39 و من كتاب له ع إلى عمرو بن العاص
فَإِنَّكَ قَدْ جَعَلْتَ دِينَكَ تَبَعاً لِدُنْيَا امْرِئٍ- ظَاهِرٍ غَيُّهُ مَهْتُوكٍ سِتْرُهُ- يَشِينُ الْكَرِيمَ بِمَجْلِسِهِ وَ يُسَفِّهُ الْحَلِيمَ بِخِلْطَتِهِ- فَاتَّبَعْتَ أَثَرَهُ وَ طَلَبْتَ فَضْلَهُ- اتِّبَاعَ الْكَلْبِ لِلضِّرْغَامِ يَلُوذُ بِمَخَالِبِهِ- وَ يَنْتَظِرُ مَا يُلْقَى إِلَيْهِ مِنْ فَضْلِ فَرِيسَتِهِ- فَأَذْهَبْتَ دُنْيَاكَ وَ آخِرَتَكَ- وَ لَوْ بِالْحَقِّ أَخَذْتَ أَدْرَكْتَ مَا طَلَبْتَ- فَإِنْ يُمَكِّنِ اللَّهُ مِنْكَ وَ مِنِ ابْنِ أَبِي سُفْيَانَ- أَجْزِكُمَا بِمَا قَدَّمْتُمَا- وَ إِنْ تُعْجِزَا وَ تَبْقَيَا فَمَا أَمَامَكُمَا شَرٌّ لَكُمَا- وَ السَّلَامُ كل ما قاله فيهما هو الحق الصريح بعينه- لم يحمله بغضه لهما و غيظه منهما- إلى أن بالغ في ذمهما به- كما يبالغ الفصحاء عند سورة الغضب- و تدفق الألفاظ على الألسنة- و لا ريب عند أحد من العقلاء ذوي الإنصاف- أن عمرا جعل دينه تبعا لدنيا معاوية- و أنه ما بايعه و تابعه إلا على جعالة جعلها له- و ضمان تكفل له بإيصاله- و هي ولاية مصر مؤجلة- و قطعة وافرة من المال معجلة- و لولديه و غلمانه ما ملأ أعينهم- . فأما قوله ع في معاوية ظاهر غيه- فلا ريب في ظهور ضلاله و بغيه- و كل باغ غاو- .
أما مهتوك ستره فإنه كان كثير الهزل و الخلاعة- صاحب جلساء و سمار و معاوية لم يتوقر- و لم يلزم قانون الرئاسة إلا منذ خرج على أمير المؤمنين- و احتاج إلى الناموس و السكينة- و إلا فقد كان في أيام عثمان شديد التهتك- موسوما بكل قبيح- و كان في أيام عمر يستر نفسه قليلا خوفا منه- إلا أنه كان يلبس الحرير و الديباج- و يشرب في آنية الذهب و الفضة- و يركب البغلات ذوات السروج المحلاة بها- و عليها جلال الديباج و الوشي- و كان حينئذ شابا و عنده نزق الصبا- و أثر الشبيبة و سكر السلطان و الإمرة- و نقل الناس عنه في كتب السيرة- أنه كان يشرب الخمر في أيام عثمان في الشام- و أما بعد وفاة أمير المؤمنين و استقرار الأمر له- فقد اختلف فيه فقيل إنه شرب الخمر في ستر- و قيل إنه لم يشربه- و لا خلاف في أنه سمع الغناء و طرب عليه- و أعطى و وصل عليه أيضا- .
و روى أبو الفرج الأصفهاني قال- قال عمرو بن العاص لمعاوية- في قدمة قدمها إلى المدينة أيام خلافته- قم بنا إلى هذا الذي قد هدم شرفه و هتك ستره- عبد الله بن جعفر- نقف على بابه فنسمع غناء جواريه- فقاما ليلا و معهما وردان غلام عمرو- و وقفا بباب عبد الله بن جعفر- فاستمعا الغناء و أحس عبد الله بوقوفهما- ففتح الباب و عزم على معاوية أن يدخل فدخل- فجلس على سرير عبد الله- فدعا عبد الله له و قدم إليه يسيرا من طعام فأكل- فلما أنس قال يا أمير المؤمنين- أ لا تأذن لجواريك أن يتممن أصواتهن- فإنك قطعتها عليهن- قال فليقلن فرفعن أصواتهن- و جعل معاوية يتحرك قليلا قليلا- حتى ضرب برجله السرير ضربا شديدا- فقال عمرو قم أيها الرجل- فإن الرجل الذي جئت لتلحاه أو لتعجب من امرئ- أحسن حالا منك- فقال مهلا فإن الكريم طروب- .
أما قوله يشين الكريم بمجلسه- و يسفه الحليم بخلطته- فالأمر كذلك- فإنه لم يكن في مجلسه إلا شتم بني هاشم و قذفهم- و التعرض بذكر الإسلام و الطعن عليه- و إن أظهر الانتماء إليه- و أما طلب عمرو فضله و اتباعه أثره- اتباع الكلب للأسد فظاهر- و لم يقل الثعلب غضا من قدر عمرو- و تشبيها له بما هو أبلغ في الإهانة و الاستخفاف- .
ثم قال و لو بالحق أخذت أدركت ما طلبت- أي لو قعدت عن نصره و لم تشخص إليه ممالئا به على الحق- لوصل إليك من بيت المال قدر كفايتك- . و لقائل أن يقول إن عمرا ما كان يطلب قدر الكفاية- و علي ع ما كان يعطيه إلا حقه فقط- و لا يعطيه بلدا و لا طرفا من الأطراف- و الذي كان يطلب ملك مصر- لأنه فتحها أيام عمر و وليها برهة- و كانت حسرة في قلبه و حزازة في صدره- فباع آخرته بها- فالأولى أن يقال معناه لو أخذت بالحق- أدركت ما طلبت من الآخرة- . فإن قلت إن عمرا لم يكن علي ع يعتقد أنه من أهل الآخرة- فكيف يقول له هذا الكلام- قلت لا خلل و لا زلل في كلامه ع- لأنه لو أخذ بالحق- لكان معتقدا كون علي ع على الحق- باعتقاده صحة نبوة رسول الله ص و صحة التوحيد- فيصير تقدير الكلام- لو بايعتني معتقدا للزوم بيعتي لك- لكنت في ضمن ذلك طالبا الثواب- فكنت تدركه في الآخرة- . ثم قال مهددا لهما و متوعدا إياهما- فإن يمكن الله منك و من ابن أبي سفيان- و أقول لو ظفر بهما لما كان في غالب ظني يقتلهما- فإنه كان حليما كريما- و لكن كان يحبسهما ليحسم بحبسهما مادة فسادهما- .
ثم قال و إن تعجزا و تبقيا- أي و إن لم أستطع أخذكما أو أمت قبل ذلك- و بقيتما بعدي- فما أمامكما شر لكما من عقوبة الدنيا- لأن عذاب الدنيا منقطع- و عذاب الآخرة غير منقطع- . و ذكر نصر بن مزاحم في كتاب صفين- هذا الكتاب بزيادة لم يذكرها الرضي- قال نصر و كتب علي ع إلى عمرو بن العاص- من عبد الله علي أمير المؤمنين- إلى الأبتر ابن الأبتر عمرو بن العاص بن وائل- شانئ محمد و آل محمد في الجاهلية و الإسلام- سلام على من اتبع الهدى- أما بعد فإنك تركت مروءتك لامرئ فاسق مهتوك ستره- يشين الكريم بمجلسه و يسفه الحليم بخلطته- فصار قلبك لقلبه تبعا- كما قيل وافق شن طبقة- فسلبك دينك و أمانتك و دنياك و آخرتك- و كان علم الله بالغا فيك- فصرت كالذئب يتبع الضرغام إذا ما الليل دجى- أو أتى الصبح يلتمس فاضل سؤره- و حوايا فريسته- و لكن لا نجاة من القدر- و لو بالحق أخذت لأدركت ما رجوت- و قد رشد من كان الحق قائده- فإن يمكن الله منك و من ابن آكلة الأكباد- ألحقتكما بمن قتله الله من ظلمة قريش على عهد رسول الله ص- و إن تعجزا و تبقيا بعد فالله حسبكما- و كفى بانتقامه انتقاما و بعقابه عقابا و السلام
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 16