و من كلام له عليه السّلام
قاله لبعض أصحابه لما عزم على المسير إلى الخوارج، فقال له: يا أمير المؤمنين، إن سرت فى هذا الوقت خشيت أن لا تظفر بمرادك، من طريق علم النجوم.
فقال عليه السّلام: أَ تَزْعُمُ أَنَّكَ تَهْدِي إِلَى السَّاعَةِ- الَّتِي مَنْ سَارَ فِيهَا صُرِفَ عَنْهُ السُّوءُ- وَ تُخَوِّفُ مِنَ السَّاعَةِ الَّتِي مَنْ
سَارَ فِيهَا حَاقَ بِهِ الضُّرُّ- فَمَنْ صَدَّقَكَ بِهَذَا فَقَدْ كَذَّبَ الْقُرْآنَ- وَ اسْتَغْنَى عَنِ الِاسْتِعَانَةِ بِاللَّهِ- فِي نَيْلِ الْمَحْبُوبِ وَ دَفْعِ
الْمَكْرُوهِ- وَ تَبْتَغِي فِي قَوْلِكَ لِلْعَامِلِ بِأَمْرِكَ- أَنْ يُولِيَكَ الْحَمْدَ دُونَ رَبِّهِ- لِأَنَّكَ بِزَعْمِكَ أَنْتَ هَدَيْتَهُ إِلَى السَّاعَةِ- الَّتِي نَالَ
فِيهَا النَّفْعَ وَ أَمِنَ الضُّرَّ ثم أقبل ع على الناس فقال أَيُّهَا النَّاسُ- إِيَّاكُمْ وَ تَعَلُّمَ النُّجُومِ إِلَّا مَا يُهْتَدَى بِهِ فِي بَرٍّ أَوْ بَحْرٍ- فَإِنَّهَا
تَدْعُو إِلَى الْكَهَانَةِ- وَ الْمُنَجِّمُ كَالْكَاهِنِ وَ الْكَاهِنُ كَالسَّاحِرِ وَ السَّاحِرُ كَالْكَافِرِ- وَ الْكَافِرُ فِي النَّارِ سِيرُوا عَلَى اسْمِ اللَّهِ
اللغة
أقول: حاق به: أحاط. و يوليه كذا: يعطيه إيّاه و يجعله أولى به.
المعنى
و روى أنّ المشير عليه بذلك كان عفيف بن قيس أخا لأشعث بن قيس و كان يتعاطى علم النجوم. و اعلم أنّ الّذي يلوح من سرّ نهى الحكمة النبوّية عن تعلّم النجوم أمران:
أحدها: اشتغال متعلّمها بها، و اعتماد كثير من الخلق السامعين لأحكامها فيما يرجون و يخافون عليه فيما يسنده إلى الكواكب و الأوقات، و الاشتغال بالفزع إليه و إلى ملاحظة الكواكب عن الفزع إلى اللّه و الغفلة عن الرجوع إليه فيمايهمّ من الأحوال و قد علمت أنّ ذلك يضادّ مطلوب الشارع إذ كان غرضه ليس إلّا دوام التفات الخلق إلى اللّه و تذكّرهم لمعبودهم بدوام حاجتهم إليه.
الثاني: أنّ الأحكام النجوميّة إخبارات عن امور سيكون و هى تشبه الاطّلاع على الامور الغيبيّة. و أكثر الخلق من العوامّ و النساء و الصبيّان لا يتميّزون بينها و بين علم الغيب و الإخبار به. فكان تعلّم تلك الأحكام و الحكم بها سببا لضلال كثير من الخلق موهنا لاعتقاداتهم في المعجزات إذ الإخبار عن الكائنات منها، و كذلك في عظمة بارئهم. و يسلكهم في عموم صدق قوله تعالى قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ و عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ«» و قوله إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَ يُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَ يَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ«» فالمنجّم إذا حكم لنفسه بأنّه يصيب كذا في وقت كذا فقد ادّعى أنّ نفسه تعلم ما تكسب غدا و بأىّ أرض تموت. و ذلك عين التكذيب للقرآن، و كأنّ هذين الوجهين هما المقتضيان لتحريم الكهانة و السحر و العزائم و نحوها، و أمّا مطابقة لسان الشريعة للعقل في تكذيب هذه الأحكام فبيانها أنّ أهل النظر أمّا متكلّمون فإمّا معتزلة أو أشعريّة.
أمّا المعتزلة فاعتمادهم في تكذيب المنجّم على أحد أمرين: أحدهما: أنّ الشريعة كذّبته. و عندهم أنّ كلّ حكم شرعىّ فيشتمل على وجه عقلىّ و إن لم يعلم عين ذلك الوجه، و الثاني مناقشته في ضبطه لأسباب ما اخبر عنه من كون أو فساد.
و أمّا الاشعريّة فهم و إن قالوا: إنّه لا مؤثّر له إلّا اللّه و زعم بعضهم أنّهم خلصوا بذلك من إسناد التأثيرات إلى الكواكب إلّا أنّه لا مانع على مذهبهم أن يجعل اللّه تعالى اتّصال نجم بنجم أو حركته علامة على كون كاين أو فساده و ذلك ممّا لا يبطل على منجّم قاعدة. فيرجعون أيضا إلى بيان عدم إحاطته بأسباب كون ما اخبر عنه. و مناقشته في ذلك.
و أمّا الحكماء فاعلم أنّه قد ثبت في اصولهم أنّ كلّ كائن فاسد في هذا العالم فلا بدّ له من أسباب أربعة: فاعلىّ، و مادّىّ، و صورىّ، و غائىّ: أمّا السبب الفاعلىّ القريب فالحركات السماوية و الّذي هو أسبق منها فالمحرّك لها إلى أن ينتهى إلى الجود الإلهىّ المعطى لكلّ قابل ما يستحقّه، و أمّا سببه المادىّ فهو القابل لصورته و تنتهى القوابل إلى القابل الأوّل و هو مادّة العناصر المشتركة بينها، و أمّا الصورىّ فصورته الّتي يقبلها مادّته، و أمّا الغائىّ فهى الّتي لأجلها وجد. أمّا الحركات السماويّة فإنّ من الكاينات ما يحتاج في كونه إلى دورة واحدة للفلك، و منها ما يحتاج إلى جملة من أدواره و اتّصالاته. و أمّا القوابل للكائنات فقد تقرّر عندهم أيضا أنّ قبولها لكلّ كاين معيّن مشروط باستعداد معيّن له و ذلك الاستعداد يكون بحصول صورة سابقة عليه و هكذا قبل كلّ صورة صورة معدّة لحصول الصورة بعدها و كلّ صورة منها أيضا تستند إلى الاتّصالات و الحركات الفلكيّة، و لكلّ استعداد معيّن زمان معيّن و حركة معيّنة و اتّصال معيّن يخصّه لا يفي بدركها القوّة البشريّة.
إذا عرفت ذلك فنقول: الأحكام النجوميّة إمّا أن تكون جزئيّة و إمّا كلّيّة.
أمّا الجزئيّة فأن يحكم مثلا بأنّ هذا الإنسان يكون من حاله كذا و كذا، و ظاهر أنّ مثل هذا الحكم لا سبيل إلى معرفته إذ العلم به إنّما هو من جهة أسبابه أمّا الفاعليّة فأن يعلم أنّ الدورة المعيّنة و الاتّصال المعيّن سبب لملك هذا الرجل البلد المعيّن مثلا و أنّه لا سبب فاعلىّ لذلك إلّا هو، و الأوّل باطل لجواز أن يكون السبب غير ذلك الاتّصال أو هو مع غيره. أقصى ما في الباب أن يقال:
إنّما كانت هذه الدورة و هذه الاتّصال سببا لهذا الكاين لأنّها كانت سببا لمثله فى الوقت الفلانىّ لكن هذا أيضا باطل لأنّ كونها سببا للكائن السابق لا يجب أن يكون لكونها مطلق دورة و اتّصال بل لعلّه أن يكون لخصوصيّة كونه تلك المعيّنة الّتى لا تعود بعينها فيما بعد، و حينئذ لا يمكن الاستدلال بحصولها على كون هذا الكاين لأنّ المؤثرات المختلفة لا يجب تشابه آثارها، و الثاني أيضا باطل لأنّ العقل يجزم بأنّه لا اطّلاع له على أنّه لا يقتضى لذلك الكاين من الأسباب الفاعلة إلّا الاتّصال المعيّن. كيف و قد ثبت أنّ من الكاينات ما يفتقر إلى أكثر من اتّصال واحد و دورة واحدة أو أقلّ، و أمّا القابليّة فأن يعلم أنّ المادّة قد استعدّت لقبول مثل هذا الكاين و استجمعت جميع شرائط قبوله الزمانيّة و المكانيّة و السماويّة و الأرضيّة. و ظاهر أنّ الإحاطة بذلك ممّا لا يفي به القوّة البشريّة، و أمّا الصوريّة و الغائيّة فأن يعلم ما يقتضيه استعداد مادّة ذلك المعيّن و قبولها من الصورة و ما يستلزمه من الشكل و المقدار، و أن يعلم ما غاية وجوده و ما أعدّته العناية له، و ظاهر أنّ الإحاطة بذلك غير ممكنة للإنسان.
و أمّا أحكامهم الكلّيّة فكأن يقال كلّما حصلت الدورة الفلانيّة كان كذا. و المنجّم إنّما يحكم بذلك الحكم من جزئيّات من الدورات تشابهت آثارها فظنّها متكرّرة و لذلك يعدلون إذا حقّق القول عليهم إلى دعوى التجربة، و قد علمت أنّ التجربة تعود إلى تكرّر مشاهدات يضبطها الحسّ. و العقل يحصل منها حكما كليّا كحكمه بأنّ كلّ نار محرقة فإنّه لمّا أمكن العقل استبتات الإحراق بواسطة الحسّ أمكنه الجزم الكلّى بذلك. فأمّا التشكّلات الفلكيّة و الاتّصالات الكوكبيّة المقتضية لكون ما يكون فليس شيء منها يعود بعينه كما علمت و إن جاز أن يكون تشكّلات و عودات متقاربة الأحوال و متشابهة إلّا أنّه لا يمكن الإنسان ضبطها و لا الاطّلاع على مقدار ما بينها من المشابهة و التفاوت، و ذلك أنّ حساب المنجّم مبنىّ على قسمة الزمان بالشهور و الأيّام و الساعات و الدرج و الدقايق و أجزائها، و تقسيم الحركة بإزائها و رفعهم بينها نسبة عدديّة و كلّ هذه امور غير حقيقيّة و إنّما تؤخذ على سبيل التقريب. أقصى ما في الباب أنّ التفاوت فيها لا يظهر في المدد المتقاربة لكنّه يشبه أن يظهر في المدد المتباعدة، و مع ظهور التفاوت في الأسباب كيف يمكن دعوى التجربة و حصول العلم الكلّى الثابت الّذي لا يتغيّر باستمرار أثرها على و تيرة واحدة. ثمّ لو سلّمنا أنّه لا يظهر تفاوت أصلا إلّا أنّ العلم بعود مثل الدورة
إذا عرفت ذلك فنقول: قوله: أ تزعم إلى قوله: الضرّ. استثبات لما في العادة أن يدّعيه الأحكاميّون كما ادّعاه المنجّم المشير بعدم المسير في ذلك الوقت. و قوله: فمن صدّقك [صدّق خ] بهذا إلى قوله: الضرر. إلزامات له على ما يعتقده عن نفرتها عن قبول أحكام المنجّم و الاعتقاد فيه.
أوّلها: أنّ من صدّقه فقد كذّب القرآن، و وجه التكذيب ما ذكرناه.
الثاني: كون مصدّقه يستغنى عن الاستعانة باللّه في نيل محبوبه و رفع مكروهه: أى يفزع إليه في كلّ أمريهمّ به و يجعلهم عمدة له فيعرض عن الفزع إلى اللّه كما سبق.
الثالث: أنّه ينبغي للعامل أن يوليه الحمد دون ربّه. و علّل هذا الإلزام بقياس ضمير من الشكل الأوّل. صورته: تزعم أنّك تهدى إلى ساعة النفع و الضرر، و كلّ من زعم ذلك فقد أهّل نفسه لاستحقاق الحمد من مصدّقه دون اللّه. فينتج أنّه قد أهّل نفسه لاستحقاق الحمد من مصدّقه دون اللّه. و الكبرى من المخيّلات، و قد يستعملها الخطيب للتنفير عن بعض الامور الّتى يقصد النهى عنها. و قوله: أيّها الناس. إلى قوله: برّ أو بحر. تحذير عن تعلّمها لما ذكرناه، و استثنى من ذلك تعلّمها للاهتداء بها في السفر.
و اعلم أنّ الّذي ذكرناه ليس إلّا بيان أنّ الاصول الّتي ينبىء عليها الأحكاميّون و ما يخبرون به في المستقبل اصول غير موثوق بها فلا يجوز الاعتماد عليها في تلك الأحكام و الجزم بها. و هذا لا ينافي كون تلك القواعد ممهّدة بالتقريب كقسمة الزمان و حركة الفلك بالسنة و الشهر و اليوم مأخوذا عنها حساب يبنى عليه مصالح دينيّة كمعرفة أوقات العبادات كالصوم و الحجّ و نحوهما أو دنيويّة كآجال المداينات و ساير المعاملات و كمعرفة الفصول الأربعة ليعمل في كلّ منها ما يليق به من الحراثة و السفر و أسباب المعاش، و كذلك معرفة قوانين تقريبيّة من أوضاع الكواكب و حركاتها يهتدى بقصدها و على سمتها المسافرون في برّ أو بحر فإنّ ذلك القدر منها غير محرّم بل لعلّه من الامور المستحبّة لخلوّ المصالح المذكورة فيه عن وجوه المفاسد الّتي تشتمل عليها الأحكام كما سبق. و لذلك أمتن اللّه سبحانه على عباده بخلق الكواكب في قوله وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ«» و قوله لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَ الْحِسابَ«» و قوله: فإنّها. إلى آخره.
تعليل للتحذير عن تعلّمها و تنفير عنها بقياس آخر موصول يستنتج منه أنّ المنجّم في النار. و على تقدير تفصيله فالنتيجة الاولى كون المنجّم كالساحر و هى مع قوله: و الساحر كالكافر. و هذه النتيجة مع قوله: و الكافر في النار ينتج المطلوب، و هو أنّ المنجّم في النار، و القياسان الأوّلان من قياس المساواة. و قد علمت أنّه عسر الانحلال إلى الحدود المرتّبة في القياس المنتج لأنّ موضوع الكبرى جزء من محمول الصغرى فليس الأوسط بمشترك فهو معدول عن وجهه إلى وقوع الشركة في بعض الأوسط. و لذلك يستحقّ أن يفرد باسم و يجعل لتحليله قانون يرجع إليه في أمثاله. و قد سبق مثله في الخطبة الاولى. و إذا حمل على القياس الصحيح كان تقديره المنجّم يشبه الكاهن المشبه للساحر و مشبه الكاهن المشبه للساحر مشبه للساحر فينتج أنّ المنجّم يشبه الساحر، و هكذا في القياس الثاني المنجّم يشبه الساحر المشبه للكافر و مشبه الساحر المشبه للكافر يشبه الكافر فالمنجّم يشبه الكافر و الكافر في النار فالمنجّم كذلك و هو القياس الثالث و نتيجته. فأمّا بيان معنى الكاهن و الساحر و الإشارة إلى وجوه التشبيهات المذكورة: فاعلم أنّا قد أشرنا في المقدّمة إلى مكان وجود نفس تقوى على اطّلاع ما سيكون و على التصرّفات العجيبة في هذا العالم فتلك النفس إن كانت كاملة خيّرة مجذوبة من اللّه تعالى بدواعى السلوك إلى سبيله و ما يقود إليه فهى نفوس الأنبياء و الأولياء ذوى المعجزات و الكرامات، و إن كانت ناقصة شريرة منجذبة عن تلك الجهة و غير طالبة لتلك المرتبة بل مقتصرة على رذايل الأخلاق و خسائس الامور كالتكهّن و نحوه فهى نفوس الكهنة و السحرة.
و أعلم أنّ أكثر ما تظهر قوّة الكهانة و نحوها من قوى النفوس في أوقات الأنبياء و قبل ظهورهم. و ذلك أنّ الفلك إذا أخذ في التشكّل بشكل يتمّ به في العالم حدث عظيم عرض من ابتداء ذلك الشكل و غايته أحداث في الأرض شبيهة بما يريد أن يتمّ و لكنّها تكون غير تامّه فإذا استكمل ذلك الشكل في الفلك و تمّ وجد به في العالم ما يقتضيه في أسرع زمان لسرعة تبدّل أشكال الفلك فتظهر تلك القوّة الّتي يوجبها ذلك الشكل في شخص واحد أو شخصين أو أكثر على حسب ما يقتضيه العناية الإلهيّة و يستوعب ذلك الشخص تلك القوّة على الكمال. فأمّا من قرب من ذلك الشكل و لم يستوفه فإنّه يكون ناقص القوّة بحسب بعده من الشكل. و يظهر ذلك النقصان بظهور النبوّة المقصودة من ذلك الشكل.
فتبيّن قصور القوى المتقدّمة على النبىّ و المتأخّرة عنه و نقصانهما عن ذلك التمام.
فأمّا صفة الكاهن من أصحاب تلك القوى فإنّ صاحب قوّة الكهانة إذا أحسّ بها من نفسه تحرّك إليها بالإرادة ليكملها فيبرزها في امور حسيّة و يثيرها في علامات تجرى مجرى الفال و الزجر و طرق الحصى، و ربّما استعان بالكلام الّذي فيه سجع و موازنة أو بحركة عنيفة من عدو حثيث كما حكى عن كاهن من الترك، و كما نقل إلىّ من شاهد كاهنا كان في زماننا و توفّى مند عشرين سنة يكنّى بأبى عمرو كان بناحية من ساحل البحر يقال لها قلهات، و إنّه كان إذا سئل عن أمر استعان بتحريك رأسه تحريكا يقوى و يضعف بحسب الحاجة و أجاب عقيب ذلك، و قيل إنّه كان قد يستغنى في بعض الإخبارات عن تلك الحركة. و الغرض من ذلك اشتغال النفس عن المحسوسات فتداخل نفسه و يقوى فيها ذلك الأثر و يهجس في نفسه عن تلك الحركة ما تقذفه على لسانه، و ربّما صدق الكاهن، و ربّما كذب. و ذلك أنّه يتمّم نقصه بأمر مباين لكماله غير داخل فيه فيعرض له الكذب و يكون غير موثوق به، و ربّما تعمد الكذب خوفا من كساد بضاعته فيستعمل الزرق و يخبر بمالا أثر له في نفسه و يضطرّ إلى التخمين. و درجات هؤلاء متفاوتة بحسب قربهم من الافق الإنسانىّ و بعدهم منه و بقدر قبولهم للأثر العلوىّ. و يتميّزون عن الأنبياء بالكذب و ما يدّعونه من المحالات فإن اتّفق أن يلزم أحدهم الصدق فإنّه لا يتجاوز قدره في قوّته و يبادر إلى التصديق بأوّل أمر يلوح من النبىّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم و يعرف فضله كما روى عن طلحة و سواد بن قارب و نحوهما من الكهنة في زمان الرسول صلى اللّه عليه و آله و سلّم.
إذا عرفت ذلك فنقول: أمّا قوله: فإنّها تدعو إلى الكهانة. أىّ أنّها تدعو المنجّم في آخر أمره إلى أن يصّير نفسه كالكاهن في دعوى الإخبار عمّا سيكون، ثمّ أكّد كونها داعية إلى التمكين بتشبيهه بالكاهن. و أعلم أنّ الكاهن يتميّز عن المنجّم بكون ما يخبر به من الأمور الكاينة إنّما هو عن قوّة نفسانيّة له، و ظاهر أنّ ذلك أدعى إلى فساد أذهان الخلق و إغوائهم لزيادة اعتقادهم فيه على المنجّم، و أمّا الساحر فيتميّز عن الكائن بأنّ له قوّة على التأثير في أمر خارج عن بدنه آثارا خارجة عن الشريعة موذية للخلق كالتفريق بين الزوجين و نحوه و تلك زيادة شرّ آخر على الكاهن أدعى إلى فساد أذهان الناس و زيادة اعتقادهم فيه و انفعالهم عنه خوفا و رغبة، و أمّا الكافر فيتميّز عن الساحر بالبعد الأكبر عن اللّه تعالى و عن دينه و إن شاركه في أصل الانحراف عن سبيل اللّه. و حينئذ صار الضلال و الفساد في الأرض مشتركا بين الأربعة إلّا أنّه مقول عليهم بالأشدّ و الأضعف فالكاهن أقوى في ذلك من المنجّم، و الساحر أقوى من الكاهن، و الكافر أقوى من الساحر. و لذلك التفاوت جعل عليه السّلام الكاهن أصلا في التشبيه للمنجّم لزيادة فساده عليه ثمّ ألحقه به، و جعل الساحر أصلا للكاهن، و الكافر أصلا للساحر. لأنّ التشبيه يستدعى كون المشبّه به أقوى في الوصف الّذي فيه التشبيه و أحقّ به. و قد لاح من ذلك أنّ وجه الشبه في الكلّ هو ما يشتركون فيه من العدول و الانحراف عن طريق اللّه بالتنجيم و الكهانة و السحر و الكفر و ما يلزم من ذلك من صدّ كثير من الخلق عن سبيل اللّه و إن اختلف جهات هذا العدول بالشدّة و الضعف كما بيّناه. و لمّا فرغ عليه السّلام من تنفير أصحابه عن تعلّم النجوم و قبول أحكامها و غسّل أذهانهم من ذلك بالتخويف المذكور أمرهم بالمسير إلى الحرب. و روى: أنّه سار في تلك الساعة إلى الخوارج و كان منه ما علمت من الظفر بهم و قتلهم حتّى لم يفلت منهم غير تسعة نفر، و لم يهلك من رجاله غير ثمانية نفر كما سبق بيانه، و ذلك يستلزم خطأ ذلك المنجّم و تكذيبه في مقاله. و باللّه التوفيق.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحرانی)، ج 2 ، صفحه ى 216