و من خطبة له عليه السّلام
إِنَّمَا بَدْءُ وُقُوعِ الْفِتَنِ أَهْوَاءٌ تُتَّبَعُ وَ أَحْكَامٌ تُبْتَدَعُ- يُخَالَفُ فِيهَا كِتَابُ اللَّهِ- وَ يَتَوَلَّى عَلَيْهَا رِجَالٌ رِجَالًا عَلَى غَيْرِ دِينِ اللَّهِ- فَلَوْ
أَنَّ الْبَاطِلَ خَلَصَ مِنْ مِزَاجِ الْحَقِّ- لَمْ يَخْفَ عَلَى الْمُرْتَادِينَ- وَ لَوْ أَنَّ الْحَقَّ خَلَصَ مِنْ لَبْسِ الْبَاطِلِ- انْقَطَعَتْ عَنْهُ أَلْسُنُ
الْمُعَانِدِينَ- وَ لَكِنْ يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا ضِغْثٌ وَ مِنْ هَذَا ضِغْثٌ فَيُخْرَجَانِ- فَهُنَالِكَ يَسْتَوْلِي الشَّيْطَانُ عَلَى أَوْلِيَائِهِ- وَ يَنْجُو الَّذِينَ
سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ الْحُسْنى
اللغة
أقول: المرتاد: الطالب.
و الضغث: القبضة من الحشيش.
المعنى
و اعلم أنّ مبدء وقوع الفتن المؤدّية إلى خراب العالم و فساده إنّما هو اتّباع الهوى و الآراء الباطلة و الأحكام المبتدعة الخارجة عن أوامر اللّه، و ذلك أنّ المقصود من بعثة الرسل و وضع الشريعة إنّما هو نظام أحوال الخلق في أمر معاشهم و معادهم فكان كلّ رأى ابتدع أو هوى اتّبع خارجا عن كتاب اللّه و سنّة رسوله سببا لوقوع الفتنة و تبدّد نظام الموجود في هذا العالم. و ذلك كأهواء البغاة و آراء الخوارج و نحوها. و قوله: فلو أنّ الباطل خلّص من مزاج الحقّ. إلى آخره.
إشارة إلى أسباب تلك الآراء الفاسدة. و مدار تلك الأسباب على امتزاج المقدّمات الحقّة بالباطلة في الحجج الّتى يستعملها المبطلون في استعلام المجهولات فبيّن أنّ السبب هو ذلك الامتزاج بشرطيّتين متّصلتين.
إحداهما: قوله: فلو أنّ الباطل خلّص من مزاج الحقّ لم يخف على المرتادين. و وجه الملازمة في هذه المتّصلة ظاهر فإنّ مقدّمات الشبهة إذا كانت كلّها باطلة أدرك طالب الحقّ وجه فسادها بأدنى سعى و لم يخف عليه بطلانها، و أمّا استثناء نقيض تاليها فلأنّه لمّا خفى وجه البطلان فيها على طالب الحقّ لم يكن الباطل فيها خالصا من مزاج الحقّ فكان ذلك هو سبب الغلط و اتّباع الباطل لأنّ النتيجة تتبع أخسّ المقدّمتين.
و الثانية: قوله: و لو أنّ الحقّ خلّص من [لبس خ] الباطل انقطعت عنه ألسن المعاندين، و وجه الملازمة أيضا كما مرّ: أى إنّ مقدّمات الحجّة الّتي استعملها المبطلون لو كانت كلّها حقّة مرتّبة ترتيبا حقّا لكانت النتيجة حقّا تنقطع ألسنتهم عن العناد فيه و المخالفة له. و قد حذف عليه السّلام كبرى هذين القياسين لأنّهما قياسا ضمير كما سبق، ثمّ أتى بالنتيجة أو ما في معناها و هو قوله: و لكن يؤخذ من هذا ضغث، و من هذا ضغث: أى من الحقّ و الباطل فيمزجان، و لفظ الضغث مستعار، و مقصوده بذلك التصريح بلزوم الآراء الباطلة و الأهواء المبتدعة لمزج الحقّ بالباطل. و لذلك قال: و هنا لك يستولى الشيطان على أوليائه: أى إنّه يزيّن لهم اتّباع الأهواء و الأحكام الخارجة عن كتاب اللّه بسبب إغوائهم عن تمييز الحقّ من الباطل فيما سلكوه من الشبهة
و ينجو الّذين سبقت لهم منّا الحسنى: أى من أخذت عناية اللّه بأيديهم في ظلمات الشبهات فقادتهم فيها بإضافة نور الهداية عليهم إلى تميّز الحقّ من الباطل و أولئك هم عن النار مبعدون
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحرانی)، ج 2 ، صفحهى 135