1 من كتاب له ع إلى أهل الكوفة- عند مسيره من المدينة إلى البصرة
مِنْ عَبْدِ اللَّهِ عَلِيٍّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ- جَبْهَةِ الْأَنْصَارِ وَ سَنَامِ الْعَرَبِ- أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أُخْبِرُكُمْ عَنْ أَمْرِ عُثْمَانَ- حَتَّى يَكُونَ سَمْعُهُ كَعِيَانِهِ- إِنَّ النَّاسَ طَعَنُوا عَلَيْهِ- فَكُنْتُ رَجُلًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ أُكْثِرُ اسْتِعْتَابَهُ- وَ أُقِلُّ عِتَابَهُ- وَ كَانَ طَلْحَةُ وَ الزُّبَيْرُ أَهْوَنُ سَيْرِهِمَا فِيهِ الْوَجِيفُ- وَ أَرْفَقُ حِدَائِهِمَا الْعَنِيفُ- وَ كَانَ مِنْ عَائِشَةَ فِيهِ فَلْتَةُ غَضَبٍ- فَأُتِيحَ لَهُ قَوْمٌ قَتَلُوهُ- وَ بَايَعَنِي النَّاسُ غَيْرَ مُسْتَكْرَهِينَ- وَ لَا مُجْبَرِينَ بَلْ طَائِعِينَ مُخَيَّرِينَ- وَ اعْلَمُوا أَنَّ دَارَ الْهِجْرَةِ قَدْ قَلَعَتْ بِأَهْلِهَا وَ قَلَعُوا بِهَا- وَ جَاشَتْ جَيْشَ الْمِرْجَلِ- وَ قَامَتِ الْفِتْنَةُ عَلَى الْقُطْبِ- فَأَسْرِعُوا إِلَى أَمِيرِكُمْ- وَ بَادِرُوا جِهَادَ عَدُوِّكُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ قوله جبهة الأنصار- يمكن أن يريد جماعة الأنصار- فإن الجبهة في اللغة الجماعة- و يمكن أن يريد به سادة الأنصار و أشرافهم- لأن جبهة الإنسان أعلى أعضائه- و ليس يريد بالأنصار هاهنا بني قيلة- بل الأنصار هاهنا الأعوان- .
قوله ع و سنام العرب- أي أهل الرفعة و العلو منهم- لأن السنام أعلى أعضاء البعير- . قوله ع أكثر استعتابه و أقل عتابه- الاستعتاب طلب العتبى و هي الرضا- قال كنت أكثر طلب رضاه- و أقل عتابه و تعنيفه على الأمور- و أما طلحة و الزبير فكانا شديدين عليه- . و الوجيف سير سريع- و هذا مثل للمشمرين في الطعن عليه- حتى إن السير السريع أبطأ ما يسيران في أمره- و الحداء العنيف أرفق ما يحرضان به عليه- . و دار الهجرة المدينة- . و قوله قد قلعت بأهلها و قلعوا بها- الباء هاهنا زائدة في أحد الموضعين- و هو الأول و بمعنى من في الثاني- يقول فارقت أهلها و فارقوها- و منه قولهم هذا منزل قلعة- أي ليس بمستوطن- . و جاشت اضطربت و المرجل القدر- . و من لطيف الكلام قوله ع- فكنت رجلا من المهاجرين- فإن في ذلك من التخلص و التبري- ما لا يخفى على المتأمل- أ لا ترى أنه لم يبق عليه في ذلك حجة لطاعن- حيث كان قد جعل نفسه كواحد من عرض المهاجرين- الذين بنفر يسير منهم انعقدت خلافة أبي بكر- و هم أهل الحل و العقد- و إنما كان الإجماع حجة لدخولهم فيه- . و من لطيف الكلام أيضا قوله فأتيح له قوم قتلوه- و لم يقل أتاح الله له قوما- و لا قال أتاح له الشيطان قوما- و جعل الأمر مبهما- . و قد ذكر أن خط الرضي رحمه الله مستكرهين بكسر الراء- و الفتح أحسن و أصوب- و إن كان قد جاء استكرهت الشيء بمعنى كرهته- .
و قال الراوندي- المراد بدار الهجرة هاهنا الكوفة- التي هاجر أمير المؤمنين ع إليها و ليس بصحيح- بل المراد المدينة و سياق الكلام يقتضي ذلك- و لأنه كان حين كتب هذا الكتاب- إلى أهل الكوفة بعيدا عنهم- فكيف يكتب إليهم يخبرهم عن أنفسهم
أخبار علي عند مسيره إلى البصرة و رسله إلى أهل الكوفة
و روى محمد بن إسحاق- عن عمه عبد الرحمن بن يسار القرشي- قال لما نزل علي ع الربذة متوجها إلى البصرة- بعث إلى الكوفة محمد بن جعفر بن أبي طالب- و محمد بن أبي بكر الصديق- و كتب إليهم هذا الكتاب و
زاد في آخره فحسبي بكم إخوانا و للدين أنصارا- ف انْفِرُوا خِفافاً وَ ثِقالًا- وَ جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ- ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ و روى أبو مخنف قال حدثني الصقعب قال سمعت عبد الله بن جنادة يحدث أن عليا ع لما نزل الربذة- بعث هاشم بن عتبة بن أبي وقاص إلى أبي موسى الأشعري- و هو الأمير يومئذ على الكوفة لينفر إليه الناس- و كتب إليه معه- من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس- أما بعد فإني قد بعثت إليك هاشم بن عتبة- لتشخص إلي من قبلك من المسلمين- ليتوجهوا إلى قوم نكثوا بيعتي و قتلوا شيعتي- و أحدثوا في الإسلام هذا الحدث العظيم- فاشخص بالناس إلي معه حين يقدم عليك- فإني لم أولك المصر الذي أنت فيه- و لم أقرك عليه إلا لتكون من أعواني على الحق- و أنصاري على هذا الأمر و السلام .
فأما رواية محمد بن إسحاق فإنه قال- لما قدم محمد بن جعفر و محمد بن أبي بكر الكوفة- استنفرا الناس- فدخل قوم منهم على أبي موسى ليلا فقالوا له- أشر علينا برأيك في الخروج- مع هذين الرجلين إلى علي ع- فقال أما سبيل الآخرة فالزموا بيوتكم- و أما سبيل الدنيا فاشخصوا معهما- فمنع بذلك أهل الكوفة من الخروج- و بلغ ذلك المحمدين فأغلظا لأبي موسى- فقال أبو موسى و الله إن بيعة عثمان لفي عنق علي- و عنقي و أعناقكما- و لو أردنا قتالا ما كنا لنبدأ بأحد قبل قتلة عثمان- فخرجا من عنده فلحقا بعلي ع فأخبراه الخبر- . و أما رواية أبي مخنف فإنه قال- إن هاشم بن عتبة لما قدم الكوفة- دعا أبو موسى السائب بن مالك الأشعري- فاستشاره فقال اتبع ما كتب به إليك- فأبى ذلك و حبس الكتاب- و بعث إلى هاشم يتوعده و يخوفه- .
قال السائب فأتيت هاشما فأخبرته برأي أبي موسى- فكتب إلى علي ع- لعبد الله علي أمير المؤمنين من هاشم بن عتبة- أما بعد يا أمير المؤمنين- فإني قدمت بكتابك على امرئ مشاق بعيد الود- ظاهر الغل و الشنآن فتهددني بالسجن- و خوفني بالقتل- و قد كتبت إليك هذا الكتاب- مع المحل بن خليفة أخي طيئ- و هو من شيعتك و أنصارك و عنده علم ما قبلنا- فاسأله عما بدا لك و اكتب إلي برأيك و السلام- . قال فلما قدم المحل بكتاب هاشم على علي ع- سلم عليه ثم قال- الحمد لله الذي أدى الحق إلى أهله- و وضعه موضعه- فكره ذلك قوم قد و الله كرهوا نبوة محمد ص- ثم بارزوه و جاهدوه- فرد الله عليهم كيدهم في نحورهم- و جعل دائرة السوء عليهم- و الله يا أمير المؤمنين لنجاهدنهم معك في كل موطن- حفظا لرسول الله ص في أهل بيته- إذ صاروا أعداء لهم بعده- .
فرحب به علي ع و قال له خيرا- ثم أجلسه إلى جانبه و قرأ كتاب هاشم- و سأله عن الناس و عن أبي موسى- فقال و الله يا أمير المؤمنين- ما أثق به و لا آمنه على خلافك- إن وجد من يساعده على ذلك- فقال علي ع- و الله ما كان عندي بمؤتمن و لا ناصح- و لقد أردت عزله فأتاني الأشتر فسألني أن أقره- و ذكر أن أهل الكوفة به راضون فأقررته و روى أبو مخنف قال و بعث علي ع من الربذة- بعد وصول المحل بن خليفة أخي طيئ- عبد الله بن عباس و محمد بن أبي بكر إلى أبي موسى- و كتب معهما- من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس- أما بعد يا ابن الحائك يا عاض أير أبيه- فو الله إني كنت لأرى أن بعدك من هذا الأمر- الذي لم يجعلك الله له أهلا و لا جعل لك فيه نصيبا- سيمنعك من رد أمري و الانتزاء علي- و قد بعثت إليك ابن عباس و ابن أبي بكر- فخلهما و المصر و أهله- و اعتزل عملنا مذءوما مدحورا- فإن فعلت و إلا فإني قد أمرتهما- أن ينابذاك على سواء- إن الله لا يهدي كيد الخائنين- فإذا ظهرا عليك قطعاك إربا إربا- و السلام على من شكر النعمة- و وفى بالبيعة و عمل برجاء العاقبة – .
قال أبو مخنف- فلما أبطأ ابن عباس و ابن أبي بكر- عن علي ع- و لم يدر ما صنعا- رحل عن الربذة إلى ذي قار فنزلها- فلما نزل ذا قار بعث إلى الكوفة الحسن ابنه ع- و عمار بن ياسر و زيد بن صوحان- و قيس بن سعد بن عبادة و معهم كتاب إلى أهل الكوفة- فأقبلوا حتى كانوا بالقادسية فتلقاهم الناس- فلما دخلوا الكوفة قرءوا كتاب علي و هو من عبد الله علي أمير المؤمنين- إلى من بالكوفة من المسلمين-أما بعد فإني خرجت مخرجي هذا- إما ظالما و إما مظلوما- و إما باغيا و إما مبغيا علي- فأنشد الله رجلا بلغه كتابي هذا إلا نفر إلي- فإن كنت مظلوما أعانني- و إن كنت ظالما استعتبني و السلام
قال أبو مخنف- فحدثني موسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى- عن أبيه قال أقبلنا مع الحسن- و عمار بن ياسر من ذي قار- حتى نزلنا القادسية فنزل الحسن و عمار- و نزلنا معهما فاحتبى عمار بحمائل سيفه- ثم جعل يسأل الناس عن أهل الكوفة و عن حالهم- ثم سمعته يقول- ما تركت في نفسي حزة أهم إلي- من ألا نكون نبشنا عثمان من قبره ثم أحرقناه بالنار- .
قال فلما دخل الحسن و عمار الكوفة- اجتمع إليهما الناس فقام الحسن- فاستنفر الناس فحمد الله و صلى على رسوله ثم قال- أيها الناس- إنا جئنا ندعوكم إلى الله و إلى كتابه و سنة رسوله- و إلى أفقه من تفقه من المسلمين- و أعدل من تعدلون و أفضل من تفضلون- و أوفى من تبايعون من لم يعبه القرآن- و لم تجهله السنة و لم تقعد به السابقة- إلى من قربه الله تعالى إلى رسوله قرابتين- قرابة الدين و قرابة الرحم- إلى من سبق الناس إلى كل مأثرة- إلى من كفى الله به رسوله و الناس متخاذلون- فقرب منه و هم متباعدون و صلى معه و هم مشركون- و قاتل معه و هم منهزمون- و بارز معهم و هم محجمون و صدقه و هم يكذبون- إلى من لم ترد له رواية و لا تكافأ له سابقة- و هو يسألكم النصر و يدعوكم إلى الحق- و يأمركم بالمسير إليه- لتوازروه و تنصروه على قوم نكثوا بيعته- و قتلوا أهل الصلاح من أصحابه- و مثلوا بعماله و انتهبوا بيت ماله- فاشخصوا إليه رحمكم الله- فمروا بالمعروف و انهوا عن المنكر- و احضروا بما يحضر به الصالحون .
قال أبو مخنف حدثني جابر بن يزيد- قال حدثني تميم بن حذيم الناجي- قال قدم علينا الحسن بن علي ع- و عمار بن ياسر يستنفران الناس إلى علي ع- و معهما كتابه فلما فرغا من قراءة كتابه- قام الحسن و هو فتى حدث- و الله إني لأرثي له من حداثة سنه و صعوبة مقامه- فرماه الناس بأبصارهم و هم يقولون- اللهم سدد منطق ابن بنت نبينا- فوضع يده على عمود يتساند إليه- و كان عليلا من شكوى به-
فقال الحمد لله العزيز الجبار الواحد القهار- الكبير المتعال- سواء منكم من أسر القول و من جهر به- و من هو مستخف بالليل و سارب بالنهار- أحمده على حسن البلاء و تظاهر النعماء- و على ما أحببنا و كرهنا من شدة و رخاء- و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له- و أن محمدا عبده و رسوله امتن علينا بنبوته- و اختصه برسالته و أنزل عليه وحيه- و اصطفاه على جميع خلقه و أرسله إلى الإنس و الجن- حين عبدت الأوثان و أطيع الشيطان- و جحد الرحمن فصلى الله عليه و على آله و جزاه أفضل ما جزى المسلمين- أما بعد فإني لا أقول لكم إلا ما تعرفون- إن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب- أرشد الله أمره و أعز نصره- بعثني إليكم يدعوكم إلى الصواب- و إلى العمل بالكتاب و الجهاد في سبيل الله- و إن كان في عاجل ذلك ما تكرهون- فإن في آجله ما تحبون إن شاء الله- و لقد علمتم أن عليا صلى مع رسول الله ص وحده- و إنه يوم صدق به لفي عاشرة من سنه- ثم شهد مع رسول الله ص جميع مشاهده- و كان من اجتهاده في مرضاة الله و طاعة رسوله- و آثاره الحسنة في الإسلام ما قد بلغكم- و لم يزل رسول الله ص راضيا عنه- حتى غمضه بيده و غسله وحده- و الملائكة أعوانه و الفضل ابن عمه ينقل إليه الماء- ثم أدخله حفرته و أوصاه بقضاء دينه و عداته- و غير ذلك من أموره- كل ذلك من من الله عليه- ثم و الله ما دعا إلى نفسه- و لقد تداك الناس عليه- تداك الإبل الهيم عند ورودها- فبايعوه طائعين- ثم نكث منهم ناكثون بلا حدث أحدثه- و لا خلاف أتاه حسدا له و بغيا عليه- فعليكم عباد الله بتقوى الله و طاعته- و الجد و الصبر و الاستعانة بالله-و الخفوف إلى ما دعاكم إليه أمير المؤمنين- عصمنا الله و إياكم بما عصم به أولياءه و أهل طاعته- و ألهمنا و إياكم تقواه- و أعاننا و إياكم على جهاد أعدائه- و أستغفر الله العظيم لي و لكم ثم مضى إلى الرحبة فهيأ منزلا لأبيه أمير المؤمنين- . قال جابر فقلت لتميم- كيف أطاق هذا الغلام ما قد قصصته من كلامه- فقال و لما سقط عني من قوله أكثر- و لقد حفظت بعض ما سمعت- .
قال و لما نزل علي ع ذا قار- كتبت عائشة إلى حفصة بنت عمر أما بعد- فإني أخبرك أن عليا قد نزل ذا قار- و أقام بها مرعوبا خائفا لما بلغه من عدتنا و جماعتنا- فهو بمنزلة الأشقر- إن تقدم عقر و إن تأخر نحر- فدعت حفصة جواري لها يتغنين و يضربن بالدفوف- فأمرتهن أن يقلن في غنائهن- ما الخبر ما الخبر علي في السفر كالفرس الأشقر- إن تقدم عقر و إن تأخر نحر- . و جعلت بنات الطلقاء يدخلن على حفصة- و يجتمعن لسماع ذلك الغناء- . فبلغ أم كلثوم بنت علي ع فلبست جلابيبها- و دخلت عليهن في نسوة متنكرات- ثم أسفرت عن وجهها فلما عرفتها حفصة خجلت- و استرجعت فقالت أم كلثوم- لئن تظاهرتما عليه منذ اليوم- لقد تظاهرتما على أخيه من قبل فأنزل الله فيكما ما أنزل- فقالت حفصة كفى رحمك الله- و أمرت بالكتاب فمزق و استغفرت الله- . قال أبو مخنف- روى هذا جرير بن يزيد عن الحكم- و رواه الحسن بن دينار عن الحسن البصري و ذكر الواقدي مثل ذلك- و ذكر المدائني أيضا مثله- قال فقال سهل بن حنيف في ذلك هذه الأشعار-
عذرنا الرجال بحرب
الرجال فما للنساء و ما للسباب
أ ما حسبنا ما أتينا به
لك الخير من هتك ذاك الحجاب
و مخرجها اليوم من بيتها
يعرفها الذنب نبح الكلاب
إلى أن أتانا كتاب لها
مشوم فيا قبح ذاك الكتاب
قال فحدثنا الكلبي عن أبي صالح- أن عليا ع لما نزل ذا قار في قلة من عسكره- صعد الزبير منبر البصرة- فقال أ لا ألف فارس أسير بهم إلى علي- فأبيته بياتا و أصبحه صباحا- قبل أن يأتيه المدد- فلم يجبه أحد فنزل واجما- و قال هذه و الله الفتنة التي كنا نحدث بها- فقال له بعض مواليه رحمك الله يا أبا عبد الله- تسميها فتنة ثم نقاتل فيها- فقال ويحك و الله إنا لنبصر ثم لا نصبر- فاسترجع المولى ثم خرج في الليل فارا- إلى علي ع فأخبره فقال اللهم عليك به- .
قال أبو مخنف- و لما فرغ الحسن بن علي ع من خطبته- قام بعده عمار فحمد الله و أثنى عليه- و صلى على رسوله ثم قال أيها الناس- أخو نبيكم و ابن عمه يستنفركم لنصر دين الله- و قد بلاكم الله بحق دينكم- و حرمة أمكم فحق دينكم أوجب و حرمته أعظم- أيها الناس عليكم بإمام لا يؤدب- و فقيه لا يعلم و صاحب بأس لا ينكل- و ذي سابقة في الإسلام ليست لأحد- و إنكم لو قد حضرتموه بين لكم أمركم إن شاء الله- .
قال فلما سمع أبو موسى خطبة الحسن و عمار- قام فصعد المنبر و قال- الحمد لله الذي أكرمنا بمحمد فجمعنا بعد الفرقة- و جعلنا إخوانا متحابين بعد العداوة- و حرم علينا دماءنا و أموالنا قال الله سبحانه- وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ-و قال تعالى وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها- فاتقوا الله عباد الله و ضعوا أسلحتكم- و كفوا عن قتال إخوانكم- . أما بعد يا أهل الكوفة إن تطيعوا الله باديا- و تطيعوني ثانيا تكونوا جرثومة من جراثيم العرب- يأوي إليكم المضطر و يأمن فيكم الخائف- إن عليا إنما يستنفركم لجهاد أمكم عائشة- و طلحة و الزبير حواري رسول الله- و من معهم من المسلمين- و أنا أعلم بهذه الفتن أنها إذا أقبلت شبهت- و إذا أدبرت أسفرت- إني أخاف عليكم أن يلتقي غاران منكم فيقتتلا- ثم يتركا كالأحلاس الملقاة بنجوة من الأرض- ثم يبقى رجرجة من الناس- لا يأمرون بالمعروف و لا ينهون عن منكر- إنها قد جاءتكم فتنة كافرة لا يدرى من أين تؤتى- تترك الحليم حيران- كأني أسمع رسول الله ص بالأمس يذكر الفتن- فيقول أنت فيها نائما خير منك قاعدا- و أنت فيها جالسا خير منك قائما- و أنت فيها قائما خير منك ساعيا- فثلموا سيوفكم و قصفوا رماحكم- و انصلوا سهامكم و قطعوا أوتاركم- و خلوا قريشا ترتق فتقها- و ترأب صدعها فإن فعلت فلأنفسها ما فعلت- و إن أبت فعلى أنفسها ما جنت سمنها في أديمها- استنصحوني و لا تستغشوني- و أطيعوني و لا تعصوني- يتبين لكم رشدكم و يصلى هذه الفتنة من جناها- فقام إليه عمار بن ياسر فقال- أنت سمعت رسول الله ص يقول ذلك- قال نعم هذه يدي بما قلت- فقال إن كنت صادقا فإنما عناك بذلك وحدك- و اتخذ عليك الحجة- فالزم بيتك و لا تدخلن في الفتنة- أما إني أشهد أن رسول الله ص- أمر عليا بقتال الناكثين- و سمى له فيهم من سمى- و أمره بقتال القاسطين- و إن شئت لأقيمن لك شهودا يشهدون- أن رسول الله ص إنما نهاك وحدك- و حذرك من الدخول في الفتنة- ثم قال له أعطني يدك على ما سمعت- فمد إليه يده- فقال له عمار غلب الله من غالبه و جاهده- ثم جذبه فنزل عن المنبر- .
و روى محمد بن جرير الطبري في التاريخ- قال لما أتى عليا ع الخبر و هو بالمدينة- بأمر عائشة و طلحة و الزبير- و أنهم قد توجهوا نحو العراق- خرج يبادر و هو يرجو أن يدركهم و يردهم- فلما انتهى إلى الربذة أتاه عنهم أنهم قد أمعنوا- فأقام بالربذة أياما- و أتاه عنهم أنهم يريدون البصرة فسر بذلك- و قال إن أهل الكوفة أشد لي حبا- و فيهم رؤساء العرب و أعلامهم- فكتب إليهم- إني قد اخترتكم على الأمصار و إني بالأثر- .
قال أبو جعفر محمد بن جرير رحمه الله كتب علي ع من الربذة إلى أهل الكوفة- أما بعد فإني قد اخترتكم- و آثرت النزول بين أظهركم- لما أعرف من مودتكم و حبكم لله و رسوله- فمن جاءني و نصرني فقد أجاب الحق- و قضى الذي عليه – .
قال أبو جعفر- فأول من بعثه علي ع من الربذة إلى الكوفة- محمد بن أبي بكر و محمد بن جعفر- فجاء أهل الكوفة إلى أبي موسى و هو الأمير عليهم- ليستشيروه في الخروج إلى علي بن أبي طالب ع- فقال لهم أما سبيل الآخرة فأن تقعدوا- و أما سبيل الدنيا فأن تخرجوا- . و بلغ المحمدين قول أبي موسى الأشعري- فأتياه و أغلظا له فأغلظ لهما- و قاللا يحل لك القتال مع علي- حتى لا يبقى أحد من قتلة عثمان إلا قتل- حيث كان- و قالت أخت علي بن عدي- من بني عبد العزى بن عبد شمس- و كان أخوها علي بن عدي من شيعة علي ع- و في جملة عسكره-
لا هم فاعقر بعلي جمله
و لا تبارك في بعير حمله
ألا علي بن عدي ليس له
قال أبو جعفر ثم أجمع علي ع على المسير- من الربذة إلى البصرة- فقام إليه رفاعة بن رافع- فقال يا أمير المؤمنين- أي شيء تريد و أين تذهب بنا- قال أما الذي نريد و ننوي فإصلاح- إن قبلوا منا و أجابوا إليه- قال فإن لم يقبلوا- قال ندعوهم و نعطيهم من الحق ما نرجو أن يرضوا به- قال فإن لم يرضوا قال ندعهم ما تركونا- قال فإن لم يتركونا- قال نمتنع منهم قال فنعم إذا- . و قام الحجاج بن غزية الأنصاري- فقال و الله يا أمير المؤمنين لأرضينك بالفعل- كما أرضيتني منذ اليوم بالقول ثم قال-
دراكها دراكها قبل الفوت
و انفر بنا و اسم بنا نحو الصوت
لا وألت نفسي إن خفت الموت
و لله لننصرن الله عز و جل كما سمانا أنصارا- . قال أبو جعفر رحمه الله- و سار علي ع نحو البصرة- و رأيته مع ابنه محمد بن الحنفية- و على ميمنته عبد الله بن عباس- و على ميسرته عمر بن أبي سلمة- و علي ع في القلب على ناقة حمراء- يقود فرسا كميتا- فتلقاه بفيد غلام من بني سعد بن ثعلبة يدعى مرة- فقال من هؤلاء- قيل هذا أمير المؤمنين فقال- سفرة قانية فيها دماء من نفوس فانية- فسمعها علي ع فدعاه- فقال ما اسمك قال مرة- قال أمر الله عيشك أ كاهن سائر اليوم- قال بل عائف فخلى سبيله- و نزل بفيد فأتته أسد و طيئ- فعرضوا عليه أنفسهم- فقال الزموا قراركم ففي المهاجرين كفاية- . و قدم رجل من الكوفة فيدا- فأتى عليا ع فقال له من الرجل- قال عامر بن مطرف- قال الليثي قال الشيباني- قال أخبرني عما وراءك- قال إن أردت الصلح فأبو موسى صاحبك- و إن أردت القتال فأبو موسى ليس لك بصاحب- فقال ع ما أريد إلا الصلح إلا أن يرد علينا
قال أبو جعفر و قدم عليه عثمان بن حنيف- و قد نتف طلحة و الزبير شعر رأسه و لحيته و حاجبيه- فقال يا أمير المؤمنين- بعثتني ذا لحية و جئتك أمرد- فقال أصبت خيرا و أجرا- ثم قال أيها الناس إن طلحة و الزبير بايعاني- ثم نكثاني بيعتي و ألبا علي الناس- و من العجب انقيادهما لأبي بكر و عمر و خلافهما علي- و الله إنهما ليعلمان أني لست بدونهما- اللهم فاحلل ما عقدا- و لا تبرم ما قد أحكما في أنفسهما- و أرهما المساءة فيما قد عملا – .
قال أبو جعفر- و عاد محمد بن أبي بكر و محمد بن جعفر إلى علي ع- فلقياه و قد انتهى إلى ذي قار فأخبراه الخبر- فقال علي ع لعبد الله بن العباس- اذهب أنت إلى الكوفة فادع أبا موسى إلى الطاعة- و حذره من العصيان و الخلاف و استنفر الناس- فذهب عبد الله بن عباس حتى قدم الكوفة- فلقي أبا موسى و اجتمع الرؤساء من أهل الكوفة- فقام أبو موسى فخطبهم و قال- إن أصحاب رسول الله ص صحبوه في مواطن كثيرة- فهم أعلم بالله ممن لم يصحبه- و إن لكم علي حقاو أنا مؤديه إليكم- أمر ألا تستخفوا بسلطان الله- و ألا تجترءوا على الله أن تأخذوا كل من قدم عليكم- من أهل المدينة في هذا الأمر فتردوه إلى المدينة- حتى تجتمع الأمة على إمام ترتضي به- إنها فتنة صماء النائم فيها خير من اليقظان- و اليقظان خير من القاعد و القاعد خير من القائم- و القائم خير من الراكب- فكونوا جرثومة من جراثيم العرب- أغمدوا سيوفكم و أنصلوا أسنتكم- و اقطعوا أوتار قسيكم- حتى يلتئم هذا الأمر و تنجلي هذه الفتنة- .
قال أبو جعفر رحمه الله- فرجع ابن عباس إلى علي ع فأخبره- فدعا الحسن ابنه ع و عمار بن ياسر- و أرسلهما إلى الكوفة- فلما قدماها كان أول من أتاهما مسروق بن الأجدع- فسلم عليهما و أقبل على عمار- فقال يا أبا اليقظان علام قتلتم أمير المؤمنين- قال على شتم أعراضنا و ضرب أبشارنا- قال فو الله ما عاقبتم بمثل ما عوقبتم به- و لئن صبرتم لكان خيرا للصابرين- ثم خرج أبو موسى فلقي الحسن ع فضمه إليه- و قال لعمار يا أبا اليقظان- أ غدوت فيمن غدا على أمير المؤمنين- و أحللت نفسك مع الفجار- قال لم أفعل و لم تسوءني- فقطع عليهما الحسن و قال لأبي موسى- يا أبا موسى لم تثبط الناس عنا- فو الله ما أردنا إلا الإصلاح- و ما مثل أمير المؤمنين يخاف على شيء- قال أبو موسى صدقت بأبي و أمي- و لكن المستشار مؤتمن- سمعت رسول الله ص يقول- ستكون فتنة و ذكر تمام الحديث- فغضب عمار و ساءه ذلك و قال أيها الناس- إنما قال رسول الله ص ذلك له خاصة- و قام رجل من بني تميم- فقال لعمار اسكت أيها العبد- أنت أمس مع الغوغاء و تسافه أميرنا اليوم- و ثار زيد بن صوحان و طبقته فانتصروا لعمار- و جعل أبو موسى يكف الناس و يردعهم عن الفتنة- ثم انطلق حتى صعد المنبر- و أقبل زيد بن صوحان و معه كتاب من عائشة إليه خاصة- و كتاب منها إلى أهل الكوفة عامة- تثبطهم عن نصرة
علي و تأمرهم بلزوم الأرض- و قال أيها الناس انظروا إلى هذه- أمرت أن تقر في بيتها- و أمرنا نحن أن نقاتل حتى لا تكون فتنة- فأمرتنا بما أمرت به و ركبت ما أمرنا به- فقام إليه شبث بن ربعي فقال له- و ما أنت و ذاك أيها العماني الأحمق- سرقت أمس بجلولاء فقطعك الله و تسب أم المؤمنين- فقام زيد و شال يده المقطوعة- و أومأ بيده إلى أبي موسى و هو على المنبر- و قال له يا عبد الله بن قيس أ ترد الفرات عن أمواجه- دع عنك ما لست تدركه ثم قرأ- الم أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا- أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا… الآيتين- ثم نادى سيروا إلى أمير المؤمنين و صراط سيد المرسلين- و انفروا إليه أجمعين- و قام الحسن بن علي ع- فقال أيها الناس أجيبوا دعوة إمامكم- و سيروا إلى إخوانكم- فإنه سيوجد لهذا الأمر من ينفر إليه- و الله لأن يليه أولو النهى- أمثل في العاجلة و خير في العاقبة- فأجيبوا دعوتنا و أعينونا على أمرنا أصلحكم الله- .
و قام عبد خير فقال يا أبا موسى- أخبرني عن هذين الرجلين- أ لم يبايعا عليا قال بلى- قال أ فأحدث علي حدثا يحل به نقض بيعته- قال لا أدري قال لا دريت و لا أتيت- إذا كنت لا تدري فنحن تاركوك حتى تدري- أخبرني هل تعلم أحدا خارجا عن هذه الفرق الأربع- علي بظهر الكوفة و طلحة و الزبير بالبصرة- و معاوية بالشام و فرقة رابعة بالحجاز- قعود لا يجبى بهم فيء و لا يقاتل بهم عدو- فقال أبو موسى أولئك خير الناس- قال عبد خير اسكت يا أبا موسى- فقد غلب عليك غشك- . قال أبو جعفر- و أتت الأخبار عليا ع باختلاف الناس بالكوفة- فقال للأشتر- أنت شفعت في أبي موسى أن أقره على الكوفة- فاذهب فأصلح ما أفسدت-
فقام الأشتر فشخص نحو الكوفة- فأقبل حتى دخلها و الناس في المسجد الأعظم- فجعل لا يمر بقبيلة إلا دعاهم- و قال اتبعوني إلى القصر- حتى وصل القصر فاقتحمه- و أبو موسى يومئذ يخطب الناس على المنبر و يثبطهم- و عمار يخاطبه و الحسن ع يقول- اعتزل عملنا و تنح عن منبرنا لا أم لك- .
قال أبو جعفر فروى أبو مريم الثقفي- قال و الله إني لفي المسجد يومئذ- إذ دخل علينا غلمان أبي موسى- يشتدون و يبادرون أبا موسى- أيها الأمير هذا الأشتر قد جاء- فدخل القصر فضربنا و أخرجنا- فنزل أبو موسى من المنبر و جاء حتى دخل القصر- فصاح به الأشتر اخرج من قصرنا لا أم لك- أخرج الله نفسك- فو الله إنك لمن المنافقين قديما- قال أجلني هذه العشية قال قد أجلتك- و لا تبيتن في القصر الليلة- و دخل الناس ينتهبون متاع أبي موسى- فمنعهم الأشتر و قال إني قد أخرجته و عزلته عنكم- فكف الناس حينئذ عنه- .
قال أبو جعفر فروى الشعبي- عن أبي الطفيل قال قال علي ع يأتيكم من الكوفة اثنا عشر ألف رجل و رجل واحد – فو الله لقعدت على نجفة ذي قار- فأحصيتهم واحدا واحدا- فما زادوا رجلا و لا نقصوا رجلا
فصل في نسب عائشة و أخبارها
و ينبغي أن نذكر في هذا الموضع- طرفا من نسب عائشة و أخبارها- و ما يقوله أصحابنا المتكلمون فيها- جريا على عادتنا في ذكر مثل ذلك- كلما مررنا بذكر أحد من الصحابة-أما نسبها فإنها ابنة أبي بكر- و قد ذكرنا نسبه فيما تقدم- و أمها أم رومان ابنة عامر بن عويمر- بن عبد شمس بن عتاب بن أذينة بن سبيع- بن دهمان بن الحارث بن تميم بن مالك بن كنانة- تزوجها رسول الله ص بمكة قبل الهجرة بسنتين- و قيل بثلاث و هي بنت ست سنين- و قيل بنت سبع سنين- و بنى عليها بالمدينة و هي بنت تسع لم يختلفوا في ذلك- .
و كانت تذكر لجبير بن مطعم و تسمى له- و ورد في الأخبار الصحيحة- أن رسول الله ص أري عائشة في المنام في سرقة حرير- متوفى خديجة رضي الله عنها- فقال إن يكن هذا من عند الله يمضه- فتزوجها بعد موت خديجة بثلاث سنين- و تزوجها في شوال و أعرس بها بالمدينة في شوال- على رأس ثمانية عشر شهرا من مهاجره إلى المدينة- . و قال ابن عبد البر في كتاب الإستيعاب- كانت عائشة تحب أن تدخل النساء- من أهلها و أحبتها في شوال على أزواجهن- و تقول هل كان في نسائه أحظى عنده مني- و قد نكحني و بنى علي في شوال- . قلت قرئ هذا الكلام على بعض الناس- فقال كيف رأت الحال بينها و بين أحمائها- و أهل بيت زوجها- .
و روى أبو عمر بن عبد البر في الكتاب المذكور- أن رسول الله ص توفي عنها- و هي بنت ثمان عشرة سنة- فكان سنها معه تسع سنين و لم ينكح بكرا غيرها- و استأذنت رسول الله ص في الكنية- فقال لها اكتني بابنك عبد الله بن الزبير- يعني ابن أختها- فكانت كنيتها أم عبد الله- و كانت فقيهة عالمة بالفرائض و الشعر و الطب- .
و روي أن النبي ص قال فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على الطعام – و أصحابنا يحملون لفظة النساء- في هذا الخبر على زوجاته- لأن فاطمة ع عندهم أفضل منها لقوله ص إنها سيدة نساء العالمين – . و قذفت بصفوان بن المعطل السلمي في سنة ست- منصرف رسول الله ص من غزاة بني المصطلق و كانت معه- فقال فيها أهل الإفك ما قالوا- و نزل القرآن ببراءتها- . و قوم من الشيعة زعموا- أن الآيات التي في سورة النور لم تنزل فيها- و إنما أنزلت في مارية القبطية- و ما قذفت به مع الأسود القبطي- و جحدهم لإنزال ذلك في عائشة جحد- لما يعلم ضرورة من الأخبار المتواترة- ثم كان من أمرها و أمر حفصة- و ما جرى لهما مع رسول الله ص- في الأمر الذي أسره على إحداهما- ما قد نطق الكتاب العزيز به- و اعتزل رسول الله ص نساءه كلهن- و اعتزلهما معهن ثم صالحهن- و طلق حفصة ثم راجعها- و جرت بين عائشة و فاطمة إبلاغات و حديث يوغر الصدور- فتولد بين عائشة و بين علي ع نوع ضغينة- و انضم إلى ذلك إشارته على رسول الله ص- في قصة الإفك بضرب الجارية و تقريرها- و قوله إن النساء كثير- .
ثم جرى حديث صلاة أبي بكر بالناس- فتزعم الشيعة أن رسول الله ص لم يأمر بذلك- و أنه إنما صلى بالناس عن أمر عائشة ابنته- و أن رسول الله ص خرج متحاملا و هو مثقل- فنحاه عن المحراب- و زعم معظم المحدثين أن ذلك كان- عن أمر رسول الله ص و قوله- ثم اختلفوا فمنهم من قال نحاه و صلى هو بالناس- و منهم من قال بل ائتم بأبي بكر كسائر الناس- و منهم من قال- كان الناس يصلون بصلاة أبي بكر- و أبو بكر يصلي بصلاة رسول الله ص- .
ثم كان منها في أمر عثمان و تضريب الناس عليه- ما قد ذكرناه في مواضعه ثم تلا ذلك يوم الجمل- . و اختلف المتكلمون في حالها- و حال من حضر واقعة الجمل- فقالت الإمامية كفر أصحاب الجمل كلهم- الرؤساء و الأتباع- و قال قوم من الحشوية و العامة- اجتهدوا فلا إثم عليهم- و لا نحكم بخطئهم و لا خطإ علي ع و أصحابه- . و قال قوم من هؤلاء بل نقول- أصحاب الجمل أخطئوا و لكنه خطأ مغفور- و كخطإ المجتهد في بعض مسائل الفروع- عند من قال بالأشبه- و إلى هذا القول يذهب أكثر الأشعرية- . و قال أصحابنا المعتزلة كل أهل الجمل هالكون- إلا من ثبتت توبته منهم- قالوا و عائشة ممن ثبتت توبتها- و كذلك طلحة و الزبير- أما عائشة فإنها اعترفت لعلي ع يوم الجمل- بالخطإ و سألته العفو- و قد تواترت الرواية عنها بإظهار الندم- و أنها كانت تقول- ليته كان لي من رسول الله ص بنون عشرة- كلهم مثل عبد الرحمن بن الحارث بن هشام- و ثكلتهم و لم يكن يوم الجمل- و أنها كانت تقول ليتني مت قبل يوم الجمل- و أنها كانت إذا ذكرت ذلك اليوم تبكي حتى تبل خمارها- و أما الزبير فرجع عن الحرب- معترفا بالخطإ لما أذكره علي ع ما أذكره- و أما طلحة فإنه مر به و هو صريع فارس- فقال له قف فوقف- قال من أي الفريقين أنت- قال من أصحاب أمير المؤمنين- قال أقعدني فأقعده- فقال امدد يدك أبايعك لأمير المؤمنين فبايعه- .
و قال شيوخنا ليس لقائل أن يقول- ما يروى من أخبار الآحاد بتوبتهم- لا يعارض ما علم قطعا من معصيتهم- قالوا لأن التوبة إنما يحكم بها للمكلف- على غالب الظن في جميع المواضع لا على القطع- أ لا ترى أنا نجوز- أن يكون من أظهر التوبة منافقا و كاذبا- فبان أن المرجع في قبولها- في كل موضع إنما هو إلى الظن- فجاز أن يعارض ما علم من معصيتهم بما يظن من توبتهم
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 14