و من خطبة له عليه السّلام يشتمل على ذكر الملاحم.
الْأَوَّلِ قَبْلَ كُلِّ أَوَّلٍ وَ الْآخِرِ بَعْدَ كُلِّ آخِرٍ- وَ بِأَوَّلِيَّتِهِ وَجَبَ أَنْ لَا أَوَّلَ لَهُ- وَ بِآخِرِيَّتِهِ وَجَبَ أَنْ لَا آخِرَ لَهُ وَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ شَهَادَةً- يُوَافِقُ فِيهَا السِّرُّ الْإِعْلَانَ- وَ الْقَلْبُ اللِّسَانَ- أَيُّهَا النَّاسُ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي- وَ لَا يَسْتَهْوِيَنَّكُمْ عِصْيَانِي- وَ لَا تَتَرَامَوْا بِالْأَبْصَارِ عِنْدَ مَا تَسْمَعُونَهُ مِنِّي- فَوَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَ بَرَأَ النَّسَمَةَ- إِنَّ الَّذِي أُنَبِّئُكُمْ بِهِ عَنِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ ص- وَ اللَّهِ مَا كَذَبَ الْمُبَلِّغُ وَ لَا جَهِلَ السَّامِعُ- لَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى ضِلِّيلٍ قَدْ نَعَقَ بِالشَّامِ- وَ فَحَصَ بِرَايَاتِهِ فِي ضَوَاحِي كُوفَانَ- فَإِذَا فَغَرَتْ فَاغِرَتُهُ- وَ اشْتَدَّتْ شَكِيمَتُهُ- وَ ثَقُلَتْ فِي الْأَرْضِ وَطْأَتُهُ- عَضَّتِ الْفِتْنَةُ أَبْنَاءَهَا بِأَنْيَابِهَا- وَ مَاجَتِ الْحَرْبُ بِأَمْوَاجِهَا- وَ بَدَا مِنَ الْأَيَّامِ كُلُوحُهَا- وَ مِنَ اللَّيَالِي كُدُوحُهَا- فَإِذَا أَيْنَعَ زَرْعُهُ وَ قَامَ عَلَى يَنْعِهِ- وَ هَدَرَتْ شَقَاشِقُهُ وَ بَرَقَتْ بَوَارِقُهُ- عُقِدَتْ رَايَاتُ الْفِتَنِ الْمُعْضِلَةِ- وَ أَقْبَلْنَ كَاللَّيْلِ الْمُظْلِمِ وَ الْبَحْرِ الْمُلْتَطِمِ- هَذَا وَ كَمْ يَخْرِقُ الْكُوفَةَ مِنْ قَاصِفٍ- وَ يَمُرُّ عَلَيْهَا مِنْ عَاصِفٍ- وَ عَنْ قَلِيلٍ تَلْتَفُّ الْقُرُونُ بِالْقُرُونِ- وَ يُحْصَدُ الْقَائِمُ- وَ يُحْطَمُ الْمَحْصُودُ يشتمل على ذكر الملاحم.
اللغة
أقول: [لا يجرمنّكم: أى لا يحملنّكم خ]. يجرمنّكم: يحقّ عليكم. و استهواه: أماله. و الضليل: الكثير الضلال. و نعق: صاح. و فحص الطائر الأرض برجله: بحثها. و الضواحى: النواحى البارزة. و كوفان: اسم للكوفة. فغرفوه: انفتح. و فلان شديد الشكيمة: إذا كان قوّى النفس أبيّا و الكلوح: تكثر في عبوس. و الكدح: فوق الخدش. و أينع الزرع: نضج. و الحطم: الدقّ.
المعنى
و مضمون هذا الفصل بعد توحيد اللّه تحذير السامعين عن عصيانه و عن التغامر بتكذيبه فيما بينهم فيما كان يخبرهم به من الامور المستقبلة. فقوله: الأوّل و الآخر قد مضى تفسيرهما.
و قوله: بأوليّته وجب أن لا أوّل له.
لمّا أراد بأولّيته كونه مبدءا لكلّ شيء، و بآخريّته كونه غاية ينتهى إليها كلّ شيء في جميع أحواله كان بذلك الاعتبار يجب أن لا يكون له أوّل هو مبدئه و لا آخر يقف عنده و ينتهى، و وصف شهادته بأنّها الّتي يوافق السرّ الإعلان و القلب اللسان كناية عن خلوصها عن شائبة النفاق و الجحود باللّه ثم أبّه بالناس و حذّرهم من شقاقه و عصيانه و تكذيبه فيما يقول و هو تقريع لمن ضعفت عين بصيرته عن إدراك فضله و إمكان الإخبار بما سيكون من مثله ثمّ أسند ما يريد أن يخبر به من ذلك و ما أخبر به إلى النبىّ صلى اللّه عليه و آله و سلم ليكون ذلك شهادة لصدقه، و أكّد ذلك بتنزيهه صلى اللّه عليه و آله و سلم و تنزيه السامع يعنى نفسه من الكذب فيما بلّغ عن ربّه و فيما سمع هو عنه، و قد بيّنّا كيفيّة أخذه لهذه العلوم عنه في المقدّمات.
و قوله: لكأنّى أنظر إلى ضليل قد نعق بالشام.
من جملة إخباراته بما سيكون، و الضليل: قيل: إنّه اشار به إلى السفيانّى الدجّال. و قيل: إنّه إشارة إلى معاوية فإنّ مبدء ملكه بالشام و دعوته بها و انتهت غاراته إلى نواحى الكوفة و إلى الأنبار في حياته عليه السّلام كما عرفت ذلك من قبل، و كنّى بفحصه براياته عن بلوغه إلى الكوفة و نواحيها كناية بالمستعار ملاحظة لشبهه بالقطاة المتّخذة مفحصا، و كذلك فغرت فاغرته كناية عن اقتحامه للناس كناية بالمستعار أيضا ملاحظة لشبهه بالأسد في اقتحام فريسته، و اشتداد شكيمته كناية عن قوّة رأسه و شدّة بأسه. و أصله أنّ الفرس الجموح قوّى الرأس محتاج إلى قوّة الشكيمة و شدّتها، و كذلك ثقل وطأته كناية عن شدّة بأسه في الأرض على الناس، و الأشبه أنّه إشارة إلى عبد الملك، و قد عرفت أحواله، و ثقل وطأته في الأرض فيما سبق، و استعار لفظ العضّ للفتنة و وجه المشابهة ما يستلزمانه من الشدّة و الألم، و رشّح تلك الاستعارة بذكر الأنياب، و أبناء الفتنة أهلها، و كذلك استعار لفظ الموج للحرب، و كنّى به عن الاختلاط الواقع فيها من القتل و الأهوال. و للأيّام لفظ الكلوح، و كنّى به عن شدّة ما يلقى فيها من الشرّ كما يلقى من المعيس المكثر، و كذلك لفظ الكدوح استعارة لما يلقى فيها من المصائب الشبيهة بها، و لفظ الزرع استعارة لأعماله و لفظ الإيناع كناية عن بلوغه غاية أفعاله و لفظ الشقاشق و البروق استعارة لحركاته الهائلة و أقواله المخوفة تشبيها بالسحاب ذى الشقاشق و البروق.
و قوله: عقدت رايات الفتن المعضلة.
أى: أنّ هذه الفتنة إذا قامت أثارت فتنا كثيرة بعدها يكون فيها الهرج و المرج، و شبّه تلك الفتن في إقبالها بالليل المظلم، و وجه المشابهة كونها لا يهتدى فيها لحقّ كما لا يهتدى في ظلمة الليل لما يراد، و بالبحر الملتطم في عظمها و خلطها للخلق بعضهم ببعض و انقلاب قوم على قوم بالمحقّ لهم و الهلاك كما يلتطم بعض أمواج البحر ببعض، ثمّ أشار إلى ما يلحق الكوفة بسبب تلك الفتنة بعدها من الوقائع و الفتن، و قد وقع فيها وفق أخباره وقائع جمّة و فتن كثيرة كفتنة الحجّاج و المختار بن أبى عبيدة و غيرهما، و استعار لفظى القاصف و العاصف من الريح لما يمرّ بها من ذلك و يجرى على أهلها من الشدائد.
و قوله: و عن قليل تلتفّ القرون بالقرون. إلى آخره.
أى عن قليل يلحق قرن من الناس بقرون، و كنّى بالتفاف بعضهم ببعض عن اجتماعهم في بطن الأرض، و استعار لهم لفظ الحصد و الحطم لمشابهتهم الزرع يحصد قائمة و يحطم محصودة فكنّى بحصدهم عن موتهم أو قتلهم، و بحطم محصودهم عن فنائهم و تفرّق أوصالهم في التراب. و أعلم أنّه ليس في اللفظ دلالة واضحة على أنّ المراد بالضليل المذكور معاوية بل يحتمل أن يريد به شخصا آخر يظهر فيما بعد بالشام كما قيل: إنّه السفيانىّ الدجّال و إن كان الاحتمال الأوّل أغلب على الظنّ. و باللّه التوفيق.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحرانی)، ج 3 ، صفحهى 10