و من خطبة له عليه السّلام
الْحَمْدُ لِلَّهِ غَيْرَ مَقْنُوطٍ مِنْ رَحْمَتِهِ- وَ لَا مَخْلُوٍّ مِنْ نِعْمَتِهِ- وَ لَا مَأْيُوسٍ مِنْ مَغْفِرَتِهِ- وَ لَا مُسْتَنْكَفٍ عَنْ عِبَادَتِهِ- الَّذِي لَا تَبْرَحُ مِنْهُ رَحْمَةٌ- وَ لَا تُفْقَدُ لَهُ نِعْمَةٌ- وَ الدُّنْيَا دَارٌ مُنِيَ لَهَا الْفَنَاءُ- وَ لِأَهْلِهَا مِنْهَا الْجَلَاءُ- وَ هِيَ حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ- وَ قَدْ عَجِلَتْ لِلطَّالِبِ- وَ الْتَبَسَتْ بِقَلْبِ النَّاظِرِ- فَارْتَحِلُوا مِنْهَا بِأَحْسَنِ مَا بِحَضْرَتِكُمْ مِنَ الزَّادِ- وَ لَا تَسْأَلُوا فِيهَا فَوْقَ الْكَفَافِ- وَ لَا تَطْلُبُوا مِنْهَا أَكْثَرَ مِنَ الْبَلَاغِ أقول: هذا الفصل ملتقط من خطبة طويلة له عليه السّلام خطب بها يوم الفطر. و هو غير متّسق بل بين قوله: نعمة، و قوله: و الدنيا. فصل طويل. و هذه الخطبة تنتظم الفصل المتقدّم، و هو قوله: أمّا بعد فإنّ الدنيا قد أدبرت و هو فيها بعد هذا الفصل و لم نذكرها كراهة التطويل، و لنعد إلى الشرح فنقول:
اللغة
القنوط. اليأس. و الاستنكاف: الاستكبار. و منى لها: أى قدر. و الجلاء بالفتح و المدّ: الخروج عن الوطن. و التبست: امتزجت. و الكفاف: ما كفّ عن الناس أى أغنى عنهم من المال. و البلاغ: ما بلغ مدّة الحياة منه و كفى.
المعنى
و أعلم أنّه نبّه على استحقاق اللّه تعالى للحمد و دوامه باعتبار ملاحظة ستّة أحوال: فأشار إلى الحالة الاولى بقوله: غير مقنوط من رحمته مقررّا لقوله تعالى وَ اكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ«» و لقوله لا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ«» و هذه الحال ممّا يشهد بإثباتها العقل إذ كان العبد عند أخذ العناية الإلهيّة بضبعيه يعلم استناد جميع الموجودات كلّيّها و جزئيّها إلى مدبّر حكيم، و أنّه ليس شيء منها خاليا عن حكمة فيستليح من ذلك أنّ ايجاده له و أخذ العهد إليه بالعبادة ليس إلّا لينجذب إلى موطنه الأصلىّ و مبدئه الأوّلى بالتوحيد المحقّق و الحمد المطلق عن نار اجّجت و جحيم سعّرت، و ما خلقت الجنّ و الإنس إلّا ليعبدون، فلا ييأس من روح اللّه عند نزول أمر واجب النزول به ممّا يعدّه شرّا بل يكون برجائه أوثق و قلبه بشموله العناية له أعلق فإنّه لا ييأس من روح اللّه إلّا الّذين عميت أبصار بصائرهم عن أسرار اللّه، فهم في طغيانهم يعمهون و اولئك هم الخاسرون.
و أشار إلى الحالة الثانية بقوله: و لا مخلوّ من نعمته. تقريرا لقوله تعالى وَ ما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فسبوغ نعمته دائم لآثار قدرته الّتي استلزمت طبائعها الحاجة إليه فوجب لها فيض جوده فاستلزم ذلك وجوب تصريحها بلسان حالها و مقالها بالثناء المطلق عليه و دوام الشكر له و إن من شيء إلّا يسبّح بحمده و لكن لا تفقهون تسبيحهم.
و أشار إلى الحالة الثالثة بقوله: و لا مأيوس من مغفرته. تقريرا لقوله تعالى قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ«» الآية و هى شهادة بشمول ستره و جميل عفوه و غفره لمن جذبت بعقله أيدى شياطينه لتحطّه إلى مهاوى الهلاك فعجز عن مقاومتها بعد أن كانت له مسكة بجناب اللّه فضعفت تلك المسكة عن أن تكون منجاة له حال مجاذبته لهواه و إن كان ذلك الغفران متفاوتا بحسب قوّة تلك المسكة و ضعفها، و العقل ممّا يؤيّد ذلك و يحكم بصحّة هذه الشهادة فإنّ كلّ ذى علاقة بجناب اللّه سيخلص من العقاب و إن بعد خلاصه على ما نطق به البرهان في موضعه، و ذلك يستلزم الاعتراف بالإحسان و دوام الثناء و الحمد.
ثمّ أشار إلى الرابعة بقوله: و لا مستنكف عن عبادته تقريرا لقوله تعالى لا يستنكفون عن عبادته و لا يستكبرون و قوله لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَ لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ الآية و كونه تعالى غير مستنكف عن عبادته شاهد عظيم على كمال عظمته و أنّه المستحقّ للعبادة دون ما عداه إذ هو المجتمع للكمال المطلق فلا جهة نقصان فيه إليها يشار فيكون سببا للاستنكاف و الاستكبار. و غير، مع محالّ السلوب الثلاثة بعدها منصوبات على الحال.
و قوله: الّذي لا تبرح فيه رحمة و لا تفقد له نعمة. اعتباران آخران يستلزمان في ملاحظتهما وجوب شكره تعالى. و نبّه بقوله: لا تبرح على دوام رحمة اللّه لعباده، و قوله: لا تفقد له نعمة كقوله: و لا مخلوّ من نعمته، ثمّ أعقب ذلك بالتنبيه على معايب الدنيا للتنفير عنها فذكر وجوب الفناء لها ثمّ حذّر بذكر العيب الأكبر لها الّذي ترغب مع ذكره و ملاحظته من له أدنى بصيرة عن الركون إليها و محبّة قيناتها و هو مفارقتها الواجبة و الجلاء عنها، ثمّ أردف ذلك بذكر جهتين من جهات الميل إليها:
إحداهما منسوبة إلى القوّة الذائقة و هي حلاوتها، و الاخرى إلى القوّة الباصرة و هي خضرتها. و إطلاق لفظيهما مجاز كنّى به عن جهات الميل إليها من باب إطلاق لفظ الجزء على الكلّ. و ايراده لهذين الوصفين اللذين هما و صفا مدح في معرض ذمّها كتقدير اعتراض على ذمّها لغرض أن يجيب عنه، و لهذا عقّب ذكرهما بما يصلح جوابا و بيّنة على ما يصرف عن الميل إليها من هاتين الجهتين و هو كونها معجّلة للطالب. إذ كان من شأن المعجّل أن ينتفع به في حال تعجيله دون ما بعده خصوصا في حقّ من أحبّ ذلك المعجّل و لم يلتفت إلى ما سواه. و الدنيا كذلك كما أشار إليه بقوله: و التبست بقلب الناظر، و إنّما خصّ الناظر لتقدّم ذكر الخضرة الّتي هي من حظّ النظر فمن عجّلت له منحة و التبست بقلبه و كان لا بدّ من مفارقتها لم ينتفع بما بعدها بل بقى في عذاب الفراق منكوسا و في ظلمة الوحشة محبوسا، و إليه أشار التنزيل الإلهىّ مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً«» ثمّ لمّا نبّه على معايبها أمر بالارتحال عنها و لم يأمر به مطلقا بل لا بدّ معه من استصحاب أحسن الأزواد إذ كانت الطريق المأمور بسلوكها في غاية الوعارة مع طولها و قصر المدّة الّتي يتّخذ فيها الزاد فلا ينفع إذن إلّا التقوى الأبقى الّذي لا يتطرّق إليه فناء. و لا تفهمّن- أعدّك اللّه لافاضة رحمته- من هذا الارتحال الحسّى الحاصل لك من بعضها إلى بعض، و لا من الزاد المأكول الحيوانىّ فإنّ أحسن ما يحضرنا منه ربّما كان منهيّا عنه، بل المأمور به ارتحال آخر يتبيّنه من تصوّر سلوك طريق الآخرة. فإنّك لمّا علمت أنّ الغاية من التكاليف البشريّة هي الوصول إلى حضرة اللّه و مشاهدة جلال كبريائه علمت من ذلك أنّ الطريق إلى هذا المطلوب هى آثار جوده و شواهد آلائه و أنّ القاطع لمراحل تلك الطريق و منازلها هو قدم عقلك مقتديا بأعلامها الواضحة كلّما نزل منها منزلا أعدّته المعرفة به لاستلاحة أعلام منزل آخر أعلى و أكرم منه كما قال تعالى لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ إلى أن يستقرّ في مقعد صدق عند مليك مقتدر، و إذا تصوّرت معنى الارتحال و قد علمت أنّ لكلّ ارتحال و سفر زادا علمت أنّ أكرم الزاد و أحسنه في هذا الطريق ليس إلّا التقوى و الأعمال الصالحة الّتي هى غذاء للعقول و مادّة حياتها، و إليه الإشارة بقوله وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى و أشار بقوله: ما بحضرتكم. إلى ما يمكننا أن نأتي به من الأعمال الصالحة في حياتنا الدنيا، ثمّ عقّب الأمر باتّخاذ الزاد بالنهى عن طلب الزيادة على ما يقوّم به صورة البدن من متاع الدنيا إذ كان البدن بمنزلة مركوب تقطع به النفس مراحل طريقها فالزيادة على المحتاج إليه ممّا يحوج الراكب إلى الاهتمام به و العناية بحفظه المستلزم لمحبّته. و كلّ ذلك مثقل للظهر و مشغل عن الجهة المقصودة.
و ذلك معنى قوله: و لا تسألوا منها فوق الكفاف، و لا تطلبوا منها أكثر من البلاغ، و لا تمدّن أعينكم فيها إلى ما متّع المترفون فتقصروا في الرحيل و تشغلوا بطلب مثل ما شاهدتم، و باللّه التوفيق.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحرانی)، ج 2 ، صفحهى 118