52 و من كتاب له ع إلى أمراء البلاد في معنى الصلاة
أَمَّا بَعْدُ فَصَلُّوا بِالنَّاسِ الظُّهْرَ- حَتَّى تَفِيءَ الشَّمْسُ مِثْلَ مَرْبِضِ الْعَنْزِ- وَ صَلُّوا بِهِمُ الْعَصْرَ وَ الشَّمْسُ بَيْضَاءُ حَيَّةٌ فِي عُضْوٍ مِنَ النَّهَارِ- حِينَ يُسَارُ فِيهَا فَرْسَخَانِ- وَ صَلُّوا بِهِمُ الْمَغْرِبَ حِينَ يُفْطِرُ الصَّائِمُ- وَ يَدْفَعُ الْحَاجُّ إِلَى مِنًى- وَ صَلُّوا بِهِمُ الْعِشَاءَ حِينَ يَتَوَارَى الشَّفَقُ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ- وَ صَلُّوا بِهِمُ الْغَدَاةَ وَ الرَّجُلُ يَعْرِفُ وَجْهَ صَاحِبِهِ- وَ صَلُّوا بِهِمْ صَلَاةَ أَضْعَفِهِمْ وَ لَا تَكُونُوا فَتَّانِينَ
بيان اختلاف الفقهاء في أوقات الصلاة
قد اختلف الفقهاء في أوقات الصلاة- فقال أبو حنيفة أول وقت الفجر إذا طلع الفجر الثاني- و هو المعترض في الأفق و آخر وقتها ما لم تطلع الشمس- و أول وقت الظهر إذا زالت الشمس- و آخر وقتها إذا صار ظل كل شيء مثليه سوى الزوال- و قال أبو يوسف و محمد آخر وقتها إذا صار الظل مثله- . قال أبو حنيفة و أول وقت العصر إذا خرج وقت الظهر- و هذا على القولين- و آخر وقتها ما لم تغرب الشمس- و أول وقت المغرب إذا غربت الشمس- و آخر وقتها ما لم يغب الشفق- و هو البياض الذي في الأفق بعد الحمرة- و قال أبو يوسف و محمد هو الحمرة- .
قال أبو حنيفة و أول وقت العشاء إذا غاب الشفق- و هذا على القولين- و آخر وقتها ما لم يطلع الفجر- . و قال الشافعي أول وقت الفجر إذا طلع الفجر الثاني- و لا يزال وقتها المختار باقيا إلى أن يسفر- ثم يبقى وقت الجواز إلى طلوع الشمس- . و قال أبو سعيد الإصطخري من الشافعية- لا يبقى وقت الجواز- بل يخرج وقتها بعد الإسفار و يصلى قضاء- و لم يتابعه على هذا القول أحد- قال الشافعي و أول وقت الظهر إذا زالت الشمس- و حكى أبو الطيب الطبري من الشافعية أن من الناس من قال- لا تجوز الصلاة حتى يصير الفيء بعد الزوال مثل الشراك- . و قال مالك أحب أن يؤخر الظهر بعد الزوال- بقدر ما يصير الظل ذراعا- و هذا مطابق لما قال أمير المؤمنين ع- حين تفيء الشمس كمربض العنز أي كموضع تربض العنز- و ذلك نحو ذراع أو أكثر بزيادة يسيرة- .
قال الشافعي- و آخر وقت الظهر إذا صار ظل كل شيء مثله- و يعتبر المثل من حد الزيادة- على الظل الذي كان عند الزوال- و بهذا القول قال أبو يوسف و محمد و قد حكيناه من قبل- و به أيضا قال الثوري و أحمد- و هو رواية الحسن بن زياد اللؤلؤي عن أبي حنيفة- فأما الرواية المشهورة عنه- و هي التي رواها أبو يوسف- فهو أن آخر وقت الظهر صيرورة الظل مثليه- و قد حكيناه عنه فيما تقدم- . و قال ابن المنذر تفرد أبو حنيفة بهذا القول- و عن أبي حنيفة رواية ثالثة- أنه إذا صار ظل كل شيء مثله خرج وقت الظهر- و لم يدخل وقت العصر- إلى أن يصير ظل كل شيء مثليه- .
و قال أبو ثور و محمد بن جرير الطبري- قدر أربع ركعات بين المثل و المثلين- يكون مشتركا بين الظهر و العصر- . و حكي عن مالك أنه قال- إذا صار ظل كل شيء مثله فهو آخر وقت الظهر- و أول وقت العصر- فإذا زاد على المثل زيادة بينة خرج وقت الظهر- و اختص الوقت بالعصر- . و حكى ابن الصباغ من الشافعية عن مالك- أن وقت الظهر إلى أن يصير ظل كل شيء مثله وقتا مختارا- فأما وقت الجواز و الأداء- فآخره إلى أن يبقى إلى غروب الشمس قدر أربع ركعات- و هذا القول مطابق لمذهب الإمامية- . و قال ابن جريج و عطاء- لا يكون مفرطا بتأخيرها حتى تكون في الشمس صفرة- . و عن طاوس لا يفوت حتى الليل- . فأما العصر فإن الشافعي يقول- إذا زاد على المثل أدنى زيادة فقد دخل وقت العصر- و الخلاف في ذلك بينه و بين أبي حنيفة- لأنه يقول أول وقت العصر إذا صار ظل كل شيء مثليه- و زاد عليه أدنى زيادة و قد حكيناه عنه فيما تقدم- .
و كلام أمير المؤمنين ع في العصر- مطابق لمذهب أبي حنيفة- لأن بعد صيرورة الظل مثليه- هو الوقت الذي تكون فيه الشمس حية بيضاء- في عضو من النهار حين يسار فيه فرسخان- و أما قبل ذلك فإنه فوق ذلك- يسار من الفراسخ أكثر من ذلك- و لا يزال وقت الاختيار عند الشافعي للعصر باقيا- حتى يصير ظل كل شيء مثليه- ثم يبقى وقت الجواز إلى غروب الشمس- . و قال أبو سعيد الإصطخري من أصحابه- يصير قضاء بمجاوزة المثلين- فأما وقت المغرب فإذا غربت الشمس و غروبها سقوط القرص- .
و قال أبو الحسن علي بن حبيب الماوردي من الشافعية- لا بد أن يسقط القرص و يغيب حاجب الشمس- و هو الضياء المستعلي عليها كالمتصل بها- و لم يذكر ذلك من الشافعية أحد غيره- . و ذكر الشاشي في كتاب حلية العلماء- أن الشيعة قالت أول وقت المغرب إذا اشتبكت النجوم- قال قد حكي هذا عنهم و لا يساوي الحكاية- و لم تذهب الشيعة إلى هذا و سنذكر قولهم فيما بعد- . و كلام أمير المؤمنين ع في المغرب لا ينص على وقت معين- لأنه عرف ذلك بكونه وقت الإفطار و وقت ما يدفع الحاج- و كلا الأمرين يحتاج إلى تعريف كما يحتاج وقت الصلاة- اللهم إلا أن يكون قد عرف أمراء البلاد- الذين يصلون بالناس من قبل هذا الكتاب- متى هذا الوقت الذي يفطر فيه الصائم- ثم يدفع فيه الحاج بعينه- ثم يحيلهم في هذا الكتاب على ذلك التعريف المخصوص- .
قال الشافعي و للمغرب وقت واحد و هو قول مالك- . و حكى أبو ثور عن الشافعي أن لها وقتين- و آخر وقتها إذا غاب الشفق- و ليس بمشهور عنه و المشهور القول الأول- و قد ذكرنا قول أبي حنيفة فيما تقدم- و هو امتداد وقتها إلى أن يغيب الشفق- و به قال أحمد و داود- .
و اختلف أصحاب الشافعي في مقدار الوقت الواحد- فمنهم من قال هو مقدر بقدر الطهارة و ستر العورة- و الأذان و الإقامة و فعل ثلاث ركعات- و منهم من قدره بغير ذلك- . و قال أبو إسحاق الشيرازي منهم- التضييق إنما هو في الشروع- فأما الاستدامة فتجوز إلى مغيب الشفق- . فأما وقت العشاء- فقال الشافعي هو أن يغيب الشفق و هو الحمرة- و هو قول مالك و أحمد و داود و أبي يوسف و محمد- و قد حكينا مذهب أبي حنيفة فيما تقدم- و هو أن يغيب الشفق الذي هو البياض و به قال زفر و المزني- .
قال الشافعي و آخر وقتها المختار إلى نصف الليل- هذا هو قوله القديم و هو مذهب أبي حنيفة- و قال في الجديد إلى ثلث الليل- و يجب أن يحمل قول أمير المؤمنين ع في العشاء- إنها إلى ثلث الليل على وقت الاختيار- ليكون مطابقا لهذا القول- و به قال مالك و إحدى الروايتين عن أحمد- ثم يذهب وقت الاختيار- و يبقى وقت الجواز إلى طلوع الفجر الثاني- .
و قال أبو سعيد الإصطخري- لا يبقى وقت الجواز بعد نصف الليل بل يصير قضاء- . فقد ذكرنا مذهبي أبي حنيفة و الشافعي في الأوقات- و هما الإمامان المعتبران في الفقه- و دخل في ضمن حكاية مذهب الشافعي- ما يقوله مالك و أحمد و غيرهما من الفقهاء- . فأما مذهب الإمامية من الشيعة- فنحن نذكره نقلا عن كتاب أبي عبد الله- محمد بن محمد بن النعمان رحمه الله- المعروف بالرسالة المقنعة- قال وقت الظهر من بعد زوال الشمس- إلى أن يرجع الفيء سبعي الشخص- و علامة الزوال رجوع الفيء بعد انتهائه إلى النقصان- و طريق معرفة ذلك بالأصطرلاب أو ميزان الشمس- و هو معروف عند كثير من الناس- أو بالعمود المنصوب في الدائرة الهندية أيضا- فمن لم يعرف حقيقة العمل بذلك أو لم يجد آلته- فلينصب عودا من خشب أو غيره في أرض مستوية السطح- و يكون أصل العود غليظا و رأسه دقيقا شبه المذري- الذي ينسج به التكك أو المسلة التي تخاط بها الأحمال- فإن ظل هذا العود- يكون بلا شك في أول النهار أطول من العود- و كلما ارتفعت الشمس نقص من طوله- حتى يقف القرص في وسط السماء- فيقف الفيء حينئذ- فإذا زال القرص عن الوسط إلى جهة المغرب- رجع الفيء إلى الزيادة- فليعتبر من أراد الوقوف على وقت الزوال ذلك- بخطط و علامات يجعلها على رأس ظل العود- عند وضعه في صدر النهار- و كلما نقص في الظل شيء علم عليه- فإذا رجع إلى الزيادة على موضع العلامة- عرف حينئذ برجوعه أن الشمس قد زالت- . و بذلك تعرف أيضا القبلة- فإن قرص الشمس يقف فيها وسط النهار- و يصير عن يسارها و يمين المتوجه إليها- بعد وقوفها و زوالها عن القطب- فإذا صارت مما يلي حاجبه الأيمن من بين عينيه- علم أنها قد زالت و عرف أن القبلة تلقاء وجهه- و من سبقت معرفته بجهة القبلة- فهو يعرف زوال الشمس إذا توجه إليها- فرأى عين الشمس مما يلي حاجبه الأيمن- إلا أن ذلك لا يبين إلا بعد زوالها بزمان- و يبين الزوال من أول وقته بما ذكرناه- من الأصطرلاب و ميزان الشمس و الدائرة الهندية- و العمود الذي وصفناه- و من لم يحصل له معرفة ذلك أو فقد الآلة توجه إلى القبلة- فاعتبر صيرورة الشمس على طرف حاجبه الأيمن وقت العصر- من بعد الفراغ من الظهر- إذا صليت الظهر في أول أوقاتها- أعني بعد زوال الشمس بلا فصل- و يمتد إلى أن يتغير لون الشمس باصفرارها للغروب- و للمضطر و الناسي إلى مغيبها بسقوط القرص- عما تبلغه أبصارنا من السماء- و أول وقت المغرب مغيب الشمس- و علامة مغيبها عدم الحمرة في المشرق- المقابل للمغرب في السماء- و ذلك أن المشرق في السماء مطل على المغرب- فما دامت الشمس ظاهرة فوق أرضنا- فهي تلقى ضوءها على المشرق في السماء فيرى حمرتها فيه- فإذا ذهبت الحمرة منه علم أن القرص قد سقط و غاب- و آخره أول وقت العشاء الآخرة- و أول وقتها مغيب الشمس و هو الحمرة في المغرب- و آخره مضي الثلث الأول من الليل- و أول وقت الغداة اعتراض الفجر- و هو البياض في المشرق يعقبه الحمرة في مكانه- و يكون مقدمة لطلوع الشمس على الأرض من السماء- و ذلك أن الفجر الأول- و هو البياض الظاهر في المشرق يطلع طولا- ثم ينعكس بعد مدة عرضا ثم يحمر الأفق بعده للشمس- .
و لا ينبغي للإنسان أن يصلي فريضة الغداة- حتى يعترض البياض و ينتشر صعدا في السماء كما ذكرنا- و آخر وقت الغداة طلوع الشمس- . هذا ما تقوله الفقهاء في مواقيت الصلاةفأما قوله ع و الرجل يعرف وجه صاحبه- فمعناه الإسفار و قد ذكرناه- . و قوله ع و صلوا بهم صلاة أضعفهم- أي لا تطيلوا بالقراءة الكثيرة و الدعوات الطويلة- . ثم قال و لا تكونوا فتانين- أي لا تفتنوا الناس بإتعابهم- و إدخال المشقة عليهم بإطالة الصلاة- و إفساد صلاة المأمومين بما يفعلونه من أفعال مخصوصة- نحو أن يحدث الإمام فيستخلف فيصلي الناس خلف خليفته- فإن ذلك لا يجوز على أحد قولي الشافعي- و نحو أن يطيل الإمام الركوع و السجود- فيظن المأمومون أنه قد رفع فيرفعون- أو يسبقونه بأركان كثيرة- و نحو ذلك من مسائل يذكرها الفقهاء في كتبهم- .
و اعلم أن أمير المؤمنين ع إنما بدأ بصلاة الظهر- لأنها أول فريضة افترضت على المكلفين من الصلاة- على ما كان يذهب إليه ع- و إلى ذلك تذهب الإمامية و ينصر قولهم تسميتها بالأولى- و لهذا بدأ أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان- بذكرها قبل غيرها- فأما من عدا هؤلاء فأول الصلاة المفروضة عندهم الصبح- و هي أول النهار- . و أيضا يتفرع على هذا البحث- القول في الصلاة الوسطى ما هي- فذهب جمهور الناس إلى أنها العصر- لأنها بين صلاتي نهار و صلاتي ليل- و قد رووا أيضا في ذلك روايات بعضها في الصحاح- و قياس مذهب الإمامية أنها المغرب- لأن الظهر إذا كانت الأولى كانت المغرب الوسطى- إلا أنهم يروون عن أئمتهم ع أنها الظهر- و يفسرون الوسطى بمعنى الفضلى- لأن الوسط في اللغة هو خيار كل شيء- و منه قوله تعالى جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً- و قد ذهب إلى أنها المغرب قوم من الفقهاء أيضا- . و قال كثير من الناس أنها الصبح- لأنها أيضا بين صلاتي ليل و صلاتي نهار- و رووا أيضا فيها روايات و هو مذهب الشافعي- و من الناس من قال إنها الظهر كقول الإمامية- و لم يسمع عن أحد معتبرا أنها العشاء- إلا قولا شاذا ذكره بعضهم- .
و قال لأنها بين صلاتين لا تقصران
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 17