و من خطبة له عليه السّلام بعد التحكيم
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَ إِنْ أَتَى الدَّهْرُ بِالْخَطْبِ الْفَادِحِ- وَ الْحَدَثِ الْجَلِيلِ- وَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ-
لَيْسَ مَعَهُ إِلَهٌ غَيْرُهُ- وَ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ ص أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ مَعْصِيَةَ النَّاصِحِ الشَّفِيقِ الْعَالِمِ الْمُجَرِّبِ-
تُورِثُ الْحَيرَةَ وَ تُعْقِبُ النَّدَامَةَ- وَ قَدْ كُنْتُ أَمَرْتُكُمْ فِي هَذِهِ الْحُكُومَةِ أَمْرِي- وَ نَخَلْتُ لَكُمْ مَخْزُونَ رَأْيِي- لَوْ كَانَ
يُطَاعُ لِقَصِيرٍ أَمْرٌ- فَأَبَيْتُمْ عَلَيَّ إِبَاءَ الْمُخَالِفِينَ الْجُفَاةِ وَ الْمُنَابِذِينَ الْعُصَاةِ- حَتَّى ارْتَابَ النَّاصِحُ بِنُصْحِهِ وَ ضَنَّ
الزَّنْدُ بِقَدْحِهِ- فَكُنْتُ أَنَا وَ إِيَّاكُمْ كَمَا قَالَ أَخُو هَوَازِنَ
أَمَرْتُكُمْ أَمْرِي بِمُنْعَرَجِ اللِّوَى فَلَمْ تَسْتَبِينُوا النُّصْحَ إِلَّا ضُحَى الْغَدِ
أقول: روى أنّ عمرو بن العاص و أبا موسى الأشعريّ لمّا التقيا بدومة الجندل و قد حكما في أمر الناس كان علىّ يومئذ قد دخل الكوفة ينتظر ما يحكمان به. فلمّا تمّت خدعة عمرو لأبي موسى و بلغه ذلك عليه السّلام اغتمّ له غمّا شديدا و وجم منه و قام فخطب الناس.
فقال: الحمد للّه. الفصل. و زاد بعد الاستشهاد ببيت دريد في بعض الروايات: ألا إنّ هذين الرجلين اللذين اخترتموهما قد نبذا حكم الكتاب و أحييا ما أمات و اتّبع كلّ واحد منهما هواه و حكم بغير حجّة و لا بيّنة ماضية و اختلفا فيما حكما فكلاهما لم يرشدا للّه. فاستعدّوا للجهاد و تأهّبوا للمسير و أصبحوا في معسكر كم يوم كذا. و أمّا قصّة التحكيم و سببها فمذكور في التواريخ.
اللغة
و الخطب: الأمر العظيم. و فدحه الأمر: إذا عاله و أبهظه. و الجافي: خشن الطباع الّذي ينبوا طبعه عن المؤانسة فيقاطع و يباين.
المعنى
فقوله: الحمد للّه. إلى قوله: الجليل.
قد عرفت نسبة الخير و الشرّ إلى الدهر على أىّ وجه هي، و مراده أحمد اللّه على كلّ حال من السرّاء و الضرّاء. و إن هنا للغاية. و يفهم من هذا الصدر وقوع الخطب الفادح و هو ما وقع من أمر الحكمين. و حمد اللّه عليه.
و قوله: ليس معه إله غيره. تأكيد لمعنى كلمة التوحيد و تقرير لمقتضاها.
و قوله: أمّا بعد. إلى قوله: الندامة.
القيود الأربعة الّتي ذكرها من صفات المشير معتبرة في حسن الرأى و وجوب قبوله: أمّا كونه ناصحا فلأنّ الناصح يصدق الفكر و يمحض الرأى و غير الناصح ربّما يشير بفطير الرأى فيوقع في المضرّة، و أمّا كونه شفيقا فلأنّ الشفقة تحمل على النصح فتحمل على حسن التروّى في الأمر و ايقاع الرأى فيه من تثبّت و اجتهاد.
و الباعث على هذين أعنى النصح و الشفقة إمّا الدين أو محبّة المستشير، و أمّا كونه عالما ففائدته إصابته لعلمه وجه المصلحة في الأمر فإنّ الجاهل أعمى لا يبصر وجه المصلحة فيه. قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم: استرشدوا العاقل ترشدوا و لا تعصوه فتندموا، و قال عبد اللّه بن الحسن لابنه محمّد: احذر مشورة الجاهل و إن كان ناصحا كما تحذر عداوة العدوّ العاقل فإنّه كما يوشك أن يقع بك مكر العاقل كذلك يوشك أن يورّطك شور الجاهل، و أمّا كونه مجرّبا فلأنّه لا يتمّ رأى العالم ما لم ينضمّ إليه التجربة. و ذلك أنّ العالم و إن علم وجه المصلحة في الأمر إلّا أنّ ذلك الأمر قد يشتمل على بعض وجوه المفاسد لا يطّلع عليه إلّا بالتجربة مرّة و مرّة فالمشورة من دون تجربة مظنّة الخطاء، و قيل في منثور الحكم: كلّ شيء محتاج إلى العقل و العقل محتاج إلى التجارب. و إذا عرفت أنّ طاعة المشير الموصوف بالصفات المذكورة مستلزمة في أغلب الأحوال للسرور بحسن ثمرة رأيه و الفوز بها لا جرم كان معصيته و مخالفة رأيه مستلزمة للحسرة مستعقبة للندامة.
و قوله: و قد كنت أمرتكم في هذه الحكومة أمرى.
لمّا قدّم أنّ معصية المشير المذكور تعقّب الحسرة و الندامة أردف ذلك ببيان أنّه هو المشير و أنّه أشار عليهم فخالفوه ليتّضح لهم أنّهم عصوا مشيرا قد استكمل شرائط الرأى فيتوقّعوا الندم على معصيته.
و قوله: و نخلت لكم مخزون رأيى.
استعارة للفظ النخل لاستخلاص أسدّ آرائه و أجودها لهم بحسب اجتهاده، و وجه المشابهه أنّ أجود ما ينتفع به ممّا ينخل من دقيق و نحوه هو المنخول كذلك الرأى أجوده و أنفعه ما استخلص وصفى من كدورات الشهوة و الغضب.
و قوله: لو كان يطاع لقصير أمر.
مثل. و قصير هذا هو قصير بن سعد اللخمىّ مولى جذيمة الأبرش بعض ملوك العرب. و أصل المثل أنّ جذيمة كان قتل أبا الزباء ملكة الجزيرة فبعثت إليه عن حين ليتزوّج بها خدعة و سألته القدوم فأجابها إلى ذلك، و خرج في ألف فارس و خلّف باقى جنوده مع ابن اخته عمرو بن عدّى، و كان قصير أشار إلى جذيمة أن لا يتوجّه إليها فلم يقبل رأيه فلمّا قرب جذيمة من الجزيرة استقبله جنود الزباء بالعدّة و لم ير منهم إكراما له فأشار عليه قصير بالرجوع عنها، و قال: إنّها امرأة و من شأن النساء الغدر.
فلم يقبل. فلمّا دخل إليها غدرت به و قتلته. فعندها قال قصير: لا يطاع لقصير أمر.
فذهبت مثلا لكلّ ناصح عصى و هو مصيب في رأيه. و قد يتوهّم أنّ جواب لو هاهنا متقدّم، و الحقّ أنّ جوابها محذوف و المعنى يتّضح بترتيب الكلام، و التقدير إنّى كنت أمرتكم أمرى في هذه الحكومة و نصحت لكم فلو اطعتموني لفعلتم ما أمرتكم به و محّضت لكم النصيحة فيه، فقولنا: لفعلتم هو تقدير الجواب، و ممّا ينبّه عليه أنّ قوله: فأبيتم علىّ إباء المخالفين الجفاة و المنابذين العصاة. و هو في تقدير استثناء نقيض ذلك التالى، و تقديره لكنّكم أبيتم علىّ إباء من خالف الأمر و جفا المشير و عصاه حتّى شكّ في نصحه هل كان صوابا أو خطاء. و هذا الحكم حقّ فإنّ المشير بالرأى الصواب إذ اكثر مخالفوه فيه قد يتّهم نفسه في صحّة ذلك الرأى و صوابه لأنّ استخراج وجه المصلحة في الأمر أمر اجتهادىّ يغلب على الظنّ بكثرة الأمارات اللايحة للمشير فإذا جوّز المشير أن يكون خلاف ما رآه هو المصلحة فلا مانع إذن أن يعرض لغيره.
أمارات اخرى يغلب على ظنّه أنّ ما رآه هو ليس بمصلحة فيعارض بها ما رآه الأوّل حقّا و يخالفه في رأيه فإذا كثرت تلك المخالفة من جمع عظيم جاز أن يتشكّك الإنسان فيما ظنّه من المصلحة أنّه ليس بمصلحة و أنّ الأمارات الّتي اقتضت ذلك الظنّ غير صحيحة فلذلك قال عليه السّلام: حتّى ارتاب الناصح بنصحه. و عنى بالناصح نفسه أو من رأى رأيه لإطباق أكثر أصحابه على مخالفتهم، و قال بعض الشارحين: يحمل ذلك على المبالغة لأنّه عليه السّلام منزّه عن أن يشكّ فيما يراه صوابا بعد شوره به.
و قوله: و ضنّ الزند بقدحه.
قيل: هو مثل يضرب لمن يبخل بفوائده إذا لم يجد لها قابلا عارفا بحقّها أو لم يتمكّن من إفادتها فإنّ المشير إذا اتّهم و استغّش أو خطىء في رأيه ربما لا ينقدح له بعد ذلك رأى صالح لحكم الغضب عليه من جهة مخالفته و عدم قبول رأيه.
و لمّا كان غرضه أن يقرّر عليهم الندامة في مخالفة رأيه و يريهم ثمرة عصيان أمره الصادر عن معاينة وجه المصلحة كما هو قال: فكنت و إيّاكم كما قال اخو هوازن: أمرتهم أمرى. البيت، و هو لدريد بن الصمة من قصيدة له في الحماسة أوّلها: نصحت لعارض و أصحاب عارض و رهط بنى السوداء و القوم سهّدو قصّته في هذه القصيدة أنّ أخاه عبد اللّه بن الصمة غزا بنى بكر بن هوازن بن غطفان فغنم منهم و استاق إبلهم فلمّا كان بمنعرج اللوى قال: لا و اللّه لا أبرح حتّى أنحر البقيعة و هي ما ينحر من النهب قبل القسمة، و احيل السهام. فقال له أخوه دريد: لا تفعل. فإنّ القوم في طلبك. فأبى عليه و أقام و أنحر البقيعة و بات فلمّا أصبح هجم القوم عليه و طعن عبد اللّه بن صمة فاستغاث بأخيه دريد فنهنه عنه القوم حتّى طعن هو
أيضا و صرع و قتل عبد اللّه و حال الليل بين القوم فنجا دريد بعد طعنات و جراح حصل له فقال القصيدة، و إنّما قال عليه السّلام: أخو هوازن. لنسبته إليهم فإنّ دريدا ابن الصمة بن بنى جشم بن معاويه بن بكر بن هوازن. و نحوه قوله تعالى وَ اذْكُرْ أَخا عادٍ لنسبته فيهم و كذلك قال لهم أخوهم لوط و يكفي في إطلاق لفظ الأخوّة مجازا مجرّد الاتّصال بهم و الملابسة لهم و قد عرفت ذلك، و وجه تمثّله عليه السّلام بالبيت: إنّى كنت و إيّاكم في نصيحتي و نهيي من الحكومة و مخالفتكم أمرى المستلزمة لندامتكم على التفريط كهذا القائل مع قومه حيث نصح لهم فعصوه فلحقهم من الندامة و الهلاك. و اعلم أنّ الّذي كان أشار به على أصحابه: هو ترك الحكومة و الصبر على قتال أهل الشام. و مجمل السبب أنّ أمارات الغلبة ليلة الهرّير كانت لايحة على أهل الشام فلمّا عاينوا الهلاك استشار معاوية بعمرو بن العاص في كيفيّة الخلاص فقال عمرو: إنّ رجالك لا تقوم لرجاله، و لست مثله إنّه يقاتلك على أمر و أنت تقاتله على غيره و أنت تريد البقاء و هو يريد الفناء، و أهل العراق يخافون منك إن ظفرت بهم و أهل الشام لا يخافون عليّا إن ظفر بهم، و لكن ألق إلى القوم أمرا إن قبلوه اختلفوا و إن ردّوه اختلفوا:
ادعهم إلى كتاب اللّه حكما فيما بينك و بينهم فإنّك بالغ به حاجتك فإنّى لم أزل ادّخر هذا الأمر لوقت حاجتك إليه فعرف معاوية ذلك فلمّا أصبحوا رفعوا المصاحف على أطراف الرماح و كان عددها خمس مائة مصحف و رفعوا مصحف المسجد الأعظم على ثلاثة رماح مشدودة يمسكها عشرة رهط و نادوا بأجمعهم: اللّه اللّه معشر العرب في النساء و البنات اللّه اللّه دينكم هذا كتاب اللّه بيننا و بينكم. فقال عليه السّلام: اللّهمّ إنّك تعلم أنّهم ما الكتاب يريدون فاحكم بيننا و بينهم إنّك أنت الحكم الحقّ المبين، و حينئذ اختلف أصحابه فقالت طائفة: القتال القتال، و قال أكثرهم: المحاكمة إلى الكتاب و لا يحلّ لنا الحرب و قد دعينا إلى حكم الكتاب و تنادوا من كلّ جانب الموادعة فقال عليه السّلام في جوابهم: أيّها الناس إنّى أحقّ من أجاب إلى كتاب اللّه و لكن معاوية و عمرو بن العاص و ابن أبي معيط ليسوا بأصحاب دين و لا قرآن إنّى أعرف بهم منكم صحبتهم صغارا و رجالا فكانوا شرّ صغار و شرّ رجال و يحكم إنّها كلمة حقّ يراد بها الباطل إنّهم ما رفعوها إنّهم يعرفونها و لا يعلمون بها و لكنّها الخديعة و المكيدة و الوهن أعيرونى سواعدكم و جماجمكم ساعة واحدة فقد بلغ الحقّ مقطعه و لم يبق إلّا أن يقطع دابر القوم الظالمين، فجاءه عشرون ألفا من أصحابه و نادوه باسمه دون إمرة المؤمنين: أجب اليوم إلى كتاب اللّه إذا دعيت و إلّا قتلناك كما قتلنا عثمان.
فقال عليه السّلام: و يحكم أنا أوّل من أجاب إلى كتاب اللّه، و أوّل من دعا إليه فكيف لا أقبله و إنّما قاتلتهم ليدينو بحكم القرآن و لكنّى قد أعلمتكم أنّهم قد كادوكم و ليس العمل بالقرآن يريدون.
فقالوا: ابعث إلى الأشتر يأتيك. و قد كان الأشتر صبيحة ليلة الهرير قد أشرف على عسكر معاوية ليدخله و لاح له الظفر فبعث إليه فرجع على كره منه و وقع بينه و بين من أجاب إلى الحكومة من أصحاب عليّ عليه السّلام مسابّ و مجادلات على ما اختاروا من ترك الحرب و تنادوا من كلّ جانب رضى أمير المؤمنين بالتحكيم و كتبوا عهدا على الرضا به، و سنذكر كيفيّته إجمالا إنشاء اللّه تعالى. و باللّه التوفيق.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحرانی)، ج 2 ، صفحهى 85