و من كلام له عليه السّلام
أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ إثْنَانِ اتِّبَاعُ الْهَوَى وَ طُولُ الْأَمَلِ- فَأَمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى فَيَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ- وَ أَمَّا طُولُ الْأَمَلِ فَيُنْسِي الْآخِرَةَ- أَلَا وَ إِنَّ الدُّنْيَا قَدْ وَلَّتْ حَذَّاءَ- فَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا صُبَابَةٌ كَصُبَابَةِ الْإِنَاءِ- اصْطَبَّهَا صَابُّهَا- أَلَا وَ إِنَّ الْآخِرَةَ قَدْ أَقْبَلَتْ وَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا بَنُونَ- فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ وَ لَا تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا- فَإِنَّ كُلَّ وَلَدٍ سَيُلْحَقُ بِأُمِّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ- وَ إِنَّ الْيَوْمَ عَمَلٌ وَ لَا حِسَابَ وَ غَداً حِسَابٌ وَ لَا عَمَلَ
اللغة
أقول: حذّاء: خفيفة مسرعة لا يتغلّق أحد منهما بشىء. و الصبابة: بقيّة الماء في الإناء.
المعنى
و المقصود بهذا الفصل النهى عن الهوى و طول الأمل في الدنيا فإنّهما من أشدّ أسباب الهلاك فكان الجلاء عنهما من أشدّ أسباب النجاة كما قال تعالى فَأَمَّا مَنْ طَغى وَ آثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى وَ أَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَ نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى«» ثمّ التذكير بامور الآخره.
فاعلم أنّ الهوى هو ميل النفس الأمّارة بالسوء إلى مقتضى طباعها من اللذّات الدنيويّة إلى حدّ الخروج عن حدود الشريعة، و أمّا الأمل فقد سبق بيانه، و لمّا كانت السعادة التامّة إنّما هى في مشاهدة حضرة الربوبيّة و مجاورة الملأ الأعلى في مقعد صدق عند مليك مقتدر، و كان اتّباع النفس الأمّارة بالسوء في ميولها الطبيعيّة و الانهماك في ملذّاتها الفانية أشدّ مهلك جاذب للإنسان عن قصد الحقّ، و صادّ له عن سلوك سبيله و عن الترقىّ في ملكوت السماوات إلى حضيض جهنّم كما قال سيّد المرسلين صلى اللّه عليه و آله و سلّم: ثلاث مهلكات: شحّ مطاع، و هوى متّبع، و إعجاب المرء بنفسه، و كما قال: حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة، و قال: الدنيا و الآخرة ضرّتان بقدر ما يقرب من إحداهما يبعد من الاخرى. لا جرم كان أخوف ما ينبغي أن يخاف من الامور المهلكة اتّباع الهوى، و أمّا الأمل فمراده به أيضا الأمل لما لا ينبغي أن يمدّ الأمل فيه من المقتنيات الفانية و ظاهر أنّ طول الأمل فيها يكون مطابقا لاتّباع الهوى و به يكون نسيان الآخرة لأنّ طول توقّع الامور المحبوبة الدنيويّة يوجب دوام ملاحظتها، و دوام ملاحظتها مستلزم لدوام إعراض النفس عن ملاحظة أحوال الآخرة و هو مستعقب لا نمحاء ما تصوّر في الذهن منها و ذلك معنى النسيان لها و بذلك يكون الهلاك الأبديّ و الشقاء الأشقى، و لمّا كان عليه السّلام هو المتولّى لإصلاح حال الخلق في امور معاشهم و معادهم كان الاهتمام بصلاحهم منوطا بهمّته العلّيّة فلا جرم نسب الخوف عليهم إلى نفسه.
قوله: ألا و إنّ الدنيا قد ولّت. إلى قوله: صابّها.
أقول: الدنيا بالنسبة إلى كلّ شخص مفارقة له و خفيفة سريعة الأجفال لم يبق منها بالقياس إليه إلّا اليسير، و إطلاق الصبابة هاهنا استعارة لبقيّتها القليلة، و القلّة هى وجه تشبيهها بصبابة الإناء أيضا.
و قوله: ألا و إنّ الآخرة قد أقبلت.
لمّا نبّه على أنّ الدنيا سريعة الأجفال أردف ذلك بالتنبيه على سرعة لحوق الآخرة و إقبالها، و كلّ ذلك قطع للآمال الفانية و ردع عن اتّباع الهوى. و من آثار الصالحين: إذا كان العمر في إدبار و الموت في إقبال فما أسرع الملتقى. و الموت هو دهليز الآخرة.
و قوله: و لكلّ منهما بنون. إلى قوله: يوم القيامة.
من لطائف كلامه. فاستعار لفظ الأبناء للخلق بالنسبة إلى الدنيا و الآخرة، و لفظ الأب لهما، و وجه الاستعارة أنّ الابن لمّا كان من شأنه الميل إلى والده إمّا ميلا طبيعيّا أو بحسب تصوّر المنفعة منه. و كان الخلق منهم من يريد الدنيا. و منهم من يريد الآخرة، و يميل كلّ منهما إلى مراده مع ما يحصل من طرف الدنيا للراغبين فيها ممّا يتوهّمونه لذّة و خيرا، و ما يحصل من طرف الآخرة للراغبين فيها من اللذّة و السعادة أشبه كلّ بالنسبة إلى ما رغب فيه و استفاد منه الخير الابن بالنسبة إلى الأب. فاستعير لفظه لتلك المشابهة، و لمّا كان غرضه حثّ الخلق على السعى للآخرة و الميل إليها و الإعراض عن الدنيا، قال عليه السّلام: فكونوا من أبناء الآخرة و لا تكونوا من أبناء الدنيا ثمّ ذكر فايدة رأيه عليهم بأن يكونوا كذلك. و هى أنّ كلّ ولد سيلحق بامّه يوم القيامة، و أشار: إلى أنّ أبناء الآخرة و الطالبين لها و العاملين لأجلها مقرّبون في الآخرة لا حقوق لمراداتهم فيها، و لهم فيها ما تشتهى أنفسهم و لهم ما يدّعون نزلا من غفور رحيم، و أمّا أبناء الدنيا فانّ نفوسهم لمّا كانت مستغرقة في محبّتها و ناسية لطرف الآخرة و معرضة عنها لا جرم كانت يوم القيامة مغمورة في محبّة الباطل مغلولة بسلاسل السيئات البدنيّة و الملكات الرديئة المتمكّنة من جواهرها فهى لتعلّقها بمحبّة الدنيا حيث لا يتمكّن من محبوبها بمنزلة ولد لا تعلّق له و لا مسكة إلّا بوالده و لا إلف له إلّا هو و لا انس إلّا معه، ثمّ حيل بينه و بينه مع شدّة تعلّقه به و شوقه إليه و اخذ إلى أضيق الأسجان، و بدّل بالعزّ الهوان فهو في أشدّ و له و يتم و أعظم حسرة و غمّ، و أمّا أبناء الآخرة ففي حضانة أبيهم و نعيمه قد زال عنهم بؤس الغربة و شقاء اليتم و سوء الحضن. فمن الواجب إذن تعرّف أحوال الوالدين و اتّباع أبرّهما و أدومهما شفقة و أعظمهما بركة و ما هى إلّا الآخرة فليكن ذو العقل من أبناء الآخرة و ليكن برّا بوالده متوصّلا إليه بأقوى الأسباب و أمتنها.
و قوله: و إنّ اليوم عمل. إلى آخر.
كنّى باليوم عن مدّة الحياة و بعد عمّا بعد الموت، و راعى المقابلة فقابل اليوم بالغد، و العمل بلا عمل، و لا حساب بالحساب. و اليوم: اسم إنّ، و عمل: قام مقام الخبر استعمالا للمضاف إليه مقام المضاف: أى و اليوم يوم العمل، و يحتمل أن يكون اسم إنّ ضمير الشأن، و اليوم عمل جملة من مبتدأ و خبر هى خبرها، و كذلك قوله: و غدا حساب و لا عمل، و صدق هذين الحكمين ظاهر و فايدتهما التنبيه على وقتى العمل و عدمه ليبادروا إلى العمل الّذي به يكونون من أبناء الآخرة في وقت إمكانه قبل مجيء الغد الّذي هو وقت الحساب دون العمل، و باللّه التوفيق.