و من خطبة له عليه السّلام
أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الْجِهَادَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ- فَتَحَهُ اللَّهُ لِخَاصَّةِ أَوْلِيَائِهِ وَ هُوَ لِبَاسُ التَّقْوَى- وَ دِرْعُ اللَّهِ الْحَصِينَةُ وَ
جُنَّتُهُ الْوَثِيقَةُ- فَمَنْ تَرَكَهُ رَغْبَةً عَنْهُ أَلْبَسَهُ اللَّهُ ثَوْبَ الذُّلِّ وَ شَمِلَهُ الْبَلَاءُ- وَ دُيِّثَ بِالصَّغَارِ وَ الْقَمَاءَةِ- وَ ضُرِبَ
عَلَى قَلْبِهِ بِالْإِسْهَابِ- وَ أُدِيلَ الْحَقُّ مِنْهُ بِتَضْيِيعِ الْجِهَادِ- وَ سِيمَ الْخَسْفَ وَ مُنِعَ النَّصَفَ أَلَا وَ إِنِّي قَدْ دَعَوْتُكُمْ
إِلَى قِتَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ- لَيْلًا وَ نَهَاراً وَ سِرّاً وَ إِعْلَاناً- وَ قُلْتُ لَكُمُ اغْزُوهُمْ قَبْلَ أَنْ يَغْزُوكُمْ- فَوَاللَّهِ مَا غُزِيَ قَوْمٌ
قَطُّ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ إِلَّا ذَلُّوا- فَتَوَاكَلْتُمْ وَ تَخَاذَلْتُمْ- حَتَّى شُنَّتْ عَلَيْكُمُ الْغَارَاتُ- وَ مُلِكَتْ عَلَيْكُمُ الْأَوْطَانُ- وَ هَذَا
أَخُو غَامِدٍ وَ قَدْ وَرَدَتْ خَيْلُهُ الْأَنْبَارَ- وَ قَدْ قَتَلَ حَسَّانَ بْنَ حَسَّانَ الْبَكْرِيَّ- وَ أَزَالَ خَيْلَكُمْ عَنْ مَسَالِحِهَا- وَ لَقَدْ
بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَدْخُلُ- عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ وَ الْأُخْرَى الْمُعَاهِدَةِ- فَيَنْتَزِعُ حِجْلَهَا وَ قُلُبَهَا وَ
قَلَائِدَهَا وَ رُعُثَهَا- مَا تَمْتَنِعُ مِنْهُ إِلَّا بِالِاسْتِرْجَاعِ وَ الِاسْتِرْحَامِ- ثُمَّ انْصَرَفُوا وَافِرِينَ- مَا نَالَ رَجُلًا مِنْهُمْ كَلْمٌ وَ لَا
أُرِيقَ لَهُمْ دَمٌ- فَلَوْ أَنَّ امْرَأً مُسْلِماً مَاتَ مِنْ بَعْدِ هَذَا أَسَفاً- مَا كَانَ بِهِ مَلُوماً بَلْ كَانَ بِهِ عِنْدِي جَدِيراً- فَيَا
عَجَباً وَ اللَّهِ يُمِيتُ الْقَلْبَ وَ يَجْلِبُ الْهَمَّ- مِنَ اجْتِمَاعِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ عَلَى بَاطِلِهِمْ- وَ تَفَرُّقِكُمْ عَنْ حَقِّكُمْ- فَقُبْحاً
لَكُمْ وَ تَرَحاً حِينَ صِرْتُمْ غَرَضاً يُرْمَى- يُغَارُ عَلَيْكُمْ وَ لَا تُغِيرُونَ- وَ تُغْزَوْنَ وَ لَا تَغْزُونَ وَ يُعْصَى اللَّهُ وَ تَرْضَوْنَ- فَإِذَا
أَمَرْتُكُمْ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ فِي أَيَّامِ الْحَرِّ- قُلْتُمْ هَذِهِ حَمَارَّةُ الْقَيْظِ- أَمْهِلْنَا يُسَبَّخْ عَنَّا الْحَرُّ- وَ إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالسَّيْرِ
إِلَيْهِمْ فِي الشِّتَاءِ- قُلْتُمْ هَذِهِ صَبَارَّةُ الْقُرِّ- أَمْهِلْنَا يَنْسَلِخْ عَنَّا الْبَرْدُ- كُلُّ هَذَا فِرَاراً مِنَ الْحَرِّ وَ الْقُرِّ- «» فَأَنْتُمْ وَ
اللَّهِ مِنَ السَّيْفِ أَفَرُّ- يَا أَشْبَاهَ الرِّجَالِ وَ لَا رِجَالَ- حُلُومُ الْأَطْفَالِ وَ عُقُولُ رَبَّاتِ الْحِجَالِ- لَوَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَرَكُمْ وَ
لَمْ أَعْرِفْكُمْ مَعْرِفَةً- وَ اللَّهِ جَرَّتْ نَدَماً وَ أَعْقَبَتْ سَدَماً- قَاتَلَكُمُ اللَّهُ لَقَدْ مَلَأْتُمْ قَلْبِي قَيْحاً- وَ شَحَنْتُمْ صَدْرِي
غَيْظاً- وَ جَرَّعْتُمُونِي نُغَبَ التَّهْمَامِ أَنْفَاساً- وَ أَفْسَدْتُمْ عَلَيَّ رَأْيِي بِالْعِصْيَانِ وَ الْخِذْلَانِ- حَتَّى لَقَدْ قَالَتْ
قُرَيْشٌ- إِنَّ ابْنَ أَبِي طَالِبٍ رَجُلٌ شُجَاعٌ- وَ لَكِنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِالْحَرْبِ- لِلَّهِ أَبُوهُمْ- وَ هَلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَشَدُّ لَهَا
مِرَاساً وَ أَقْدَمُ فِيهَا مَقَاماً مِنِّي- لَقَدْ نَهَضْتُ فِيهَا وَ مَا بَلَغْتُ الْعِشْرِينَ- وَ هَا أَنَا ذَا قَدْ ذَرَّفْتُ عَلَى السِّتِّينَ- وَ
لَكِنْ لَا رَأْيَ لِمَنْ لَا يُطَاعُ
أقول: هذه الخطبة مشهورة ذكرها أبو العباس المبرّد و غيره، و السبب المشهور لها أنّه ورد عليه علج من أهل الأنبار فأخبره أنّ سفيان بن عوف الغامدىّ قد ورد في خيل المعاوية إلى الأنبار و قتل عامله حسّان بن حسّان البكرىّ. فصعد عليه السّلام المنبر و خطب الناس و قال: إنّ أخاكم البكرىّ قد اصيب بالأنبار و هو مغترّ لا يخاف ما كان، و اختار ما عند اللّه على الدنيا. فانتدبوا إليهم حتّى تلاقوهم فإن أصبتم منهم طرفا انكلتموهم عن العراق أبدا ما بقوا. ثمّ سكت رجاء أن يجيبوه بشىء فلم يفه أحد منهم بكلمة. فلمّا رأى صمتهم نزل و خرج يمشى راجلا حتّى أتى النخيلة و الناس يمشون خلفه حتى أحاط به قوم من أشرافهم و قالوا: ترجع يا أمير المؤمنين و نحن نكفيك. فقال: ما تكفونى و لا تكفون أنفسكم. فلم يزالوا به حتّى ردّوه إلى منزله. فبعث سعيد بن قيس الهمدانى في ثمانية آلاف في طلب سفيان بن عوف فخرج حتّى انتهى إلى أدانى أرض قنّسرين و قد فاتوه. فرجع و كان علىّ عليه السّلام في ذلك الوقت عليلا فلم يقو على القيام في الناس بما يريده من القول.
فجلس بباب السدّة الّتي تصل إلى المسجد و معه الحسن و الحسين عليهما السّلام و عبد اللّه بن جعفر، و دعى سعدا مولاه فدفع إليه كتابا كتب فيه هذه الخطبة و أمره أن يقرأها على الناس بحيث يسمع عليه السّلام و يسمعون، و في رواية المبرّد أنّه لمّا انتهى إليه ورود خيل معاوية الأنبار و قتل حسّان بن حسّان خرج مغضبا فجرّ ردائه حتّى أتى النخيلة و معه الناس فرقى رباوة من الأرض فحمد اللّه و أثنى عليه و صلّى على النبي صلى اللّه عليه و آله و سلّم ثمّ قال الخطبة. و رواية المبرّد أليق بصورة الحال و أظهر، و روى أنّه قام إليه رجل في آخر الخطبة و معه ابن أخ له فقال: يا أمير المؤمنين: إنّى و ابن أخى هذا كما قال تعالى قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَ«» فمرنا بأمرك فو اللّه لننهيّن إليه و لو حال بيننا و بينه جمر الغضا و شوك القتاد فدعا لهما بخير، و قال: و أين أنتما مما اريد.
اللغة
و لنرجع إلى التفسير فنقول: الجنّة: ما استترت به من سلاح أو غيره، و دّيث: أى ذلّل، و منه الديوث: الّذي لا غيرة له. و الصغار: الذلّ و الضيم، و القماء ممدود مصدر قمأ قمأة فهو قميء: الحقارة و الذلّ، و روى الراوندى القما بالقصر و هو غير معروف، و اسدل الرجل بالبناء للمفعول إذ ذهب عقله من أذى يلحقه. و اديل الحقّ من فلان أى غلبه عليه عدوّه،و سامه خسفا بضمّ الخاء و فتحها: أى أولاه ذلّا و كلّفه المشقّة، و النصف بكسر النون و سكون الصاد: الاسم من الانصاف، و ضمّ النون لغة فيه، و عقر الشيء: أصله، و التواكل: أن يكل كلّ واحد منهم الأمر إلى صاحبه و يعتمد عليه فيه. و شنّ الغارة و أشنّها: فرّقها عليهم من كلّ وجه. و غامد: قبيلة من اليمن و هى من الأزد ازد شنوءة، و المسالح جمع مسلحة و هى الحدود الّتي ترتّب فيها ذو و الأسلحة مخافة عادية العدوّ كالثغر، و المعاهدة: الذميّة، و الحجل بكسر الحاء و فتحها: الخلخال، و القلب السوار المصمت، و الرعاث جمع رعثة بفتح الراء و سكون العين و فتحها: و هى القرط، و الرعاث أيضا: ضرب من الخرز و الحلى، و الاسترجاع قول: إنّا للّه و إنّا إليه راجعون، و الاسترحام: مناشدة الرحم، و الوافر: التامّ، و الكلم: الجرح. و الترح: الحزن. و الغرض: الهدف، و حمارّة القيظ بتشديد الراء: شدّة حرّه: و سبخ الحرّ: فتر، و خفّ، و صبارّة القرّ بتشديد الراء أيضا: شدّة البرد، و ينسلخ: ينقضي، و ربّات الحجال: النساء، و الحجال جمع حجلة: و هى بيت العروس يزّين بالستور و الثياب، و السدم: الحزن عن الندم، و القيح: ما يكون في القرحة من المدّة و الصديد، و شحنتم: ملأتم و النغب جمع نغبة بضم النون و هى الجرعة، و التهمام بالفتح التهمّ، و المراس العلاج، و ذرّفت على الستّين بتشديد الراء أى زدت.
المعنى
و اعلم أنّ قوله: أمّا بعد. إلى قوله: و منع النصف. صدر الخطبة بيّن فيه غرضه إجمالا و هو الحثّ على الجهاد، فإنّه ممّا ذكر من أمر الجهاد و تعظيمه و خطأ من قصر عنه علم أنّه يريد أن يحثّ السامعين على جهاد عدوّهم فذكر من ممادح الجهاد امورا.
أحدها: أنّه باب من أبواب الجنّة.
و بيانه أنّ الجهاد تارة يراد به جهاد العدوّ الظاهر كما هو الظاهر هاهنا، و تارة يعنى به جهاد العدوّ الخفىّ و هو النفس الأمارة بالسوء.
و كلاهما بابان من أبواب الجنّة، و الثاني منهما مراد بواسطة الأوّل إذ هو لازمة له، و ذلك أنّك علمت أنّ لقاء اللّه سبحانه و مشاهدة حضرة الربوبيّة هى ثمرة الخلقة و غاية سعى عباد اللّه الأبرار، ثمّ. قد ثبت بالضرورة من دين محمّد صلى اللّه عليه و آله و سلّم أنّ الجهاد أحد العبادات الخمس، و ثبت أيضا في علم السلوك إلى اللّه أنّ العبادات الشرعيّة هى المتمّة و المعينة على تطويع النفس الأمّارة بالسوء للنفس المطمئنّة، و أنّ التطويع كيف يكون وسيلة إلى الجنّة الّتي وعد المتّقون. فيعلم من هذه المقدّمات أنّ الجهاد الشرعىّ باب من أبواب الجنّة إذ منه يعبر المجاهد السالك إلى اللّه إلى الباب الأعظم للجنّة و هو الرياضة و قهر الشيطان.
و من وقوفك على هذا السرّ تعلم أنّ الصلاة و الصوم و سائر العبادات كلّها أبواب للجنّة إذ كان امتثالها على الوجه المأمور بها مستلزما للوصول إلى الجنّة. فإنّ باب كلّ شيء هو ما يدخل إليه منه و يتوصّل به إليه. و نحوه قول الرسول صلى اللّه عليه و آله و سلّم في الصلاة: إنّها مفتاح الجنّة، و في الصوم إنّ للجنّة بابا يقال له الريّان لا يدخله إلّا الصائمون.
الثاني من أوصاف الجهاد
أنّه باب فتحه اللّه لخاصّة أوليائه. و المراد بخواصّ الأولياء المخلصون له في المحبّة و العبادة. و ظاهر أنّ المجاهدة للّه لا لغرض آخر من خواصّ الأولياء، و ذلك أنّ المرء المسلم إذا فارق أهله و ولده و ماله و أقدم على من يغلب على ظنّه أنّه أقوى منه كما امر المسلمون بأن يثبت أحدهم لعشرة من الكفّار، ثمّ يعلم أنّه لو قهره لقتله و استباح ذرّيته و هو في كلّ تلك الأحوال صابر شاكر و معترف بالعبوديّة للّه مسلّم أمره إلى اللّه فذلك هو الولىّ الحقّ الّذي قد أعرض عن غير اللّه رأسا، و قهر شيطانه قهرا، و آيسه أن يطيع له أمرا.
فإن قلت: إذا كان الغرض من العبادات هو جهاد الشيطان و الإخلاص للّه و كان التخصيص بالوصفين المذكورين لاستلزامه ذلك المعنى لم يبق حينئذ لسائر العبادات مزيّة عليه فما معنى قول الصحابة و قد رجعوا من جهاد المشركين: رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر.
قلت: يحتمل معنيين: أحدهما: أنّ الجهاد الظاهر ليس كلّ غرضه الذاتىّ هو جهاد النفس، بل ربّما كان من أعظم أغراضه الذاتيّة هو قهر العدوّ الظاهر ليستقيم الناس على الدين الحقّ، و ينتظم أمرهم في سلوكه. و لذلك دخل فيه من أراد منه إلّا ذلك كالمؤلّفة قلوبهم و إن كانوا كفّارا. و ذلك بخلاف سائر العبادات إذ غرضها ليس إلّا جهاد النفس و لا شكّ أنّه هو الجهاد الأكبر: أمّا أوّلا فباعتبار مضرّة العدّوين فإنّ مضرّة العدّو الظاهر مضرّة دنياويّة فانية، و مضرّة الشيطان مضرّة اخرويّة باقية. و من كانت مضرّته أعظم كان جهاده أكبر و أهمّ، و أمّا ثانيا فلأنّ مجاهدة الشيطان مجاهدة عدوّ لازم و مع ذلك فلا يزال مخادعا غرّارا لا ينال غرضه إلّا بالخروج في ذىّ الناصحين الأصدقاء، و لا شكّ أنّ الاحتراز من مثل هذا العدّو أصعب، و جهاده أكبر من جهاد عدوّ مظهر لعداوته يقاتله الإنسان في عمره مرّة أو مرّتين. فحسن لذلك تخصيص الجهاد بالأصغر، و مجاهدة النفس بالأكبر.
المعنى الثاني: أنّا و إن قلنا: إنّ الغرض من الجهاد الأصغر هو جهاد النفس إلّا أنّ جهادها في حال جهاد العدوّ الظاهر قد يكون أسهل و ذلك أنّ القوى البدنيّة كالغضب و الشهوة يثوران عند مناجزة العدّو طلبا لدفعه، و تصيران مطيعين للنفس الإنسانيّة فيما تراه و تأمر به فلا يكون عليها كثير كلفة في تطويع تلك القوى. بخلاف سائر العبادات فإنّ طباع تلك القوى معاكسة فيها لرأى النفس. فلذلك كان جهادها في سائر العبادات أصعب و أكبر من جهادها في حال الحرب. و اللّه أعلم.
الثالث: كونه لباس التقوى، و درع اللّه الحصينة، و جنتّه الوثيقة.
و استعار لفظ اللباس و الدرع و الجنّة ثمّ رشّح الاستعارتين الأخيرتين بوصفى الحصانة و الوثاقة. و وجه المشابهة أنّ الإنسان يتّقى شرّ العدوّ أو سوء العذاب يوم القيامة كما يتّقى بثوبه ما يؤذيه من حرّ أو برد، و بدرعه و جنّته ما يخشاه من عدوّه ثمّ أردف عليه السّلام ممادح الجهاد بتوعيد من تركه رغبة عنه من غير عذر يوجب تخلّفه بامور منفور عنها طبعا:
منها: أنّه يستعدّ بالترك لأن يلبسه اللّه ثوب الذلّ. و استعار لفظ الثوب للذلّ و لفظ اللباس لشموله له. و وجه المشابهة إحاطة الذلّ به إحاطة الصفة بالموصوف كإحاطة الثوب بملابسه، و أن يشمله بلاء العدوّ فيذلّله بالصغار و القماء، و أن يضرب على قلبه بالأسهاب أى يذهب وجه عقله العملىّ في تدبير مصالحه: أمّا لحوق الذلّ به فذلك أنّ كثرة غارات العدوّ و تكرّرها منه موجب لتوهّم قهره و قوّته و ذلك ممّا ينفعل عنه النفس بالانقهار و الذلّ.
و حينئذ تذعن لشمول بلائه، و تذهب وجه عقلها في استخراج وجوه المصالح في دفعه و مقاومته إمّا لقلّة اهتمامها بذلك عن عدم طمعها في مقاومته أو لتشويشها لخوفه عن ملاحظة وجه المصلحة.
و في إطلاق لفظ الضرب على قلبه استعارة كقوله تعالى وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَ الْمَسْكَنَةُ و وجه الشبه فيها إحاطة القبّة المضروبة بمن فيها، أو لزوم قلّة العقل له كلزوم الطين المضروب على الحائط. و يحتمل أن يراد بالأسهاب كثرة الكلام من غير فائدة فإنّ الإنسان حال الخوف و الذلّ كثيرا ما يخبط في القول و يكثر من غير إصابة فيه. و كذلك لحوق باقى الامور به كإدالة الحقّ منه، و غلبة العدوّ له، و عدم انتصافه منه أمر ظاهر عن ترك جهاد عدوّه مع التمكن من ذلك. و هى امور منفور عنها طبعا و مضرّة بحال من تلحقه في الدارين.
و قد ورد في التنزيل الإلهىّ من فضل الجهاد و الحثّ عليه امور كثيرة كقوله تعالى لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَ الْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً إلى قوله فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجاتٍ مِنْهُ وَ مَغْفِرَةً وَ رَحْمَةً«» و قوله وَ جاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ«» و قوله وَ مَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ«» و نحو ذلك.
قوله: ألا و إنّى قد دعوتكم. إلخ. لمّا ذكر صدر الخطبة أردفه بتفصيل غرضه ممّا أجمله فيه و هو حثّهم على الجهاد و توبيخهم على تركه. فنبّهم أوّلا على ما كان دعاهم إليه قبل من قتال معاوية و أصحابه مرارا كثيرة، و ذكّرهم نصيحة السابقة لهم في أمرهم بغزو عدوّهم قبل أن يغزوهم، و يذكّرهم بما كان أعلمهم أوّلا من القاعدة الكلّيّة المعلومة بالتجربة و البرهان و هو أنّه ما غزى قوم قطّ في عقر دارهم إلّا ذلّوا.
و قد أشرنا إلى علّة ذلك: و هو أنّ للأوهام أفعالا عجيبة في الأبدان تارة بزيادة القوّة و تارة بنقصانها حتّى أنّ الوهم ربّما كان سببا لمرض الصحيح لتوهّمه المرض، و بالعكس. فكان السبب في ذلّ من غزى في داره و إن كان معروفا بالشجاعة هو الأوهام: إمّا أوهامهم فلأنّها تحكم بأنّها لم تقدم على غزوهم إلّا لقوّة غازيهم، و اعتقادهم فيهم الضعف بالنسبة إليهم.
فينفعل إذن نفوسهم عن تلك الأوهام و تنقهر عن المقاومة و تضعف عن الانبعاث و تزول غيرتها و حميّتها. فتحصل على طرف رذيلة الذلّ، و إمّا أوهام غيرهم فلأنّ الغزو الّذي يلحقهم يكون باعثا لكثير الأوهام على الحكم بضعفهم و محرّكا لطمع كلّ طامع فيهم. فيثير ذلك لهم أحكاما و هميّة بعجزهم عن المقاومة. ثمّ إنّه أردف ذلك بما قابلوا به نّصيحته من تواكلهم و تخاذلهم عن العمل بمقتضى أمره إلى غاية ظهور العدوّ عليهم و تفريق الغارات من كلّ جانب على أوطانهم و حدودهم. ثمّ عقّب ذكر العدوّ المطلق بذكره في شخص معيّن مشاهد، و نبّههم عليه ليكونوا إلى التصديق بظهور العدوّ عليهم أقبل، و قصّ عليهم ما أحدث من ورود خيله ديارهم و قتله لعاملهم و إزالة خيلهم عن ثغورهم و مسالحهم و هتك المسلمات و المعاهدات و سلب أموال المسلمين و سائر ما عدّده على الوجه المذكور ممّا هو مستغن عن الايضاح. ثمّ ختم ذلك القصص بما الأولى أن يلحق المسلم الحقّ ذا الغيرة و الحميّة للّه من الأسف و الحزن المميت له بسبب ما يشاهد من الأحوال المنكرة الواقعة بالمسلمين مع تقصيرهم عن مقاومة عدوّهم. كلّ ذلك التقرير ليمهّد قانونا يحسن معه توبيخهيم و ذمّهم على التقصير فيما ينبغي لهم من امتثال أمره و قبول شوره فيما هو الأولى و الأصحّ لهم. ثم أردف ذلك بالتعجّب من حالهم تأكيدا لذلك التمهيد. فنادى: العجب من حالهم منكّرا ليحضر له كأنّه غير متعيّن في حال ندائه، ثمّ تعيّن بندائه و حضر فكررّه ليصفه بالشدّة. و نصبه على المصدر كأنّه لمّا حضر و تعيّن قال عجبت عجبا من شأنه كذا.
و نحو هذا المنادى قوله تعالى: يا بُشْرى في قراءة من قرء بغير إضافة، و يحتمل أن يكون العجب الأوّل نصبا على المصدر أيضا و الثاني للتأكيد أو لما ذكرناه، و يكون المنادى محذوفا تقديره يا قوم أو نحوه، و أمّا وصفه له بأنّه يميت القلب و يجلب الهمّ: فاعلم أنّ السبب في التعجّب من الامور عدم اطّلاع النفس على أسبابه لغموضها مع كونه في نفسه أمرا غريبا.
و لذلك وضع أهل اللغة قولهم ما أفعله صيغة للتعجّب كقولك ما أحسن زيدا، و علمت أن التقدير فيها السؤال عن أسباب حسنه. و كلّما كان الأمر أغرب و أسبابه أخفى كان أعجب. فإذا كان أمرا خطرا مهمّا و انبعثت النفس في طلب سببه فقد تعجز من تحصيله و تكلّ القوّة المتخيلّة عن تعيينه فيحدث بسبب عدم الاطّلاع على سببه همّ و غمّ لأنّه كالمرض الّذي لا يمكن علاجه إلّا بالوقوف على سببه فيسمّى ذلك الهمّ موتا للقلب تجوّزا بلفظ الموت في الهمّ و الغمّ تسمية للشيء باسم ما يؤول إليه، و إطلاقا لاسم المسبّب على السبب.
إذا عرفت ذلك فنقول: إنّ حال قومه عليه السّلام في تفرّقهم عن حقّهم مع علمهم بحقيّته، و حال اجتماعهم على باطلهم مع اشتراكهم في الشجاعة و كون قومه واثقين برضاء اللّه لو امتثلوا أمره من العجب المميت للقلب الّذي لا يهتدى بسببه.
و أمّا أنّه يجلب الهمّ فظاهر إذ كان حاله عليه السّلام معهم كحال طبيب لمرضى الزم بعلاجهم مع خطر أمراضهم و عدم لزومهم لما يأمر به من حمية أو شرب دواء. و ظاهر أنّ تلك الحال ممّا يجلب همّ الطبيب. ثمّ لمّا أظهر لهم التعجّب و وصفه بالشدّة أعقبه بذكر الأمر المتعجّب منه ليكون في نفوسهم أوقع.
ثمّ أردف ذلك المتعجّب بالدعاء عليهم بالبعد عن الخير و بالحزن بسبب تفريطهم، و أعقبه بالتوبيخ لهم و التبكيت بما يأنف منه أهل المروّة و الحميّة و يوجب لهم الخجل و الاستحياء من صيرورتهم بسبب تقصيرهم غرضا للرماة يغار عليهم و قد كان الأولى بهم أن يغزوا، و يغزون و قد كانوا هم أولى بأن يغزوا، و يعصى اللّه مع رضاهم بذلك.
ثمّ حكى صور أعذارهم في التخلّف عن أمره و هى تارة شدّة الحرّ و تاره شدّة القرّ و نحوها من الأعذار الّتي يذوق العاقل منها طعم الكسل و الفتور، و أنّه لم يكن لهم بها مقصود الّا المدافعة.
ثمّ تسلّم تلك الأعذار منهم و استثبتها و جعلها مهادا للاحتجاج عليهم بقوله: فأنتم و اللّه من السيف أفرّ. و ذلك أنّ الفارّ من الأهون فارّ من الأشدّ بطريق الأولى إذ لا مناسبة لشدّة الحرّ و البرد مع القتل و المجالدة بالسيف.
ثمّ أردف ذلك التبكيت بالذمّ لهم بثلاثة أوصاف: أحدها: أنّه نفى عنهم صفة الرجوليّة. لاستجماعها ما ينبغي من صفات الكمال الأنساىّ كالشجاعة و الأنفة و الحميّة و الغيرة. و عدم هذه الكمالات فيهم و إن كانوا بالصورة المحسوسة للرجال الموجبة لشبههم بهم.
و ذلك قوله: يا أشباه الرجال و لا رجال.
و ثانيها: أنّه وصفهم بحلوم الأطفال. و ذلك أنّ ملكة الحلم ليس بحاصل للطفل و إن كانت قوّة الحلم حاصلة له لكن قد يحصل لهم ما يتصوّر بصورة الحلم كعدم التسرّع إلى الغضب عن خيال يرضيه و أغلب أحواله أن يكون ذلك في غير موضعه، و ليس تحصل له ملكة تكسب نفسه طمأنينة كما في حقّ الكاملين. فهو إذن نقصان.
و لمّا كان تاركوا أمره عليه السّلام بالجهاد قد تركو المقاومة حلما عن أدنى خيال كتركهم الحرب بصفّين عن خدعة أهل الشام لهم بالمسالمة و طلب المحاكمة إلى كتاب اللّه و رفع المصاحف فقالوا: إخواننا في الدين فلا يجوز لنا قتالهم. كان ذلك حلما في غير موضعه حتّى كان من أمرهم ما كان. فأشبه رضى الصبيان فأطلق اسمه عليه.
و ثالثها: إلحاق عقولهم بعقول النساء. و ذلك للمشاركة في النقصان و عدم عقليّتهم لوجوه المصالح المختصّة بتدبير المدن و الحرب. ثمّ عرّفهم محبّته لعدم رؤيتهم و عدم معرفتهم لاستلزامها ندمه على الدخول في أمرهم و الحزن من تقصيرهم في الذّب عن الدين لأنّ المتولّى لأمر يغلب على ظنّه استقامته حتّى إذا دخل فيه و طلب انتظامه و وجده غير ممكن له لا بدّ و أن يندم على تضييع الوقت به، و يحزن على عدم إمكانه له. و هذه حاله عليه السّلام مع أصحابه. و لذلك حزنت الأنبياء عليه السّلام على تقصير اممهم حتّى عاتبهم اللّه تعالى على ذلك كقوله لمحمّد صلى اللّه عليه و آله و سلّم وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَ لا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ. لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ.
ثمّ عاد إلى الدعاء عليهم و الشكاية منهم،
و ذلك قوله: قاتلكم اللّه. إلى آخره. و أعظم بما دعا عليهم به فإنّ المقاتلة لمّا كانت مستلزمة للعداوة، و العداوة مستلزمه لأحكام كاللعن و الطرد و البعد من الشفقة و الخير من جهة العدوّ، و كان إطلاق المقاتلة و العداوة على اللّه بحسب حقيقتهما غير ممكن كان إطلاق لفظ المقاتلة و العداوة مقصودا به لوازمهما كالإبعاد عن الرحمة مجازا. قال المفسّرون: معنى قول العرب: قاتلكم اللّه: أى لعنكم. و قال ابن الأنبارى: المقاتله من القتل. فإذا أخبر اللّه بها كان معناها اللعنة منه لأنّ من لعنه اللّه فهو بمنزلة المقتول الهالك. و قوله: لقد ملأتم قلبى قيحا إشارة. إلى بلوغ الغاية في التألّم الحاصل له من شدّة الاهتمام بأمرهم مع تقصيرهم و عدم طاعتهم لأوامره. فعبّر بالقيح عن ألم قلبه مجازا من باب إطلاق اسم الغاية على ذى الغاية. إذ كان غاية ألم العضو أن يتقّيح. و كذلك إطلاق لفظ الشحن على فعلهم المولم لقلبه مجاز لأنّ الشحن حقيقة في نسبة بين جسمين،
و كذلك قوله: و جرّعتمونى نغب التهمام أنفاسا: أى جلبتم لى الهمّ وقتا فوقتا. مجاز لأنّ التجريع عبارة عن إدخال الماء أو نحوه في الحلق. و طريان الهمّ على نفسه و ما يلزم الهمّ من الآلام البدنيّة على بدنه، و تكرار ذلك منهم يشبه طريان المشروب و تجريعه. و قوله: أنفاسا. مجاز في الدرجة الثانية فإنّ النفس حقيقة لغويّة في الهواء الداخل و الخارج في الحيوان من قبل الطبيعة.
ثمّ استعمل عرفا لمقدار ما يشرب في مدّة إدخال الهواء بقدر الحاجة إطلاقا لاسم المتعلّق على المتعلّق، ثمّ استعمل هاهنا في كلّ مقدار من الهمّ يرد عليه من قبل أصحابه وقتا فوقتا و هي درجة ثانية من المجاز.
و قوله: و أفسدتم رأيى بالعصيان. من تمام شكايته منهم. و معنى إفسادهم له خروجه بسبب عدم التفاتهم إليه عن أن يكون منتفعا به لغيرهم حتّى قالت قريش: إنّه و إن كان رجلا شجاعا إلّا أنّه غير عالم بالحرب. فإنّ الخلق إذا رأوا من قوم سوء تدبير أو مقتضى رأى فاسد كان الغالب أن ينسبوه إلى رئيسهم و مقدّمهم و لا يعلمون أنّه عليه السّلام الألمعىّ الّذي يرى الرأي كأن قد رأى و قد سمع، و أنّ التقصير من قومه.
ثمّ أردف ذلك بالردّ على قريش في نسبتها له إلى قلّة العلم بالحرب بقوله: للّه أبوهم. إلى آخره.
و هي كلمة من ممادح العرب. ثمّ سألهم عن وجود من هو أشدّ للحرب معالجة أو أقدم منه فيها مقاما سؤالا على سبيل الإنكار عليهم، و نبّه على صدقه بنهوضه في الحرب و معاناة أحوالها عامّة عمره و هو من قبل بلوغ العشرين إلى آخر عمره. ثمّ بيّن أنّ السبب في فساد حال أصحابه ليس ما تخيّله قريش فيه من ضعف الرأى في الحرب كما يزعمون، بل عدم طاعتهم له فيما يراه و يشير عليهم به و ذلك قوله: و لكن لا رأى لمن لا يطاع. فإنّ الرأي الّذي لا يقبل بمنزلة الفاسد و إن كان صوابا. و المثل له عليه السّلام.