38 و من كتاب له ع إلى أهل مصر لما ولى عليهم الأشتر
مِنْ عَبْدِ اللَّهِ عَلِيٍّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ- إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ غَضِبُوا لِلَّهِ- حِينَ عُصِيَ فِي أَرْضِهِ وَ ذُهِبَ بِحَقِّهِ- فَضَرَبَ الْجَوْرُ سُرَادِقَهُ عَلَى الْبَرِّ وَ الْفَاجِرِ- وَ الْمُقِيمِ وَ الظَّاعِنِ- فَلَا مَعْرُوفٌ يُسْتَرَاحُ إِلَيْهِ- وَ لَا مُنْكَرٌ يُتَنَاهَى عَنْهُ- أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ بَعَثْتُ إِلَيْكُمْ عَبْداً مِنْ عِبَادِ اللَّهِ- لَا يَنَامُ أَيَّامَ الْخَوْفِ- وَ لَا يَنْكُلُ عَنِ الْأَعْدَاءِ سَاعَاتِ الرَّوْعِ- أَشَدَّ عَلَى الْفُجَّارِ مِنْ حَرِيقِ النَّارِ- وَ هُوَ مَالِكُ بْنُ الْحَارِثِ أَخُو مَذْحِجٍ- فَاسْمَعُوا لَهُ وَ أَطِيعُوا أَمْرَهُ فِيمَا طَابَقَ الْحَقَّ- فَإِنَّهُ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ- لَا كَلِيلُ الظُّبَةِ وَ لَا نَابِي الضَّرِيبَةَ- فَإِنْ أَمَرَكُمْ أَنْ تَنْفِرُوا فَانْفِرُوا- وَ إِنْ أَمَرَكُمْ أَنْ تُقِيمُوا فَأَقِيمُوا- فَإِنَّهُ لَا يُقْدِمُ وَ لَا يُحْجِمُ- وَ لَا يُؤَخِّرُ وَ لَا يُقَدِّمُ إِلَّا عَنْ أَمْرِي- وَ قَدْ آثَرْتُكُمْ بِهِ عَلَى نَفْسِي لِنَصِيحَتِهِ لَكُمْ- وَ شِدَّةِ شَكِيمَتِهِ عَلَى عَدُوِّكُمْ
هذا الفصل يشكل علي تأويله- لأن أهل مصر هم الذين قتلوا عثمان- و إذا شهد أمير المؤمنين ع- أنهم غضبوا لله حين عصي في الأرض- فهذه شهادة قاطعة على عثمان بالعصيان و إتيان المنكر- و يمكن أن يقال و إن كان متعسفا- إن الله تعالىعصي في الأرض لا من عثمان- بل من ولاته و أمرائه و أهله- و ذهب بينهم بحق الله- و ضرب الجور سرادقه بولايتهم- و أمرهم على البر و الفاجر و المقيم و الظاعن- فشاع المنكر و فقد المعروف- يبقى أن يقال هب أن الأمر كما تأولت- فهؤلاء الذين غضبوا لله إلى ما ذا آل أمرهم- أ ليس الأمر آل إلى أنهم قطعوا المسافة- من مصر إلى المدينة فقتلوا عثمان- فلا تعدو حالهم أمرين إلا أن يكونوا أطاعوا الله بقتله- فيكون عثمان عاصيا مستحقا للقتل- أو يكونوا أسخطوا الله تعالى بقتله- فعثمان إذا على حق و هم الفساق العصاة- فكيف يجوز أن يبجلهم أو يخاطبهم خطاب الصالحين- و يمكن أن يجاب عن ذلك بأنهم غضبوا لله- و جاءوا من مصر- و أنكروا على عثمان تأميره الأمراء الفساق- و حصروه في داره- طلبا أن يدفع إليهم مروان ليحبسوه- أو يؤدبوه على ما كتبه في أمرهم- فلما حصر طمع فيه مبغضوه و أعداؤه- من أهل المدينة و غيرها- و صار معظم الناس إلبا عليه- و قل عدد المصريين- بالنسبة إلى ما اجتمع من الناس على حصره- و مطالبته بخلع نفسه- و تسليم مروان و غيره من بني أمية إليهم- و عزل عماله و الاستبدال بهم- و لم يكونوا حينئذ يطلبون نفسه- و لكن قوما منهم و من غيرهم تسوروا داره- فرماهم بعض عبيده بالسهام فجرح بعضهم- فقادت الضرورة إلى النزول و الإحاطة به- و تسرع إليه واحد منهم فقتله- ثم إن ذلك القاتل قتل في الوقت- و قد ذكرنا ذلك فيما تقدم و شرحناه- فلا يلزم من فسق ذلك القاتل و عصيانه- أن يفسق الباقون لأنهم ما أنكروا إلا المنكر- و أما القتل فلم يقع منهم- و لا راموه و لا أرادوه- فجاز أن يقال إنهم غضبوا لله- و أن يثنى عليهم و يمدحهم- . ثم وصف الأشتر بما وصفه به- و مثل قوله لا ينام أيام الخوف قولهم- لا ينام ليلة يخاف و لا يشبع ليلة يضاف- و قال
فأتت به حوش الفؤاد مبطنا
سهدا إذا ما نام ليل الهوجل
ثم أمرهم أن يطيعوه فيما يأمرهم به مما يطابق الحق- و هذا من شدة دينه و صلابته ع- لم يسامح نفسه في حق أحب الخلق إليه- أن يهمل هذا القيد- قال رسول الله ص لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق- . و قال أبو حنيفة قال لي الربيع في دهليز المنصور- إن أمير المؤمنين يأمرني بالشيء بعد الشيء- من أمور ملكه- فأنفذه و أنا خائف على ديني فما تقول في ذلك- قال و لم يقل لي ذلك إلا في ملإ الناس- فقلت له أ فيأمر أمير المؤمنين بغير الحق قال لا- قلت فلا بأس عليك أن تفعل بالحق- قال أبو حنيفة فأراد أن يصطادني فاصطدته- .
و الذي صدع بالحق في هذا المقام الحسن البصري- قال له عمر بن هبيرة أمير العراق- في خلافة يزيد بن عبد الملك في ملإ من الناس- منهم الشعبي و ابن سيرين- يا أبا سعيد إن أمير المؤمنين يأمرني بالشيء- اعلم أن في تنفيذه الهلكة في الدين- فما تقول في ذلك- قال الحسن ما ذا أقول إن الله مانعك من يزيد- و لن يمنعك يزيد من الله- يا عمر خف الله- و اذكر يوما يأتيك تتمخض ليلته عن القيامة- أنه سينزل عليك ملك من السماء- فيحطك عن سريرك إلى قصرك- و يضطرك من قصرك إلى لزوم فراشك- ثم ينقلك عن فراشك إلى قبرك- ثم لا يغني عنك إلا عملك-
فقام عمر بن هبيرة باكيا يصطك لسانه- . قوله فإنه سيف من سيوف الله- هذا لقب خالد بن الوليد و اختلف فيمن لقبه به- فقيل لقبه به رسول الله ص- و الصحيح أنه لقبه به أبو بكر لقتاله أهل الردة- و قتله مسيلمة- . و الظبة بالتخفيف حد السيف- و النابي من السيوف الذي لا يقطع- و أصله نبا أي ارتفع- فلما لم يقطع كان مرتفعا فسمي نابيا- و في الكلام حذف تقديره و لا ناب ضارب الضريبة- و ضارب الضريبة هو حد السيف- فأما الضريبة نفسها فهو الشيء المضروب بالسيف- و إنما دخلته الهاء و إن كان بمعنى مفعول- لأنه صار في عداد الأسماء كالنطيحة و الأكيلة- . ثم أمرهم بأن يطيعوه في جميع ما يأمرهم به- من الإقدام و الإحجام- و قال إنه لا يقدم و لا يؤخر إلا عن أمري- و هذا إن كان قاله- مع أنه قد سنح له أن يعمل برأيه في أمور الحرب- من غير مراجعته فهو عظيم جدا- لأنه يكون قد أقامه مقام نفسه-
و جاز أن يقول إنه لا يفعل شيئا إلا عن أمري- و إن كان لا يراجعه في الجزئيات على عادة العرب- في مثل ذلك- لأنهم يقولون فيمن يثقون به نحو ذلك- و قد ذهب كثير من الأصوليين- إلى أن الله تعالى قال لمحمد ص- احكم بما شئت في الشريعة فإنك لا تحكم إلا بالحق- و إنه كان يحكم من غير مراجعته لجبرائيل- و إن الله تعالى قد قال في حقه- وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى- إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى- و إن كان ع قال هذا القول عن الأشتر- لأنه قد قرر معه بينه و بينه ألا يعمل شيئا قليلا و لا كثيرا- إلا بعد مراجعته- فيجوز و لكن هذا بعيد- لأن المسافة طويلة بين العراق و مصر- و كانت الأمور هناك تقف و تفسد- .
ثم ذكر أنه آثرهم به على نفسه- و هكذا قال عمر لما أنفذ عبد الله بن مسعود إلى الكوفة- في كتابه إليهم قد آثرتكم به على نفسي- و ذلك أن عمر كان يستفتيه في الأحكام- و علي ع كان يصول على الأعداء بالأشتر- و يقوي أنفس جيوشه بمقامه بينهم- فلما بعثه إلى مصر كان مؤثرا لأهل مصر به على نفسه
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 16