأعلى صوتها-
نحن جزيناكم بيوم بدر
و الحرب بعد الحرب ذات سعر
ما كان عن عتبة لي من صبر
و لا أخي و عمه و بكري
شفيت نفسي و قضيت نذري
شفيت وحشي غليل صدري
فشكر وحشي على عمري
حتى ترم أعظمي في قبري
قال فأجابتها هند بنت أثاثة بن المطلب بن عبد مناف-
خزيت في بدر و غير بدر
يا بنت غدار عظيم الكفر
أفحمك الله غداة الفجر
بالهاشميين الطوال الزهر
بكل قطاع حسام يفري
حمزة ليثي و علي صقري
إذ رام شيب و أبوك قهري
فخضبا منه ضواحي النحر
قال محمد بن إسحاق- و من الشعر الذي ارتجزت به هند بنت عتبة يوم أحد-
شفيت من حمزة نفسي
بأحد حين بقرت بطنه عن الكبد
أذهب عني ذاك ما كنت أجد
من لوعة الحزن الشديد المعتمد
و الحرب تعلوكم بشؤبوب
برد نقدم إقداما عليكم كالأسد
قال محمد بن إسحاق حدثني صالح بن كيسان- قال حدثت أن عمر بن الخطاب قال لحسان- يا أبا الفريعة لو سمعت ما تقول هند- و لو رأيت شرها قائمة على صخرة ترتجز بنا- و تذكر ما صنعت بحمزة- فقال حسان و الله إني لأنظر إلى الحربة تهوي- و أنا على فارع يعني أطمة- فقلت و الله إن هذه لسلاح ليس بسلاح العرب- و إذا بها تهوي إلى حمزة و لا أدري- و لكن أسمعني بعض قولها أكفيكموها- فأنشده عمر بعض ما قالت- فقال حسان يهجوها
أشرت لكاع و كان عادتها
لؤما إذا أشرت مع الكفر
أخرجت مرقصة إلى أحد
في القوم مقتبة على بكر
بكر ثفال لا حراك به
لا عن معاتبة و لا زجر
أخرجت ثائرة محاربة
بأبيك و ابنك بعد في بدر
و بعمك المتروك منجدلا
و أخيك منعفرين في الجفر
فرجعت صاغرة بلا ترة
منا ظفرت بها و لا وتر
و قال أيضا يهجوها
لمن سواقط ولدان مطرحة
باتت تفحص في بطحاء أجياد
باتت تمخض لم تشهد قوابلها
إلا الوحوش و إلا جنة الوادي
يظل يرجمه الصبيان منعفرا
و خاله و أبوه سيدا النادي
في أبيات كرهت ذكرها لفحشها- . قال و روى الواقدي عن صفية- – بنت عبد المطلب- قالت كنا قد رفعنا يوم أحد في الآطام- و معنا حسان بن ثابت- و كان من أجبن الناس و نحن في فارع- فجاء نفر من يهود يرومون الأطم- فقلت دونك يا ابن الفريعة- فقال لا و الله لا أستطيع القتال- و يصعد يهودي إلى الأطم- فقلت شد على يدي السيف ثم برئت ففعل- فضربت عنق اليهودي و رميت برأسه إليهم- فلما رأوه انكشفوا- قالت و إني لفي فارع أول النهار مشرفة على الأطم- فرأيت المزراق فقلت أ و من سلاحهم المزاريق- أ فلا أراه هوى إلى أخي و لا أشعر- ثم خرجت آخر النهار حتى جئت رسول الله ص- و قد كنت أعرف انكشاف المسلمين- و أنا على الأطم برجوع حسان إلى أقصى الأطم- فلما رأى الدولة للمسلمين أقبل حتى وقف على جدار الأطم- قال فلما انتهيت إلى رسول الله ص- و معي نسوة من الأنصار لقيته و أصحابه أوزاع- فأول من لقيت علي ابن أخي فقال ارجعي يا عمة- فإن في الناس تكشفا- فقلت رسول الله ص قال صالح قلت ادللني عليه حتى أراه- فأشار إليه إشارة خفية فانتهيت إليه و به الجراحة- .
قال الواقدي و كان رسول الله ص يقول يوم أحد- ما فعل عمي ما فعل عمي- فخرج الحارث بن الصمة يطلبه فأبطأ- فخرج علي ع يطلبه- فيقول
يا رب إن الحارث بن الصمة
كان رفيقا و بنا ذا ذمة
قد ضل في مهامة مهمة
يلتمس الجنة فيها ثمة
حتى انتهى إلى الحارث و وجد حمزة مقتولا- فجاء فأخبر النبي ص فأقبل يمشي حتى وقف عليه- فقال ما وقفت موقفا قط أغيظ إلي من هذا الموقف- . فطلعت صفية- فقال يا زبير أغن عني أمك و حمزة يحفر له- فقال الزبير يا أمه إن في الناس تكشفا فارجعي- فقالت ما أنا بفاعلة حتى أرى رسول الله ص- فلما رأته قالت يا رسول الله أين ابن أمي حمزة- فقال هو في الناس قالت لا أرجع حتى أنظر إليه- قال الزبير فجعلت أطدها إلى الأرض حتى دفن- وقال رسول الله ص لو لا أن تحزن نساؤنا لذلك لتركناه للعافية- يعني السباع و الطير- حتى يحشر يوم القيامة من بطونها و حواصلها- .
قال الواقدي و روي أن صفية لما جاءت- حالت الأنصار بينها و بين رسول الله ص- فقال دعوها فجلست عنده- فجعلت إذا بكت يبكي رسول الله ص- و إذا نشجت ينشج رسول الله ص- و جعلت فاطمة ع تبكي- فلما بكت بكى رسول الله ص- ثم قال لن أصاب بمثل حمزة أبدا-ثم قال ص لصفية و فاطمة أبشرا- أتاني جبرائيل ع- فأخبرني أن حمزة مكتوب في أهل السموات السبع- حمزة بن عبد المطلب أسد الله و أسد رسوله-.
قال الواقدي و رأى رسول الله ص بحمزة مثلا شديدا- فحزنه ذلك- و قال إن ظفرت بقريش لأمثلن بثلاثين منهم- فأنزل الله عليه وَ إِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ- وَ لَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ- فقال ص بل نصبر- فلم يمثل بأحد من قريش-.قال الواقدي و قام أبو قتادة الأنصاري- فجعل ينال من قريش لما رأى من غم رسول الله ص- و في كل ذلك يشير إليه أن اجلس ثلاثا- فقال رسول الله ص- يا أبا قتادة إن قريشا أهل أمانة- من بغاهم العواثر كبه الله لفيه- و عسى إن طالت بك مدة أن تحقر عملك مع أعمالهم- و فعالك مع فعالهم-لو لا أن تبطر قريش لأخبرتها بما لها عند الله تعالى- فقال أبو قتادة و الله يا رسول الله ما غضبت إلا لله و رسوله- حين نالوا منه ما نالوا- فقال صدقت بئس القوم كانوا لنبيهم- .
قال الواقدي و كان عبد الله بن جحش قبل أن تقع الحرب قال- يا رسول الله إن هؤلاء القوم قد نزلوا بحيث ترى- فقد سألت الله فقلت اللهم أقسم عليك أن نلقى العدو غدا- فيقتلوني و يبقروا بطني و يمثلوا بي- فتقول لي فيم صنع بك هذا فأقول فيك- قال و أنا أسألك يا رسول الله أخرى- أن تلي تركتي من بعدي- فقال له نعم فخرج عبد الله فقتل و مثل به كل المثل- و دفن هو و حمزة في قبر واحد- و ولي تركته رسول الله ص فاشترى لأمه مالا بخيبر- .
قال الواقدي و أقبلت أخته حمنة بنت جحش- فقال لها رسول الله ص يا حمن احتسبي- قالت من يا رسول الله قال خالك حمزة- قالت إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ- غفر الله له و رحمه و هنيئا له الشهادة- ثم قال لها احتسبي قالت من يا رسول الله- قال أخوك عبد الله- قالت إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ- غفر الله له و رحمه و هنيئا له الشهادة- ثم قال احتسبي قالت من يا رسول- قال بعلك مصعب بن عمير فقالت وا حزناه- و يقال إنها قالت وا عقراه- . قال محمد بن إسحاق في كتابه فصرخت و ولولت-.
قال الواقدي فقال رسول الله ص إن للزوج من المرأة مكانا ما هو لأحد- و هكذا روى ابن إسحاق أيضا- . قال الواقدي ثم قال لها رسول الله ص لم قلت هذا- قالت ذكرت يتم بنيه فراعني- فدعا رسول الله ص لولده أن يحسن الله عليهم الخلف-فتزوجت طلحة بن عبيد الله فولدت منه محمد بن طلحة- فكان أوصل الناس لولد مصعب بن عمير
القول فيمن ثبت مع رسول الله ص يوم أحد
قال الواقدي حدثني موسى بن يعقوب- عن عمته عن أمها عن المقداد- قال لما تصاف القوم للقتال يوم أحد- جلس رسول الله ص تحت راية مصعب بن عمير- فلما قتل أصحاب اللواء و هزم المشركون الهزيمة الأولى- و أغار المسلمون على معسكرهم ينهبونه- ثم كر المشركون على المسلمين فأتوهم من خلفهم- فتفرق الناس- و نادى رسول الله ص في أصحاب الألوية- فقتل مصعب بن عمير حامل لوائه ص- و أخذ راية الخزرج سعد بن عبادة- فقام رسول الله ص تحتها و أصحابه محدقون به- و دفع لواء المهاجرين إلى أبي الردم أحد بني عبد الدار- آخر نهار ذلك اليوم- و نظرت إلى لواء الأوس مع أسيد بن حضير- فناوشوا المشركين ساعة- و اقتتلوا على اختلاط من الصفوف- و نادى المشركون بشعارهم يا للعزى يا لهبل- فأوجعوا و الله فينا قتلا ذريعا- و نالوا من رسول الله ص ما نالوا- لا و الذي بعثه بالحق ما زال شبرا واحدا- إنه لفي وجه العدو و تثوب إليه طائفة من أصحابه مرة- و تتفرق عنه مرة- فربما رأيته قائما يرمي عن قوسه أو يرمي بالحجر حتى تحاجزوا- و كانت العصابة التي ثبتت مع رسول الله ص أربعة عشر رجلا- سبعة من المهاجرين و سبعة من الأنصار- أما المهاجرون فعلي ع و أبو بكر و عبد الرحمن بن عوف- و سعد بن أبي وقاص و طلحة بن عبيد الله- و أبو عبيدة بن الجراح و الزبير بن العوام-و أما الأنصار فالحباب بن المنذر و أبو دجانة- و عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح و الحارث بن الصمة- و سهل بن حنيف و سعد بن معاذ و أسيد بن حضير- .
قال الواقدي و قد روي- أن سعد بن عبادة و محمد بن مسلمة ثبتا يومئذ و لم يفرا- و من روى ذلك- جعلهما مكان سعد بن معاذ و أسيد بن حضير- . قال الواقدي و بايعه يومئذ على الموت ثمانية- ثلاثة من المهاجرين و خمسة من الأنصار- فأما المهاجرون فعلي ع و طلحة و الزبير- و أما الأنصار فأبو دجانة و الحارث بن الصمة- و الحباب بن المنذر و عاصم بن ثابت و سهل بن حنيف- و لم يقتل منهم ذلك اليوم أحد- و أما باقي المسلمين ففروا- و رسول الله ص يدعوهم في أخراهم- حتى انتهى منهم إلى قريب من المهراس- . قال الواقدي و حدثني عتبة بن جبير- عن يعقوب بن عمير بن قتادة قال- ثبت يومئذ بين يديه ثلاثون رجلا- كلهم يقول وجهي دون وجهك- و نفسي دون نفسك و عليك السلام غير مودع- .
قلت قد اختلف في عمر بن الخطاب هل ثبت يومئذ أم لا- مع اتفاق الرواة كافة على أن عثمان لم يثبت- فالواقدي ذكر أنه لم يثبت- و أما محمد بن إسحاق و البلاذري فجعلاه مع من ثبت و لم يفر- و اتفقوا كلهم- على أن ضرار بن الخطاب الفهري قرع رأسه بالرمح- و قال إنها نعمة مشكورة يا ابن الخطاب- إني آليت ألا أقتل رجلا من قريش- .
و روى ذلك محمد بن إسحاق و غيره و لم يختلفوا في ذلك- و إنما اختلفوا هل قرعه بالرمح و هو فار هارب- أم مقدم ثابت- و الذين رووا أنه قرعه بالرمح و هو هارب- لم يقلأحد منهم إنه هرب حين هرب عثمان- و لا إلى الجهة التي فر إليها عثمان- و إنما هرب معتصما بالجبل- و هذا ليس بعيب و لا ذنب- لأن الذين ثبتوا مع رسول الله ص- اعتصموا بالجبل كلهم و أصعدوا فيه- و لكن يبقى الفرق بين من أصعد في الجبل في آخر الأمر- و من أصعد فيه و الحرب لم تضع أوزارها- فإن كان عمر أصعد فيه آخر الأمر- فكل المسلمين هكذا صنعوا حتى رسول الله ص- و إن كان ذلك و الحرب قائمة بعد تفرق- .
و لم يختلف الرواة من أهل الحديث- في أن أبا بكر لم يفر يومئذ- و أنه ثبت فيمن ثبت- و إن لم يكن نقل عنه قتل أو قتال- و الثبوت جهاد و فيه وحده كفاية- . و أما رواة الشيعة فإنهم يروون- أنه لم يثبت إلا علي و طلحة و الزبير و أبو دجانة- و سهل بن حنيف و عاصم بن ثابت- و منهم من روى أنه ثبت معه أربعة عشر رجلا- من المهاجرين و الأنصار- و لا يعدون أبا بكر و عمر منهم- روى كثير من أصحاب الحديث- أن عثمان جاء بعد ثالثة إلى رسول الله ص- فسأله إلى أين انتهيت فقال إلى الأعرض- فقال لقد ذهبت فيها عريضة- .
روى الواقدي قال- كان بين عثمان أيام خلافته- و بين عبد الرحمن بن عوف كلام- فأرسل عبد الرحمن إلى الوليد بن عقبة فدعاه- فقال اذهب إلى أخيك فأبلغه عني ما أقول لك- فإني لا أعلم أحدا يبلغه غيرك- قال الوليد أفعل- قال قل له يقول لك عبد الرحمن شهدت بدرا و لم تشهدها- و ثبت يوم أحد و وليت- و شهدت بيعة الرضوان و لم تشهدها- فلما أخبره قال عثمان صدق أخي- تخلفت عن بدر على ابنة رسول الله ص و هي مريضة- فضرب لي رسول الله ص بسهمي و أجري- فكنت بمنزلة من حضر بدرا- و وليت يوم أحد فعفا الله عني في محكم كتابه- و أما بيعة الرضوان فإني خرجت إلي أهل مكة- بعثني رسول الله ص و قال- إن عثمان في طاعة الله و طاعة رسوله- و بايع عني بإحدى يديه على الأخرى- فكان شمال النبي خيرا من يميني- فلما جاء الوليد إلى عبد الرحمن بما قال قال صدق أخي- .
قال الواقدي و نظر عمر إلى عثمان بن عفان- فقال هذا ممن عفا الله عنه- و هم الذين تولوا يوم التقى الجمعان- و الله ما عفا الله عن شيء فرده- قال و سأل رجل عبد الله بن عمر عن عثمان فقال- أذنب يوم أحد ذنبا عظيما فعفا الله عنه- و أذنب فيكم ذنبا صغيرا فقتلتموه- و احتج من روى أن عمر فر يوم أحد- بما روى أنه جاءته في أيام خلافته امرأة- تطلب بردا من برود كانت بين يديه- و جاءت معها بنت لعمر تطلب بردا أيضا- فأعطى المرأة و رد ابنته فقيل له في ذلك- فقال إن أبا هذه ثبت يوم أحد- و أبا هذه فر يوم أحد و لم يثبت- .
و روى الواقدي أن عمر كان يحدث- فيقول لما صاح الشيطان قتل محمد- قلت أرقى في الجبل كأني أروية- و جعل بعضهم هذا حجة في إثبات فرار عمر- و عندي أنه ليس بحجة- لأن تمام الخبر فانتهيت إلى رسول الله ص- و هو يقول وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ- قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ الآية- و أبو سفيان في سفح الجبل في كتيبته يرومون أن يعلوا الجبل- فقال رسول الله ص اللهم إنه ليس لهم أن يعلونا فانكشفوا- و هذا يدل على أن رقيه في الجبل- قد كان بعد إصعاد رسول الله ص فيه- و هذا بأن يكون منقبة له أشبه- .
و روى الواقدي قال حدثني ابن أبي سبرة- عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي جهم اسم أبي جهم عبيد- قال كان خالد بن الوليد يحدث و هو بالشام- فيقول الحمد للهالذي هداني للإسلام- لقد رأيتني و رأيت عمر بن الخطاب حين جال المسلمون- و انهزموا يوم أحد و ما معه أحد- و إني لفي كتيبة خشناء- فما عرفه منهم أحد غيري- و خشيت إن أغريت به من معي أن يصمدوا له- فنظرت إليه و هو متوجه إلى الشعب قلت يجوز أن يكون هذا حقا- و لا خلاف أنه توجه إلى الشعب تاركا للحرب- لكن يجوز أن يكون ذلك في آخر الأمر- لما يئس المسلمون من النصرة- فكلهم توجه نحو الشعب حينئذ- و أيضا فإن خالدا متهم في حق عمر بن الخطاب- لما كان بينه و بينه من الشحناء و الشنئان- فليس بمنكر من خالد أن ينعى عليه حركاته- و يؤكد صحة هذا الخبر- و كون خالد عف عن قتل عمر يومئذ- ما هو معلوم من حال النسب بينهما من قبل الأم- فإن أم عمر حنتمة بنت هاشم بن المغيرة- و خالد هو ابن الوليد بن المغيرة- فأم عمر ابنة عم خالد لحا و الرحم تعطف- .
حضرت عند محمد بن معد العلوي الموسوي الفقيه- على رأى الشيعة الإمامية رحمه الله- في داره بدرب الدواب ببغداد في سنة ثمان و ستمائة- و قارئ يقرأ عنده مغازي الواقدي- فقرأ حدثنا الواقدي قال حدثني ابن أبي سبرة- عن خالد بن رياح عن أبي سفيان مولى ابن أبي أحمد قال- سمعت محمد بن مسلمة يقول- سمعت أذناي و أبصرت عيناي- رسول الله ص يقول يوم أحد- و قد انكشف الناس إلى الجبل- و هو يدعوهم و هم لا يلوون عليه- سمعته يقول إلي يا فلان إلي يا فلان أنا رسول الله- فما عرج عليه واحد منهما و مضيا- فأشار ابن معد إلي أن اسمع- فقلت و ما في هذا قال هذه كناية عنهما- فقلت و يجوز ألا يكون عنهما لعله عن غيرهما- قال ليس في الصحابة منيحتشم- و يستحيا من ذكره بالفرار و ما شابهه من العيب- فيضطر القائل إلى الكناية إلا هما- قلت له هذا وهم- فقال دعنا من جدلك و منعك- ثم حلف أنه ما عنى الواقدي غيرهما- و أنه لو كان غيرهما لذكره صريحا- و بان في وجهه التنكر من مخالفتي له- .
روى الواقدي قال لما صاح إبليس أن محمدا قد قتل- تفرق الناس فمنهم من ورد المدينة- فكان أول من وردها- يخبر أن محمدا قد قتل سعد بن عثمان أبو عبادة- ثم ورد بعده رجال حتى دخلوا على نسائهم- حتى جعل النساء يقلن أ عن رسول الله تفرون- و يقول لهم ابن أم مكتوم- أ عن رسول الله تفرون يؤنب بهم- و قد كان رسول الله ص خلفه بالمدينة يصلي بالناس- ثم قال دلوني على الطريق يعني طريق أحد فدلوه- فجعل يستخبر كل من لقي في الطريق حتى لحق القوم- فعلم بسلامة النبي ص ثم رجع- و كان ممن ولى عمر و عثمان و الحارث بن حاطب- و ثعلبة بن حاطب و سواد بن غزية- و سعد بن عثمان و عقبة بن عثمان و خارجة بن عمر بلغ ملل- و أوس بن قيظى في نفر من بني حارثة بلغوا الشقرة- و لقيتهم أم أيمن تحثي في وجوههم التراب- و تقول لبعضهم هاك المغزل فاغزل به و هلم- و احتج من قال بفرار عمر بما رواه الواقدي- في كتاب المغازي في قصة الحديبية- قال قال عمر يومئذ يا رسول الله- أ لم تكن حدثتنا أنك ستدخل المسجد الحرام- و تأخذ مفتاح الكعبة و تعرف مع المعرفين- و هدينا لم يصل إلى البيت و لا نحر- فقال رسول الله ص أ قلت لكم في سفركم هذا قال عمر لا- قال أما إنكم ستدخلونه و آخذ مفتاح الكعبة- و أحلق رأسي و رءوسكم ببطن مكة و أعرف مع المعرفين- ثم أقبل على عمر و قال أ نسيتم يوم أحد- إِذْ تُصْعِدُونَ وَ لا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ- و أنا أدعوكم في أخراكم أ نسيتم يوم الأحزاب- إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَ مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ- وَ إِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ- أ نسيتم يوم كذا و جعل يذكرهم أمورا- أ نسيتم يوم كذا- فقال المسلمون صدق الله و صدق رسوله- أنت يا رسول الله أعلم بالله منا- فلما دخل عام القضية و حلق رأسه- قال هذا الذي كنت وعدتكم به- فلما كان يوم الفتح و أخذ مفتاح الكعبة- قال ادعوا إلي عمر بن الخطاب- فجاء فقال هذا الذي كنت قلت لكم- قالوا فلو لم يكن فر يوم أحد- لما قال له أ نسيتم يوم أحد إذ تصعدون و لا تلوون
القول فيما جرى للمسلمين بعد إصعادهم في الجبل
قال الواقدي حدثني موسى بن محمد بن إبراهيم عن أبيه قال- لما صاح الشيطان لعنه الله أن محمدا قد قتل يحزنهم بذلك- تفرقوا في كل وجه- و جعل الناس يمرون على النبي ص لا يلوي عليه أحد منهم- و رسول الله يدعوهم في أخراهم- حتى انتهت هزيمة قوم منهم إلى المهراس- فتوجه رسول الله ص يريد أصحابه في الشعب- فانتهى إلى الشعب و أصحابه في الجبل أوزاع- يذكرون مقتل من قتل منهم- و يذكرون ما جاءهم عن رسول الله ص- قال كعب بن مالك فكنت أول من عرفه و عليه المغفر- فجعلت أصيح و أنا في الشعب- هذا رسول الله ص حي- فجعل يومئ إلي بيده على فيه أي اسكت- ثم دعا بلأمتي فلبسها و نزع لأمته- .
قال الواقدي طلع رسول الله ص على أصحابه- في الشعب بين السعدين-سعد بن عبادة و سعد بن معاذ يتكفأ في الدرع- و كان إذا مشى تكفأ تكفؤا- و يقال إنه كان يتوكأ على طلحة بن عبيد الله- .
قال الواقدي و ما صلى يومئذ الظهر إلا جالسا- للجرح الذي كان أصابه- . قال الواقدي و قد كان طلحة قال له إن بي قوة- فقم لأحملك فحمله- حتى انتهى إلى الصخرة التي على فم شعب الجبل- فلم يزل يحمله حتى رفعه عليها- ثم مضى إلى أصحابه و معه النفر الذين ثبتوا معه- فلما نظر المسلمون إليهم ظنوهم قريشا- فجعلوا يولون في الشعب هاربين منهم- ثم جعل أبو دجانة يليح إليهم- بعمامة حمراء على رأسه- فعرفوه فرجعوا أو بعضهم- .
قال الواقدي روي أنه لما طلع عليهم- في النفر الذين ثبتوا معه و هم أربعة عشر- سبعة من المهاجرين و سبعة من الأنصار- جعلوا يولون في الجبل خائفين منهم يظنونهم المشركين- جعل رسول الله ص يتبسم إلى أبي بكر- و هو على جنبه و يقول له ألح إليهم- فجعل أبو بكر يليح إليهم و هم لا يعرجون- حتى نزع أبو دجانة عصابة حمراء على رأسه- فأوفى على الجبل- فجعل يصيح و يليح فوقفوا حتى عرفوهم- و لقد وضع أبو بردة بن نيار سهما على كبد قوسه- فأراد أن يرمي به رسول الله ص و أصحابه- فلما تكلموا و ناداهم رسول الله ص أمسك- و فرح المسلمون برؤيته- حتى كأنهم لم تصبهم في أنفسهم مصيبة- و سروا لسلامته و سلامتهم من المشركين- .
قال الواقدي ثم إن قوما من قريش صعدوا الجبل- فعلوا على المسلمين و هم في الشعب- قال فكان رافع بن خديج يحدث- فيقول إني يومئذ إلى جنب أبي مسعود الأنصاري- و هو يذكر من قتل من قومه و يسأل عنهم- فيخبر برجال منهم سعد بنالربيع و خارجة بن زهير- و هو يسترجع و يترحم عليهم- و بعض المسلمين يسأل بعضا عن حميمه و ذي رحمه فيهم- يخبر بعضهم بعضا- فبينا هم على ذلك رد الله المشركين ليذهب ذلك الحزن عنهم- فإذا عدوهم فوقهم قد علوا- و إذا كتائب المشركين بالجبل- فنسوا ما كانوا يذكرون- و ندبنا رسول الله ص و حضنا على القتال- و الله لكأني أنظر إلى فلان و فلان- في عرض الجبل يعدوان هاربين قال الواقدي فكان عمر يحدث يقول- لما صاح الشيطان قتل محمد- أقبلت أرقى إلى الجبل فكأني أروية- فانتهيت إلى النبي ص و هو يقول- وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ الآية- و أبو سفيان في سفح الجبل- فقال رسول الله ص يدعو ربه- اللهم ليس لهم أن يعلوا فانكشفوا- .
قال الواقدي فكان أبو أسيد الساعدي يحدث- فيقول لقد رأيتنا قبل أن يلقى النعاس علينا في الشعب- و إنا لسلم لمن أرادنا لما بنا من الحزن- فألقي علينا النعاس فنمنا حتى تناطح الحجف- ثم فزعنا و كانا لم يصبنا قبل ذلك نكبة- قال و قال الزبير بن العوام غشينا النعاس- فما منا رجل إلا و ذقنه في صدره من النوم- فأسمع معتب بن قشير و كان من المنافقين يقول- و إني لكالحالم- لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا- فأنزل الله تعالى فيه ذلك- .
قال و قال أبو اليسر- لقد رأيتني ذلك اليوم- في رجال من قومي إلى جنب رسول الله ص- و قد أنزل الله علينا النعاس أمنة منه- ما منهم رجل إلا يغط غطيطا حتى إن الحجف لتناطح- و لقد رأيت سيف بشر بن البراء بن معرور سقط من يده-و ما يشعر به حتى أخذه بعد ما تثلم- و إن المشركين لتحتنا- و سقط سيف أبي طلحة أيضا- و لم يصب أهل الشك و النفاق نعاس يومئذ- و إنما أصاب النعاس أهل الإيمان و اليقين- فكان المنافقون يتكلم كل منهم بما في نفسه- و المؤمنون ناعسون- .
قلت سألت ابن النجار المحدث عن هذا الموضع- فقلت له من قصة أحد تدل- على أن المسلمين كانت الدولة لهم بادئ الحال- ثم صارت عليهم- و صاح الشيطان قتل محمد فانهزم أكثرهم- ثم ثاب أكثر المنهزمين إلى النبي ص- فحاربوا دونه حربا كثيرة- طالت مدتها حتى صار آخر النهار- ثم أصعدوا في الجبل معتصمين به- و أصعد رسول الله ص معهم- فتحاجز الفريقان حينئذ- و هذا هو الذي يدل عليه تأمل قصة أحد- إلا أن بعض الروايات التي ذكرها الواقدي يقتضي غير ذلك- نحو روايته في هذا الباب- أن رسول الله ص لما صاح الشيطان إن محمدا قد قتل- كان ينادي المسلمين فلا يعرجون عليه- و إنما يصعدون في الجبل- و إنه وجه نحو الجبل- فانتهى إليهم و هم أوزاع يتذاكرون بقتل من قتل منهم- و هذه الرواية تدل على أنه أصعد ص في الجبل- من أول الحرب حيث صاح الشيطان- و صياح الشيطان كان حال كون خالد بن الوليد بالجبل- من وراء المسلمين لما غشيهم- و هم مشتغلون بالنهب و اختلط الناس- فكيف هذا- فقال إن الشيطان صاح قتل محمد دفعتين- دفعة في أول الحرب و دفعة في آخر الحرب- لما تصرم النهار و غشيت الكتائب رسول الله ص- و قد قتل ناصروه و أكلتهم الحرب- فلم يبق معه إلا نفر يسير لا يبلغون عشرة- و هذه كانت أصعب و أشد من الأولى و فيها اعتصم- و ما اعتصم في صرخة الشيطان الأولى بالجبل- بل ثبت و حامى عنه أصحابه- و لقد لقي في الأولى مشقة عظيمة- من ابن قميئة و عتبة بن أبي وقاص و غيرهما-و لكنه لم يفارق عرصة الحرب- و إنما فارقها- و علم أنه لم يبق له وجه مقام في صرخته الثانية- .
قلت له فكان القوم مختلطين في الصرخة الثانية- حتى يصرخ الشيطان قتل محمد- قال نعم المشركون قد أحاطوا بالنبي ص- و بمن بقي معه من أصحابه- فاختلط المسلمون بهم و صاروا مغمورين بينهم- لقلتهم بالنسبة إليهم- و ظن قوم من المشركين أنهم قد قتلوا النبي ص- لأنهم فقدوا وجهه و صورته- فنادى الشيطان قتل محمد- و لم يكن قتل ص- و لكن اشتبهت صورته عليهم و ظنوه غيره- و أكثر من حامى عنه في تلك الحال علي ع- و أبو دجانة و سهل بن حنيف و حامى هو عن نفسه- و جرح قوما بيده تارة بالسهام و تارة بالسيف- و لكن لم يعلموا بأعيانهم لاختلاط القوم و ثوران النقع- و كانت قريش تظنه واحدا من المسلمين- و لو عرفوه بعينه في تلك الثورة لكان الأمر صعبا جدا- و لكن الله تعالى عصمه منهم بأن أزاغ أبصارهم عنه- فلم يزل هؤلاء الثلاثة يجالدون دونه- و هو يقرب من الجبل حتى صار في أعلى الجبل- أصعد من فم الشعب إلى تدريج هناك في الجبل- و رقي في ذلك التدريج صاعدا حتى صار في أعلى الجبل- و تبعه النفر الثلاثة فلحقوا به- . قلت له فما بال القوم الذين صعدوا الجبل من المشركين- و كيف كان إصعادهم و عودهم- .
قال أصعدوا لحرب المسلمين لا لطلب رسول الله ص- لأنهم ظنوا أنه قد قتل- و هذا هو كان السبب في عودهم من الجبل- لأنهم قالوا قد بلغنا الغرضالأصلي و قتلنا محمدا- فما لنا و التصميم على الأوس و الخزرج و غيرهم من أصحابه- مع ما في ذلك من عظم الخطر بالأنفس- قلت له فإذا كان هذا قد خطر لهم- فلما ذا صعدوا في الجبل- .
قال يخطر لك خاطر- و يدعوك داع إلى بعض الحركات- فإذا شرعت فيها خطر لك خاطر آخر يصرفك عنها- فترجع و لا تتمها- قلت نعم فما بالهم لم يقصدوا قصد المدينة و ينهبوها- . قال كان فيها عبد الله بن أبي في ثلاثمائة مقاتل- و فيها خلق كثير من الأوس و الخزرج- لم يحضروا الحرب و هم مسلمون- و طوائف أخر من المنافقين لم يخرجوا- و طوائف أخرى من اليهود أولو بأس و قوة- و لهم بالمدينة عيال و أهل و نساء- و كل هؤلاء كانوا يحامون عن المدينة- و لم تكن قريش تأمن مع ذلك- أن يأتيها رسول الله ص من ورائها بمن يجامعه من أصحابه- فيحصلوا بين الأعداء من خلفهم و من أمامهم- فكان الرأي الأصوب لهم العدول عن المدينة و ترك قصدها- .
قال الواقدي حدثني الضحاك بن عثمان عن حمزة بن سعيد- قال لما تحاجزوا و أراد أبو سفيان الانصراف- أقبل يسير على فرس له حوراء- فوقف على أصحاب النبي ص و هم في عرض الجبل- فنادى بأعلى صوته أعل هبل- ثم صاح أين ابن أبي كبشة يوم بيوم بدر- ألا إن الأيام دول- . و في رواية أنه نادى أبا بكر و عمر أيضا- فقال أين ابن أبي قحافة أين ابن الخطاب- ثم قال الحرب سجال حنظلة بحنظلة- يعنى حنظلة بن أبي عامر بحنظلة بن أبي سفيان- فقال عمر بن الخطاب يا رسول الله أجيبه- قال نعم فأجبه- فلما قال أعل هبل قال عمر الله أعلى و أجل- .
و يروى أن رسول الله ص قال لعمر- قل له الله أعلى و أجل- فقال أبو سفيان إن لنا العزى و لا عزى لكم- فقال عمر أو قال رسول الله ص- قل له الله مولانا و لا مولى لكم- فقال أبو سفيان إنها قد أنعمت- فقال عنها يا ابن الخطاب- فقال سعيد بن أبي سفيان- ألا إن الأيام دول و إن الحرب سجال- فقال عمر و لا سواء- قتلانا في الجنة و قتلاكم في النار- فقال أبو سفيان إنكم لتقولون ذلك لقد جبنا إذا و خسرنا- ثم قال يا ابن الخطاب قم إلي أكلمك فقام إليه- فقال أنشدك بدينك هل قتلنا محمدا قال اللهم لا- و إنه ليسمع كلامك الآن- قال أنت عندي أصدق من ابن قميئة- ثم صاح أبو سفيان و رفع صوته- إنكم واجدون في قتلاكم عنتا و مثلا- إلا أن ذلك لم يكن عن رأي سراتنا- ثم أدركته حمية الجاهلية- فقال و أما إذ كان ذلك فلم نكرهه- ثم نادى ألا إن موعدكم بدر الصفراء على رأس الحول- فوقف عمر وقفة ينتظر ما يقول رسول الله ص- فقال له قل نعم- فانصرف أبو سفيان إلى أصحابه و أخذوا في الرحيل- فأشفق رسول الله ص و المسلمون من أن يغيروا على المدينة- فيهلك الذراري و النساء- فقال رسول الله ص لسعد بن أبي وقاص- اذهب فأتنا بخبر القوم- فإنهم إن ركبوا الإبل و جنبوا الخيل فهو الظعن إلى مكة- و إن ركبوا الخيل و جنبوا الإبل فهو الغارة على المدينة- و الذي نفسي بيده- إن ساروا إليها لأسيرن إليهم ثم لأناجزنهم- قال سعد فتوجهت أسعى- و أرصدت نفسي إن أفرعني شيء- رجعت إلى النبي ص و أنا أسعى- فبدأت بالسعي حين ابتدأت- فخرجت في آثارهم حتى إذا كانوا بالعقيق- و أنا بحيث أراهم و أتأملهم ركبوا الإبل و جنبوا الخيل- فقلت إنه الظعن إلى بلادهم- ثم وقفوا وقفة بالعقيق و تشاوروا في دخول المدينة- فقال لهم صفوان بن أمية قد أصبتم القوم- فانصرفوا و لا تدخلوا عليهم و أنتم كالون و لكم الظفر- فإنكم لا تدرون ما يغشاكم فقد وليتم يوم بدر- لا و الله ما تبعوكم و كان الظفر لهم- فيقال إن رسول الله ص قال نهاهم صفوان- فلما رآهم سعد على تلك الحال منطلقين- و قد دخلوا في المكمن- رجع إلى رسول الله ص و هو كالمنكسر- فقال وجه القوم يا رسول الله إلى مكة- امتطوا الإبل و جنبوا الخيل- فقال ما تقول قلت ما قلت يا رسول الله فخلا بي- فقال أ حقا ما تقول قلت نعم يا رسول الله- قال فما بالي رأيتك منكسرا- فقلت كرهت أن آتي المسلمين فرحا بقفولهم إلى بلادهم- فقال ص إن سعدا لمجرب- .
قال الواقدي و قد روي خلاف هذا- روي أن سعدا لما رجع رفع صوته- بأن جنبوا الخيل و امتطوا الإبل- فجعل رسول الله ص يشير إلى سعد- خفض صوتك فإن الحرب خدعة- فلا ترى الناس مثل هذا الفرح بانصرافهم- فإنما ردهم الله تعالى- .
قال الواقدي و حدثني ابن أبي سبرة عن يحيى بن شبل عن أبي جعفر قال قال رسول الله ص لسعد بن أبي وقاص- إن رأيت القوم يريدون المدينة فأخبرني فيما بيني و بينك- و لا تفت في أعضاد المسلمين- فذهب فرآهم قد امتطوا الإبل فرجع- فما ملك أن جعل يصيح سرورا بانصرافهم- .
قال الواقدي و قيل لعمرو بن العاص- كيف كان افتراق المسلمين و المشركين يوم أحد- فقال ما تريدون إلى ذلك- قد جاء الله بالإسلام و نفي الكفر و أهله- ثم قال لما كررنا عليهم أصبنا من أصبنا منهم- و تفرقوا في كل وجه و فاءت لهم فئة بعد- فتشاورت قريش فقالوا لنا الغلبة فلو انصرفنا- فإنه بلغنا أن ابن أبي انصرف بثلث الناس- و قد تخلف الناس من الأوس و الخزرج- و لا نأمن أن يكروا علينا و فينا جراح- و خيلنا عامتها قد عقرت من النبل فمضينا- فما بلغنا الروحاء حتى قام علينا عدة منها- و انصرفنا إلى مكة- .
قال الواقدي حدثني إسحاق بن يحيى بن طلحة- عن عائشة قال سمعت أبا بكر يقول- لما كان يوم أحد و رمي رسول الله ص في وجهه- حتى دخلت في وجهه حلقتان من المغفر- أقبلت أسعى إلى رسول الله ص- و إنسان قد أقبل من قبل المشرق يطير طيرانا- فقلت اللهم اجعله طلحة بن عبيد الله- حتى توافينا إلى رسول الله ص- فإذا أبو عبيدة بن الجراح فبدرني- فقال أسألك بالله يا أبا بكر إلا تركتني- فأنتزعه من وجه رسول الله ص- قال أبو بكر فتركته- و قال رسول الله ص عليكم صاحبكم يعني طلحة- فأخذ أبو عبيدة بثنيته حلقة المغفر- فنزعها و سقط على ظهره و سقطت ثنية أبي عبيدة- ثم أخذ الحلقة بثنيته الأخرى- فكان أبو عبيدة في الناس أثرم- و يقال إن الذي نزع الحلقتين من وجه رسول الله ص- عقبة بن وهب بن كلدة- و يقال أبو اليسر- . قال الواقدي و أثبت ذلك عندنا عقبة بن وهب بن كلدة- . قال الواقدي و كان أبو سعيد الخدري يحدث- أن رسول الله ص أصيب وجهه يوم أحد- فدخلت الحلقتان من المغفر في وجنتيه- فلما نزعتا جعل الدم يسرب كما يسرب الشن- فجعل مالك بن سنان يمج الدم بفيه ثم ازدرده-فقال رسول الله ص من أحب أن ينظر إلى من خالط دمه بدمي- فلينظر إلى مالك بن سنان- فقيل لمالك تشرب الدم فقال نعم- أشرب دم رسول الله ص-فقال رسول الله ص من مس دمه دمي لم تصبه النار-.
قال الواقدي و قال أبو سعيد- كنا ممن رد من الشيخين لم نجئ مع المقاتلة- فلما كان من النهار بلغنا مصاب رسول الله ص- و تفرق الناس عنه- جئت مع غلمان بني خدرة- نعرض لرسول الله ص ننظر إلى سلامته- فنرجع بذلك إلى أهلنا- فلقينا الناس متفرقين ببطن قناة- فلم يكن لنا همة إلا النبي ص ننظر إليه- فلما رآني قال سعد بن مالك قلت نعم بأبي أنت و أمي- و دنوت منه فقبلت ركبته و هو على فرسه- فقال آجرك الله في أبيك ثم نظرت إلى وجهه- فإذا في وجنتيه مثل موضع الدرهم في كل وجنة- و إذا شجة في جبهته عند أصول الشعر- و إذا شفته السفلى تدمى- و إذا في رباعيته اليمنى شظية- و إذا على جرحه شيء أسود- فسألت ما هذا على وجهه فقالوا حصير محرق- و سألت من أدمى وجنتيه فقيل ابن قميئة- فقلت فمن شجه في وجهه فقيل ابن شهاب- فقلت من أصاب شفتيه قيل عتبة بن أبي وقاص- فجعلت أعدو بين يديه حتى نزل ببابه- ما نزل إلا محمولا- و أرى ركبتيه مجحوشتين يتكئ على السعدين- سعد بن معاذ و سعد بن عبادة حتى دخل بيته- فلما غربت الشمس و أذن بلال بالصلاة- خرج على تلك الحال يتوكأ على السعدين- سعد بن عبادة و سعد بن معاذ- ثم انصرف إلى بيته- و الناس في المسجد يوقدون النيران- يتمكدون بها من الجراح- ثم أذن بلال بالعشاء حين غاب الشفق- فلم يخرج رسول الله ص- فجلس بلال عند بابه ص حتى ذهب ثلث الليل- ثم ناداه الصلاة يا رسول الله فخرج و قد كان نائما- قال فرمقته فإذا هو أخف في مشيته منه حين دخل بيته- فصليت معه العشاء- ثم رجع إلى بيته قد صفف له الرجال- ما بين بيته إلى مصلاه يمشي وحده حتى دخل- و رجعت إلى أهلي فخبرتهم بسلامته فحمدوا الله و ناموا- و كانت وجوه الأوس و الخزرج في المسجد على النبي ص- يحرسونه فرقا من قريش أن تكر- . قال الواقدي و خرجت فاطمة ع في نساء- و قد رأت الذي بوجه أبيها ص فاعتنقته- و جعلت تمسح الدم عن وجهه ورسول الله ص يقول اشتد غضب الله على قوم دموا وجه رسوله- و ذهب علي ع فأتى بماء من المهراس- و قال لفاطمة أمسكي هذا السيف غير ذميم- فنظر إليه رسول الله ص مختضبا بالدم- فقال لئن كنت أحسنت القتال اليوم- فلقد أحسن عاصم بن ثابت- و الحارث بن الصمة و سهل بن حنيف- و سيف أبي دجانة غير مذموم- هكذا روى الواقدي- .
وروى محمد بن إسحاق أن عليا ع قال لفاطمة بيتي شعر- و هما
أ فاطم هاء السيف غير ذميم
فلست برعد يد و لا بلئيم
لعمري لقد جاهدت في نصر أحمد
و طاعة رب بالعباد رحيم
فقال رسول الله ص- لئن كنت صدقت القتال اليوم- لقد صدق معك سماك بن خرشة و سهل بن حنيف- .
قال الواقدي فلما أحضر علي ع الماء- أراد رسول الله ص أن يشرب منه فلم يستطع- و قد كان عطشا و وجد ريحا من الماء كرهها- فقال هذا ماء آجن- فتمضمض منه للدم الذي كان بفيه ثم مجه- و غسلت فاطمة به الدم عن أبيها ص- فخرج محمد بن مسلمة يطب مع النساء- و كن أربع عشرة امرأة- قد جئن من المدينة يتلقين الناس منهن فاطمة ع- يحملن الطعام و الشراب على ظهورهن- و يسقين الجرحى و يداوينهم- .
قال الواقدي قال كعب بن مالك- رأيت عائشة و أم سليم على ظهورهما القرب- تحملانها يوم أحد- و كانت حمنة بنت جحش تسقي العطشى و تداوي الجرحى- فلم يجد محمد بن مسلمة عندهن ماء- و رسول الله ص قد اشتد عطشه- فذهب محمد بن مسلمة إلى قناة و معه سقاؤه- حتى استقى من حسى قناة عند قصور التميميين اليوم- فجاء بماء عذب فشرب منه رسول الله ص و دعا له بخير- و جعل الدم لا ينقطع من وجهه ع- و هو يقول لن ينالوا منا مثلها حتى نستلم الركن- فلما رأت فاطمة الدم لا يرقأ و هي تغسل جراحه- و علي يصب الماء عليها بالمجن- أخذت قطعة حصير فأحرقته حتى صار رمادا- ثم ألصقته بالجرح فاستمسك الدم- و يقال إنها داوته بصوفة محرقة- و كان رسول الله ص بعد يداوي الجراح الذي في وجهه- بعظم بال حتى ذهب أثره- و لقد مكث يجد وهن ضربة ابن قميئة- على عاتقه شهرا أو أكثر من شهر- و يداوي الأثر الذي في وجهه بعظم- .
قال الواقدي و قال رسول الله ص- قبل أن ينصرف إلى المدينة من يأتينا بخبر سعد بن الربيع- فإني رأيته و أشار بيده إلى ناحية من الوادي- قد شرع فيه اثنا عشر سنانا- فخرج محمد بن مسلمة- و يقال أبي بن كعب نحو تلك الناحية- قال فأنا وسط القتلى لتعرفهم- إذ مررت به صريعا في الوادي فناديته فلم يجب- ثم قلت إن رسول الله ص أرسلني إليك- قال فتنفس كما يتنفس الطير- ثم قالو إن رسول الله ص لحي قلت نعم- و قد أخبرنا أنه شرع لك اثنا عشر سنانا- فقال طعنت اثنتي عشرة طعنة كلها أجافتني- أبلغ قومك الأنصار السلام- و قل لهم الله الله- و ما عاهدتم عليه رسول الله ص ليلة العقبة- و الله ما لكم عذر عند الله- إن خلص إلى نبيكم و منكم عين تطرف- فلم أرم من عنده حتى مات- فرجعت إلى النبي ص فأخبرته- فرأيته استقبل القبلة رافعا يديه يقول- اللهم الق سعد بن الربيع و أنت عنه راض- .
قال الواقدي- و خرجت السمداء بنت قيس إحدى نساء بني دينار- و قد أصيب ابناها مع النبي ص بأحد- النعمان بن عبد عمر و سليم بن الحارث- فلما نعيا لها قالت- فما فعل رسول الله ص قالوا بخير- هو بحمد الله صالح على ما تحبين- فقالت أرونيه أنظر إليه فأشاروا لها إليه- فقالت كل مصيبة بعدك يا رسول الله جلل- و خرجت تسوق بابنيها بعيرا تردهما إلى المدينة- فلقيتها عائشة فقالت ما وراءك فأخبرتها- قالت فمن هؤلاء معك قالت ابناي- حل حل تحملهما إلى القبر- .
قال الواقدي- و كان حمزة بن عبد المطلب أول من جيء به إلى النبي ص- بعد انصراف قريش أو كان من أولهم- فصلى عليه رسول الله ص- ثم قال رأيت الملائكة تغسله- قالوا لأن حمزة كان جنبا ذلك اليوم- و لم يغسل رسول الله ص الشهداء يومئذ- و قال لفوهم بدمائهم و جراحهم- فإنه ليس أحد يجرح في سبيل الله- إلا جاء يوم القيامة لون جرحه لون الدم- و ريحه ريح المسك- ثم قال ضعوهم فأنا الشهيد على هؤلاء يوم القيامة- و كان حمزة أول من كبر عليه أربعا- ثم جمع إليه الشهداء- فكان كلما أتي بشهيد- وضع إلى جنب حمزة فصلى عليه و على الشهيد- حتى صلى عليه سبعين مرة لأن الشهداء سبعون- .
قال الواقدي و يقال كان يؤتى بتسعة و حمزة عاشرهم- فيصلي عليهم و ترفع التسعة و يترك حمزة مكانه- و يؤتى بتسعة آخرين- فيوضعون إلى جنب حمزة فيصلي عليه و عليهم- حتى فعل ذلك سبع مرات- و يقال إنه كبر عليه خمسا و سبعا و تسعا- . قال الواقدي و قد اختلفت الرواية في هذا- و كان طلحة بن عبيد الله و ابن عباس- و جابر بن عبد الله يقولون- صلى رسول الله ص على قتلى أحد- و قال أنا شهيد على هؤلاء- فقال أبو بكر أ لسنا إخوانهم أسلمنا كما أسلموا- و جاهدنا كما جاهدوا قال بلى- و لكن هؤلاء لم يأكلوا من أجورهم شيئا- و لا أدري ما تحدثون بعدي- فبكى أبو بكر و قال إنا لكائنون بعدك- .
و قال أنس بن مالك و سعيد بن المسيب- لم يصل رسول الله ص على قتلى أحد- . قال الواقدي و قال لأهل القتلى- احفروا و أوسعوا و أحسنوا- و ادفنوا الاثنين و الثلاثة في القبر- و قدموا أكثرهم قرآنا- و أمر بحمزة أن تمد بردته عليه و هو في القبر و كانت قصيرة- فكانوا إذا خمروا بها رأسه بدت رجلاه- و إذا خمروا بها رجليه انكشف وجهه- فبكى المسلمون يومئذ- فقالوا يا رسول الله عم رسول الله يقتل فلا يوجد له ثوب- فقال بلى إنكم بأرض جردية ذات أحجار- و ستفتح يعني الأرياف و الأمصار- فيخرج الناس إليها ثم يبعثون إلى أهليهم- و المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون-و الذي نفسي بيده- لا تصبر نفس على لأوائها و شدتها إلا كنت لها شفيعا- أو قال شهيدا يوم القيامة- . قال الواقدي- و أتى عبد الرحمن بن عوف في خلافة عثمان بثياب و طعام- فقال و لكن حمزة لم يوجد له كفن- و مصعب بن عمير لم يوجد له كفن و كانا خيرا مني- .
قال الواقدي و مر رسول الله ص بمصعب بن عمير- و هو مقتول مسجى ببردة خلق- فقال لقد رأيتك بمكة- و ما بها أحد أرق حلة و لا أحسن لمة منك- ثم أنت اليوم أشعث الرأس في هذه البردة- ثم أمر به فقبر- و نزل في قبره أخوه أبو الروم و عامر بن ربيعة- و سويبطة بن عمرو بن حرملة- و نزل في قبر حمزة علي ع و الزبير و أبو بكر و عمر- و رسول الله ص جالس على حفرته- .
قال الواقدي- ثم إن الناس أو عامتهم حملوا قتلاهم إلى المدينة- فدفن بالبقيع منهم عدة- عند دار زيد بن ثابت- و دفن بعضهم ببني سلمة- فنادى منادي رسول الله ص ردوا القتلى إلى مضاجعهم- و كان الناس قد دفنوا قتلاهم- فلم يرد أحد أحدا منهم- إلا رجلا واحدا أدركه المنادي و لم يدفن- و هو شماس بن عثمان المخزومي- كان قد حمل إلى المدينة و به رمق- فأدخل على عائشة فقالت أم سلمة ابن عمي يدخل إلى غيري- فقال رسول الله ص احملوه إلى أم سلمة- فحملوه إليها فمات عندها- فأمر رسول الله ص أن يرد إلى أحد فيدفن هناك- كما هو في ثيابه التي مات فيها- و كان قد مكث يوما و ليلة و لم يذق شيئا- فلم يصل عليه رسول الله ص و لا غسله- .
قال الواقدي فأما القبور المجتمعة هناك- فكثير من الناس يظنها قبور قتلى أحد- و كان طلحة بن عبيد الله و عباد بن تميم المازني يقولان- هي قبور قوم من الأعراب- كانواعام الرمادة في عهد عمر هناك- فماتوا فتلك قبورهم- و كان ابن أبي ذئب و عبد العزيز بن محمد يقولان- لا نعرف تلك القبور المجتمعة- إنما هي قبور ناس من أهل البادية- قالوا إنا نعرف قبر حمزة- و قبر عبد الله بن حزام و قبر سهل بن قيس- و لا نعرف غير ذلك- .
قال الواقدي- و كان رسول الله ص يزور قتلى أحد في كل حول- و إذا لقوه بالشعب رفع صوته يقول- السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار- و كان أبو بكر يفعل مثل ذلك- و كذلك عمر بن الخطاب ثم عثمان ثم معاوية- حين يمر حاجا و معتمرا- . قال و كانت فاطمة بنت رسول الله ص تأتيهم- بين اليومين و الثلاثة فتبكي عندهم و تدعو- و كان سعد بن أبي وقاص يذهب إلى ما له بالغابة- فيأتي من خلف قبور الشهداء- فيقول السلام عليكم ثلاثا- و يقول لا يسلم عليهم أحد- إلا ردوا عليه السلام إلى يوم القيامة- قال و مر رسول الله ص على قبر مصعب بن عمير- فوقف عليه و دعا و قرأ- مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ- فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ- وَ ما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا- ثم قال إن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة- فأتوهم فزوروهم و سلموا عليهم- و الذي نفسي بيده لا يسلم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا ردوا عليه- و كان أبو سعيد الخدري يقف على قبر حمزة- فيدعو و يقرأ و يقول مثل ذلك- و كانت أم سلمة رحمها الله تذهب- فتسلم عليهم في كل شهر فتظل يومها- فجاءت يوما و معها غلامها أنبهان فلم يسلم- فقالت أي لكع أ لا تسلم عليهم- و الله لا يسلم عليهم أحد إلا ردوا عليه إلى يوم القيامة- .
قال و كان أبو هريرة و عبد الله بن عمر يذهبان- فيسلمان عليهم- قالت فاطمة الخزاعية سلمت على قبر حمزة يوما- و معي أخت لي فسمعنا من القبر قائلا يقول- و عليكما السلام و رحمه الله- قالت و لم يكن قربنا أحد من الناس قال الواقدي فلما فرغ رسول الله ص من دفنهم- دعا بفرسه فركبه- و خرج المسلمون حوله عامتهم جرحى- و لا مثل بني سلمة و بني عبد الأشهل- فلما كانوا بأصل الحرة قال اصطفوا- فاصطفت الرجال صفين- و خلفهم النساء و عدتهن أربع عشرة امرأة- فرفع يديه فدعا فقال- اللهم لك الحمد كله- اللهم لا قابض لما بسطت و لا مانع لما أعطيت- و لا معطي لما منعت و لا هادي لمن أضللت- و لا مضل لمن هديت و لا مقرب لما باعدت- و لا مباعد لما قربت- اللهم إني أسألك من بركتك و رحمتك و فضلك و عافيتك- اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول و لا يزول- اللهم إني أسألك الأمن يوم الخوف- و الغناء يوم الفاقة عائذا بك- اللهم من شر ما أعطيت و من شر ما منعت- اللهم توفنا مسلمين- اللهم حبب إلينا الإيمان و زينه في قلوبنا- و كره إلينا الكفر و الفسوق و العصيان- و اجعلنا من الراشدين- اللهم عذب كفرة أهل الكتاب- الذين يكذبون رسلك و يصدون عن سبيلك- اللهم أنزل عليهم رجسك و عذابك إله الحق آمين- .
قال الواقدي و أقبل حتى نزل ببني حارثة يمينا- حتى طلع على بني عبد الأشهل و هم يبكون على قتلاهم- فقال لكن حمزة لا بواكي له- فخرج النساء ينظرن إلى سلامة رسول الله ص- فخرجت إليه أم عامر الأشهلية و تركت النوح- فنظرت إليه و عليه الدرع كما هي- فقالت كل مصيبة بعدك جلل- و خرجت كبشة بنت عتبة بن معاوية بن بلحارث بن الخزرج- تعدو نحو رسول الله ص و هو واقف على فرسه- و سعد بن معاذ آخذ بعنان فرسه- فقال سعد يا رسول الله أمي- فقال مرحبا بها فدنت حتى تأملته- و قالت إذ رأيتك سالما فقد شفت المصيبة- فعزاها بعمرو بن معاذ- ثم قال يا أم سعد أبشري و بشري أهليهم- أن قتلاهم قد ترافقوا في الجنة جميعا- و هم اثنا عشر رجلا- و قد شفعوا في أهليهم- فقالت رضينا يا رسول الله- و من يبكي عليهم بعد هذا- ثم قالت يا رسول الله ادع لمن خلفوا- فقال اللهم أذهب حزن قلوبهم و آجر مصيبتهم- و أحسن الخلف على من خلفوا- ثم قال لسعد بن معاذ حل أبا عمرو الدابة- فحل الفرس و تبعه الناس- فقال يا أبا عمرو إن الجراح في أهل دارك فاشية- و ليس منهم مجروح إلا يأتي يوم القيامة- جرحه كأغزر ما كان- اللون لون دم و الريح ريح مسك- فمن كان مجروحا فليقر في داره و ليداو جرحه و لا تبلغ معي بيتي عزمة مني- فنادى فيهم سعد عزمة من رسول الله ص- ألا يتبعه جريح من بني عبد الأشهل- فتخلف كل مجروح- و باتوا يوقدون النيران و يداوون الجراح- و إن فيهم لثلاثين جريحا- و مضى سعد بن معاذ مع رسول الله ص إلى بيته- ثم رجع إلى نسائه فساقهن- فلم تبق امرأة إلا جاء بها إلى بيت رسول الله ص- فبكين بين المغرب و العشاء- و قام رسول الله ص حين فرغ من النوم لثلث الليل- فسمع البكاء فقال ما هذا- قيل نساء الأنصار يبكين على حمزة- فقال رضي الله تعالى عنكن و عن أولادكن- و أمر النساء أن يرجعن إلى منازلهن- قالت أم سعد بن معاذ- فرجعنا إلى بيوتنا بعد ليل و معنا رجالنا- فما بكت منا امرأة قط- إلا بدأت بحمزة إلى يومنا هذا- و يقال إن معاذ بن جبل جاء بنساء بني سلمة- و جاء عبد الله بن رواحة بنساء بلحارث بن الخزرج- فقال رسول الله ص ما أردت هذا- و نهاهن الغد عن النوح أشد النهي- .
قال الواقدي و جعل ابن أبي و المنافقون معه يشمتون- و يسرون بما أصاب المسلمين- و يظهرون أقبح القول- و رجع عبد الله بن أبي إلى ابنه و هو جريح- فبات يكوي الجراحة بالنار- حتى ذهب عامة الليل و أبوه يقول- ما كان خروجك مع محمد إلى هذاالوجه برأيي- عصاني محمد و أطاع الولدان- و الله لكأني كنت أنظر إلى هذا- فقال ابنه الذي صنع الله لرسوله و للمسلمين خير إن شاء الله- قال و أظهرت اليهود القول السيئ- و قالوا ما محمد إلا طالب ملك- ما أصيب هكذا نبي قط في بدنه و أصيب في أصحابه- و جعل المنافقون يخذلون عن رسول الله ص و أصحابه- و يأمرونهم بالتفرق عنه- و قالوا لأصحاب النبي ص- لو كان من قتل منكم عندنا ما قتل- حتى سمع عمر بن الخطاب ذلك في أماكن- فمشى إلى رسول الله ص- يستأذنه في قتل من سمع ذلك منهم من اليهود و المنافقين- فقال له يا عمر إن الله مظهر دينه و معز نبيه- و لليهود ذمة فلا أقتلهم- قال فهؤلاء المنافقون يا رسول الله يقولون- فقال أ ليس يظهرون شهادة أن لا إله إلا الله- و أني رسول الله قال بلى- و إنما يفعلون تعوذا من السيف- و قد بان لنا أمرهم- و أبدى الله أضغانهم عند هذه النكبة- فقال إني نهيت عن قتل من قال لا إله إلا الله- محمد رسول الله- يا ابن الخطاب إن قريشا لن ينالوا ما نالوا منا مثل هذا اليوم- حتى نستلم الركن- .
وروى ابن عباس أن النبي ص قال إخوانكم لما أصيبوا بأحد- جعلت أرواحهم في أجواف طير خضر- ترد أنهار الجنة فتأكل من ثمارها- و تأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش- فلما وجدوا طيب مطعمهم و مشربهم- و رأوا حسن منقلبهم قالوا- ليت إخواننا يعلمون بما أكرمنا الله و بما نحن فيه- لئلا يزهدوا في الجهاد و يكلوا عند الحرب- فقال لهم الله تعالى أنا أبلغهم عنكم- فأنزل وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً- بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ
القول فيما جرى للمشركين بعد انصرافهم إلى مكة
قال الواقدي- حدثني موسى بن شيبة عن قطن بن وهيب الليثي- قال لما تحاجز الفريقان و وجه قريش إلى مكة- و امتطوا الإبل و جنبوا الخيل- سار وحشي عبد جبير بن مطعم على راحلته أربعا- فقدم مكة يبشر قريشا بمصاب المسلمين- فانتهى إلى الثنية التي تطلع على الحجون- فنادى بأعلى صوته يا معشر قريش مرارا- حتى ثاب الناس إليه و هم خائفون- أن يأتيهم بما يكرهون- فلما رضي منهم قال أبشروا- فقد قتلنا من أصحاب محمد مقتلة- لم نقتل مثلها في زحف قط- و جرحنا محمدا فأثبتناه بالجراح- و قتلنا رأس الكتيبة حمزة بن عبد المطلب- فتفرق الناس عنه في كل وجه- بالشماتة بقتل أصحاب النبي ص و إظهار السرور- و خلا جبير بن مطعم بوحشي- فقال أنظر ما تقول قال وحشي قد و الله صدقت- قال قتلت حمزة قال إي و الله- و لقد زرقته بالمزراق في بطنه فخرج من بين فخذيه- ثم نودي فلم يجب- فأخذت كبده و حملتها إليك لتراها- فقال أذهبت حزن نسائنا و بردت حر قلوبنا- فأمر يومئذ نساءه بمراجعة الطيب و الدهن- .
قال الواقدي- و قد كان عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة المخزومي- لما انكشف المشركون بأحد في أول الأمر- خرج هاربا على وجهه و كره أن يقدم مكة- فقدم الطائف- فأخبر ثقيفا أن أصحاب محمد قد ظفروا و انهزمنا- و كنت أول من قدم عليكم- ثم جاءهم الخبر بعد أن قريشا ظفرت و عادت الدولة لها- .
قال الواقدي- فسارت قريش قافلة إلى مكة فدخلتها ظافرة- فكان ما دخل على قلوبهم من السرور يومئذ- نظير ما دخل عليهم من الكئابة و الحزن يوم بدر- و كان ما دخل على قلوب المسلمين من الغيظ و الحزن يومئذ- نظير ما دخل عليهم من السرور و الجذل يوم بدر- كما قال الله تعالى وَ تِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ- و قال سبحانه أَ وَ لَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها- قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ- قال يعني إنكم يوم بدر قتلتم من قريش سبعين- و أسرتم سبعين- و أما يوم أحد فقتل منكم سبعون- و لم يؤسر منكم أحد- فقد أصبتم قريشا بمثلي ما أصابوكم يوم أحد- و قوله أَنَّى هذا أي كيف هذا- و نحن موعودون بالنصر و نزول الملائكة- و فينا نبي ينزل عليه الوحي من السماء- فقال لهم في الجواب هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ- يعني الرماة الذين خالفوا الأمر و عصوا الرسول- و إنما كان النصر و نزول الملائكة مشروطا بالطاعة- و إلا يعصى أمر الرسول- أ لا ترى إلى قوله بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا- وَ يَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ- بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ- فعلقه على الشرط
القول في مقتل أبي عزة الجمحي و معاوية بن المغيرة بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس
قال الواقدي أما أبو عزة- و اسمه عمرو بن عبد الله بن عمير بن وهب بن حذافة بن جمح- فإن رسول الله ص أخذه أسيرا يوم أحد- و لم يؤخذ يوم أحد أسير غيره- فقال يا محمد من علي-فقال رسول الله ص إن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين- لا ترجع إلى مكة تمسح عارضيك- فتقول سخرت بمحمد مرتين- ثم أمر عاصم بن ثابت فضرب عنقه- .
قال الواقدي و قد سمعنا في أسره غير هذا- حدثني بكير بن مسمار قال- لما انصرف المشركون عن أحد- نزلوا بحمراء الأسد في أول الليل ساعة- ثم رحلوا و تركوا أبا عزة مكانه حتى ارتفع النهار- فلحقه المسلمون و هو مستنبه يتلدد- و كان الذي أخذه عاصم بن ثابت- فأمره النبي ص فضرب عنقه- . قلت و هذه الرواية هي الصحيحة عندي- لأن المسلمين لم تكن حالهم يوم أحد- حال من يتهيأ له أسر أحد من المشركين في المعركة- لما أصابهم من الوهن- .
فأما معاوية بن المغيرة فروى البلاذري- أنه هو الذي جدع أنف حمزة و مثل به- و أنه انهزم يوم أحد فمضى على وجهه- فبات قريبا من المدينة- فلما أصبح دخل المدينة فأتى منزل عثمان بن عفان بن أبي العاص- و هو ابن عمه لحا فضرب بابه فقالت أم كلثوم زوجته- و هي ابنة رسول الله ص ليس هو هاهنا- فقال ابعثي إليه- فإن له عندي ثمن بعير ابتعته منه عام أول- و قد جئته به فإن لم يجئ ذهبت فأرسلت إليه- و هو عند رسول الله ص- فلما جاء قال لمعاوية أهلكتني- و أهلكت نفسك ما جاء بك- قال يا ابن عم لم يكن أحد أقرب إلي- و لا أمس رحما بي منك فجئتك لتجيرني- فادخله عثمان داره و صيره في ناحية منها- ثم خرج إلى النبي ص ليأخذ له منه أمانا- فسمع رسول الله ص يقول- إن معاوية في المدينة و قد أصبح بها فاطلبوه- فقال بعضهم ما كان ليعدو منزل عثمان فاطلبوه به- فدخلوا منزل عثمان- فأشارت أم كلثوم إلى الموضع الذي صيره فيه- فاستخرجوه من تحت خمارة لهم- فانطلقوا به إلى النبي ص- فقال عثمان حين رآه- و الذي بعثك بالحق ما جئت إلا لأطلب له الأمان- فهبه لي فوهبه له و أجله ثلاثا- و أقسم لئن وجده بعدها- يمشي في أرض المدينة و ما حولها ليقتلنه- و خرج عثمان فجهزه و اشترى له بعيرا- ثم قال ارتحل و سار رسول الله ص إلى حمراء الأسد- و أقام معاوية إلى اليوم الثالث- ليعرف أخبار النبي ص و يأتي بها قريشا- فلما كان في اليوم الرابع قال رسول الله ص- إن معاوية أصبح قريبا لم ينفذ فاطلبوه- فأصابوه و قد أخطأ الطريق فأدركوه- و كان اللذان أسرعا في طلبه زيد بن حارثة و عمار بن ياسر- فوجداه بالجماء فضربه زيد بالسيف- و قال عمار إن لي فيه حقا فرمياه بسهم فقتلاه- ثم انصرفا إلى المدينة بخبره- و يقال إنه أدرك على ثمانية أميال من المدينة- فلم يزل زيد و عمار يرميانه بالنبل حتى مات- . قال و معاوية هذا أبو عائشة بنت معاوية- أم عبد الملك بن مروان- .
قال و ذكر الواقدي في كتابه مثل هذه الرواية سواء- . قال البلاذري و قال ابن الكلبي- إن معاوية بن المغيرة جدع أنف حمزة يوم أحد و هو قتيل- فأخذ بقرب أحد- فقتل على أحد بعد انصراف قريش بثلاث- و لا عقب له إلا عائشة أم عبد الملك بن مروان- قال و يقال إن عليا ع هو الذي قتل معاوية بن المغيرة- .
قلت و رواية ابن الكلبي عندي أصح- لأن هزيمة المشركين كانت في الصدمة الأولى- عقيب قتل بني عبد الدار أصحاب الألوية- و كان قتل حمزة بعد ذلك- لما كر خالد بن الوليد الخيل من وراء المسلمين- فاختلطوا و انتقض صفهم- و قتل بعضهم بعضا- فكيف يصح إن يجتمع لمعاوية كونه قد جدع أنف حمزة- و كونه قد انهزم مع المشركين في الصدمة الأولى- هذا متناقض- لأنه إذا كان قد انهزم في أول الحرب- استحال أن يكون حاضرا عند حمزة حين قتل- و الصحيح ما ذكره ابن الكلبي من أنه شهد الحرب كلها- و جدع أنف حمزة- ثم حصل في أيدي المسلمين بعد انصراف قريش- لأنه تأخر عنهم لعارض عرض له فأدركه حينه فقتل
القول في مقتل المجذر بن زياد البلوي و الحارث بن يزيد بن الصامت
قال الواقدي- كان المجذر بن زياد البلوي حليف بني عوف بن الخزرج- ممن شهد بدرا مع رسول الله ص- و كانت له قصة في الجاهلية قبل قدوم النبي ص المدينة- و ذلك أن حضير الكتائب والد أسيد بن حضير- جاء إلى بني عمرو بن عوف- فكلم سويد بن الصامت و خوات بن جبير- و أبا لبابة بن عبد المنذر و يقال سهل بن حنيف- فقال هل لكم إن تزوروني فأسقيكم شرابا و أنحر لكم- و تقيمون عندي أياما قالوا نعم- نحن نأتيك يوم كذا- فلما كان ذلك اليوم جاءوه فنحر لهم جزورا و سقاهم خمرا- و أقاموا عنده ثلاثة أيام حتى تغير اللحم- و كان سويد بن الصامت يومئذ شيخا كبيرا- فلما مضت الأيام الثلاثة قالوا- ما نرانا إلا راجعين إلى أهلنا- فقال حضير ما أحببتم- إن أحببتم فأقيموا و إن أحببتم فانصرفوا- فخرج الفتيان بسويد بن الصامت- يحملانه على جمل من الثمل- فمروا لاصقين بالحرة- حتى كانوا قريبا من بني عيينة- فجلس سويد يبول و هو ثمل سكرا- فبصر به إنسان من الخزرج- فخرج حتى أتى المجذر بن زياد- فقال هل لك في الغنيمة الباردة- قال ما هي قال سويد بن الصامت- أعزل لا سلاح معه ثمل- فخرج المجذر بن زياد بالسيف مصلتا- فلما رآه الفتيان و هما أعزلان لا سلاح معهما وليا- و العداوة بين الأوس و الخزرج شديدة- فانصرفا مسرعين و ثبت الشيخ و لا حراك به- فوقف المجذر بن زياد فقال قد أمكن الله منك- قال ما تريد بي قال قتلك- قال فارفع عن الطعام و اخفض عن الدماغ- فإذا رجعت إلى أمك فقل إني قتلت سويد بن الصامت فقتله- فكان قتله هو الذي هيج وقعة بعاث- فلما قدم رسول الله ص المدينة- أسلم الحارث بن سويد بن الصامت- و أسلم المجذر فشهدا بدرا- فجعل الحارث بن سويد يطلب المجذر في المعركة ليقتله بأبيه- فلا يقدر عليه يومئذ- فلما كان يوم أحد و جال المسلمون تلك الجولة- أتاه الحارث من خلفه فضرب عنقه- فرجع رسول الله ص إلى المدينة- ثم خرج إلى حمراء الأسد- فلما رجع من حمراء الأسد أتاه جبرائيل ع- فأخبره أن الحارث بن سويد قتل المجذر غيلة و أمره بقتله- فركب رسول الله ص إلى قباء- في اليوم الذي أخبره جبرائيل في يوم حار- و كان ذلك يوما لا يركب فيه رسول الله ص إلى قباء- إنما كانت الأيام التي يأتي فيها رسول الله ص قباء- يوم السبت و يوم الإثنين- فلما دخل رسول الله ص مسجد قباء صلى فيه ما شاء الله أن يصلي- و سمعت الأنصار فجاءوا يسلمون عليه- و أنكروا إتيانه تلك الساعة في ذلك اليوم- فجلس ع يتحدث و يتصفح الناس- حتى طلع الحارث بن سويد في ملحفة مورسة- فلما رآه رسول الله ص دعا عويم بن ساعدة- فقال له قدم الحارث بن سويد إلى باب المسجد- فاضرب عنقه بمجذر بن زياد- فإنه قتله يوم أحد فأخذه عويم- فقال الحارث دعني أكلم رسول الله- و رسول الله ص يريد أن يركب- و دعا بحماره إلى باب المسجد- فجعل الحارث يقول قد و الله قتلته يا رسول الله- و ما كان قتلي إياه رجوعا عن الإسلام و لا ارتيابا فيه- و لكنه حمية الشيطان و أمر وكلت فيه إلى نفسي- و إني أتوب إلى الله و إلى رسوله مما عملت- و أخرج ديته و أصوم شهرين متتابعين- و أعتق رقبة و أطعم ستين مسكينا- إني أتوب إلى الله يا رسول الله- و جعل يمسك بركاب رسول الله ص و بنو المجذر حضور- لا يقول لهم رسول الله ص شيئا- حتى إذا استوعب كلامه- قال قدمه يا عويم فاضرب عنقه- و ركب رسول الله ص- فقدمه عويم بن ساعدة على باب المسجد فضرب عنقه- .
قال الواقدي- و يقال إن الذي أعلم رسول الله- قتل الحارث المجذر يوم أحد حبيب بن يساف- نظر إليه حين قتله- فجاء إلى النبي ص فأخبره- فركب رسول الله ص يتفحص عن هذا الأمر- فبينا هو على حماره نزل جبرائيل ع فخبره بذلك- فأمر رسول الله ص عويما فضرب عنقه- ففي ذلك قال حسان
يا حار في سنة من نوم أولكم
أم كنت ويحك مغترا بجبريل
فأما البلاذري فإنه ذكر هذا- و قال و يقال إن الجلاس بن سويد بن الصامت- هو الذي قتل المجذر يوم أحد غيلة- إلا أن شعر حسان يدل على أنه الحارث- . قال الواقدي و البلاذري- و كان سويد بن الصامت حين ضربه المجذر بقي قليلا ثم مات- فقال قبل أن يموت يخاطب أولاده-
أبلغ جلاسا و عبد الله مالكه
و إن دعيت فلا تخذلهما حار
اقتل جذارة إذ ما كنت لاقيهم
و الحي عوفا على عرف و إنكار
قال البلاذري جذرة و جذارة أخوان- و هما ابنا عوف بن الحارث بن الخزرج- . قلت هذه الروايات كما ترى- و قد ذكر ابن ماكولا في الإكمال- أن الحارث بن سويد قتل المجذر غيلة يوم أحد- ثم التحق بمكة كافرا- ذكره في حرف الميم من هذا الكتاب- و هذا هو الأشبه عندي
القول فيمن مات من المسلمين بأحد جملة
قال الواقدي ذكر سعيد بن المسيب و أبو سعيد الخدري- أنه قتل من الأنصار خاصة أحد و سبعون- و بمثله قال مجاهد- . قال فأربعة من قريش- و هم حمزة بن عبد المطلب قتله وحشي- و عبد الله بن جحش بن رئاب- قتله أبو الحكم بن الأخنس بن شريق- و شماس بن عثمان بن الشريد من بني مخزوم- قتله أبي بن خلف- و مصعب بن عمير قتله ابن قميئة- . قال و قد زاد قوم خامسا- و هو سعد مولى حاطب من بني أسد بن عبد العزى- و قال قوم أيضا- إن أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي جرح يوم أحد- و مات من تلك الجراحة بعد أيام- . قال الواقدي و قال قوم- قتل ابنا الهبيب من بني سعد بن ليث- و هما عبد اللهو عبد الرحمن- و رجلان من بني مزينة- و هما وهب بن قابوس- و ابن أخيه الحارث بن عتبة بن قابوس- فيكون جميع من قتل من المسلمين ذلك اليوم نحو أحد و ثمانين رجلا- فأما تفصيل أسماء الأنصار فمذكور في كتب المحدثين- و ليس هذا الموضع مكان ذكره
القول فيمن قتل من المشركين بأحد
قال الواقدي- قتل من بني عبد الدار طلحة بن أبي طلحة- صاحب لواء قريش- قتله علي بن أبي طالب ع مبارزة- و عثمان بن أبي طلحة قتله حمزة بن عبد المطلب- و أبو سعيد بن أبي طلحة قتله سعد بن أبي وقاص- و مسافع بن طلحة بن أبي طلحة- قتله عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح- و كلاب بن طلحة بن أبي طلحة- قتله الزبير بن العوام- و الحارث بن طلحة بن أبي طلحة قتله عاصم بن ثابت- و الجلاس بن طلحة بن أبي طلحة قتله طلحة بن عبيد الله- و أرطاة بن عبد شرحبيل قتله علي بن أبي طالب ع- و قارظ بن شريح بن عثمان بن عبد الدار- و يروى قاسط بالسين و الطاء المهملتين- قال الواقدي لا يدرى من قتله- و قال البلاذري قتله علي بن أبي طالب ع- و صواب مولاهم قتله علي بن أبي طالب ع- و قيل قتله قزمان- و أبو عزيز بن عمير أخو مصعب بن عمير قتله قزمان- فهؤلاء أحد عشر- . و من بني أسد بن عبد العزى عبد الله- بن حميد بن زهير بن الحارث بن أسد- قتله أبو دجانة في رواية الواقدي- و في رواية محمد بن إسحاق قتله علي بن أبي طالب ع- و قال البلاذري قال ابن الكلبي- إن عبد الله بن حميد قتل يوم بدر-و من بني زهرة أبو الحكم بن الأخنس بن شريق- قتله علي بن أبي طالب ع- و سباع بن عبد العزى الخزاعي- و اسم عبد العزى عمر بن نضله بن عباس بن سليم- و هو ابن أم أنمار الحجامة بمكة قتله حمزة بن عبد المطلب- فهذان رجلان- .
و من بني مخزوم أمية بن أبي حذيفة بن المغيرة- قتله علي ع- و هشام بن أبي أمية بن المغيرة قتله قزمان- و الوليد بن العاص بن هشام قتله قزمان- و خالد بن أعلم العقيلي قتله قزمان- و عثمان بن عبد الله بن المغيرة قتله الحارث بن الصمة- فهؤلاء خمسة- . و من بني عامر بن لؤي عبيد بن حاجز قتله أبو دجانة- و شيبة بن مالك بن المضرب قتله طلحة بن عبيد الله- و هذان اثنان- . و من بني جمح أبي بن خلف قتله رسول الله ص بيده- و أبو عزة قتله عاصم بن ثابت صبرا- بأمر رسول الله ص- فهذان اثنان- . و من بني عبد مناة بن كنانة خالد بن سفيان بن عويف- و أبو الشعثاء بن سفيان بن عويف- و أبو الحمراء بن سفيان بن عويف- و غراب بن سفيان بن عويف- هؤلاء الإخوة الأربعة قتلهم علي بن أبي طالب ع- في رواية محمد بن حبيب- . فأما الواقدي- فلم يذكر في باب من قتل من المشركين بأحد لهم قاتلا معينا- و لكنه ذكر في كلام آخر قبل هذا الباب- أن أبا سبرة بن الحارث بن علقمة قتل أحد بني سفيان بن عويف- و أن رشيدا الفارسي مولى بني معاوية- لقي آخر من بني سفيان بن عويف مقنعا في الحديد- و هو يقول أنا ابن عويف- فيعرض له سعد مولى حاطب- فضربه ابنعويف ضربة جزله باثنتين- فأقبل رشيد على ابن عويف فضربه على عاتقه- فقطع الدرع حتى جزله اثنتين- و قال خذها و أنا الغلام الفارسي- فقال رسول الله ص و هو يراه و يسمعه- أ لا قلت أنا الغلام الأنصاري- قال فيعرض لرشيد أخ للمقتول- أحد بني سفيان بن عويف أيضا- و أقبل يعدو نحوه كأنه كلب يقول أنا ابن عويف- و يضربه رشيد أيضا على رأسه و عليه المغفر ففلق رأسه- و قال خذها و أنا الغلام الأنصاري- فتبسم رسول الله ص و قال أحسنت يا أبا عبد الله- فكناه رسول الله ص يومئذ و لا ولد له- .
قلت فأما البلاذري فلم يذكر لهم قاتلا- و لكنه عدهم في جملة من قتل من المشركين بأحد- و كذلك ابن إسحاق لم يذكر من قتلهم- فإن صحت رواية الواقدي- فعلي ع لم يكن قد قتل منهم إلا واحدا- و إن كانت رواية ابن حبيب صحيحة- فالأربعة من قتلاه ع- و قد رأيت في بعض كتب أبي الحسن المدائني أيضا- أن عليا ع هو الذي قتل بني سفيان بن عويف يوم أحد- و روى له شعرا في ذلك- . و من بني عبد شمس معاوية بن المغيرة بن أبي العاص- قتله علي ع في إحدى الروايات- و قيل قتله زيد بن حارثة و عمار بن ياسر- . فجميع من قتل من المشركين يوم أحد ثمانية و عشرون- قتل علي ع منهم- ما اتفق عليه و ما اختلف فيه اثني عشر- و هو إلى جملة القتلى- كعدة من قتل يوم بدر إلى جملة القتلى يومئذ- و هو قريب من النصف
القول في خروج النبي ص و بعد انصرافه من أحد إلى المشركين ليوقع بهم على ما هو به من الوهن
قال الواقدي بلغ رسول الله ص- أن المشركين قد عزموا أن يردوا إلى المدينة فينهبوها- فأحب أن يريهم قوة- فصلى الصبح يوم الأحد لثمان خلون من شوال- و معه وجوه الأوس و الخزرج- و كانوا باتوا تلك الليلة في بابه يحرسونه من البيات- فيهم سعد بن عبادة و سعد بن معاذ و الحباب بن المنذر- و أوس بن خولي و قتادة بن النعمان في عدة منهم- فلما انصرف من صلاة الصبح- أمر بلالا أن ينادي في الناس- أن رسول الله ص يأمركم بطلب عدوكم- و لا يخرج معنا إلا من شهد القتال بالأمس- فخرج سعد بن معاذ راجعا إلى قومه يأمرهم بالمسير- و الجراح في الناس فاشية- عامة بني عبد الأشهل جريح بل كلها- فجاء سعد بن معاذ فقال- إن رسول الله ص يأمركم أن تطلبوا عدوكم- قال يقول أسيد بن حضير و به سبع جراحات- و هو يريد أن يداويها- سمعا و طاعة لله و لرسوله- فأخذ سلاحه و لم يعرج على دواء جراحة- و لحق برسول الله ص- و جاء سعد بن عبادة قومه بني ساعدة- فأمرهم بالمسير فلبسوا و لحقوا- و جاء أبو قتادة أهل خربا و هم يداوون الجراح- فقال هذا منادي رسول الله ص يأمركم بطلب العدو- فوثبوا إلى سلاحهم و لم يعرجوا على جراحاتهم- فخرج من بني سلمة أربعون جريحا- بالطفيل بن النعمان ثلاثة عشر جرحا- و بخراش بن الصمة عشر جراحات- و بكعب بن مالك بضعة عشر جرحا- و بقطبة بن عامر بن خديج بيده تسع جراحات- حتى وافوا النبي ص بقبر أبي عتبة و عليهم السلاح-و قد صفوا لرسول الله ص- فلما نظر إليهم و الجراح فيهم فاشية- قال اللهم ارحم بني سلمة- .
قال الواقدي- و حدثني عتبة بن جبيرة عن رجال من قومه- أن عبد الله بن سهل و رافع بن سهل من بني عبد الأشهل- رجعا من أحد و بهما جراح كثيرة- و عبد الله أثقلهما جرحا- فلما أصبحا و جاء سعد بن معاذ قومه- يخبرهم أن رسول الله ص يأمرهم بطلب العدو- قال أحدهما لصاحبه- و الله إن تركنا غزاة مع رسول الله ص لغبن- و الله ما عندنا دابة نركبها- و لا ندري كيف نصنع- قال عبد الله انطلق بنا- قال رافع لا و الله ما بي مشي- قال أخوه انطلق بنا نقصد و نجوز- و خرجا يزحفان فضعف رافع- فكان عبد الله يحمله على ظهره عقبه و يمشي الآخر عقبه- حتى أتوا رسول الله ص عند العشاء- و هم يوقدون النيران- فأتي بهما رسول الله ص- و على حرسه تلك الليلة عباد بن بشر- فقال رسول الله ص لهما ما حبسكما- فأخبراه بعلتهما فدعا لهما بخير- و قال إن طالت لكما مدة- كانت لكما مراكب من خيل و بغال و إبل- و ليس ذلك بخير لكما- .
قال الواقدي و قال جابر بن عبد الله يا رسول الله- إن مناديا نادى ألا يخرج معنا- إلا من حضر القتال بالأمس- و قد كنت حريصا بالأمس على الحضور- و لكن أبي خلفني على أخوات لي- و قال يا بني لا ينبغي لك أن تدعهن و لا رجل معهن- و أخاف عليهن و هن نسيات ضعاف- و أنا خارج مع رسول الله ص لعل الله يرزقني الشهادة- فتخلفت عليهن فاستأثر علي بالشهادة- و كنت رجوتها فأذن لي يا رسول الله أن أسير معك- فأذن له رسول الله ص- قال جابر فلم يخرج معه أحد لم يشهد القتال بالأمس غيري- و استأذنه رجال لم يحضروا القتال- فأبى ذلك عليهم- فدعا رسول الله ص بلواءه و هو معقود لم يحل من أمس- فدفعه إلى علي ع- و يقال دفعه إلى أبي بكر- فخرج رسول الله ص و هو مجروح- في وجهه أثر الحلقتين- و مشجوج في جبهته في أصول الشعر- و رباعيته قد شظيت- و شفته قد كلمت من باطنها- و منكبه الأيمن موهن بضربة ابن قميئة- و ركبتاه مجحوشتان- فدخل المسجد فصلى ركعتين و الناس قد حشدوا- و نزل أهل العوالي حيث جاءهم الصريخ- و دعا بفرسه على باب المسجد- و تلقاه طلحة بن عبيد الله و قد سمع المنادي- فخرج ينظر متى يسير رسول الله ص- فإذا هو و عليه الدرع و المغفر لا يرى منه إلا عيناه- فقال يا طلحة سلاحك قال قريبا- قال طلحة فأخرج و أعدو- فألبس درعي و آخذ سيفي- و أطرح درقتي في صدري و إن بي لتسع جراحات- و لأنا أهتم بجراح رسول الله ص مني بجراحي- فأقبل رسول الله ص على طلحة- فقال أين ترى القوم الآن قال هم بالسيالة- فقال رسول الله ص ذلك الذي ظننت- أما إنهم يا طلحة لن ينالوا منا مثل أمس- حتى يفتح الله مكة علينا- قال و بعث رسول الله ص ثلاثة نفر من أسلم- طليعة في آثار القوم- فانقطع أحدهم و انقطع قبال نعل الآخر- و لحق الثالث بقريش و هم بحمراء الأسد- و لهم زجل يأتمرون في الرجوع إلى المدينة- و صفوان بن أمية ينهاهم عن ذلك- و لحق الذي انقطع قبال نعله بصاحبه- فبصرت قريش بالرجلين- فعطفت عليهما فأصابوهما- و انتهى المسلمون إلى مصرعهما بحمراء الأسد- فقبرهما رسول الله ص في قبر واحد فهما القرينان- .
قال الواقدي اسماهما سليط و نعمان- . قال الواقدي قال جابر بن عبد الله- كانت عامة أزوادنا ذلك اليوم التمر- و حمل سعد بن عبادة ثلاثين بعيرا تمرا- حتى وافت حمراء الأسد- و ساق جزرا فنحروا في يوم ثنتين و في يوم ثلاثا- و أمرهم رسول الله ص بجمع الحطب- فإذا أمسوا أمرهم أن يوقدوا النيران- فيوقد كل رجل نارا- فلقد كنا تلك الليلة نوقد خمسمائة نار- حتى نرى من المكان البعيد- و ذهب ذكر معسكرنا و نيراننا في كل وجه- و كان ذلك مما كبت الله به عدونا- .
قال الواقدي و جاء معبد بن أبي معبد الخزاعي- و هو يومئذ مشرك إلى النبي ص- و كانت خزاعة سلما للنبي ص- فقال يا محمد عز علينا ما أصابك في نفسك- و ما أصابك في أصحابك- و لوددنا أن الله تعالى أعلى كعبك- و أن المصيبة كانت بغيرك- ثم مضى معبد حتى يجد أبا سفيان و قريشا بالروحاء- و هم يقولون لا محمدا أصبتم- و لا الكواعب أردفتم فبئسما صنعتم- و هم مجمعون على الرجوع إلى المدينة- و يقول قائلهم فيما بينهم ما صنعنا شيئا- أصبنا أشرافهم ثم رجعنا قبل أن نستأصلهم- و قبل أن يكون لهم وفر- و كان المتكلم بهذا عكرمة بن أبي جهل- فلما جاء معبد إلى أبي سفيان قال- هذا معبد و عنده الخبر ما وراءك يا معبد- قال تركت محمدا و أصحابه خلفي- يتحرقون عليكم بمثل النيران- و قد اجتمع معه من تخلف عنه بالأمس من الأوس و الخزرج- و تعاهدوا ألا يرجعوا حتى يلحقوكم فيثأروا منكم- و قد غضبوا لقومهم غضبا شديدا- و لمن أصبتم من أشرافهم- قالوا ويحك ما تقول- قال و الله ما أرىأن ترتحلوا حتى تروا نواصي الخيل- و لقد حملني ما رأيت منهم أن قلت أبياتا- قالوا و ما هي فأنشدهم هذا الشعر-
كادت تهد من الأصوات راحلتي
إذ سألت الأرض بالجرد الأبابيل
تعدو بأسد ضراء لا تنابلة
عند اللقاء و لا ميل معازيل
فقلت ويل ابن حرب من لقائهم
إذا تغطمطت البطحاء بالجيل
و قد كان صفوان بن أمية رد القوم بكلامه- قبل أن يطلع معبد- و قال لهم صفوان يا قوم لا تفعلوا- فإن القوم قد حربوا- و أخشى أن يجمعوا عليكم من تخلف من الخزرج- فارجعوا و الدولة لكم- فإني لا آمن إن رجعتم إليهم أن تكون الدولة عليكم- قال فلذلك
قال رسول الله ص أرشدهم صفوان و ما كان برشيد- ثم قال و الذي نفسي بيده- لقد سومت لهم الحجارة- و لو رجعوا لكانوا كأمس الذاهب- قال فانصرف القوم سراعا خائفين من الطلب لهم- و مر بأبي سفيان قوم من عبد القيس يريدون المدينة- فقال لهم هل أنتم مبلغو محمد و أصحابه- ما أرسلكم به- على أن أوقر لكم أباعركم زبيبا غدا بعكاظ- إن أنتم جئتموني قالوا نعم- قال حيثمالقيتم محمدا و أصحابه فأخبروهم- أنا قد أجمعنا الرجعة إليهم و أنا آثاركم- و انطلق أبو سفيان إلى مكة- و قدم الركب على النبي ص و أصحابه بالحمراء- فأخبروهم بالذي أمرهم أبو سفيان- فقالوا حسبنا الله و نعم الوكيل- فأنزل ذلك في القرآن- و أرسل معبد رجلا من خزاعة إلى رسول الله ص- يعلمه أنه قد انصرف أبو سفيان و أصحابه خائفين وجلين- فانصرف رسول الله ص بعد ثلاث إلى المدينة
الفصل الخامس في شرح غزاة مؤتة
نذكرها من كتاب الواقدي و نزيد على ذلك ما رواه محمد بن إسحاق في كتابه على عادتنا فيما تقدم قال الواقدي حدثني ربيعة بن عثمان عن عمر بن الحكم- قال بعث رسول الله ص الحارث بن عمير الأزدي- في سنة ثمان إلى ملك بصرى بكتاب- فلما نزل مؤتة عرض له شرحبيل بن عمرو الغساني- فقال أين تريد قال الشام- قال لعلك من رسل محمد قال نعم- فأمر به فأوثق رباطا ثم قدمه فضرب عنقه- و لم يقتل لرسول الله ص رسول غيره- و بلغ ذلك رسول الله ص فاشتد عليه- و ندب الناس و أخبرهم بمقتل الحارث- فأسرعوا و خرجوا فعسكروا بالجرف- فلما صلى رسول الله ص الظهر جلس و جلس أصحابه حوله- و جاء النعمان بن مهض اليهودي فوقف مع الناس-
فقال رسول الله ص زيد بن حارثة أمير الناس- فإن قتل زيد بن حارثة فجعفر بن أبي طالب- فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة- فإن أصيب ابن رواحة- فليرتض المسلمون من بينهم رجلا فليجعلوه عليهم- فقال النعمان بن مهض يا أبا القاسم- إن كنت نبيا فسيصاب من سميت قليلا كانوا أو كثيرا- إن الأنبياء في بني إسرائيل كانوا إذا استعملوا الرجل على القوم- ثم قالوا إن أصيب فلان فلو سمى مائة أصيبوا جميعا- ثم جعل اليهودي يقول لزيد بن حارثة- اعهد فلا ترجع إلى محمد أبدا إن كان نبيا- قال زيد أشهد أنه نبي صادق- فلما أجمعواالمسير و عقد رسول الله ص لهم اللواء بيده- دفعه إلى زيد بن حارثة و هو لواء أبيض- و مشى الناس إلى أمراء رسول الله ص- يودعونهم و يدعون لهم و كانوا ثلاثة آلاف- فلما ساروا في معسكرهم ناداهم المسلمون- دفع الله عنكم و ردكم صالحين سالمين غانمين- فقال عبد الله بن رواحة
لكنني أسأل الرحمن مغفرة
و ضربة ذات فرغ تقذف الزبدا
أو طعنة بيدي حران مجهزة
بحربة تنفذ الأحشاء و الكبدا
حتى يقولوا إذا مروا على جدثي
يا أرشد الله من غاز فقد رشدا
قلت اتفق المحدثون- على أن زيد بن حارثة كان هو الأمير الأول- و أنكرت الشيعة ذلك- و قالوا كان جعفر بن أبي طالب هو الأمير الأول- فإن قتل فزيد بن حارثة فإن قتل فعبد الله بن رواحة- و رووا في ذلك روايات- و قد وجدت في الأشعار التي ذكرها محمد بن إسحاق- في كتاب المغازي ما يشهد لقولهم- فمن ذلك ما رواه عن حسان بن ثابت- و هو
تأوبني ليل بيثرب أعسر
و هم إذا ما نوم الناس مسهر
لذكرى حبيب هيجت لي عبرة
سفوحا و أسباب البكاء التذكر
بلى إن فقدان الحبيب بلية
و كم من كريم يبتلى ثم يصبر
فلا يبعدن الله قتلى تتابعوا
بمؤتة منهم ذو الجناحين جعفر
و زيد و عبد الله حين تتابعوا
جميعا و أسياف المنية تخطر
رأيت خيار المؤمنين تواردوا
شعوب و خلق بعدهم يتأخر
غداة غدوا بالمؤمنين يقودهم
إلى الموت ميمون النقيبة أزهر
أغر كضوء البدر من آل هاشم
أبي إذا سيم الظلامة أصعر
فطاعن حتى مال غير موسد
بمعترك فيه القنا متكسر
فصار مع المستشهدين ثوابه
جنان و ملتف الحدائق أخضر
و كنا نرى في جعفر من محمد
وقارا و أمرا حازما حين يأمر
و ما زال في الإسلام من آل هاشم
دعائم صدق لا ترام و مفخر
هم جبل الإسلام و الناس حولهم
رضام إلى طور يطول و يقهر
بهاليل منهم جعفر و ابن أمه
علي و منهم أحمد المتخير
و حمزة و العباس منهم و منهم
عقيل و ماء العود من حيث يعصر
بهم تفرج الغماء من كل مأزق
عماس إذا ما ضاق بالناس مصدر
هم أولياء الله أنزل حكمه
عليهم و فيهم و الكتاب المطهر
و منها قول كعب بن مالك الأنصاري من قصيدة- أولها
نام العيون و دمع عينك يهمل
سحا كما وكف الرباب المسبل
وجدا على النفر الذين تتابعوا
قتلى بمؤتة أسندوا لم ينقلوا
ساروا أمام المسلمين كأنهم
طود يقودهم الهزبر المشبل
إذ يهتدون بجعفر و لوائه
قدام أولهم و نعم الأول
حتى تقوضت الصفوف و جعفر
حيث التقى جمع الغواة مجدل
فتغير القمر المنير لفقده
و الشمس قد كسفت و كادت تأفل
قوم علا بنيانهم من هاشم
فرع أشم و سؤدد متأثل
قوم بهم عصم الإله عباده
و عليهم نزل الكتاب المنزل
فضلوا المعاشر عفة و تكرما
و تعمدت أخلاقهم من يجهل
قال الواقدي فحدثني ابن أبي سبرة عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن رافع بن إسحاق عن زيد بن أرقم أن رسول الله ص خطبهم فأوصاهم- فقال أوصيكم بتقوى الله و بمن معكم من المسلمين خيرا- اغزوا باسم الله و في سبيل الله- قاتلوا من كفر بالله- لا تغدروا و لا تغلوا و لا تقتلوا وليدا- و إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث- فأيتهن أجابوك إليها فاقبل منهم- و اكفف عنهم- ادعهم إلى الدخول في الإسلام- فإن فعلوا فاقبل و اكفف- ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى المهاجرين- فإن فعلوا فأخبرهم أن لهم ما للمهاجرين- و عليهم ما على المهاجرين- و إن دخلوا في الإسلام و اختاروا دارهم- فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين- يجري عليهم حكم الله- و لا يكون لهم في الفيء و لا في الغنيمة شيء- إلا أن يجاهدوا مع المسلمين فإن أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية- فإن فعلوا فاقبل منهم و اكفف عنهم- فإن أبوا فاستعن بالله و قاتلهم- و إن أنت حاصرت أهل حصن أو مدينة- فأرادوا أن تستنزلهم على حكم الله- فلا تستنزلهم على حكم الله- و لكن أنزلهم على حكمك- فإنك لا تدري أ تصيب حكم الله فيهم أم لا- و إن حاصرت أهل حصن أو مدينة- و أرادوا أن تجعل لهم ذمة الله و ذمة رسول الله- فلا تجعل لهم ذمة الله و ذمة رسول الله- و لكن اجعل لهم ذمتك و ذمة أبيك و أصحابك- فإنكم إن تخفروا ذممكم و ذمم آبائكم خير لكم- من أن تخفروا ذمة الله و ذمة رسوله-.
قال الواقدي و حدثني أبو صفوان عن خالد بن يزيد قال خرج النبي ص مشيعا لأهل مؤتة- حتى بلغ ثنية الوداع فوقف و وقفوا حوله- فقال اغزوا بسم الله- فقاتلوا عدو الله و عدوكم بالشام- و ستجدون فيها رجالا في الصوامع معتزلين الناس- فلا تعرضوا لهم- و ستجدون آخرين للشيطان في رءوسهم مفاحص- فاقلعوها بالسيوف- و لا تقتلن امرأة و لا صغيرا ضرعا و لا كبيرا فانيا- و لا تقطعن نخلا و لا شجرا و لا تهدمن بناء-.
قال الواقدي فلما دعا ودع عبد الله بن رواحة رسول الله ص- قال له مرني بشيء أحفظه عنك- قال إنك قادم غدا بلدا السجود فيه قليل- فأكثروا السجود- فقال عبد الله زدني يا رسول الله قال اذكر الله- فإنه عون لك على ما تطلب- فقام من عنده حتى إذا مضى ذاهبا رجع- فقال يا رسول الله إن الله وتر يحب الوتر- فقال يا ابن رواحة ما عجزت فلا تعجز- إن أسأت عشرا أن تحسن واحدة- فقال ابن رواحة لا أسألك عن شيء بعدها- .
و روى محمد بن إسحاق- أن عبد الله بن رواحة ودع رسول الله ص بشعر منه-
فثبت الله ما آتاك من حسن
تثبيت موسى و نصرا كالذي نصروا
إني تفرست فيك الخير نافلة
فراسة خالفتهم في الذي نظروا
أنت الرسول فمن يحرم نوافله
و البشر منه فقد أودى به القدر
قال محمد بن إسحاق فلما ودع المسلمين بكى- فقالوا له ما يبكيك يا عبد الله- قال و الله ما بي حب الدنيا و لا صبابة إليها- و لكني سمعت رسول الله ص يقرأ- وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها- فلست أدري كيف لي بالصدر بعد الورود قال الواقدي و كان زيد بن أرقم يحدث- قال كنت يتيما في حجر عبد الله بن رواحة- فلم أر والي يتيم كان خيرا لي منه- خرجت معه في وجهة إلى مؤتة- و صب بي و صببت به- فكان يردفني خلف رحله- فقال ذات ليلة و هو على راحلته بين شعبتي رحله-
إذا بلغتني و حملت رحلي
مسافة أربع بعد الحساء
فشأنك فانعمي و خلاك ذم
و لا أرجع إلى أهلي ورائي
و آب المسلمون و خلفوني
بأرض الشام مشتهر الثواء
و زودني الأقارب من دعاء
إلى الرحمن و انقطع الإخاء
هنالك لا أبالي طلع نخل
و لا نخل أسافلها رواء
فلما سمعت منه هذا الشعر بكيت- فخفقني بالدرة- و قال و ما عليك يا لكع- أن يرزقني الله الشهادة فأستريح من الدنيا و نصبها- و همومها و أحزانها و أحداثها- و ترجع أنت بين شعبتي الرحل- . قال الواقدي و مضى المسلمون فنزلوا وادي القرى- فأقاموا به أياما و ساروا حتى نزلوا بمؤتة- و بلغهم أن هرقل ملك الروم قد نزل ماء من مياه البلقاء- في بكر و بهراء و لخم و جذام و غيرهم مائة ألف مقاتل- و عليهم رجل من بلي- فأقام المسلمون ليلتين ينظرون في أمرهم- و قالوا نكتب إلى رسول الله ص فنخبره الخبر- فإما أن يردنا أو يزيدنا رجالا- فبينا الناس على ذلك من أمرهم- جاءهم عبد الله بن رواحة فشجعهم- و قال و الله ما كنا نقاتل الناس بكثرة عدة- و لا كثرة سلاح و لا كثرة خيل- إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به- انطلقوا فقاتلوا فقد و الله رأينا يوم بدر- و ما معنا إلا فرسان إنما هي إحدى الحسنيين- إما الظهور عليهم فذاك ما وعدنا الله و رسوله- و ليس لوعده خلف- و إما الشهادة فنلحق بالإخوان نرافقهم في الجنان- فشجع الناس على قول ابن رواحة- .
قال الواقدي و روى أبو هريرة قال- شهدت مؤتة فلما رأينا المشركين- رأينا ما لا قبل لنا به من العدد و السلاح- و الكراع و الديباج و الحرير و الذهب- فبرق بصري- فقال لي ثابت بن أرقم ما لك يا أبا هريرة- كأنك ترى جموعا كثيرة قلت نعم- قال لم تشهدنا ببدر إنا لم ننصر بالكثرة- . قال الواقدي فالتقى القوم- فأخذ اللواء زيد بن حارثة فقاتل حتى قتل- طعنوه بالرماح- ثم أخذه جعفر فنزل عن فرس له شقراء فعرقبها- ثم قاتل حتى قتل- .
قال الواقدي قيل إنه ضربه رجل من الروم فقطعه نصفين- فوقع أحد نصفيه في كرم هناك- فوجد فيه ثلاثون أو بضع و ثلاثون جرحا- . قال الواقدي و قد روى نافع عن ابن عمر- أنه وجد في بدن جعفر بن أبي طالب اثنتان و سبعون ضربة- و طعنة بالسيوف و الرماح- . قال البلاذري قطعت يداه- و لذلكقال رسول الله ص لقد أبدله الله بهما جناحين يطير بهما في الجنة- و لذلك سمي الطيار- .
قال الواقدي- ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحة فنكل يسيرا- ثم حمل فقاتل حتى قتل- فلما قتل انهزم المسلمون- أسوأ هزيمة كانت في كل وجه ثم تراجعوا- فأخذ اللواء ثابت بن أرقم- و جعل يصيح بالأنصار فثاب إليه منهم قليل- فقال لخالد بن الوليد خذ اللواء يا أبا سليمان- قال خالد لا بل خذه أنت فلك سن- و قد شهدت بدرا- قال ثابت خذه أيها الرجل- فو الله ما أخذته إلا لك- فأخذه خالد و حمل به ساعة- و جعل المشركون يحملون عليه حتى دهمه منهم بشر كثير- فانحاز بالمسلمين و انكشفوا راجعين- . قال الواقدي- و قد روى أن خالدا ثبت بالناس فلم ينهزموا- و الصحيح أن خالدا انهزم بالناس- .
قال الواقدي حدثني محمد بن صالح- عن عاصم بن عمر بن قتادة- أن النبي ص لما التقى الناس بمؤتة جلس على المنبر- و كشف له ما بينه و بين الشام- فهو ينظر إلى معركتهم- فقال أخذ الراية زيد بن حارثة- فجاءه الشيطان فحبب إليه الحياة- و كره إليه الموت و حبب إليه الدنيا- فقال الآن حين استحكم الإيمان في قلوب المؤمنين- تحبب إلي الدنيا- فمضى قدما حتى استشهد ثم صلى عليه- و قال استغفروا له فقد دخل الجنة و هو يسعى- ثم أخذ الراية جعفر بن أبي طالب- فجاءه الشيطان فمناه الحياة- و كره إليه الموت و مناه الدنيا- فقال الآن حين استحكم الإيمان في قلوب المؤمنين- تتمنى الدنيا ثم مضى قدما حتى استشهد- فصلى عليه رسول الله ص و دعا له-ثم قال استغفروا لأخيكم فإنه شهيد قد دخل الجنة- فهو يطير فيها بجناحين من ياقوت حيث شاء- ثم قال أخذ الراية عبد الله بن رواحة- ثم دخل معترضا فشق ذلك على الأنصار- فقال رسول الله ص أصابته الجراح- قيل يا رسول الله فما اعتراضه- قال لما أصابته الجراح نكل- فعاتب نفسه فشجع فاستشهد- فدخل الجنة فسري عن قومه- .
وروى محمد بن إسحاق قال لما ذكر رسول الله ص زيدا و جعفرا- سكت عن عبد الله بن رواحة حتى تغيرت وجوه الأنصار- و ظنوا أنه قد كان من عبد الله بعض ما يكرهون- ثم قال أخذها عبد الله بن رواحة فقاتل- حتى قتل شهيدا- ثم قال لقد رفعوا لي في الجنة- فيما يرى النائم على سرر من ذهب- فرأيت في سرير ابن رواحة ازورارا عن سريري صاحبيه- فقلت لم هذا فقيل لأنهما مضيا- و تردد هذا بعض التردد ثم مضى- .
قال و روى محمد بن إسحاق- أنه لما أخذ جعفر بن أبي طالب الراية- قاتل قتالا شديدا- حتى إذا لحمه القتال اقتحم عن فرس له شقراء فعقرها- ثم قاتل القوم حتى قتل- فكان جعفر رضي الله عنه أول رجل عقر فرسه في الإسلام- . قال محمد بن إسحاق- و لما أخذ ابن رواحة الراية جعل يتردد بعض التردد- و يستقدم نفسه يستنزلها و قال-
أقسمت يا نفس لتنزلنه
طوعا و إلا سوف تكرهنه
ما لي أراك تكرهين الجنة
إذ أجلب الناس و شدوا الرنه
قد طالما قد كنت مطمئنه
هل أنت إلا نطفة في شنه
ثم ارتجز أيضا فقال-
يا نفس إلا تقتلي تموتي
هذا حمام الموت قد صليت
و ما تمنيت فقد أعطيت
إن تفعلي فعلهما هديت
و إن تأخرت فقد شقيت
ثم نزل عن فرسه فقاتل- فأتاه ابن عم له ببضعة من لحم- فقال اشدد بهذا صلبك- فأخذها من يده فانتهش منها نهشة- ثم سمع الحطمة في ناحية من الناس- فقال و أنت يا ابن رواحة في الدنيا- ثم ألقاها من يده و أخذ سيفه- فتقدم فقاتل حتى قتل- . قال الواقدي حدثني داود بن سنان- قال سمعت ثعلبة بن أبي مالك يقول- انكشف خالد بن الوليد يومئذ بالناس- حتى عيروا بالفرار و تشاءم الناس به- .
قال و روى أبو سعيد الخدري- قال أقبل خالد بالناس منهزمين- فلما سمع أهل المدينة بهم تلقوهم بالجرف- فجعلوا يحثون في وجوههم التراب- و يقولون يا فرار أ فررتم في سبيل الله- فقال رسول الله ص ليسوا بالفرار- و لكنهم كرار إن شاء الله- . قال الواقدي و قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة- ما لقي جيش بعثوا مبعثا- ما لقي أصحاب مؤتة من أهل المدينة لقوهم بالشر- حتى إن الرجل ينصرف إلى بيته و أهله- فيدق عليهم فيأبون أن يفتحوا له- يقولون ألا تقدمت مع أصحابك فقتلت- و جلس الكبراء منهم في بيوتهم استحياء من الناس- حتى أرسل النبي ص رجلا- يقول لهم أنتم الكرار في سبيل الله فخرجوا- .
قال الواقدي فحدثني مالك بن أبي الرجال عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم عن أم جعفر بنت محمد بن جعفر عن جدتها أسماء بنت عميس قالت أصبحت في اليوم الذي أصيب فيه جعفر و أصحابه- فأتاني رسول الله ص- و قد منأت أربعين منا من أدم و عجنت عجيني- و أخذت بني فغسلت وجوههم و دهنتهم- فدخلت على رسول الله ص- فقال يا أسماء أين بنو جعفر فجئت بهم إليه- فضمهم و شمهم ثم ذرفت عيناه فبكى- فقلت يا رسول الله لعله بلغك عن جعفر شيء- قال نعم إنه قتل اليوم فقمت أصيح- و اجتمع إلى النساء- فجعل رسول الله ص يقول- يا أسماء لا تقولي هجرا و لا تضربي صدرا- ثم خرج حتى دخل على ابنته فاطمة رضي الله عنها- و هي تقول وا عماه- فقال على مثل جعفر فلتبك الباكية- ثم قال اصنعوا لآل جعفر طعاما- فقد شغلوا عن أنفسهم اليوم -.
قال الواقدي و حدثني محمد بن مسلم عن يحيى بن أبي يعلى قال سمعت عبد الله بن جعفر يقول أنا أحفظ حين دخل النبي ص على أمي- فنعى إليها أبي- فأنظر إليه و هو يمسح على رأسي و رأس أخي- و عيناه تهراقان بالدمع حتى قطرت لحيته- ثم قال اللهم إن جعفرا قدم إلي أحسن الثواب- فاخلفه في ذريته- بأحسن ما خلفت أحدا من عبادك في ذريته- ثم قال يا أسماء أ لا أبشرك- قالت بلى بأبي و أمي- قال فإن الله جعل لجعفر جناحين يطير بهما في الجنة- قالت بأبي و أمي فأعلم الناس ذلك- فقام رسول الله ص و أخذ بيدي- يمسح بيده رأسي حتى رقي على المنبر- و أجلسني أمامه على الدرجة السفلى- و إن الحزن ليعرف عليه- فتكلم فقال إن المرء كثير بأخيه و ابن عمه- ألا إن جعفرا قد استشهد- و قد جعل الله له جناحين يطير بهما في الجنة- ثم نزل فدخل بيته و أدخلني- و أمر بطعام فصنع لنا- و أرسل إلى أخي فتغدينا عنده غداء طيبا- عمدت سلمى خادمته إلى شعير فطحنته- ثم نشفته ثم أنضجته و آدمته بزيت- و جعلت عليه فلفلا- فتغديت أنا و أخي معه- و أقمنا عنده ثلاثة أيام ندور معه في بيوت نسائه- ثم أرجعنا إلى بيتنا- و أتاني رسول الله ص بعد ذلك و أنا أساوم في شاة- فقال اللهم بارك له في صفقته- فو الله ما بعت شيئا و لا اشتريت إلا بورك فيه
فصل في ذكر بعض مناقب جعفر بن أبي طالب
روى أبو الفرج الأصفهاني في كتاب مقاتل الطالبيين- أن كنية جعفر بن أبي طالب أبو المساكين- و قال و كان ثالث الإخوة من ولد أبي طالب- أكبرهم طالب و بعده عقيل و بعده جعفر و بعده علي- و كل واحد منهم أكبر من الآخر بعشر سنين- و علي أصغرهم سنا- و أمهم جميعا فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف- و هي أول هاشمية ولدت لهاشمي و فضلها كثير- و قربها من رسول الله ص- و تعظيمه لها معلوم عند أهل الحديث- . و روى أبو الفرج لجعفر رضي الله عنه فضل كثير- و قد ورد فيه حديث كثير-من ذلك أن رسول الله ص لما فتح خيبر- قدم جعفر بن أبي طالب من الحبشة- فالتزمه رسول الله ص و جعل يقبل بين عينيه- و يقول ما أدري بأيهما أنا أشد فرحا- بقدوم جعفر أم بفتح خيبر- .
قال و قد روى خالد الحذاء- عن عكرمة عن أبي هريرة أنه قال- ما ركب المطايا و لا ركب الكور و لا انتعل- و لا احتذى النعال أحد بعد رسول الله ص- أفضل من جعفر بن أبي طالب- .
قال و قد روى عطية عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله ص خير الناس حمزة و جعفر و عليوقد روى جعفر بن محمد عن أبيه ع قال قال رسول الله ص خلق الناس من أشجار شتى- و خلقت أنا و جعفر من شجرة واحدة- أو قال من طينة واحدة قال و بالإسناد قال رسول الله ص لجعفر- أنت أشبهت خلقي و خلقي- . و قال أبو عمر بن عبد البر في كتاب الاستيعاب- كانت سن جعفر ع يوم قتل إحدى و أربعين سنة- .
قال أبو عمر و قد روى ابن المسيب أن رسول الله ص قال مثل لي جعفر و زيد و عبد الله في خيمة من در- كل واحد منهم على سرير- فرأيت زيدا و ابن رواحة في أعناقهما صدودا- و رأيت جعفرا مستقيما ليس فيه صدود- فسألت فقيل لي- إنهما حين غشيهما الموت أعرضا و صدا بوجهيهما- و أما جعفر فلم يفعل -.
قال أبو عمر أيضا و روي عن الشعبي- قال سمعت عبد الله بن جعفر يقول- كنت إذا سألت عمي عليا ع شيئا و يمنعني- أقول له بحق جعفر فيعطيني- . وروى أبو عمر أيضا في حرف الزاي في باب زيد بن حارثة أن رسول الله ص لما أتاه قتل جعفر و زيد بمؤتة بكى- و قال أخواي و مؤنساي و محدثايو اعلم أن هذه الكلمات التي ذكرها الرضي رحمة الله عليه- ملتقطة من كتابه ع- الذي كتبه جوابا عن كتاب معاوية النافذ إليه- مع أبي مسلم الخولاني- و قد ذكره أهل السيرة في كتبهم-
روى نصر بن مزاحم في كتاب صفين- عن عمر بن سعد عن أبي ورقاء- قال جاء أبو مسلم الخولاني- في ناس من قراء أهل الشام إلى معاوية- قبل مسير أمير المؤمنين ع إلى صفين- فقالوا له يا معاوية علام تقاتل عليا- و ليس لك مثل صحبته و لا هجرته- و لا قرابته و لا سابقته- فقال إني لا أدعي أن لي في الإسلام مثل صحبته- و لا مثل هجرته و لا قرابته- و لكن خبروني عنكم- أ لستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوما قالوا بلى- قال فليدفع إلينا قتلته لنقتلهم به- و لا قتال بيننا و بينه- قالا فاكتب إليه كتابا يأته به بعضنا- فكتب مع أبي مسلم الخولاني- من معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب- سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو- أما بعد فإن الله اصطفى محمدا بعلمه- و جعله الأمين على وحيه- و الرسول إلى خلقه- و اجتبى له من المسلمين أعوانا أيده الله تعالى بهم- فكانوا في منازلهم عنده على قدر فضائلهم في الإسلام- فكان أفضلهم في الإسلام- و أنصحهم لله و رسوله الخليفة من بعده- ثم خليفة خليفته من بعد خليفته- ثم الثالث الخليفة المظلوم عثمان- فكلهم حسدت و على كلهم بغيت- عرفنا ذلك في نظرك الشزر و قولك الهجر- و تنفسك الصعداء و إبطائك عن الخلفاء- تقاد إلى كل منهم كما يقاد الفحل المخشوش- حتى تبايع و أنت كاره- ثم لم تكن لأحد منهم بأعظم حسدا منك- لابن عمك عثمان- و كان أحقهم ألا تفعل ذلك في قرابته و صهره- فقطعت رحمه و قبحت محاسنه- و ألبت الناس عليه- و بطنت و ظهرت حتى ضربت إليه آباط الإبل- و قيدت إليه الإبل العراب- و حمل عليه السلاح في حرم رسول الله ص- فقتل معك في المحلة و أنت تسمع في داره الهائعة- لا تردع الظن و التهمة عن نفسك بقول و لا عمل- و أقسم قسما صادقا- لو قمت فيما كان من أمره مقاما واحدا تنهنه الناس عنه- ما عدل بك من قبلنا من الناس أحدا- و لمحا ذلك عندهم ما كانوا يعرفونك به- من المجانبة لعثمان و البغي عليه- و أخرى أنت بها عند أنصار عثمان ظنين- إيواؤك قتلة عثمان- فهم عضدك و أنصارك و يدك و بطانتك- و قد ذكر لي أنك تتنصل من دمه- فإن كنت صادقا فأمكنا من قتلته نقتلهم به- و نحن أسرع الناس إليك- و إلا فإنه ليس لك و لأصحابك إلا السيف- و الذي لا إله إلا هو لنطلبن قتلة عثمان- في الجبال و الرمال و البر و البحر- حتى يقتلهم الله أو لتلحقن أرواحنا بالله و السلام- .
قال نصر فلما قدم أبو مسلم على علي ع بهذا الكتاب- قام فحمد الله و أثنى عليه- ثم قال أما بعد فإنك قد قمت بأمر وليته- و و الله ما أحب أنه لغيرك- إن أعطيت الحق من نفسك- إن عثمان قتل مسلما محرما مظلوما- فادفع إلينا قتلته و أنت أميرنا- فإن خالفك من الناس أحد كانت أيدينا لك ناصرة- و ألسنتنا لك شاهدة- و كنت ذا عذر و حجة- فقال له علي ع اغد علي غدا فخذ جواب كتابك فانصرف- ثم رجع من غد ليأخذ جواب كتابه- فوجد الناس قد بلغهم الذي جاء فيه قبل- فلبست الشيعة أسلحتها ثم غدوا فملئوا المسجد- فنادوا كلنا قتلة عثمان- و أكثروا من النداء بذلك- و أذن لأبي مسلم فدخل- فدفع علي ع جواب كتاب معاوية- فقال أبو مسلم لقد رأيت قوما ما لك معهم أمر- قال و ما ذاك-
قال بلغ القوم أنك تريد أن تدفع إلينا قتلة عثمان فضجوا- و اجتمعوا و لبسوا السلاح- و زعموا أنهم قتلة عثمان- فقال علي ع- و الله ما أردت أن أدفعهم إليكم طرفة عين قط- لقد ضربت هذا الأمر أنفه و عينه- فما رأيته ينبغي لي أن أدفعهم إليك و لا إلى غيرك- فخرج أبو مسلم بالكتاب و هو يقول الآن طاب الضراب وكان جواب علي ع من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان- أما بعد فإن أخا خولان قدم علي بكتاب منك- تذكر فيه محمدا ص و ما أنعم الله به عليه- من الهدى و الوحي- فالحمد لله الذي صدقه الوعد و أيده بالنصر- و مكن له في البلاد- و أظهره على أهل العداوة و الشنئان- من قومه الذين وثبوا عليه و شنفوا له- و أظهروا تكذيبه و بارزوه بالعداوة- و ظاهروا على إخراجه و على إخراج أصحابه و أهله- و ألبوا عليه العرب و جادلوهم على حربه- و جهدوا في أمره كل الجهد و قلبوا له الأمور- حتى جاء الحق و ظهر أمر الله و هم كارهون- و كان أشد الناس عليه تأليبا و تحريضا أسرته- و الأدنى فالأدنى من قومه إلا من عصم الله- و ذكرت أن الله تعالى اجتبى له من المسلمين أعوانا- أيده الله بهم- فكانوا في منازلهم عنده على قدر فضائلهم في الإسلام- فكان أفضلهم زعمت في الإسلام- و أنصحهم لله و لرسوله الخليفة و خليفة الخليفة- و لعمري إن مكانهما في الإسلام لعظيم- و إن المصاب بهما لجرح في الإسلام شديد- فرحمهما الله و جزاهما أحسن ما عملا- و ذكرت أن عثمان كان في الفضل تاليا- فإن يك عثمان محسنا فسيجزيه الله بإحسانه- و إن يك مسيئا فسيلقى ربا غفورا- لا يتعاظمه ذنب أن يغفره- و لعمري إني لأرجو إذا أعطى الله الناس- على قدر فضائلهم في الإسلام و نصيحتهم لله و لرسوله- أن يكون نصيبنا في ذلك الأوفر- إن محمدا ص لما دعا إلى الإيمان بالله و التوحيد له- كنا أهل البيت أول من آمن به و صدقه فيما جاء- فبتنا أحوالا كاملة مجرمة تامة- و ما يعبد الله في ربع ساكن من العرب غيرنا- فأراد قومنا قتل نبينا و اجتياح أصلنا- و هموا بنا الهموم و فعلوا بنا الأفاعيل- و منعونا الميرة و أمسكوا عنا العذب و أحلسونا الخوف- و جعلوا علينا الأرصاد و العيون- و اضطرونا إلى جبل وعر و أوقدوا لنا نار الحرب- و كتبوا بينهم كتابا- لا يؤاكلوننا و لا يشاربوننا- و لا يناكحوننا و لا يبايعوننا- و لا نأمن منهم حتى ندفع إليهم محمدا فيقتلوه و يمثلوا به- فلم نكن نأمن فيهم إلا من موسم إلى موسم- فعزم الله لنا على منعه و الذب عن حوزته- و الرمي من وراء حرمته- و القيام بأسيافنا دونه في ساعات الخوف بالليل و النهار- فمؤمننا يرجو بذلك الثواب- و كافرنا يحامي عن الأصل- و أما من أسلم من قريش فإنهم مما نحن فيه خلاء- منهم الحليف الممنوع- و منهم ذو العشيرة التي تدافع عنه- فلا يبغيه أحد مثل ما بغانا به قومنا من التلف- فهم من القتل بمكان نجوة و أمن- فكان ذلك ما شاء الله أن يكون- ثم أمر الله تعالى رسوله بالهجرة- و أذن له بعد ذلك في قتال المشركين- فكان إذا احمر البأس- و دعيت نزال أقام أهل بيته فاستقدموا- فوقى أصحابه بهم حد الأسنة و السيوف- فقتل عبيدة يوم بدر- و حمزة يوم أحد و جعفر و زيد يوم مؤتة- و أراد من لو شئت ذكرت اسمه- مثل الذي أرادوا من الشهادة مع النبي ص غير مرة- إلا أن آجالهم عجلت و منيته أخرت- و الله ولى الإحسان إليهم و المنة عليهم- بما أسلفوا من أمر الصالحات- فما سمعت بأحد- و لا رأيته هو أنصح في طاعة رسوله و لا لنبيه- و لا أصبر على اللأواء و السراء و الضراء و حين البأس- و مواطن المكروه مع النبي ص- من هؤلاء النفر الذين سميت لك- و في المهاجرين خير كثير يعرف- جزاهم الله خيرا بأحسن أعمالهم- و ذكرت حسدي الخلفاء- و إبطائي عنهم و بغيي عليهم- فأما البغي فمعاذ الله أن يكون- و أما الإبطاء عنهم و الكراهية لأمرهم- فلست أعتذر إلى الناس من ذلك- إن الله تعالى ذكره لما قبض نبيه ص- قالت قريش منا أمير و قالت الأنصار منا أمير- فقالت قريش منا محمد نحن أحق بالأمر- فعرفت ذلك الأنصار فسلمت لهم الولاية و السلطان- فإذا استحقوها بمحمد ص دون الأنصار- فإن أولى الناس بمحمد أحق به منهم- و إلا فإن الأنصار أعظم العرب فيها نصيبا- فلا أدري أصحابي سلموا من أن يكونوا حقي أخذوا- أو الأنصار ظلموا- بل عرفت إن حقي هو المأخوذ- و قد تركته لهم تجاوزا لله عنهم- و أما ما ذكرت من أمر عثمان و قطيعتي رحمه و تأليبي عليه- فإن عثمان عمل ما قد بلغك- فصنع الناس به ما رأيت- و إنك لتعلم أني قد كنت في عزلة عنه- إلا أن تتجني فتجن ما بدا لك- و أما ما ذكرت من أمر قتله عثمان- فإني نظرت في هذا الأمر و ضربت أنفه و عينه- فلم أر دفعهم إليك و لا إلى غيرك- و لعمري لئن لم تنزع عن غيك و شقاقك- لتعرفنهم عن قليل يطلبونك- لا يكلفونك أن تطلبهم في بر و لا بحر و لا سهل و لا جبل- و قد أتاني أبوك حين ولى الناس أبا بكر- فقال أنت أحق بمقام محمد- و أولى الناس بهذا الأمر- و أنا زعيم لك بذلك على من خالف- ابسط يدك أبايعك فلم أفعل- و أنت تعلم أن أباك قد قال ذلك و أراده- حتى كنت أنا الذي أبيت- لقرب عهد الناس بالكفر مخافة الفرقة بين أهل الإسلام- فأبوك كان أعرف بحقي منك- فإن تعرف من حقي ما كان أبوك يعرف تصب رشدك- و إن لم تفعل فسيغني الله عنك و السلام
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 15