و من كلام له عليه السّلام
فَتَدَاكُّوا عَلَيَّ تَدَاكَّ الْإِبِلِ الْهِيمِ يَوْمَ وِرْدِهَا- وَ قَدْ أَرْسَلَهَا رَاعِيهَا وَ خُلِعَتْ مَثَانِيهَا- حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُمْ قَاتِلِيَّ أَوْ بَعْضُهُمْ قَاتِلُ
بَعْضٍ لَدَيَّ- وَ قَدْ قَلَّبْتُ هَذَا الْأَمْرَ بَطْنَهُ وَ ظَهْرَهُ حَتَّى مَنَعَنِي النَّوْمَ- فَمَا وَجَدْتُنِي يَسَعُنِي إِلَّا قِتَالُهُمْ- أَوِ الْجُحُودُ بِمَا
جَاءَني بِهِ مُحَمَّدٌ ص- فَكَانَتْ مُعَالَجَةُ الْقِتَالِ أَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ مُعَالَجَةِ الْعِقَابِ- وَ مَوْتَاتُ الدُّنْيَا أَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ مَوْتَاتِ الْآخِرَةِ
اللغة
أقول: تداكّوا: دكّ بعضهم بعضا: أى دقّه بالضرب و الدفع.
و الهيم: الإبل العطاش.
و المثانى: جمع مثناة و هى الحبل يثنّى و يعقل به البعير.
المعنى
و اعلم أنّ قوله: فتداكّوا. إلى قوله: لدىّ.
إشارة إلى صفة أصحابه بصفّين لمّا طال منعه لهم من قتال أهل الشام، و كان عليه السّلام يمنعهم من قتالهم لأمرين: أحدهما أنّه كانت عادته في الحرب ذلك ليكون خصمه البادى فتركبه الحجّة، و الثاني أنّه كان يستخلص وجه المصلحة في كيفيّة قتالهم لا على سبيل شكّه في وجوب قتال من خالفه فإنّه عليه السّلام كان مأمورا بذلك بل على وجه استخلاص الرأى الأصلح أو انتظارا لا نجذا بهم إلى الحقّ و رجوعهم إلى طاعته لحقن دماء المسلمين كما سيصرّح به في الفصل الّذي يأتي، ثمّ أكدّ وصفهم بالزحام عليه بأمرين: أحدهما تشبيهه بزحام الإبل العطاش حين يطلقها رعاتها من مثانيها يوم توردها الماء. و وجه الشبه مالهما من شدّة الزحام، الثاني غاية ذلك الزحام و هو ظنّه عليه السّلام أن يقتلوه أو يقتل بعضهم بعضا. و قوله: و قد قلّبت هذا الأمر. إلى آخره.
إشارة إلى بعض علل منعه لهم من القتال، و هو تقليبه لوجوه الآراء في قتالهم حتّى تبيّن له ما يلزم في ترك القتال من الخطر و هو الكفر. على أنّ في الأمرين خطرا أمّا القتال ففيه بذل نفسه للقتل و هلاك جملة من المسلمين، و أمّا تركه ففيه مخالفة أمر اللّه و رسوله المستلزمة للعقاب الأليم، لكن قد علمت أنّ الدنيا لا قيمة لسعادتها و لا نسبة لشقاوتها إلى سعادة الآخرة و شقاوتها عند ذوى البصاير خصوصا مثله عليه السّلام فلذلك قال: فكانت معالجة القتال أهون علىّ من معالجة العقاب، و موتات الدنيا أهون علىّ من موتات الآخرة. و استعار لفظ الموتات للأهوال و الشدائد في الدنيا و الآخرة لما بين الموت و بينها من المناسبة في الشدّة.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحرانی)، ج 2 ، صفحهى 144