و من كلام له عليه السّلام فى معنى قتل عثمان
لَوْ أَمَرْتُ بِهِ لَكُنْتُ قَاتِلًا- أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ لَكُنْتُ نَاصِراً- غَيْرَ أَنَّ مَنْ نَصَرَهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقُولَ خَذَلَهُ مَنْ أَنَا خَيْرٌ
مِنْهُ- وَ مَنْ خَذَلَهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقُولَ نَصَرَهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي- وَ أَنَا جَامِعٌ لَكُمْ أَمْرَهُ اسْتَأْثَرَ فَأَسَاءَ الْأَثَرَةَ- وَ
جَزِعْتُمْ فَأَسَأْتُمُ الْجَزَعَ- وَ لِلَّهِ حُكْمٌ وَاقِعٌ فِي الْمُسْتَأْثِرِ وَ الْجَازِعِ
اللغة
أقول: المستأثر بالشيء: المستبدّ به
المعنى
و مقتضى هذا الفصل تبرّؤه عليه السّلام من الدخول في دم عثمان بأمر أو نهى كما نسبه إليه معاوية و غيره.
و قوله: لو أمرت به لكنت قاتلا. قضيّة شرطيّة بيّن فيها لزوم كونه قاتلا لكونه آمرا. و هذا اللزوم عرّفي. إذ يقال في العرف للآمر بالقتل قاتل. و الآمر شريك الفاعل و إن كان القاتل في اللغة هو المباشر للفعل و الّذي صدر عنه. و كذلك بيّن في قوله: أو نهيت عنه لكنت ناصرا لزوم كونه ناصرا لكونه ناهيا. و هو ظاهر، و قد عرفت أنّ استثناء نقيض اللازم يستلزم نقيض الملزوم، و اللازمان في هاتين القضيّتين هما القتل و النصرة، و معلوم أنّ القتل لم يوجد منه عليه السّلام بالاتّفاق فإنّ غاية ما يقول الخصم أنّ قعوده عن نصرته دليل على إرادته لقتله. و ذلك باطل. لأنّ القعود عن النصرة قد يكون لأسباب اخرى كما سنبيّنه. ثمّ لو سلّمنا أنّ القعود عن النصرة دليل إرادة القتل لكن إرادة القتل ليس بقتل. فإنّ كلّ أحد يحبّ قتل خصمه لكن لا يكون بذلك قاتلا. و كذلك ظاهر كلامه يقتضى أنّ النصرة لم توجد منه، و إذا انتقى اللازمان استلزم نفى أمره بقتله و نهيه عنه. و يحتمل أن يريد في القضيّة الثانية استثناء عين مقدّمها لينتج تاليها: أى لكنّى نهيت عنه فكنت ناصرا. لا يقال: لا يخلو إمّا أن يكون مرتكب المنكر هو عثمان أو قاتليه و على التقديرين فيجب على عليّ عليه السّلام القيام و الإنكار إمّا على عثمان بالمساعدة عليه إن كان هو مرتكب المنكر، أو على قاتليه بالإنكار عليهم و نصرته. فقعوده عن أحد الأمرين يستلزم الخطأ، لكنّه لم يخطأ فلم يكن تاركا لأحد الأمرين.
فلا يثبت التبرّء. و الجواب البرىء من العصبيّة في هذا الموضع: أنّ عثمان أحدث امورا نقمها جمهور الصحابة عليه، و قاتلوه أحدثوا حدثا يجب إنكاره: أمّا أحداث عثمان فلم ينته في نظر على عليه السّلام إلى حدّ يستحقّ بها القتل و إنّما استحقّ في نظره أن ينبّهه عليها. فلذلك ورد في النقل أنّه أنكرها عليه و حذّره من الناس غير مرّة كما سيجيء في كلامه عليه السّلام. فإن صحّ ذلك النقل ثبت أنّه أنكر عليه ما أحدثه لكنّه لا يكون بذلك داخلا في دمه لاحتمال أنّه لمّا حذّره الناس و لم ينته اعتزله. و إن لم يثبت ذلك النقل فالإنكار ليس من فروض الأعيان بل هو من فروض الكفايات إذا قام به البعض سقط عن الباقين، و قد ثبت أنّ جمهور الصحابة أنكروا تلك الأحداث من عثمان فلا يتعيّن وجوب الإنكار على عليّ عليه السّلام، و أمّا حدث قاتليه فهو قتله. فإن ثبت أنّه عليه السّلام ما أنكر عليهم. قلنا: إنّ من جملة شروط إنكار المنكرات أن يعلم المنكر أو يغلب على ظنّه قبول قوله، أو تمكّنه من الدفع بيده فلعلّه عليه السّلام علم من حالهم أنّه لا يفيد إنكاره معهم. و ظاهر أنّ الأمر كان كذلك: أمّا عدم فائدة إنكاره بالقول معهم فلأنّه نقل عنه عليه السّلام أنّه كان يعد الناس بإصلاح الحال بينهم و بين عثمان و إزالته عمّا نقموه عليه و تكرّر منه وعده لهم بذلك و لم يتمكّن منه، و ظاهر أنّهم بعد تلك المواعيد لا يلتفتون إلى قوله، و أمّا إنكاره بيده فمعلوم بالضرورة أنّ الإنسان الواحد أو العشرة لا يمكنهم دفع الجمع العظيم من عوامّ العرب و دعاتهم خصوصا عن طباع ثارت و تألّفت و جمعها أشدّ جامع و هو ما نسبوه إليه حقّا و باطلا. ثمّ من المحتمل من تفرّقه مال المسلمين الّذي هو قوام حياتهم سواء كان ما نسبوه إليه حقّا أم لا أن يكون قد غلب على ظنّه أنّه لو قام في نصرته لقتل معه و لا يجوز للإنسان أن يعرض نفسه للأذى و القتل في دفع بعض المنكرات الجزئيّة. و أمّا إن ثبت أنّه أنكر عليهم كما نقلنا حملنا ذلك النهى على نهيه لهم حال اجتماعهم لقتله قبل حال قتله،
و قوله: و لو نهيت عنه لكنت ناصرا. على عدم المنع من قتله حال قتله لعدم تمكّنه من ذلك و عدم إفادة قوله. قال بعض الشارحين: هذا الكلام بظاهره يقتضى أنّه ما أمر بقتله و لا نهى عنه. فيكون دمه عنده في حكم الامور المباحة الّتي لا يؤمر بها و لا ينهى عنها. قلت: هذا سهو لأنّ التبرّء من الأمر بالشىء و النهى عنه غاية ما يفهم منه عدم الدخول فيه و السكوت عنه و لا يلزم من ذلك الحكم بأنّه من الامور المباحة لاحتمال أنّ اعتزاله هذا الأمر كان لأحد ما ذكرناه. و بالجملة فإنّ أهل التحقيق متّفقون على أنّ السكوت على الأمر لا يدلّ على حال الساكت بمجرّده و إن دلّ بقرينة اخرى.
و ممّا يدلّ على أنّه كان متبرّئا من الدخول في دم عثمان بأمر أو نهى ما نقل عنه لمّا سئل: أساءك قتل عثمان أم سرّك فقال: ما ساءنى و لا سرّنى. و قيل: أرضيت بقتله فقال: لم أرض. فقيل: أسخطت قتله. فقال: لم أسخط. و هذا كلّه كلام حقّ يستلزم عدم التعرّض بأمره فإنّ من أعرض عن شيء و لم يدخل فيه يصدق أن يقول: إنّي لم أسخط به و لم أرض و لم أسأ به و لم أسرّ، فإنّ السخط و الرضا و الإساءة و السرور حالات تتوارد على النفس بأسباب تتعلّق بها فخالع تلك الأسباب عن نفسه في أمر من الامور كيف يعرض له أحد هذه الحالات فيه. فإن قلت: إن كان قتل عثمان منكرا كان مستلزما لسخطه عليه السّلام و مساءته منه و قد نقل عنه أنّه لم يسخط له و ذلك يقتضى أحد الأمرين: أحدهما أنّه عليه السّلام لا يسخط للمنكر و هو باطل بالاتّفاق، و الثاني أن قتل عثمان لم يكن عنده منكرا، و التقدير أنّه منكر.
قلت: إنّ قتل عثمان يستلزم سخطة لكن لا من حيث إنّه قتل عثمان بل من جهة كونه منكرا، و المنقول أنّه لم يسخط لقتل عثمان و لا سائه ذلك أى من جهة كونه قتل عثمان و ذلك لا ينافي أن يسوئه و يسخطه من جهة كونه منكرا. و في الجواب غموض. فليتفّطن. و لأجل اشتباه الحال خبط الجهّال. و فيها يقول شاعر أهل الشام:
و ما في عليّ لمستعتب مقال سوى صحبة المحدثينا
و ايثاره اليوم أهل الذنوب
و رفع القصاص عن القاتلينا
إذا سئل عنه حدا شبهة و عمّى الجواب على السائلينا
و ليس براض و لا ساخط
و لا في النهاة و لا الآمرينا
و لا هو سائه و لا [هو] سرّه و لا بدّ من بعض ذا أن يكونا
فأمّا تفصيل الاعتراضات و الأجوبة في معنى قتل عثمان و ما نسب إلى علىّ عليه السّلام من ذلك فمبسوط في كتب المتكلّمين كالقاضى عبد الجبّار و أبى الحسين البصريّ و السيّد المرتضى و غيرهم فلا نطول بذكرها، و ربّما أشرنا إلى شيء من ذلك فيما بعد.
و قوله: غير أنّ من نصره لا يستطيع. إلى قوله: خير منّي. فأعلم أنّ هذا الفصل ذكره عليه السّلام جوابا لبعض من أنكر بحضرته قعود من قعد عن نصرة عثمان و جعلهم منشأ الفتنة، و قال: إنّهم لو نصروه و هم أكابر الصحابة لما اجترىء عليه طغام الامّة و جهّالها، و إن كانوا رأوا أنّ قتله و قتاله هو الحقّ فقد كان يتعيّن عليهم أن يعرّفوا الناس ذلك حتّى يرتفع عنهم الشبهة، و فهم عليه السّلام أنّ القائل يعنيه بذلك. فأجابه بهذا الكلام تلويحا لا تصريحا. إذ كان في محلّ يلزمه التوقّى. فقرّر أوّلا أنّه ما أمر في ذلك بأمر و لا نهى ثمّ عاد إلى الاستثناء فقرّرها في هاتين القضيّتين: إنّ الّذين خذلوه كانوا أفضل من الناصرين له إذ لا يستطيع ناصروه كمروان و أشباهه أن يفضّلوا أنفسهم على خاذليه كعلىّ عليه السّلام بزعم المنكر و كطلحة و سائر أكابر الصحابة إذا العقل و العرف يشهد بأفضليّتهم، و كذلك لا يستطيع الخاذلون أن يفضّلوا الناصرين على أنفسهم اللّهمّ إلّا على سبيل التواضع. و ليس الكلام فيه. فكأنّه عليه السّلام سلّم تسليم جدل أنّه دخل في أمر عثمان و كان من الخاذلين له.
ثمّ أخذ في الردّ على المنكر بوجه آخر فقال: غير أنّى لو سلّمت أنّى ممّن خذله لكنّ الخاذلون له أفضل من الناصرين و أثبت المقدّمة بهاتين القضيّتين و حذف التالية للعلم بها، و تقديرها: و الأفضل يجب على من عداه اتّباعه و الاقتداء به، فينتج هذا القياس أنّه كان يتعيّن على من نصره أن يتبع من خذله. و هذا عكس اعتقاد المنكر. و قال بعض النقّاد: إنّ هذه كلمة قرشيّة، و أراد بذلك أنّه عمّى على الناس في كلامه. قال: و لم يرد التبرّء من أمره. و إنّما أراد أنّ الخاذلين لا يلحقهم المفضوليّة بكونهم خاذلين له، و إنّ الناصرين له لا يلحقهم الأفضليّة بنصرته. و الّذي ذكره بعيد الفهم من هذا الكلام. و يمكن أن يحمل على وجه آخر و ذلك أنّه إنّما قرّر أفضليّة الخاذلين على الناصرين ليسلم هو من التخصيص باللائمة في القعود عن النصرة فكأنّه قال: و إذا كان الخاذلون له أفضل ممّن نصره. تعيّن عليهم السؤال عن التخلّف، و أن يستشهد عليهم بحال الناصرين له مع كونهم مفضولين. فلم خصّصت باللائمة من بينهم و المطالبة بدمه لو لا الأغراض الفاسدة. و قوله: و أنا جامع لكم أمره. إلى قوله: الأثرة. أشار عليه السّلام في هذا اللفظ الوجيز إجمالا إلى أنّ كلّ واحد. من عثمان و قاتليه كانا على طرف الإفراط من فضيلة العدالة: أمّا عثمان فاستيثاره و استبداده برأيه فيما الامّة شركاء فيه و الخروج في ذلك إلى حدّ الإفراط الّذي فسد معه نظام الخلافة عليه و أدّى إلى قتله، و أمّا قاتلوه فلخروجهم في الجزع من فعله إلى طرف التفريط عمّا كان ينبغي لهم من التثبّت و انتظار صلاح الحال بينهم و بينه بدون القتل، حتّى استلزم ذلك الجزع ارتكابهم لرذيلة الجور في قتله. فلذلك كان فعله إساءة للاستيثار، و فعلهم إساءة للجزع، و قيل: أراد أنّكم أسأتم الجزع عليه بعد القتل. و قد كان ينبغي منكم ذلك الجزع له قبل قتله
و قوله: و للّه حكم واقع في المستأثر و الجازع. المفهوم من ذلك أنّه يريد بالحكم الواقع للّه في المستأثر هو الحكم المقدّر اللاحق لعثمان بالقتل المكتوب بقلم القضاء الإلهىّ في اللوح المحفوظ، و في الجازغ هو الحكم اللاحق لقاتليه من كونهم قاتلين، أو قالين و جازعين. و في نسبة هذه الأحكام إلى اللّه تنبيه على تبرّئه من الدخول في أمر عثمان و قاتليه بعد الإشارة إلى السبب المعدّ لوقوعها في حقّهم و هو الاسائه في الاستيثار و الجزع، و يحتمل أن يريد الحكم في الآخرة اللاحق للكلّ: من ثواب أو عقاب عمّا ارتكبه. و باللّه التوفيق و العصمة.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحرانی)، ج 2 ، صفحهى 55