و من كلام له عليه السّلام لابن العباس
لما أرسله إلى الزبير يستفيئه إلى طاعته قبل حرب الجمل
لَا تَلْقَيَنَّ طَلْحَةَ- فَإِنَّكَ إِنْ تَلْقَهُ تَجِدْهُ كَالثَّوْرِ عَاقِصاً قَرْنَهُ- يَرْكَبُ الصَّعْبَ وَ يَقُولُ هُوَ الذَّلُولُ- وَ لَكِنِ الْقَ الزُّبَيْرَ
فَإِنَّهُ أَلْيَنُ عَرِيكَةً- فَقُلْ لَهُ يَقُولُ لَكَ ابْنُ خَالِكَ- عَرَفْتَنِي بِالْحِجَازِ وَ أَنْكَرْتَنِي بِالْعِرَاقِ- فَمَا عَدَا مِمَّا بَدَا قال
الشريف: أقول: هو أول من سمعت منه هذه الكلمة، أعنى «فما عدا مما بدا»
اللغة
أقول: يستفيئه: أى يسترجعه من فاء إذا رجع. و في رواية إن تلقه تلقه من الفيئه على كذا إذا وجدته عليه. و العقص: الاعوجاج، و عقص الثور قرنيه: بالفتح متعدّ، و عقص قرنه: بالكسر لازم. و الصعب: الدابّة الجموح السغبة. و الذلول: السهلة الساكنة. و العريكة: فعيل بمعنى مفعول و التاء لنقل الاسم من الوصفيّة إلى الاسميّة الصرفة، و أصل العرك دلك الجلد بالدباغ و غيره. و عدا: جاوز. و بدا: ظهر.
المعنى
و أعلم أنّه عليه السّلام لمّا نهى ابن عبّاس عن لقاء طلحة بحسب ما رأى في ذلك من المصلحة نبّهه على علّة وجه نهيه عنه بقوله:
فإنّك إن تلقه تجده كذا. و قد شبّهه بالثور، و أشار إلى وجه الشبه بعقص القرن. استعار لفظ القرن و كنّى به عن شجاعته، و لفظ العقص لما يتبع تعاطيه بالقوّة و الشجاعة من منع الجانب و عدم الانقياد تحت طاعة الغير اللازم عن الكبر و العجب بالنفس الّذي قد تعرض للشجاع. و وجه الاستعارة الاولى أنّ القرن آلة للثور بها يمنع ما يراد به عن نفسه. و كذلك الشجاعة يلزمها الغلبة و القوّة و منع الجانب. و وجه الاستعارة الثانية أنّ الثور عند إرادة الخصام يعقص قرنيه أى يرخى رأسه و يعطف قرنيه ليصوّبهما إلى جهة خصمه. و يقارن ذلك منه نفح صادر عن توهّم غلبته لمقاومه و شدّته عليه و أنّه لا قدر له عنده كذلك المشبّه هينها علم منه عليه السّلام أنّه عند لقاء ابن عباس له يكون مانعا جانبه، متهيّئا للقتال، مقابلا للخشونة و عدم الانقياد له الصادر عن عجبه بنفسه و غروره لشجاعته. فذلك حسن التشبيه، و يحتمل أن يكون وجه الشبه هو التواء طلحة في آرائه و انحرافه عنه عليه السّلام الشبيه بالتواء القرن.
و هو تشبيه للمعقول بالمحسوس. و يقال: إنّ الكبر الّذي تداخل طلحة لم يكن فيه قبل يوم احد. و إنّما حدث به في ذلك اليوم و ذلك أنّه أبلى فيه بلاء حسنا. ثم أشار إلى بن عبّاس بلقاء الزبير، و أشار إلى وجه الرأى في ذلك، و هو كونه ألين عريكة، و يكنّى بالعريكة عن الطبع و الخلق كناية بالمستعار. فيقال: فلان ليّن العريكة إذا كان سهل الجانب لا يحتاج فيما يراد منه إلى تكلّف و مجاذبة قويّة كالجلد الليّن الّذي يسهل عركه. و فلان شديد العريكة: إذا كان بالضدّ بذلك. و ظاهر أنّ الزبير كان سهل الجانب. فلأجل ذلك أمره بلقائه لما عهد من طبيعته أنّها أقبل للاستدراج، و أقرب إلى الانفعال عن الموعظة، و تذكّر الرحم. و أحسن بهذه الاستماله له بذكر النسب المستلزم تصوّره للميل و الانعطاف من الطبايع السليمة: و نحوه قوله تعالى حكاية قول هرون لموسى عليه السّلام «قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَ لا» «وَ: لَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ» فإنّ فيه من الاستماله و الاسترقاق بتذكيره حقّ الاخوّة ممّا يدعو إلى عطفه عليه ممّا لم يوجد في كلام آخر. و أمّا كون علىّ عليه السّلام ابن خال الزبير فإنّ أبا طالب وصفيّه امّ الزبير من أولاد عبد المطلب بن هاشم.
و قوله: فما عدا ممّا بدا. قال ابن أبي الحديد. عدا بمعنى صرف. و من: هينها بمعنى عن. و معنى الكلام فما صرفك عمّا كان بدا منك أى ظهر: أى ما الّذي صدّك عن طاعتى بعد إظهارك لها، و حذف الضمير المفعول كثير كقوله تعالى وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ أى أرسلناه.
و قال القطب الراوندى: له معنيان:
أحدهما: ما الّذي منعك ممّا كان قد بدا منك من البيعة قبل هذه الحالة، الثاني: ما الّذي عاقك من البداء الّذي يبدو للإنسان، ويكون المفعول الثاني لعدا محذوفا يدلّ عليه الكلام أى ما عداك. يريد ما شغلك و ما منعك عمّا كان بدا لك من نصرتى.
قال ابن أبي الحديد: ليس في الوجه الثاني ممّا ذكره القطب زيادة على الوجه الأوّل إلّا زيادة فاسدة، أمّا أنّه لا زيادة. فلأنّه فسّر عدا في الوجهين بمعنى منع، و فسّر قوله ممّا كان بدا منك في الوجهين أيضا بتفسير واحد. فلم يبق بينهما تفاوت، و أمّا الزيادة الفاسدة فظنّه أنّ عدا يتعدّى إلى مفعولين و هو باطل باجماع النحاة.
و أقول: الوجه الّذي ذكره ابن أبي الحديد هو الوجه الأوّل من الوجهين اللذين ذكرهما الراوندى لأنّ الصرف و المنع لا كثير تفاوت بينهما و إن كان قد يفهم أنّ المنع أعمّ. و أمّا اعتراضه عليه بأنّه لا فرق بين الوجهين اللّذين ذكرهما فهو سهو. لأنّ معنى بدا في الوجه الأوّل ما ظهر للناس منك من البيعة لى. و مراده به في الثاني ما ظهر لك في الرأى من نصرتى و طاعتى. و فرق بين ما يظهر. من الإنسان لغيره، و بين ما يظهر له من نفسه أو من غيره، و أمّا ما ذكره من أنّه زيادة فاسدة فالأظهر أنّ لفظة الثاني في قوله المفعول الثاني زيادة من قلمه أو قلم الناسخ سهوا، و يؤيّده إظهاره للمفعول الأوّل تفسيرا لقوله و يكون المفعول لعدا محذوفا.
ثمّ أقول: و هذه الوجوه و إن احتملت أن يكون تفسيرا إلّا أنّ في كلّ واحد عدولا عن الظاهر من وجه: أمّا الوجه الّذي ذكره المدائنى فلأنّه لمّا حمل عدا على حقيقتها و هى المجاوزه، و حمل ما بدا على الطاعة السابقة. احتاج أن يجعل من بمعنى عن. و هو خلاف الظاهر. و أمّا الراوندى فإنّه فسّر عدا بمعنى منع أو عاق و شغل، و حمل ما بدا على الطاعة السابقة أو على البيعة. و لا يتمّ ذلك إلّا أن يكون من بمعنى عن.
و الحقّ أن يقال: إنّ عدا بمعنى جاوز. و من لبيان الجنس. و المراد ما الّذي جاوز بك عن بيعتى ممّا بدا لك بعدها من الامور الّتي ظهرت لك. و حينئذ يبقى الألفاظ على أوصاعها الأصليّة مع استقامة المعنى و حسنه. و روي عن الصادق جعفر بن محمّد عليهما السّلام عن أبيه عن جدّه قال: سألت ابن عباس- رضوان اللّه عليه- عن تلك الرسالة فقال: بعثنى فأتيت الزبير فقلت له. فقال: إنّى اريد ما يريد. كأنّه يقول: الملك. و لم يزدني على ذلك. فرجعت إلى أمير المؤمنين عليه السّلام فأخبرته. و عن ابن عباس أيضا أنّه قال: قلت الكلمه لزبير فلم يزدني على أن قال: أنا مع الخوف الشديد لنطمع. و سئل ابن عباس عمّا يعنى الزنير بقوله هذا.
فقال: يقول: أنا على الخوف لنطمع أن نلى من الأمر ما ولّيتم، و قد فسرّ غيره ذلك بتفسير آخر. فقال: أراد أنا مع الخوف الشديد من اللّه نطمع أن يغفر لنا هذا الذنب.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحرانی)، ج 2 ، صفحهى 60