و من خطبة له عليه السّلام
أَيُّهَا النَّاسُ- إِنَّا قَدْ أَصْبَحْنَا فِي دَهْرٍ عَنُودٍ وَ زَمَنٍ كَنُودٍ يُعَدُّ فِيهِ الْمُحْسِنُ مُسِيئاً- وَ يَزْدَادُ الظَّالِمُ فِيهِ عُتُوّاً- لَا
نَنْتَفِعُ بِمَا عَلِمْنَا وَ لَا نَسْأَلُ عَمَّا جَهِلْنَا- وَ لَا نَتَخَوَّفُ قَارِعَةً حَتَّى تَحُلَّ بِنَا- وَ النَّاسُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَصْنَافٍ- مِنْهُمْ
مَنْ لَا يَمْنَعُهُ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ- إِلَّا مَهَانَةُ نَفْسِهِ وَ كَلَالَةُ حَدِّهِ- وَ نَضِيضُ وَفْرِهِ- وَ مِنْهُمْ الْمُصْلِتُ لِسَيْفِهِ وَ
الْمُعْلِنُ بِشَرِّهِ- وَ الْمُجْلِبُ بِخَيْلِهِ وَ رَجِلِهِ- قَدْ أَشْرَطَ نَفْسَهُ وَ أَوْبَقَ دِينَهُ- لِحُطَامٍ يَنْتَهِزُهُ أَوْ مِقْنَبٍ يَقُودُهُ- أَوْ
مِنْبَرٍ يَفْرَعُهُ- وَ لَبِئْسَ الْمَتْجَرُ أَنْ تَرَى الدُّنْيَا لِنَفْسِكَ ثَمَناً- وَ مِمَّا لَكَ عِنْدَ اللَّهِ عِوَضاً- وَ مِنْهُمْ مَنْ يَطْلُبُ الدُّنْيَا
بِعَمَلِ الْآخِرَةِ- وَ لَا يَطْلُبُ الْآخِرَةَ بِعَمَلِ الدُّنْيَا- قَدْ طَامَنَ مِنْ شَخْصِهِ- وَ قَارَبَ مِنْ خَطْوِهِ وَ شَمَّرَ مِنْ ثَوْبِهِ- وَ
زَخْرَفَ مِنْ نَفْسِهِ لِلْأَمَانَةِ- وَ اتَّخَذَ سِتْرَ اللَّهِ ذَرِيعَةً إِلَى الْمَعْصِيَةِ- وَ مِنْهُمْ مَنْ أَبْعَدَهُ عَنْ طَلَبِ الْمُلْكِ ضُئُولَةُ
نَفْسِهِ- وَ انْقِطَاعُ سَبَبِهِ فَقَصَرَتْهُ الْحَالُ عَلَى حَالِهِ- فَتَحَلَّى بِاسْمِ الْقَنَاعَةِ-
وَ تَزَيَّنَ بِلِبَاسِ أَهْلِ الزَّهَادَةِ- وَ لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ فِي مَرَاحٍ وَ لَا مَغْدًى- وَ بَقِيَ رِجَالٌ غَضَّ أَبْصَارَهُمْ ذِكْرُ الْمَرْجِعِ-
وَ أَرَاقَ دُمُوعَهُمْ خَوْفُ الْمَحْشَرِ- فَهُمْ بَيْنَ شَرِيدٍ نَادٍّ- وَ خَائِفٍ مَقْمُوعٍ وَ سَاكِتٍ مَكْعُومٍ- وَ دَاعٍ مُخْلِصٍ وَ ثَكْلَانَ
مُوجَعٍ- قَدْ أَخْمَلَتْهُمُ التَّقِيَّةُ وَ شَمِلَتْهُمُ الذِّلَّةُ- فَهُمْ فِي بَحْرٍ أُجَاجٍ- أَفْوَاهُهُمْ ضَامِزَةٌ وَ قُلُوبُهُمْ قَرِحَةٌ- قَدْ وَعَظُوا
حَتَّى مَلُّوا- وَ قُهِرُوا حَتَّى ذَلُّوا وَ قُتِلُوا حَتَّى قَلُّوا- فَلْتَكُنِ الدُّنْيَا فِي أَعْيُنِكُمْ- أَصْغَرَ مِنْ حُثَالَةِ الْقَرَظِ- وَ قُرَاضَةِ
الْجَلَمِ- وَ اتَّعِظُوا بِمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ- قَبْلَ أَنْ يَتَّعِظَ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ- وَ ارْفُضُوهَا ذَمِيمَةً- فَإِنَّهَا قَدْ رَفَضَتْ مَنْ كَانَ
أَشْغَفَ بِهَا مِنْكُمْ
قال الشريف: أقول: هذه الخطبة ربما نسبها من لا علم له إلى معاوية، و هى من كلامأمير المؤمنين عليه
السّلام الذى لا يشك فيه، و أين الذهب من الرغام، و العذب من الأجاج و قد دل على ذلك الدليل
الخرّيت، و نقده الناقد البصير عمرو بن بحر الجاحظ، فإنه ذكر هذه الخطبة فى كتاب البيان و التبيين، و ذكر
من نسبها إلى معاوية، ثم قال: هى بكلام على عليه السّلام أشبه و بمذهبه فى تصنيف الناس، و
بالإخبار عما هم عليه من القهر و الإذلال، و من التقية و الخوف- أليق قال: و متى وجدنا معاوية فى حال
من الأحوال يسلك فى كلامه مسلك الزهاد، و مذاهب العباد
اللغة
أقول: عنود: جائر. و كنود: كفور. و العتوّ: الكبر. و القارعة: الخطب العظيم. و مهانة النفس: حقارتها. و كلّ حدّ السيف و غيره: إذا وقف عن القطع. و نضيض وفره:قلّة ماله. و المصلت بسيفه: الماضى في الامور بقوّته. و المجلب. المستعين على الأمر بالجمع. و الرجل: جمع راجل. و أشرط نفسه لكذا: أى أعلمها و أعدّها له. و أوبق دينا: أى أهلكه. و الحطام: متاع الدنيا، و أصله ما تكسر من اليبس. و الانتهار: الاختلاس و الاستلاب بقدر الامكان. و المقنب بكسر الميم و فتح النون: الجمع من الخيل ما بين الثلاثين إلى الأربعين. و فرع المنبر يفرعه: أى علاه. و طأمن من شخصه: أى خفض، و الاسم الطمأنينة. و شمّر من ذيله: إذا رفعه. و زخرف: أى زيّن و نمّق. و ضؤولة نفسه: حقارتها. المراح: المكان الّذي يأوى إليه الماشية بالليل. و المغدى: هو الّذي يأوى إليه بالغداة. و الشريد. المشرّد: و هو المطرود. و النادّ: الذاهب على وجهه. و القمع: الإذلال. و المكعوم: الّذي لا يمكنه الكلام كأنّه سدّ فوه بالكعام، و هو شيء يجعل في فم.
البعير عند الهياج. و الثكل: الحزن على فقد بعض المحابّ. و اخملتهم: أى اسقطتهم و أرذلتهم بين الناس. و التقيّة و التقوى: الخوف. و الاجاج: الملح. و الضامز. بالزاء: الساكتة. و الحثالة الثفل. و القرظ، ورق السلم يدبغ به. و الجلم: المقراض تجزّ به أوبار الإبل، و قراضته ما تساقط من قرضه.
المعنى
و أعلم أن نسبة الخير إلى بعض الأزمنة و الشرّ إلى بعض آخر، و تفضيل بعض الأزمنة على بعض نسبة صحيحة لما أنّ الزمان من الأسباب المعدّه لحصول ما يحصل في هذا العالم من الامتزاجات و ما يتبعها ممّا يعدّ خيرا أو شرّا. و قد يتفاوت الأزمنة في الإعداد لقبول الخير و الشرّ ففى بعضها يكون بحسب الاستقراء ما يعدّ شرا كثيرا فيقال: زمان صعب و زمان جائر. و خصوصا زمان ضعف الدين و النواميس الشرعيّة الّتي هي سبب نظام العالم و بقاؤه و سبب الحياة الأبديّة في الدار الآخرة، و في بعضها يكون ما يعدّ خيرا كثيرا فيقال: زمان حسن و زمان عادل، و هو الزمان الّذي يكون أحوال الخلق فيه منتظمة صالحة خصوصا زمان قوّة الدين و ظهوره و بقاء ستر ناموس الشريعة مسدولا. هذا.
و إن كنّا إذا اعتبرنا أجزاء الخير و أجزاء الشرّ الواقعة في كلّ العالم بحسب كلّ زمان لم يكن هناك كثير تفاوت بين الأزمنة فيما يعدّ خيرا فيها و شرّا. و لذلك قال أفلاطون: الناس يتوهّمون بكلّ زمان أنّه آخرالأزمنة و يثبتون تقصيرا عمّا تقدّمه و ليس يوفون الزمان الماضى و المقيم حقّيهما من التأمّل.
و ذلك أنّهم يقيسون الأحداث في الزمان المقيم إلى من تناهت سنّه و تجاريبه في الزمان الماضى، و ينظرون إلى قصور المروّات في الزمان المقيم و اتّساعها في الماضى من غير أن ينظروا إلى الأغراض في الزمانين و ما يوجبه كلّ واحد منهما. و إذا تتّبع هذا بعدل و استقصى تصريف الزمانين من القوى و الجدات، و الأمن و الخوف، و الأسباب و الأحوال كانا متقاربين. إذا عرفت هذا فتقول:
قوله عليه السّلام إنّا قد أصبحنا. إلى قوله:
حتّى تحلّ بنا. ذمّ للزمان بوصفى الجور و الشدّة لمّا أعدله ممّا عدّد فيه من الأوصاف المعدودة شرّا بالقياس إلى نظام العالم و بقائه. و ذكر من تلك الأوصاف خمسة: أوّلها: أنّه يعدّ فيه المحسن مسيئا. و ذلك من حساب المسيئين الكسالى عن القيام بطاعة اللّه فيعدّون إنفاق المحسن لما له رياء و سمعة أو خوفا أو رغبه في مجازاة، و كذلك ساير فضايله رذايل. كلّ ذلك طعنا في فضيلته و حسدا أن ينال رتبة أعلى. فيلحقونه بدرجاتهم في الإساءه. و ثانيها: أنّه يزداد الظالم فيه عتوّا. و ذلك أنّ منشأ الظلم هو النفس الأمّارة بالسوء و هي في زمان العدل تكون مقهورة دائما أو في أكثر الأحوال. و ثورانها في ذلك الوقت طالبة للظلم يكون فلتة و انتهاز فرصة. فالظالم في زمان العدل إن ظلم أو تجاوز حدّه فكالسارق الّذي لا يأمن في كلّ لحظة أن يقع به المكروه فكذلك الظالم في زمن العدل مقموع بحرسة الشريعة مرصود بعيون طلايعها. أمّا في زمان ضعف الشريعة فالظالم فيه كالناهب معط لقوّته سؤلها، غير ملتفت إلى وازع الدين فلا جرم كان عتوّه فيه أزيد. و قد كان في زمانه بالنسبة إلى عهد الرسول صلى اللّه عليه و آله و سلّم كذلك. و ثالثها: أنّه لا ينتفع أهله فيه بما علموا. و هو توبيخ للمقصّرين في أعمال الآخرة على وفق ما علموا من الشريعة ممّا ينبغي أن يعمل لها إذ الانتفاع بالعلم إنّما يكون إذا وافقه العمل، و إليه الإشارة بقوله عليه السّلام في موضع آخر: العلم مقرون بالعمل، و العلم يهتف بالعمل فإن أجابه و إلّا ارتحل. فإنّ المراد بارتحال العلمهو عدم الانتفاع به و بهتفه بالعمل اقتضاؤه ما ينبغي من مقارنه العمل له. و رابعها: أنّهم لا يسئلون عمّا جهلوا. و هو توبيخ للمقصّرين في طلب العلم بعدم السؤال عمّا جهلوا منه، و قلّة الالتفات لقصور أفهامهم عن فضيلته، و اشتغالهم بحاضر اللذّات الحسيّة. و خامسها: كونهم لا يتخوّفون قارعة حتّى تحلّ بهم. و ذلك لعدم فكرهم في عواقب امورهم و اشتغالهم بحاضرها عن الالتفات إلى مصالحهم و تدبيرها و هو توبيخ للمقصّرين في أمر الجهاد و تنبيه لهم بذكر القارعة و حلولها بهم. و كلّ هذه امور مضادّة لمصلحة العالم. فلذلك عدّ الزمان الواقعة فيه عنودا و شديدا.
قوله: فالناس على أربعة أصناف. إلى قوله: قلّوا.
أقول: وجه هذه القسمة أنّ الناس إمّا مريدون للدنيا أو للّه. و المريدون لها فإمّا قادرون عليها أو غير قادرين. و غير القادرين إمّا غير محتالين لها، أو محتالون.
و المحتالون إمّا أن يؤهّلوا نفوسهم للإمرة و الملك، أو لما هو دون ذلك. فهذه أقسام خمسة مطابقة لما ذكره عليه السّلام من الأوصاف الأربعة الّذين عرضهم للذمّ مع الصنف الخامس الّذين أفردهم بالمدح.
فالصنف الأوّل. فهم المريدون للدنيا القادرون عليها
المشار إليه في القسم الثاني من قسمته بقوله: و منهم المصلت لسيفه و المعلن بشرّة. إلى قوله: يفرعه. و المقصود بهذا الصنف القادرون على الدنيا المطلقون لعنان الشهوة و الغضب في تحصيل ما يتخيّل كمالا من القينات الدنيويّة. فإصلات السيف كناية عن التغلّب و تناول ما أمكن تناوله بالغلبة و القهر و إعلان الشرّ و المجاهرة بالظلم و غيره من رذائل الأخلاق. و الإجلاب بالخيل و الرجل كناية عن جمع أسباب الظلم و الغلبة و الاستعلاء على الغير. و إشراط نفسه: تأهيلها و إعدادها للفساد في الأرض. و ظاهر أنّ من كان كذلك فقد أوبق دينه و أفسده و قوله: لحطام ينتهزه أو مقنب يقوده أو منبر يفرعه. إشارة إلى بعض العلل الغائيّة للصنف المذكور من كونهم بالأوصاف المذكورة.
و استعار لفظ الحطام للمال. و وجه المشابهة أنّ اليبس من النبات كما أنّه لا نفع له بالقياس إلى ما يبقى خضرته و نضارته أو يكون ذا ثمرة كذلك المال بالنسبة إلى الأعمال الصالحة الباقى نفعها في الآخرة، و إنّما خصّ هذه الامور الثلاثة لأنّها الأغلب فيما يسعى أهل الدنيا لأجله إذ الغالب أنّ السعى فيها إمّا لجمع المال أو لرياسة دنيويّة باقتناء الخيل و النعم، أو دينيّة كافتراع المنابر و الترأس بناموس الدين مع قصد الدنيا.
و قوله: و لبئس المتجر. إلى آخره.
تنبيه لهذا الصنف من الناس على خسرانهم في أفعالهم الشبيهة بالتجارة الخاسرة فإنّ طالب الدنيا المحصّل لها كيف ما اتّفق هالك في الآخرة. فهو كالبائع لها بما حصل له من دنياه، و المعتاض بما له عند اللّه من الأجر الجزيل لو أطاعه حطاما تفنى عينه و تبقى تبعته. و لذلك استعار لفظ التجارة لها.
الصنف الثاني: و هم المريدون لها غير القادرين عليها و غير المحتالين لها
و هو المشار إليه بقوله: منهم من لا يمنعه من الفساد [في الأرض] إلّا مهانة نفسه و كلالة حدّه و نضيض وفره. و كنّى بقوله: كلالة حدّه. عن عدم صراحته في الامور و ضعفه عنها. و ظاهر أنّ المريد للدنيا المعرض عن اللّه لو خلّى عن الموانع المذكورة و وجد الدنيا لم يكن سعيه فيها إلّا فسادا.
الصنف الثالث: الغير القادرين على الدنيا مع احتيالهم لها و إعداد أنفسهم لامور دون الملك
و هو المشار إليه بقوله: و منهم من يطلب الدنيا بعمل الآخرة و لا يطلب الآخرة بعمل الدنيا. إلى آخره. و قوله: يطلب الدنيا بعمل الآخرة إشارة إلى الحيلة للدنيا كالرياء و السمعة. و قوله: و لا يطلب الآخرة بعمل الدنيا إشارة إلى أنّه مريد للدنيا فقط. قوله: قد طأمن من شخصه. إلى آخره.
تفصيل لكيفيّة الحيلة فإنّ خضوع الإنسان و تطأمن شخصه و المقاربة بين خطوه و تشمير ثوبه و زخرفته لنفسه بما هو شعار الصالحين من عباد اللّه و ستر اللّه الّذي حمى به أهل التقوى أن يردوا موارد الهلكة يقع من صنف من الناس التماسا لدخولهم في عيون أهل الدنيا و أرباب أهل القينات ليسكنوا إليهم في الأمانات و نحوها و يجعلون ذلك ذريعة لهم إلى ما أمّلوه من الدنيا الفانية فيكونون قد اتّخذوا ستر اللّه و ظاهر دينه وسيلة إلى معصيته.
الصنف الرابع: الغير القادرين عليها المحتالون لها المؤهّلون أنفسهم للملك و الإمرة
و هم المشار إليهم بقوله: و منهم من أقعدهم عن طلب الملك ضؤولة نفسه. إلى آخره. و ذكر من موانع هذا الصنف عمّا رامه مانعين: أحدهما ضؤولة نفسه و قصورها عن المناواة و تخيّلها العجز عن طلب الملك و إن كان مطلوبا ل ه، الثاني سبب ذلك الضعف و هو انقطاع سببه من قلّة المال و عدم الأعوان و الأنصار في الطلب. فلذلك وقفت به حال القدر على حالته الّتي لم يبلغ معها ما أراد، و قصّرته عليها. فعدل لذلك إلى الحيلة الجاذبة لرغبات الخلق إليه من التحلّى بالقناعة و التزيّن بلباس أهل الزهادة من المواظبة على العبادات و لزوم ظواهر أوامر اللّه و إن لم يكن ذلك عن أصل و اعتقاد قاده إليه. و قوله: و ليس [هو] من ذلك في مراح و لا مغدى. كناية عن أنّه ليس من القناعة و الزهد في شيء أصلا، و يحتمل أن يكون هذا الصنف من غير القادرين و غير المحتالين.
الصنف الخامس: و هم المريدون للّه تعالى
و هم المشار إليهم بقوله عليه السّلام: و بقى رجال. إلى آخره. و ذكر لهم أوصافا: الأوّل: كونهم قد غضّ أبصارهم ذكر المرجع. و ذلك أنّ المريد للّه إذا التفت إلى جنابه المقدّس و استحضر أنّه راجع إليه بل مايل بين يديه. فلا بدّ أن يعرض عن غيره حياء منه و ابتهاجا بمطالعة أنواره و خوفا أن يحمّج به بصره عن صعود مراتب الأملاك إلى مهاوى الهلاك، و لأنّ الحسّ تابع للقلب فإذا كان بصر القلب مشغولا غريقا في جلال اللّه كان مستتبعا للحسّ فلم يكن له التفات من طريقه إلى أمر آخر.
و هو المراد بالغضّ. الثاني: كونهم قد أراق دموعهم خوف المحشر. و اعلم أنّ خوف الخائفين قد يكون لامور مكروهة لذاتها، و قد يكون لامور مكروهة لأدائها إلى ما هو مكروه لذاته، و أقسام القسم الثاني كثيرة كخوف الموت قبل التوبة، أو خوف نقض القربة، أو خوف الانحراف عن القصد في عبادة اللّه، أو خوف استيلاء القوى الشهوانيّة بحسب مجرى العادة في استعمال الشهوات المألوفة، أو خوف تبعات الناس عنده، أو خوف سوء الخاتمة، أو خوف سبق الشقاوة في علم اللّه تعالى. و كلّ هذه و نحوها مخاوف عباد اللّه الصالحين. و أغلبها على قلوب المتّقين خوف الخاتمة فإنّ الأمر فيه خطر، و أعلى الأقسام و أدّلها على كمال المعرفة خوف السابقة لكون الخاتمة تبعا لها و مظهرة لما سبق في اللوح المحفوظ. و قد مثّل من له خوف السابقة و من له خوف الخاتمة برجلين وقع لهما ملك بتوقيع يحتمل أن يكون لهما فيه غناء أو هلاك فتعلّق قلب أحدهما بحال نشر التوقيع و ما يظهر فيه من خير أو شرّ، و تعلّق قلب الآخر بما خطر للملك حالة التوقيع من رحمة أو غضب. و هذا التفات إلى السبب. فكان أعلى. فكذلك الالتفات إلى القضاء الأزلىّ الّذي جرى بتوقيعه القلم الإلهىّ في اللوح المحفوظ أعلى من الالتفات إلى الأبد. و إلى ذلك أشار الرسول صلى اللّه عليه و آله و سلّم حيث كان على المنبر فقبض كفّه اليمنى ثمّ قال: هذا كتاب اللّه كتب فيه أهل الجنّة بأسمائهم و أسماء آبائهم لا يزاد فيه و لا ينقض.
و ليعمل أهل السعادة بعمل أهل الشقاوة حتّى يقال: كأنّهم منهم بل هم ثمّ يستخرجهم (يستنقذهم خ) اللّه قبل الموت و لو بفواق ناقة، و ليعمل أهل الشقاوة بعمل أهل السعادة حتّى يقال: كأنّهم منهم بل هم هم ثمّ يستخرجهم اللّه قبل الموت و لو بفواق ناقة. السعيد من سعد بقضاء اللّه، و الشقىّ من شقى بقضاء اللّه، و الأعمال بالخواتيم.
و أمّا أقسام القسم الأوّل فمثل أن يتمثّل في نفوسهم ما هو المكروه لذاته كسكرات الموت و شدّته، أو سؤال منكر و نكير، أو عذاب القبر، أو هول الموقف بين يدي اللّه تعالى و الحياء من كشف السرّ و السؤال عن النقير و القطمير، أو الخوف من الصراط و حدّته و كيفيّة العبور عليه، أو من النار و أغلالها و أحوالها، أو من حرمان الجنّة، أو من نقصان الدرجات فيها، أو خوف الحجاب من اللّه تعالى. و كلّ هذه الأسباب مكروهة في نفسها و مختلف حال السالكين إلى اللّه فيها، و أعلاها رتبة خوف الفراق و الحجاب عن اللّه تعالى و هو خوف العارفين، و ما قبل ذلك و هو خوف العابدين و الصالحين و الزاهدين و من لم تكمل معرفته بعد.
إذا عرفت ذلك فنقول: الخوف الّذي أشار إليه عليه السّلام من هذا القسم إذ خوف المحشر يشمل ما ذكرناه من أقسامه. الثالث: كونهم بين شريد نادّ. أى مشرّد في البلاد مطرود إمّا لكثرة إنكاره المنكر أو لقلّة صبره على مشاهدة المنكر، و خائف مقموع و ساكت مكعوم: أى كأنّ التقيّة سدّت فاه عن الكلام. و هو من باب الاستعارة، وداع مخلص للّه و ثكلان موجع إمّا لمصابه في الدين أو من كثرة أذى الظالمين. و هذا تفصيل حال آحاد المتّقين، و يحتمل أن يكون ذلك تفصيلا لحالهم بالنسبة إلى خوف المحشر أى أنّ خوف المحشر أراق دموعهم و فعل بكلّ واحد منهم ما ذكر عنه من الحالة الّتي هو عليها. الرابع: كونهم قد أخملتهم التقيّة: أى تقيّة الظالمين و هو تأكيد لما سبق. الخامس: كونهم قد شملتهم الذلّة: أى بسبب التقيّة. السادس: كونهم في بحر اجاج، و استعار لفظ البحر بوصف الاجاج لما فيه من أحوال الدنيا الباطلة. و وجه المشابهة أنّ الدنيا كما لا تصلح للاقتناء و الاستمتاع بها بل يكون سببا للعذاب في الآخرة كذلك البحر لا يمكن سابحه و إن بلغ به جهد العطش مبلغه شربه و التروّى به. و قوله: أفواههم ضامرة و قلوبهم قرحة. أي إنّهم لمّا فطموا أنفسهم عن لذّاتها و مخالطة أهلها فيما هم فيه من الانهماك فيها لا جرم كانت أفواههم ضامرة لكثرة صيامهم بعيدة العهد بالمضغ، و قلوبهم قرحة جوعا أو خوفا من اللّه أو عطشا إلى رحمته و رضوانه أو لما يشاهدونه من كثرة المنكرات و عدم تمكّنهم من إنكارها. و من روى ضامزة بالزاى المعجمة أراد سكوتهم و قلّة كلامهم. السابع: كونهم قد وعظوا حتّى ملّوا: أي ملّوا وعظ الخلق لعدم نفعه فيهم. الثامن: كونهم قد قهروا حتّى ذلّوا. التاسع: كونهم قد قتلوا حتّى قلّوا: أي قتلهم الظالمون لعدم سلكهم في انتظامهم فان قلت: كيف يقال قتلوا مع بقائهم. قلت: إسناد الفعل إلى الكلّ لوجود القتل في البعض مجازا من باب إسناد حكم الجزء إلى الكلّ، و لأنّ الكلّ لمّا كان مقصودا بالقتل كان كونهم مقتولين علّة غائيّة فجاز إسناد القتل إليهم و إن كان المقتول بعضهم.
و قوله: فلتكن الدنيا في أعينكم. إلى آخره.
أمر للسامعين باستصغار الدنيا و احتقارها إلى حدّ لا يكون في أعينهم ما هو أحقر منها فإنّ حثالة القرظ و قراضة الجلم في غاية الحقارة، و المراد من هذا الأمر.
و غايته الترك لها فإنّ استحقار الشيء و استصغاره يستتبع تركه و الإعراض عنه، ثمّ أمرهم بالاتّعاظ بالامم السابقة فإنّ في الماضين عبرة لاولى الأبصار، و محلّ الاعتبار ما كانوا فيه من نعيم الدنيا و لذّاتها و المباهاة بكثرة قيناتها ثمّ مفارقتهم لذلك كلّه بالموت و بقاء الحسرة و الندامة للمستكثرين منها حجبا حايلة بينهم و بين الوصول إلى حضرة جلال اللّه، و نبّههم بقوله: قبل أن يتّعظ بكم من بعدكم. على أنّهم مضطرّون إلى مفارقة ما هم فيه و سيصيرون عبرة لغيرهم، و فايدة الأمر بالاتّعاظ أيضا الإعراض عنها و الاقلاع و الاغترار بها، ثمّ لمّا أمرهم بهذه الأوامر الّتي ليست صريحة في الترك أردف ذلك بالأمر الصريح بالترك فقال: و ارفضوها ذميمة: أي أتركوا ما حاله الحقارة و الذمامة، ثمّ نبّه بعده على ما يصلح علّة لتركها و هو عدم دوام صحبتها و ثباتها لمن كان أحبّ منهم لها: أي و لو دام سرورها و نعيمها لأحد لدام لأحبّ الخلق لها و أحرصهم على المحافظة عليها فلمّا لم تدم لمن هو أشدّ حبّا لها منكم فبالأولى أن لا تدوم لكم، و إذا كان طباعها رفض كلّ محبّ فالأحرى بذي المروّة اللبيب الترفّع و الإعراض عمّن لا تدوم صحبته و لا تصفو محبّته. و باللّه التوفيق.
شرحنهجالبلاغة(ابنميثم)، ج 2 ، صفحهى 63