و من كلام له عليه السّلام فى صفة الدنيا
مَا أَصِفُ مِنْ دَارٍ أَوَّلُهَا عَنَاءٌ وَ آخِرُهَا فَنَاءٌ- فِي حَلَالِهَا حِسَابٌ وَ فِي حَرَامِهَا عِقَابٌ- مَنِ اسْتَغْنَى فِيهَا فُتِنَ- وَ مَنِ افْتَقَرَ
فِيهَا حَزِنَ وَ مَنْ سَاعَاهَا فَاتَتْهُ- وَ مَنْ قَعَدَ عَنْهَا وَاتَتْهُ وَ مَنْ أَبْصَرَ بِهَا بَصَّرَتْهُ- وَ مَنْ أَبْصَرَ إِلَيْهَا أَعْمَتْهُ
قال الشريف: أقول: و إذا تامل المتأمل قوله عليه السّلام «من أبصر بها بصرته» وجد تحته من المعنى العجيب و الغرض البعيد ما لا تبلغ غايته و لا يدرك غوره، و لا سيما إذا قرن إليه قوله «و من أبصر إليها أعمته»، فإنه يجد الفرق بين «أبصر بها» و «أبصر إليها» واضحا نيرا و عجيبا باهرا
اللغة
أقول: العناء: التعب،
و قد ذكر للدنيا في معرض ذمّها و التنفير عنها أوصافا عشرة:
الأوّل: كون أوّلها عناء
و هو إشارة إلى أنّ الإنسان من لدن ولادته في تعب و شقاء، و يكفى في الإشارة إلى متاعب الإنسان فيها ما ذكره الحكيم برزويه في صدر كتاب كليلة و دمنة في معرض تطويع نفسه بالصبر على عيش النسّاك: أو ليست الدنيا كلّها أذى و بلاء أو ليس الإنسان يتقلّب في ذلك من حين يكون جنينا إلى أن يستوفى أيّامه فإنّا قد وجدنا في كتب الطبّ أنّ الماء الّذي يقدّر منه الولد السوىّ إذا وقع في رحم المرأة اختلط بمائها و دمها و غلظ ثمّ الريح تمحص ذلك الماء و الدم حتّى تتركه كالرائب الغليظ ثمّ تقسمه في أعضائه لآناء أيّامه فإن كان ذكرا فوجهه قبل ظهر امّه و إن كان انثى فوجهها قبل بطن امّها، و ذقنه على ركبتيه و يداه على جنبيه مقبض في المشيمة كأنّه مصرور، و يتنفّس من متنفّس شاقّ، و ليس منه عضو إلّا كأنّه مقموط، فوقه حرّ البطن و تحته ما تحته، و هو منوط بمعاء من سرّته إلى سرّة امّه منها يمصّ و يعيش من طعام امّه و شرابها فهو بهذه الحالة في الغمّ و الظلمات و الضيق حتّى إذا كان يوم ولادته سلّط اللّه الريح على بطن امّه و قوى عليه التحريك فتصوّب رأسه قبل المخرج فيجد من ضيق المخرج و عصره ما يجده صاحب الرهق [الرمق خ] فإذا وقع على الأرض فأصابته ريح أو مسّته يد وجد من ذلك من الألم ما لم يجده من سلخ جلده ثمّ هو في ألوان من العذاب إن جاع فليس له استطعام، و إن عطش فليس له استقاء، أو وجع فليس له استغاثة مع ما يلقى من الرفع و الوضع و اللفّ و الحلّ و الدهن و المرخ، إذا انيم على ظهره لم يستطع تقلّبا. فلا يزال في أصناف هذا العذاب ما دام رضيعا. فإذا أفلت من ذلك اخذ بعذاب الأدب فاذيق منه ألوانا، و في الحميّة و الأدواء و الأوجاع و الأسقام. فإذا أدرك فهمّ المال و الأهل و الولد و الشره و الحرص و مخاطرة الطلب و السعى. و كلّ هذا يتقلّب معه فيها أعداؤه الأربعة: المرّة و البلغم و الدم و الريح، و السمّ المميت و الحيّات اللادغة مع و خوف السباع و الناس و خوف البرد و الحرّ ثمّ ألوان عذاب الهرم لمن بلغه.
الثاني: كون آخرها فناء.
هو تنفير عنها بذكر غايتها و هو الموت و ما يستصحبه من فراق الأهل و الأحبّة، و الإشراف على أهوانه العظيمة المعضلة.
الثالث: كونها في حلالها حساب.
و هو إشارة إلى ما يظهر في صحيفة الإنسان يوم القيامة من الآثار المكتوبة عليه ممّا خاض فيه من مباحات الدنيا، و توسّع فيه من المآكل و المشارب و المناكح و المراكب، و ما يظهر في لوح نفسه من محبّة ذلك فيعوقه عن اللحوق بالمجرّدين عنها الّذين لم يتصرّفوا فيها تصرّف الملّاك فلم يكتب عليه في شيء منها ما يحاسبون عليه. و إليه إشارة سيّد المرسلين صلى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ الفقراء ليدخلون الجنّة قبل الأغنياء بخمس مائة عام، و إنّ فقراء امّتى ليدخلون الجنّة سعيا، و عبد الرحمن يدخلها حبوا. و ما ذاك إلّا لكثرة حساب الأغنيا بتعويقهم بثقل ما حملوا من محبّة الدنيا و قيناتها عن اللحوق بدرجة المخفّين منها. و قد عرفت كيفيّة الحساب.
الرابع: كونها في حرامها عقاب.
و هو تنفير عمّا يوجب العقاب من الآثام بذكره.
الخامس: كونها من استغنى فيها فتن
أى كانت محبّته لما اقتنى فيها سببا لفتنته و ضلاله عن سبيل اللّه كما قال تعالى وَ اعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَ«»
السادس: كونها من افتقر فيها حزن.
و ظاهر أنّ الفقير الطالب للدنيا غير الواجد لها في غاية المحنة و الحزن على ما يفوته منها، و خاصّة ما يفوته بعد حصوله له.
السابع: من ساعاها فاتته.
و أقوى أسباب هذا الفوات أنّ تحصيلها أكثر ما يكون بمنازعة أهلها عليها و مجاذبتهم إيّاها، و قد علمت ثوران الشهوة و الغضب و الحرص عند المجاذبة للشيء و قوّة منع الإنسان له. و تجاذب الخلق للشيء و عزّته عندهم سبب لتفويت بعضهم له على بعض، و فيه تنبيه على وجوب ترك الحرص عليها و الإعراض عنها.
إذ كان فواتها اللازم عن شدّة السعى في فضلها مكروها للسامعين.
الثامن: كونها من قعد عنها و اتته.
و هو أيضا جذب إلى القعود عنها و تركها و إن كان الغرض مواتاتها كما يفعله أهل الزهد الظاهرىّ المشوب بالرياء، و قد علمت أنّ الزهد الظاهرىّ مطلوب أيضا للشارع إذ كان وسيلة إلى الزهد الحقيقىّ كما قال الرسول صلى اللّه عليه و آله و سلّم: الرياء قنطرة الإخلاص. و قد راعى في القرائن السجع المتوازى.
التاسع: من أبصر بها بصّرته:
أى من جعلها سبب هدايته و بصره استفاد منها البصر و الهداية، و ذلك أنّك علمت أنّ مقصود الحكمة الإلهيّة من خلق هذا البدن و ما فيه من الآلات و المنافع إنّما هو استكمال نفسه باستخلاص العلوم الكلّيّة و فضايل الأخلاق من تصفّح جزئيّات الدنيا و مقايسات بعضها إلى بعض كالاستدلال بحوادثها و عجائب مخلوقات اللّه فيها على وجوده و حكمته وجوده، و تحصيل الهداية بها إلى أسرار ملكه فكانت سببا مادّيا لذلك فلأجله صدق أنّها تبصّر من أبصر بها.
العاشر: و من أبصر إليها أعمته:
أى من مدّ إليها بصر بصيرته، و تطّلع إليها بعين قلبه محبّة و عشقا أعمت عين بصيرته عن إدراك أنوار اللّه و الاهتداء لكيفيّة سلوك سبيله.
و إليه الإشارة بالنهى في قوله تعالى وَ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ«» و قد ظهر الفرق بين قوله: من أبصر بها، و من أبصر إليها، و مدح السيّد لهذا الفصل مدح في موضعه.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحرانی)، ج 2 ، صفحهى 228