و من كتاب له عليه السّلام إلى معاوية
وَ أَرْدَيْتَ جِيلًا مِنَ النَّاسِ كَثِيراً- خَدَعْتَهُمْ بِغَيِّكَ وَ أَلْقَيْتَهُمْ فِي مَوْجِ بَحْرِكَ- تَغْشَاهُمُ الظُّلُمَاتُ وَ تَتَلَاطَمُ بِهِمُ الشُّبُهَاتُ- فَجَازُوا عَنْ وِجْهَتِهِمْ وَ نَكَصُوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ- وَ تَوَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ وَ عَوَّلُوا عَلَى أَحْسَابِهِمْ- إِلَّا مَنْ فَاءَ مِنْ أَهْلِ الْبَصَائِرِ- فَإِنَّهُمْ فَارَقُوكَ بَعْدَ مَعْرِفَتِكَ- وَ هَرَبُوا إِلَى اللَّهِ مِنْ مُوَازَرَتِكَ- إِذْ حَمَلْتَهُمْ عَلَى الصَّعْبِ وَ عَدَلْتَ بِهِمْ عَنِ الْقَصْدِ- فَاتَّقِ اللَّهَ يَا مُعَاوِيَةُ فِي نَفْسِكَ- وَ جَاذِبِ الشَّيْطَانَ قِيَادَكَ- فَإِنَّ الدُّنْيَا مُنْقَطِعَةٌ عَنْكَ وَ الْآخِرَةَ قَرِيبَةٌ مِنْكَ- وَ السَّلَامُ
أقول: أوّل هذا الكتاب: من عبد اللّه أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان أمّا بعد فإنّ الدنيا دار تجارة و ربحها الآخرة. فالسعيد من كانت بضاعته فيها الأعمال الصالحة، و من رأى الدنيا بعينها و قدّرها بقدرها و إنّي لأعظك مع علمى بسابق العلم فيك ممّا لا مردّ له دون نفاذه، و لكنّ اللّه تعالى أخذ على العلماء أن يردّوا الأمانة، و أن ينصحوا الغوىّ و الرشيد. فاتّق اللّه و لا تكن ممّن لا يرجو للّه وقارا، و من حقّت عليهم كلمة العذاب فإنّ اللّه بالمرصاد، و أنّ دنياك ستدبر عنك، و ستعود حسرة عليك فانتبه من الغيّ و الضلال على كبر سنّك و فناء عمرك فإنّ حالك اليوم كحال الثواب المهيل الّذي لا يصلح من جانب إلّا فسد من آخر. ثمّ يتّصل به و قد أرديت. الفصل.
اللغة
و المهيل: المتداعي في التمزّق، و منه رمل مهيل: أي ينهال و يسيل. و أرديت أهلكت. و الجيل: الصنف، و روى جبلا: و هو الخلق. و جاروا: عدلوا. و الوجهة: القصد. و النكوص: الرجوع. و عوّل على كذا: اعتمد عليه. و فاء: رجع. و الموازرة: المعاونة.
و في الكتاب مقاصد:
الأوّل: موعظته و تذكيره بحال الدنيا و كونها دار تجارة
و الغاية من التجارة فيها إمّا ربح الآخرة بصلاح البضاعة و هي الأعمال، و إمّا خسران الآخرة بفسادها.
الثاني: تنبيهه على أن يرى الدنيا بعينها
أي يعرفها بحقيقتها، أو يراها بالعين الّتي بها تعرف و هي عين البصيرة، و يعلم ما هي عليه من الغير و الزوال و أنّها خلقت لغيرها ليقدّرها بمقدارها و يجعلها في نظره لما خلقت له.
الثالث: نبّهه على أنّ للّه تعالى علما لا بدّ من نفاده فيه
فإنّ ما علم اللّه تعالى وقوعه لا بدّ من وقوعه، و إنّما وعظه امتثالا لأمر اللّه و وفاء بعهده على العلماء أن تؤدّوا أمانته، و تبلغوا أحكامه إلى خلقه و أن تنصحوا ضالّهم و رشيدهم.
الرابع: أمره بتقوى اللّه، و نهاه أن يكون ممّن لا يرجو للّه وقارا
أي لا يتوقّع للّه عظمة فيعبده و يطيعه. و الوقار: الاسم من التوقير: و هو التعظيم. و قيل: الرجاء هنا بمعنى الخوف فيكون مجازا إطلاقا لاسم أحد الضدّين على الآخر، و أن يكون ممّن حقّت عليه كلمة العذاب.
و قوله: فإنّ اللّه بالمرصاد.
تنبيه له على اطّلاعه عليه و علمه بما يفعل ليرتدع عن معصيته.
الخامس: نبّهه على إدبار الدنيا
و عودها حسرة عليه يوم القيامة فقدها مع عشقه لها، و عدم تمسّكه في الآخرة بعصم النجاة، و فناء زاده إليها.
السادس: أمره بالانتباه من رقدة الجهل و الضلال على حال كبر سنّه و فناء عمره
فإنّ تلك الحال أولى الأحوال بالانتباه منها، و نبّهه على أنّه غير قابل للإصلاح في ذلك السنّ بعد استحكام جهله و تمكّن الهيئات البدنيّة من جوهر نفسه و نهكها له فهو كالثوب الخلق لا يمكن إصلاحه بالخياطة بل كلّما خيط من جانب تمزّق من آخر.
السابع: أخبره في معرض التوبيخ على ما فعل بأهل الشام
من خدعته لهم و إلقائهم في موج بحره، و لمّا كان ضلاله عن دين اللّه و جهله بما ينبغي هو سبب خدعته لهم نسبها إليه، و استعار لفظ البحر لأحواله و آرائه في طلب الدنيا و الانحراف عن طريق اللّه باعتبار كثرتها و بعد غايتها، و لفظ الموج للشبه الّتي ألقاها إليهم و غرقهم بها فيما يريد من الأغراض الباطلة، و مشابهتها للموج في تلعّبها بأذهانهم و اضطراب أحوالهم بسببها ظاهرة، و كذلك استعار لفظ الظلمات لما حجب أبصار بصائرهم عن إدراك الحقّ من تلك الشبهات، و لفظ الغشيان لطريانها على قلوبهم و حجبها لها. و محلّ تغشاهم نصب على الحال. و كذلك لفظ التلاطم لتلعّب تلك الشبهات بعقولهم.
و قوله: فجازوا. عطف على ألقيتهم، و أراد أنّهم عدلوا عن الحقّ بسبب ما ألقاه إليهم من الشبه و اعتمدوا في قتالهم على أحسابهم حميّة الجاهليّة في الذبّ عن أصولهم و مفاخرهم دون مراعاة الدين و الذبّ عنه إلّا من رجع إلى الحقّ من أهل العقول فإنّهم عرفوك و ما أنت عليه من الضلال، فارقوك و هربوا إلى اللّه من مؤازرتك فيما تريده من هدم الدين حين حملتهم على الامور الصعبة الهادمة له و عدلت بهم عن قصد الحقّ. و قد كان استغوى العرب بشبهة قتل عثمان و الطلب بدمه. فلمّا عرف عقلاؤهم و المتمسّكون بالدين منهم أنّ ذلك خدعة منه لإرادة الملك فارقوه و اعتزلوه. و قوله: على أعقابهم، و على أدبارهم. ترشيح لاستعارة لفظى النكوص و التولّى من المحسوسين للمعقولين، و الاستثناء هنا من الجيل الذين خدعهم، و لفظ الصعب مستعار لما حملهم عليه من الأمور المستصعبة في الدين باعتبار أنّ ركوبهم لها يستلزم عدولهم عن صراط اللّه و وقوعهم في مهاوى الهلاك كما يستلزم ركوب الجمل الصعب النفور العدول براكبه عن الطريق و تقحّم المهالك، و كذلك لفظ القصد مستعار للطريق المعقول إلى الحقّ من الطريق المحسوس. ثمّ كرّر عليه الأمر بتقوى اللّه، و أن يجاذب الشيطان قياده. و استعار لفظ المجاذبة للممانعة المعقولة، و لفظ القياد لما يقوده به من الآراء الباطلة و كواذب الآمال، و ممانعة الشيطان لذلك القياد بتكذيب النفس الأمّارة فيما يوسوس به من تلك الآراء. و قوله: فإنّ الدنيا. إلى آخره. تنبيه له على وجوب قطع الآمال الدنيويّة لانقطاع الدنيا، و على العمل للآخرة بقربها. و هو في قوّة صغرى ضميرين تقدير كبرى الأوّل: و كلّ ما كان منقطعا زايلا وجب أن يقطع الأمل فيه لانقطاعه و تجاذب الشيطان في دعوته إليه، و تقدير كبرى الثاني: و كلّ ما كان قريبا فينبعي أن يستعدّ لوصوله بالعمل. و باللّه التوفيق.
شرح نهج البلاغة (ابن ميثم بحراني)، ج 5 ، صفحهى 69