و من كتاب له عليه السّلام إلى معاوية، جوابا عن كتاب منه إليه
وَ أَمَّا طَلَبُكَ إِلَيَّ الشَّامَ- فَإِنِّي لَمْ أَكُنْ لِأُعْطِيَكَ الْيَوْمَ مَا مَنَعْتُكَ أَمْسِ- وَ أَمَّا قَوْلُكَ- إِنَّ الْحَرْبَ قَدْ أَكَلَتِ الْعَرَبَ إِلَّا حُشَاشَاتِ أَنْفُسٍ بَقِيَتْ- أَلَا وَ مَنْ أَكَلَهُ الْحَقُّ فَإِلَى الْجَنَّةِ- وَ مَنْ أَكَلَهُ الْبَاطِلُ فَإِلَى النَّارِ- وَ أَمَّا اسْتِوَاؤُنَا فِي الْحَرْبِ وَ الرِّجَالِ- فَلَسْتَ بِأَمْضَى عَلَى الشَّكِّ مِنِّي عَلَى الْيَقِينِ- وَ لَيْسَ أَهْلُ الشَّامِ بِأَحْرَصَ عَلَى الدُّنْيَا- مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ عَلَى الْآخِرَةِ- وَ أَمَّا قَوْلُكَ إِنَّا بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ فَكَذَلِكَ نَحْنُ وَ لَكِنْ لَيْسَ أُمَيَّةُ كَهَاشِمٍ- وَ لَا حَرْبٌ كَعَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَ لَا أَبُو سُفْيَانَ كَأَبِي طَالِبٍ- وَ لَا الْمُهَاجِرُ كَالطَّلِيقِ وَ لَا الصَّرِيحُ كَاللَّصِيقِ- وَ لَا الْمُحِقُّ كَالْمُبْطِلِ وَ لَا الْمُؤْمِنُ كَالْمُدْغِلِ- وَ لَبِئْسَ الْخَلْفُ خَلْفٌ يَتْبَعُ سَلَفاً هَوَى فِي نَارِ جَهَنَّمَ- وَ فِي أَيْدِينَا بَعْدُ فَضْلُ النُّبُوَّةِ الَّتِي أَذْلَلْنَا بِهَا الْعَزِيزَ- وَ نَعَشْنَا بِهَا الذَّلِيلَ- وَ لَمَّا أَدْخَلَ اللَّهُ الْعَرَبَ فِي دِينِهِ أَفْوَاجاً- وَ أَسْلَمَتْ لَهُ هَذِهِ الْأُمَّةُ طَوْعاً وَ كَرْهاً- كُنْتُمْ مِمَّنْ دَخَلَ فِي الدِّينِ إِمَّا رَغْبَةً وَ إِمَّا رَهْبَةً- عَلَى حِينَ فَازَ أَهْلُ السَّبْقِ بِسَبْقِهِمْ- وَ ذَهَبَ الْمُهَاجِرُونَ الْأَوَّلُونَ بِفَضْلِهِمْ- فَلَا تَجْعَلَنَّ لِلشَّيْطَانِ فِيكَ نَصِيباً- وَ لَا عَلَى نَفْسِكَ سَبِيلًا
أقول: روى أنّ معاوية استشار بعمرو بن العاص في أن يكتب إلى علىّ كتابا يسأله فيه الشام فضحك عمرو و قال: أين أنت يا معاوية من خدعة علىّ. قال: ألسنا بنى عبد مناف قال: بلى و لكن لهم النبوّة دونك. و إن شئت أن تكتب فاكتب.
فكتب معاوية إليه مع رجل من السكاسك يقال له عبد اللّه بن عقبة: أمّا بعد فإنّي أظنّك لو علمت أنّ الحرب تبلغ بنا و بك ما بلغت و علمنا، لم يحبّها بعض على بعض. و إنّا و إن كنّا قد غلبنا على عقولنا فقد بقى لنا منها ما يندم بها على ما مضى و نصلح به ما بقى، و قد كنت سألتك الشام على أن لا يلزمني منك طاعة و لا بيعة و أبيت ذلك علىّ فأعطانى اللّه ما منعت و أنا أدعوك اليوم إلى ما دعوتك إليه أمس فإنّك لا ترجومن البقاء إلّا ما أرجو و لا أخاف من القتل إلّا ما تخاف، و قدو اللّه رقّت الأجناد و ذهبت الرجال و أكلت الحرب العرب إلّا حشاشات أنفس بقيت، و إنّا في الحرب و الرجال سواء و نحن بنو عبد مناف و ليس لبعضنا على بعض فضل إلّا فضل لا يستذلّ به عزيز و لا يسترّق به حرّ. و السلام. فلمّا قرء علىّ عليه السّلام كتابه تعجّب منه و من كتابه ثمّ دعا عبد اللّه بن أبى رافع كاتبه و قال له: اكتب إليه: أمّا بعد فقد جاءني كتابك تذكر أنّك لو علمت و علمنا أنّ الحرب تبلغ بنا و بك ما بلغت لم يحبّها بعض على بعض و أنا و إيّاك في غاية لم نبلغها بعد، و أمّا طلبك إلى الشام. الفصل.
اللغة
الحشاشة: بقيّة الروح. و الطليق: الأسير الّذى اطلق من أسره و خلّى سبيله. و الصريح: الرجل خالص النسب. و اللصيق: الدعىّ الملصق بغير أبيه. و المدغل: الّذى اشتمل باطنه على فساد كنفاق و نحوه. و سلف الرجل: آباؤه المتقدّمون. و خلفه: من يجيء بعده. و نعشنا: رفعنا. و الفوج: الجماعة.
و قد أجاب عليه السّلام عن امور أربعة تضمّنها كتاب معاوية:
أحدها: أنّه استعطفه إلى البقيّة و استدرجه لوضع الحرب
بقوله: إنّك لو علمت. إلى قوله: ما بقي. و فيه إشعار بالجزع من عضّ الحرب و الخوف من دوامها فأجابه عليه السّلام بقوله: و أنا و إيّاك في غاية لم نبلغها بعد، و يفهم منه التهديد ببقاء الحرب إلى الغاية منها و هي الظفر به و هلاكه و هو مستلزم لتخويفه و التهويل عليه و منع ما طلب من وضع الحرب.
الثاني: أنّه سأل إقراره على الشام
مع نوع من التشجّع الموهم لعدم الانفعال و الضراعة، و ذلك في قوله: و قد كنت سألتك الشام. إلى قوله: أمس.
و قوله: فإنّك لا ترجو. إلى قوله: ما نخاف.
إشارة إلى كونهما سواء في رجاء البقاء و الخوف من القتل، و مقصود ذلك أن يوهم أنّه لا انفعال له عن تلك الحرب أيضا.
و قوله: و أنا أدعوك إلى ما دعوتك إليه أمس.
أى من طلب إقراره على الشام، و ذلك أنّه عليه السّلام حين بويع بالخلافة كان معاوية سأل منه إقراره على إمرة الشام، و نقل عن ابن عبّاس أنّه قال له عليه السّلام: ولّه شهرا و اعز له دهرا فإنّه بعد أن يبايعك لا يقدر على أن يعدل في إمرته و لا بدّ أن يجور فتعز له بذلك. فقال عليه السّلام: كلّا و ما كنت متّخذ المضلّين عضدا. و روى: أنّ المغيرة بن شعبة قال له عليه السّلام: إنّ لك حقّ الطاعة و النصيحة أقرر معاوية على عمله و العمّال على أعمالهم حتّى إذا أتتك طاعتهم و تبعة الجنود استبدلت أو تركت. فقال عليه السّلام: حتّى أنظر فخرج من عنده ثمّ عاد إليه من الغد فقال: إنّي أشرت عليك أمس برأى و إنّ الرأى أن تعاجلهم بالنزع فيعلم السامع من غيره و يستقلّ أمرك ثمّ خرج من عنده. فجائه ابن عبّاس فأخبره بما أشار إليه المغيرة من الرأيين. فقال: أمّا أمس فقد نصحك و أمّا اليوم فقد غشّك. و قد كان الرأي الدنياويّ الخالص في حفظ الملك ذلك لكنّه عليه السّلام لمّا لم يكن ليتساهل في شيء من أمر الدين أصلا و إن قلّ و كان إقرار معاوية و أمثاله على الأعمال يستلزم العدول في كثير من تصرّفاتهم عن سبيل اللّه لا جرم لم ير إقراره على العمل، و منعه ما سأل.
و لمّا كان منعه أوّلا ممّا سأل منعا خالصا للّه عن مشاركة الهوى و الميول الطبيعيّة لم يكن سؤاله ثانيا و استعطافه إيّاه مقرّبا له إلى إجابته خصوصا و قد أحدث تلك الحروب الشديدة الّتى أخذت من العرب ما أخذت و قتل من المهاجرين و الأنصار و ساير العرب من قتل، بل أجابه بعين ما أجابه أوّلا من الردّ و المنع في قوله: فلم أكن لاعطيك اليوم ما منعتك أمس. إذ العلّة في المنع قائمة في كلّ حين و زمان و هي المحافظة على دين اللّه.
الثالث: حفظ الرجال.
و التبقية على الأجناد لحفظ الإسلام و تقويمه أمر واجب فلا جرم استعطفه و استدرجه إلى التبقية عليهم بالتنبيه على ذلك بقوله: و قدو اللّه. إلى قوله: بقيت. فأجابه عليه السّلام ألا و من أكله الحقّ فإلى النار و هو كبرى قياس حذفت صغراه للعلم بها، و تقديرها: أنّ هؤلاء الأجناد الّذين قتلناهم إنّما قتلهم الحقّ: أى كان قتلهم بحقّ لبغيهم. و تقدير هذه الكبرى: و كلّ من قتله الحقّ فمصيره إلى النار فينتج أنّ مصير من قتل من هؤلاء إلى النار. ثمّ هذه النتيجة تنبيه على الجواب و هي في قوّة صغرى قياس ضمير تقدير كبراه: و كلّ من كان من أهل النار فلا يجوز التبقية عليه و لا الأسف لفقده.
الرابع: أوهم بقوله: و إنّا في الحرب و الرجال سواء.
على أنّه ممّن لا ينفعل عن هذه الحروب و إن اشتدّت، و أنّ الضعف و الهلاك إن جرى فعلى العسكرين. و فيه نوع تخويف و تهويل. فأجابه عليه السّلام بقوله: فلست بأمضى. إلى قوله: الآخرة، و وجه كون الأوّل جوابا أنّه يقول: إنّك في طلبك لما أنت طالب له على شكّ من استحقاقه و أنا على يقين في ذلك و كلّ من كان في شكّ من أمره فليس بأمضى في حربه و قيامه عليه ممّن هو على ثقة في أمره ينتج أنّك لست أمضى في أمرك على الشكّ منّى على اليقين في أمري. و يفهم من ذلك أنّه يقول: بل أنا أمضى في أمري و أولى بالغلبة لكوني على بصيرة و يقين. و حينئذ تكذب المساواة بينهما لكون المتيقّن أرجح في فعله من الشاكّ، و وجه كون الثاني جوابا أنّه يقول: إنّ أهل الشام يطلبون بقتالهم الدنيا و أهل العراق يطلبون بقتالهم الآخرة و ليس أهل الشام بأحرص على مطلوبهم من الدنيا من أهل العراق على مطلوبهم من الآخرة. و يفهم من ذلك أنّه يقول: بل أهل العراق أحرص على الآخرة من أهل الشام على الدنيا لشرف الآخرة و لتيقّنهم حصولها، و انقطاع الدنيا و شكّ أهل الشام في حصولها كما قال تعالى فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَ تَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ«» و حينئذ تكذب المساواة في الحرب و الرجال لشرف أهل الآخرة على أهل الدنيا و لكون الأحرص أولى بالغلبة و القهر.
الخامس: أنّه نبّه بقوله: و نحن بنو عبد مناف.
إلى آخره على مساواته له في الشرف و الفضيلة و هو في قوّة صغرى قياس ضمير من الأوّل. و تقدير كبراه: و كلّ قوم كانوا من بيت واحد فلا فضل لبعضهم على بعض و لا فخر. فأجابه عليه السّلام بالفرق بينهما بعد أن سلم له الاشتراك بينهما في كونهما من بنى عبد مناف و ذكر الفرق من وجوه خمسة بدء فيها بالامور الخارجة أوّلا من كمالاته و فضائله ورذائل خصمه متدرّجا منها إلى الأقرب فالأقرب. فالأوّل: شرفه من جهة الآباء المتفرّعين عن عبد مناف، و ذلك أنّ سلك آبائه عليه السّلام أبو طالب بن عبد المطّلب بن هاشم بن عبد مناف، و سلك آباء معاوية أبو سفيان بن حرب بن اميّة بن عبد مناف، و ظاهر أنّ كلّ واحد من اولئك الثلاثة أشرف ممّن هو في درجته من آباء معاوية. و قد ذكرنا طرفا من فضلهم على غيرهم. الثاني: شرفه من جهة هجرته مع الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و خسّة خصمه من جهة كونه طليقا و ابن طليق. و هذه الفضيلة و إن كانت خارجيّة إلّا أنّها تستلزم فضيلة نفسانيّة و هي حسن الإسلام و النيّة الصادقة الحقّة، و كذلك ما ذكر من رذيلة خصمه بدنيّة عرضت له إلّا أنّ هذه الفضيلة و الرذيلة أقرب من الاعتبارين الأوّلين لكونهما حقيقيّتين بالآباء و هميّتين بالأبناء دون هاتين. الثالث: و كذلك شرفه من جهة صراحة النسب و خسّة خصمه من جهة كونه دعيّا. و هذان الاعتباران أقرب ممّا قبلهما لكونهما اعتبارين لازمين لهما دون الأوّلين. الرابع: شرفه من جهة كونه محقّا فيما يقوله و يعتقده، و رذيلة خصمه من جهة كونه مبطلا. و هذان الاعتباران أقرب لكونهما من الكمالات و الرذائل الذاتيّة دون ما قبلهما. الخامس: شرفه من جهة كونه مؤمنا و المؤمن الحقّ هو المستكمل للكمالات الدينيّة النفسانيّة، و خسّة خصمه من جهة كونه مدغلا: أى خبيث الباطن مشتملا على النفاق و الرذائل الموبقة. و ظاهر أنّ هذين الاعتبارين أقرب الكمالات و الرذائل إلى العبد، و إنّما بدء بذكر الكمالات و الرذائل الخارجيّة لكونهما مسلّمة عند الخصم و أظهر له و للخلق من الامور الداخليّة. ثمّ لمّا ذكر الرذائل المتعلّقة بخصمه أشار إلى كونه في أفعاله و رذائله خلفا لسلف هوى في نار جهنّم. ثم رتّب ذمّه على ذلك.
و قوله: و لبئس الخلف. إلى قوله: جهنّم.
في قوّة كبرى قياس استغنى بمفهومها عن صغراه. و تقديرها: فأنت خلف تتبع سلفا، و كلّ خلف تتبع في أفعاله و رذائله سلفا هوى في نار جهنّم فهو كذلك، و كلّ من كان كذلك فبئس به. السادس: أنّ معاوية لمّا أكّد ما به علّق من المساواة في الفضل في قوله: و ليس لبعضنا على بعض فضل و استثنى من ذلك فقال: إلّا فضل لا يستذلّ به عزيز و لا يسترقّ به حرّ. أشار عليه السّلام إلى كبرى هى كالجواب لذلك و هو قوله: و في أيدينا بعد فضل النبوّة. إلى قوله: الذليل، و ظاهر أنّ هذا الفضل الّذي حصل في هذا البطن من هاشم هو سبب إذلالهم الأعزّاء و إنعاشهم و تقويتهم الأذّلاء و استرقاقهم الأحرار، و ذلك فضل عريت عنه بنو اميّة و غيرهم. فإذن قوله: و ليس لبعضنا على بعض فضل إلّا فضل لا يستذّل به عزيز. إلى آخره قول باطل. ثمّ أردف هذه الفضيلة بذكر رذيلة لخصمه بالنسبة إلى فضيلة شملت كثيرا من العرب، و تلك هي دخولهم في الإسلام لا للّه بل إمّا لرغبة أو رهبة على حين فاز أهل السبق بسبقهم إلى اللّه و حصل المهاجرون و الأنصار على ما حصلوا عليه من الفضايل المسعدة. ثمّ لمّا ظهر هذه الفرق من فضائله و رذائل خصمه نهاه عن أمرين: أحدهما: أن لا يجعل للشيطان في نفسه نصيبا. و هو كناية عن النهى عن اتّباعه للهوى. و الثاني: أن لا يجعل له عليه سبيلا. و هو كناية عن النهى عن انفعاله عنه و فتح باب الوسوسة عليه، و هذا النهى يفهم منه أنّه قد جعل للشيطان في نفسه نصيبا و له عليه سبيلا و أنّ ذلك النهى في معرض التوبيخ له على ذلك. و باللّه التوفيق.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 4 ، صفحهى 389