و من كتاب له عليه السّلام إلى معاوية
فَاتَّقِ اللَّهَ فِيمَا لَدَيْكَ- وَ انْظُرْ فِي حَقِّهِ عَلَيْكَ- وَ ارْجِعْ إِلَى مَعْرِفَةِ مَا لَا تُعْذَرُ بِجَهَالَتِهِ- فَإِنَّ لِلطَّاعَةِ أَعْلَاماً وَاضِحَةً- وَ سُبُلًا نَيِّرَةً وَ مَحَجَّةً نَهْجَةً وَ غَايَةً مُطَّلَبَةً- يَرِدُهَا الْأَكْيَاسُ وَ يُخَالِفُهَا الْأَنْكَاسُ- مَنْ نَكَبَ عَنْهَا جَارَ عَنِ الْحَقِّ وَ خَبَطَ فِي التِّيهِ- وَ غَيَّرَ اللَّهُ نِعْمَتَهُ وَ أَحَلَّ بِهِ نِقْمَتَهُ- فَنَفْسَكَ نَفْسَكَ فَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ لَكَ سَبِيلَكَ- وَ حَيْثُ تَنَاهَتْ بِكَ أُمُورُكَ- فَقَدْ أَجْرَيْتَ إِلَى غَايَةِ خُسْرٍ وَ مَحَلَّةِ كُفْرٍ- فَإِنَّ نَفْسَكَ قَدْ أَوْلَجَتْكَ شَرّاً وَ أَقْحَمَتْكَ غَيّاً- وَ أَوْرَدَتْكَ الْمَهَالِكَ وَ أَوْعَرَتْ عَلَيْكَ الْمَسَالِكَ
أقول: أوّل هذا الكتاب: أمّا بعد فقد بلغني كتابك تذكر مشاغبتي و تستقبح موازرتي و تزعمني متجبّرا و عن حقّ اللّه مقصّرا. فسبحان اللّه كيف تستجيز الغيبة و تستحسن العضيهة. إنّي لم اشاغب إلّا في أمر بمعروف أو نهي عن المنكر و لم أتجبّر إلّا على مارق أو ملحد أو منافق و لم آخذ في ذلك إلّا بقول اللّه و رسوله وَ لَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ و أمّا التقصير في حقّ اللّه فمعاذ اللّه جلّ ثناؤه من أن اعطّل الحقوق المؤكّدة و أركن إلى الأهواء المبتدعة و اخلد إلى الضلالة المحيّرة. و من العجب أن تصف يا معاوية الإحسان و تخالف البرهان و تنكث الوثايق الّتي هي للّه عزّ و جلّ طلبة و على عباده حجّة مع نبذ الإسلام و تضييع الأحكام و طمس الأعلام و الجرى في الهواى و التهوّس في الردى. ثمّ يتّصل بقوله: فاتّق اللّه. الفصل المذكور. و من هذا الكتاب أيضا: و إنّ للناس جماعة يد اللّه عليها و غضب اللّه على من خالفها.
فنفسك نفسك قبل حلول رمسك فإنّك إلى اللّه راجع و إلى حشره مهطع و سيبهضك كربه و يحلّ بك غمّه في يوم لا يغنى النادم ندمه و لا يقبل من المعتذر عذره يوم لا يغنى مولى عن مولى شيئا و لا هم ينصرون.
اللغة
و العضيهة: الإفك و البهتان. و الطمس: إخفاء الأثر. و نهجة: واضحة. و مطّلبة بتشديد الطاء و فتح اللام: أي مطلوبة جدّا منهم. و الأكياس: العقلاء. و الأنكاس: جمع نكس و هو الدنىء من الرجال. و نكب: عدل. و الخبط. المشى على غير استقامة. و الخسر: الخسران. و الاقتحام: الدخول في الأمر بشدّة. و الوعر: الشديد. و المهطع: المسرع. و بهضه الأمر: أثقله.
المعنى
و الفصل موعظة. فأشار عليه السّلام عليه بتقوى اللّه فيما لديه من مال المسلمين و فيئهم، و أن ينظر في حقّه تعالى عليه و آثار نعمته فيقابله بالشكر و الطاعة، و أن يرجع إلى معرفة ما لا عذر له في أن يجهله من وجوب طاعة اللّه و رسوله و طاعة الإمام الحقّ. و قوله: فإنّ للطاعة أعلاما واضحة. أى الطاعة للّه، و استعار لفظ الأعلام لما يدلّ على الطريق إلى اللّه من الكتاب و السنّة القوليّة و الفعليّة و من جملتها أئمّة الحقّ و الهدى فإنّهم أصل تلك الأعلام و حاملوها. و عنى بالسبل النيّرة و المحجّة النهجة الطرق إلى اللّه المدلول عليها بأعلامها المذكورة، و بالغاية المطلوبة من الخلق وصولهم إلى حضرة قدس اللّه طاهرين مجرّدين عن الهيئات البدنيّة الدنيّة مستمعين للكمالات الإنسانيّة النفسانيّة.
و اعلم أنّ الطاعة اسم لقصد تلك الأعلام و سلوك تلك المحجّة طلبا لتلك الغاية، و الضمير في قوله: يردها و يخالفها و عنها راجع إلى المحجّة و الأعلام الواضحة عليها، و ظاهر أنّ العقلاء هم الّذين يختارون ورود تلك المحجّة و يقصدون أعلامها و أنّ أدنياء الهمم يخالفون إلى غيرها فيعدلون عن صراط اللّه الحقّ و يحبطون في تيه الجهل و يغيّر اللّه بذلك نعمته عليهم و يبدّلهم بها نقمته في دار الجزاء. ثمّ لمّا أشار عليه بما أشار و أوضح له سبل السلامة و ما يلزم مخالفها من تغيير نعمة اللّه و حلول نقمته أمره أن يحفط نفسه بسلوك تلك السبل عمّا يلزم مخالفتها و العدول عنها من الامور المذكورة. ثمّ أعلمه بأنّ اللّه بيّن له سبيله و أراد سبيل طاعته المأمور بسلوكها. و هو في قوّة قياس صغرى ضمير من الشكل الأوّل أوجب عليه به سلوك تلك السبيل. و تقدير الكبرى: و كلّ من بيّن اللّه له سبيله الّتي أوجب عليه سلوكها فقد وجب عليه حفظ نفسه بسلوكها. و قوله: و حيث تناهت بك امورك. فحسبك ما تناهت بك إليه. ثمّ فسّر ذلك الحيث الّذي أمره بالوقوف عنده و هو غاية الخسر: أى الغاية المستلزمة للخسر الّتي هي منزلة من منازل الكفر، و أخبره أنّه قد اجرى إليها و كفى بها غاية شرّ. و إجرائه إلى تلك الغاية كناية عن سعيه و عمله المستلزم لوصوله إليها.
يقال: اجرى فلان إلى غاية كذا: أى قصدها بفعله. و أصله من إجراء الخيل للسباق. و لفظ الخسر مستعار لفقدان رضوان اللّه و الكمالات الموصلة إليه، و إنّما جعل تلك الغاية الّتي اجرى إليها منزلة كفر لأنّ الغايات الشرّيّة المنهىّ عن قصدها من منازل الكفّار و مقاماتهم فمن سلك إليها قصدا و بلغها اختيارا فقد لحق منازل الكفر و محالّه.
و قوله: و إنّ نفسك قد أو لجتك شرّا. أى أدخلتك في شرّ الدنيا و الآخرة، و أراد نفسه الأمّارة بالسوء بما سوّلت له من معصية اللّه و مخالفة الإمام الحقّ، و يروى: قد أوحلتك: أى ألقتك في الوحل. و هو مستعار لما وقع فيه من المعصية و الاختلاط عن الجهل، و أقحمتك غيّا: أى أدخلتك في الغيّ و الضلال، و أوردتك المهالك: أى الموارد المهلكة من الشبهات و المعاصي، و أو عرت عليك المسالك: أى مسالك الهدى و طرق الخير لأنّ النفس الأمّارة بالسوء إذا أوردت الإنسان سبل الضلالة و سهّلت عليه سلوكها بوسوستها و تحسينها للغايات الباطلة لزمه بسبب ذلك البعد عن طرق الهدى و مسالك الخير، و استصعاب سلوكها. و باللّه التوفيق و العصمة و به الحول و القوّة و العون و التسديد.
هذا آخر المجلّد الرابع من هذا الكتاب.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحرانی)، ج 4 ، صفحهى 449