و من كتاب له عليه السّلام إلى معاوية
أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ الدُّنْيَا لِمَا بَعْدَهَا- وَ ابْتَلَى فِيهَا أَهْلَهَا لِيَعْلَمَ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا- وَ لَسْنَا لِلدُّنْيَا خُلِقْنَا وَ لَا بِالسَّعْيِ فِيهَا أُمِرْنَا- وَ إِنَّمَا وُضِعْنَا فِيهَا لِنُبْتَلَي بِهَا- وَ قَدِ ابْتَلَانِي اللَّهُ بِكَ وَ ابْتَلَاكَ بِي- فَجَعَلَ أَحَدَنَا حُجَّةً عَلَى الْآخَرِ- فَعَدَوْتَ عَلَى الدُّنْيَا بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ- فَطَلَبْتَنِي بِمَا لَمْ تَجْنِ يَدِي وَ لَا لِسَانِي- وَ عَصَبْتَهُ أَنْتَ وَ أَهْلُ الشَّامِ بِي- وَ أَلَّبَ عَالِمُكُمْ جَاهِلَكُمْ وَ قَائِمُكُمْ قَاعِدَكُمْ- فَاتَّقِ اللَّهَ فِي نَفْسِكَ وَ نَازِعِ الشَّيْطَانَ قِيَادَكَ- وَ اصْرِفْ إِلَى الْآخِرَةِ وَجْهَكَ- فَهِيَ طَرِيقُنَا وَ طَرِيقُكَ- وَ احْذَرْ أَنْ يُصِيبَكَ اللَّهُ مِنْهُ بِعَاجِلِ قَارِعَةٍ- تَمَسُّ الْأَصْلَ وَ تَقْطَعُ الدَّابِرَ- فَإِنِّي أُولِي لَكَ بِاللَّهِ أَلِيَّةً غَيْرَ فَاجِرَةٍ- لَئِنْ جَمَعَتْنِي وَ إِيَّاكَ جَوَامِعُ الْأَقْدَارِ لَا أَزَالُ بِبَاحَتِكَ- حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَ هُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ
اللغة
أقول: عصبه به: علّقه به. و التأليب: التحريص. و القارعة: الداهية. و الدابر المتأخّر من النسل. و الأليّة: اليمين.
المعنى
فقوله: أمّا بعد. إلى قوله: لنبتلى بها. إشارة إلى غرض الدنيا و غايتها ليتنبّه لذلك و يعمل له، و أراد بالسعى فيها الّذى لم يؤمر به اكتسابها لها، دون غيره ممّا يكون للضرورة فإنّ ذلك مأمور به في قوله تعالى فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَ كُلُوا مِنْ رِزْقِهِ«». و قوله: و قد ابتلاني: إلى قوله: الآخر. تعيين لبعض أغراضها، و قد علمت كيفيّة ابتلائه بخلقه فيما قبل. و وجه ابتلائه عليه السّلام بمعاوية عصيانه و محاربته إيّاه حتّى لو قصّر في مقاومته و لم يقم في وجهه كان ملوما و كان معاوية حجّة اللّه عليه، و وجه ابتلاء معاوية به عليه السّلام دعوته له إلى الحقّ و تحذيره إيّاه من عواقب المعصية حتّى إذا لم يجب داعى اللّه لحقه الذمّ و العقاب و كان عليه السّلام هو حجّة اللّه عليه. و ذلك معنى قوله: فجعل أحدنا حجّة على الآخر. و قوله: فعدوت. إلى قوله: قاعدكم. إشارة إلى بعض وجوه ابتلائه عليه السّلام به، و معنى ذلك أنّه إنّما طلب بخروجه عليه الدنيا و جعل السبب إلى ذلك تأويل القرآن كقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى«» و غيره من الآيات الدالّة على وجوب القصاص فتأوّلها بإدخال نفسه فيها و طلب القصاص لعثمان، و إنّما كان دخوله في ذلك بالتأويل لأنّ الخطاب خاصّ بمن قتل و قتل منه. و معاوية بمعزل عن ذلك إذ لم يكن من أولياء دم عثمان ففسّر الآية بالعموم ليدخل فيها. و الّذى لم تجنه يده و لسانه عليه السّلام هو ما نسبوه إليه عليه السّلام و ألّب بعضهم بعضا عليه فيه و هو قتل عثمان. و أراد ألّب عليكم عالمكم بحالى جاهلكم به و قائمكم في حربي قاعدكم عنه. ثمّ لمّا نبّه على غاية الدنيا و جعل اللّه سبحانه كلّا منهما حجّة على الآخر ليعلم أيّهم أحسن عملا رجع إلى موعظته و تحذيره فأمره بتقوى اللّه في نفسه أن يهلكها بعصيانه و مخالفة أمره. و أن ينازع الشيطان قياده. و استعار لفظ القياد للميول الطبيعيّة و وجه الاستعارة كونها زمام الإنسان إلى المعصية إذا سلّمها بيد الشيطان و انهمك بها في اللذّات الموبقة. و منازعته للشيطان مقاومته لنفسه الأمّارة عن طرف الإفراط إلى حاقّ الوسط في الشهوة و الغضب، و أن يصرف إلى الآخرة وجهه: أى يولّى وجهه شطر الآخرة مطالعا ما اعدّ فيها من خير و شرّ و سعادة و شقاوة بعين بصيرته ليعمل بها.
و قوله: فهى طريقنا و طريقك. صغرى ضمير نبّه به على وجوب صرف وجهه إلى الآخرة. و تقدير كبراه: و كلّما كان طريق الإنسان فواجب أن يصرف إليها وجهه. و جعلها طريقا مجازا عن غاية الطريق إطلاقا لاسم ذى الغاية عليها. ثمّ حذّره من اللّه أن يصيبه بداهية يصيب أصله و يقطع نسله، و أراد بها ما نهاه من نهوضه إليه و حربه إيّاه و لذلك أقسم على تقدير أن يجمعهما جوامع الأقدار أن لا يزال بباحته مقيما حتّى يحكم اللّه بينهما. و في ذلك غليظ الوعد بعذاب شديد.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 5 ، صفحهى 190