و قال عليه السّلام
لما عزم على حرب الخوارج و قيل له: إنهم قد عبروا جسر النهروان
القسم الأول
مَصَارِعُهُمْ دُونَ النُّطْفَةِ- وَ اللَّهِ لَا يُفْلِتُ مِنْهُمْ عَشَرَةٌ وَ لَا يَهْلِكُ مِنْكُمْ عَشَرَةٌ
قال الشريف: يعنى بالنطفة ماء النهر، و هو أفصح، كناية و إن كان كثيرا جما.
المعنى
أقول: خلاصة هذا الخبر أنّه عليه السّلام لمّا خرج إلى أصحاب النهر جاءه رجل من أصحابه فقال: البشرى يا أمير المؤمنين إنّ القوم عبروا النهر لمّا بلغهم و صولك فابشر فقد منحك اللّه اكتافهم. فقال: اللّه أنت رأيتهم قد عبروا. فقال: نعم. فقال عليه السّلام: و اللّه ما عبروه و لن يعبروه و إنّ مصارعهم دون النطفة و الّذي فلق الحبّة و برء النسمة لم يبلغوا إلّا ثلاث و لا قصر توران حتّى يقتلهم اللّه و قد خاب من افترى. قال: ثمّ جاءه جماعة من أصحابه واحدا بعد آخر كلّهم يخبره بما أخبره الأوّل فرك عليه السّلام و سار حتّى انتهى إلى النهر فوجد القوم بأسرهم قد كسر ون سيوفهم و عرقبوا خيولهم و جثوا على الركب و حكموا تحكيمة واحدة بصوت عظيم له زجل، و روى أنّ شابّا من أصحابه قال في نفسه حين حكم عليه السّلام بما حكم من أمرهم و سار إلى النهر لبيان صدق حكمه: و اللّه لأكوننّ قريبا منه فإن كانوا عبروا النهر لأجعلنّ سنان رمحى في عينه أيّدعى علم الغيب، فلمّا وجدهم لم يعبروا نزل عن فرسه و أخبره بما روّى في نفسه، و طلب منه أن يغفر له. فقال عليه السّلام: إنّ اللّه هو الّذي يغفر الذنوب جميعا فاستغفره. فأمّا حكمه بأنّه لا يفلت منهم عشرة و لا يقتل من أصحابه عشرة. فروى أنّه قال لأبي أيّوب الأنصارى و كان على ميمنته: لما بدأت الخوارج بالقتال احملوا عليهم فو اللّه لا يفلت منهم عشرة و لا يهلك منكم عشرة فلمّا قتلهم وجد المفلت منهم تسعة و المقتول من أصحابه ثمانية. و هذان الحكمان من كراماته عليه السّلام.
و قال عليه السّلام: القسم الثاني
لما قتل الخوارج قيل له: يا أمير المؤمنين، هلك القوم بأجمعهم كَلَّا وَ اللَّهِ إِنَّهُمْ نُطَفٌ فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ وَ قَرَارَاتِ النِّسَاءِ-
كُلَّمَا نَجَمَ مِنْهُمْ قَرْنٌ قُطِعَ- حَتَّى يَكُونَ آخِرُهُمْ لُصُوصاً سَلَّابِينَ
اللغة
أقول: نجم: طلع.
و السلّاب: المختلس.
و كلّا: ردّ لمقالة من حكم بهلاكهم جميعا.
المعنى
و أشار بكونهم نطفا في أصلاب الرجال و قرارات النساء إلى أنّه لا بدّ من وجود قوم منهم يقولون بمثل مقالتهم و أنّهم الآن موجودون في الأصلاب و الأرحام بالقوّة. فمنهم نطف برزت إلى الأرحام، و كنّى بالقرارات عنها. و منهم نطف بعد في الأصلاب، ثمّ ألحقهم أحكاما اخر تقريرا لبقائهم. منها: أنّه سيقوم منهم رؤساء ذوو أتباع، و عبّر عمّن يظهر منهم بالقرن استعارة مرشّحا لتلك الاستعارة بقوله: نجم و قطع. لكونهما حقيقتين في النبات و جعل لتراذ لهم غاية هى كون أواخرهم لصوصا سلّابين: أى قطّاعا للطريق، و أمّا الّذين ظهروا بعده من رؤسائهم فجماعة كثيرة و ذلك أنّ التسعة الّذين سلموا يوم النهر تفرّقوا في البلاد فانهزم اثنان منهم إلى عمّان، و إثنان إلى كرمان، و إثنان إلى سجستان، و إثنان إلى الجزيرة و واحد إلى تلّ مورون، و قد كان منهم جماعة لم يظفر عليه السّلام بهم فظهرت بدعتهم في أطراف البلاد بعده فكانوا نحوا من عشرين فرقة و كبارها ستّ:
إحداها: الأزارقة أصحاب نافع بن الأزرق، و كان أكبر الفرق. خرجوا من البصرة إلى الأهواز و غلبوا عليها و على كورها و ما رءاها من بلدان فارس و كرمان في أيّام عبد اللّه بن الزبير، و كان مع نافع من أمراء الخوارج عشرة: عطيّة بن الأسود الحنفىّ، و عبد اللّه بن ما خول، و أخواه: عثمان بن الزبير، و عمر بن عمير العميرى، و قطرى بن فجاة المازنىّ، و عبدة بن الهلال الشيبانى، و صخر التميمىّ، و صالح العبدىّ، و عبد ربّه الكبير، و عبد ربّه الصغير في ثلاثين و نيّف ألف فارس منهم فانفذ إليهم المهلّب بن أبي صفرة، و لم يزل في حربهم هو و أولاده تسع عشرة سنة إلى أن فرغ من أمرهم في أيّام الحجّاج، و مات نافع قبل وقايع المهلّب و بايعوا قطريّا و سمّوه أمير المؤمنين.
الثانية: النجدات رئيسهم نجدة بن عامر الحنفىّ، و كان معه أميران يقال لأحدهما عطيّة، و الآخر أبو فديك. ففارقاه بشبهة ثمّ قتله أبو فديك و صار لكلّ واحد منهما جمع عظيم و قتلا في زمن عبد الملك بن مروان.
الثالثة: البيهسيّة أصحاب أبي بيهس الهيصم بن جابر، و كان بالحجاز و قتله عثمان بن حيّان المزنىّ بالمدينة بعد أن قطع يديه و رجليه. و ذلك في زمن الوليد بإشارة منه.
الرابعة: العجاردة أصحاب عبد الكريم بن عجرد، و تحت هذه الفرقة فرق كثيرة لكلّ منهم رئيس منهم مشهور.
الخامسة: الأباضيّة أصحاب عبد اللّه بن أباض في أيّام مروان بن محمّد فوجّه إليه عبد اللّه بن محمّد بن عطيّة فقاتله فقتله.
السادسة: الثعالبة أصحاب ثعلبة بن عامر، و تحت هذه الفرقة أيضا فرق كثيرة، و لكلّ منها رئيس مشهور. و تفصيل رؤسائهم و فرقهم و أحوالهم و من قتلهم مذكور في كتب التواريخ. و أمّا كون آخرهم لصوصا سلّابين فإشارة إلى ما كانوا يفعلونه في أطرف البلاد بإصبهان و الأهواز و سواد العراق يعيشون فيها بنهب أموال الخراج و قتل من لم يدن بدينهم جهرا و غيلة و ذلك بعد ضعفهم و تفرّقهم بوقايع المهلّب و غيرها كما هو مذكوره في مظانّه.
و قال عليه السّلام: القسم الثالث
لَا تُقَاتِلُوا الْخَوَارِجَ بَعْدِي- فَلَيْسَ مَنْ طَلَبَ الْحَقَّ فَأَخْطَأَهُ- كَمَنْ طَلَبَ الْبَاطِلَ فَأَدْرَكَهُ (يعني معاوية و أصحابه)
المعنى
أقول: نهى عن قتل الخوارج بعده، و أومى إلى علّة استحقاق القتل بأنّها طلب الباطل لأنّه باطل ليتبيّن أنّها منفيّة في حقّهم فينتفى لازمها و هو استحقاق القتل، و أشار إلى أنّ الخوارج لم يطلبوا الباطل مع العلم بكونه باطلا بل طلبوا الحقّ بالذات فوقعوا بالباطل بالعرض. و من لم يكن غرضه إلّا الحقّ لم يجز قتله، و حسن الكلام يظهر في تقدير متّصلة هكذا: لو استحقّوا: القتل بسبب طلبهم لاستحقّوه بسبب طلبهم للباطل من حيث هو باطل لكنّهم لا يستحقّونه من تلك الجهة لأنّهم ليسوا طالبين للباطل من حيث هو باطل فلا يستحقّون القتل، و فرق بين من يطلب الحقّ لذاته فيظهر عنه في صورة باطل، و بين من يطلب الباطل لذاته فيظهره في صورة الحقّ حتّى يدركه، فإنّ الثاني هو المستحقّ للقتل دون الأوّل، و و أومى بمن طلب الباطل فأدركه إلى معاوية.
ع و اعلم: أنّ هذا نصّ منه عليه السّلام بأنّهم كانوا طالبين للحقّ، و بيانه أنّ معظم رؤسائهم كانوا على غاية من المحافظة على العبادات كما نقل عن الرسول صلى اللّه عليه و آله و سلّم حيث وصفهم فقال: حتّى أنّ صلاة أحدكم لتحتقر في جنب صلاتهم. و كانوا مشهورين بالصلاح و المواظبة على حفظ القرآن و درسه إلّا أنّهم بالغوا في التجرّى و شدّة الطلب للحقّ حتّى عبروا عن فضيلة العدل فيه إلى رذيلة الإفراط فوقعوا في الفسق و مرقوا من الدين.
فإن قلت: كيف نهى عن قتلهم.
قلت: جوابه من وجهين: أحدهما: أنّه عليه السّلام إنّما نهى عن قتلهم بعده على تقدير أن يلزم كلّ منهم نفسه و يشتغل بها و لا يعيث في الأرض فسادا و هو إنّما قتلهم حيث أفسدوا فى زمانه و قتلوا جماعة من الصالحين كعبد اللّه بن خبّاب، و شقّوا بطن امرأته و كانت حاملا و دعوا الناس إلى بدعتهم و مع ذلك كان يقول لأصحابه حين سار إليهم: لا تبدءوهم بالقتال حتّى يبدءوكم به و لم يشرع في قتلهم حتّى بدءوه بقتل جماعة من أصحابه. الثاني: أنّه يحتمل أن يقال: إنّه إنّما قتلهم لأنّه إمام عادل رأى الحقّ في ذلك، و إنّما نهى عن قتلهم بعده لأنّه علم أنّه لا يلي هذا الأمر بعده من له بحكم الشريعة أن يقتل و يتولّى أمر الحدود، و من لا يعرف مواضعها. و باللّه التوفيق.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحرانی)، ج 2 ، صفحهى 153