و من خطبة له عليه السّلام
و فيها فصول.
الفصل الأوّل: في صفات المتّقين
و هو قوله: عِبَادَ اللَّهِ إِنَّ مِنْ أَحَبِّ عِبَادِ اللَّهِ إِلَيْهِ عَبْداً- أَعَانَهُ اللَّهُ عَلَى نَفْسِهِ فَاسْتَشْعَرَ الْحُزْنَ- وَ تَجَلْبَبَ الْخَوْفَ فَزَهَرَ مِصْبَاحُ الْهُدَى فِي قَلْبِهِ- وَ أَعَدَّ الْقِرَى لِيَوْمِهِ النَّازِلِ بِهِ- فَقَرَّبَ عَلَى نَفْسِهِ الْبَعِيدَ وَ هَوَّنَ الشَّدِيدَ- نَظَرَ فَأَبْصَرَ وَ ذَكَرَ فَاسْتَكْثَرَ- وَ ارْتَوَى مِنْ عَذْبٍ فُرَاتٍ سُهِّلَتْ لَهُ مَوَارِدُهُ- فَشَرِبَ نَهَلًا وَ سَلَكَ سَبِيلًا جَدَداً- قَدْ خَلَعَ سَرَابِيلَ الشَّهَوَاتِ وَ تَخَلَّى مِنَ الْهُمُومِ- إِلَّا هَمّاً وَاحِداً انْفَرَدَ بِهِ فَخَرَجَ مِنْ صِفَةِ الْعَمَى- وَ مُشَارَكَةِ أَهْلِ الْهَوَى وَ صَارَ مِنْ مَفَاتِيحِ أَبْوَابِ الْهُدَى- وَ مَغَالِيقِ أَبْوَابِ الرَّدَى- قَدْ أَبْصَرَ طَرِيقَهُ وَ سَلَكَ سَبِيلَهُ وَ عَرَفَ مَنَارَهُ- وَ قَطَعَ غِمَارَهُ وَ اسْتَمْسَكَ مِنَ الْعُرَى بِأَوْثَقِهَا- وَ مِنَ الْحِبَالِ بِأَمْتَنِهَا فَهُوَ مِنَ الْيَقِينِ عَلَى مِثْلِ ضَوْءِ الشَّمْسِ- قَدْ نَصَبَ نَفْسَهُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ فِي أَرْفَعِ الْأُمُورِ- مِنْ إِصْدَارِ كُلِّ وَارِدٍ عَلَيْهِ وَ تَصْيِيرِ كُلِّ فَرْعٍ إِلَى أَصْلِهِ- مِصْبَاحُ ظُلُمَاتٍ كَشَّافُ عَشَوَاتٍ مِفْتَاحُ مُبْهَمَاتٍ- دَفَّاعُ مُعْضِلَاتٍ دَلِيلُ فَلَوَاتٍ يَقُولُ فَيُفْهِمُ وَ يَسْكُتُ فَيَسْلَمُ- قَدْ أَخْلَصَ لِلَّهِ فَاسْتَخْلَصَهُ- فَهُوَ مِنْ مَعَادِنِ دِينِهِ وَ أَوْتَادِ أَرْضِهِ- قَدْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ الْعَدْلَ فَكَانَ أَوَّلَ عَدْلِهِ نَفْيُ الْهَوَى عَنْ نَفْسِهِ- يَصِفُ الْحَقَّ وَ يَعْمَلُ بِهِ لَا يَدَعُ لِلْخَيْرِ غَايَةً إِلَّا أَمَّهَا- وَ لَا مَظِنَّةً إِلَّا قَصَدَهَا قَدْ أَمْكَنَ الْكِتَابَ مِنْ زِمَامِهِ- فَهُوَ قَائِدُهُ وَ إِمَامُهُ يَحُلُّ حَيْثُ حَلَّ ثَقَلُهُ- وَ يَنْزِلُ حَيْثُ كَانَ مَنْزِلُهُ
اللغة
أقول: القرى: الضيافة: و الفرات: صادق العذوبة.
و النهل: الشرب في أوّل الورد.
و الجدد: الأرض المستوية.
و السرابيل: القمصان.
و المنار: الأعلام.
و الغمار:جمع غمرة و هى الزحمة من كثرة الناس و الماء و نحوه.
و العشوات: جمع عشوة و هى ركوب الأمر على جهل به.
و الغشوة بالغين المعجمة: هى الغطاء.
و المبهمة: الأمر الملتبس.
و المعضلات: الشدائد.
و ذكر من صفاتهم الّتى هى سبب محبّة اللّه لهم أربعين وصفا و قد علمت أنّ محبّة اللّه تعالى تعود إلى إفاضة الكمالات النفسانيّة على نفس العبد بحسب قربه بالاستعداد لها إلى جوده فمن كان استعداده أتمّ كان استحقاقه أوفى فكانت محبّة اللّه له أكمل.
فالأوّل من تلك الأوصاف: كونه أعانه اللّه على نفسه أى أفاضه قوّة على استعداد يقوّى به عقله على قهر نفسه الأمّارة بالسوء.
الثاني: أن يستشعر الحزن أى يتّخذه شعارا له. و أراد الحزن على ما فرّط في جنب اللّه و اكتسب من الإثم فإنّه من جملة ما أعدّته المعونة الإلهيّة لاستشعاره ليستعدّ به لكمال أعلى.
الثالث: أن يتجلبب الخوف
و هو اتّخاذه جلبابا. استعار لفظ الجلباب و هو الملحفة للخوف من اللّه و الخشية من عقابه، و وجه المشابهة ما يشتركان فيه من كون كلّ منهما متلبّسابه، و هو أيضا معونة من اللّه للعبد على تحصيل السعادة.
الرابع: زهرة مصباح الهدى في قلبه
و هو إشارة إلى شروق نور المعارف الإلهيّة على مرآة سرّه، و هو ثمرة الاستعداد بالحزن و الخوف و لذلك عطفه بالفاء، و استعار لفظ المصباح لنور المعرفة لما يشتركان فيه من كون كلّ منهما سببا للهدى و هو استعارة لفظ المحسوس للمعقول.
الخامس: كونه أعدّ القرى ليومه النازل به
استعار لفظ القرى للأعمال الصالحة و أراد باليوم النازل به يوم القيامة و استلزمت الاستعارة تشبيهه لذلك اليوم بالضيف أو بيوم القرى للضيف المتوقّع نزوله، و وجه المشابهة أنّ القرى كما يبيّض به وجه القارى عند ضيفه و يخلص به من ذمّه و يكسبه المحمدة و الثناء منه كذلك الأعمال الصالحة في ذلك اليوم تكون سببا لخلاص العبد من أهواله و تكسبه رضاء الحقّ سبحانه و الثواب الجزيل منه.
السادس: و قرّب على نفسه البعيد.
يحتمل وجهين: احدهما: أن يشير بالبعيد إلى رحمة اللّه فإنّها بعيدة من غير مستحقّها و المستحقّ لقبولها قريبة ممّن حسن عمله و كمل قبوله فالعبد إذا راض بالأعمال الصالحة نفسه و أعدّها قرى يومه كانت رحمة اللّه على غاية من القرب منه كما قال تعالى إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ، الثاني: يحتمل أن يريد بالبعيد أمله الطويل في الدنيا و بتقريبه له على نفسه تقصيره له بذكر الموت دون بلوغه كما سبق.
السابع: كونه قد هوّن الشديد.
و يحتمل أيضا معنيين: أحدهما: أن يريد بالشديد أمر الآخرة و عذاب الجحيم و تهوينه لها بالأعمال الصالحة و استشراف أنوار الحقّ و ظاهر كونها مهوّنة لشديد عذاب اللّه، الثاني: أن يريد بالشدائد شدائد الدنيا من الفقر و الاهتمام بالمصائب الّتي تنزل به من الظلم و فقد الأحبّة و الأقرباء و نحو ذلك و تهوينه لذلك تسهيله على خاطره و استحقاره في جنب ما يتصوّره من الفرحة بلقاء اللّه و ما أعدّ له من الثواب الجزيل في الآخرة كما قال تعالى وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ ووَ الْجُوعِ وَ نَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَ الْأَنْفُسِ وَ الثَّمَراتِ وَ بَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ«»
الثامن: كونه نظر:
أى تفكّر في ملكوت السماوات و الأرض و ما خلق اللّه من شيء فأبصر: أي فشاهد الحقّ سبحانه في عجائب مصنوعاته بعين بصيرته.
التاسع: و ذكر فاستكثر
أي ذكر ربّه و معاده فاستكثر من ذكره حتّى صار الذكر ملكة له و يجلّى المذكور في أطوار ذكره لمرآة سرّه. و الاستكثار من الذكر باب عظيم من أبواب الجنّة.
العاشر: كونه ارتوى من عذب فرات.
شبّه العلوم و الكمالات النفسانيّة الّتي تفاض على العارف بالماء الزلال فاستعار له لفظ العذوبة، و رشّح تلك الاستعارة بذكر الارتواء، و قد سبق وجه هذه الاستعارة مرارا.
(يا) كونه سهلت له موارده.
الفايزون لقصب السبق في طرائق اللّه لا ينفكّون عن تأييد إلهىّ بخاصيّة مزاجيّة لهم بها سرعة الاستعداد لقبول الكمالات الموصلة إليه.
إذا عرفت ذلك فنقول: موارد تلك الكمالات من العلوم و الأخلاق هي معادنها و مواطنها المنتزعة منها و هي النفوس الكاملة الّتي يهتدى بها و تؤخذ عنها أنوار اللّه كالأنبياء، و تصدق تلك الموارد أيضا على بدايع صنع اللّه الّذي يردّها ذهن العبد و تكسب بها الملكات الفاضلة و سهولة تلك الموارد لهم هو سرعة قبولهم لأخذ الكمالات عنها بسهولة بأذهان صافية هيّأتها العناية الإلهيّة لقبولها و يسرّ بها لذلك.
(يب) فشرب نهلا:
اي أخذ تلك الكمالات سابقا إليها كثيرا من أبناء نوعه و متقدّما فيها لسهولة موردها عليه، و هي ألفاظ مستعارة لأخذه لها و سبقه إليها ملاحظة لشبهه بشرب السوابق من الأبل إلى الماء.
(يج) كونه قد سلك سبيلا جددا:
أي سبيل اللّه الواضح المستقيم العدل بين طرفى التفريط و الإفراط.
(يد) كونه قد خلع سرابيل الشهوات.
أكثر الأوصاف السابقة أشار فيها إلى تحصيل العلم و الاستعداد له، و أشار بهذا الوصف إلى طرف الزهد، و استعار لفظ السرابيل للشهوات، و وجه المشابهة تلبّس صاحبها بها كما يتلبّس بالقميص، و رشّح بلفظ الخلع، و كنّى به عن طرحه لاتّباع الشهوة و التفاته عنها فيما يخرج به عن حدّ العدل.
(يه) و تخلّى من الهموم إلّا همّا واحدا
أى من هموم الدنيا و علائق أحوالها و طرح كلّ مقصود عن قصده إلّا همّا واحدا انفرد به، و هو الوصول إلى مراحل عزّة اللّه و توجيه سرّه إلى مطالعة أنوار كبريائه و استشراقها و هو تمام الزهد الحقيقىّ و ظاهر كونه منفردا عن غيره من أبناء نوعه.
(يو) فخرج عن صفة العمى:
أى عمى الجهل بما حصل عليه من فضيلة العلم و الحكمة و عن مشاركة أهل الهوى في إفراطهم و فجورهم إذ هو على حاقّ الوسط من فضيلة العفّة.
(يز) فصار من مفاتيح أبواب الهدى.
فأبواب الهدى هو طرقه و سبله المعدّة لقبول من واهبه و قد وقف عليها العارفون و دخلوا منها إلى حضرة جلال اللّه فوقفوا على مراحلها و منازلها و مخاوفها فصاروا مفاتيح لما انغلق منها على أذهان الناقصين، و مصابيح فيها لنفوس الجاهلين، و لفظ المفتاح مستعار للعارف، و وجه المشابهة ظاهر.
(يح) و مغاليق أبواب الردى.
فأبواب الردى هى أطراف التفريط و الإفراط و المسالك الّتي يخرج فيها عن حدود اللّه المردى سلوكها في قرار الجحيم. و العارف لمّا سدّ أبواب المنكرات الّتي يسلكها الجاهلون و لزم طريق العدل لا جرم أشبه المغلاق الّذي يكون سببا لسدّ الطريق أن يسلك فاستعير لفظه له، و في القرينتين مطابقة فالمغاليق بإزاء المفاتيح و الردى بإزاء الهدى.
(يط) قد أبصر
أى بنور بصيرته طريقه: أى المأمور بسلوكها و المجذوب بالعناية الإلهيّة إليها و هى صراط اللّه المستقيم.
(ك) و سلك سبيله
أى لمّا أبصر السبيل سلكها إذ كان السلوك هو المقصود الأوّل.
(كا) و قد عرف مناره.
لمّا كان السالك إلى اللّه قد لا يستقيم به طريق الحقّ إتّفاقا و ذلك كسلوك من لم تستكمل قوّته النظريّة بالعلوم و قد يكون سلوكه بعد استكماله بها. فالسالك كذلك قد عرف بالبرهان مناره: أى أعلامه المقصودة في طريقه الّتي هي سبب هدايته و هى القوانين الكلّيّة العمليّة، و يحتمل أن يريد بالمنار ما يقصده بسلوكه و هو حضرة جلال اللّه و ملائكته المقرّبون.
(كب) قد قطع غماره
و أشار بالغمار إلى ما كان مغمورا فيه من مشاقّ الدنيا و همومها و التألّم بسبب فقدها و مجاذبة أهلها لها فإنّ العارف بمعزل عن ذلك و التألّم بسببه.
(كج) و استمسك من العرى بأوثقها و من الحبال بأمتنها.
أراد بأوثق العرى و أمتن الحبال سبيل اللّه و أوامره استعارة و وجه المشابهة أنّ العروة كما تكون سببا لنجاة من تمسّك بها و كذلك الحبل، و كان أجودها ما ثبت و تمتن و لم ينفصم كذلك طريق اللّه المؤدّى إليه يكون لزومه و التمسّك بأوامره سببا للنجاة من أهوال الآخرة و هى عروة لا انفصام لها و أوامرها حبال لا انقطاع لها، و إليها الإشارة بقوله تعالى فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها«».
(كد) فهو من اليقين على مثل ضوء الشمس
أى فكان بتمسّكه بأوامر اللّه و نواهيه و مجاهدته في سبيله قد استشرق أتمّ أنوار اليقين فصار شاهدا بعين بصيرته عالم الملكوت رائيا بها الجنّة و النار عين اليقين كما يرى بصره الظاهر نور الشمس في الوضوح و الجلاء
(كه) قد نصب نفسه للّه سبحانه في أرفع الامور من إصدار كلّ وارد عليه و تصيير كلّ فرع إلى أصله
أى لمّا كمل في ذاته نصب نفسه لأرفع الامور من هداية الخلق و إفادتهم لقوانين طريق اللّه فصار كالمصباح يقتبس منه أنوار العلم فهو لكونه متلبّسا بها [مليّا بها خ] قايم بإصدار الأجوبة عن كلّ ما ورد عليه من الأسئلة الّتى استبهم أمرها على الأذهان، واف بردّ كلّ فرع من فروع العلم إلى أصله المنشعب عنه.
(كو) كونه مصباح ظلمات:
أى يهتدى به التائهون في ظلمات الجهل إلى الحقّ.
و لفظ المصباح مستعار له كما سبق.
(كز) كونه كشّاف عشوات:
أى موضح لما اشكل أمره و ركّب فيه الجهل من الأحكام الملتبسة مميّز وجه الحقّ منها، و من روى بالغين المعجمة فالمراد كشّاف أغطية الجهالات عن إبصار البصائر.
(كح) و كذلك كونه مفتاح مبهمات:
أى فاتح لما انغلق على أذهان الخلق و استبهم وجه الحقّ فيه من الأحكام.
(كط) كونه دفّاع معضلات:
أى يدفع كلّ حيرة في معضلة من معضلات الشرع صعب على الطالبين تميّز وجه الحقّ فيه و يجيبهم ببيانه عن التردّى في مهاوى الجهل.
(ل) و كذلك كونه دليل فلوات.
و استعار لفظ الفلوات لموارد السلوك و هى الامور المعقولة، و وجه المشابهة أنّ الفلوات كما لا يهتدى لسالكها إلّا الأدلّاء الّذين اعتادوا سلوكها و ضبطوا مراحلها و منازلها حتّى كان من لا قايد له منهم لا بدّ و أن يتيه فيها و يكون جهله بطرقها سببا لهلاكه كذلك الامور المتصوّرة المعقولة لا يهتدى لطريق الحقّ فيها إلّا من أخذت العناية الإلهيّة بضبعيه فألقت بزمام عقله إلى استاد مرشد يهديه سبيل الحقّ منها و من لم يكن كذلك حتّى حاد عن طريق الحقّ فيها خبط في ظلمات الجهل خبط عشواء، و سلكت به شياطينه أبواب جهنّم، و العارفون هم أدلّاء هذا الطريق و الواقفون على أخطارها و منازل السلامة فيها بعيون بصايرهم.
(لا) كونه يقول فيفهم
و ذلك لمشاهدته عين الحقّ من غير شبهة تعتريه فيما يقول و لا اختلاف عبارة عن جهل بالمقول.
(لب) كونه يسكت فيسلم
أى من خطر القول. و لمّا كانت فايدة القول الإفهام و الإفادة، و فايدة السكوت السلامة من آفات اللسان و كان كلامه في معرض المدح لا جرم ذكرهما مع فائدتهما. و المقصود أنّ العارف يستعمل كلّا من القول و السكوت في موضعه عند الحاجة إليه فقط.
(لج) كونه قد أخلص للّه فاستخلصه
و قد عرفت أنّ الإخلاص للّه هو النظر إليه مع حذف كلّ خاطر سواه عن درجة الاعتبار، و استخلاص الحقّ للعبد هو اختصاصه من بين أبناء نوعه بالرضى عنه و إفاضة أنواع الكمال عليه و إدنائه إلى حضرة قدسه و انفراده بمناجاته. و ظاهر أنّ إخلاصه سبب استخلاصه كما قال تعالى وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَ كانَ رَسُولًا نَبِيًّا وَ نادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَ قَرَّبْناهُ نَجِيًّا«».
(لد) فهو من معادن دينه.
استعار لفظ المعدن له، و وجه المشابهة اشتراكهما في كون كلّ منهما أصلا تنتزع منه الجواهر: من المعادن أنواع الجوهر المحسوسة، و من نفس العارف جواهر العلوم و الأخلاق و سائر ما اشتمل عليه دين اللّه
(له) كونه من أوتاد أرضه
استعار له لفظ الوتد، و وجه المشابهة كون كلّ منهما سببا لحفظ ما يحفظ به فبالوتد يحفظ الموتود، و بالعارف يحفظ نظام الأرض و استقامة امور هذا العالم، و قد سبق مثله في الخطبة الاولى: و وتّد بالصخور ميدان أرضه.
(لو) كونه لزم نفسه العدل
فكان أول عدله نفى الهوى عن نفسه. لمّا كان العدل ملكة تنشأ من الملكات الثلاث: و هى الحكمة و العفّة و الشجاعة، و كان العارفون قد راضوا أنفسهم بالعبادة و غيرها حتّى حصلوا على هذه الملكات الخلقيّة لا جرم كان بسعيه في حصولها قد ألزم نفسه العدل، و لمّا كان العدل في القوّة الشهويّة و هو أن يصير عفيفا لا خامد الشهوة و لا فاجرا أصعب من العدل على ساير القوى لكثرة موارد الشهوة و ميلها بالإنسان إلى طرف الإفراط و لذلك كان أكثر المناهى الواردة في الشريعة هى موارد الشهوة لا جرم كان مقتضى المدح أن يبدء بذكر نفى الهوى عن نفسه، و لأنّ السالك أوّل ما يبدء في تكميل القوّة العلميّة بإصلاح القوّة الشهويّة فيقف عند حدود اللّه و لا يتجاوزها في مأكول أو منكوح أو كسب و نحوه.
(لز) كونه يصف الحقّ و يعمل به
أي يتبع قول الحقّ بعمله فإنّ الخلف في القول عند الخلق قبيح و مع اللّه أقبح و لذلك عاتب اللّه المؤمنين يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ«» و كانوا قالوا: لنفعلنّ في سبيل اللّه ما فيه رضاه. فلمّا كان يوم احد لم يثبتوا. و أكّد عتابه بشدّة مقته لخلفهم و عدم مطابقة أقوالهم لأفعالهم.
(لح) كونه لا يدع للخير غاية إلّا أمّها
لمّا فرغ من جزئيّات أوصاف العارف شرع فيها إجمالا فذكر أنّه طالب لكلّ غاية خيريّة: أى لا يقنع ببعض الحقّ و يقف عنده بل يتناهى فيه و يستقصى غاياته.
(لط) و كذلك هو قاصد لكلّ مظنّة له
و مظنّته كلّ محلّ أمكنه أن ينتزعه منه و يستفيده كالأولياء و مجالس الذكر و غيرها.
(م) كونه قد أمكن الكتاب من زمامه فهو قائده. إلى آخره
فتمكينه الكتاب كناية عن انقياده لما اشتمل عليه من الأوامر و النواهى، و استعار لفظ الزمام لعقله و وجه المشابهة ما يشتركان فيه كون كلّ منهما آلة للانقياد، و هى استعارة لفظ المحسوس للمعقول، و كذلك استعار لفظ القائد للكتاب لكونه جاذبا بزمام عقله إلى جهة واحدة مانعا عن الانحراف عنها و كذلك لفظ الإمام لكونه مقتديا به، و قوله: يحلّ حيث حلّ ثقله و ينزل. استعار وصفى الحلول و النزول الّذين هما من صفات المسافر، و كنّى بحلوله حيث حلّ عن لزوم أثره و العمل بمقتضاه و متابعته له في طريق سفره إلى اللّه بحيث لا ينفكّ عنه وجودا و عدما، و باللّه التوفيق.
الفصل الثاني:
قوله: وَ آخَرُ قَدْ تَسَمَّى عَالِماً وَ لَيْسَ بِهِ- فَاقْتَبَسَ جَهَائِلَ مِنْ جُهَّالٍ وَ أَضَالِيلَ مِنْ ضُلَّالٍ- وَ نَصَبَ لِلنَّاسِ أَشْرَاكاً مِنْ حَبَائِلِ غُرُورٍ وَ قَوْلِ زُورٍ- قَدْ حَمَلَ الْكِتَابَ عَلَى آرَائِهِ- وَ عَطَفَ الْحَقَّ عَلَى أَهْوَائِهِ- يُؤْمِنُ النَّاسَ مِنَ الْعَظَائِمِ وَ يُهَوِّنُ كَبِيرَ الْجَرَائِمِ- يَقُولُ أَقِفُ عِنْدَ الشُّبُهَاتِ وَ فِيهَا وَقَعَ- وَ يَقُولُ أَعْتَزِلُ الْبِدَعَ وَ بَيْنَهَا اضْطَجَعَ- فَالصُّورَةُ صُورَةُ إِنْسَانٍ وَ الْقَلْبُ قَلْبُ حَيَوَانٍ- لَا يَعْرِفُ بَابَ الْهُدَى فَيَتَّبِعَهُ- وَ لَا بَابَ الْعَمَى فَيَصُدَّ عَنْهُ وَ ذَلِكَ مَيِّتُ الْأَحْيَاءِ
أقول: و هذا الفصل من صفات بعض الفسّاق في مقابلة الموصوف السابق و خصّص من تسمّى عالما و ليس بعالم بالذكر في معرض الذمّ لأنّه أشدّ فتنة و أقوى فسادا للدين لتعدّى فتنته من نفسه إلى غيره. و ذكر له أوصافا:
الأوّل: كونه قد تسمّى عالما و ليس بعالم.
طلبا للرياسة و تحصيل الدنيا و هذا الصنف من الناس كثير و العلماء فيهم مغمورون.
الثاني: كونه قد اقتبس جهائل من جهّال
و أضاليل من ضلّال. و الجهايل: جمع جهالة، و أراد الجهل المركّب، و هو الاعتقاد الغير المطابق لما في نفس الأمر، و هذا الوصف أحد أسباب الأوّل. و نسبة الاقتباس إلى الجهل نسبة مجازيّة لما أنّ الجهل يشبه العلم في كونه مستفادا على وجه التعلّم و التعليم، و الأضاليل من لوازم الجهالات و هو الانحراف عن سواء السبيل، و إنّما قال من جهّال و ضلّال ليكون إثبات الجهل و الضلال له آكد فإنّ تلقّفهما عن الجهّال الضلّال و اعتقادهما أثبت و أرسخ في النفس من ساير الجهالات.
الثالث: كونه نصب للناس أشراكا من حبال غرور و قول زور.
استعار لفظ الأشراك و الحبال لما يغرّ علماء السوء به الناس من الأقوال الباطلة و الأفعال المزخرفة، و وجه المشابهة ما يشترك فيه الشرك من الحبال و غيره و ساير ما يجذب به الخلق من أقوالهم و أفعالهم في كونها محصّلة للغرض فالشرك للصيد و غرور هؤلاء لقلوب الخلق، و رشّح تلك الاستعارة بذكر النصب.
الرابع: قد حمل الكتاب على آرائه
للجاهل في تفسير كتاب اللّه تعالى مذاهب عجيبة و يكفيك منها ما تعتقده المجسّمة من ظواهره المشعرة بتجسيم الصانع جلّت قدرته و تفسيرهم للكتاب على ما اعتقدوه من باطلهم.
الخامس: و عطف الحقّ على أهوائه
من فسّر ألفاظ القرآن على حسب عقيدته الفاسدة و رأيه الباطل فقد عطف الحقّ على هواه: أى جعل كلّ هوى له حقّا يتّبع بتأويل ما وَ لَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ.
السادس: كونه يؤمّن من العظائم و يهوّن كبير الجرائم
أى يسهّل على الناس أمر الآخرة في موضع يحتاجون فيه إلى ذكر و عيد اللّه و تذكير هم بأليم عقابه كما يخطى الجاهلون و يعرضون عن أوامر اللّه تعالى و نواهيه فإذا حضروا مجالس جهّال الواعظين و الزهّاد توسّلوا إلى استجلاب قلوبهم و تشييد مناصبهم باجتماعهم عليهم بأن ذكروا لهم مواعيد اللّه كقوله إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً و نحوه فيهوّن عليهم بذلك عظيم الوعيد و أهوال الآخرة و تصغّر عندهم جرائمهم الّتى ارتكبوها في جنب ما تصوّروه من الوعد الكريم و يساعدهم ميل طباعهم إلى المشتهيات الخارجة عن حدود اللّه فيعاودوا ما اقترفوه و لا كذلك العالم إذ من شأنه أن يستعمل كلّا من آيات الوعد و الوعيد في موضعها ليبقى السامعون بين خوف و رجاء فلا ينهمكوا في اللذّات الفانية اتّكالا على الوعد و لا يقنطوا من رحمة اللّه نظرا إلى الوعيد.
السابع: يقول: أقف عند الشبهات
أى إذا انتهيت إلى أمر فيه شبهة لا أقدم عليه و فيها وقع و ذلك لجهله بمواقع الشبهة و غيرها.
الثامن: يقول أعتزل البدع:
أى ما يبتدع من الامور المخالفة لقوانين الشريعة و بينها اضطجع كنّى باضطجاعه بين البدع عن تورّطه فيها كناية بالمستعار، و ذلك أيضا لجهله باصول الشريعة و كيفيّة تفريعها.
التاسع: فالصورة صورة الإنسان و القلب قلب حيوان
أراد بالحيوان غير الإنسان كما هو مختصّ في العرف. و أطلق قلبه أنّه قلب حيوان كالحمار و نحوه لما بينهما من المناسبة و هو عدم صلاحيّتهما لقبول المعارف و العلوم مع ميلهما إلى الشهوات.
العاشر: كونه لا يعرف باب الهدى فيتّبعه و لا باب الردى فيصدّ عنه
أى لا يعرف بجهله قانون الهداية إلى طرق الحقّ فيسلكه و لا وجه دخوله في الباطل فيعرض عنه، و ذلك أنّ الجاهل الجهل عرض عنه، و ذلك أنّ الجاهل الجهل المركّب لمّا حاد عن سبيل اللّه و جزم بما اعتقده من الباطل امتنع مع ذلك الجزم أن يعرف باب الهدى و مبدء الدخول إليه فامتنع منه اتّباعه و لمّا اعتقد أنّ ما جزم به من الباطل هو الحقّ امتنع أن يعرف مبدء دخوله في الجهل و هو باب العمى فامتنع منه أن يصدّ عنه ثمّ حكم عليه السّلام عن تلك الأوصاف أنّه ميّت الأحياء أمّا كونه ميّتا فلأنّ الحياة الحقيقيّة الّتى تطلب لكلّ عاقل و الّتى وردت الشرائع و الكتب الالهيّة بالأمر بتحصيلها هى حياة النفس باستكمال الفضائل الّتى هى سبب السعادة الباقية، و قد علمت أنّ الجهل المركّب هو الموت المضادّ لتلك الحياة فالجاهل بالحقيقة ميّت. و أمّا أنّه ميّت الأحياء فلأنّه في صورة الحىّ
الفصل الثالث:
القسم الأول
قوله: فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ وَ أَنَّى تُؤْفَكُونَ- وَ الْأَعْلَامُ قَائِمَةٌ وَ الْآيَاتُ وَاضِحَةٌ وَ الْمَنَارُ مَنْصُوبَةٌ- فَأَيْنَ يُتَاهُ بِكُمْ وَ كَيْفَ تَعْمَهُونَ وَ بَيْنَكُمْ عِتْرَةُ نَبِيِّكُمْ- وَ هُمْ أَزِمَّةُ الْحَقِّ وَ أَعْلَامُ الدِّينِ وَ أَلْسِنَةُ الصِّدْقِ- فَأَنْزِلُوهُمْ بِأَحْسَنِ مَنَازِلِ الْقُرْآنِ- وَ رِدُوهُمْ وُرُودَ الْهِيمِ الْعِطَاشِ- أَيُّهَا النَّاسُ خُذُوهَا عَنْ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ ص- إِنَّهُ يَمُوتُ مَنْ مَاتَ مِنَّا وَ لَيْسَ بِمَيِّتٍ- وَ يَبْلَى مَنْ بَلِيَ مِنَّا وَ لَيْسَ بِبَالٍ- فَلَا تَقُولُوا بِمَا لَا تَعْرِفُونَ- فَإِنَّ أَكْثَرَ الْحَقِّ فِيمَا تُنْكِرُونَ- وَ اعْذِرُوا مَنْ لَا حُجَّةَ لَكُمْ عَلَيْهِ وَ هُوَ أَنَا- أَ لَمْ أَعْمَلْ فِيكُمْ بِالثَّقَلِ الْأَكْبَرِ- وَ أَتْرُكْ فِيكُمُ الثَّقَلَ الْأَصْغَرَ- قَدْ رَكَزْتُ فِيكُمْ رَايَةَ الْإِيمَانِ- وَ وَقَفْتُكُمْ عَلَى حُدُودِ الْحَلَالِ وَ الْحَرَامِ- وَ أَلْبَسْتُكُمُ الْعَافِيَةَ مِنْ عَدْلِي- وَ فَرَشْتُكُمُ الْمَعْرُوفَ مِنْ قَوْلِي وَ فِعْلِي- وَ أَرَيْتُكُمْ كَرَائِمَ الْأَخْلَاقِ مِنْ نَفْسِي- فَلَا تَسْتَعْمِلُوا الرَّأْيَ فِيمَا لَا يُدْرِكُ قَعْرَهُ الْبَصَرُ- وَ لَا تَتَغَلْغَلُ إِلَيْهِ الْفِكَرُ
اللغة
أقول: تؤفكون: تصرفون.
و التيه: الضلال.
و العمة: الحيرة و التردّد.
و عترة الرجل: أقاربه من ولده و ولد ولده و أدانى بنى عمّه.
و الهيم: الإبل العطاش.
المعنى
و أعلم أنّه لمّا قدّم المتّقين بصفاتهم و الفاسقين بصفاتهم كان في ذكرهما تنبيه على وصفى طريقى الحقّ و الباطل و لوازمهما فلذلك أعقبهما بالتنبيه على كونهم في صلال و تيه و عمى عن الحقّ ثمّ بالتخويف و التبكيت و التذكير بكتاب اللّه و عترة رسوله ليلزموا سمتهم و يسلكوا بهم طريق أهل التقوى و يفيئوا عن ضلالهم إلى اقتباس أنوار الحقّ من أهله.
فقوله: فأين تذهبون. إلى قوله: منصوبة.
سؤال عمّا يذهبون إليه و عن وقت صرفهم عن ذلك الغىّ سؤالا على سبيل الإنكار لما هم عليه من الطريق الجائرة، و الواو في قوله: و الأعلام. للحال. و أشارة بالأعلام إلى أئمّة الدين، و وضوحها ظهورها بينهم. و كذلك المنار، و نصبها قيام الأئمّة بينهم و وجودهم فيهم، ثمّ أردف ما أنكره من ذهابهم و تعجّب منه بتفسيره فقال: فأين يتاه بكم و كيف تعمهون، و نبّه به إلى أنّ الذهاب الّذى سئلهم عنه هو تيه في الضلال و حيرة الجهل و التردّد في الغىّ، و تبيّن منه أنّ قوله: و أنّى تؤفكون: أى متى تصرفون عن تيهكم و ذهابكم في الضلالة. 301 و قوله: و بينكم عترة نبيّكم. الواو للحال أيضا فالعامل تعمهون، أويتاه بكم، و كذلك الواو في قوله: و هم أزمّة الحقّ: و المعنى كيف يجوز أن تتيهوا في ظلمات الجهل مع أنّ فيكم عترة نبيّكم، و أراد بعترته أهل بيته عليهم السّلام و إليه الإشارة بقول الرسول صلى اللّه عليه و آله و سلّم: و خلّفت فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا كتاب اللّه و عترتى أهل بيتى لن يفترقا حتّى يردا علىّ الحوض. و استعار لهم لفظ الأزمّة، و وجه المشابهة كونهم قادة للخلق إلى طريق الحقّ كما يقود الزمام الناقة إلى الطريق، و كذلك استعار لهم لفظ الألسنة، و وجه المشابهة كونهم تراجمة الوحى الصادق كما أنّ اللسان ترجمان النفس، و يحتمل أن يريد بكونهم ألسنة الصدق أنّهم لا يقولون إلّا صدقا.
و قوله: فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن.
فاعلم أنّ للقرآن منازل: الاولى القلب. و هو فيه بمنزلتين: إحداهما منزلة الإكرام و التعظيم، و الثانية منزلة التصوّر فقط من دون تعظيم. الثالثة: منزلته في الوجود اللسانىّ بالتلاوة. الرابعة: منزلته في الدفاتر و الكتب، و أحسن منازله هى الاولي. فالمراد إذن الوصيّة بإكرامهم و محبّتهم و تعظيمهم كما يكرم القرآن بالمحبّة و التعظيم.
و قوله: وردوهم ورود الهيم العطاش.
إرشاد لهم إلى اقتباس العلوم و الأخلاق منهم إذ كانوا معادنها. و لمّا كانت العلماء و الأئمّة تشبه بالينابيع، و العلم يشبه بالماء العذب، و عادمه بالعطشان حسن منه أن يأمرهم بورودهم و أن يشبه الورود المطلوب منهم بورود الإبل العطاش.
و قوله: أيّها الناس. إلى قوله: ببال
لمّا كان عليه السّلام في معرض ذكر الفائدة فكأنّها قد تقدّم ذكرها فلذلك أحسن إبراز الضمير في قوله: خذوها. و إن لم يسبق لها ذكر، و إشارة النبىّ بهذه الكلمة تقرير لقوله تعالى وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ
فَرِحِينَ«» و لما اتّفقت عليه كلمة العلماء، و نطقت به البراهين العقليّة أنّ أولياء اللّه لا يموتون و لا يبلون و إن بليت أجسادهم.
قال بعض الخائضين فيما لا يعنيه قوله: و يبلى من بلى منّا نصّ جلىّ على أنّ أجساد الأولياء ت لى و ذلك يخالف ما يعتقده الناس من أنّ أجسادهم باقية إلى يوم القيامة بحالها.
قلت الاعتقاد المذكور لبعض الناس إنّما نشأ من قول الرسول صلى اللّه عليه و آله و سلّم في قتلى بدر زمّلوهم بكلومهم و دمائهم فإنّهم يحشرون يوم القيامة و أوداجهم تشخب دما و قوله تعالى وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ الآية و ليس و لا واحد منهما بدالّ على أنّ الأجساد لا تموت و لا تبلى أمّا الخبر فليس مقتضاه أنّها تبقى صحيحة تشخب دما إلى يوم القيامة بل ذلك ممّا يشهد ببطلانه الحسّ بل يحمل على أنّها كما تعاد يوم القيامة تعاد مجروحة تشخب جراحها دما كهيئتها يوم موتها، و أمّا الآية فالّذى أجمع عليه علماء المفسّرين أنّ الحياة المذكورة فيها هى حياة النفوس و هو ظاهر في سبب نزولها عن ابن عباس- رضوان اللّه عليه- قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم: لمّا اصيب إخوانكم باحد جعل اللّه أرواحهم في أجواف طيور خضر ترد أنهار الجنّة و تأكل من ثمارها و تأوى إلى قناديل من ذهب معلّقة في ظلّ العرش فلمّا وجدوا طيب مأكلهم و مشربهم و مقيلهم قالوا: من يبلغ إخواننا عنّا أنّا في الجنّة نرزق لئلّا يزهد في الجهاد و لا ينكلوا عند الحرب فقال اللّه عزّ و جلّ أنا أبلغهم عنكم فنزلت وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا الآية فإذن لا منافاة بين كلامه عليه السّلام و ما ورد في القرآن و الخبر و مقصوده بهذه الكلمة تقرير فضيلتهم و أنّهم أولياء باقون عند ربّهم في ظلّ كرامته.
و قوله: فلا تقولوا بما لا تعرفون.
تنبيه على الرجوع إلى العترة العارفين بما ينبغي أن يقال و قوله: فإنّ أكثر الحقّ فيما تنكرون تأكيد للأمر بالتثبّت في الأقوال و النهى عن التسرّع إليها، و الجاهل قد ينكر الحقّ إذا خالف طبعه أو نبا عنه فهمه أو سبق اعتقاد ضدّه إليه بشبهة أو تقليد فنبّه على أنّ أكثر الحقّ فيما ينكرونه لئلّا يتسرّعوا إلى القول من غير علم،و لذلك ذكر هذه القضيّة مرتّبة بفاء التعليل.
و قوله: و أعذروا من لا حجّة لكم عليه و هو أنا.
طلب عليه السّلام العذر منهم فيما يلحقهم من عذاب اللّه بسبب تقصيرهم فإنّ الضرر اللاحق لهم قد انذروا به و توعّدوا فلو قصّرهو عليه السّلام في تذكيرهم بتلك الوعيدات أو الإنذارات مع كون ذلك مأخوذا عليه من اللّه تعالى فكانت حجّتهم عليه قائمة و لمّا كان له عذر لكنّه بلّغ و حذّر و قد أعذر من أنذر و إنّما ذكّرهم بسلب الحجّة عنهم في ذلك ليتذكّروا خطأهم و لعلّهم يرجعون.
و قوله: أ لم أعمل فيكم إلى قوله: من نفسى.
تفصيل لما جاءهم به من الجواذب إلى اللّه فأعذر إليهم بها و أتى بلفظ الاستفهام على سبيل التقريع و التبكيت و الثقل الأكبر كتاب اللّه، و أشار بكونه أكبر إلى أنّه الأصل المتّبع المقتدى به، و الثقل الأصغر الأئمّة من ولده عليهم السّلام، و كنّى براية الإيمان عن سنّة المتّبعة و طريقة الواضحة في العمل بكتاب اللّه و سنّة رسوله كناية بالمستعار، و وجه المشابهة كونه طريقة يهتدى بها إلى سلوك سبيل اللّه كما يهتدى بالأعلام و الرايات أمام الجيش و غيره، و لفظ الركز ترشيح للاستعارة كنّى به عن إيضاحها لهم و توقيفه على حدود الحلال و الحرام تعريفهم إيّاها و أراد بالعافية السلامة عن الأذى الحاصل من أيدي الظالمين، و استعار لفظ اللباس لها، و وجه الاستعارة أنّ العافية تشمل المعافى كالقميص، و كذلك استعار لفظ الفرش للمعروف لكونه إذا وطيت قواعده يستراح به كالفراش.
و قوله: و أريتكم كرايم الأخلاق من نفسى
و قوله: و أريتكم كرايم الأخلاق من نفسى: أى أوضحتها لكم و شاهدتموها منّى متكرّرة.
و قوله: فلا تستعملوا الرأى إلى آخره.
نهى لهم عن الاشتغال بالخوض في صفات اللّه و البحث عن ذاته على غير قانون و استاد مرشد بل بحسب الرأي و التخمين فإنّ تلك الدقايق لمّا كانت لا ساحل لها و لا غاية يقف الفكر عندها و إن تغلغل في أعماقها و كانت مع ذلك في غاية العسر و الدقة و كثرة الاشتباه كان تداولهم للاشتغال بها مؤدّيا إلى الخبط و افتراق المذاهب و تشتّت الكلمة و الاشتغال بذلك عن الانتظام في سلك الدين و الاتّحاد فيه كما عليه من ينتسب إلى العلم بعده و كلّ ذلك منه مطلوب الشارع فإنّ الالفة و الاتّحاد في الدين من أعظم مطلوباته و يحتمل أن يريد مطلق دقايق العلم و تفريع الفقه على غير قانون من إمام هدى بل الرأى عن أدنى وهم.
القسم الثاني
منها: حَتَّى يَظُنَّ الظَّانُّ أَنَّ الدُّنْيَا مَعْقُولَةٌ عَلَى بَنِي أُمَيَّةَ- تَمْنَحُهُمْ دَرَّهَا وَ تُورِدُهُمْ صَفْوَهَا- وَ لَا يُرْفَعُ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ سَوْطُهَا وَ لَا سَيْفُهَا وَ كَذَبَ الظَّانُّ لِذَلِكَ- بَلْ هِيَ مَجَّةٌ مِنْ لَذِيذِ الْعَيْشِ يَتَطَعَّمُونَهَا بُرْهَةً- ثُمَّ يَلْفِظُونَهَا جُمْلَةً
اللغة
أقول: معقولة: محبوسة. و المجّة: الفعلة من مجّ الشراب إذا قذفه من فيه. و البرهة: المدّة من الزمان فيها طول. و لفظ كذا: ألقاه من فيه.
المعنى
و هذا الكلام من فصل يذكر فيه حال بنى اميّة و طول مدّتهم و بلاء الخلق بهم فقوله: يظنّ الظانّ. إلى قوله: سيفها. غاية من غايات طول عناء الناس معهم و استعار للدنيا أوصافا: أحدها: كونها معقولة، و وجه الاستعارة ملاحظة شبهها بالناقة في كونها محبوسة في أيديهم كما تحبس الناقة بالعقال. الثاني: كونها ذات درّ نمنحهم إيّاه، و وجه الاستعارة أيضا تشبيهها بالناقة في كون ما فيها من فوائدها و خيرها مهيّئة لهم و مصبوبة عليهم كما تبذل الناقة درّها حالبها. الثالث: كونها توردهم صفوها، و نسبة الايراد إليها مجاز، و تجوّز بالسوط و السيف فيما فيه الامّة معهم من العذاب و القتل و نحوه استعمالا للفظ السبب في المسبّب و قوله: و كذب الظانّ لذلك. إلى آخره ردّ لما عساه يظنّ من ذلك بتحقير ما حصلوا عليه من الأمر و لذّتهم به و تحقير مدّته، و استعار لذلك لفظ المجّة، و كنّى بكونها مطعومة لهم عن تلذّذهم ها مدة إمرتهم، و بكونها ملفوظة عن زوال الآخرة عنهم، و أكّد ذلك الزوال بقوله: جملة: أى بكلّيّتها و هي كناية بالمستعار تشبيها لها باللقمة الّتى لا يمكن إساغتها، و باللّه التوفيق.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحرانی ج 2 ، صفحهى 305