و من كتاب له عليه السّلام إلى أهل البصرة
وَ قَدْ كَانَ مِنِ انْتِشَارِ حَبْلِكُمْ وَ شِقَاقِكُمْ- مَا لَمْ تَغْبَوْا عَنْهُ- فَعَفَوْتُ عَنْ مُجْرِمِكُمْ وَ رَفَعْتُ السَّيْفَ عَنْ مُدْبِرِكُمْ- وَ قَبِلْتُ مِنْ مُقْبِلِكُمْ- فَإِنْ خَطَتْ بِكُمُ الْأُمُورُ الْمُرْدِيَةُ- وَ سَفَهُ الْآرَاءِ الْجَائِرَةِ إِلَى مُنَابَذَتِي وَ خِلَافِي- فَهَا أَنَا ذَا قَدْ قَرَّبْتُ جِيَادِي وَ رَحَلْتُ رِكَابِي- وَ لَئِنْ أَلْجَأْتُمُونِي إِلَى الْمَسِيرِ إِلَيْكُمْ لَأُوقِعَنَّ بِكُمْ وَقْعَةً- لَا يَكُونُ يَوْمُ الْجَمَلِ إِلَيْهَا إِلَّا كَلَعْقَةِ لَاعِقٍ- مَعَ أَنِّي عَارِفٌ لِذِي الطَّاعَةِ مِنْكُمْ فَضْلَهُ- وَ لِذِي النَّصِيحَةِ حَقَّهُ- غَيْرُ مُتَجَاوِزٍ مُتَّهَماً إِلَى بَرِيٍّ وَ لَا نَاكِثاً إِلَى وَفِيٍّ
اللغة
أقول: غبت عن الشيء و غبته: إذا لم تفطن له، و المردية: المهلكة. و الجائرة: المنحرفة عن الصواب. و المنابذة: المخالفة و المراماة بالعهد و البيعة.
المعنى
و قد بدء في هذا الفصل بوضع ذنوبهم و تقريرها عليهم ليحسن عقيبها العفو أو المؤاخذة. و استعار لفظ الحبل لبيعتهم إيّاه، و لفظ الانتشار لنكثهم. وجه الاستعارة الأولى كون البيعة سببا جامعا لها و ناظما لامورهم و متمسّكا يوصل إلى رضاه اللّه كالحبل الناظم لما يربط به، و وجه الثانية ظاهر. و نبّه بقوله: ما لم تغبوا عنه. على علمهم بما فعلوه و تعهّدهم لفعله ليتأكّد عليهم الحجّة. ثمّ لمّا قرّر ذنوبهم أردفها بذكر امور قابلها بها كرما و هي العفو عن مجرمهم و رفع السيف عمّن أدبر منهم و قبول من أقبل إليه منهم و الرضا عنه. ثمّ أردف ذلك بوعيدهم بكونه مستعدّا لقتالهم و إيقاعه بهم وقعة يستصغر معها وقعة الجمل إن لو عادوا إلى الفتنة ثانيا. و استعار لفظ الخطو لسوق الامور المهلكة و سفه آرائهم الجايرة بهم إلى منا بذته و محاربته ثانيا. و وجه المشابهة تأدّيها بهم إلى خلافه كتأدّي القدم بصاحبها إلى غايته. و تقدير الشرط فإن عدتم إلى خلافي فها أنا مستعدّ لكم. و كنّى بتقريب جياده و ترحيل ركابه عن كونه مستعدّا للكرّة عليهم. و رحّلتها: شدّدت الرحال على ظهورها. و يكفى ذلك في وعيدهم على خلافه لأنّ مجرّد خلافهم عليه لا يستلزم وجوب إيقاع الوقعة بهم لاحتمال أن يرجعوا و يتوبوا بوعيده أو بعلمهم ببقائه على الاستعداد لحربهم و الإيقاع بهم فلذلك جعل الشرط في وعيده بالإيقاع بهم أن يلجئوه إلى المسير إليهم و محاربتهم، و ذلك بأن يعلم أنّ الأمر لا يستقيم إلّا بالإيقاع بهم فيحمله ضرورة حفظ الدين على ذلك.
و قوله: في وصف تلك الوقعة لا يكون يوم الجمل. إلى قوله: لا عق. كناية عن غاية شدّة إيقاعه بهم. و وجه تشبيه وقعة الجمل بالنسبة إليها باللعقة هو الحقارة و الصغر. ثمّ لمّا توعّدهم بما يخشى من الوعيد أردفه بما يرجى معه من ذكر اعترافه بفضل ذي الطاعة و بحقّ ذي النصيحة منهم و أنّه غير متجاوز متّهما بعقوبة إلى بريء و لا ناكثا بعهده إلى وفيّ به لئلّا تشتدّ عليهم و طأته فيئسوا من رحمته فيشتدّ نفارهم منه، و يكون ذلك داعية فسادهم.
شرح نهج البلاغة (ابن ميثم بحراني)، ج 4 ، صفحه ى 447