18 و من كتاب له ع إلى عبد الله بن عباس- و هو عامله على البصرة
وَ اعْلَمْ أَنَّ الْبَصْرَةَ مَهْبِطُ إِبْلِيسَ وَ مَغْرِسُ الْفِتَنِ- فَحَادِثْ أَهْلَهَا بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ- وَ احْلُلْ عُقْدَةَ الْخَوْفِ عَنْ قُلُوبِهِمْ- وَ قَدْ بَلَغَنِي تَنَمُّرُكَ لِبَنِي تَمِيمٍ وَ غِلْظَتُك عَلَيْهِمْ- وَ إِنَّ بَنِي تَمِيمٍ لَمْ يَغِبْ لَهُمْ نَجْمٌ- إِلَّا طَلَعَ لَهُمْ آخَرُ- وَ إِنَّهُمْ لَمْ يُسْبَقُوا بِوَغْمٍ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَ لَا إِسْلَامٍ- وَ إِنَّ لَهُمْ بِنَا رَحِماً مَاسَّةً وَ قَرَابَةً خَاصَّةً- نَحْنُ مَأْجُورُونَ عَلَى صِلَتِهَا- وَ مَأْزُورُونَ عَلَى قَطِيعَتِهَا- فَارْبَعْ أَبَا الْعَبَّاسِ رَحِمَكَ اللَّهُ- فِيمَا جَرَى عَلَى يَدِكَ وَ لِسَانِكَ مِنْ خَيْرٍ وَ شَرٍّ- فَإِنَّا شَرِيكَانِ فِي ذَلِكَ- وَ كُنْ عِنْدَ صَالِحِ ظَنِّي بِكَ- وَ لَا يَفِيلَنَّ رَأْيِي فِيكَ وَ السَّلَامُ قوله ع مهبط إبليس موضع هبوطه- . و مغرس الفتن موضع غرسها و يروى و مغرس الفتن- و هو الموضع الذي ينزل فيه القوم آخر الليل للاستراحة- يقال غرسوا و أغرسوا- . و قوله ع فحادث أهلها أي تعهدهم بالإحسان- من قولك حادثت السيف بالصقال- .
و التنمر للقوم الغلظة عليهم- و المعاملة لهم بأخلاق النمر من الجرأة و الوثوب- و سنذكر تصديق قوله ع- لم يغب لهم نجم إلا طلع لهم آخر- . و الوغم الترة و الأوغام الترات- أي لم يهدر لهم دم في جاهلية و لا إسلام- يصفهم بالشجاعة و الحمية- . و مأزورون كان أصله موزورون- و لكنه جاء بالألف ليحاذي به ألف مأجورون- و قد قال النبي ص مثل ذلك- . قوله ع فاربع أبا العباس- أي قف و تثبت في جميع ما تعتمده فعلا و قولا من خير و شر- و لا تعجل به فإني شريكك فيه- إذ أنت عاملي و النائب عني- . و يعني بالشر هاهنا الضرر فقط لا الظلم و الفعل القبيح- . قوله ع و كن عند صالح ظني فيك- أي كن واقفا عنده كأنك تشاهده- فتمنعك مشاهدته عن فعل ما لا يجوز- . فال الرأي يفيل أي ضعف و أخطأ
فصل في بني تميم و ذكر بعض فضائلهم
و قد ذكر أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتاب التاج- أن لبني تميم مآثر لم يشركهم فيها غيرهم- أما بنو سعد بن زيد مناة- فلها ثلاث خصال يعرفها العرب- إحداها كثرة العدد فإنه أضعف عددها على بني تميم- حتى ملأت السهل و الجبل عدلت مضر كثرة- و عامة العدد منها في كعب بن سعد بن زيد مناة- و لذلك قال أوس بن مغراء
كعبي من خير الكعاب كعبا
من خيرها فوارسا و عقبا
تعدل جنبا و تميم جنبا
و قال الفرزدق أيضا فيهم هذه الأبيات-
لو كنت تعلم ما برمل مويسل
فقري عمان إلى ذوات حجور
لعلمت أن قبائلا و قبائلا
من آل سعد لم تدن لأمير
و قال أيضا
تبكي على سعد و سعد مقيمة
بيبرين قد كادت على الناس تضعف
و لذلك كانت تسمى سعد الأكثرين- و في المثل في كل واد بنو سعد- . و الثانية الإفاضة في الجاهلية- كان ذلك في بني عطارد- و هم يتوارثون ذلك كابرا عن كابر حتى قام الإسلام- و كانوا إذا اجتمع الناس أيام الحج بمنى- لم يبرح أحد من الناس دينا و سنة- حتى يجوز القائم بذلك من آل كرب بن صفوان- و قال أوس بن مغراء-
و لا يريمون في التعريف موقفهم
حتى يقال أجيزوا آل صفوانا
و قال الفرزدق
إذا ما التقينا بالمحصب من منى
صبيحة يوم النحر من حيث عرفوا
ترى الناس ما سرنا يسيرون حولنا
و إن نحن أومأنا إلى الناس وقفوا
و الثالثة أن منهم أشرف بيت في العرب- الذي شرفته ملوك لخم- قال المنذر بن المنذر بن ماء السماء ذات يوم- و عنده وفود العرب- و دعا ببردي أبيه محرق بن المنذر- فقال ليلبس هذين أعز العرب و أكرمهم حسبا- فأحجم الناس فقال أحيمر بنخلف بن بهدلة بن عوف- بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم أنا لهما- قال الملك بما ذا- قال بأن مضر أكرم العرب و أعزها و أكثرها عديدا- و أن تميما كاهلها و أكثرها- و أن بيتها و عددها في بني بهدلة بن عوف و هو جدي- فقال هذا أنت في أصلك و عشيرتك- فكيف أنت في عترتك و أدانيك- . قال أنا أبو عشرة و أخو عشرة و عم عشرة- فدفعهما إليه- و إلى هذا أشار الزبرقان بن بدر في قوله- و بردا ابن ماء المزن عمي اكتساهما بفضل معد حيث عدت محاصله- قال أبو عبيدة و لهم في الإسلام خصلة- قدم قيس بن عاصم المنقري على رسول الله ص في نفر من بني سعد- فقال له رسول الله ص هذا سيد أهل الوبر- فجعله سيد خندف و قيس ممن يسكن الوبر- .
قال و أما بنو حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم- فلهم خصال كثيرة- قال في بني دارم بن مالك بن حنظلة و هو بيت مضر- فمن ذلك زرارة بن عدس بن زيد بن دارم- يقال إنه أشرف البيوت في بني تميم- و من ذلك قوس حاجب بن زرارة المرهونة عند كسرى عن مضر كلها- و في ذلك قيل
و أقسم كسرى لا يصالح واحدا
من الناس حتى يرهن القوس حاجب
و من ذلك في بني مجاشع بن دارم صعصعة بن ناجية بن عقال- بن محمد بن سفيان بن مجاشع- و هو أول من أحيا الوئيد- قام الإسلام و قد اشترى ثلاثمائة موءودة- فأعتقهن و رباهن- و كانت العرب تئد البنات خوف الإملاق- . و من ذلك غالب بن صعصعة و هو أبو الفرزدق- و غالب هو الذي قرى مائة ضيف- و احتمل عشر ديات لقوم لا يعرفهم- و كان من حديث ذلك- أن بني كلب بن وبرة افتخرت بينها في أنديتها- فقالت نحن لباب العرب و قلبها- و نحن الذين لا ننازع حسبا و كرما- فقال شيخ منهم إن العرب غير مقرة لكم بذلك- إن لها أحسابا و إن منها لبابا و إن لها فعالا- و لكن ابعثوا مائة منكم في أحسن هيئة و بزة- ينفرون من مروا به في العرب- و يسألونه عشر ديات و لا ينتسبون له- فمن قرأهم و بذل لهم الديات- فهو الكريم الذي لا ينازع فضلا- فخرجوا حتى قدموا على أرض بني تميم و أسد- فنفروا الأحياء حيا فحيا و ماء فماء- لا يجدون أحدا على ما يريدون- حتى مروا على أكثم بن صيفي فسألوه ذلك- فقال من هؤلاء القتلى و من أنتم و ما قصتكم- فإن لكم لشأنا باختلافكم في كلامكم فعدلوا عنه- ثم مروا بقتيبة بن الحارث بن شهاب اليربوعي- فسألوه عن ذلك- فقال من أنتم قالوا من كلب بن وبرة- فقال إني لأبغي كلبا بدم- فإن انسلخ الأشهر الحرم و أنتم بهذه الأرض- و أدرككم الخيل نكلت بكم و أثكلتكم أمهاتكم- فخرجوا من عنده مرعوبين- فمروا بعطارد بن حاجب بن زرارة فسألوه ذلك- فقال قولوا بيانا و خذوها- فقالوا أما هذا فقد سألكم قبل أن يعطيكم فتركوه- و مروا ببني مجاشع بن دارم- فأتوا على واد قد امتلأ إبلا- فيها غالب بن صعصعة يهنأ منها إبلا- فسألوه القرى و الديات- فقال هاكم البزل قبل النزول- فابتزوها من البرك و حوزوا دياتكم ثم انزلوا- فتنزلوا و أخبروه بالحال- و قالوا أرشدك الله من سيد قوم- لقد أرحتنا من طول النصب- و لو علمنا لقصدنا إليك- فذلك قول الفرزدق-
فلله عينا من رأى مثل غالب
قرى مائة ضيفا و لم يتكلم
و إذ نبحت كلب على الناس إنهم
أحق بتاج الماجد المتكرم
فلم يجل عن أحسابها غير غالب
جرى بعناني كل أبلج خضرم
قال فأما بنو يربوع بن حنظلة فمنهم- ثم من بني رباح بن يربوع عتاب بن هرمي بن رياح- كانت له ردافة الملوك ملوك آل المنذر- و ردافة الملك أن يثنى به في الشرب- و إذا غاب الملك خلفه في مجلسه- و ورث ذلك بنوه كابرا عن كابر حتى قام الإسلام- قال لبيد بن ربيعة
و شهدت أنجبة الأكارم غالبا كعبي و أرداف الملوك شهود- و يربوع أول من قتل قتيلا من المشركين- و هو واقد بن عبد الله بن ثعلبة بن يربوع حليف عمر بن الخطاب- قتل عمرو بن الحضرمي في سرية نخلة- فقال عمر بن الخطاب يفتخر بذلك-
سقينا من ابن الحضرمي رماحنا
بنخلة لما أوقد الحرب واقد
و ظل ابن عبد الله عثمان بيننا
ينازعه غل من القد عاند
و لها جواد العرب كلها في الإسلام- بدأ العرب كلها جودا خالد بن عتاب بن ورقاء الرياحي- دخل الفرزدق على سليمان بن عبد الملك- و كان يشنؤه لكثرة بأوه و فخره- فتهجمه و تنكر له- و أغلظ في خطابه حتى قال من أنت لا أم لك- قال أ و ما تعرفني يا أمير المؤمنين- أنا من حي هم من أوفى العرب و أحلم العرب- و أسود العرب و أجود العرب و أشجع العرب و أشعر العرب- فقال سليمان و الله لتحتجن لما ذكرت- أو لأوجعن ظهرك و لأبعدن دارك- قال أما أوفى العرب فحاجب بن زرارة- رهن قوسه عن العرب كلها و أوفى- و أما أحلم العرب فالأحنف بن قيس- يضرب به المثل حلما- و أما أسود العرب فقيس بن عاصم- قال له رسول الله ص هذا سيد أهل الوبر-و أما أشجع العرب فالحريش بن هلال السعدي- و أما أجود العرب فخالد بن عتاب بن ورقاء الرياحي- و أما أشعر العرب فها أنا ذا عندك- قال سليمان فما جاء بك- لا شيء لك عندنا فارجع على عقبك- و غمه ما سمع من عزة و لم يستطع له ردا- فقال الفرزدق في أبيات
أتيناك لا من حاجة عرضت لنا
إليك و لا من قلة في مجاشع
قلت و لو ذكر عتيبة بن الحارث بن شهاب اليربوعي- و قال إنه أشجع العرب لكان غير مدافع- قالوا كانت العرب تقول- لو وقع القمر إلى الأرض لما التقفه إلا عتيبة بن الحارث- لثقافته بالرمح- و كان يقال له صياد الفوارس و سم الفوارس- و هو الذي أسر بسطام بن قيس- و هو فارس ربيعة و شجاعها- و مكث عنده في القيد مدة- حتى استوفى فداءه و جز ناصيته- و خلى سبيله على ألا يغزو بني يربوع- و عتيبة هذا هو المقدم على فرسان العرب- كلها في كتاب طبقات الشجعان و مقاتل الفرسان- و لكن الفرزدق لم يذكره و إن كان تميميا- لأن جريرا يفتخر به لأنه من بني يربوع- فحملته عداوة جرير على أن عدل عن ذكره- .
قال أبو عبيدة و لبني عمرو بن تميم خصال- تعرفها لهم العرب و لا ينازعهم فيها أحد- فمنها أكرم الناس عما و عمة و جدا و جدة- و هو هند بن أبي هالة- و اسم أبي هالة نباش بن زرارة أحد بني عمرو بن تميم- كانت خديجة بنت خويلد قبلالنبي ص تحت أبي هالة- فولدت له هندا- ثم تزوجها رسول الله ص و هند بن أبي هالة غلام صغير- فتبناه النبي ص- ثم ولدت خديجة من رسول الله ص القاسم و الطاهر و زينب- و رقية و أم كلثوم و فاطمة- فكان هند بن أبي هالة أخاهم لأمهم- ثم أولد هند بن أبي هالة هند بن هند- فهند الثاني أكرم الناس جدا و جدة- يعني رسول الله ص و خديجة- و أكرم الناس عما و عمة- يعني بني النبي ص و بناته- . و منها أن لهم أحكم العرب في زمانه أكثم بن صيفي- أحد بني أسد بن عمرو بن تميم- كان أكثر أهل الجاهلية حكما و مثلا و موعظة سائرة- . و منها ذو الأعواز- كان له خراج على مضر كافة تؤديه إليه- فشاخ حتى كان يحمل على سرير- يطاف به على مياه العرب- فيؤدى إليه الخراج- و قال الأسود بن يعفر النهشلي- و كان ضريرا و لقد علمت خلاف ما تناشي أن السبيل سبيل ذي الأعواز- .
و منها هلال بن أحوز المازني- الذي ساد تميما كلها في الإسلام و لم يسدها غيره- . قال و دخل خالد بن عبد الرحمن- بن الوليد بن المغيرة المخزومي مسجد الكوفة- فانتهى إلى حلقة فيها أبو الصقعب التيمي- من تيم الرباب و المخزومي لا يعرفه- و كان أبو الصقعب من أعلم الناس فلما سمع علمه و حديثه حسده- فقال له ممن الرجل قال من تيم الرباب- فظن المخزومي أنه وجد فرصة- فقال و الله ما أنت من سعد الأكثرين- و لا من حنظلة الأكرمين و لا من عمرو الأشدين- فقال أبو الصقعب فممن أنت قال من بني مخزوم- قال و الله ما أنت من هاشم المنتخبين- و لا من أمية المستخلفين-و لا من عبد الدار المستحجبين- فبم تفخر قال نحن ريحانة قريش- قال أبو الصقعب قبحا لما جئت به- و هل تدري لم سميت مخزوم ريحانة قريش- سميت لحظوة نسائها عند الرجال فأفحمه- روى أبو العباس المبرد في كتاب الكامل- أن معاوية قال للأحنف بن قيس- و جارية بن قدامة و رجال من بني سعد معهما كلاما أحفظهم- فردوا عليه جوابا مقذعا- و امرأته فاختة بنت قرظة في بيت يقرب منهم- و هي أم عبد الله بن معاوية فسمعت ذلك- فلما خرجوا قالت يا أمير المؤمنين- لقد سمعت من هؤلاء الأجلاف كلاما تلقوك به فلم تنكر- فكدت أن أخرج إليهم فأسطو بهم- فقال معاوية إن مضر كأهل العرب و تميما كأهل مضر- و سعدا كأهل تميم و هؤلاء كأهل سعد- .
و روى أبو العباس أيضا أن عبد الملك ذكر يوما بني دارم- فقال أحد جلسائه يا أمير المؤمنين هؤلاء قوم محظوظون- يعني في كثرة النسل و نماء الذرية- فلذلك انتشر صيتهم- فقال عبد الملك ما تقول- هذا و قد مضى منهم لقيط بن زرارة و لم يخلف عقبا- و مضى قعقاع بن معبد بن زرارة و لم يخلف عقبا- و مضى محمد بن عمير بن عطارد بن حاجب بن زرارة- و لم يخلف عقبا- و الله لا تنسى العرب هذه الثلاثة أبدا- .
قال أبو العباس إن الأصمعي قال- إن حربا كانت بالبادية ثم اتصلت بالبصرة- فتفاقم الأمر فيها ثم مشي بين الناس بالصلح- فاجتمعوا في المسجد الجامع- قال فبعثت و أنا غلام إلى ضرار بن القعقاع من بني دارم- فاستأذنت عليه فأذن لي فدخلت- فإذا به في شملة يخلط بزرا لعنز له حلوب- فخبرته بمجتمع القوم فأمهل حتى أكلت العنز- ثم غسل الصحفة و صاح يا جارية غدينا- فأتته بزيت و تمر فدعاني- فقذرته أن آكل معه- حتى إذا قضى من أكله و حاجته وطرا- وثب إلى طين ملقى في الدار فغسل به يده- ثم صاح يا جارية اسقيني ماء- فأتته بماء فشربه و مسح فضله على وجهه- ثم قال الحمد لله ماء الفرات بتمر البصرة بزيت الشام- متى نؤدي شكر هذه النعم- ثم قال علي بردائي- فأتته برداء عدني فارتدى به على تلك الشملة- قال الأصمعي فتجافيت عنه استقباحا لزيه- فلما دخل المسجد صلى ركعتين- ثم مشى إلى القوم- فلم تبق حبوة إلا حلت إعظاما له- ثم جلس فتحمل جميع ما كان بين الأحياء في ماله ثم انصرف- .
قال أبو العباس و حدثني أبو عثمان المازني- عن أبي عبيدة قال- لما أتى زياد بن عمرو المربد- في عقب قتل مسعود بن عمرو العتكي- و جاء زياد بن عمرو بن الأشرف العتكي- ليثأر به من بني تميم صف أصحابه- فجعل في الميمنة بكر بن وائل و في الميسرة عبد القيس- و هم لكيز بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة- و كان زياد بن عمرو العتكي في القلب- فبلغ ذلك الأحنف بن قيس- فقال هذا غلام حدث شأنه الشهرة- و ليس يبالي أين قذف بنفسه- فندب أصحابه فجاءه حارثة بن بدر الغداني- و قد اجتمعت بنو تميم- فلما أتى قال قوموا إلى سيدكم- ثم أجلسه فناظره- فجعلوا سعدا و الرباب في القلب- و رئيسهم عبس بن طلق الطعان المعروف بأخي كهمس- و هو أحد بني صريم بن يربوع- فكانوا بحذاء زياد بن عمرو و من معه من الأزد- و جعل حارثة بن بدر الغداني في بني حنظلة بحذاء بكر بن وائل- و جعل عمرو بن تميم بحذاء عبد القيس- فذلك حيث يقول حارثة بن بدر للأحنف-
سيكفيك عبس أخو كهمس
مقارعة الأزد في المربد
و يكفيك عمرو على رسلها
لكيز بن أفصى و ما عددوا
و نكفيك بكرا إذا أقبلت
بضرب يشيب له الأمرد
و لكيز بن أفصى تعم عبد القيس- قال فلما تواقفوا بعث إليهم الأحنف- يا معشر الأزد من اليمن و ربيعة من أهل البصرة- أنتم و الله أحب إلينا من تميم الكوفة- و أنتم جيراننا في الدار و يدنا على العدو- و أنتم بدأتمونا بالأمس و وطئتم حريمنا- و حرقتم علينا فدفعنا عن أنفسنا- و لا حاجة لنا في الشر ما طلبنا في الخير مسلكا- فتيمموا بنا طريقة مستقيمة- فوجه إليه زياد بن عمرو تخير خلة من ثلاث- إن شئت فانزل أنت و قومك على حكمنا- و إن شئت فخل لنا عن البصرة- و ارحل أنت و قومك إلى حيث شئتم- و إلا فدوا قتلانا و أهدروا دماءكم- و ليود مسعود دية المشعرة- . قال أبو العباس و تأويل قوله دية المشعرة- يريد أمر الملوك في الجاهلية- و كان الرجل إذا قتل و هو من أهل بيت المملكة- ودي عشر ديات- فبعث إليه الأحنف سنختار- فانصرفوا في يومكم فهز القوم راياتهم و انصرفوا- فلما كان الغد بعث الأحنف إليهم- إنكم خيرتمونا خلالا ليس لنا فيها خيار- أما النزول على حكمكم فكيف يكون و الكلم يقطر- و أما ترك ديارنا فهو أخو القتل- قال الله عز و جل وَ لَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ- أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ- و لكن الثالثة إنما هي حمل على المال- فنحن نبطل دماءنا و ندي قتلاكم- و إنما مسعود رجل من المسلمين- و قد أذهب الله عز و جل أمر الجاهلية- فاجتمع القوم على أن يقفوا أمر مسعود و يغمدوا السيف- و تودى سائر القتلى من الأزد و ربيعة- فضمن ذلك الأحنف- و دفع إليهم إياس بن قتادة المجاشعي رهينة- حتى يؤدي هذا المال- فرضي به القوم- ففخر بذلك الفرزدق فقال لجرير-
و منا الذي أعطى يديه رهينة
لغاري معد يوم ضرب الجماجم
عشية سال المربدان كلاهما
عجاجة موت بالسيوف الصوارم
هنالك لو تبغي كليبا وجدتها
أذل من القردان تحت المناسم
و يقال إن تميما في ذلك الوقت مع باديتها- و حلفائها من الأساورة و الزط و السبابجة و غيرهم- كانوا زهاء سبعين ألفا- و في ذلك يقول جرير
سائل ذوي يمن و رهط محرق
و الأزد إذ ندبوا لنا مسعودا
فأتاهم سبعون ألف مدجج
متسربلين يلامقا و حديدا
قال الأحنف بن قيس- فكثرت على الديات فلم أجدها في حاضرة تميم- فخرجت نحو يبرين إلى بادية تميم- فسألت عن المقصود هناك فأرشدت إلى قبة- فإذا شيخ جالس بفنائها مؤتزر بشملة محتب بحبل- فسلمت عليه و انتسبت له- فقال لي ما فعل رسول الله ص قلت توفي- قال فما فعل عمر بن الخطاب- الذي كان يحفظ العرب و يحوطها قلت توفي- قال فأي خير في حاضرتكم بعدهما- قال فذكرت له الديات- التي لزمتنا للأزد و ربيعة- قال فقال لي أقم- فإذا راع قد أراح عليه ألف بعير فقال خذها- ثم أراح علينا آخر مثلها فقال خذها- فقلت لا أحتاج إليها- قال فانصرفت بالألف عنه- و و الله ما أدري من هو إلى الساعة