من كتاب له عليه السّلام لأهل الكوفة، عند مسيره من المدينة إلى البصرة
مِنْ عَبْدِ اللَّهِ عَلِيٍّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ- جَبْهَةِ الْأَنْصَارِ وَ سَنَامِ الْعَرَبِ- أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أُخْبِرُكُمْ عَنْ أَمْرِ عُثْمَانَ- حَتَّى يَكُونَ سَمْعُهُ كَعِيَانِهِ- إِنَّ النَّاسَ طَعَنُوا عَلَيْهِ- فَكُنْتُ رَجُلًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ أُكْثِرُ اسْتِعْتَابَهُ- وَ أُقِلُّ عِتَابَهُ- وَ كَانَ طَلْحَةُ وَ الزُّبَيْرُ أَهْوَنُ سَيْرِهِمَا فِيهِ الْوَجِيفُ- وَ أَرْفَقُ حِدَائِهِمَا الْعَنِيفُ- وَ كَانَ مِنْ عَائِشَةَ فِيهِ فَلْتَةُ غَضَبٍ- فَأُتِيحَ لَهُ قَوْمٌ فَقَتَلُوهُ- وَ بَايَعَنِي النَّاسُ غَيْرَ مُسْتَكْرَهِينَ- وَ لَا مُجْبَرِينَ بَلْ طَائِعِينَ مُخَيَّرِينَ- وَ اعْلَمُوا أَنَّ دَارَ الْهِجْرَةِ قَدْ قَلَعَتْ بِأَهْلِهَا وَ قَلَعُوا بِهَا- وَ جَاشَتْ جَيْشَ الْمِرْجَلِ- وَ قَامَتِ الْفِتْنَةُ عَلَى الْقُطْبِ- فَأَسْرِعُوا إِلَى أَمِيرِكُمْ- وَ بَادِرُوا جِهَادَ عَدُوِّكُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ
المعنى
أقول: كتب هذا الكتاب حين نزل بماء العذب متوجّها إلى البصرة و بعثه مع الحسن عليه السّلام و عمّار بن ياسر- رحمة اللّه عليه- . و عيانه: رؤيته. و الوجيف: ضرب من السير فيه سرعة و اضطراب. و العنف: ضدّ الرفق، و الفلتة: البغتة من غير تروّ. و اتيح: قدّر. و قلع المنزل بأهله: إذا نبابهم فلم يصلح لاستيطانهم، و قلعوا به: إذا لم يستقرّوا فيه و لم يثبتوا. و جاشت القدر: غلت. و المرجل: القدر من نحاس. و أعلم أنّه صدّر الفصل بمدحهم جذبا لهم إلى ما يريد هم له من نصرته على أهل البصرة، و استعار لهم لفظ الجبهة باعتبار أنّهم بالنسبة إلى الأنصار كالجبهة بالنسبة إلى الوجه في العزّة و الشرف و العلوّ، و كذلك استعار لفظ السنام باعتبار علوّهم و شرفهم في العرب بالإسلام و القوّة في الدين كشرف السنام و علوّه في الجمل. و قال قطب الدين الراوندىّ: المراد بجبهة الأنصار جماعتهم، و سنام العرب نجدهم و من ارتفع منهم حقيقة في الموضعين. و المعنى قريب ممّا قلناه إلّا أنّ اللفظين ليسا حقيقة لأنّ من علامات الحقيقه السبق إلى الفهم و لا واحد من المعنيين المذكورين يسبق من هذين اللفظين إلى الفهم. ثمّ ثنىّ بذكر الشبهة الّتي جعلها أصحاب الجمل و أهل الشام و من أراد الفساد في الأرض حجّة له حتّى كانت مبدءا لكلّ فتنة نشأت في الإسلام و هي شبهة قتل عثمان مع الجواب عنها، و هو قوله: أمّا بعد. إلى قوله: عيانه. و أمر عثمان شأنه و حاله الّتي جرت له. و قوله: حتّى يكون سمعه كعيانه. كناية عن تمام إيضاح ذلك الأمر لمن لم يشهده من أهل الكوفة.
و قوله: إنّ الناس طعنوا عليه. إشارة إلى مبدء قتله و هو طعن الناس عليه بالأحداث الّتي نقموها منه. يقال: طعن فيه بالقول و طعن عليه إذا ذكر له عيبا. و قد ذكرنا تلك المطاعن، و هذا القول كالمقدّمة للجواب عن نسبته إلى قتله، و كذلك قوله: فكنت رجلا. إلى قوله: عتابه. كصغرى قياس ضمير من الشكل الأوّل مبيّن فيه أنّه أبرء الناس من دم عثمان. و معنى قوله: اكثر استعتابه: أى اكثر طلب العتبى منه و الرجوع إلى ما يرضى به القوم منه، و اقلّ عتابه: أى ذكر ما أجده منه. قال الخليل: العتاب مخاطبة الإدلال و مذاكرة الموجدة. إنّما كان يقلّ عتابه لأنّه عليه السّلام كان يخاطبه فيما هو أهمّ من ذلك و هو إرضاؤه للقوم و استعتابه لهم ليدفعوا عنه و يطفئوا نار الفتنة، أو لأنّ حوله جماعة كمروان و غيره فكان عليه السّلام إذا عاتبه وصفا ما بينهما كدّرته تلك الجماعة. و قيل: أراد أنّى كنت اكثر طلب رضاه و اقلّ لائمته. و تقدير كبرى القياس: و كلّ من كان من المهاجرين بالصفة المذكورة معه فهو أبرء الناس من دمه و أقواهم عذرا في البعد عن قتله. و قوله: و كان طلحة و الزبير. إلى قوله: غضب. كصغرى قياس ضمير أيضا من الاولى ألزم فيه القوم السائرين إلى حربه و هم طلحة و الزبير و عايشه غير ما نسبوه إليه من الدخول في دم عثمان، و كنّى بقوله: أهون سيرهما فيه الوجيف. إلى قوله: العنيف. عن قوّة سعيهما في قتله و شدّة تلبّسهما بذلك و قد ذكرنا طرفا من حال طلحة معه و جمعه للناس في داره و منعه من ذويه، و روى أنّ عثمان قال و هو محصور: و يلي على ابن الحضرميّة يعني طلحة أعطيته كذا و كذا نهارا ذهبا و هو يروم دمى و يحرّض علىّ اللهمّ لا تمتّعه به و لقّه عواقب بغيه. و روى: أنّه لمّا امتنع على الّذين حصروه الدخول من باب الدار حملهم طلحة إلى دار بعض الأنصار و أصعدهم إلى سطحها و تسوّروا منها عليه. و روى: أنّ مروان قال يوم الجمل: و اللّه لا أترك ثارى من طلحة و أنا أراه و لأقتلنّه بعثمان. ثمّ رماه بسهم فقتله. و أمّا الزبير فروى أنّه كان يقول: اقتلوه فقد بدّل دينكم فقالوا له: ابنك تحامى عنه بالباب. فقال: و اللّه ما أكره أن يقتل عثمان و لو بدى بابنى. و حالهما في التحريض مشهور، و أمّا عايشه فروى أنّها كانت تقول: اقتلوا نعثلا قتل اللّه نعثلا، و أمّا الغضب الّذي وقع منها فلتة في حقّه فالسبب الظاهر فيه هو اختصاصه بمال المسلمين قرابته و بني أبيه و هو السبب العامّ في قيام الناس عليه و نفرتهم منه، و سائر الأحداث مقوّيات لذلك، و روى أنّه صعد المنبر يوما و قد غصّ المسجد بأهله فمدّت يدها من وراء ستر فيها نعلان و قميص، و قالت: هذان نعلا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قميصه بعد لم تبل، و قد بدّلت دينه و غيّرت سنّته، و أغلظت له في القول فأغلظ لها. و كان ذلك القول منها من أشدّ ما حرّض الناس على قتله. و بالجملة فحال هؤلاء الثلاثة في التحريض على قتله كان أشهر من أن يحتاج إلى ذكر، و تقدير كبرى القياس: و كلّ من كان كذلك كان أولى بالدخول في دمه و أنسب إلى التحريض عليه. و قوله. فاتيح له قوم فقتلوه. يفهم منه نسبته لاجتماع الناس على قتله إلى التقدير الإلهي لينصرف أذهان السامعين بهذه النسبة الصادقة عن نسبة ذلك إليه عليه السّلام. و أفاد القطب الراوندى أنّه عليه السّلام إنّما بنى الفعل للمفعول و لم يقل: أتاح اللّه له أو أتاح الشيطان.
ليرضى بذلك الفريقان. و قوله. و بايعنى. إلى قوله: مخيّرين. صغرى قياس ضمير بيّن فيه خروج أصحاب الجمل عن طاعة اللّه و دخولهم في رذيلة الغدر و نكث العهد المستلزم لدخولهم في عموم قوله تعالى وَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ«» الآية، و قوله فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ«» الآية. و تقدير الكبرى: و كلّ من بايعه الناس طائعين مخيّرين فلا يجوز لهم أن ينكثوا بيعته و يحاربوه للآيتين المذكورتين. و في نسخه الرضى- رحمه اللّه- مستكرهين بكسر الراء بمعنى كارهين يقال استكرهت الشيء أى كرهته.
و قوله: و اعلموا. إلى قوله: المرجل. إعلام لأهل الكوفة باضطراب حال المدينة و أهلها حين علموا بمسير القوم إلى البصرة للفتنة و غرض ذلك الإعلام أن يهتمّوا همّة إخوانهم المؤمنين. و قيل: يحتمل أن يريد بدار الهجرة دار الإسلام و بلادها، و كنّى بقلعها بأهلها و قلعهم بها عن اضطراب امورهم بها و عدم استقرار قلوبهم من ثوران هذه الفتنة، و استعار لفظ الجيش ملاحظة لشبهها بالقدر في حال غليانها فإنّ اضطراب الناس و حركاتهم من هذه الفتنة يشبه ذلك، و كذلك نبّههم بذكر الفتنة و الحرب و قيامهما على القطب ليستعدّوا لها و ينفروا إليها. و لذلك أردفه بالأمر بسرعة المسير إلى أميرهم يعني نفسه و أن يبادروا جهاد عدوّهم، و ذكر لفظ القطب و قيامها عليه تنبيها به على المقصود. و علمت أنّ وجه استعارة الرحى للحرب هو مشابهتها في دورانها على من تدور عليه كما يشتمل دوران الرحى على الحبّ و تطحنه. و باللّه التوفيق.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحرانی)، ج 4 ، صفحهى 338