و من وصيّة له عليه السّلام للحسن بن على عليهما السّلام، كتبها إليه بحاضرين منصرفا من صفين
أقول: روى جعفر بن بابويه القميّ- رحمه اللّه- أنّ هذه الوصيّة كتبها عليه السّلام إلى ابنه محمّد بن الحنفيّة- رضى اللّه عنه- و هى من أفصح الكلام و أبلغه و أشمله [أجمعه خ] لدقايق الحكمة العمليّة و لطايفها، و أكمل عبارة يجذب بها إلى سبيل اللّه. و حاضرين: اسم موضع بالشام. و فيها فصول:
الفصل الأوّل:
قوله: مِنَ الْوَالِدِ الْفَانِ الْمُقِرِّ لِلزَّمَانِ الْمُدْبِرِ الْعُمُرِ- الْمُسْتَسْلِمِ لِلدَّهْرِ الذَّامِّ لِلدُّنْيَا- السَّاكِنِ مَسَاكِنَ الْمَوْتَى وَ الظَّاعِنِ عَنْهَا غَداً- إِلَى الْمَوْلُودِ الْمُؤَمِّلِ مَا لَا يُدْرِكُ- السَّالِكِ سَبِيلَ مَنْ قَدْ هَلَكَ- غَرَضِ الْأَسْقَامِ وَ رَهِينَةِ الْأَيَّامِ- وَ رَمِيَّةِ الْمَصَائِبِ وَ عَبْدِ الدُّنْيَا وَ تَاجِرِ الْغُرُورِ- وَ غَرِيمِ الْمَنَايَا وَ أَسِيرِ الْمَوْتِ- وَ حَلِيفِ الْهُمُومِ وَ قَرِينِ الْأَحْزَانِ- وَ نُصُبِ الْآفَاتِ وَ صَرِيعِ الشَّهَوَاتِ وَ خَلِيفَةِ الْأَمْوَاتِ
اللغة
أقول: الرهينة: ما يرهن. و الرمّية: الهدف، و التاء لنقل الاسم من الوصفيّة
إلى الاسميّة الصرفة. و الحليف: المحالف. و النصب: الشيء المنصوب.
المعنى
و هذا الفصل كالعنوان للوصيّة، و قد ذكر لنفسه أوصافا سبعة، و لولده أربعة عشر في معرض الوعظ و التنفير عن الدنيا و الركون إليها، و ضاعف الأوصاف لولده لأنّه المقصود بالوصيّة و الموعظة:
فالأوّل: من الفان، و اللفظ هنا مجاز تسمية له باسم غايته، و وقف على المنقوص بحذف الياء لمراعاة القرينة الثانية، و قد علمت جوازه.
الثاني: المقرّ للزمان: أى بالغلبة و القهر المعترف بالعجز في يد تصريفاته كأنّه قدّره خصما ذا بأس يقرّ الأقران له.
الثالث: المدبر العمر، و ذاك أنّه كان عليه السّلام قد ذرّف على الستّين.
الرابع: المستسلم للدهر، و هو أبلغ من المقرّ للزمان.
الخامس: الذامّ للدنيا، و لم يزل عليه السّلام نافرا عنها و منفّرا بذكر معايبها.
السادس: الساكن مساكن الموتى، و هو تنفير عن الركون إلى الدنيا و المقام بها بذكر كونها مساكن الموتى. إذ من كان في مساكنهم يوشك أن يلحقه ما نزل بهم، و تقرب في التنفر من قوله تعالى «و سكنتم في مساكن الّذين ظلموا أنفسهم»«» الآية.
السابع: الظاعن عنها غدا، و هو تذكير بالمفارقة، و غدا كناية عن وقتها، و لفظ الظاعن مستعار له. و أمّا أوصاف المولود: فالأوّل: المؤمّل ما لا يدرك، و فيه تنفير عن طول الأمل. إذ كان ينسى الآخرة، و جعل وجه التنفير تأميله ما لا يدرك، و ظاهر أنّ الانسان ما دام في هذه الدار موجّه أمله نحو مطالبها كما أشار إليه سيّد المرسلين صلّى اللّه عليه و آله: يشيب بن آدم و يشبّ فيه خصلتان: الحرص و الأمل. و ذلك يستلزم انقضاء مدّته دون بلوغها. الثاني: السالك سبيل من قد هلك، و سبيلهم سفرهم في الدنيا إلى الآخرة و قطعهم لمنازل الأعمار، و أضافها إلى من هلك تذكيرا بالموت.الثالث: غرض الأسقام، و استعار لفظ الغرض له باعتبار كونه مرميّا بسهام الأمراض كالغرض. الرابع: رهينة الأيّام، و استعار له لفظ الرهينة باعتبار أنّ وجوده مربوط بالأوقات، و داخل في حكمها كما يرتبط الرهن بيد مرتهنه. الخامس: و رميّة المصائب، و هو كقوله: غرض الأسقام. السادس: و عبد الدنيا، و لفظ العبد مستعار لأنّ طالب الدنيا منقاد بطبعه إليها، و عامل لها كما ينقاد العبد لسيّده و يعمل له. السابع: و تاجر الغرور: أى تجارته لها غرور و غفلة عن المكاسب الحقيقيّة الباقية، و لفظ التاجر مستعار له باعتبار بذله لما له و أعماله في شرّ الدنيا على وهم أنّها هى المطالب الحقّة المربحة.
الثامن: و غريم المنايا، و لفظ الغريم مستعار له باعتبار طلب الموت له كالمتقاضى بالرحيل كما يتقاضى الغريم.
التاسع: استعار له لفظ الأسير باعتبار انقياده للموت و عدم تمكينه من الخلاص.
العاشر: و حليف الهموم.
الحادي عشر: و قرين الأحزان، و استعار لفظى الحليف و القرين له باعتبار عدم انفكاكه عن الهموم و الأحزان كما لا ينفكّ الحليف و القرين عن حليفه و قرينه.
الثاني عشر: و نصب الآفات، كقوله: و رميّة المصائب.
الثالث عشر: و صريع الشهوات، و لفظ الصريع مستعار له باعتبار كونه مغلوبا لشهوته مقهورا لها كالقتيل.
الرابع عشر: و خليفة الأموات، و فيه تنفير عن الدنيا بتذكير الموت لأنّ خليفة الأموات في معرض اللحوق بهم، و نحوه قول بعض الحكماء: إنّ امرء ليس بينه و بين آدم إلّا أب ميّت لمعرق النسب في الموت.
الفصل الثاني:
قوله: أَمَّا بَعْدُ- فَإِنَّ فِيمَا تَبَيَّنْتُ مِنْ إِدْبَارِ الدُّنْيَا عَنِّي- وَ جُمُوحِ الدَّهْرِ عَلَيَّ وَ إِقْبَالِ الْآخِرَةِ إِلَيَّ- مَا يَزَعُنِي عَنْ ذِكْرِ مَنْ سِوَايَ- وَ الِاهْتِمَامِ بِمَا وَرَائِي- غَيْرَ أَنِّي حَيْثُ تَفَرَّدَ بِي دُونَ هُمُومِ النَّاسِ هَمُّ نَفْسِي- فَصَدَقَنِي رَأْيِي وَ صَرَفَنِي عَنْ هَوَايَ- وَ صَرَّحَ لِي مَحْضُ أَمْرِي- فَأَفْضَى بِي إِلَى جِدٍّ لَا يَكُونُ فِيهِ لَعِبٌ- وَ صِدْقٍ لَا يَشُوبُهُ كَذِبٌ وَ وَجَدْتُكَ بَعْضِي- بَلْ وَجَدْتُكَ كُلِّي- حَتَّى كَأَنَّ شَيْئاً لَوْ أَصَابَكَ أَصَابَنِي- وَ كَأَنَّ الْمَوْتَ لَوْ أَتَاكَ أَتَانِي- فَعَنَانِي مِنْ أَمْرِكَ مَا يَعْنِينِي مِنْ أَمْرِ نَفْسِي- فَكَتَبْتُ إِلَيْكَ كِتَابِي مُسْتَظْهِراً بِهِ إِنْ أَنَا بَقِيتُ لَكَ أَوْ فَنِيتُ
اللغة
أقول: جمح الفرس: إذا غلب صاحبه فلم يملكه. و يزعني: يمنعني. و المحض: الخالص. و أفضى: أى انتهى. و الشوب: المزج و الخلط.
المعنى
و قابل في لفظه بين الإقبال و الادبار و الآخرة و الدنيا. و قد أشرنا إلى معنى إدبار الدنيا و إقبال الآخرة في قوله: ألا و إنّ الدنيا قد أدبرت، و استعار لفظ الجموح للدهر باعتبار عدم تمكّنه من ضبطه في تغيّراته و تصريفاته الخارجة عن اختياره كالجموح من الخيل، و ما الاولى بمعنى الّذي، و يحتمل أن تكون مصدريّة، و على المعنى الأوّل يكون من للتبيين، و على الثاني لابتداء الغاية، و ما الثانية بمعنى الّذي و محلّها الرفع بالابتداء، و فيما تبيّنت خبره، و مستظهرا حال، و مدار الفصل على إعلامه إيّاه أنّه في معرض الزوال عنه و أنّ ذلك الوقت هو وقت الاهتمام بحال نفسه و بحاله لينزّله منزلة نفسه و أنّه شديد الاهتمام بحاله ليكون ذلك أدعى لقبول وصيّته و هو كالتوطئة و التمهيد لها.
ثمّ أعلمه أنّ فيما تبيّن له عليه السّلام من الأمور المذكورة قرب رحيله إلى اللّه و ذلك هو الّذي وزعه و منعه عن ذكر ما سواه و الاهتمام بما وراءه من المصالح المتعلّقة بصلاح الخلق و نظام العالم. إذ كان ذلك هو وقت التضيّق على الإنسان فيما هو أهمّ عليه من الاستكمال بالفضايل و الاستعداد للقاء اللّه دون ما سبق من أوقات الشبيبة و استقبال العمر لاتّساعها لصلاح حال الغير و الاشتغال بالامور المباحة، غير أنّه حين تبيّن له ذلك و تفرّد به همّ نفسه دون غيرها، و من صدّقه رأيه بكشفه له عمّا ينبغي أن يكون اشتغاله به من أمر نفسه و وجوب العمل لها فيما يهمّها، و صرفه عن هواه فيما يخرج عنها. إذ كان أجود الآراء و أصدقها في الأمر عنده شدّة، الاهتمام به، و صرّح له خالص أمره و ما ينبغي له، و انتهى به إلى جدّ و صدق خالصين من شائبة اللعب و الكذب. وجده عليه السّلام بعضا منه و هو كناية عن شدّة اتّصاله به و قربه منه و محبّته له كما قال الشاعر:
و إنّما أولادنا بيننا أكبادنا يمشى على الأرض
بل وجده كلّه: أى عبارة عن كلّه. إذ كان هو الخليفة له و القائم مقامه و وارث علمه و فضائله، و دلّ على شدّة قربه منه و أنّه بمنزلة نفسه بذكر الغايتين في قوله: حتّى. إلى قوله: أتانى، و وجه التشبيه بين ما يصيب ولده و بين ذلك الشيء و إن لم يصبه عليه السّلام شدّة تألّمه به.
و اعلم أنّ ذلك الوجدان و إن كان له طبعا كما يحصل للوالد في أمر ولده لكنّه ممّا لزم التفطّن له في آخر العمر عند تذكير انقطاع الدنيا لما في طبعه من محبّة بقاء الذكر الجميل و الحرص على دوام الخير و الآثار الصالحة في العالم و لذلك جعله لازما لتفرّد همّ نفسه به و صدق رأيه في النصيحة، و روى: محض. مرفوعا على الفاعليّة و منصوبا بإسقاط حرف الجرّ، و التقدير عن محض أمري، ثمّ نبّه على أنّ من لوازم وجدانه لما وجده من أمره أن عناه و أهمّه منه ما يهمّه من أمر نفسه فكتب إليه هذه الوصيّة ليكون له ظهرا و مستندا يرجع إلى العمل بها في حالتي بقائه له و فنائه عنه. إذ كان ما اشتملت عليه هذه الوصيّة من الحكم و الآداب و مكارم الأخلاق، و تعريف سلوك سبيل اللّه مما راض به نفسه في مدّة عمره اقتفاء لأثر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و اقتداء به فاقتضت عنايته به أن يحثّه على العمل بها. و باللّه التوفيق.
الفصل الثالث:
قوله: فَإِنِّي أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ أَيْ بُنَيَّ وَ لُزُومِ أَمْرِهِ- وَ عِمَارَةِ قَلْبِكَ بِذِكْرِهِ وَ الِاعْتِصَامِ بِحَبْلِهِ- وَ أَيُّ سَبَبٍ أَوْثَقُ مِنْ سَبَبٍ بَيْنَكَ وَ بَيْنَ اللَّهِ- إِنْ أَنْتَ أَخَذْتَ بِهِ- أَحْيِ قَلْبَكَ بِالْمَوْعِظَةِ وَ أَمِتْهُ بِالزَّهَادَةِ- وَ قَوِّهِ بِالْيَقِينِ وَ نَوِّرْهُ بِالْحِكْمَةِ- وَ ذَلِّلْهُ بِذِكْرالْمَوْتِ وَ قَرِّرْهُ بِالْفَنَاءِ- وَ بَصِّرْهُ فَجَائِعَ الدُّنْيَا- وَ حَذِّرْهُ صَوْلَةَ الدَّهْرِ وَ فُحْشَ تَقَلُّبِ اللَّيَالِي وَ الْأَيَّامِ- وَ اعْرِضْ عَلَيْهِ أَخْبَارَ الْمَاضِينَ- وَ ذَكِّرْهُ بِمَا أَصَابَ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ مِنَ الْأَوَّلِينَ- وَ سِرْ فِي دِيَارِهِمْ وَ آثَارِهِمْ- فَانْظُرْ فِيمَا فَعَلُوا وَ عَمَّا انْتَقَلُوا وَ أَيْنَ حَلُّوا وَ نَزَلُوا- فَإِنَّكَ تَجِدُهُمْ قَدِ انْتَقَلُوا عَنِ الْأَحِبَّةِ- وَ حَلُّوا دِيَارَ الْغُرْبَةِ- وَ كَأَنَّكَ عَنْ قَلِيلٍ قَدْ صِرْتَ كَأَحَدِهِمْ- فَأَصْلِحْ مَثْوَاكَ وَ لَا تَبِعْ آخِرَتَكَ بِدُنْيَاكَ- وَ دَعِ الْقَوْلَ فِيمَا لَا تَعْرِفُ وَ الْخِطَابَ فِيمَا لَمْ تُكَلَّفْ- وَ أَمْسِكْ عَنْ طَرِيقٍ إِذَا خِفْتَ ضَلَالَتَهُ- فَإِنَّ الْكَفَّ عِنْدَ حَيْرَةِ الضَّلَالِ خَيْرٌ مِنْ رُكُوبِ الْأَهْوَالِ وَ أْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ تَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ- وَ أَنْكِرِ الْمُنْكَرَ بِيَدِكَ وَ لِسَانِكَ- وَ بَايِنْ مَنْ فَعَلَهُ بِجُهْدِكَ- وَ جَاهِدْ فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ- وَ لَا تَأْخُذْكَ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ- وَ خُضِ الْغَمَرَاتِ لِلْحَقِّ حَيْثُ كَانَ وَ تَفَقَّهْ فِي الدِّينِ- وَ عَوِّدْ نَفْسَكَ التَّصَبُّرَ عَلَى الْمَكْرُوهِ- وَ نِعْمَ الْخُلُقُ التَّصَبُرُ فِي الْحَقِّ- وَ أَلْجِئْ نَفْسَكَ فِي أُمُورِكَ كُلِّهَا إِلَى إِلَهِكَ- فَإِنَّكَ تُلْجِئُهَا إِلَى كَهْفٍ حَرِيزٍ وَ مَانِعٍ عَزِيزٍ- وَ أَخْلِصْ فِي الْمَسْأَلَةِ لِرَبِّكَ- فَإِنَّ بِيَدِهِ الْعَطَاءَ وَ الْحِرْمَانَ- وَ أَكْثِرِ الِاسْتِخَارَةَ وَ تَفَهَّمْ وَصِيَّتِي- وَ لَا تَذْهَبَنَّ عَنْكَ صَفْحاً- فَإِنَّ خَيْرَ الْقَوْلِ مَا نَفَعَ- وَ اعْلَمْ أَنَّهُ لَا خَيْرَ فِي عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ- وَ لَا يُنْتَفَعُ بِعِلْمٍ لَا يَحِقُّ تَعَلُّمُهُ
اللغة
أقول: الغمرات: الشدائد. و المثوى: محلّ الثواء و الإقامة.
و هذا حين افتتح ما يريد أن يوصى به. و اشتمل هذا الفصل من ذلك على أمور:
أحدها: تقوى اللّه
و قد علمت حقيقتها فيما سلف، و يشبه أن يكون المراد بها هنا الخوف منه تعالى.
الثاني: لزوم أمره
و هو من لوازم تقواه.
الثالث: عمارة قلبه بذكره
و استعار لفظ العمارة لتكميل قلبه بذكر اللّه، و إكثاره منه لأنّه روح العبادات و كمال النفس كما أنّ العمارة كمال للدار و هو داخل في لزوم ذكره لقوله تعالى وَ اذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ«».
الرابع: الاعتصام بحبله
و استعار لفظ الحبل لما يوصل إليه من دينه فيكون التمسّك به سببا للنجاة كالحبل، و أراد بالاعتصام الامتناع بالتمسّك به من عذاب اللّه. ثمّ استفهم عن سبب أوثق منه استفهام إنكار و تعجّب من وثاقته، و يدخل في لزوم أمره لقوله تعالى وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً«».
الخامس: أمره أن يحيى قلبه بالموعظة،
و استعار وصف الإحياء له باعتبارتكميله لنفسه بالعلم و الاعتبار الحاصل عن الموعظة كما يكمل المرء بالحياة.
السادس: قوله: أمته بالزهادة
و الّذي يميته هى النفس الأمّارة بالسوء، و إماتتها كسرها عن ميولها المخالفة لأداء العقل بترك الدنيا و الإعراض عنها و تطويعها بذلك، و يحتمل أن يريد به النفس العاقلة أيضا، و إماتتها قطعها عن متابعة هواها.
السابع: أن يقويه باليقين
أى من ضعف الجهل للصعود إلى أفق عليّين و النهوض إلى مقام الأبرار، و لمّا كان اليقين درجة اشتداد و قوّة في العلم ناسب أن يجعله تقوية للقلب.
الثامن، و أن ينوّره بالحكمة،
و استعار لفظ التنوير بالحكمة لتحمّله لها باعتبار أنّ ذلك سبب هدايته لسبيل اللّه في ظلمات الجهل كحامل النار. و قد عرفت الحكمة و أقسامها.
التاسع: أن يذلّله بذكر الموت،
و ذلك لأنّ كثرة إخطاره بالبال يستلزم الخوف و يسكن القلب عن جماحه في ميدان الشهوات، و يذلّل من عزّة الكبر و هزّة العجب و حميّة الغضب.
العاشر: أن يقرّره بالفناء
أى يحمله على الإقرار به و يديم ذكره له ليتأكّد علمه به.
الحادي عشر: أن يبصّره فجايع الدنيا
أى يحمله على النظر بعين البصيرة و الاعتبار برزايا الدنيا و آفاتها.
الثاني عشر: أن يحذّره صولة الدهر و فحش تقلّب الليالي و الأيّام،
و لفظ الصولة مستعار له ملاحظة لشبهه بالسبع في أخذه و ما يكون بسببه من الأذى.
الثالث عشر: أن يعرض عليه أخبار الماضين
و يذكّره ما أصابهم لينظر ما فعلوا و عمّا انتقلوا من الآثار العظيمة و الملك الجسيم، و يحصل من ذلك عبرة و قياسا لحاله بحالهم، و يستقرب لحاقه بهم و صيرورته كأحدهم فيما صاروا إليه، و وجه التشبيه قرب حاله من حال أحدهم. و إليه الإشارة بقوله تعالى أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا«» الآية.
الرابع عشر: أن يصلح مثواه،
و هو الدار الآخرة بلزوم الأعمال الصالحة و لا يبيع آخرته و ما وعد فيها من الخيرات الباقية بما وجد في دنياه من اللذّات الوهميّة الفانية، و لفظ البيع مستعار.
الخامس عشر: أن يترك القول فيما لا يعرفه.
إذ القول بغير علم يستلزم رذيلتي الكذب و الجهل، و يلحق به الذمّ. و نحوه قول الرسول صلّى اللّه عليه و آله لبعض أصحابه: كيف بك إذا بقيت في حثالة من الناس خرجت عهودهم و أماناتهم و صاروا هكذا:- و شبّك بين أصابعه- قال: فقلت: مرنى يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله. فقال: خذ ما تعرف و دع ما لا تعرف، و عليك بحويضة نفسك. و كذلك قوله: و الخطاب فيما لا تكلّف كقوله صلّى اللّه عليه و آله: من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه.
السادس عشر: أن يمسك عن طريق إذا خاف ضلالته،
و المراد التوقّف عند الشبهات و عدم التسرّع إلى سلوك طريق يشكّ في تأديته إلى الحقّ فإنّ توقّفه و تثبّته عند طلب الحق إلى أن يتّضح له طريقه خير له من التعسّف و ركوب ما يخاف الضلال به من الطرق.
السابع عشر: أن يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر فعلا و قولا، و يباين من فعله بقدر إمكانه
و هو من فروض الكفاية، و عليهما مدار نظام العالم، و لذلك كان القرآن الكريم و السنّة النبويّة مشحونين بهما و استدرجه إلى ذلك بقوله: تكن من أهله. لأنّهم أولياء اللّه الأبرار المرغوب في الكون منهم.
الثامن عشر: أن يجاهد في اللّه أعداء دينه الجهاد الحقّ،
و إضافة حقّ إلى جهاده إضافة الصفة إلى الموصوف لأنّ الصفة من باب الأهمّ.
التاسع عشر: أن لا يأخذه في اللّه لومة لائم،
و هو كناية عن نهيه عن التقصير في طاعة اللّه. إذ كان من لوازم المقصّر استحقاق لؤم اللائمين.
العشرون: أن يخوض الغمرات إلى الحقّ حيث كان
و لفظ الخوض مستعارلمعاناة الشدائد و الدخول فيها لطلبه الحقّ.
الحادى و العشرون: أن يتفقّه فى الدين،
و يتعلّم الأحكام الشرعيّة و مباديها.
الثاني و العشرون: أن يعوّد نفسه الصبر على المكروه.
و قد علمت أنّ احتمال المكروه فضيلة تحت الشجاعة و هو من مكارم الأخلاق.
الثالث و العشرون: أن يلجئ نفسه في اموره كلّها إلى اللّه تعالى،و هو أمر بالتوكّل على اللّه و الإنابة إليه في كلّ مرغوب أو مرهوب، و قد علمت حقيقة التوكّل و ما يستلزمه، و استدرجه إلى ذلك بقوله: فإنّك تلجئها إلى كهف حريز و مانع عزيز، و استعار لفظ الكهف له تعالى باعتبار أنّ من توكّل عليه كفاه و منعه ممّا يخاف كما يمنع الكهف من يلتجئ إليه.
الرابع و العشرون: أن يخلص في دعائه و مسئلته لربّه.
إذ كان ذلك من شرائط الإجابة، و استدرجه إلى الاخلاص بقوله: فإنّ بيده العطاء و الحرمان ليشتدّ الانجذاب إليه و الإعراض عن غيره. و الفئات الثلاث: فنعم، و قوله: فإنّك و قوله: فانّ بيده. جواب الأوامر الثالثة.
الخامس و العشرون: أن يكثر الاستخارة
أى الطلب إلى اللّه تعالى أن يخيّر له فيما يأتي و يذر.
السادس و العشرون: أن يتفهّم وصيّته و لا يعرض عنها،
و كنّى عن الإعراض و ترك العمل بها بالذهاب صفحا، و انتصب صفحا على الحال: أى و لا تذهبنّ معرضا، و استدرجه للإقناع بها بقوله: فإنّ خير القول ما نفع، و التقدير فإنّ وصيّتى نافعة، و ما نفع فهو خير القول. فإذن وصيّتى خير القول. ثمّ نبّهه بقوله: و اعلم.
إلى قوله: تعلّمه. على أنّ من العلوم ما لا خير فيه لئلّا يتشوّق إلى معرفته فيصدّه ذلك عن سلوك سبيل اللّه و العلم المؤدّى إليه، و تلك هى العلوم الّتي نهت الشريعة عن تعلّمها كالسحر و الكهانة و النجوم و النيرنجات و نحوها ممّا لا يكون سبيلا إلى المقاصد الحقيقيّة التامّة. و تقدير الكلام: و اعلم أنّ كلّ علم لا يحق تعلّمه: أى لا يثبت في الشريعة تعلّمه وجوبا و لا ندبا فهو علم لا ينتفع به في طريق الآخرة فلا خير فيه لأنّ الخير الحقيقىّ هو المنفعة الباقية عند اللّه فما لا منفعة فيه لا خير، و لذلك استعاذ الرسول صلّى اللّه عليه و آله منه فقال: و أعوذ بك من علم لا ينفع. فينتج أن كلّ علم لا يحقّ تعلّمه فلا خير فيه. و باللّه التوفيق.
الفصل الرابع:
قوله: أَيْ بُنَيَّ إِنِّي لَمَّا رَأَيْتُنِي قَدْ بَلَغْتُ سِنّاً- وَ رَأَيْتُنِي أَزْدَادُ وَهْناً- بَادَرْتُ بِوَصِيَّتِي إِلَيْكَ- وَ أَوْرَدْتُ خِصَالًا مِنْهَا قَبْلَ أَنْ يَعْجَلَ بِي أَجَلِي- دُونَ أَنْ أُفْضِيَ إِلَيْكَ بِمَا فِي نَفْسِي- أَوْ أَنْ أُنْقَصَ فِي رَأْيِي كَمَا نُقِصْتُ فِي جِسْمِي- أَوْ يَسْبِقَنِي إِلَيْكَ بَعْضُ غَلَبَاتِ الْهَوَى وَ فِتَنِ الدُّنْيَا- فَتَكُونَ كَالصَّعْبِ النَّفُورِ- وَ إِنَّمَا قَلْبُ الْحَدَثِ كَالْأَرْضِ الْخَالِيَةِ- مَا أُلْقِيَ فِيهَا مِنْ شَيْءٍ قَبِلَتْهُ- فَبَادَرْتُكَ بِالْأَدَبِ قَبْلَ أَنْ يَقْسُوَ قَلْبُكَ- وَ يَشْتَغِلَ لُبُّكَ لِتَسْتَقْبِلَ بِجِدِّ رَأْيِكَ مِنَ الْأَمْرِ- مَا قَدْ كَفَاكَ أَهْلُ التَّجَارِبِ بُغْيَتَهُ وَ تَجْرِبَتَهُ- فَتَكُونَ قَدْ كُفِيتَ مَئُونَةَ الطَّلَبِ- وَ عُوفِيتَ مِنْ عِلَاجِ التَّجْرِبَةِ- فَأَتَاكَ مِنْ ذَلِكَ مَا قَدْ كُنَّا نَأْتِيهِ- وَ اسْتَبَانَ لَكَ مَا رُبَّمَا أَظْلَمَ عَلَيْنَا مِنْهُ أَيْ بُنَيَّ إِنِّي وَ إِنْ لَمْ أَكُنْ عُمِّرْتُ عُمُرَ مَنْ كَانَ قَبْلِي- فَقَدْ نَظَرْتُ فِي أَعْمَالِهِمْ وَ فَكَّرْتُ فِي أَخْبَارِهِمْ- وَ سِرْتُ فِي آثَارِهِمْ حَتَّى عُدْتُ كَأَحَدِهِمْ- بَلْ كَأَنِّي بِمَا انْتَهَى إِلَيَّ مِنْ أُمُورِهِمْ- قَدْ عُمِّرْتُ مَعَ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ- فَعَرَفْتُ صَفْوَ ذَلِكَ مِنْ كَدَرِهِ وَ نَفْعَهُ مِنْ ضَرَرِهِ- فَاسْتَخْلَصْتُ لَكَ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ نَخِيلَهُ وَ تَوَخَّيْتُ لَكَ جَمِيلَهُ وَ صَرَفْتُ عَنْكَ مَجْهُولَهُ- وَ رَأَيْتُ حَيْثُ عَنَانِي مِنْ أَمْرِكَ مَا يَعْنِي الْوَالِدَ الشَّفِيقَ- وَ أَجْمَعْتُ عَلَيْهِ مِنْ أَدَبِكَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ- وَ أَنْتَ مُقْبِلُ الْعُمُرِ وَ مُقْتَبَلُ الدَّهْرِ- ذُو نِيَّةٍ سَلِيمَةٍ وَ نَفْسٍ صَافِيَةٍ- وَ أَنْ أَبْتَدِئَكَ بِتَعْلِيمِ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ- وَ تَأْوِيلِهِ وَ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَ أَحْكَامِهِ وَ حَلَالِهِ وَ حَرَامِهِ- لَا أُجَاوِزُ ذَلِكَ بِكَ إِلَى غَيْرِهِ- ثُمَّ أَشْفَقْتُ أَنْ يَلْتَبِسَ عَلَيْكَ- مَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ مِنْ أَهْوَائِهِمْ وَ آرَائِهِمْ- مِثْلَ الَّذِي الْتَبَسَ عَلَيْهِمْ- فَكَانَ إِحْكَامُ ذَلِكَ عَلَى مَا كَرِهْتُ مِنْ تَنْبِيهِكَ لَهُ أَحَبَّ إِلَيَّ- مِنْ إِسْلَامِكَ إِلَى أَمْرٍ لَا آمَنُ عَلَيْكَ فِيهِ الْهَلَكَةَ- وَ رَجَوْتُ أَنْ يُوَفِّقَكَ اللَّهُ فِيهِ لِرُشْدِكَ- وَ أَنْ يَهْدِيَكَ لِقَصْدِكَ فَعَهِدْتُ إِلَيْكَ وَصِيَّتِي هَذِهِ وَ اعْلَمْ يَا بُنَيَّ- أَنَّ أَحَبَّ مَا أَنْتَ آخِذٌ بِهِ إِلَيَّ مِنْ وَصِيَّتِي تَقْوَى اللَّهِ- وَ الِاقْتِصَارُ عَلَى مَا فَرَضَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ- وَ الْأَخْذُ بِمَا مَضَى عَلَيْهِ الْأَوَّلُونَ مِنْ آبَائِكَ- وَ الصَّالِحُونَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِكَ- فَإِنَّهُمْ لَمْ يَدَعُوا أَنْ نَظَرُوا لِأَنْفُسِهِمْ كَمَا أَنْتَ نَاظِرٌ- وَ فَكَّرُوا كَمَا أَنْتَ مُفَكِّرٌ- ثُمَّ رَدَّهُمْ آخِرُ ذَلِكَ إِلَى الْأَخْذِ بِمَا عَرَفُوا- وَ الْإِمْسَاكِ عَمَّا لَمْ يُكَلَّفُوا- فَإِنْ أَبَتْ نَفْسُكَ أَنْ تَقْبَلَ ذَلِكَ دُونَ أَنْ تَعْلَمَ كَمَا عَلِمُوا- فَلْيَكُنْ طَلَبُكَ ذَلِكَ بِتَفَهُّمٍ وَ تَعَلُّمٍ- لَا بِتَوَرُّطِ الشُّبُهَاتِ وَ عُلَوِّ الْخُصُوصِيِّاتِ- وَ ابْدَأْ قَبْلَ نَظَرِكَ فِي ذَلِكَ بِالِاسْتِعَانَةِ بِإِلَهِكَ- وَ الرَّغْبَةِ إِلَيْهِ فِي تَوْفِيقِكَ- وَ تَرْكِ كُلِّ شَائِبَةٍ أَوْلَجَتْكَ فِي شُبْهَةٍ- أَوْ أَسْلَمَتْكَ إِلَى ضَلَالَةٍ- فَإِنْ أَيْقَنْتَ أَنْ قَدْ صَفَا قَلْبُكَ فَخَشَعَ- وَ تَمَّ رَأْيُكَ فَاجْتَمَعَ- وَ كَانَ هَمُّكَ فِي ذَلِكَ هَمّاً وَاحِداً- فَانْظُرْ فِيمَا فَسَّرْتُ لَكَ- وَ إِنْ أَنْتَ لَمْ يَجْتَمِعْ لَكَ مَا تُحِبُّ مِنْ نَفْسِكَ- وَ فَرَاغِ نَظَرِكَ وَ فِكْرِكَ- فَاعْلَمْ أَنَّكَ إِنَّمَا تَخْبِطُ الْعَشْوَاءَ وَ تَتَوَرَّطُ الظَّلْمَاءَ- وَ لَيْسَ طَالِبُ الدِّينِ مَنْ خَبَطَ أَوْ خَلَطَ- وَ الْإِمْسَاكُ عَنْ ذَلِكَ أَمْثَلُ فَتَفَهَّمْ يَا بُنَيَّ وَصِيَّتِي- وَ اعْلَمْ أَنَّ مَالِكَ الْمَوْتِ هُوَ مَالِكُ الْحَيَاةِ- وَ أَنَّ الْخَالِقَ هُوَ الْمُمِيتُ- وَ أَنَّ الْمُفْنِيَ هُوَ الْمُعِيدُ وَ أَنَّ الْمُبْتَلِيَ هُوَ الْمُعَافِي- وَ أَنَّ الدُّنْيَا لَمْ تَكُنْ لِتَسْتَقِرَّ- إِلَّا عَلَى مَا جَعَلَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ النَّعْمَاءِ وَ الِابْتِلَاءِ- وَ الْجَزَاءِ فِي الْمَعَادِ- أَوْ مَا شَاءَ مِمَّا لَا تَعْلَمُ- فَإِنْ أَشْكَلَ عَلَيْكَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَاحْمِلْهُ عَلَى جَهَالَتِكَ- فَإِنَّكَ أَوَّلُ مَا خُلِقْتَ بِهِ جَاهِلًا ثُمَّ عُلِّمْتَ- وَ مَا أَكْثَرَ مَا تَجْهَلُ مِنَ الْأَمْرِ وَ يَتَحَيَّرُ فِيهِ رَأْيُكَ- وَ يَضِلُّ فِيهِ بَصَرُكَ ثُمَّ تُبْصِرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَاعْتَصِمْ بِالَّذِي خَلَقَكَ وَ رَزَقَكَ وَ سَوَّاكَ- وَ لْيَكُنْ لَهُ تَعَبُّدُكَ- وَ إِلَيْهِ رَغْبَتُكَ وَ مِنْهُ شَفَقَتُكَ- وَ اعْلَمْ يَا بُنَيَّ أَنَّ أَحَداً لَمْ يُنْبِئْ عَنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ- كَمَا أَنْبَأَ عَنْهُ الرَّسُولُ ص فَارْضَ بِهِ رَائِداً وَ إِلَى النَّجَاةِ قَائِداً- فَإِنِّي لَمْ آلُكَ نَصِيحَةً- وَ إِنَّكَ لَنْ تَبْلُغَ فِي النَّظَرِ لِنَفْسِكَ- وَ إِنِ اجْتَهَدْتَ مَبْلَغَ نَظَرِي لَكَ
اللغة
أقول: الوهن: الضعف. و المبادرة: المسارعة و المسابقة. و أفضى: وصل. و البغية: الطلبة. و التوخّى: القصد. و أجمعت: صمّمت العزم. و أسلمته إلى كذا: خليت بينه و بينه. و أمثل: أقرب إلى الخير.
و في هذا الفصل مقاصد:
الأوّل: أنّه أشار إلى بعض العلل الحاملة له على هذه الوصيّة
و هى كونه قد بلغ سنّا عاليا و أخذ ازديادا في الضعف، و ذلك أنّه كان قد جاوز السّتين فلزم من ذلك خوفه لأحد الخصال المذكورة فبادرها و سابقها إليه. و خصالا مفعول به. و عدّ من تلك الخصال ثلاثا:
الأولى: أن يعجل به أجله إلى الآخرة قبل أن يوصل إليه ما في نفسه من الحكمة. الثانية: أن ينقص في رأيه، و ذلك أنّ القوى النفسانيّة تضعف عند علوّ السنّ لضعف الأرواح الحاملة لها فينقص بسبب ذلك تصرّف العقل و تحصيله للآراء الصالحة. الثالثة: أن يسبقه إليه بعض غلبات الهوى فإنّ الصبيّ إذا لم يؤخذ بالآداب في حداثته و لم ترض قواه لمطاوعة العقل و موافقته كان بصدد أن يميل به القوى الحيوانيّة إلى مشتهياتها و ينجذب في قياد هواه إلى الاستعمال بها فيفتنه و يصرفه عن الوجهة الحقيقيّة و ما ينبغي له فيكون حينئذ كالصعب النفور من الإبل، و وجه التشبيه أنّه يعسر حمله على الحقّ و جذبه إليه كما يعسر قود الجمل الصعب النفور و تصريفه بحسب المنفعة. ثمّ نبّه على وجوب المبادرة إليه بالأدب، و زرعه في قلبه بضمير صغراه قوله: و إنّما قلب الحدث. إلى قوله: قبلته. و أشار إلى وجه التشبيه بقوله: و ما ألقى فيها من شيء قبلته. و ذلك أنّ قلب المحدث لمّا كان خاليا من الانتقاش بالعقايد و غيرها مع كونه قابلا لما يلقى إليه من خير أو شرّ فينتقش به أشبه الأرض الخالية من النبات و الزرع القابلة لما يلقى فيها من البذر، و تقدير الكبرى: و كلّ قلب كان كذلك فيجب أن يسبق إليه ببذر الآداب و غرس الحكمة. فلذلك بادره بالأدب قبل أن يقسو قلبه عن الانقياد للحقّ و الاشتغال بالأمور الباطلة. ثمّ أشار إلى العلّة الأخرى من العلل الغائيّة لمبادرته بالأدب و هى أن يستقبل بجدّ رأيه و قوّة فكره ما قد كفاه أهل التجارب بغيته من العلوم و عوفى فيه من علاج التجربة و معاناتها فأتاه من ذلك العلم التجربيّ ما كان أهل التجربة يأتونه و يطلبونه، و استبان له ما ربّما أظلم عليهم منه، و فرّق بين من يأتيه العلم صفوا و يلقى إليه بينا واضحا، و قد كفى فيه مؤنة الاكتساب، و بين من سعى إليه و شقى في تحصيله و خاض إليه غمرات الشكوك و ظلمات الشبهات. و كلّ ذلك من الامور المقنعة له في قبول الوصيّة و العمل بما اشتملت عليه من الحكم و الآداب لأنّ أهل التجارب إذا كانوا قد جدّوا في تحصيله مع ما وجدوا فيه من المشقّة فلان يجدّ هو و يقبله خالصا من الكلفة أولى.
المقصود الثاني: أشار إلى فضيلة نفسه و استكمالها بالعلوم.
ثمّ إلى كونه في غاية العناية و الشفقّة عليه و إلى ما رآه أصلح في تعليمه إيّاه من العلوم غير متجاوز إلى غير ذلك، و غايته من الجميع استدراجه لقبول قوله كما علمت من غرض الخطيب في ذكر فضيلته، و ما يستدرج به للانفعال ممّا يريد أن يقنع به من الآراء و غيرها.
فنبّه على فضيلته بقوله: أى بنىّ. إلى قوله: مجهولة. و قوله: و إن لم أكن في قوّة جواب اعتراض مقدّر كأنّ قائلا قال له: فكيف حصلت العلوم عن تجارب الامور مع حاجة التجربة إلى عمر طويل يشاهد فيه الإنسان تغيّرات الأمور و تقلّبات الدهور فقال: إنّى و إن لم أكن عمّرت عمر من كان قبلى و شاهدت أحوالهم لكنّى نظرت في أعمالهم و فكّرت في أخبارهم المأثورة و سرت في آثارهم سيرا محسوسا و معقولا حتّى صرت كأحدهم في عيان امورهم.
و قوله: فعرفت عطف على قوله: و سرت. و قوله: ذلك. إشارة إلى ما انتهى إليه من أمورهم. و كنّى بالصفو عن الخير و بالكدر عن الشرّ: أى فعرفت خير امورهم من شرّها و نفعها من ضرّها، و استخلصت لك من كلّ أمر جليله و هو خيره و ما ينفع منه عند اللّه من العلوم و العبر النوافع، و روى: نخيلته أى خلاصته. و قصدت لك جميله: أى الأمر الحسن منه دون قبيحه، و صرفت عنك مجهوله: أى ما اشتبه عليك أمره و ألتبس الحقّ فيه. و قوله: و رأيت حيث عنانى. إلى آخره. إشارة إلى كمال عنايته و شفّقته عليه و وجوه اختياراته له ما هو أولى به من العلوم، و أجمعت عطف على يعنى، و أن يكون في محلّ النصب على أنّه مفعول أوّل لرأيت، و تكون هنا تامّة، و الواو في قوله: و أنت للحال، و أن أبتدئك عطف على أن يكون، و المفعول الثاني لرأيت محذوف تقديره أنفع و أصلح، و تقدير الكلام: و رأيت حيث عنانى من أمرك ما يعنى الوالد الشفيق من أمر ولده من النظر في مصالحه و الاهتمام بأحواله و ما صمّمت عزمى عليه من تأديبك أن يكون ذلك التأديب حال إقبال عمرك حال كونك ذانيّة سليمة من الأمراض النفسانيّة و الأخلاق الذميمة، و كونك ذا نفس صافية من كدر الباطل، و أن أبتدئك بتعليم كتاب اللّه و تأويله و ما يشتمل عليه من شرايع الإسلام: أى قوانينه و أحكامه و حلاله و حرامه، و أقتصر بك على ذلك كما اقتصر عليه كثير من السلف. و قوله: ثمّ أشفقت.
عطف على رأيت: أى كنت رأيت أن أقتصر بك على ذلك و لا اتجاوز بك إلى غيره مى العلوم العقليّة. ثمّ خفت أن يلتبس عليك ما اختلف الناس فيه من أهوائهم و آرائهم مثل ما التبس عليهم: أى التباسا مثل الالتباس عليهم فكان إحكام ذلك: أى ما اختلف الناس فيه على ما كرهت من شبهك له أحبّ إلىّ من إسلامك إلى أمر لا آمن عليك فيه الهلكة في الدين، و ذلك الأمر هو ما اختلف الناس فيه من المسائل العقليّة الإلهيّة الّتي يكثر التباس الحقّ فيها بالباطل، و يكتنفها الشبهات المغلّطة الّتي هى مظنّة الخطر و الانحراف بها عن سبيل الحقّ إلى سبيل الهلاك، و إحكام ذلك الأمر ببيان وجه البرهان فيه و كيفيّة الخلاص من شبهة الباطل و مزاجه. و قوله: و رجوت أن يوفّقك. عطف على أشفقت، و الضمير المجرور بفى يعود إلى ما اختلف الناس فيه.
المقصود الثالث: الإشارة إلى بيان ما هو الأحبّ إليه أن يأخذ به من وصيّته،
و الإرشاد إلى كيفيّة أخذه و ما ينبغي أن يبدء قبل الشروع من الاستعانة باللّه و الرغبة إليه في التوفيق. إلى غير ذلك من الآداب الّتى يتمّ بها الاستعداد للبحث و التعلّم. فمن الأحبّ إليه تقوى اللّه الّذي هو الزاد المبلّغ إليه. ثمّ الاقتصار على ما افترضه اللّه عليه من النظر في ظواهر الأدلّة دون التوغّل في الفكر و خوض الشبهات ممّا لم يكلّف به أخذا بما مضى عليه الصالحون من أهل بيته كحمزة و جعفر و العبّاس و عبيدة بن الحرث و غيرهم من بنى هاشم. و قوله: فانّهم إلى قوله: لم يكلّفوا ترغيب له في الأخذ بمأخذهم، و تنفير له عن التوغّل و التعمّق بضمير صغراه ما ذكر، و تقدير الكبرى: و كلّ من كان كذلك فينبغى الاقتداء به في الأخذ بما عرف و الإمساك عمّا لم يكلّف. و قوله: فإن أبت. إلى آخره. بيان للكيفيّة الّتي ينبغي أن يكون عليها طلبة العلوم العقليّة، و التدقيق فيها إن أبت نفسه الاقتصار على ما افترضه اللّه عليه: أى فليكن طلبك لما أنت طالب له من ذلك على وجوه: أحدها: التفهّم للمقاصد، و التعلّم للحقّ، و الطلب له لا على وجه تعلّم الشبهات و التورّط فيها و المشاغبة بها فإنّ ذلك ممّا يصدّ عن تعلّم الحقّ و يمنع من قبوله. الثاني: أن يبدء قبل نظره في ذلك الطلب بالاستعانة باللّه و الرغبة إليه في توفيقه لإصابة طريق الحقّ و الوصول إليه. الثالث: أن يترك كلّ شائبة أو لجته في شبهة كالعادات في نصرة المذاهب الباطلة بحسب اتّباع الهوى و الآراء الّتي يطلب بها الرئاسات فإنّ النفس إذا كانت فيها شائبة محبّة لأمر جسمانىّ لم يتّضح لها طريق الحقّ بل كانت إلى الانحراف في طرق الضلال و الشبه المناسبة للمطالب الباطلة أقرب، و تلك الطرق أعرف عندها لمكان تلك الشائبة. فينبغى للسالك أن يحذف عن نفسه كلّ شبهة تقود إلى ضلالة، و لفظ الإسلام مستعار لإهماله و عدم جذبه عمّا يتورّط فيه من الامور المضلّة. ثمّ قال: فإذا أيقنت. إلى آخره: أى فإذا أعددت نفسك للطلب و النظر بما ذكرت لك، و تحقّقت أن قد صفا قلبك من كلّ شائبة تنافي النظر، فخشع من خشية اللّه أن يؤاخذك بتركه، و تمّ رأيك و عزمك عليه فاجتمع متفرّقه حتّى لا يبقى لك إلى تركه التفات، و كان همّك فيه همّا واحدا لا ينقسم إلى غيره. فانظر حينئذ فيما فسّرت لك و نبّهتك عليه من المسائل العقليّة الإلهيّة كما سيأتي، و إن أنت لم يجتمع لك ما تحبّ من نفسك و فراغ نظرها و فكرها عن الشوائب المنافية للعلم و طلبه و نظرت. فاعلم أنّك في خوضك و طلبك له إنّما تخبط خبط عشواء و تتورّط الظلماء، و كلّ من كان كذلك فليس أهلا لطلب الدين من أصوله. و حذف المضاف إلى العشواء و أقام المضاف إليه مقامه، و استعار وصف الخبط له باعتبار أنّه طالب للعلم من غير استكمال شرائط الطلب و على غير وجهه فهو متعسّف سالك على غير طريق المطلوب كالناقة العشواء، و كذلك لفظ الظلماء للشبه باعتبار أنّ الذهن لا يهتدى فيها لطلب الحقّ كالماشى في الظلماء.
المقصود الرابع: أمره بتفهّم وصيّته.
و نبّهه على جملة من صفات اللّه و أفعاله الّتي قد يتوهّم التضادّ و التناهى في إسنادها إلى مبدء واحد، و أشار إلى أنّها ليست بمتضادّة، و أنّ مبدئها واحد، فأمّا الصفات فهو أنّ القادر على الموت و من له أن يميت فهو القادر على الحياة و له أن يحيى باعتبار أنّ أسباب الموت و الحياة ينتهى إليه، و كذلك الخالق هو المميت فإنّ فاعل الخلق هو مقدّر الموت الّذي ينتهى إليه أسبابهما، و إلى هذين الاعتبارين الإشارة بقوله تعالى «يحيى و يميت ربّكم و ربّ آبائكم الأوّلين» فيحيى و يميت باعتبار انّه الفاعل الأوّل لهما و باعتبار أنّه الربّ المطلق هو المالك الأوّل لهما، و كذلك المفنى هو المعيد و المبتلى هو المعافى باعتبار انتهاء أسباب الفناء و الإعادة و اللابتلاء و المعافاة إليه.
و قد علمت أنّ كلّ هذه الأمور اعتبارات عقليّة يلحقّ معقوليّة الواجب سبحانه بالقياس إلى مخلوقاته و آثاره كما استقصيناه في الخطبة الأولى، و أمّا الأفعال فهو أنّه تعالى لمّا خلق الدنيا لم يمكن خلقها و استقرار وجودها إلّا على ما خلقها اللّه عليه من إفاضة ما يعدّ نعمة في حقّ بعض العبيد من مال و صحّة و نحوهما، و الابتلاء بما يعدّ بلاء من الفقر و المرض و نحوهما، و إن كانت النعماء أيضا ابتلاء كما قال تعالى «و نبلوكم بالشرّ و الخير فتنة و إلينا ترجعون»«». ثمّ لزوم الجزاء في المعاد لنفوس المبتلين و المنعم عليهم بحسب طاعتهم و معصيتهم في النعمة و الابتلاء، و كذلك خلقه لها على ما شاء ممّا لا يعلم وجه الحكمة فيه، و اعلم أنّه قد ثبت في أصول الحكمة أنّ المقصود من العناية الإلهيّة بالذات إنّما هو الخير، و أمّا الشرور الواقعة في الوجود فكاينة بالعرض من حيث إنّه لا يمكن نزع الخير و تجريده عنها. و لمّا كان الخير أغلب في الوجود، و كانت الشرور امورا لازمة أقليّة لم يمكن ترك الخير الكثير لأجلها لأنّ ترك الخير الكثير لأجل الشرّ القليل شرّ كثير في الجود و الحكمة، و ذلك معنى قوله عليه السّلام: و إنّ الدنيا لم تكن لتستقرّ إلّا على ما جعلها اللّه عليه ممّا عدّدناه ممّا يعلم كونه خيرا أو شرّا أولا يعلم حاله: أى لم يكن خلقها إلّا على ما فيها من خير مراد بالذات و شرّ مراد بالعرض، و لزوم الجزاء على السيّئة و عقاب النفوس في المعاد عليها من الشرور اللازمة لما حصلت عليه من الهيئات البدنيّة و الملكات الرديئة في الدنيا كما يعلم ذلك من موضعه. و قوله: فإن أشكل. إلى آخره. أى فإن أشكل عليك شيء من أسرار القدر، و خفى عليك وجه الحكمة فيه فلا تتوّهم خلوّه عن حكمة بل احمله على جهالتك به فانّك أوّل ما خلقت جاهلا ثمّ علمت كما قال تعالى وَ اللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً«» الآية. و نصب أوّل على الظرف، و جاهلا على الحال، و روى أوّل مرفوعا بالابتداء و جاهل بالرفع خبرا له. ثمّ نبّهه على أكثريّة ما يسبق جهله به من الأمور ثمّ يدركه فيما بعد ليجعل ما لا يدرك وجه الحكمة فيه من ذلك القبيل. ثمّ أمره بالاعتصام باللّه و اللجأ إليه في أموره، و أن يجعل له تعبّده و إليه رغبته و منه شفقّته لأنّه تعالى أحقّ موجود بذلك و أولاه بالأمور المذكورة.
المقصود الخامس: الإشارة إلى فضيلة الرسول صلّى اللّه عليه و آله على سائر الأنبياء
لزيادته عليهم في إيضاح الخبر عن اللّه تعالى، و بيان المطالب الحقيقيّة الّتى اشتمل عليها الكتاب العزيز من أسرار التوحيد و القضاء و القدر و أمر المعاد فإنّ أحدا من الأنبياء السابقين عليهم السّلام لم يفصح عن هذه الأمور كإفصاحه، و لذلك كانت هداية هذه الأمّة بتمام ما جاء به صلّى اللّه عليه و آله أتمّ و أكمل من هداية ساير الامم السابقة عمّا جاءت به أنبياؤها و كانت عيون بصائرهم أبسط أنوارا و أكثر انتشارا. و غاية ذكر فضيلته صلّى اللّه عليه و آله هنا أن يرضى برأيه و دلالته على طريق النجاة في الآخرة، و استعار له لفظ الرائد باعتبار أنّه قد اختبر ما في الآخرة من الثواب المقيم و السعادة الباقية، و بشّر به أمّته كما يبشّر الرائد أهله بوجود الكلاء و الماء بعد ارتياده. ثمّ أردف ذلك ببيان أنّه لم يزل ناصحا له وأنيه لم يبلغ نظره لنفسه و إن اجتهد في ذلك مبلغ نظره له ليتأكّد الإقناع برأيه و شوره عليه فيما يراه له. و نصيحة نصب على التميز.
الفصل الخامس:
قوله: وَ اعْلَمْ يَا بُنَيَّ- أَنَّهُ لَوْ كَانَ لِرَبِّكَ شَرِيكٌ لَأَتَتْكَ رُسُلُهُ- وَ لَرَأَيْتَ آثَارَ مُلْكِهِ وَ سُلْطَانِهِ- وَ لَعَرَفْتَ أَفْعَالَهُ وَ صِفَاتِهِ- وَ لَكِنَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ- لَا يُضَادُّهُ فِي مُلْكِهِ أَحَدٌ وَ لَا يَزُولُ أَبَداً وَ لَمْ يَزَلْ- أَوَّلٌ قَبْلَ الْأَشْيَاءِ بِلَا أَوَّلِيَّةٍ- وَ آخِرٌ بَعْدَ الْأَشْيَاءِ بِلَا نِهَايَةٍ- عَظُمَ عَنْ أَنْ تَثْبُتَ رُبُوبِيَّتُهُ بِإِحَاطَةِ قَلْبٍ أَوْ بَصَرٍ- فَإِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ فَافْعَلْ- كَمَا يَنْبَغِي لِمِثْلِكَ أَنْ يَفْعَلَهُ فِي صِغَرِ خَطَرِهِ- وَ قِلَّةِ مَقْدِرَتِهِ وَ كَثْرَةِ عَجْزِهِ- و عَظِيمِ حَاجَتِهِ إِلَى رَبِّهِ فِي طَلَبِ طَاعَتِهِ- وَ الْخَشْيَةِ مِنْ عُقُوبَتِهِ- وَ الشَّفَقَةِ مِنْ سُخْطِهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَأْمُرْكَ إِلَّا بِحَسَنٍ- وَ لَمْ يَنْهَكَ إِلَّا عَنْ قَبِيحٍ
أقول: أشار في هذا الفصل إلى الحجّة على وحدانيّة الصانع سبحانه، و على جملة من صفاته.
ثمّ إلى ما ينبغي أن يفعله من ملاحظة عظمته تعالى من الصفات المذكورة فإذن هاهنا أبحاث:
البحث الأوّل: الحجّة على وحدة الصانع
و هي شرطيّة متّصلة مقدّمها قوله: لو كان لربّك شريك، و تاليها لأتنك رسله. إلى قوله: و لعرفت أفعاله و صفاته، و يستنتج منها استثناء نقيض أقسام التالي لينتج نقيض المقدّم. بيان الملازمة: أنّه لو كان له شريك لكان شريكه إلها مستجمعا لجميع شرايط الإلهيّة و إلّا لم يصلح للشركة لكن من لوازم الإلهيّة امور:
أحدها: الحكمة في وجوب بعثة الرسل إلى الخلق و وصولهم إليه لما علمت من برهان وجوب البعثة في موضعه. الثاني: يلزم أن يكون آثار ملكه و سلطانه و صفات أفعاله ظاهرة مشاهد. الثالث: أن يعرف أفعاله و صفات ذاته. لكن هذه اللوازم كلّها باطلة: أمّا الأوّل فلأنّه لم يأتنا رسول ذو معجزة يدلّنا على الثاني و يخبرنا عنه، و أمّا الثاني: فهو أنّ آثار الملك و السلطان و عظمة الملك و إحكامه إنّما يدلّ على حكيم قادر فأمّا على التعدد فلا و اما الثالث: فالان مجرد الافعال التي نشاهدها انما يدل على فاعل فاما التعدد فلا و كذلك صفات الالهيه المكتسبه بواسطه الافعال من العلم و القدرة و الإرادة و غيرها إنّما يدلّ على صانع موصوف بها فأمّا على صانعين أو أكثر كذلك فلا. فإذن القول بأنّ لربّنا شريك قول باطل لا برهان عليه كما قال تعالى وَ مَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ«» الآية، و قوله: إله واحد كما وصف نفسه. من لوازم النتيجة لأنّه إذا بطل القول بثاني الإله ثبت أنّه إله واحد كما وصف هو نفسه بقوله «قل هو اللّه أحد. و هو اللّه الواحد القهّار» و أنّه لا يضادّه في ملكه أحد: أي يعانده في أفعاله و ينازعه في ملكه كما هو عادة الملوك. و أعلم أنّ هذه الحجّة إقناعيّة كما هو غاية الخطيب من الخطابة و ليست برهانيّة لأنّه إن أريد في الشرطيّة أنّ وجود الثاني يستلزم وجود آثار و أفعال و صفات تخصّه و يعلم اختصاصه به. فالملازمة ممنوعة لأنّ الإلهين سواء كانا متّفقي الحقيقة أو مختلفي الحقيقة لا يلزم أن يختلف أفعالهما و لوازمهما بالنوع و يتخصّص كلّ منهما بلازم خاصّ و فعل خاصّ لا يوجد للآخر بل جاز أن يتّفقا في اللوازم و الآثار، و إنّ أريد أنّ وجوده يستلزم أن يعرف آثار و أفعال و لوازم لا يخصّه بل جاز أن يشاركه فيها الإله الآخر فهذا مسلّم لكن لا يمكن الاستدلال بطلان التالي هاهنا، و هو ظاهر لأنّا نرى آثار ملك و أفعال و لوازم و صفات لا تدلّ على أحديّة فاعلها و الموصوف بها و لا على إثنينيّته و إنّما يدلّ على مطلق فاعل و ملزوم ما. فلا يمكن بطلانها و رفعها لأنّ رفعها يستلزم رفع وجود الإله المطلق لاستلزام عدم اللازم عدم الملزوم لا رفع التالي خاصّة.
البحث الثاني: كونه تعالى لا يزال أبدا و أنّه لم يزل،
و هو إشارة إلى دوام وجوده و ثباته أزلا و أبدا، و برهانه أنّه تعالى واجب الوجود، و كلّ واجب الوجود لذاته فهو دائم الوجود و ثابته أزلا و أبدا: أمّا الصغرى فقد مرّ برهانها، و أمّا الكبرى فلأنّه لو جاز عليه الزوال و العدم لما كان واجب الوجود لذاته، و فساد التالي يستلزم فساد المقدّم. فإذن هو دايم الوجود أزلا و أبدا.
البحث الثالث: كونه أوّلا قبل الأشياء بلا أوّليّة لوجوده، و كونه آخرا بعد الأشياء بلا نهاية لوجوده.
أمّا الأوّل: فلأنّه لو كان لوجوده أوّليّة لكان مسبوقا بالعدم فكان محدثا فكان ممكنا. هذا خلف، و أمّا الثاني: فلأنّه لو كانت آخريّته منقطعة بنهاية لكان ملحوقا بالعدم فلم يكن واجب الوجود لذاته. هذا خلف.
البحث الرابع: كونه أعظم من أن يثبت ربوبيّته بإحاطة قلب أو بصر
أي هو أعظم أن يطّلع أحد بقلبه أو بصره على كمال صفات ربوبيّته و الاعتبارات المعتبرة فيها، و وجه الشبه على ذلك أنّك علمت أنّ صفة الربوبيّة و ساير صفات الإلهيّة باعتبار الخارج نفس حقيقه تعالى، و باعتبار العقل امور يعتبرها لمعقوليّة ذاته بالقياس إلى مخلوقاته و آثاره و على الوجهين فهو أعظم من أن يثبت ربوبيّته بإحاطة قلب أو بصر.
أمّا في الخارج فلأنّ صفة ربوبيّته هي نفس ذاته فكانت إحاطة العلم بها موقوفة على إحاطته بكنه ذاته، و قد علمت أنّها بريئة عن وجوه التركيب فيمتنع الإحاطة بها لغيرها، و أمّا في العقل فلأنّ اعتبار صفة الربوبيّة و إحاطة العقول بها موقوفة على الإحاطة بجميع اعتبارات صفات الكمال و نعوت الجلال. إذ اعتبار ربوبيّته المطلقة مستلزم لاعتبار الإلهيّة المطلقة المستلزم لاعتبار جميع ماله من صفات الإلهيّة، و قد علمت أنّ تلك الاعتبارات غير متناهية فهي أعظم أن يحيط بها عقل بشرىّ فضلا أن يتعلّق بها إدراك بصرىّ.
البحث الخامس
اعلم أنّه لمّا نبّهه على عظمة اللّه سبحانه و كمال ذاته في الاعتبارات المذكورة أمره أن يفعل كما ينبغي أن يفعله من هو مثله في النقصان بالنسبة إلى عظمة اللّه سبحانه فيطيعه حقّ طاعته و يعبده بكمال عبادته و كما ينبغي لكرم وجهه و عزّ جلاله، و عدّد له وجوه النقصان ليعتبر حاله في كلّ منها بالقياس إلى كمال ذاته تعالى ليعلم صغر منزلته بالنسبة إلى عظمته تعالى، و قلّة مقدرته و كثرة عجزه بالنسبة إلى كمال قدرته. و كذلك عظم حاجته إلى ربّه في كلّ حال من طلب توفيقه و إعداده لطاعته و الرهبة من عقوبته و الإشفاق من سخطه كلّ ذلك بالنسبة إلى غنائه المطلق في كلّ شيء عن كلّ شيء. و قوله: فإنّه. إلى قوله: قبيح. تنبيه إجماليّ على وجوب طاعته تعالى في كلّ ما أمر به و نهى عنه. و جذبه إلى فعل كلّ مأمور به بكونه حسنا و إلى الانتهاء عن كلّ شيء منهىّ عنه بكونه قبيحا.
و قد علمت أنّ الغاية من بعثة الرسل و وضع الشرائع و السنن هي نظام أحوال الخلق في معاشهم و معادهم. فلا بدّ إذن في كلّ أمر أو نهى من سرّ و حكمة يوجب حسن المأمور به و قبح المنهىّ عنه، و لهذا الكلام و نحوه تعلّقت المعتزلة بمسألة الحسن و القبح العقليّين، و باللّه التوفيق.
الفصل السادس:
قوله: يَا بُنَيَّ إِنِّي قَدْ أَنْبَأْتُكَ عَنِ الدُّنْيَا وَ حَالِهَا- وَ زَوَالِهَا وَ انْتِقَالِهَا- وَ أَنْبَأْتُكَ عَنِ الْآخِرَةِ وَ مَا أُعِدَّ لِأَهْلِهَا فِيهَا- وَ ضَرَبْتُ لَكَ فِيهِمَا الْأَمْثَالَ- لِتَعْتَبِرَ بِهَا وَ تَحْذُوَ عَلَيْهَا- إِنَّمَا مَثَلُ مَنْ خَبَرَ الدُّنْيَا كَمَثَلِ قَوْمٍ سَفْرٍ- نَبَا بِهِمْ مَنْزِلٌ جَدِيبٌ- فَأَمُّوا مَنْزِلًا خَصِيباً وَ جَنَاباً مَرِيعاً- فَاحْتَمَلُوا وَعْثَاءَ الطَّرِيقِ وَ فِرَاقَ الصَّدِيقِ- وَ خُشُونَةَ السَّفَرِ وَ جُشُوبَةَ المَطْعَمِ- لِيَأْتُوا سَعَةَ دَارِهِمْ وَ مَنْزِلَ قَرَارِهِمْ- فَلَيْسَ يَجِدُونَ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَلَماً- وَ لَا يَرَوْنَ نَفَقَةً فِيهِ مَغْرَماً- وَ لَا شَيْءَ أَحَبُ إِلَيْهِمْ مِمَّا قَرَّبَهُمْ مِنْ مَنْزِلِهِمْ- وَ أَدْنَاهُمْ مِنْ مَحَلَّتِهِمْ- وَ مَثَلُ مَنِ اغْتَرَّ بِهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ كَانُوا بِمَنْزِلٍ خَصِيبٍ- فَنَبَا بِهِمْ إِلَى مَنْزِلٍ جَدِيبٍ- فَلَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَهَ إِلَيْهِمْ وَ لَا أَفْظَعَ عِنْدَهُمْ- مِنْ مُفَارَقَةِ مَا كَانُوا فِيهِ- إِلَى مَا يَهْجُمُونَ عَلَيْهِ وَ يَصِيرُونَ إِلَيْهِ يَا بُنَيَّ اجْعَلْ نَفْسَكَ مِيزَاناً فِيمَا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ غَيْرِكَ- فَأَحْبِبْ لِغَيْرِكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ- وَ اكْرَهْ لَهُ مَا تَكْرَهُ لَهَا- وَ لَا تَظْلِمْ كَمَا لَا تُحِبُّ أَنْ تُظْلَمَ- وَ أَحْسِنْ كَمَا تُحِبُّ أَنْ يُحْسَنَ إِلَيْكَ- وَ اسْتَقْبِحْ مِنْ نَفْسِكَ مَا تَسْتَقْبِحُهُ مِنْ غَيْرِكَ- وَ ارْضَ مِنَ النَّاسِ بِمَا تَرْضَاهُ لَهُمْ مِنْ نَفْسِكَ- وَ لَا تَقُلْ مَا لَا تَعْلَمُ وَ إِنْ قَلَّ مَا تَعْلَمُ- وَ لَا تَقُلْ مَا لَا تُحِبُّ أَنْ يُقَالَ لَكَ- وَ اعْلَمْ أَنَّ الْإِعْجَابَ ضِدُّ الصَّوَابِ وَ آفَةُ الْأَلْبَابِ- فَاسْعَ فِي كَدْحِكَ وَ لَا تَكُنْ خَازِناً لِغَيْرِكَ- وَ إِذَا أَنْتَ هُدِيتَ لِقَصْدِكَ فَكُنْ أَخْشَعَ مَا تَكُونُ لِرَبِّكَ
اللغة
أقول: يحذو: يقتدي. و السفر: المسافرون: و أمّواخ: قصدوا. و الجناب: الفناء و المنزلة. و المريع. ذو الكلاء و الخصب. و وعثاء السفر: مشقّته. و جشوبة المطعم: غلظته. و هجم: وقع بغتة. و الكدح: الكسب.
المعنى
و في الفصل مطلوبان.
أحدهما: أنّه نبّهه على حالتي الدنيا و الآخرة،
و ذكّره بما أخبره به عنهما من ضرورة زوال الدنيا و انتقالها و بقاء الآخرة و ما أعدّ لأهلها فيها من السعادة الباقية الّتي اشتمل على تعديد أنواعها الكتاب العزيز و السنّة الكريمة، و ضرب لطالبهما مثلين ليكون ممّن أعرض عن الدنيا و أقبل على الآخرة. فالمثل الأوّل: مثل من خبر الدنيا و عرف زوالها و انتقالها، و خبر الآخرة و عرف بقائها و ما اعدّ فيها لأهلها، و مثّلهم بقوم مسافرين فارقوا منزلا جديبا إلى منزل خصيب، و وجه مطابقه هذا المثل أنّ النفوس البشريّة لمّا كانت في عالم المجرّدات، و كانت الحكمة في هبوطها إلى هذا العالم و مقارنتها لهذه الهياكل الجسمانيّة الكثيفة في دار الغربة و محلّ الوحشة من عالمها هو أن يحصل بواسطتها الكمالات العقليّة الّتي إنّما تمكّن لها بواسطتها، ثمّ يرجع بعد الاستكمال عنها إلى عالمها الأعلى طاهرة عن علايق هذه الهياكل و هيئاتها الرديئة كما أخذ عليها في العهد القديم كانت كلّ نفس حفظت عهد ربّها و بقيت على صراطه المستقيم و هي المدّة المضروبة لها ناظرة بعين الاعتبار إلى أنّ الدنيا كالمنزل الجديب خال عن المطاعم الحقيقيّة و المشارب العذبة الهنيئة فهو لذلك غير صالح للاستيطان و الإقامة، و أنّ عالم الآخرة كالمنزل الخصيب و الجناب المريع من وصل إليه مستقيما على أوامر اللّه و نواهيه فاز بالمقاصد السنيّة و اللذّات الباقية فكانت أبدا في طريق السفر في منازل طريق اللّه و الاستعداد للوصول إلى بهجة حضرته الشريفة محتملة لمشقّة ذلك السفر من معاناة الجوع و الظماء و مقاساة السهر قصدا إلى سعة الدار و منزل القرار لا تجد من ذلك ألما و لا تعدّ ما تنفقة من المال و العمر فيه مغرما و لا شيء أحبّ إليها من وسيلة تقرّبها إلى ذلك المنزل الّذي أمّته و الجناب الّذي قصدته فأشبهت في ذلك من وصل إلى منزل جديب. ثمّ علم أنّ أمامه منزلا خصيبا فاقتضى رأيه الحسن أن يحتمل و عثاء السفر و مشقّته إليه ليحصل على الراحة الكبرى، و أمّا المثل الثاني: فهو مثل أهل الدنيا الّذين قادتهم نفوسهم الأمّارة بالسوء إليها فغفلوا فيها عمّا ورائها و نسوا عهد ربّهم و أعرضوا عمّا ذكروا به من آياته، و شبّههم بقوم كانوا في منزل خصيب فنبأ بهم إلى منزل جديب، فالمنزل الخصيب في هذا المثل هو الدنيا لأنّها محلّ سعادة أهلها و نعيمهم، و المنزل الجديب هو الآخرة. إذ لم يكونوا قد استعدّوا لدرك السعادة فيها. و وجه تشبيههم بالقوم هو ما ذكره من أنّه ليس شيء أكره إليهم. إلى آخره: أي ليس شيء أكره إليهم و لا أفظع عندهم من مفارقة ما هم فيه من الدنيا إلى ما يهجمون عليه بغتة من الأهوال، و يصيرون إليه من مقاساة السلاسل و الأغلال كما أنّه ليس شيء أكره إلى القوم من مفارقة منزل خصيب كانوا فيه إلى منزل جديب يهجمون عليه، و إلى هذين المثلين أشار الرسول صلّى اللّه عليه و آله: الدنيا سجن المؤمن و جنّة الكافر.
المطلوب الثاني: الوصيّة بإصلاح معاملته مع الخلق.
فأشار عليه أن يجعل نفسه ميزانا بينه و بين غيره، و وجه استعارة لفظ الميزان له أنّه يكون ذا عدل بين نفسه و بين الناس كالميزان.
ثمّ شرح وجوه العدل و التسوية الّتي أمره أن يكون ميزانا باعتبارها
فمنها أمور ثبوتيّة، و منها أمور سلبيّة:
فالأوّل: أن يحبّ لغيره ما يحبّ لنفسه، و يكره له ما يكره لها،
و في الحديث المرفوع: لا يكمل إيمان عبد حتّى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه، و يكره له ما يكره لنفسه. و سرّ الحديث أنّ ذلك من كمال فضيله العدالة الّتي هي من كمال الإيمان.
الثاني: أن لا يظلم كما لا يحبّ أن يظلم
فيسلم من رذيلتي الظلم و الانظلام.
الثالث: أن يحسن إلى الغير كما يحبّ أن يحسن إليه،
و الإحسان فضيلة تحت العفّة.
الرابع: أن يستقبح من نفسه ما يستقبح من غيره
فينزجر عن جميع مناهي اللّه و هو من لوازم المروّة، و لذلك قال أحنف إذ سئل عن المروّة: هى أن تستقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك.
الخامس: أن يرضى من الناس ما يرضاه لهم من نفسه
أي كلّ ما رضى أن يفعله بهم من خير أو شرّ إن فعله فينبغي أن يرضى بمثله منهم، و فيه تنبيه على أنّه لا يجوز أن يفعل الشرّ لعدم لازمه و هو الرضا منهم به.
السادس: أن لا يقول ما لا يعلم و إن قلّ ما يعلم،
و إنّما قال: و إن قلّ ما يعلم لأنّ تصوّر قلّة العلم قد يكون داعية لبعض الناس إلى أن يقول بغير علم لئلّا ينسب إلى الجهل فيضلّ و يضلّ كما قال تعالى وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ لا هُدىً وَ لا كِتابٍ مُنِيرٍ«».
السابع: أن لا يقول لأحد ما لا يحبّ أن يقال له
كالمواجهة بالعيوب و الألقاب المكروهة و كلّ كلام موذ.
الثامن: نبّهه على وجوب ترك الإعجاب
بأنّه ضدّ الصواب. و لمّا كان الصواب هو سلوك طريق اللّه باستجماع مكارم الأخلاق و كان الإعجاب من رذائل الأخلاق كان مضادّا للصواب مضادّة الرذيلة للفضيلة، و بأنّه آفة للعقول. إذ هو من أكبر أمراض العقل و آفاته المهلكة له كما أشار إليه الرسول صلّى اللّه عليه و آله: ثلاث مهلكات: إلى أن قال: و إعجاب المرء بنفسه.
التاسع: أن يسعى في كدحه:
أي فيما ينبغي له من كسب الطاعات، و قيل: أراد بالكدح ما اكتسبه من المال و ما ينبغي فيه إنفاقه في سبيل اللّه.
العاشر: أن يكون عند هداية اللّه إيّاه لرشده أخشع ما يكون لربّه،
و ذلك أنّ الهداية للرشد هي العلم بالطريق إلى اللّه تعالى في جميع ما عدّد من مكارم الأخلاق.
و العلم بالطريق المؤدّية إليه حين سلوكها يستلزم ملاحظة جلاله و عظمته و هناك يكون الخشوع الحقّ و الخشية التامّة لقوله تعالى إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ«».
الفصل السابع:
قوله: وَ اعْلَمْ أَنَّ أَمَامَكَ طَرِيقاً ذَا مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ- وَ مَشَقَّةٍ شَدِيدَةٍ- وَ أَنَّهُ لَا غِنَى لَكَ فِيهِ عَنْ حُسْنِ الِارْتِيَادِ- وَ قَدْرِ بَلَاغِكَ مِنَ الزَّادِ مَعَ خِفَّةِ الظَّهْرِ- فَلَا تَحْمِلَنَّ عَلَى ظَهْرِكَ فَوْقَ طَاقَتِكَ- فَيَكُونَ ثِقْلُ ذَلِكَ وَبَالًا عَلَيْكَ- وَ إِذَا وَجَدْتَ مِنْ أَهْلِ الْفَاقَةِ مَنْ يَحْمِلُ لَكَ زَادَكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ- فَيُوَافِيكَ بِهِ غَداً حَيْثُ تَحْتَاجُ إِلَيْهِ- فَاغْتَنِمْهُ وَ حَمِّلْهُ إِيَّاهُ- وَ أَكْثِرْ مِنْ تَزْوِيدِهِ وَ أَنْتَ قَادِرٌ عَلَيْهِ- فَلَعَلَّكَ تَطْلُبُهُ فَلَا تَجِدُهُ- وَ اغْتَنِمْ مَنِ اسْتَقْرَضَكَ فِي حَالِ غِنَاكَ- لِيَجْعَلَ قَضَاءَهُ لَكَ فِي يَوْمِ عُسْرَتِكَ- وَ اعْلَمْ أَنَّ أَمَامَكَ عَقَبَةً كَئُوداً- الْمُخِفُّ فِيهَا أَحْسَنُ حَالًا مِنَ الْمُثْقِلِ- وَ الْمُبْطِئُ عَلَيْهَا أَقْبَحُ حَالًا مِنَ الْمُسْرِعِ- وَ أَنَّ مَهْبِطَكَ بِهَا لَا مَحَالَةَ- عَلَى جَنَّةٍ أَوْ عَلَى نَارٍ- فَارْتَدْ لِنَفْسِكَ قَبْلَ نُزُولِكَ وَ وَطِّئِ الْمَنْزِلَ قَبْلَ حُلُولِكَ- فَلَيْسَ بَعْدَ الْمَوْتِ مُسْتَعْتَبٌ وَ لَا إِلَى الدُّنْيَا مُنْصَرَفٌ وَ اعْلَمْ أَنَّ الَّذِي بِيَدِهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ- قَدْ أَذِنَ لَكَ فِي الدُّعَاءِ- وَ تَكَفَّلَ لَكَ بِالْإِجَابَةِ وَ أَمَرَكَ أَنْ تَسْأَلَهُ لِيُعْطِيَكَ- وَ تَسْتَرْحِمَهُ لِيَرْحَمَكَ- وَ لَمْ يَجْعَلْ بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ مَنْ يَحْجُبُكَ عَنْهُ- وَ لَمْ يُلْجِئْكَ إِلَى مَنْ يَشْفَعُ لَكَ إِلَيْهِ وَ لَمْ يَمْنَعْكَ إِنْ أَسَأْتَ مِنَ التَّوْبَةِ- وَ لَمْ يُعَاجِلْكَ بِالنِّقْمَةِ- وَ لَمْ يَفْضَحْكَ حَيْثُ الْفَضِيحَةُ بِكَ أَوْلَى- وَ لَمْ يُشَدِّدْ عَلَيْكَ فِي قَبُولِ الْإِنَابَةِ- وَ لَمْ يُنَاقِشْكَ بِالْجَرِيمَةِ- وَ لَمْ يُؤْيِسْكَ مِنَ الرَّحْمَةِ- بَلْ جَعَلَ نُزُوعَكَ عَنِ الذَّنْبِ حَسَنَةً- وَ حَسَبَ سَيِّئَتَكَ وَاحِدَةً- وَ حَسَبَ حَسَنَتَكَ عَشْراً- وَ فَتَحَ لَكَ بَابَ الْمَتَابِ وَ بَابَ الِاسْتِعْتَابِ- فَإِذَا نَادَيْتَهُ سَمِعَ نِدَاكَ- وَ إِذَا نَاجَيْتَهُ عَلِمَ نَجْوَاكَ- فَأَفْضَيْتَ إِلَيْهِ بِحَاجَتِكَ- وَ أَبْثَثْتَهُ ذَاتَ نَفْسِكَ وَ شَكَوْتَ إِلَيْهِ هُمُومَكَ- وَ اسْتَكْشَفْتَهُ كُرُوبَكَ وَ اسْتَعَنْتَهُ عَلَى أُمُورِكَ- وَ سَأَلْتَهُ مِنْ خَزَائِنِ رَحْمَتِهِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى إِعْطَائِهِ غَيْرُهُ- مِنْ زِيَادَةِ الْأَعْمَارِ وَ صِحَّةِ الْأَبْدَانِ- وَ سَعَةِ الْأَرْزَاقِ- ثُمَّ جَعَلَ فِي يَدَيْكَ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِهِ- بِمَا أَذِنَ لَكَ فِيهِ مِنْ مَسْأَلَتِهِ- فَمَتَى شِئْتَ اسْتَفْتَحْتَ بِالدُّعَاءِ أَبْوَابَ نِعْمَتِهِ- وَ اسْتَمْطَرْتَ شَآبِيبَ رَحْمَتِهِ- فَلَا يُقَنِّطَنَّكَ إِبْطَاءُ إِجَابَتِهِ- فَإِنَّ الْعَطِيَّةَ عَلَى قَدْرِ النِّيَّةِ- وَ رُبَّمَا أُخِّرَتْ عَنْكَ الْإِجَابَةُ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَعْظَمَ لِأَجْرِ السَّائِلِ- وَ أَجْزَلَ لِعَطَاءِ الْآمِلِ- وَ رُبَّمَا سَأَلْتَ الشَّيْءَ فَلَا تُؤْتَاهُ- وَ أُوتِيتَ خَيْراً مِنْهُ عَاجِلًا أَوْ آجِلًا- أَوْ صُرِفَ عَنْكَ لِمَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ- فَلَرُبَّ أَمْرٍ قَدْ طَلَبْتَهُ فِيهِ هَلَاكُ دِينِكَ لَوْ أُوتِيتَهُ- فَلْتَكُنْ مَسْأَلَتُكَ فِيمَا يَبْقَى لَكَ جَمَالُهُ- وَ يُنْفَى عَنْكَ وَبَالُهُ- فَالْمَالُ لَا يَبْقَى لَكَ وَ لَا تَبْقَى لَهُ
اللغة
أقول: الارتياد: الطلب. و الطوق و الطاقة: ما يتسع له قدرتك. و الوبال: الهلاك. و كؤد: شاقّة المصعد. و النزوع عن الذنب. الخروج منه. و الإفضاء: الوصول. و البثّ: النشر و الكشف. و الشآبيب: جمع شؤبوب و هو الدفعة من المطر. و القنوط: اليأس. و الاستعتاب: طلب العتبى و هي الرجوع إلى الرضا.
و في الفصل مطالب:
الأول و الثاني
أحدها: الوصيّة بالسعى في تحصيل الكمالات النفسانيّة الباقية. و الثاني: طرح الرذائل المنقّصة فنبّهه على الأوّل بأن أمامه: أي في سفره إلى اللّه طريقا طويلا شديدا، و ظاهر أنّ الطريق الّتي يكون لذلك لابدّ لسالكه من حسن طلب القصد فيه إلى مطلوبه، و من قدر مبلغ له من الزاد، و استعار له لفظ الطريق لما يسير فيه الإنسان من أحوال الدنيا و يعبر منها إلى الآخرة، و أشار بطولها و شدّتها إلى عسر النجاة فيها و السلامة من خطرها. إذ كان ذلك إنّما يكون بلزوم القصد و الثباث على سنن العدل و الاستقامة على حاقّ الوسط من مكارم الأخلاق. إذ علمت أنّ لكلّ من القوّة التميزيّة و الشهويّة و الغصبيّة حدّ يجب وقوف الإنسان عنده و هو العدل، و علمت أنّه أدقّ الحدود و أصبعها. إذ هو محتوش بطرفي تفريط و إفراط قلّ ما يسلم الإنسان من الوقوع في أحدهما، و هما طريقا جهنّم. فبالحرى أن يكون طريقا ذا مسافة لا يصل الإنسان منها إلى غايته إلّا على بعد بعيد، و لا يحصل منها على خبير إلّا بجهد جهيد، و استعار لفظ الزاد للتقوى و الكمالات الّتي هي بلاغ الإنسان في تلك الطريق إلى اللّه تعالى، و بهذا يكون النجاة فيها و الخلاص من مهالكها، و نبّهه على الثاني بقوله: مع خفّة الظهر. إلى قوله: وبالا عليك. و استعار لفظ الخفّة لتقليل اكتساب الآثام و حملها على النفس، و لفظ الحمل لاكتسابها، و وجه الاستعاره الاولى: أنّ مقلّل الآثام سريع القطع لتلك الطريق قريب إلى النجاة فيها من مخاوفها كما قال عليه السّلام: تخفّفوا تلحقوا. و كما أشار إليه الرسول صلّى اللّه عليه و آله: نجا المخفّون.
و وجه الثانية: أنّ مكتسب الآثام يثقل بها و يبطئ عن لحوق المخفّين و يهلك بها في طريقه، و كثرة تخلّفه تابعة لكثرة اكتسابة كما يكون حال المثقل في الطريق البعيدة، و لفظ الظهر ترشيح المطلوب.
الثالث: التنبيه على وجوب إنفاق المال في وجوه الصدقة و البرّ
لمن يحتاج إليه من أهل الفاقة، و ذلك قوله: و إذا وجدت. إلى قوله: عسرتك. و جذبه و أعدّه لذلك بأمرين: أحدهما: كون ذلك زادا يحمله ذو الفاقة إلى يوم القيامة، و يلقاه به هناك في موضع الحاجة إليه. و استعار لفظ الزاد هنا لما يحصل من فضيلة السخا و الكرم بالإنفاق، و وجه الاستعارة كونه سببا لسلامة النفس من الهلاك في طريق الآخرة و وسيلة إلى السعادة الباقية كالزاد المخلص للمسافر في طريقه و المبلّغ له إلى مطالبه، و استعار للمتصدّق عليه وصف الحامل لذلك الزاد باعتبار أنّه سبب لحصول الفضيلة بتلك الصدقة و وصول ثوابها إلى المتصدّق يوم القيامة فوجدانه لتلك الفضيلة و ظهورها في صحيفة أعمال المتصدّق يوم القيامة هو المشار إليه بالموافات بها غدا. ثمّ أمره أن يغتنم ذا الفاقة عند وجدانه، و أن يحمله ذلك الزاد و يكثر من تزويده و تحميله للزاد حينما هو قادر على تحصيله، و جذب إلى اغتنامه و المسارعة إلى الصدقة بقوله: فلعلّك تطلبه فلا تجده. لأنّ الوسيلة إلى أمر عظيم إذا كان في معرض أن يطلب فلا توجد ثمّ وجدت في وقت فمن الواجب أن يغتنم تحصيلها و لا تهمل. الثاني: كون الصدقة. على ذى الفاقة قرضا للمتصدّق في حال غناه بالمال يقضى له يوم عسرته و فقره، و استعار وصف المستقرض هنا للّه باعتبار أنّه هو المجازي بالثواب من أنفق ماله في طاعته، و إليه الإشارة بقوله تعالى إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ«» و نبّه بكون القرض في حال الغناء، و القضاء في حال العسرة ليكون القضاء أفضل فيرغب في القرض لغاية الربح المطلوب.
الرابع: التنبيه على شدّة طريق الآخرة و على وجوب الاستعداد لها
بالخفّة من حمل الآثام و السرعة فيها قبل انقضاء الأيّام، و استعار لفظ العقبة لما فيها من الصعود و الارتقاء في درجات الكمال بالفضائل عن مهابط الرذائل، و وصفها بشدّة الصعود باعتبار ما في ذلك الارتقاء من التعسّر و كثرة الموانع. و جذب إلى الاستعداد بامور ثلاثة: أحدها: كون المخفّ فيها أحسن حالا من المثقل، و هو ظاهر كما قدّمناه. الثاني: كون المبطئ فيها أقبح حالا من المسرع و هو أيضا ظاهر. إذ كان المبطئ فيها واقفا في أحد طرفي الإفراط و التفريط مشغولا بما يلهيه ملتفتا عمّا يعينه حتّى إذا تصرّم أجله بقى في مهاوى الهلاك أسيرا و على ما فاته من سرعة السير حسيرا. الثالث: ذكر الغايتين منها و هي الجنّة و النار. و أنّه لا بدّ من تأديتها و هبوطها بسالكها على أحدهما، و هو ظاظر. أيضا فإنّ خوض الإنسان في أحوال الدنيا و التصرّف فيها إلى غاية انقطاعها و وصول الآخرة إمّا أن يكون على وجه القصد، و لزوم سمت القبلة الحقيقيّة و تجنّب طريق طرفى الإفراط و التفريط و بذلك يكون هجوم تلك الطريق و هبوطها بسالكها على الجنّة، و إمّا أن يكون على وجه الانحراف عن ذلك القصد، و التعريج عنه إلى ما في تلك الطريق من مناهي اللّه و أبواب محارمه، و بذلك يكون هبوطها بسالكها على النار، و نسبة الهبوط إليها مجاز باعتبار تأدّيها إلى إحدى الغايبين كالهابط بالشيء ليوصله إلى قراره. ثمّ أمره أن يرتاد لنفسه و يطلب ما يكون سببا لنجاته فيها و حسن حاله قبل نزول أحد المنزلين الّذين هما غايتاها ليكون هبوطها به على الجنّة، و أن يوطّئ المنزل الّذي يريد سكناه بالاستعداد له.
و روي: يوطّن- بالنون- أي يتّخذه وطنا.
المطلوب الخامس: التنبيه على الدعاء و الترغيب فيه
و سرّه دوام ملاحظة جلال اللّه و الانقطاع إليه. إذ هو مبدء كلّ محبوب و معطى كلّ مطلوب.
و رغّب في ذلك بامور:
أحدها: أنّ بيده تعالى خزائن السماوات و الأرض،
و هو في قوّة صغرى ضمير تقدير كبراه: و كلّ من كان كذلك كان أحقّ بالرغبة إليه من كلّ أحد.
الثاني: أنّه تعالى أذن في الدعاء و تكفّل بالإجابة
فقال ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ«» و تقدير الكبرى فكالأوّل.
الثالث: انّه أمر الخلق أن يسألوه ليعطيهم
في قوله تعالى وَ سْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ«» و كذلك أن يطلبوا منه الرحمة ليرحمهم، و ذلك أنّ إفاضة الرزق و الرحمة و كلّ فضل منه إنّما يوجد بعد الاستعداد له بالاخلاص في الطلب و الاسترحام و غيره كما علم في مظانّه، و تقدير الكبرى: و كلّ من كان كذلك فواجب أن يسأل و يسترحم.
الرابع: أنّه لم يجعل بينه و بين الراغب إليه حاجبا و لا بوّابا لتقدّسه سبحانه
عن الجسميّة و الجهة و صفات المحدثات بل تجلّى في كلّ شيء لكلّ من فتح عين بصيرته و وجّهها إلى مطالعة كبريائه و عظمته، و تقدير الكبرى: و كلّ من كان كذلك فهو أولى من يسئل و يسترحم.
الخامس: أنّه لم يلجئه إلى من يشفع إليه
لأنّ الشفيع إنّما يضطرّ إليه عند تعذّر المطلوب من جهة المرغوب إليه إمّا لبخله أو جهله باستحقاق الطالب. و الباري تعالى لا بخل فيه و لا منع من جهته، و إنّما يتوقّف فيضه على استعداد الطالب له و لم يجعل سبحانه للراغبين إليه ضرورة إلى الشفعاء. إذ مكّنهم من الاستعداد لنيل مطلوباتهم منه و هيّأ لهم أسبابها و فتح لهم أبواب رحمته فإن عرضت لهم حاجة إلى شفيع فليس ذلك عن ضرورة و إلجاء منه إلى ذلك.
السادس: أنّه لم يمنعه إن أساء من التوبة
بل أمره بها و وعده عليها فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ يُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ، و قال بعد أن عدّد الكبائر و توعّد عليها: إِلَّا مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ الآية.
السابع: أنّه لم يعاجله بالنقمة
مع اطّلاعه عليه حين معصيته و لم يفضحه في مقامه الّذي تعرّض فيه للفضيحة بل أمهله على ظلمه و أسبل عليه ستر كرمه و حلمه.
الثامن: أنّه يشدّد عليه في قبول الإنابة
و الرجوع إليه كما يفعله الملوك في حقّ من أساء و طلب الإقالة، و لم يناقشه بجريمته و ذنبه فيستقصى في حسابه بل سهل عليه في ذلك و قبل توبته متى شاء لأنّه تعالى لا مضرّة عليه بإساءة مسىء و لا نفع يصل إليه من إنابة منيب. إذ هو الغنىّ المطلق.
التاسع: أنّه لم يؤيسه من الرحمة
حيث قال: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ. الآية.
العاشر: أنّه جعل نزوعه عن ذنبه
و توبته منه حسنة حيث قال بعد ذكر التوبة: فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ، و حسب سيّئته واحدة و حسنته عشرا حيث قال: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها.
الحادي عشر: كونه فتح له باب المتاب
حيث قال: غافر الذنب و قابل التوب و هو الّذي يقبل التوبة عن عباده و يعفوا عن السيّئات، و باب الاستعتاب حيث أمره و أرشده إلى طلب الرضا عنه بعد توبته.
الثاني عشر: كونه إذا ناداه سمع ندائه
لقوله تعالى الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ«» و إذا ناجاه علم نجواه لقوله تعالى يَعْلَمُ السِّرَّ وَ أَخْفى«» فأوصل إليه حاجته إن شاء سرّا و إن شاء جهرا، و طلب منه إعانته على أموره، و نشر له ما كان في نفسه من مهماته، و سأله كشف كروبه. فوهب له من خزائن رحمته ما لا يقدر على إعطائه غيره من زيادة الأعمار، و صحّة الأبدان، و سعة الأرزاق.
الثالث عشر: أنّه جعل في يديه مفاتيح خزائنه بما أدّت له من مسئلته،
و استعار لفظ المفاتيح للأدعية باعتبار أنّها أسباب لتحصيل النعمة و كمال الرحمة متى شاء استفتح بها أبواب خزائنها، و كذلك استعار لفظ الأبواب لأسباب جزئيّات النعم الواصلة إلى العبد. و خزائن نعمه هي خزائن السماوات و الأرض. إذ الكلّ منه و بيده، و يحتمل أن يشير بها إلى المعقول من سماء جوده و ما يحويه قدرته من الخيرات الممكنة، و استعار وصف الاستمطار لطلب نعم اللّه تعالى ملاحظة لشبهها بالمطر في كونهما سببين للحياة و صلاح الحال في الدنيا و يشبه طالبيهما بالمستمطر، و رشّح بذكر الشآبيب، و تقدير الكبرى في كلّ واحد من هذه الضمائر: و كلّ من كان كذلك فهو أحقّ بأن يرغب إليه و يوجّه الطلب نحوه، و أعلم أنّه لمّا رغّبه في الدعاء بهذه الجواذب نبّهه على أنّ الإجابة في الدعاء قد تبطىء و تتأخّر.
ثمّ عدّد ما يصلح أسبابا لتأخّرها ليلحظها عند تأخّرها فلا يقنط منها:
أحدها: أنّ العطيّة على قدر النيّة
أي أنّ الإجابة موقوفة على الاستعداد بإخلاص النيّة فإذا تأخّرت الإجابة فلعلّ تأخّرها لأنّ النيّة لم تكن خالصة.
الثاني: أنّها ربّما أخّرت لعلم اللّه تعالى أنّ تأخيرها من أسباب استعداد السائل و المؤمّل استعدادا أعلى لعطاء ما هو أعلى و أشرف ممّا سأل فيعطاه عند كمال استعداده لأنّه على قدر أهل العزم يأتي العزائم، و بقدر الكدّ يكتسب المعالى.
الثالث: أنّ المطلوب قد لا يكون فيه مصلحة للعبد
لاشتماله على مفسدة في دينه لو اعطى إيّاه كالغنى و الجاه مثلا و ساير المطالب الدنيويّة الخالصة فلا يجيب اللّه سؤاله فيه بل يعطيه خيرا منه إمّا في عاجل دنياه أو في آجل آخرته و يصرف ذلك الأمر عنه لما هو مصلحة له أو خير. ثمّ ختم ذلك بتعريفه مواقع مسألته للّه و ما ينبغي أن يسأله إيّاه و هو ما يبقى له جماله و يبقى عنه وباله من التوفيق لأسباب السعادة الباقية و جميل الاحدوثة في الأعقاب دون المال.
الفصل الثامن:
قوله: وَ اعْلَمْ يَا بُنَيَّ أَنَّكَ إِنَّمَا خُلِقْتَ لِلْآخِرَةِ لَا لِلدُّنْيَا- وَ لِلْفَنَاءِ لَا لِلْبَقَاءِ وَ لِلْمَوْتِ لَا لِلْحَيَاةِ- وَ أَنَّكَ فِي مَنْزِلِ قُلْعَةٍ وَ دَارِ بُلْغَةٍ- وَ طَرِيقٍ إِلَى الْآخِرَةِ- وَ أَنَّكَ طَرِيدُ الْمَوْتِ الَّذِي لَا يَنْجُو مِنْهُ هَارِبُهُ- وَ لَا يَفُوتُهُ طَالِبُهُ وَ لَا بُدَّ أَنَّهُ مُدْرِكُهُ فَكُنْ مِنْهُ عَلَى
حَذَرِ أَنْ يُدْرِكَكَ وَ أَنْتَ عَلَى حَالٍ سَيِّئَةٍ- قَدْ كُنْتَ تُحَدِّثُ نَفْسَكَ مِنْهَا بِالتَّوْبَةِ- فَيَحُولَ بَيْنَكَ وَ بَيْنَ ذَلِكَ- فَإِذَا أَنْتَ قَدْ أَهْلَكْتَ نَفْسَكَ يَا بُنَيَّ أَكْثِرْ مِنْ ذِكْرِ الْمَوْتِ وَ ذِكْرِ مَا تَهْجُمُ عَلَيْهِ- وَ تُفْضِي بَعْدَ الْمَوْتِ إِلَيْهِ- حَتَّى يَأْتِيَكَ وَ قَدْ أَخَذْتَ مِنْهُ حِذْرَكَ- وَ شَدَدْتَ لَهُ أَزْرَكَ- وَ لَا يَأْتِيَكَ بَغْتَةً فَيَبْهَرَكَ- وَ إِيَّاكَ أَنْ تَغْتَرَّ بِمَا تَرَى مِنْ إِخْلَادِ أَهْلِ الدُّنْيَا إِلَيْهَا- وَ تَكَالُبِهِمْ عَلَيْهَا فَقَدْ نَبَّأَكَ اللَّهُ عَنْهَا- وَ نَعَتْ لَكَ نَفْسَهَا وَ تَكَشَّفَتْ لَكَ عَنْ مَسَاوِيهَا- فَإِنَّمَا أَهْلُهَا كِلَابٌ عَاوِيَةٌ وَ سِبَاعٌ ضَارِيَةٌ- يَهِرُّ بَعْضُهَا بَعْضًا وَ يَأْكُلُ عَزِيزُهَا ذَلِيلَهَا- وَ يَقْهَرُ كَبِيرُهَا صَغِيرَهَا- نَعَمٌ مُعَقَّلَةٌ وَ أُخْرَى مُهْمَلَةٌ- قَدْ أَضَلَّتْ عُقُولَهَا وَ رَكِبَتْ مَجْهُولَهَا- سُرُوحُ عَاهَةٍ بِوَادٍ وَعْثٍ- لَيْسَ لَهَا رَاعٍ يُقِيمُهَا وَ لَا مُسِيمٌ يُسِيمُهَا- سَلَكَتْ بِهِمُ الدُّنْيَا طَرِيقَ الْعَمَى- وَ أَخَذَتْ بِأَبْصَارِهِمْ عَنْ مَنَارِ الْهُدَى- فَتَاهُوا فِي حَيْرَتِهَا وَ غَرِقُوا فِي نِعْمَتِهَا- وَ اتَّخَذُوهَا رَبّاً فَلَعِبَتْ بِهِمْ وَ لَعِبُوا بِهَا- وَ نَسُوا مَا وَرَاءَهَا- رُوَيْداً يُسْفِرُ الظَّلَامُ- كَأَنْ قَدْ وَرَدَتِ الْأَظْعَانُ- يُوشِكُ مَنْ أَسْرَعَ أَنْ يَلْحَقَ
اللغة
أقول: منزل قلعة: لا يصلح للاستيطان. و البلغة: ما تبلغ به من العيش. الأزر: القوّة. و يبهّره: غلبه و أتعبه، و أصل البهر تتايع النفس عن التعب. و أخلد إلى كذا: استند إليه. و التكالب: التواثب. و المساوي: المعايب. و الضراوة.
تعوّد الصيد و الجرأة عليه. و المعقّلة: المقيّدة. و المجهول و المجهل: المفازة الّتي لا أعلام فيها. و واد وعث: لا يثبت به خفّ و لا حافر لكثرة سهولته. و المسيم: الراعي.
و قد نبّهه في هذه الفصل على امور:
أحدها: أنّ العلّة الغائيّة من خلقه و وجوده هي الآخرة دون الدنيا و الموت و الفناء دون الحياة و البقاء،
و هذه الامور علل عرضيّة من وجود الإنسان لكونها من ضرورات وجوده، و أمّا العلّة الحقيقيّة الاولى من وجوده فهى استكماله و وصوله إلى حضرة ربّه طاهرا عن علايق الدنيا، و ذكره بهذه الغايات الّتي يجزم بالوصول إليها ليعمل لها و لما بعد الموت، و يقلّ العرجة على الدنيا و عمارتها و لا يركن إلى البقاء فيها لكونها امورا عرضيّة زايلة.
الثاني: نبّهه بكون الدنيا منزل قلعة
على أنّها منزل عبور لم يخلق للاستيطان و الإقامة، و بكونها دار بلغة على أنّها إنّما خلقت ليتّخذ منها الإنسان بلاغا للوصول إلى الآخرة و زادا لكونها طريقا إليها.
الثالث: نبّهه على أنّه طريد الموت،
و استعار له لفظ الطريد ملاحظة لشبهه بالصيد يطرده السبع و غيره. ثمّ وصف الموت بكونه لا ينجو منه هارب و لا بدّ أنّه مدركه تحذيرا منه و جذبا إلى الاستعداد له بطاعته المقاومة لأهواله و شدايده، و لذلك قال: فكن منه على حذر. إلى قوله: نفسك: أي ببقائك على الحال السيّئة تحدّث نفسك فيها بالتوبة إلى أن يدركك، و يحول عطف على يدركك، و إذا للمفاجاة.
الرابع: أمره بالإكثار من ذكر الموت و ما يهجم عليه
فإنّ ذلك يستلزم العبرة و الانزجار و الأخذ في الاهبّة و الاستعداد له و لما بعده، و لذلك قال: حتّى يأتيك و قد أخذت منه حذرك و شددت له قوّتك: أي بالكمالات الّتى استعددت بها و لا يأتيك بغتة فيتبعك، و قوله: و لا يأتيك عطف على قوله: حتّى يأتيك، و الواو في قوله: و قد للحال، و كذلك بغتة حال و يبهّرك منصوب بإضمار أن بعد الفاء في جواب النفي.
الخامس: نهاه أن يغترّ باستناد أهل الدنيا إليها و تواثبهم عليها،
و نبّهه على أنّه لا ينبغي له ذلك الاغترار بقياسات ضمير. فقوله: فقد نبّأك اللّه. إلى قوله: عنها. هو صغرى القياس الأوّل كقوله تعالى وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ«» في مواضع كثيرة من كتابه العزيز و قوله إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ«» الآية و أمثاله. و قوله: و نعت لك نفسها.
صغرى القياس الثاني، و روى: و نعت. بمعنى أنّ اللّه وصفها له، و معنى نعتها لنفسها وصفها بلسان حالها لنفسها، و بيان أنّها محلّ الهموم و الغموم و الأعراض و الأمراض و دار كلّ بلاء و منزل كلّ فتنة. و قوله: و إنّما أهلها. إلى آخره. صغرى القياس الثالث، و تقدير الكبرى في القياس الأوّل: و كلّ من أخبر اللّه تعالى عنه بذلك فلا ينبغي أن يغترّ به، و تقديرها في الثاني: و كلّ من وصف نفسه كذلك فلا ينبغي أن يغترّ به، و تقديرها في الثالث: و كلّ من كان كذلك فلا ينبغي أن يغترّ بفعله، و اعلم أنّه أشار في هذين المثلين إلى قسمة أهل الدنيا أوّلا بقسمين بحسب اعتبار قواهم الغضبيّة و الشهويّة و اتّباعهم لها: أى فمنهم من اتّبع قوّته الغضبيّة و أعطاها مقتضاها، و منهم من اتّبع قوّته الشهويّة و استرسل في قيادها و غفل عمّا خلق لأجله، و ضرب المثل للأوّلين بالكلاب العاوية و السباع الضارية. و أشار إلى وجه مطابقة المثل بقوله: يهرّ. إلى قوله: صغيرها. و وصف الهرير مستعار لتنازعهم عليها، و كذلك لفظ الأكل لغلبة بعضهم على بعض. و ضرب للآخرين مثل النعم باعتبار غفلتهم عمّا يراد بهم كالبهائم، ثمّ قسّم هؤلاء إلى قسمين: معقّلة و مهملة، و استعار لفظ المعقّلة للذين تمسّكوا بظواهر الشريعة و الإمام العادل فقيّدهم بالدين عن الاسترسال في اتّباع الشهوات و الانهماك فيها و إن لم يعقلوا أسرار الشريعة فهم كالنعم الّتي عقّلها راعيها، و أشار بالمهملة إلى الّذين استرسلوا في اتّباع شهواتهم و خرجوا عن طاعة إمامهم و لم يتعبّدوا بأوامره فهم كالبهائم المرسلة.
و أشار إلى وجه المشابهة بقوله: الّتي أضلّت عقولها. إلى آخره، و يحتمل أن يريد بعقولها عقلها جمع عقال فأشبع الضمّة و قلّبها واوا متابعة لقوله: مجهولها، و يحتمل أن يريد به جمع عقل و هو الملجأ: أي أنّها ضيّعت من يلجأ إليه، و هو أمامها، و وجه مطابقة هذا المثل أنّ هؤلاء في عدم انتفاعهم بعقولهم و ركوبهم لأهوائهم الفاسدة و شروعهم في مشتهياتهم الدنيويّة مكتسبين للرذائل و العاهات النفسانيّة ليس لهم إمام يقيمهم على طاعة اللّه في طرق الهدى إلى مكارم الأخلاق قد أشبهوا النعم المهملة الّتي أضلّت عقلها و ركبت المفازة فهي سروح متردّدة متحيّرة بواد و عث ليس لها راع يرعاها و يقيمها إلى المرعى، و روى سروح آفة: أي فهي سارحة عن آفة قد خرجت بها عن الانتفاع.
و الرواية الثانية أقرب إلى الصواب. و أراد بطرق العمى طرق الجهل و مسالك الباطل الّتي لا يهتدي فيها لشيء كما لا يهتدى الأعمى للطريق، و نسب السلوك بهم إليها باعتبار أنّها سبب لغرورهم و غفلتهم عمّا ورائهم، و كذلك أخذها بأبصارهم: أي بأبصار عقولهم عن منازل الهدى و هي آيات اللّه و منازل الطريق إليه، و أشار بتيههم في حيرتها إلى ضلالهم عن طرق الحقّ، و استعار لفظ الغرق باعتبار استيلاء نعيمها على عقولهم و تملّكه لها كما يستولى الماء على الغريق، و اتّخاذهم لها ربّا باعتبار خدمتهم لها. فلعبت بهم إذ كانوا عبيدا لها، و لعبوا بها إذ اشتغلوا بها غير منتفعين، و ضيّعوا ما الأولى بهم فعله، و نسوا ما وراءها ممّا خلقوا لأجله.
الفصل التاسع:
قوله: وَ اعْلَمْ يَا بُنَيَّ- أَنَّ مَنْ كَانَتْ مَطِيَّتُهُ اللَّيْلَ وَ النَّهَارَ- فَإِنَّهُ يُسَارُ بِهِ وَ إِنْ كَانَ وَاقِفاً- وَ يَقْطَعُ الْمَسَافَةَ وَ إِنْ كَانَ مُقِيماً وَادِعاً- وَ اعْلَمْ يَقِيناً أَنَّكَ لَنْ تَبْلُغَ أَمَلَكَ وَ لَنْ تَعْدُوَ أَجَلَكَ- وَ أَنَّكَ فِي سَبِيلِ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ- فَخَفِّضْ فِي الطَّلَبِ وَ أَجْمِلْ فِي الْمُكْتَسَبِ- فَإِنَّهُ رُبَّ طَلَبٍ قَدْ جَرَّ إِلَى حَرَبٍ- وَ لَيْسَ كُلُّ طَالِبٍ بِمَرْزُوقٍ- وَ لَا كُلُّ مُجْمِلٍ بِمَحْرُومٍ- وَ أَكْرِمْ نَفْسَكَ عَنْ كُلِّ دَنِيَّةٍ- وَ إِنْ سَاقَتْكَ إِلَى الرَّغَائِبِ- فَإِنَّكَ لَنْ تَعْتَاضَ بِمَا تَبْذُلُ مِنْ نَفْسِكَ عِوَضاً- وَ لَا تَكُنْ عَبْدَ غَيْرِكَ وَ قَدْ جَعَلَكَ اللَّهُ حُرّاً-
وَ مَا خَيْرُ خَيْرٍ لَا يُنَالُ إِلَّا بِشَرٍّ- وَ يُسْرٍ لَا يُنَالُ إِلَّا بِعُسْرٍ-وَ إِيَّاكَ أَنْ تُوجِفَ بِكَ مَطَايَا الطَّمَعِ- فَتُورِدَكَ مَنَاهِلَ الْهَلَكَةِ- وَ إِنِ اسْتَطَعْتَ أَلَّا يَكُونَ بَيْنَكَ وَ بَيْنَ اللَّهِ ذُو نِعْمَةٍ فَافْعَلْ- فَإِنَّكَ مُدْرِكٌ قَسْمَكَ وَ آخِذٌ سَهْمَكَ- وَ إِنَّ الْيَسِيرَ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَعْظَمُ وَ أَكْرَمُ مِنَ الْكَثِيرِ مِنْ خَلْقِهِ- وَ إِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُ وَ تَلَافِيكَ مَا فَرَطَ مِنْ صَمْتِكَ- أَيْسَرُ مِنْ إِدْرَاكِكَ مَا فَاتَ مِنْ مَنْطِقِكَ- وَ حِفْظُ مَا فِي الْوِعَاءِ بِشَدِّ الْوِكَاءِ- وَ حِفْظُ مَا فِي يَدَيْكَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ طَلَبِ مَا فِي يَدَيْ غَيْرِكَ- وَ مَرَارَةُ الْيَأْسِ خَيْرٌ مِنَ الطَّلَبِ إِلَى النَّاسِ- وَ الْحِرْفَةُ مَعَ الْعِفَّةِ خَيْرٌ مِنَ الْغِنَى مَعَ الْفُجُورِ- وَ الْمَرْءُ أَحْفَظُ لِسِرِّهِ وَ رُبَّ سَاعٍ فِيمَا يَضُرُّهُ- مَنْ أَكْثَرَ أَهْجَرَ وَ مَنْ تَفَكَّرَ أَبْصَرَ- قَارِنْ أَهْلَ الْخَيْرِ تَكُنْ مِنْهُمْ- وَ بَايِنْ أَهْلَ الشَّرِّ تَبِنْ عَنْهُمْ- بِئْسَ الطَّعَامُ الْحَرَامُ- وَ ظُلْمُ الضَّعِيفِ أَفْحَشُ الظُّلْمِ- إِذَا كَانَ الرِّفْقُ خُرْقاً كَانَ الْخُرْقُ رِفْقاً- رُبَّمَا كَانَ الدَّوَاءُ دَاءً وَ الدَّاءُ دَوَاءً- وَ رُبَّمَا نَصَحَ غَيْرُ النَّاصِحِ وَ غَشَّ الْمُسْتَنْصَحُ- وَ إِيَّاكَ وَ الِاتِّكَالَ عَلَى الْمُنَى فَإِنَّهَا بَضَائِعُ النَّوْكَى- وَ الْعَقْلُ حِفْظُ التَّجَارِبِ- وَ خَيْرُ مَا جَرَّبْتَ مَا وَعَظَكَ- بَادِرِ الْفُرْصَةَ قَبْلَ أَنْ تَكُونَ غُصَّةً- لَيْسَ كُلُّ طَالِبٍ يُصِيبُ وَ لَا كُلُّ غَائِبٍ يَئُوبُ- وَ مِنَ الْفَسَادِ إِضَاعَةُ الزَّادِ وَ مَفْسَدَةُ الْمَعَادِ- وَ لِكُلِّ أَمْرٍ عَاقِبَةٌ سَوْفَ يَأْتِيكَ مَا قُدِّرَ لَكَ- التَّاجِرُ مُخَاطِرٌ وَ رُبَّ يَسِيرٍ أَنْمَى مِنْ كَثِيرٍ لَا خَيْرَ فِي مُعِينٍ مَهِينٍ وَ لَا فِي صَدِيقٍ ظَنِينٍ- سَاهِلِ الدَّهْرَ مَا ذَلَّ لَكَ قَعُودُهُ- وَ لَا تُخَاطِرْ بِشَيْءٍ رَجَاءَ أَكْثَرَ مِنْهُ- وَ إِيَّاكَ أَنْ تَجْمَحَ بِكَ مَطِيَّةُ اللَّجَاجِ- احْمِلْ نَفْسَكَ مِنْ أَخِيكَ عِنْدَ صَرْمِهِ عَلَى الصِّلَةِ- وَ عِنْدَ صُدُودِهِ عَلَى اللَّطَفِ وَ الْمُقَارَبَةِ- وَ عِنْدَ جُمُودِهِ عَلَى الْبَذْلِ- وَ عِنْدَ تَبَاعُدِهِ عَلَى الدُّنُوِّ- وَ عِنْدَ شِدَّتِهِ عَلَى اللِّينِ- وَ عِنْدَ جُرْمِهِ عَلَى الْعُذْرِ- حَتَّى كَأَنَّكَ لَهُ عَبْدٌ وَ كَأَنَّهُ ذُو نِعْمَةٍ عَلَيْكَ- وَ إِيَّاكَ أَنْ تَضَعَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ- أَوْ أَنْ تَفْعَلَهُ بِغَيْرِ أَهْلِهِ- لَا تَتَّخِذَنَّ عَدُوَّ صَدِيقِكَ صَدِيقاً فَتُعَادِيَ صَدِيقَكَ- وَ امْحَضْ أَخَاكَ النَّصِيحَةَ- حَسَنَةً كَانَتْ أَوْ قَبِيحَةً- وَ تَجَرَّعِ الْغَيْظَ فَإِنِّي لَمْ أَرَ جُرْعَةً أَحْلَى مِنْهَا عَاقِبَةً- وَ لَا أَلَذَّ مَغَبَّةً- وَ لِنْ لِمَنْ غَالَظَكَ فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَلِينَ لَكَ- وَ خُذْ عَلَى عَدُوِّكَ بِالْفَضْلِ فَإِنَّهُ أَحْلَى الظَّفَرَيْنِ- وَ إِنْ أَرَدْتَ قَطِيعَةَ أَخِيكَ فَاسْتَبْقِ لَهُ مِنْ نَفْسِكَ- بَقِيَّةً يَرْجِعُ إِلَيْهَا إِنْ بَدَا لَهُ ذَلِكَ يَوْماً مَا- وَ مَنْ ظَنَّ بِكَ خَيْراً فَصَدِّقْ ظَنَّهُ- وَ لَا تُضِيعَنَّ حَقَّ أَخِيكَ اتِّكَالًا عَلَى مَا بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ- فَإِنَّهُ لَيْسَ لَكَ بِأَخٍ مَنْ أَضَعْتَ حَقَّهُ- وَ لَا يَكُنْ أَهْلُكَ أَشْقَى الْخَلْقِ بِكَ- وَ لَا تَرْغَبَنَّ فِيمَنْ زَهِدَ عَنْكَ- وَ لَا يَكُونَنَّ أَخُوكَ عَلَى مقَاطِعَتِكَ أَقْوَى مِنْكَ عَلَى صِلَتِهِ- وَ لَا تَكُونَنَّ عَلَى الْإِسَاءَةِ أَقْوَى مِنْكَ عَلَى الْإِحْسَانِ- وَ لَا يَكْبُرَنَّ عَلَيْكَ ظُلْمُ مَنْ ظَلَمَكَ- فَإِنَّهُ يَسْعَى فِي مَضَرَّتِهِ وَ نَفْعِكَ- وَ لَيْسَ جَزَاءُ مَنْ سَرَّكَ أَنْ تَسُوءَهُ
اللغة
أقول: تعدوه: تجاوزه. و التخفيض: التسهيل على النفس. و الحرب: سلب المال. و الإجمال في الطلب: التسهيل فيه حتّى يكون جميلا. و أوجفت: أسرعت. و المناهل: المعاطش. و الحرفة: الضيق في الرزق و الحرمان. و أهجر الرجل: إذا أفحش في منطقه. و الرفق: اللين. و ضدّه الخرق. و النوكى: الحمقى، جمع أنوك. و الفرصة: وقت الإمكان. و الظنين: المتّهم. و الصرم: القطع. و محضه النصيحة: أخلصها له. و المغبّة: العاقبة.
و قد اشتمل هذا الفصل على الوصيّة بلطائف من الحكمة العمليّة و مكارم الأخلاق الّتي بها ينتظم أمر المعاش و المعاد، و صدّره بالتنبيه على ضرورة الموت
ليبنى عليه ما يريد أن يوصيه به من مفردات الحكم. و ذلك التنبيه بأمرين:
أحدهما: أنّ الإنسان في مدّة عمره مسافر إلى الآخرة
و أنّ ذلك السفر ليس على مطايا محسوسة و لا في طرق محسوسة بل المطيّة فيه الليل و النهار، و استعار لفظ المطيّة باعتبار أنّهما أجزاء اعتباريّة للزمان يعقّب بعضها بعضا و ينقضي بانقضائها الزمان فينتقل الشخص بحسبها في منازل مدّته المضروبة المقدّرة له منه إلى أن تفنى مدّته و يتمّ سفره إلى الآخرة كما ينتقل في منازل طريقه المحسوسة إلى أن يتمّ سفره فيها، و كذلك لفظ المسافة مستعار لمدّته المضروبة، و لذلك كان سير الزمان به سيرا اعتباريّا و إن كان واقفا وقوفه المتعارف و يقطع مسافة أجله راكبا تلك المطايا و إن كان وادعا قارّا قراره الحسّى.
الثاني: أمره أن يعلم يقينا أنّه لن يبلغ أمله.
و ذلك أنّ الإنسان أبدا في توجيه أمله في المطالب كلّما حصل مطلوب منها أو أفسد وجه أمله فيه وجّهه إلى مطلوب آخر و إن اختلفت المطالب، فالأمل أبدا متوجّه إلى مطلوب ما ليس مدركا في الحال، و الإحالة في ذلك على الوجدان. فإذن ليس كلّ بمدرك، و كذلك لا يمكن أن يتجاوز الإنسان أجله المضروب له و إلّا لما كان أجلا له. و هذان الأمران في قوّة صغريين لقياسى ضمير من الشكل الأوّل، و تقدير كبرى الأوّل: و كلّ من يسرى به كذلك فيوشك أن ينقطع مدّته و يصل إلى الآخرة، و تقدير كبرى الثاني: و كلّ من لا يبلغ أمله و لا يتجاوز أجله و هو سالك بطريق من كان قبله فيوشك أن يلحق بهم، و لمّا نبّه على ضرورة مفارقة الدنيا و الوصول إلى الآخرة رتّب على ذلك الوصيّة بالحكم المذكورة،
و ذكر منها جملة:
الاولى: أن يخفّض في طلب الدنيا و لا يحرص عليها
بل يجعل طلبه لها بقدر حاجته إليها.
الثاني: أن يفعل الجميل فيما يكتسبه منها
و ذلك أن يضع كلّ شيء منه موضعه فيمسك منه قدر ضرورته و ينفق فاضله في وجوه البرّ و مصارف القربة، و يحتمل أن يريد بالمكتسب الاكتساب فأطلق اسم المفعول على المصدر مجازا، و نحوه قول الرسول صلّى اللّه عليه و آله: إنّ روح القدس نفث في روعى أنّه لن يموت نفس حتّى يستكمل رزقها فأجملوا في الطلب.
الثالث و قوله: فإنّه ربّ طلب. إلى قوله: محروم.
تنفير عن الخوض في الطلب بامور ثلاثة:
أحدها: أنّه قد تجرّ إلى الحرب،
و ذلك كما شوهد في وقتنا أنّ تاجرا كان رأس ماله سبعة عشر دينارا فسافر بها إلى الهند مرارا حتّى بلغت سبعة عشر ألفا فعزم حينئذ على ترك السفر و الاكتفاء بما رزقه اللّه فسوّلت له نفسه الأمّارة بالسوء في العود، و حبّبت إليه الزيادة فعاود السفر فلم يلبث أن خرجت عليه السرّاق في البحر فأخذوا جميع ما كان معه فرجع و قد حرب ماله. و ذلك ثمرة الحرص المذموم.
و هو في تقدير صغرى ضمير، و تقدير كبراه: و كلّ ما جرّ إلى الحرب فلا ينبغي أن يحرص عليه.
الثاني: قوله: و ليس كلّ طالب بمرزوق
و هو تمثيل نبّه فيه على أنّ الطلب على الحرمان في بعض الطالبين حتّى يقيس نفسه عليه فلا يحرس في الطلب.
الثالث: قوله: و لا كلّ مجمل بمحروم.
تنبيه على تمثيل آخر كذلك نبّه فيه على أنّ الإجمال علّة للرزق في بعض الناس ليقيس نفسه عليه فيجمل في الطلب.
الرابع: أن يكرم نفسه عن كلّ دنيّة و إن استلزمت وصوله إلى ما يرغب فيه
و يتنافس عليه، و ذلك كأن يكذب مثلا أو يغدر ليصل إلى الملك و نحوه، و الإكرام لها عن ذلك يستلزم فضائل كالسخاء و المروّة و كبر الهمّة. إذ كلّ واحد من رذيلة البخل و النذالة و صغر الهمّة يستلزم مقارفة الدنيّة بقوله: فإنّك. إلى قوله: عوضا: أي أنّ ما تبذله من نفسك من الفضيلة و تعدل عنه إلى الرذيلة لا يقاومه عند اللّه و عند أهل الفضائل من خلقه شيء و إن جلّ، و لا يكون لك عنه عوض. و هو في قوّة صغرى ضمير تقدير كبراه: و كلّ ما لا يحصل له عوض يقابله و يساويه فلا ينبغي أن يبذل في مقارفة الدنايا.
الخامس: أن لا يكون عبد غيره:
أي لا يجعل لغيره عليه فضل إحسان يسأله إيّاه فيسترقّه به، و يستوجب بذلك على نفسه خدمته و الاشتغال بشكره عن اللّه. و قوله: و قد جعله اللّه حرّا. في قوّة صغرى ضمير تقدير كبراه: و كلّ من جعله اللّه حرّا فيقبح أن يجعل نفسه عبدا لغيره، و كذلك قوله: و خير خيره إلى قوله: إلّا بعسر استفهام في معنى الاستنكار: أي لا خير في خير لا يوجد إلا بشّر، و يسر لا ينال بعسر، و كنّى بذلك الخير و اليسر عمّا يطلب في مقارفة الدنايا و يصير الإنسان بسببه عبدا لغيره كالمال و نحوه، و بالشرّ و العسر المقارن له كبذل ماء الوجه في السؤال و الذلّة و غيرها من الدنايا، و هو أيضا في قوّة صغرى ضمير تقدير كبراه: و كلّ ما لا خير فيه فلا ينبغي أن يطلب و يتعبّد للغير من أجله.
السادس: حذّره من الطمع
و استعار لفظ المطايا لقواه الأمّارة بالسوء كالوهميّة و الخياليّة و الشهويّة و الغضبيّة، و وجه المشابهة كونها حاملة لنفسه العاقلة و موصلة لها إلى المشتهيات و ما يطمع فيه من متاع الدنيا كالمطايا الموصلة لراكبها إلى أغراضه، و كذلك وصف الوجيف لسرعة انقياده معها إلى المطامع الرديئة. و قوله: فتوردك مناهل الهلكة. فاستعار لفظ المناهل لموارد الهلاك في الآخرة كمنازل جهنّم و طبقاتها، و وجه المشابهة كونها موارد شراب أهل النار المهلك كما قال تعالى فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ«» و الفاء في جواب النهى اللازم للتحذير المذكور، و هو في قوّة متّصلة هى صغرى ضمير تقديرها فإنّك إن أوجفت بك مطايا الطمع أوردتك مناهل الهلكة، و تقدير الكبرى: و كلّ مطيّة كذلك فيحرم ركوبها.
السابع: نهاه أن يجعل بينه و بين اللّه واسطة في وصول نعمته إليه إن استطاع
ذلك و هو نهى عن مسئلة الغير و التعرّض لنواله بل ينتظر قسمه من رزق اللّه المفروض له من غير سؤال ذي نعمة يكون فيه بذل ماء الوجه و الذلّة و المنّة إن أعطى و بذله، و الحرمان و الذلّ إن حرم. و رغّبه في ذلك بضميرين: أحدهما: قوله: فإنّك مدرك قسمك و آخذ سهمك: أي من رزق اللّه، و تقدير كبراه: و كلّ من كان كذلك فلا ينبغي أن يجعل بينه و بين اللّه واسطة يطلب منه رزقه. الثاني: قوله: و إن اليسير. إلى قوله: خلقه: أي ما حصل من جهة يحمد حصوله منها و هي الجهة الّتي أمر اللّه تعالى بطلب الرزق منها و إن كان يسيرا أكرم عنده و أشرف من الكثير من غير تلك الجهة كسؤال الغير و التعرّض له، و تقدير الكبرى و كلّ ما كان أعظم فينبغي أن يكون هو المطلوب. و قوله: و إن كان كلّ منه. أي و إن كان الرزق من الخلق أيضا من اللّه إلّا أنّه ينبغي أن يوجّه الرغبة إليه ابتداء دون غيره. إذ هو مبدء الكلّ و عنايته بالجميع واحدة.
الثامن: قوله: و تلافيك. إلى قوله: منطقك.
تنبيه على وجوب ترجيح الصمت و تغليبه على كثرة الكلام بضمير هذه صغراه، و تقريرها أنّ الفارط من الصمت و إن استلزم الخطاء كالسكوت عمّا ينبغي أن يقال من الحكمة أو ما يترتّب عليه بعض المصالح إلّا أنّه يمكن استدراكه غالبا بما ينبغي من القول، و أمّا فارط القول فإنّ الخطاء فيه قد لا يمكن استدراكه، و إن أمكن فعلى غاية من العسر. فلذلك كان تلافي فارط الصمت بالقول أسهل من تدارك فارط القول، و لقوّة الخطاء في القول أكثر الناس في ذمّ الاكثار و مدح الصمت، و المنطق هنا يحتمل أن يريد به المصدر فيكون من لبيان الجنس، أو محلّ النطق فيكون لابتداء الغاية. و تقدير كبرى الضمير: و كلّ ما كان أيسر فهو أولى بك. ينتج أن تلافي فارط الصمت أولى بك، و ذلك مستلزم لرجحان الصمت.
التاسع: نبّهه على حفظ ما في يده من المال
الحفظ الّذي ينبغي و هو الواسطة بين التبذير و البخل. و الكلام في قوّة صغرى ضمير أيضا و تقدير كبراه: و كلّ ما كان أحبّ إليّ من طلبك ما في يدي غيرك فهو أولى بك.
العاشر: نبّهه على فضيلة قطع الطمع
و اليأس عمّا في أيدي الناس بضمير أيضا صغراه قوله: و مرارة اليأس. إلى قوله: الناس، و تقدير كبراه: و كلّ ما كان خيرا فهو أولى أن يلزم و يكرم النفس به، و أطلق لفظ المرارة على الألم الّذي تجده النفس بسبب اليأس من المطالب إطلاقا لاسم السبب على المسبّب، و كونه خيرا لما يستلزمه من إكرام النفس عن ذلّ السؤال و رذيلة المهانة. و إليه أشار الشاعر بقوله:
و إن كان طعم اليأس مرّا فإنّه ألذ و أحلى من سؤال الأراذل
الحادي عشر: نبّهه على وجوب الصبر في ضيق الرزق
و الحرمان إذا كان مع فضيلة العفّة، و أنّ لزومه أولى من طلب الغنى المستلزم للفجور بضمير أيضا صغراه ما ذكر، و تقدير كبراه: و كلّ ما كان خيرا من الغنى مع الفجور فلزومه أولى من طلب ذلك الغنى، و إنّما كان كذلك لاستلزام تلك الحرفة الفضيلة و استلزام ذلك الغنى الرذيلة. و قد علمت أنّ العفّة فضيلة القوّة الشهويّة و أنّها بين رذيلتى تفريط يسمّى خمود الشهوة و إفراط يسمّى فجورا.
الثاني عشر: نبّهه على أنّه لا يجوز إفشاء سرّه بتمثيله أصله
المرء، و الفرع هو المخاطب، و الحكم كونه أحفظ لسرّه، و العلّة كونه أكثر عناية بنفسه من غيره.
إذا ضاق صدر المرء من سرّ نفسه فصدر الّذي يستودع السرّ أضيق
الثالث عشر: نبّهه بطريق التمثيل أيضا على التحرّز في السعى و التثبّت في ارتياد المصالح
بقوله: ربّ ساع فيما يضرّه. فالأصل هو الساعي، و الفرع هو المخاطب، و العلّة هى السعى، و الحكم هو التضرّر.
الرابع عشر: نبّه على وجوب ترك الإكثار في القول
بتمثيل أيضا أصله المكثر، و فرعه المخاطب، و علّته الإكثار، و حكمه الهجر. و الغرض أن يعتبر نفسه في لحوقها بالمكثرين في لزوم الهجر لهم فيترك الإكثار لما يلزمه من الهجر و لحوق الذمّ به.
الخامس عشر: نبّه على فضيلة التفكّر في الأمور
بقوله: من تفكّر أبصر: أى أدرك بعين بصيرته حقائق الأمور و عواقبها.
السادس عشر: أمره بمقارنة أهل الخير
بضمير دلّ على صغراه بقوله: تكن منهم، و تقديرها أنّ مقارنتهم يستلزم الكون منهم، و تقدير الكبرى: و كلّ ما استلزم الكون منهم فواجب أن يفعل.
السابع عشر: و كذلك أمره بمباينة أهل الشرّ
و مفارقته لما يستلزمه المباينة لهم من عدم العداد في جملتهم في الدنيا و الآخرة، و وجه الحجّة كالّذي قبله.
الثامن عشر: نبّهه على قبح أكل الحرام
لغاية اجتنابه بذمّه بضمير صغراه ما ذكر، و إنّما كان أقبح الظلم لكون الضعيف في محلّ الرحمة فظلمه لا يصدر إلّا عن قلب قاس و نفس بعيدة من الرقّة و الرحمة و العدل، و لأنّه غير مقابل من الضعيف بمدافعة و ممانعة فكان أبعد عن العدل، و تقدير كبراه: و كلّ ما كان أفحش الظلم كان أولى أصناف الظلم بالترك و الاجتناب.
العشرون: نبّهه على أنّ الرفق في بعض المواضع كالخرق
في كونه مخلّا بالمصلحة غالبا و مفوّتا للغرض فكان استعمال الخرق في ذلك الموضع كاستعمال الرفق في استلزامه للمصلحة و حصول الغرض غالبا فكان أولى من الرفق في ذلك الموضع.
و لفظا الخرق الأوّل و الرفق الثاني مستعاران للرفق الأوّل و الخرق الثاني لما ذكرناه من المشابهة، و إلى هذا المعنى أشار أبو الطيّب: و وضع الندى في موضوع السيف بالعلى مضرّ كوضع السيف في موضع الندى
الحادي و العشرون: نبّهه على أنّ بعض ما فيه مصلحة ظاهرة قد يشتمل على مفسدة
بقوله: ربّما كان الدواء داء، و على أنّ بعض ما هو مفسدة في الظاهر قد يستلزم مصلحة بقوله: و الداء دواء. و لفظا الدواء مستعاران للمصلحة، و لفظا الداء للمفسدة، و وجه الاستعارتين أنّ المصلحة من شأنها نظام حال الإنسان، و من شأن المفسدة فساده كالدواء و الداء، و إلى هذا المعنى أشار المتنبّىّ: فربّما صحّت الأجساد بالعلل.
الثاني و العشرون: نبّه على أنّه لا ينبغي أن يعرض عن مشورة أحد عليه بأمر هو مظنّة مصلحة
و إن كان من شأنه أنّه غير ناصح له بل ينظر في رأيه و شوره فربّما كان نصيحة، و كذلك لا ينبغي أن يركن إلى قول من يعتقده ناصحا. إذ من الجائز أن يغشّه.
الثالث و العشرون: نهاه عن الاتّكال على المنى
و نفّره عنها بضمير صغراه قوله: إنّها بضائع النوكى [الموتى خ]، و استعار لفظ البضائع لها باعتبار أنّ الأحمق يحصل منها لذّة خياليّة من الأمور المتمنّاة و هى فرعها كما يحصل عن البضاعة الربح. و أضافها إلى النوكى لعدم الفائدة في المنى كعدم الربح عن بضائع النوكى.
الرابع و العشرون: رسّم العقل بأنّه حفظ التجارب.
و الإشارة إلى العقل العملىّ و هو القوّة الّتي للنفس بحسب حاجتها إلى تدبير بدنها الموضوع لتصرّفاتها و تكميله، و هي الّتي بها تستنبط الآراء المصلحيّة ممّا يجب أن يفعل من الامور. إذ كان الشروع في العمل الاختيارى المختصّ بالإنسان إنّما يتأتّى بإدراك ما ينبغي أن يعمل في كلّ باب و هو إدراك رأى كلّىّ أو جزئىّ يستنبط من مقدّمات بعضها جزئيّة محسوسة و بعضها كلّيّة أوّليّة أو تجربيّة أو ذايعة أو ظنّية يحكم بها العقل النظريّ من غير أن يختصّ بجزئىّ دون غيره، و العقل العمليّ يستعين بالنظريّ فى ذلك ثمّ ينتقل منه باستعمال مقدّمات جزئيّة إلى أن ينتقل إلى الرأى الجزئيّ الحاصل فيعمل بحسبه و يحصل بعمله مقاصده في معاشه و معاده. و إرادته لهذا العقل أظهر لأنّه المتعارف و لأنّه فى معرض الأمر بتحصيل مكارم الأخلاق الّتي هى كمال هذه القوّة. و حفظ التجارب إشارة إلى ضبط هذه العلوم المنتزعة عن مشاهدات متكرّرة منّا لأمور جزئيّة تتكرّر فيفيد حكما كلّيّا ككون السقمونيا مثلا من شأنها الإسهال. و عرّف العقل بذلك لكونه من خواصّه و كمالاته.
الخامس و العشرون: نبّهه على أنّه ينبغي أن يقتصر من التجارب على ما وعظه
أى من شأنه أن يفيد موعظة و اعتبارا كالنظر في حال من تكرّر ظلمه فأسرعت عقوبة اللّه إليه، أو تكرّر كذبه فأدركه المقت بضمير صغراه ما ذكر، و تقديرها: ما وعظك فهو خير التجارب، و تقدير الكبرى: و خير التجارب أولى بك. ينتج فما وعظك من التجارب أولى بك، و نحوه قول أفلاطون: إذا لم تعظك التجربة لم تجرّب بل أنت ساذج كما كنت.
السادس و العشرون: أمره بانتهاز الفرصة
فيما ينبغي أن يفعل، و نفّره عن تركها بما يستلزمه من الأسف المغصّ، و أطلق اسم الغصّة على الفرصة مجازا تسمية للشيء باسم ما يؤول إليه.
السابع و العشرون: نبّه على ما ينبغي من ترك الأسف على ما يفوت من المطالب
بضمير صغراه ما في قوّة هذا السلب من الايجاب، و تقديره: بعض الطالبين لا يصيب مطلوبه، و تقدير الكبرى: و كلّ من لا يصيب مطلوبه فلا ينبغي أن يأسف على فواته. ليقدّر السامع نفسه أنّه من ذلك البعض فلا يأسف على فائت، و كذلك قوله: و لا كلّ غائب يئوب.
الثامن و العشرون: نبّه على لزوم التقوى
بضمير تقدير صغراه: إضاعة الزاد و مفسدة المعاد من الفساد، و تقدير الكبرى: و كلّ ما كان من الفساد وجب تركه.
و لفظ الزاد مستعار للتقوى كما سبق.
التاسع و العشرون: نبّه على وجوب النظر في عواقب الامور و اختيار أحسنها
بضمير ذكر ما هو في قوّة صغراه، و تقديرها: كلّ أمر له عاقبة نافعة أو ضارّة، و تقدير كبراه: و كلّ ما له عاقبة كذلك فينبغى أن يلمح ليفعل ما يوصل إليها أو يجتنب.
الثلاثون: نبّه على وجوب ترك الحرص و كدّ النفس في طلب المال و نحوه
بضمير ذكر صغراه، و تقدير كبراه: و كلّ ما سوف يأتيك فينبغي أن لا تحرص في طلبه.
الحادي و الثلاثون: نبّه على وجوب الاحتراز في المعاملات كالبيع و الشراء و نحوه
بضمير صغراه ما ذكر، و وجه كون التاجر مخاطرا أنّه لمّا كان محبّا للمال و متوجّها إلى اكتسابه كان حال البيع في مظنّة أن يحيف فيأخذ راجحا و يعطى ناقصا مع أنّ تكليفه لزوم العدل و الاستقامة على سواء الصراط فلا جرم كان على خطر من وقوعه في طرف التفريط و التقصير من سواء السبيل، و تقدير الكبرى: و المخاطر يجب أن يحترز في فعله المخاطر فيه.
الثاني و الثلاثون
لمّا نبه على وجوب الاحتراز في التجارة و التحفّظ من الظلم و كان ذلك الظلم إنّما هو لغرض كثرة المال نبّه في هذه الكلمة على أنّ من المال اليسير ما هو أنمى من الكبير ليقتصر عليه، و أراد باليسير الحلال فإنّه أغنى للعاقل من الكثير الحرام في الآخرة لاستلزامه زيادة الثواب، و هي في قوّة صغرى ضمير تقديره: اليسير الحلال أغنى من الكثير الحرام و تقدير الكبرى: و كلّ ما كان أغنى من الكثير الحرام فيجب أن يقتصر عليه.
الثالث و الثلاثون: نبّه على ترك الاستعانة في المهمّات بالمهين
من الناس بضمير تقدير الكبرى: و كلّ من كان كذلك فالأولى اجتناب الاستعانة به، و الخير المنفى عنه هو النافى في الاستعانة به، و معلوم أنّه منتف عنه لما أنّ مهاتنه تضادّ النهوض في مهمّات الامور و علياتها، و لأنّ ذلّته يستلزم قهره و ضعفه عن المقاومة، و نحوه قولهم: إذا تكفّيت بغير كاف وجدته للهمّ غير شاف.
الرابع و الثلاثون: نبّه على مجانبة الصديق المتّهم
بضمير تقدير صغراه كالّتي قبلها، و أراد أنّه لا خير فيه لصديقه. إذ كان من جهة الباطن مظنّة الشرّ له.
الخامس و الثلاثون: أمره أن يصبر على ما يقتضيه الدهر
و لا يتسخّط من ذلك و إن كان دون رضاه. إذ كان ذلك هو المتمكّن في الطبيعة، و ما بمعنى المدّة، و استعار لفظ القعود للزمان الّذي تيسّر فيه رزقه و تسهل فيه بعض مهمّاته، و وجه المشابهة أنّ ذلك الزمان يمكّنه من بعض مهمّاته و حوائجه. و طلب ما لا يمكن فيه و ما لم يعدّ لحصوله من المطالب ربّما يستلزم تغيّره و امتناع ما كان ممكنا فيه كما أنّ القعود من شأنه أن يمكّن من ظهره و اقتعاده و هو بمعرض أن ينفرّ براكبه إذ استزاده و شدّ عليه، و لفظ الذلّة مستعار لسكون الزمان و إمكان المطلوب فيه، و أراد بمساهلته الجريان معه بقدر مقتضاه من دون تشدّد و تسخّط عليه فإنّ ذلك يستلزم تعب النفس إذ الدهر أعطاك العنان فسر به رويدا و لا تعنف فيصبح شامسا
السادس و الثلاثون: نهاه أن يخاطر بما يملكه رجاء أكثر منه.
إذ كان في مظنّة أن لا يعود فيوشك أن يضيع الأصل، و يحمل ذلك على كون الإنسان يلقى ما في يده للغرض المذكور مع شكّه في سلامته أمّا مع ظنّ السلامة فلا خطر. و نحوه قولهم: من طلب الفضل حرم الأصل.
السابع و الثلاثون: حذّره من اللجاج في طلب الأمر عند تعسّره، و نفّره عنه
بأن استعار له لفظ المطيّة الجموح، و وجه المشابهة كونه يؤدّي بصاحبه إلى غاية ليست بمجهوده [بمحمودة خ] كالجموح من المطايا.
الثامن و الثلاثون: أمره أن يلزم نفسه و يحملها في حقّ صديقه
الحقّ على أن يقابله و يجازيه برذائله فضائل كالقطيعة بالصلة، و ساير ما ذكر ليعود إلى العتبى و تدوم المودّة، و حذّره أن يضع ذلك في غير موضعه أو يفعله بغير أهله من اللئام لأنّ ذلك وضع الشيء في غير موضعه و هو خروج عن العقل، و قد علمت أنّ الأمور المذكورة من لوازم الصداقة الحقّة. و إلى نحوه أشار الشاعر بقوله:
و إنّ الّذي بينى و بين بني أبي و بين بنى امّي لمختلف جدّا
فإن أكلوا لحمى و فرت لحومهم
و إن هدموا مجدى بنيت لهم مجدا
و إن زجروا طيرا بنحس تمرّ بى زجرت لهم طيرا يمرّ بهم سعدا
و لا أحمل الحقد القديم عليهم
و ليس رئيس القوم من يحمل الحقدا
التاسع و الثلاثون: نهاه أن يتّخذ عدوّ صديقه صديقا،
و نبّه على قبح ذلك بضمير استثنائى تقديره: فإنّك إن فعلت ذلك عاديت صديقك، و يستدلّ فيه بقبح اللازم على قبح ملزومه: أي لكن معاداة الصديق قبيحة منهىّ عنها فاتّخاذ عدوّه صديقا كذلك، و وجه الملازمة أنّ مصادقة عدوّ الصديق يستلزم نفرة الصديق عمّن يصادق عدوّه لنفرته عن عدوّه و توهّمه مشاركة العدوّ و موافقته في جميع أحواله و من جملة أحواله عداوته فهى إذن توهمه الموافقة على عداوته فيوجب له النفرة و المجانبة، و إليه أشار بذكر القائل:
تودّ عدوّي ثمّ تزعم أنّنى صديقك إنّ الرأى عنك لعازب
الأربعون: أن يخلّص نصيحته لأخيه في جميع أحواله سواء كانت النصيحة حسنة أو قبيحة
أى مستقبحة في نظر المنصوح ضارّة له في العاجل باعتبار استحيائه و انفعاله من المواجهة بها. و نحوه قوله تعالى وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ«» فعدّها بالنسبة إليهم سيّئة.
الحادي و الأربعون: أمره بفضيلة كظم الغيظ،
و قد رسمت بأنّها الإمساك عن المبادرة إلى قضاء وطر الغضب فيمن يجنى عليه جناية يصل مكروها إليه. و قد يرادفه الحلم و الكرم و الصفح و التثبّت و العفو و التجاوز و الاحتمال، و ربّما فرّق بعضهم بين هذه المفهومات، و استعار وصف التجرّع للتصبّر على مضض الألم الموجود منه ملاحظة لما يشرب من دواء مرّ، ثمّ نبّه على فضيلته بضمير صغراه قوله: فإنّي لم أر. إلى قوله: مغبّة، و استعار لفظ الحلاوة لما يستلزمه من العاقبة الحسنة، و وجه المشابهة ما يستلزمانه من اللذّة. و الضمير في قوله: منها يعود إلى ما دلّ عليه قوله: تجرّع من المصدر، و تقدير الكبرى: و كلّ ما لا يرى من المتجرّع أحلى منه فينبغي أن يتجرّع. و عن زين العابدين عليه السّلام وصيّة لابنه الباقر عليه السّلام يا بنيّ عليك بتجرّع الغيظ من الرجال فإنّ أباك لا تسرّه بنصيبه من تجرّع الغيظ من الرجال حمر النعم.
الثاني و الأربعون: أمره أن يلين لمن غالظه
و خاشنه، و نبّه على حسن ذلك بضمير صغراه قوله: فإنّه يوشك أن يلين لك: أي بسبب لينك له حال غلظته: و تقدير كبراه: و كلّ من قارب أن يلين لك بسبب لينك له فالأولى بك أن تلين له، و نحوه قولهم: إذا عز أخوك فمن واصله و قوله تعالى ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ«».
الثالث و الأربعون: أمره أن يأخذ على عدوّه بالفضل
من عوارفه. و نبّهه على أحسنه باستلزامه لأحد الظفرين فإنّ للظفر سببين: أحدهما: الرهبة بالقوّة و الغلبة و هو الأظهر. الثاني: الرغبة بالإفضال عليه بحيث يسترق به و يدخل في الطاعة بسببه. و قوله: فإنّه أحد الظفرين. صغرى ضمير، و تقدير الكبرى: و كلّ ما صدق عليه أنّه أحد الظفرين فينبغي أن يفعل.
الرابع و الأربعون: أمره إن أراد مقاطعة أخيه أن يبقى له من نفسه بقيّة
من صداقته و لا يفارقه مفارقة كلّيّة، و نبّه على ذلك بضمير أشار إلى صغراه بقوله: يرجع إليها: أي فإنّه يرجع إليها لو بدا له الرجوع، و تقدير الكبرى: و كلّ ما يرجع به فواجب أن يبقيه له، و نحوه قولهم: أحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يوما ما، و أبغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما، و قولهم: إذا هويت فلا تكن غاليا، و إذا تركت فلا تكن قاليا.
الخامس و الأربعون: أن يصدّق من ظنّ به خيرا في ظنّه
و ذلك التصديق بفعل ما ظنّه فيه من الخير كأن يظنّ به الجود فيفضل عليه.
السادس و الأربعون: نهى أن يفعل بأهله شرّا.
و نفّره بضمير تقدير صغراه: فإنّ أهلك حينئذ يكونون أسعى الخلق بك، و ذلك لملازمته لهم و قربه منهم، و تقدير كبراه: و كلّ من كان كذلك فهو مذموم.
السابع و الأربعون: أن لا يضيع حقّ أخ له اعتمادا على ما بينهما من الاخوّة
و نبّه على ذلك بضمير صغراه قوله: فإنّه. إلى قوله: حقّه، و المعنى أنّ من أضعت حقّه لابدّ أن يفارقك لتضييعك حقّه فلا يكون أخا لك: و تقدير كبراه: و كلّ أخ يفارقك لتضييع حقّه فلا ينبغي أن تضيّع حقّه لتسلم تلك لك مودّته و اخوّته، و نحوه قولهم: إضاعة الحقوق داعية العقوق.
الثامن و الأربعون: نهاه عن الرغبة فيمن زهد فيه
و أراد بمن زهد فيه من ليس للصنيعة موضعا، و لا للمودّة أهلا. و ليس بأخ قديم و إلّا لناقض ما قبله و ما بعده من الأمر بصلة من قطعه و الدنوّ ممّن تباعد عنه و الإحسان إلى من أساء إليه.
التاسع و الأربعون: و لا يكوننّ أخوك أقوى على قطيعتك منك على صلته.
إلى قوله: الإحسان. و أشار إلى وجوب ذلك بالتنفير عن نقيضه بضمير صغراه شرطيّة متّصلة تقديرها فإنّك إن لا تفعل ذلك لكان أخوك أقوى على فعل الإساءة منك إلى فعل الإحسان، و بيان الملازمة أنّ الإساءة و الشرّ له صوارف كثيرة تصرف عنه، و الإحسان و فعل الخير له بواعث كثيرة يبعث عليه فإذا لم تفعل الإحسان مع كثرة البواعث عليه و أساء أخوك مع كثرة صوارفه عن الإساءة كان هو أقوى على الإساءة منك على الإحسان، و تقدير كبراه: و كلّ من كان كذلك فهو عاجز مذموم.
الخمسون: نهاه عن استعظام ظلم الظالمين في حقّه
و هونه عنده بضمير صغراه قوله: فإنّه يسعى في مضرّته و نفعك أي أنّ سعيه في ظلمه يستلزم مضرّته في الآخرة بما توعّد اللّه به الظالمين و نفعك بما وعد اللّه به الصابرين على بلائهم، و تقدير الكبرى: و كلّ من سعى في مضرّته و نفعك فلا ينبغي أن يكبر عليك صنيعه في حقّك.
الحادي و الخمسون: نبّهه على وجوب مقابلة الإحسان بمثله دون الكفران
بقوله: ليس جزاء من سرّك أن تسوءه: و هو في قوّة صغرى ضمير تقديرها: من سرّك فليس جزاؤه أن تسوءه، و تقدير كبراه: و كلّ من لم يكن جزاؤه ذلك فينبغي أن لا تسوءه، و قيل: إنّ هذه الكلمة من تمام الّتي قبلها، و التقدير لا يكبرنّ عليك ظلم من ظلمك فتقابله بسوء فإنّه يسعى في مضرّته و نفعك و كلّ من كان كذلك فليس جزاؤه أن تقابله بالإساءة.
الفصل العاشر:
قوله: وَ اعْلَمْ يَا بُنَيَّ أَنَّ الرِّزْقَ رِزْقَانِ- رِزْقٌ تَطْلُبُهُ وَ رِزْقٌ يَطْلُبُكَ- فَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَأْتِهِ أَتَاكَ- مَا أَقْبَحَ الْخُضُوعَ عِنْدَ الْحَاجَةِ- وَ الْجَفَاءَ عِنْدَ الْغِنَى- إِنَّمَا لَكَ مِنْ دُنْيَاكَ مَا أَصْلَحْتَ بِهِ مَثْوَاكَ- وَ إِنْ كُنْتَ جَازِعاً عَلَى مَا تَفَلَّتَ مِنْ يَدَيْكَ- فَاجْزَعْ عَلَى كُلِّ مَا لَمْ يَصِلْ إِلَيْكَ- اسْتَدِلَّ عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ بِمَا قَدْ كَانَ- فَإِنَّ الْأُمُورَ أَشْبَاهٌ- وَ لَا تَكُونَنَّ مِمَّنْ لَا تَنْفَعُهُ الْعِظَةُ إِلَّا إِذَا بَالَغْتَ فِي إِيلَامِهِ- فَإِنَّ الْعَاقِلَ يَتَّعِظُ بِالْآدَابِ- وَ الْبَهَائِمَ لَا تَتَّعِظُ إِلَّا بِالضَّرْبِ- . اطْرَحْ عَنْكَ وَارِدَاتِ الْهُمُومِ بِعَزَائِمِ الصَّبْرِ- وَ حُسْنِ الْيَقِينِ- مَنْ تَرَكَ الْقَصْدَ جَارَ- وَ الصَّاحِبُ مُنَاسِبٌ- وَ الصَّدِيقُ مَنْ صَدَقَ غَيْبُهُ- وَ الْهَوَى شَرِيكُ الْعَنَاءِ- وَ رُبَّ بَعِيدٍ أَقْرَبُ مِنْ قَرِيبٍ- وَ قَرِيبٍ أَبْعَدُ مِنْ بَعِيدٍ- وَ الْغَرِيبُ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَبِيبٌ- مَنْ تَعَدَّى الْحَقَّ ضَاقَ مَذْهَبُهُ- وَ مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى قَدْرِهِ كَانَ أَبْقَى لَهُ- وَ أَوْثَقُ سَبَبٍ أَخَذْتَ بِهِ- سَبَبٌ بَيْنَكَ وَ بَيْنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ- وَ مَنْ لَمْ يُبَالِكَ فَهُوَ عَدُوُّكَ- قَدْ يَكُونُ الْيَأْسُ إِدْرَاكاً إِذَا كَانَ الطَّمَعُ هَلَاكاً- لَيْسَ كُلُّ عَوْرَةٍ تَظْهَرُ وَ لَا كُلُّ فُرْصَةٍ تُصَابُ- وَ رُبَّمَا أَخْطَأَ الْبَصِيرُ قَصْدَهُ وَ أَصَابَ الْأَعْمَى رُشْدَهُ- أَخِّرِ الشَّرَّ فَإِنَّكَ إِذَا شِئْتَ تَعَجَّلْتَهُ- وَ قَطِيعَةُ الْجَاهِلِ تَعْدِلُ صِلَةَ الْعَاقِلِ- مَنْ أَمِنَ الزَّمَانَ خَانَهُ وَ مَنْ أَعْظَمَهُ أَهَانَهُ- لَيْسَ كُلُّ مَنْ رَمَى أَصَابَ- إِذَا تَغَيَّرَ السُّلْطَانُ تَغَيَّرَ الزَّمَانُ- سَلْ عَنِ الرَّفِيقِ قَبْلَ الطَّرِيقِ- وَ عَنِ الْجَارِ قَبْلَ الدَّارِ إِيَّاكَ أَنْ تَذْكُرَ مِنَ الْكَلَامِ مَا يَكُونُ مُضْحِكاً- وَ إِنْ حَكَيْتَ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِكَ- وَ إِيَّاكَ وَ مُشَاوَرَةَ النِّسَاءِ- فَإِنَّ رَأْيَهُنَّ إِلَى أَفْنٍ وَ عَزْمَهُنَّ إِلَى وَهْنٍ- وَ اكْفُفْ عَلَيْهِنَّ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ بِحِجَابِكَ إِيَّاهُنَّ- فَإِنَّ شِدَّةَ الْحِجَابِ أَبْقَى عَلَيْهِنَّ- وَ لَيْسَ خُرُوجُهُنَّ بِأَشَدَّ- مِنْ إِدْخَالِكَ مَنْ لَا يُوثَقُ بِهِ عَلَيْهِنَّ- وَ إِنِ اسْتَطَعْتَ أَلَّا يَعْرِفْنَ غَيْرَكَ فَافْعَلْ- وَ لَا تُمَلِّكِ الْمَرْأَةَ مِنْ أَمْرِهَا مَا جَاوَزَ نَفْسَهَا- فَإِنَّ الْمَرْأَةَ رَيْحَانَةٌ وَ لَيْسَتْ بِقَهْرَمَانَةٍ- وَ لَا تَعْدُ بِكَرَامَتِهَا نَفْسَهَا وَ لَا تُطْمِعْهَا فِي أَنْ تَشْفَعَ لِغَيْرِهَا- وَ إِيَّاكَ وَ التَّغَايُرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ غَيْرَةٍ- فَإِنَّ ذَلِكَ يَدْعُو الصَّحِيحَةَ إِلَى السَّقَمِ- وَ الْبَرِيئَةَ إِلَى الرِّيَبِ- وَ اجْعَلْ لِكُلِّ إِنْسَانٍ مِنْ خَدَمِكَ عَمَلًا تَأْخُذُهُ بِهِ- فَإِنَّهُ أَحْرَى أَلَّا يَتَوَاكَلُوا فِي خِدْمَتِكَ- وَ أَكْرِمْ عَشِيرَتَكَ- فَإِنَّهُمْ جَنَاحُكَ الَّذِي بِهِ تَطِيرُ- وَ أَصْلُكَ الَّذِي إِلَيْهِ تَصِيرُ وَ يَدُكَ الَّتِي بِهَا تَصُولُ اسْتَوْدِعِ اللَّهَ دِينَكَ وَ دُنْيَاكَ- وَ اسْأَلْهُ خَيْرَ الْقَضَاءِ لَكَ فِي الْعَاجِلَةِ وَ الْآجِلَةِ- وَ الدُّنْيَا وَ الْآخِرَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ
اللغة
أقول: المثوى: المقام. و تفلّت: تخلّص. و عزائم الصبر: ما جزمت به منه و لزمته. و العورة هنا: الاسم من أعور الصيد إذا أمكنك من نفسه، و أعور الفارس: إذا بدا منه موضع خلل الضرب. و الأفن: الضعف. و القهرمانة: فارسي معرّب.
و في الفصل تنبيهات على لطائف من الحكمة و مكارم الأخلاق:
الاولى: أنّه قسّم مطلق الرزق إلى قسمين مطلوب و طالب،
و أراد بالرزق المطلوب ما لم يجر في القضاء الإلهي كونه رزقا له، و بالطالب عمّا علم اللّه أنّه رزقه و أنّه لابدّ من وصوله
إليه. و ترك بيان أحكام القسمين للعلم به إيجازا. و التقدير فأمّا الّذي تطلبه فلا تدركه لكون القضاء الإلهيّ لم يجر به، و كلّ ما لا تدركه فينبغي أن لا تحرص عليه، و أمّا الّذي يطلبك فإنّه لا محالة يأتيك و إن لم تأته، و هي صغرى ضمير تقدير كبراه: و كلّ ما كان آتيك لا محالة فينبغي أن لا تحرص في طلبه.
الثانية: نبّه على فضيلة عزّة النفس عند الحاجة، و على مواصلة الأخوان في الغنى
بالتعجّب من قبح ضدّيهما، و هما الخضوع في الحاجة و الجفاء في الغنى للتقير عنهما. إذ كانا رذيلتين، و هي في قوّة ضمير تقديرها: أنّ الذلّة في الحاجة و جفاء الأخوان في الغنى قبيحان جدّا، و تقدير كبراه: و كلّما كان كذلك وجب اجتنابه.
الثالثة: نبّهه على بذل المال في وجوه البرّ و القربات لغاية إصلاح آخرته
بقوله: إنّما لك. إلى قوله: مثواك، و أراد بما له من دنياه ما يملك نفعه دائما و لذلك حصره بإنّما لأنّه القدر المنتفع به على الحقيقة، و الّذي يبقى ثمرته لاستلزام بذله تحصيل الملكات الفاضلة المستلزمة للثواب الدائم و النعيم المقيم في الآخرة، و هو صغرى ضمير تقديرها: ما أصلحت به مثواك من دنياك هو الّذي يبقى لك منها، و تقدير الكبرى: و كلّ ما هو الباقي لك منها فينبغي أن تحضّه بعنايتك، و يحتمل أن يكون هذه الكلمة تنبيها على ما قبلها من المواصلة في الغنى داخلة في إصلاح المثوى بالمال المنبّه عليه هاهنا.
الرابعة: نبّهه على ترك الأسف و الجزع على ما يخرج من يده من المال
بقياس استثنائي، و ذلك قوله: فإن جزعت. إلى قوله: إليك. و بيان الملازمة أنّ الّذي خرج من يده كالّذي لم يصل إليه فى أنّه ليس برزق له و ليس ممّا قضى اللّه له به.
و تقدير الاستثناء: لكن الجزع هناك قبيح و غير محقّق فينبغي أن لا يحصل الجزع هاهنا.
الخامسة: أمره أن يستدلّ بقياس ما لم يكن
أي ما لم يحدث من امور الدنيا و أحوالها و تغيّراتها على ما كان و حدث منها، و ذلك أن يقيس نفسه و ما ترغب فيه من متاع الدنيا على ما سبق من أهلها و متاعها فتجده مثله فيحكم بلحوق حكمه له و هو التغيّر و الزوال فيستلزم ذلك الاعتبار الرغبة عن الدنيا و متاعها، و نبّه على إمكان ذلك بضمير صغراه قوله: فإنّ الامور أشباه، و تقدير الكبرى: و كلّ ما هو متشابه فيمكن قياس بعضه على بعض، و كأن يقال: إذا أردت أن تنظر الدنيا بعدك فانظرها بعد غيرك.
السادسة. حذّره أن يكون ممّن لا ينفعه النصيحة فيما نصح به من الرأي إلّا إذا بالغت النصيحة و التوبيخ في إيلامه
و أذاه، و روى بالغت بالتاء المخاطب: أي في إيلامه بالقول و غيره، و ضرب له العاقل مثلا في اتّعاظه بالأدب و تذكيره بالنصيحة ليقيس نفسه عليه فيتّعظ بالأدب، و البهائم مثلا في عدم اتّعاظها و تذكّرها إلّا بالضرب ليعتبر نفسه بالقياس إليها و قد رفعه اللّه عنها بالعقل فيجب أن ينزّه نفسه عن لازمها فلا يحتاج إلى إيلام بقول أو فعل كأن يقال: اللئيم كالعبد و العبد كالبهيمة عتبها ضربها.
السابعة: أن يحذف عن نفسه ما يرد عليها من الغموم و الهموم
و مصائب الدنيا بالصبر الجازم الثابت عن حسن اليقين باللّه تعالى و بأسرار حكمته و قضائه و قدره، و ذلك أن يعلم يقينا أنّ كلّ أمر صدر عن اللّه و ابتلى به عباده من ضيق رزق أوسعته و كلّ أمر مرهوب أو مرغوب فعلى وفق الحكمة و المصلحة بالذات، و ما عرض في ذلك ممّا يعدّ شرّا فأمر عرضىّ لا يمكن نزع الخير المقصود منه فإنّ ذلك إذا كان متيقّنا استعدّت النفس بعلمه للصبر و مفارقة الهوى في الغمّ و الجزع و نحوه. و الغرض من الكلمة الأمر بالصبر و هي في قوّة صغرى ضمير تقديرها: أنّ عزائم الصبر و حسن اليقين باللّه يستلزمان طرح واردات الهموم و حذفها عن النفس، و تقدير الكبرى: و كلّ ما استلزم ذلك فينبغي أن تستعدّ به و تستكمل به نفسك.
الثامنة: نبّهه على لزوم القصد و العدل في أفعاله و أقواله
بضمير ذكر صغراه و تقدير كبراه: و من جاز هلك.
التاسعة: نبّه على حفظ الصاحب الحقّ و الرغبة فيه
بضمير ذكر صغراه، و استعار له لفظ التنسيب باعتبار مودّته و حسن معاضدته كالنسيب، و تقدير كبراه: و المناسب ينبغي أن يحمى عليه و يصطنع عنده.
العاشرة: عرّف الصديق الحقّ بعلامته ليعرف بها فيصادق
و أراد بصدقه في غيبه صدقه في ضميره و ما غاب من باطنه عن غيره.
الحادية عشر: نبّهه على مجانبة الهوى و الميول الطبيعيّة
بضمير صغراه قوله:
الهوى شريك العمى، و وجه كونه شريكا له استلزامه للضلال و ترك القصد كالعمى، و تقدير الكبرى: و كلّ ما هو شريك العمى فينبغي أن يجتنب، و نحوه قولهم: حبّك للشيء يعمى و يصمّ.
الثانية عشر: نبّه على أنّ في البعداء من هو أقرب و أنفع من النسيب، و في الأقرباء من هو أبعد من البعيد
و هو مشهور، و إلى المعنى الثاني أشار القرآن الكريم بقوله تعالى إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَ أَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ«».
الثالثة عشر: نبّه على أنّ الحقيق باسم الغريب هو من لم يكن له نسيب:
أى محبّ يحبّه، و إليه أشار القائل:
اسرة المرء و الداه و في ما بين حضنيهما الحياة تطيب
فإذا وليّا عن المرء يوما
فهو في الناس أجنبيّ غريب و ذلك باعتبار محبّة الوالدين له.
الرابعة عشر: نبّه على لزوم الحقّ بما يلزم نقيضه
و هو تعدّيه و تجاوزه إلى الباطل من ضيق المذهب و وعارة المسلك، و ذلك أنّ طريق الحقّ واضح مأمور باتّباعه و قد نصبت عليه أعلام الهداية، أمّا طريق الباطل فهى ضيقة و عرة على سالكها لما فيها من التحيّر و الخبط و عدم الهداية إلى المصلحة و المنفعة مع كونها ممنوعة بحرسة طريق الحقّ من حاد إليها عنه أخذوا عليه مذهبه و ضيّقوا عليه مسلكه حتّى يعود إلى طريق الحقّ، و هو صغرى ضمير تقدير كبراه كما في قوله: من ترك القصد جار.
الخامسة عشر: نبّهه على وجوب الاقتصار على قدره و هو مقداره و محلّه في خلق اللّه
و اقتصاره عليه مبنىّ على معرفته و هو أن يعلم الفطرة الّتي فطر الإنسان عليها من الضعف و الجور و النقص فيعلم أنّه كذلك فيمنع نفسه حينئذ عن الترفّع عن أبناء نوعه و الاستطالة على أحد منهم بفضل قوّة أو إعجاب بقية جسمانيّة أو نفسانيّة و يقتصر على ما دون ذلك من التواضع و لين الجانب و الاعتراف بما جبّل عليه من العجز و النقص، و هو في قوّة صغرى ضمير تقديرها: من اقتصر على قدره كان اقتصاره أبقى له، و ذلك أنّ المتطاول إلى قدر غيره و المتجاوز لقدره في مظنّة أن يهلك لقصد الناس إيّاه بالمكاره و النكير. قيل: من جهل قدره قتل نفسه. و الاقتصار على القدر يستلزم عدم هذه الامور فكان أبقى على صاحبه و أسلم، و تقدير الكبرى: و كلّ من كان اقتصاره على قدره أبقى له فواجب أن يقتصر عليه.
السادسة عشر: نبّهه على لزوم سبب بينه و بين اللّه تعالى
و هو كلّ ما قرّب إليه من علم و قول و عمل، و لفظ السبب مستعار لذلك باعتبار إيصاله إلى اللّه و القرب منه كالحبل الّذي يتوصّل به إلى المقصود، و ظاهر أنّه أوثق الأسباب لثباته دائما و نجاة المتمسّك به في الدنيا و الآخرة، و الكلمة صغرى ضمير تقديرها السبب بينك و بين اللّه تعالى هو أوثق الأسباب المأخوذ بها، و تقدير الكبرى: و كلّ ما كان كذلك فينبغي أن يتمسّك به. و نحوه قوله تعالى فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها«».
السابعة عشر: نبّهه على مجانبة من لا يبالى به
بضمير ذكر صغراه، و تقديرها: من لم يبالك وقت حاجتك إليه و قدرته على نفعك فهو عدوّك، و لفظ العدوّ مستعار له باعتبار أنّ عدم المبالاة من لوازم العدوّ، و تقدير الكبرى: و كلّ عدوّ ينبغي مجانبته.
الثامن عشر: نبّه على أنّ اليأس من بعض مطالب الدنيا
قد يكون سببا للسلامة من الهلاك و إدراك النجاة منه، و ذلك عند ما يكون الطمع في ذلك المطلوب مستلزما للهلاك كالطمع في نيل ملك و نحوه.
التاسعة عشر: نبّه بقوله: ليس كلّ عورة. إلى قوله: رشده.
على أنّ من الأمور الممكنة و الفرص ما يغفل الطالب البصير عن وجه طلبه فلا يصيبه و لا يهتدي له، و يظفر به الأعمى، و استعار لفظ البصير للعاقل الذكىّ، و الأعمى للجاهل الغبىّ.
و غرض الكلمة التسلية عن الأسف و الجزع على ما يفوت من المطالب بعد إمكانها.
العشرون: أمره بتأخير الشرّ و عدم الاستعجال فيه
و نبّه عليه بضمير ذكر صغراه: و معناها: أنّك قادر على تعجيله أيّ وقت شئت، و تقدير الكبرى: و كلّ ما كان كذلك فينبغى أن لا يعجل فيه. إذ لا يفوتك، و نحوه من الحكمة قولهم: ابدأ بالحسنة قبل السيّئة فلست بمستطيع للحسنة في كلّ وقت و أنت على الإساءة متى شئت قادر.
الحادية و العشرون: نبّه على وجوب قطيعة الجاهل
بضمير ذكر صغراه، و تقدير كبراه: و كلّ ما يعدل صلة العاقل فينبغى أن يرغب فيها و يفعلها و إنّما كانت تعدلها باعتبار استلزامها للمنفعة، و منفعة قطيعة الجاهل بالقياس إلى ما في صحبته من المضرّة.
الثانية و العشرون: نبّه على وجوب الحذر من الزمان و دوام ملاحظة تغيّراته، و الاستعداد لحوادثه قبل نزولها بالأعمال الصالحة
و استعار له لفظ الخيانة باعتبار تغيّره عند الغفلة عنه و الأمن فيه و الركون إليه فهو في ذلك كالصديق الخائن.
و الكلمة صغرى ضمير تقدير كبراه: و كلّ من خانه الزمان فينبغي أن يكون منه على حذر، و في الحكمة: من أمن الزمان ضيّع ثغرا مخوفا.
الثالثة و العشرون: نبّه بقوله: من أعظمه أهانه على وجوب ترك إعظامه.
و لم يرد الزمان المجرّد بل من حيث هو مشتمل على خيرات الدنيا و لذّاتها و معدّ لطيب العيش بالصحّة و الشباب و الأمن و نحوها، و بذلك الاعتبار يكرّم و يستعظم فيقال في العرف: زمان طيّب و زمان عظيم. و أمّا استلزام ذلك لإهانة من يستعظمه لأنّ إعظامه له يستلزم استنامته إليه و اشتغاله بما فيه من اللذّات الدنيويّة فغفل بسبب محبّتها عن الاستعداد لما ورائه. ثمّ إنّ الزمان مكر عليه بمقتضى طباعه فيفرّق بينه و بين ما كان يغترّ به من مال أو جاه أو رجال فيصبح حقيرا بعد أن كان خطيرا و صغيرا بعد أن كان كبيرا و قليلا بعد أن كان كثيرا، و الكلمة في قوّة صغرى ضمير تقدير كبراه: و كلّ من أهانه الزمان فينبغي له أن يستهين به و لا يعظمّه.
الرابعة و العشرون: قوله: ليس كلّ من رمى أصاب،
و قد سبق مثله في قوله: ليس كلّ طالب يصيب. و غرضه التنبيه على ما ينبغي من ترك الاسف على ما يفوت من المطالب و التسلّى بمن أخطأ في طلبه، أو توبيخ الغير و تبكيته بأنّه ليس بأهل لذلك المطلوب و أنّ له قوما آخرين. و إلى نحوه أشار أبو الطيّب:
ما كلّ من طلب المعالي نافذا فيها و لا كلّ الرجال فحولا.
الخامسة و العشرون: نبّه على أنّ تغيّر السلطان في رأيه و نيّته و فعله في رعيّته
من العدل إلى الجور يستلزم تغيّر الزمان عليهم. إذ يغيّر من الإعداد للعدل إلى إلى الإعداد للجور، و روى أنّ كسرى أنوشيروان جمع عمّال السواد، و بيده درّة يقلّبها. فقال: أيّ شيء أضرّ بارتفاع الأعمال و أدعي إلى محقه، و من أجابني بما في نفسي جعلت هذه الدرّة في فيه. فقال كلّ منهم قولا من احتباس المطر و الجراد و اختلاف الهواء. فقال لوزيره: قل أنت فإنّي أظنّ عقلك يعادل عقول الرعيّة و يزيد عليها. فقال: إنّما يضرّ بارتفاعها تغيّر رأي السلطان في رعيّته، و إضمار الحيف لهم و الجور عليهم. فقال: للّه أبوك بهذا العقل أهّلك الملوك لما أهّلوك له.
و دفع إليه الدرّة فجعلها في فيه.
السادسة و العشرون: أمره بالسؤال عند إرادته لسلوك طريق عن الرفيق فيها
لغاية أن يجتنبه إن كان شريرا، و يرافقه إن كان خيّرا. فإنّ الرفيق إمّا رحيق و إمّا حريق، و كذلك عن الجار عند إرادته لسكنى الدار للغاية المذكورة. و روى هذا الكلام مرفوعا.
السابعة و العشرون: حذّره أن يذكر من الكلام ما كان مضحكا
سواء كان عن نفسه أو عن غيره لما يستلزم ذلك من الهوان، و قلّة الهيبة في النفوس.
الثامنة و العشرون: وصّاه في النساء بامور:
أحدها: الحذر من مشاورتهنّ
و نبّه على وجوب الحذر بضمير صغراه قوله: فإنّ رأيهنّ. إلى قوله: وهن. و ذلك لنقصان عقولهنّ، و تقدير الكبرى: و كلّ من كان كذلك فينبغي أن يحذر من استشارته لما أنّ ضعف الرأي مظنّة الخطاء و عدم إصابة وجه المصلحة فيما يستشار فيه.
الثاني: أن يكفّ عليهنّ من أبصارهنّ بحجابه إيّاهنّ،
و هو من أفصح الكنايات عن الحجب. و من زايدة، و يحتمل أن يكون للتبعيض. و نبّه على وجوب حجبهنّ بضمير صغراه قوله: فإنّ شدّة الحجاب أبقى عليهنّ: أى أبقى للستر و العفّة من الخروج و التبرّج و أدوم لحفظهنّ، و تقدير الكبرى: و كلّ ما كان كذلك وجب فعله.
الثالث: نبّه على أنّه لا يجوز أن يرحض في إدخال من لا يوثق به عليهنّ،
و هو أعمّ من الرجال و النساء، و الكلام في قوّة صغرى ضمير دلّ به على ذلك المنع، و تقديرها: أنّ إدخال من لا يوثق به عليهنّ إمّا مساو لخروجهنّ في المفسدة أو أشدّ و تقدير الكبرى: و كلّ ما كان كذلك فلا يجوز الرخصة فيه، و إنّما كان أشدّ في بعض الصور لأنّ دخول من لا يوثق به عليهنّ أمكن لخلوته بهنّ و الحديث معهنّ فيما يراد من الفساد.
الرابع: أمره أن يحسم أسباب المعرفة بينه و بين غيره
لكون معرفتهنّ لغيره مظنّة المفسدة. و قرينة الحال يخرج غير أولى الإربة كالوالد و المحرم، و إنّما شرط في ذلك الاستطاعة لأنّه قد لا يمكن الإنسان دفع معرفتهنّ لغيره مطلقا.
الخامس: نهاه أن يملك المرأة من أمرها ما خرج عن حدّ نفسها
من مأكول أو ملبوس و نحوه، و ما جاوز ذلك كالشفاعات، و نبّه على عدم صلوحها بضمير صغراه قوله: فإنّ المرأة ريحانة و ليست بقهرمانة. و استعار لفظ الريحانة باعتبار كونها محلّا للّذّة و الاستمتاع بها، و لعلّ تخصيص الريحانة بالاستعارة لأنّ شأن نساء العرب استعال الطيب كثيرا، و كنّى بكونها غير قهرمانة عن كونها لم تخلق لتكون حاكمة متسلّطة بل من شأنها أن تكون محكوما عليها، و تقدير الكبرى: و كلّ من كان كذلك فلا ينبغي أن يجاوزونه أمر نفسه، و تمكّن من التصرّف في أمر غيره.
السادس: و كذلك نهيه أن يجاوز بكرامتها نفسها
أي لا تكرمها بكرامة يتعدّي صلاح نفسها، و هو كقوله: و لا يملك المرأة. إلى آخره.
السابع: و كذلك نهيه أن يطمعها في الشفاعة لغيرها
لأنّ ذلك مجاوزة منها لحدّ نفسها، و قد نبّه على أنّها ليست بأهل لذلك لما هي عليه من نقصان الغريزة و ضعف الرأي.
الثامن: نهاه عن التغاير في غير موضع الغيرة،
و نبّه على ما في ذلك من المفسدة بضمير صغراه قوله: فإنّ ذلك. إلى قوله: السقم، و كنّى بالصحيحة عن البريئة من الخيانة و الفساد، و بالسقم عنهما و إنّما كان كذلك لأنّ المرأة حين براءتها من الفساد يستقبح ذلك و يستنكره كره المواجهة، و يستشعر خوف الفضيحة و العقاب فإذا نسبت إلى ذلك مع براءتها منه عظم عليها في أوّل الأمر فإذا تكرّر ذلك من الرجل هان عليها أمره و صار لومه لها في قوّة الإغراء بها بذلك، و قد علمت ما في الطباع الحيوانيّة من الحرص على الأمر الممنوع منه فكانت الغيرة في غير موضعها و اللائمة بسبب التخيّل الفاسد على ما لم يفعل أمرا داعيا إلى قوله، و تقدير الكبرى: و كلّ ما كان كذلك لم يجز فعله.
التاسع و العشرون: أمره أن يجعل لكلّ إنسان من خدمه شغلا يخصّه، و يأخذه بفعله و يؤاخذه
على تركه، و ذلك من الحكمة المنزليّة. و نبّه على سرّ ذلك بضمير صغراه قوله: فإنّه أحرى. إلى قوله: خدمتك، و ذلك أنّهم إذا شركوا في التكليف بفعل واحد يقوم به كلّ واحد منهم فالغالب عليهم أن يكل كلّ واحد منهم فعله إلى الآخر فيستلزم ذلك أن لا يفعل. قال كسرى أنوشيروان لولده شيرويه: و انظر إلى كتّابك فمن كان منهم ذا ضياع قد أحسن عمارتها فولّه الخراج، و من كان منهم ذا عبيد فولّه الجند، و من كان منهم ذا سرارى قد أحسن القيام عليهنّ فولّه النفقات و القهرمة، و هكذا فاصنع في خدم دارك و لا تجعل أمرك فوضى بين خدمك فيفسد عليك ملكك.
الثلاثون أمره بإكرام عشيرته،
و نبّه على ذلك بضمير صغراه قوله: فإنّهم.
إلى قوله: تقول. و استعار لهم لفظ الجناح باعتبار كونهم مبدء نهوضهم و قوّته على الحركة إلى المطالب كجناح الطائر، و رشّح بذكر الطيران، و كذلك لفظ اليد باعتبار كونهم محلّ صولته على العدوّ، و تقدير الكبرى: و كلّ من كان كذلك وجب عليك إكرامه ثمّ ختم الوصيّة بوداعه و استودع اللّه دينه و دنياه و سؤاله خير القضاء له في عاجلته و آجلته و داريه دنياه و آخرته حسب إرادته تعالى و مشيئته و لفظ الاستيداع مجاز في طلب الحفظ من اللّه لما استودعه إيّاه. و باللّه التوفيق و العصمة.
شرح نهج البلاغة (ابن ميثم بحراني)، ج 5 ، صفحهى 3