google-site-verification: googledc28cebad391242f.html
1-20 خطبه ها شرح ابن میثمخطبه ها شرح ابن میثم بحرانی(متن عربی)

خطبه3شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام و هي المعروفة بالشّقشقية

أَمَا وَ اللَّهِ لَقَدْ تَقَمَّصَهَا فُلَانٌ وَ إِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنَّ مَحَلِّي مِنْهَا مَحَلُّ الْقُطْبِ مِنَ الرَّحَى- يَنْحَدِرُ عَنِّي السَّيْلُ وَ لَا يَرْقَى إِلَيَّ الطَّيْرُ- فَسَدَلْتُ دُونَهَا ثَوْباً وَ طَوَيْتُ عَنْهَا كَشْحاً- وَ طَفِقْتُ أَرْتَئِي بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بِيَدٍ جَذَّاءَ- أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طَخْيَةٍ عَمْيَاءَ- يَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ وَ يَشِيبُ فِيهَا الصَّغِيرُ- وَ يَكْدَحُ فِيهَا مُؤْمِنٌ حَتَّى يَلْقَى رَبَّهُ- فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى هَاتَا أَحْجَى- فَصَبَرْتُ وَ فِي الْعَيْنِ قَذًى وَ فِي الْحَلْقِ شَجًا أَرَى تُرَاثِي نَهْباً حَتَّى مَضَى الْأَوَّلُ لِسَبِيلِهِ- فَأَدْلَى بِهَا إِلَى فُلَانٍ بَعْدَهُ- ثُمَّ تَمَثَّلَ بِقَوْلِ الْأَعْشَى
شَتَّانَ مَا يَوْمِي عَلَى كُورِهَا وَ يَوْمُ حَيَّانَ أَخِي جَابِرِ

– فَيَا عَجَباً بَيْنَا هُوَ يَسْتَقِيلُهَا فِي حَيَاتِهِ- إِذْ عَقَدَهَا لِآخَرَ بَعْدَ وَفَاتِهِ لَشَدَّ مَا تَشَطَّرَا ضَرْعَيْهَا- فَصَيَّرَهَا فِي حَوْزَةٍ خَشْنَاءَ يَغْلُظُ كَلْمُهَا- وَ يَخْشُنُ مَسُّهَا وَ يَكْثُرُ الْعِثَارُ فِيهَا وَ الِاعْتِذَارُ مِنْهَا- فَصَاحِبُهَا كَرَاكِبِ الصَّعْبَةِ- إِنْ أَشْنَقَ لَهَا خَرَمَ وَ إِنْ أَسْلَسَ لَهَا تَقَحَّمَ- فَمُنِيَ النَّاسُ لَعَمْرُ اللَّهِ بِخَبْطٍ وَ شِمَاسٍ وَ تَلَوُّنٍ وَ اعْتِرَاضٍ- فَصَبَرْتُ عَلَى طُولِ الْمُدَّةِ وَ شِدَّةِ الْمِحْنَةِ حَتَّى إِذَا مَضَى لِسَبِيلِهِ- جَعَلَهَا فِي جَمَاعَةٍ زَعَمَ أَنِّي أَحَدُهُمْ فَيَا لَلَّهِ وَ لِلشُّورَى- مَتَى‏ اعْتَرَضَ الرَّيْبُ فِيَّ مَعَ الْأَوَّلِ مِنْهُمْ- حَتَّى صِرْتُ أُقْرَنُ إِلَى هَذِهِ النَّظَائِرِ- لَكِنِّي أَسْفَفْتُ إِذْ أَسَفُّوا وَ طِرْتُ إِذْ طَارُوا- فَصَغَا رَجُلٌ مِنْهُمْ لِضِغْنِهِ- وَ مَالَ الْآخَرُ لِصِهْرِهِ مَعَ هَنٍ وَ هَنٍ إِلَى أَنْ قَامَ ثَالِثُ الْقَوْمِ نَافِجاً حِضْنَيْهِ- بَيْنَ نَثِيلِهِ وَ مُعْتَلَفِهِ- وَ قَامَ مَعَهُ بَنُو أَبِيهِ يَخْضَمُونَ مَالَ اللَّهِ- خِضْمَةَ الْإِبِلِ نِبْتَةَ الرَّبِيعِ- إِلَى أَنِ انْتَكَثَ عَلَيْهِ فَتْلُهُ وَ أَجْهَزَ عَلَيْهِ عَمَلُهُ- وَ كَبَتْ بِهِ بِطْنَتُهُ فَمَا رَاعَنِي إِلَّا وَ النَّاسُ كَعُرْفِ الضَّبُعِ- إِلَيَّ يَنْثَالُونَ عَلَيَّ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ- حَتَّى لَقَدْ وُطِئَ الْحَسَنَانِ وَ شُقَّ عِطْفَايَ مُجْتَمِعِينَ حَوْلِي كَرَبِيضَةِ الْغَنَمِ- فَلَمَّا نَهَضْتُ بِالْأَمْرِ نَكَثَتْ طَائِفَةٌ- وَ مَرَقَتْ أُخْرَى وَ قَسَطَ آخَرُونَ- كَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا اللَّهَ حَيْثُ يَقُولُ- تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ- لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَ لا فَساداً- وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ- بَلَى وَ اللَّهِ لَقَدْ سَمِعُوهَا وَ وَعَوْهَا- وَ لَكِنَّهُمْ حَلِيَتِ الدُّنْيَا فِي أَعْيُنِهِمْ وَ رَاقَهُمْ زِبْرِجُهَا أَمَا وَ الَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَ بَرَأَ النَّسَمَةَ- لَوْ لَا حُضُورُ الْحَاضِرِ وَ قِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ- وَ مَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَى الْعُلَمَاءِ- أَلَّا يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ وَ لَا سَغَبِ مَظْلُومٍ- لَأَلْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا- وَ لَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِهَا- وَ لَأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هَذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ

قالوا: و قام إليه رجل من أهل السواد عند بلوغه إلى هذا الموضع‏

من خطبته فناوله كتابا، فأقبل ينظر فيه، قال له ابن عباس رضى اللّه عنهما: يا أمير المؤمنين، لو اطردت خطبتك من حيث أفضيت قال ابن عباس: فو اللّه ما أسفت على كلام قط كأسفى على هذا الكلام أن لا يكون أمير المؤمنين عليه السّلام بلغ منه حيث أراد ب‏ئ‏أقول: اعلم أنّ هذه الخطبة و ما في معناها ممّا يشتمل على شكايته عليه السّلام و تظلّمه في أمر الإمامة هو محلّ الخلاف بين الشيعة و جماعة من مخالفيهم فإنّ جماعة من الشبعة ادّعوا أنّ هذه الخطبة و ما في حكمها ممّا اشتمل عليه هذا الكتاب منقول على سبيل التواتر و جماعة من السنة بالغوا في إنكار ذلك حتّى قالوا: إنّه لم يصدر عن عليّ عليه السّلام شكاية في هذا الأمر و لا تظلّم أصلا، و منهم من أنكر هذه الخطبة خاصّة و نسبها إلى السيّد الرضيّ و التصدّر للحكم في هذا الموضع هو محلّ التهمة للشارحين، و أنا مجدّد لعهد اللّه على أنّي لا أحكم في هذا الكلام إلّا بما أجزم به أو يغلب على ظنّي أنّه من كلامه أو هو مقصوده عليه السّلام، فأقول: إنّ كلّ واحد من الفريقين المذكورين خارج عن العدل أمّا المدّعون لتواتر هذه الألفاظ من الشيعة فإنّهم في طرف الإفراط و أمّا المنكرون لوقوعها أصلا فهم في طرف التفريط، أمّا ضعف كلام الأوّلين فلأنّ المعتبرين من الشيعة لم يدّعوا ذلك و لو كان كلّ واحد من هذه الألفاظ منقولا بالتواتر لما اختصّ به بعض الشيعة دون بعض، و أمّا المنكرون لوقوع هذا الكلام منه عليه السّلام فيحتمل إنكارهم وجهين: أحدهما أن يقصدوا بذلك توطية العوامّ، و تسكين خواطرهم عن إثارة الفتن و التعصّبات الفاسدة ليستقيم أمر الدين و يكون الكلّ على نهج واحد فيظهروا لهم أنّه لم يكن بين الصحابة الّذين هم أشراف المسلمين و ساداتهم خلاف و لا نزاع ليقتدي بحالهم من سمع ذلك، و هذا مقصد حسن و نظر لطيف لو قصد، و الثاني أن ينكروا ذلك عن اعتقاد أنّه لم يكن هناك خلاف من الصحابة و لا منافسة في أمر الخلافة و الإنكار على هذا الوجه ظاهر البطلان لا يعتقده إلّا جاهل بسماع الأخبار لم يعاشر أحدا من العلماء فإنّ أمر السقيفة و ما جرى بين الصحابة من الاختلاف و تخلّف عليّ عليه السّلام عن البيعة أمر ظاهر لا يدفع و مكشوف لا يتقنّع حتّى قال أكثر الشيعة إنّه لم يبايع أصلا، و منهم من قال إنّه بايع بعد ستّة أشهر كرها، و قال مخالفهم إنّه بايع بعد أن تخلّف في بيته مدّة و دافع طويلا، و كلّ ذلك ممّا تقضي الضرورة معه بوقوع الخلاف و المنافسة بينهم و الحقّ أنّ المنافسة كانت ثابتة بين علي عليه السّلام و بين من تولّى أمر الخلافة في زمانه، و الشكاية و التظلّم الصادر عنه في ذلك أمر معلوم بالتواتر المعنويّ فإنّا نعلم بالضرورة أنّ الألفاظ المنقولة عنه المتضمّنة للتظلّم و الشكاية في أمر الخلافة قد بلغت في الكثرة و الشهرة بحيث لا يكون بأسرها كذبا بل لا بدّ و أن يصدق واحد منها، و أيّها صدق ثبتت فيه الشكاية أمّا خصوصيّات الشكايات بألفاظها المعيّنة فغير متواترة و إن كان بعضها أشهر من بعض، فهذا ما عندي في هذا الباب بعد التحريّ و الاجتهاد، و على هذا التقرير لا يبقى لإنكار كون هذه الخطبة صادرة عنه عليه السّلام و نسبتها إلى الرضيّ معنى فإنّ مستند هذا الإنكار هو ما يشتمل عليه من التصريح بالتظلّم و الشكاية، و مستند إنكار ذلك منه عليه السّلام هو اعتقاد أنّه لم تكن له منافسة في هذا الأمر، و أنت تعلم أنّ ذلك اعتقاد فاسد على أنّ هذه الخطبة خاصّة قد اشتهرت بين العلماء قبل وجود الرضيّ روى عن مصدّق بن شبيب النحويّ قال: لمّا قرأت هذه الخطبة على شيخي أبي محمّد بن الخشّاب و وصلت إلى قول ابن عبّاس ما أسفت على شي‏ء قط كأسفي على هذا الكلام قال: لو كنت حاضر القلت لابن عبّاس و هل ترك ابن عمّك في نفسه شيئا لم يقله في هذه الخطبة فإنّه ما ترك لا الأوّلين و لا الآخرين. قال مصدّق: و كانت فيه دعابة، فقلت له يا سيّدي فلعلّها منحولة إليه فقال: لا و اللّه إنّي أعرف أنّها من كلامه كما أعرف أنّك مصدّق قال: فقلت: إنّ الناس ينسبونها إلى الشريف الرضيّ فقال: لا و اللّه و من أين للرضيّ هذا الكلام، و هذا الاسلوف فقد رأيناه كلامه في نظمه و نثره لا يقرب من هذا الكلام و لا ينتظم في سلكه على أنّي قد رأيت هذه الخطبة بخطوط العلماء الموثوق بنقلهم من قبل أن يخلق أبو الرضيّ فضلا عنه، و أقول: و قد وجدتها في موضعين تاريخها قبل مولد الرضيّ بمدّة: أحدهما أنّها مضمّنة كتاب الإنصاف لأبي جعفر بن قبه تلميذ أبي القسم الكعبي أحد شيوخ المعتزلة و كانت وفاته قبل مولد الرضيّ، الثاني أنّي وجدتها بنسخة عليها خطّ الوزير أبي الحسن عليّ بن محمّد بن الفرات و كان وزير المقتدر باللّه و ذلك قبل مولد الرضيّ بنيّف و ستّين سنة، و الّذي يغلب على ظنّي أنّ تلك النسخة كانت كتبت قبل وجود ابن الفرات بمدّة. إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى المتن فنقول:

اللغة

قوله تقمصّها. أي لبسها كالقميص، و قطب الرحا مسمارها الّذي عليه تدور، و سدلت الثوب أرخيته، و الكشح بفتح الكاف الخاصرة، و طفقت أخذت و جعلت، و ارتئي في الأمر إذا فكّر طلبا للرأى الأصلي، وصال حمل نفسه على الأمر بقوّة، و يد جدّاء بالدال المهملة و المعجمة مقطوعة أو مكسورة، و الطخية الظلمة كقولهم ليلة طخياء أي مظلمة، و تركيب هذه الكلمة يدلّ على ظلمة الامور و انغلاقها، و منه كلمة طخياء أي أعجميّة لا تفهم، و الهرم شدّة كبر السنّ، و الكدح السعي و العمل، و هاتا لغة في هاتي و هي لغة في هذي و هذه، و أحجى أولى بالحجى أو خلق و هو العقل، و القذى هو ما تتأذىّ به العين من غبار و نحوه، و الشجى ما نشب في الخلق من غصّة غبن أو غمّ، و التراث كالميراث و هو اسم ما يورث، و أدلى فلان بكذا تقرّب به و ألقاه، و شتّان ما هما أي بعد، و شتّان ما عمرو و زيد أي بعد ما بينهما، و كور الناقة رحلها، و الإقالة فكّ عقد البيع و نحوه و الاستقالة طلب ذلك، و شدّ الأمر صعب و عظم، و تشطّرا أي أخذ كلّ شطرا و هو البعض، و الحوزة الطبيعة و الحوزة الناحية، و الكلم بفتح الكاف الجرح، و عثر يعثر عثورا و عثارا إذا أصابت رجله في المشي حجرا و نحوه، و الصعبة الناقة لم تذلّل بالمحمل و لا بالركوب، و شنق الناقة بالزمام و أشنق لها إذا جذبه إلى نفسه و هو راكب ليمسكها عن الحركة العنيفة، و الخرم الشقّ، و أسلس لها أي أرخى، و تقحّم في الأمر إذا ألقى نفسه فيه بقوّة، و منى الناس أي ابتلوا، و الخبط الحركة على غير استقامة، و الشماس بكسر الشين كثرة النقار و الاضطراب، و التلوّن اختلاف الأحوال، و الاعتراض ضرب من التلوّن، و أصله المشي في عرض الطريق خابطا عن فرح و نشاط، و الشورى مصدر كالنجوى مرادف للمشاورة، و أسف الطائر إذا دنا من الأرض في طيرانه، و الصغو الميل بكسر الصاد، و الضغن بكسر الضاد و سكون الغين و فتحها أيضا الحقد، و الأصهار عن ابن الأعرابي المتحرمون بجوار أو نسب أو تزوّج، و بعض العرب لا يطلقه إلّا على أهل بيت الزوجين، و عن الخليل أنّه لا يطلق إلّا على من كان من أهل المرأة، و هن على‏ وزن أخ كلمة كناية من شي‏ء قبيح و أصله هنو تقول هذا هنك أي شينك، و الحضن الجانب ما بين الإبط و الخاصرة، و النفج قريب من النفخ، و النثيل الروث، و المعتلف موضع الاعتلاف، و الخضم الأكل بجميع الفم، و قيل: المضغ بأقصى الأضراس يقول خضم بكسر الضاد يخضم، و النبتة بكسر النون النبات، و انتكث انتقض، و أجهز على الجريح قتله و أسرع، و كبا الفرس سقط لوجهه، و البطنة شدّة الامتلاء من الطعام، و الروع الخلد و الذهن و راعني أفزعني، و انثال الشي‏ء إذا وقع يتلو بعضه بعضا، و العطاف الرداء و روى عطفاى و عطفا الرجل جانباه من لدن رأسه إلى ركبته، و الربيض و الربيضة الغنم برعاتها المجتمعة و مرابضها، و مروق السهم خروجه من الرمية و راقه الأمر أعجبه، و الزبرج بكسر الزاء و الراء الزينة، و النسمة الإنسان، و قد يستعمل فيما عداه من الحيوان، و المقارّة إقرار كلّ واحد صاحبه على الأمر و تراضيهما به، و الكظّة البطنة، و الغارب أعلى كتف الناقة، و العفطة من الشاة كالعطاس من الإنسان، و قيل: هي الجيفة، و الشقشقة لها البعير، و يقال: للخطيب شقشقة إذا كان صاحب و ربة و بضاعة من الكلام،

المعنى

و اعلم أنّ المشار إليه بقوله فلان هو ابو بكر كما هو مصرّح به في بعض النسخ، و لمّا بلغ عليه السّلام في تلبّس أبي بكر بالخلافة استعار لها وصف القميص و كنّى عن تلبّسه بها بالتقمّص، و الضمير المنصوب راجع إلى الخلافة، و لم يذكرها لظهورها كقوله تعالى «حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ» و يحتمل أن يكون ذكرها فيما قبل ذلك، و الواو في قوله و إنّه ليعلم أنّ محليّ منها واو الحال، و لمّا كان قطب الرحى هو الّذي به نظام حركاتها و به يحصل الغرض منها و كان هو عليه السّلام الناظم لأمور المسلمين على وفق الحكمة الإلهيّة و العالم بكيفيّة السياسة الشرعيّة لا جرم شبّه محلّه من الخلافة بمحلّ القطب من الرحى، و قد جمع هذا التشبيه أنواع التشبيه الموجودة في الكلام العرب و هي ثلاثة: أحدها تشبيه محلّه بمحلّ القطب من الرحى و هو تشبيه للمعقول بالمعقول فإنّ محلّ القطب هو كونه نظام أحوال الرحى و ذلك أمر معقول، و ثانيها تشبيه نفسه بالقطب و هو تشبيه للمحسوس بالمحسوس، و ثالثها تشبيه الخلافة بالرحى و هو تشبيه المعقول بالمحسوس، و لمّا كانت حاجة الرحى إلى القطب ضروريّة و لا يظهر نفعها إلّا به فهم من تشبيه محلّه بمحلّه أنّه قصد أنّ غيره لا يقوم مقامه في أمر الإمامة، و لا يتأهّل لها مع وجوده كما لا يقوم غير القطب‏ مقامه في موضعه ثمّ أكّد ذلك بقوله ينحد رعنّي السيل و لا يرقى إليّ الطير فاستعار لنفسه و صفين: أحدهما كونه ينحدر عنه السيل و هو من أوصاف الجبل و الأماكن المرتفعة، و كنّى به عن علوّه و شرفه مع فيضان العلوم و التدبيرات السياسيّة عنه، و استعار لتلك الكمالات لفظ السيل، و الثاني أنّه لا يرقي إليه الطير و هو كناية عن غاية اخرى من العلوّ إذ ليس كلّ مكان علا بحيث ينحدر عنه السيل وجب أن لا يرقى إليه الطير فكان ذلك علوّا أزيد كما قال أبو تمام:
مكارم لجتّ في علوّ كأنّما تحاول ثارا عند بعض الكواكب.

قوله فسدلت دونها ثوبا. كناية عن احتجابه عن طلبها، و المبالغة فيها بحجاب الإعراض عنها، و استعار لذلك الحجاب لفظ الثوب استعارة لفظ المحسوس للمعقول، و كذلك قوله و طويت عنها كشحا تنزيل لها منزلة المأكول الّذي منع نفسه من أكله فلم يشتمل عليه كشحه، و قيل: أراد بطيّ الكشح التفاته عنها كما يفعل المعرض عمّن إلى جانبه قال: طوى كشحه عنّي و أعرض جانبا. قوله و طفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذّاء أو أصبر على طخيه عمياء يريد أنّي جعلت اجيل الفكر في تدبير أمر الخلافة و أردّه بين طرفي نقيض إمّا أن أصول على من حازها دوني أو أن أترك، و في كلّ واحد من هذين القسمين خطر أمّا القيام فبيد جذّاء و هو غير جائز لما فيه من التغرير بالنفس و تشويش نظام المسلمين من غير فائدة، و استعار وصف الجذّاء لعدم الناصر، و وجه المشابهة أنّ قطع اليد لمّا كان مستلزما لعدم القدرة على التصرّف بها و الصولة و كان عدم الناصر بها و المؤيّد مستلزما لذلك لا جرم حسنت الاستعارة، و أمّا الترك ففيه الصبر على مشاهد التباس الامور و اختلاطها و عدم تمييز الحقّ و تجريده عن الباطل و ذلك في غاية الشدّة و البلاء أيضا، و استعار لذلك الالتباس لفظ الطخية و هو استعارة لفظ المحسوس للمعقول، و وجه المشابهة أنّ الظلمة كما لا يهتدى فيها للمطلوب كذلك اختلاط الامور هاهنا لا يهتدى معها لتمييز الحقّ و كيفيّة السلوك إلى اللّه، و وصف الطخية بالمعنى أيضا على وجه الاستعارة فإنّ الأعمى لمّا لم يكن ليهتدي لمطالبه كذلك هذه الظلمة لا يهتدى فيها للحقّ و لزومه، ثمّ كنّى عن شدّة ذلك الاختلاط و مقاساة الخلق بسبب عدم انتظام الأحوال و طول مدّة ذلك بأوصاف:

أحدها أنّه يهرم فيها الكبير، و الثاني أنّه يشيب فيها الصغير. و الثالث أنّ المؤمن المجتهد في لزوم الحقّ و الذبّ عنه يقاسي من ذلك الاختلاط شدائد و يكدح فيها حتّى يلقى ربّه، و قيل: يد أب و يجتهد في الوصول إلى حقّه فلا يصل حتّى يموت، ثمّ أشار بعد ذلك إلى ترجّح رأيه في اختيار القسم الثاني و هو الصبر و ترك القيام في هذا الأمر بقوله: فرأيت أنّ الصبر على هاتا أحجى و أليق بنظام الإسلام، و وجه الترجيح ظاهر فإنّه لمّا كان مقصود عليّ عليه السّلام من هذه المنافسة إنّما هو إقامة الدين و إجراء قواعده على القانون المستقيم و نظام امور الخلق كما هو المقصود من مقالات الشارعين صلوات اللّه عليهم أجمعين، و كانت صولته و محاربته لمنا فسيه في الإمامة بغير ناصر لا تثمر القيام به و مع ذلك ففيه انشعاب امور المسلمين و تفرّق كلمتهم و ثوران الفتن بينهم خصوصا، و الإسلام غضّ لم ترسخ محبّته في قلوب كثير الخلق و لم يطعموا حلاوته و فيهم منافقون و الأعداء المشركون في غاية القوّة من كلّ الأقطار لا جرم لم يمكنه مع ملاحظة هذه الأحوال إثارة الحرب و المنازعة لأداء ذلك إلى ضدّ ما هو مقصود له بحركته و محاربته، و أمّا الصبر و ترك المقاومة و إن كان فيه بحسب رأيه ما ذكره من اختلال الدين و أنّه لو كان هو القائم لهذا الأمر لكان انتظامه به أتمّ و قوامه أكمل إلّا أنّه أقليّ بالنسبة إلى الاختلال الّذي كان يحصل لو نازع في هذا الأمر و قام في طلبه و بعض الشرّ أهون من بعض. قوله فصبرت و في العين قذى و في الحلق شجى. الواو للحال و الجملتان كنايتان عن شدّة ما أضمره من التأذّي و الغبن بسبب سلبه ما يرى أنّه أولى به من غيره و ما يعتقده من الخبط في الدين بيد غيره. قوله أرى تراثي نهبا قيل أراد بتراثه ما خلّفه رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله لابنته كفدك فإنّه يصدق عليها أنّه ميراثه لأنّ مال الزوجة في حكم مال الزوج، و النهب إشارة إلى منع الخلفاء الثلاثة لها بالخبر الّذي رواه أبو بكر نحن معاشر الأنبياء لا نورّث ما تركناه فهو صدقة، و قيل: أراد منصب الخلافة و يصدق عليه لفظ الإرث كما صدق في قوله تعالى حكاية عن زكريّا عليه السّلام «يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ» فإنّه أراد يرث علمي و منصبي في نبوّته فكان اسم الميراث صادقا على ذلك.

قوله حتّى مضى الأوّل لسبيله فأدلى بها إلى فلان بعده. أراد بالأوّل ابا بكر و بفلان عمر، و أشار بالإدلاء إلى نصّ أبي بكر على أن يكون عمر هو الخليفة بعده و مضيّه لسبيله انتقاله إلى دار الآخرة و سلوكه السبيل الّذي لا بدّ منه لكلّ إنسان، و أمّا البيت فهو لأعشى قيس، و اسمه ميمون بن جندل من بني قيس من قصيدة أوّلها.

علقم ما أنت إلى عامر الناقص الأوتار و الواتر و حيّان و جابر ابنا السمين بن عمرو من بني حنيفة، و كان حيّان صاحب الحصن باليمامة و كان سيّدا مطاعا يصله كسرى في كلّ سنة و كان في نعمه و رفاهيّته مصونا من و عثاء السفر لأنّه ما كان يسافر أبدا، و كان الأعشى ينادمه و أراد ما أبعد ما بين يومىّ يومى على كور المطيّة أداب و أنصب في الهواجر و بين يومي منادما حيّان أخي جابر، و ادعا فارانى نعمة و خفض، و يروى أنّ حيّان عاتب الأعشى في تعريفه بنسبته إلى أخيه فاعتذر إليه الأعشى بأنّ القافية قادته إلى ذلك فلم يقبل عذره، و اليوم الأوّل في موضع رفع باسم الفعل، و الثاني بالعطف عليه، و أمّا غرض التمثيل بالبيت فأفاد السيّد المرتضى أراد بذلك أنّ القوم لمّا فازوا بمقاصدهم و رجعوا بمطالبهم فظفروا بها و هو في أثناء ذلك كلّه محقّق في حقّه مكذّب في نصيبه كما أشار إليه بقوله: و في العين قذى و في الحلق شجى كان بين حالهم و حاله بعد بعيد و افتراق شديد فاستشهد عليه السّلام بهذا البيت و استعار لفظ اليومين، و كنّى بهما عن حاله و حالهم، و وجه المشابهة في هذا المثل أنّ حالهم استلزم حصول المطالب و الرفاهيّة كيوم حيّان و حاله عليه السّلام استلزم المتاعب كيومه على كور الناقة مسافرا قلت: و يحتمل أن يكون قد استعار يوم حيّان لعهده مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و ما كان يحصل له في مدّة صحبته من الفوائد الجسميّة و الكمالات من العلوم و الأخلاق، و يوم كونه على كور الناقة لزمانه بعد الرسول صلى اللّه عليه و آله و ما لحقه فيه من مقاساة المحن و متاعب الصبر على الأذى، و وجه المشابهة ما يشتمل عليه يوم حيّان و عهد الرسول من المسارّ و ما يشترك فيه يوم كونه على كور الناقة و أوقاته بعد الرسول من المضارّ.

قوله فيا عجبا بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته. إشارة إلى أبى بكر، و طلبه الإقالة هو قوله: أقيلونى فلست بخيركم، و وجه التعجّب هاهنا أنّ طلب أبي بكر للإقالة من هذا الأمر إنّما هو لثقله و كثرة شرائطه و شدّة مراعاة إجراء أحوال الخلق مع اختلاف طباعهم و أهوائهم على قانون واحد و خوفه أن تعثر به مطايا الهوى فترديه في موارد الهلاك، و على هذا التقدير فكلّما كانت مدّة ولاية الإنسان لهذا الأمر أقصر كان خوفه أقلّ و كانت متاعبه أيسر و أسهل، و سبيل طالب الإقاله من هذا الأمر و أمثاله و مقتضى طلبه لذلك أن يتحرّى قلّة متاعب هذا الأمر و يجتهد في الخلاص منه مهما أمكنه ذلك فإذا رأيناه متمسّكا بهذا الأمر مدّة حياته و عند وفاته يعقده لآخر بعده فيتحملّ مضارّ هذا الأمر في حال الحياة و بعد الوفاة فلا بدّ و أن يغلب على الظنّ أنّ طلبه للإقالة لم يكن عن قصد صحيح فيصير ذلك الظنّ مقابلا لما اشتهر عنه من العدالة و ذلك محلّ التعجّب، و هذا بخلاف ما اشتهر بالفسق و النفاق فإنّه لا يتعجّب من فعله لو خالف قوله.

قوله لشدّ ما تشطّرا ضرعيها. اللام للتأكيد و ما مع الفعل بعدها في تقدير المصدر و هو فاعل شدّ و الجملة من تمام التعجّب، و قد استعار عليه السّلام لفظ الضرع هاهنا للخلافة، و هي استعارة مستلزمة لتشبيهها بالناقة، و وجه المشاركة المشابهة في الانتفاع الحاصل منها، و المقصود وصف اقتسامهما لهذا الأمر المشبّه لاقتسام الحالبين أخلاف الناقة بالشدّة على من يعتقد أنّه أحقّ بها منهما أو على المسلمين الّذين يشبهون

الأولادلها، و قوله فصيّرها في حوزة خشناء كنّى بالحوزة عن طباع عمر فإنّها كانت توصف بالجفاوة و الغلظ في الكلام و التسرّع إلى الغضب و ذلك معنى خشونتها.

قوله يغلظ كلامها و يخشن مسّها. استعار لتلك الطبيعة وصفين: أحدهما غلظ الكلم و هو كناية عن غلظ المواجهة بالكلام و الجرح به فإنّ الضرب باللسان أعظم من و خز و السنان، و الثاني جفاوة المسّ و هي كناية عن خشونة طباعه المانعة من ميل الطباع إليه المستلزمة للأذى كما يستلزم مسّ الأجسام الخشنة. قوله و يكثر العثار و الاعتذار منها. إشارة إلى ما كان يتسرّع إليه عمر من الأحكام ثمّ يعاود النظر فيها فيجدها غير صائبة فيحتاج إلى الاعتذار، و الضمير في منها يعود إلى الطبيعة المعبّر عنها بالحوزة فمن ذلك ما روى أنّه أمر برجم امراة زنت و هي حامل فعلم عليّ عليه السّلام بذلك فجاء إليه و قال له: إن كان لك سلطان عليها فما سلطانك على ما في بطنها، دعها حتّى تضع ما في بطنها ثمّ ترضع ولدها فعندها قال عمر: لو لا عليّ لهلك عمر و تركها، و كذلك ما روى أنّه أمر أن يؤتى بامراة لحال اقتضت ذلك و كانت حاملا فانزعجت من هيبته فاجهزت جنينا فجمع جمعا من الصحابة و سألهم ما ذا يجب عليهم فقالوا: أنت مجتهد و لا ترى أنّه يجب عليك شي‏ء فراجع عليّا عليه السّلام في ذلك و أعلمه بما قال بعض الصحابة فأنكر ذلك و قال: إن كان ذلك عن اجتهاد منهم فقد أخطئوا و إن لم يكن عن اجتهاد فقد غشّوك. أرى عليك العزّة فعندها قال لا عشت لمعضلة لا تكون لها يا أبا الحسن، و منشأ ذلك و أمثاله غلبة القوّة الغضبيّة و غلظ الطبيعة. قوله فصاحبها كراكب الصعبة إن أشنق لها خرم و إن أسلس لها تقحّم قيل الضمير في صاحبها يعود إلى الحوزة المكنّى بها عن طبيعة عمر و أخلاقه، و المراد على هذا الوجه أنّ للصاحب لتلك الأخلاق في حاجة إلى المداراة في صعوبة حاله كراكب الصعبة، و وجه المشابهة أنّ راكب الصعبة كما يحتاج إلى الكلفة الشاقّة في مداراة أحوالها فهو معها بين خطرين إن والى الجذبات في وجهها بالزمام خرم أنفها، و إن أسلس لها في القياد تقحّمت به المهالك كذلك مصاحب أخلاق الرجل و المبتلى بها إن أكثر عليه إنكار ما يتسرّع إليه أدّى ذلك إلى مشاقّته و فساد الحال بينهما، و إن سكت عنه و تركه و ما يصنع أدّى ذلك إلى الإخلال بالواجب و ذلك من موارد الهلكة، و قيل الضمير في صاحبها للخلافة و صاحبها هو كلّ من تولّى أمرها إذا كان عادلا مراعيا لحقّ اللّه، و وجه شبهه براكب الصعبة أنّ المتولّي لأمر الخلافة يضطرّ إلى الكلفة الشاقّة في مداراة أحوال الخلق و نظام امورهم على القانون الحقّ و أن يسلك بهم طريق العدل المحفوشة (المحسوسة) بطرف التفريط و التقصير المشبّه لإسلاس قياد الصعبة، و بطرف الإفراط في طلب الحقّ و استقصاء فيه الّذي يشبه شنقها فإنّ المتولّي لأمر الخلافة إن فرّط في المحافظة على شرائطها و أهمل أمرها ألقاه التفريط في موارد الهلكة كما نسبه الصحابة إلى عثمان حتّى فعل به ما فعل، فكان في ذلك كراكب صعبة أسلس قيادها، و إن أفرط في حمل الخلق على أشدّ مراتب الحقّ و بالغ في الاستقصاء عليهم في طلبه أوجب ذلك تضجّرهم منه و نفار طباعهم و تفرّقهم عنه و فساد الأمر عليه لميل أكثرهم إلى حبّ الباطل و غفلتهم عن فضيلة الحقّ، و إن صعب، فيكون في ذلك كمن أشنق المصعبة الّتي هو راكبها حتّى خرم أنفها، و هو من التشبيهات اللطيفة، و قيل: أراد بصاحبها نفسه و تشبّه براكب الصعبة لأنّه أيضا بين خطرين إمّا أن يبقى ساكتا عن طلب هذا الأمر و القيام فيتقحّم بذلك في موارد الذلّ و الصغار كما يتقحّم راكب الصعبة المسلس لها قيادها، و إمّا أن يقوم فيه و يتشدّد في طلبه فينشعب أمر المسلمين بذلك و ينشقّ عصاهم فيكون في ذلك كمن أشنق لها فخرم أنفها، و الأوّل أليق بسياق الكلام و نظامه، و الثاني أظهر، و الثالث محتمل. قوله فمنى الناس لعمر اللّه بخبط و شماس و تلوّن و اعتراض إشارة إلى ما ابتلوا به من اضطراب الرجل و حركاته الّتي كان ينقمها عليه فكنّى بالخبط عنها و بالشماس عن جفاوة طباعه و خشونتها و بالتلوّن و الاعتراض عن انتقاله من حالة إلى اخرى في أخلاقه، و هي استعارات، و وجه المشابهة فيها أنّ خبط البعير و شماس الفرس و اعتراضها في الطريق حركات غير منظومة فأشبهها ما لم يكن منظوما من حركات الرجل الّتي ابتلى الناس بها، و لا شكّ أنّه كان صعبا عظيم السطوة و الهيبة و كان أكابر الصحابة يتحامونه، و قيل لابن عبّاس لمّا أظهر قوله في مسئلة العقول بعد موت عمر: هلّا قلت ذلك و عمر حيّ قال هيبته، و كان رجلا مهيبا، و قيل: إنّ ذلك إشارة إلى ما ابتلى به الناس من اضطراب الأمر و تفرّق الكلمة و جرى امورهم على غير نظام بسبب تفرّق كلمتهم، ثمّ أردف ذلك بتكرير ذكر صبره على ما صبر عليه مع الثاني كما صبر مع الأوّل، و ذكر أمرين: أحدهما طول مدّة تخلّف الأمر عنه، و الثاني شدّة المحنة بسبب فوات حقّه و ما يعتقد من لوازم ذلك الفوت و هو عدم انتظام أحوال الدين و إجرائه على قوانينه الصحيحة، و لكلّ واحد من هذين الأمرين حصّة في استلزام الأذى الّذي يحسن في مقابلته الصبر.

قوله حتّى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أني أحدهم. أقول: حتّى هنا لانتهاء الغاية، و الغاية لزوم تالي الشرطيّة لمقدّمها أعنى جعله لها في جماعة لمضيّه لسبيله، و أشار بالجماعة إلي أهل الشورى، و خلاصة حديث الشورى أنّ عمر لمّا طعن دخل عليه وجوه الصحابة، و قالوا له: ينبغي لك أن تعهّد عهدك أيّها الرجل و يستخلف رجلا ترضاه، فقال: لا احبّ أن أتحمّلها حيّا و ميّتا، فقالوا: أفلا تشير علينا فقال: أمّا أن اشير فإن أجبتم قلت فقالوا: نعم فقال: الصالحون لهذا الأمر سبعة نفرسمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله يقول: إنّهم من أهل الجنّة أحدهم سعيد بن زيد و أنا مخرجه منهم لأنّه من أهل بيتي، و سعد بن أبي وقّاص و عبد الرحمن بن عوف و طلحة و زبير و عثمان و عليّ، فأمّا سعد فلا يمنعني منه إلّا عنفه و فظاظته، و أمّا من عبد الرحمن بن عوف فلأنّه قارون هذه الأمّة، و أمّا من طلحة فتكبّره و نخوته، و أمّا من الزبير فشحّه و لقد رأيته بالبقيع يقاتل على صاع من شعير و لا يصلح لهذا الأمر إلّا رجل واسع الصدر، و أمّا من عثمان فحبّة لقومه و عصبيّته لهم و أمّا من عليّ فحرصه على هذا الأمر و دعابته فئته، ثمّ قال: يصلّى صهيب بالناس ثلاثة أيّام و تخلو الستّة نفر في البيت ثلاثة أيّام ليتّفقوا على رجل منهم فإن استقام أمر خمسة و أبي رجل فاقتلوه و إن استقرّ أمر ثلاثة و أبى ثلاثة فكونوا مع الثلاثة الّذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، و يروى فاقتلوا الثلاثة الّذين ليس فيهم عبد الرحمن بن عوف، و يروى فتحاكموا إلى عبد اللّه بن عمر فأيّ الفريقين قضى له فاقتلوا الفريق الآخر، فلمّا خرجوا عنه و اجتمعوا لهذا الأمر قال عبد الرحمن: إنّ لي و لابن عمي من هذا الأمر الثلث فنحن نخرج أنفسنا منه على أن نختار رجلا هو خيركم للأمّة فقال القوم: رضينا، غير عليّ فإنّه أتّهمه في ذلك، و قال: أرى و أنظر، فلمّا آيس من رضى علىّ رجع إلى سعد فقال: هلّم نعيّن رجلا و نبايعه، فالناس يبايعون من بايعته فقال سعد: إن بايعك عثمان فأنا لكم ثالث، و إن أردت أن تولّى عثمان فعليّ أحبّ إلىّ، فلمّا آيس من مطاوعة سعد كفّ عنهم و جاءهم أبو طلحة في خمسين رجلا من الأنصار يحثّهم على التعيين فأقبل عبد الرحمن إلى عليّ عليه السّلام و أخذ بيده، و قال: ابايعك على أن تعمل بكتاب اللّه و سنّة رسوله و سيرة الخليفتين أبي بكر و عمر فقال عليّ عليه السّلام: تبايعني على أن أعمل بكتاب اللّه و سنّة رسوله و أجتهد رأيي فترك يده، ثمّ أقبل على عثمان فأخذ بيده و قال له مثل مقاله لعليّ عليه السّلام فقال: نعم فكرّر القول على كلّ منهما ثلاثا فأجاب كلّ بما أجاب به أوّلا فبعدها قال عبد الرحمن: هي لك يا عثمان و بايعه ثمّ بايعه الناس، و في النسخ زعم أنّي سادسهم، ثمّ أردف حكاية الحال بالاستغاثة باللّه للشورى، و الواو إمّا زائدة أو للعطف على محذوف مستغاث له أيضا كأنّه قال: فياللّه لعمر و للشورى، أولى و للشورى و نحوه، و الاستفهام عن وقت عروض الشكّ لأذهان الخلق في أنّ الأوّل هل يساويه في الفضل أو لا يساويه استفهاما على سبيل الإنكار و التعجّب من عروضه لأذهانهم إلى غاية أن قاسوه بالخمسة المذكورين و جعلوهم نظراء و أمثالا له في المنزلة و استحقاق هذا الأمر. قوله لكنّي أسففت إذ أسفّوا و طرت إذ طاروا. استعارة لأحوال الطائر من الإسفاف و الطيران لأحواله من مقارنته لمراده و تصرّفه على قدر اختيارهم أوّلا و آخرا.

قوله فصغار رجل منهم لضغنه. إشارة إلى سعد بن أبي وقّاص فإنّه كان منحرفا عنه عليه السّلام و هو أحد المتخلّفين عن بيعته بعد قتل عثمان، و قوله و مال الآخر لصهره. إشارة إلى عبد الرحمن بن عوف فإنّه مال إلى عثمان لمصاهرة كانت بينهما و هي أنّ عبد الرحمن كان زوجا لامّ كلثوم بنت عقبة ابن أبي معيط و هي اخت عثمان لامّة أروى بنت كريز. قوله مع هن و هن يريد أنّ ميله إليه لم يكن لمجرّد المصاهرة بل لأشياء اخرى يحتمل أن يكون نفاسة عليه و غبطة له بوصول هذه الأمر إليه أو غير ذلك، و قوله إلى أن قام ثالث القوم نافجا حضنيه بين نثيله و متعلفه. أراد به عثمان و كنّي بقيامه عن حركته في ولايته أمر الخلافة و أثبت له حالا يستلزم تشبيهه بالبعير، و استعارة وصفه و هو نفج الحضين، و كنّى بذلك عن استعداده للتوسّع ببيت مال المسلمين و حركته في ذلك كما نسب إليه تشبيها له بالبعير ينتفج جنباه بكثرة الأكل، كذلك المتوسّع في الأكل و الشرب، و ربّما قيل ذلك لمتكبّر المنتفج كبرا، و كذلك قوله بين نثيله و معتلفه و هو متعلّق بقام أي قام بين معتلفه و روثه و هو من أوصاف البهائم، و وجه الاستعارة أنّ البعير و الفرس كما لا اهتمام له أكثر من أن يكون بين أكل و روث، كذلك نسبه إلى أنّه لم يكن أكبر همّه إلّا الترفّة و التوفّر في المطعم و المشرب و سائر مصالح نفسه و أقاربه دون ملاحظة امور المسلمين و مراعات مصالحهم كما نقم عليه. قوله و قام معه بنو اميّه يخضمون مال اللّه تعالى خضم الإبل نبتة الربيع.
يخضمون في موضع الحال، و عنى بمال اللّه بيت المال، و أراد ببني أبيه بني اميّة بن عبد شمس، و يحتمل أن يريد أقرباه مطلقا و خصّ بني أبيه تغليبا للذكورة، و كنّي بالخضم عن كثرة توسّعهم بمال المسلمين من يد عثمان، و قد نقلت عنه من ذلك صور: أحدها أنّه رفع إلى أربعة نفر من قريش زوّجهم ببناته أربع مائة ألف دينار، و ثانيها أنّه لمّا فتح إفريقيّة أعطى مروان بن‏ الحكم مائة ألف دينار و يروي خمس إفريقيّة، و ثالثها روي من عدّة طرق أن أبا موسى الأشعريّ بعث إليه بمال عظيم من البصرة فجعل يفرّقه في ولده و أهله و كان ذلك بحضرة زياد بن عبيد مولى حرث بن كلاة الثقفيّ فبكى زياد لما رأى فقال له: لا تبك فإنّ عمر كان يمنع قرابته ابتغاء وجه اللّه و أنا أعطي أهلي و قرابتي ابتغاء وجه اللّه، و رابعها روي أنّه ولّى الحكم بن أبي العاص صدقات قضاعة فبلغت ثلاث مائة ألف فوهبها له حين أتاه بها، و خامسها روى أبو مخنف أنّ عبد اللّه بن خالد بن اسيد قدم على عثمان من مكّة و معه ناس فأمر لعبد اللّه بثلاث مائة ألف و لكلّ واحد منهم بمائة ألف و صكّ بذلك على عبد اللّه بن الأرقم و كان حينئذ خازن بيت المال فاستكثر ذلك و ردّ الصكّ فقال له عثمان: ما حملك على ردّه و إنّما أنت خازن قال: كنت أرابي بيت مال المسلمين و إنّما خازنك غلامك و أنّه لا ألي لك بيت المال أبدا، و جاء بالمفاتيح فعلّقها على المنبر فدفعها عثمان إلى مولاه نائل، و روى الواقدي أنّ عثمان أمر زيد بن ثابت أن يحمل من بيت المال إلى عبد اللّه بن أرقم عقيب ما فعل ثلاث مائة ألف درهم فلمّا دخل عليه بها قال له: يا أبا محمّد إنّ أمير المؤمنين أرسل إليك يقول إنّا شغلناك عن التجارة و لك ذوو رحم أهل حاجة ففرّق هذا المال فيهم و استغن به على عيالك، فقال عبد اللّه: ما لى إليك حاجة، و ما عملت لأن يثيبني عثمان فإن كان هذا من بيت المال لما بلغ قدر عملي أن اعطى ثلاث مأئة ألف درهم، و إن كان من ماله فلا حاجة لي به، و بالجملة فمواهبه لأهله و ذويه مشهورة، و قد شبّه عليه السّلام خضمهم لمال اللّه بخضم الإبل نبت الربيع، و وجه التشبيه أنّ الإبل لمّا كانت تستلذّ نبت الربيع بشهوة صادقة و تملاء منه أحناكها، و ذلك لمجيئه عقيب يبس الأرض و طول مدّة الشتاء، و مع ذلك طيبه و نضارته، كان ما أكله أقارب عثمان من بيت المال مشبّها لذلك من جهة كثرته و طيبه لهم عقيب ضرّهم و فقرهم، و كلّ ذلك في معرض الذّم و التوبيخ المستلزم لارتكاب مناهي اللّه المستلزم لعدم التأهّل لأمر الخلافة.

قوله إلى انتكث عليه فتله و أجهز عليه عمله و كبت به بطنته. إشارة إلى غايات من قيامه في الحال المذكورة و استعار لفظ الفتل و هو برم الحبل لما كان يبرمه من الرأي و التدبير و يستبدّ به دون الصحابة و كنّى به عنه، و كذلك لفظ الانتكاث لانتقاض ذلك التدابير و رجوعها عليه بالفساد و الهلاك، و قوله و أجهز عليه عمله يشتمل على مجاز في الإفراد و التركيب أمّا في الإفراد فلأنّ استعمال الإجهاز إنّما يكون حقيقة في قتل تقدّمه جرح المقتول و إثخان بضرب و نحوه، و لمّا كان قتل عثمان مسبوقا بطعن أسنّة الألسنة و الجرح بحدّ أو سيوفها لا جرم أشبه قتله الإجهاز فأطلق عليه لفظه، و أمّا في التركيب فلأنّ إسناد الإجهاز إلى العمل ليس حقيقة لصدور القتل عن القاتلين لكن لمّا كان عمله هو السبب الحاصل لهم على قتله صحّ إسناد الإجهاز إليه إسناد الفعل إلى السبب الفاعليّ أي إلى السبب الحامل و هو من وجوه المجاز، و كذلك قوله و كبت به بطنته مجاز أيضا في الإسناد و التركيب، و ذلك لأنّ الكبو إنّما هو حقيقة في الإسناد إلى الحيوان و لمّا كان ارتكابه للامور الّتي نقمت عليه و توسّعه ببيت المال المكنّى عن ذلك بالبطنة و استمراره على ذلك مدّة خلافته سليما يشبه ركوب الفرس و استمرار مشيه سليما من العثار و الكبو كانت البطنة مشبّهة للمركوب من هذه الجهة فلذلك صحّ إسناد الكبو إليها مجازا. قوله فما راعني إلّا و الناس كعرف الضبع إلىّ ينثالون عليّ من كل جانب. إلىّ متعلّق بمحذوف تقديره مقبلون إلىّ و فاعل راعني إمّا الجملة الإسميّة و هو مقتضى قول الكوفيّين إذ جوّز و اكون الجملة فاعلا أو ما دلّت عليه هذه الجملة و كانت مفسّرة له من المصدر أي فما راعني إلّا إقبال الناس إلىّ و هو فرع مذهب البصريين إذ منعوا كون الجملة فاعلا، و نظيره قوله تعالى «ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ»«» و ينثالون إمّا خبر ثان للمبتدأ أو حال عن راعني أو العامل في إلىّ و الإشارة إلى وصف ازدحام الناس عليه للبيعة بعد قتل عثمان، و قد شبّههم في إقبالهم إليه، و ازدحامهم عليه بعرف الضبع، و وجه ذلك أنّ الضبع ذات عرف كثير قائم الشعر و العرب يسمّى الضبع عرفا لعظم عرفها فكان حال الناس في إقبالهم عليه متتابعين يتلو بعضهم بعضا قياما يشبه عرف الضبع.

قوله حتّى لقد وطى‏ء الحسنان و شقّ عطفاى. إشارة إلى غاية ازدحامهم عليه، و هي وطى ولديه الحسن و الحسين عليهما السّلام و شقّ ردائه بالجذب عند خطابه و الجلوس على جانبيه.
و أمّا على الرواية الاخرى فالمراد بالشقّ إمّا الأذى الحاصل للصدر و المنكبين، أو شقّ‏ قميصه بالجلوس على جانبيه، و إطلاق لفظ العطفين على جانبي القميص مجاز إطلاقا لاسم المجاور على مجاوره أو المتعلّق على متعلّقه، و من عادة العرب أن يكون أمراؤهم كسائرهم في قلّة التوقير و التعظيم في المخاطبات، و فعلهم ذلك إمّا فرح به عليه السّلام، أو لجلاقة طباع رعاعهم.

و حكى السيّد المرتضى- رضوان اللّه عليه- أنّ أبا عمر محمّد بن عبد الواحد غلام ثعلب روى في قوله عليه السّلام وطى‏ء الحسنان إنّهما الإبهامان، و أنشد المشنفريّ مهضومة الكشحين خرماء الحسن، و روى أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام إنّما كان يومئذ جالسا محتبيا و هي جلسة رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله المسمّاة بالقرفصاء و هي جمع الركبتين و جمع الذيل فلمّا اجتمعوا ليبايعوه زاحموه حتّى وطئوا إبهاميه و شقّوا ذيله بالوطى و لم يعن الحسن و الحسين عليهما السّلام و هما رجلان كسائر الحاضرين، و هذا القول يؤيّد الرواية الاولى، و اعلم أنّ إرادته للحسن و الحسين أظهر. قوله مجتمعين حولي كربيضة الغنم. مجتمعين منصوب على الحال كالّذي قبله و العامل واحد أو بقوله وطى‏ء و شقّ، و قد شبّه اجتماعهم حوله بربيضة الغنم و وجه التشبيه ظاهر، و يحتمل أن يلاحظ في وجه التشبيه مع الهيئة زيادة و هي أنّه شبّهم بالغنم لغفلتهم عن وضع الأشياء في مواضعها، و قلّة فطانتهم و عدم استعمالهم للأدب معه أو مطلقا و العرب تصف الغنم بالغباوة و قلّة الفطانة. قوله فلمّا نهضت بالأمر نكثت طائفة و مرقت اخرى و فسق آخرون. أراد بالناكثين طلحة و الزبير لأنّهما بايعاه و نقضا بيعته بخروجهما عليه و كذلك من تبعهما ممّن بايعه، و بالمارقين الخوارج، و بالقاسطين أو الفاسقين أصحاب معاوية، و هذه الأسماء سبقت من الرسول صلى اللّه عليه و آله إذ حكى في موضع آخر أنّه أخبره بأنّه سيقاتل الناكثين و المارقين و القاسطين بعده، و إنّما خصّ الخوارج بالمروق لأنّ المروق و هو مجاوزة السهم للرمية و خروجه منها، و لمّا

كانت الخوارج أوّلا منتظمون في سلك الحقّ إلّا أنّهم بالغوابز عمهم في طلبه إلى أن تعدّوه و تجاوزوه لا جرم حسن أن يستعار لهم لفظ المروق لمكان المشابهة و قد أخبر الرسول صلى اللّه عليه و آله عنهم بهذا اللفظ إذ قال: يمرقون من الدّين كما يمرق السهم من الرميّة و أمّا تخصيص أهل الشام بالفاسقين فلأنّ مفهوم الفسق أو القسط هو الخروج عن سنن الحقّ و قد كانوا كذلك بمخالفته عليه السّلام و الخروج عن طاعته فكان إطلاق أحد اللفظين عليهم لذلك. قوله كأنّهم لم يسمعو اللّه يقول «تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَ لا فَساداً وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ»«». تنبيه لأذهان الطوائف الثلاث المذكورة و من عساه يتخيّل أنّ الحقّ في سلوك مسالكهم على أنّ ما فعلوه من المخالفة عليه و القتال له إنّما هو طلب للعلوّ و المفاخرة في الدنيا المستلزم للسعي في الأرض بالفساد و إعراض عن الدار الآخرة و حسم لمادّة إعذارهم أن يقولوا يوم القيامة إنّا كنّا عن هذا غافلين فيقولوا عند لقاء ربهم لو سمعنا هذه الآية و وعيناها لما ارتكبنا هذه الأفعال، و يزعمون أنّ الحقّ في هذه المتّصلة هو استثناء نقيض تاليها لينتج لهم نقيض مقدّمها، و تقديره عليه السّلام لهذا العذر لهم، على سبيل التهكّم بهم و أنّه لا عذر لهم في الحقيقة ممّا فعلوه ثمّ أراد عليه السّلام تكذيبهم في ذلك العذر على تقدير اعتذارهم به فأشار إلى مكذّب النتيجة بوضع نقيضها مؤكّدا بالقسم البارّ، و إلى منع لزوم هذه المتّصلة بقوله بلى و اللّه لقد سمعوها و وعوها و لكنّه حليت الدنيا في أعينهم، و نبّه على أنّ وضع المقدّم المذكورة في المتّصلة لا يستلزم تاليها مطلقا بل استلزامه له موقوف على زوال مانع هو حاصل لهم الآن و ذلك المانع هو غرور الدنيا لهم بزينتها و إعجابهم بها و على تقدير حصول المانع المذكور جاز أن يجتمع هذا المقدّم مع نقيض التالي المذكور و هو ارتكاب ما ارتكبوه من الأفعال. قوله أما و الّذي فلق الحبّة و برء النسمة لو لا حضور الحاضر و قيام الحجّة بوجود الناصر و ما أخذ اللّه على العلماء إلى آخره.

أقول: لمّا ذكر من حال القوم و حاله معهم ما ذكر من الشكاية و التظلّم في أمر الخلافة و ذمّ الشورى و ما انتهى إليه من الحال الّتي أوجبت نزوله عن مرتبته إلى أن قرن بالجماعة المذكورين أردف ذلك ببيان الأعذار الحاملة على قبول هذا الأمر و القيام به بعد تخلّفه عنه إلى هذه الغاية، و قدّم على ذلك شاهدا هذا القسم العظيم بهاتين الإضافتين و هما فالق الحبّة و بارى‏ء النسمة، و اعلم أنّ الوصف الأوّل قد ورد في القرآن الكريم و هو قوله «فالِقُ‏ الْحَبِّ وَ النَّوى‏» و إنّما خصّ الحبّة و النسمة بالتعظيم بالنسبة إلى اللّه تعالى لما يشتملان عليه من لطف الخلقة و صغر الحجم من أسرار الحكمة و بدائع الصنع الدالّة على وجود الصانع الحكيم، أمّا فالق الحبّ ففيه قولان: أحدهما قال ابن عبّاس و الضحاك: فالق الحبّ أي خالقه فعلى هذا يكون معنى قوله عليه السّلام فلق الحبّة كقوله فطر الخلائق بقدرته، الثاني و هو الّذي عليه جمهور المفسّرين أنّ فلق الحبّة هو الشقّ الّذي في وسطها، و تقرير هذا القول أنّ الحبّة من الحنطة مثلا لمّا كانت من غايتها أن تكون شجرة مثمرة تنتفع بها الحيوان جعل اللّه سبحانه في وسطها ذلك الشقّ حتّى إذا وقعت في الأرض الرطبة ثمّ مرّت بها مدّة من الزمان جعل سبحانه الطرف الأعلى من ذلك الشقّ مبدء لخروج الشجرة الصاعدة إلى الهواء و الطرف الأسفل مبدء للعروق الهابطة إلى الأرض الّتي منها مادّة تلك الشجرة، و في ذلك بدائع من الحكمة شاهدة بوجود المدبّر الحكيم: أحدها أن تكون طبيعة تلك الحبّة إن كانت تقتضى الهوى في عمق الأرض فكيف تولّدت منها الشجرة الصاعدة في الهواء و على العكس، فلمّا تولّد منها أمران متضادّان علمنا أنّ ذلك ليس لمجرّد الطبيعة بل بمقتضى الحكمة الإلهيّة، و ثانيها أنّا نشاهد أطراف تلك العروق في غاية الدقّة و اللطافة بحيث لو دلكها الإنسان بأدنى قوّة دلكا لصارت كالماء ثمّ إنّها مع غاية تلك اللطافة تقوى على خرق الأرض الصلبة و تنفذ في مسام الأحجار فحصول هذه القوّة الشديدة لهذه الأجرام اللطيفة الضعيفة لا بدّ و أن يكون بتقدير العزيز الحكيم، و ثالثها أنّك قد تجد الطبائع الأربع حاصلة في الفاكهة الواحدة كالاترج فإنّ قشره حارّ يابس، و لحمه بارد رطب، و حماضه بارد يابس، و برزه حار يابس.

فتولّد هذه الطبائع المتضادّة من الحبّة الواحدة لابدّ و أن يكون بتقدير الفاعل الحكيم، و رابعها أنّك إذا نظرت إلى ورقة من أوراق الشجره المبدعة عن الحبّة وجدت في وسطه خطّا مستقيما كالنخاع بالنسبة إلى بدن الإنسان ثمّ لا يزال ينفصل عنه شعب و عن الشعب شعب اخرى إلى أن يستدقّ، و يخرج تلك الخطوط عن إدراك البصر، و الحكمة الإلهيّة إنّما اقتضت ذلك لتقوى القوّة الجاذبة المركوزه في جرم تلك الورقة على جذب الأجزاء اللطيفه الأرضيّة في تلك المجارى الضيّقة، و إذا وقفت على عناية اللّه سبحانه في تكوّن تلك الورقة الواحدة الواقعة علمت أنّ عنايته في جمله الشجرة أكمل، و أنّ عنايته في جملة النبات أكمل، ثمّ إذا علمت أنّه إنّما خلق جملة النبات لمصلحة الحيوانات علمت أنّ عنايته في خلق الحيوان أكمل، و إذا علمت أنّ المقصود من خلق الحيوان إنّما هو الإنسان علمت أنّ الإنسان هو أعزّ مخلوقات هذا العالم عند اللّه و أكرمه عليه و أنّه قد أكرمه بأنواع الإكرام كما قال تعالى «وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ» الآية «وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها» و أمّا النسمة فعليك في مطالعة عجائب صنع اللّه ببدن الإنسان بكتب التشريح، و قد أشرنا إلى طرف من ذلك في الخطبة الاولى. إذا عرفت ذلك فاعلم أنّه عليه السّلام ذكر من تلك الأعذار ثلاثة: أحدها حضور الحاضرين لمبايعته، و الثاني قيام الحجّة عليه بوجود الناصر له في طلب الحقّ لو ترك القيام، الثالث ما أخذ اللّه على العلماء من العهد على إنكار المنكرات و قمع الظالمين و دفع الظلامات عند التمكّن و العذران الأوّلان هما شرطان في الثالث إذ لا ينعقد و لا يجب إنكار المنكر بدونهما و كنّى بكظّة الظالم عن قوّة ظلمه و بسغب المظلوم عن قوّة ظلامته.

قوله لألقيت حبلها على غاربها. استعارة وصف من أوصاف الناقة للخلافة أو للامّة كنّى بها عن تركه لها و إهماله لأمرها ثانيا كإهماله أوّلا، و لمّا استعار لها لفظ الغارب جعل لها حبلا تلقى عليه و هو من ترشيح الاستعارة و أصله أنّ الناقة يلقى زمامها على غاربها و تترك لترعى. قوله و لسقيت آخرها بكأس أوّلها، استعار لفظ السقى للترك المذكور أيضا و رشّح تلك الاستعارة بذكر الكأس، و وجه تلك الاستعارة أنّ السقى بالكأس لمّا كان مستلزما لوجود السكر غالبا و كان إعراضه أوّلا مستلزما لوقوع الناس فيما ذكر من الطخية العمياء المستلزمة لحيرة كثير من الخلق و ضلالهم الّذي يشبه السكر و أشدّ منه لا جرم حسن أن يعبّر عن ذلك الترك بالسقي بالكأس. قوله و لألفيتم دنياكم هذه أهون عندى من عطفة عنز عطف على ما قبله و يفهم منه أنّه عليه السّلام طالب للدنيا و لها عنده قيمة إلّا أنّ طلبه لها و الحرص على الإمرة فيها ليس لأنّها هي، بل لما ذكرنا من نظام الخلق و إجراء امورهم على القانون العدل المأخوذ على العلماء كما أشار إليه، و نظم هذا الكلام في صورة متّصلة هكذا: لو لم يحضر الحاضر، و لم يقم الناصر، و ما أخذ اللّه على العلماء ما أخذ عليهم من إنكار المنكر إذا تمكّن لتركت آخرا كما تركت أوّلا و لو جدتم دنياكم هذه أهون عندى مما لا قيمة له و هو عفطة العنز، و أمّا الحكاية المتعلّقة بهذه الخطبة فأراد بأهل السواد سواد العراق. قال أبو الحسن الكيدري- رحمه اللّه- وجدت في الكتب القديمة أنّ الكتاب الّذي دفعه الرجل إلى أمير المؤمنين عليه السّلام كان فيه عدّة مسائل: أحدها ما الحيوان الّذي خرج من بطن حيوان آخر و ليس بينهما نسب فأجاب عليه السّلام بأنّه يونس بن متى عليه السّلام خرج من بطن الحوت، الثانية ما الشي‏ء الّذي قليله مباح و كثيره حرام فقال عليه السّلام هو نهر طالوت لقوله تعالى «إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ» الثالثة ما العبادة الّذي لو فعلها واحد استحقّ العقوبة و إن لم يفعلها استحقّ أيضا العقوبة فأجاب بأنّها صلاة السكارى. الرابعة ما الطائر الّذى لا فرخ له و لا فرع و لا أصل فقال: هو طائر عيسى عليه السّلام في قوله «وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي»«» الخامسة رجل عليه من الدين ألف درهم و له في كيسة ألف درهم فضمنه ضامن بألف درهم فحال عليه الحول فالزكاة على أي المالين تجب. فقال: إن ضمن الضامن بإجازة من عليه الدين فلا يكون عليه، و إن ضمنه من غير إذنه فالزكاة مفروضة في ماله، السادسه حجّ جماعة و نزلوا في دار من دور مكّة و أغلق واحد منهم باب الدار و فيها حمام فمتن من العطش قبل عودهم إلى الدار فالجزاء على أيّهم يجب فقال عليه السّلام: على الّذي أغلق الباب و لم يخرجهّن و لم يضع لهنّ ماء، السابعة شهد شهداء أربعة على محضر بالزنا فأمرهم الإمام برجمه فرجمه واحد منهم دون الثلاثة الباقين و وافقهم قوم أجانب في الرجم فرجع من رجمه عن شهادته و المرجوم لم يمت ثمّ مات فرجع الآخرون عن شهادتهم عليه بعد موته فعلى من يجب ديته فقال: يجب على من رجمه من الشهود و من وافقه. الثامنة شهد شاهدان من اليهود على يهوديّ أنّه أسلم فهل يقبل شهادتهما أم لا فقال: لا تقبل شهادتهما لأنّهما يجوّز ان تغيير كلام اللّه و شهادة الزور. التاسعة شهد شاهدان من النصارى على نصرانيّ أو مجوسيّ أو يهوديّ أنّه أسلم فقال: تقبل شهادتهما لقول اللّه سبحانه «وَ لَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى‏»«» الآية، و من لا يستكبر عن عبادة اللّه لا يشهد شهادة الزور. العاشرة قطع إنسان يد آخر فحضر أربعة شهود عند الإمام و شهدوا على قطع يده، و أنّه زنا و هو محصن فأراد الإمام أن يرجمه فمات قبل الرجم فقال عليّ من قطع يده دية يد حسب و لو شهدوا أنّه سرق نصابا لم يجب دية يده على قاطعها، و اللّه أعلم.
شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏ميثم بحرانی)، ج 1 ، صفحه‏ى 270-201

Show More

دیدگاهتان را بنویسید

نشانی ایمیل شما منتشر نخواهد شد. بخش‌های موردنیاز علامت‌گذاری شده‌اند *

این سایت از اکیسمت برای کاهش هرزنامه استفاده می کند. بیاموزید که چگونه اطلاعات دیدگاه های شما پردازش می‌شوند.

Back to top button
-+=