217 و من كلام له ع قاله عند تلاوته
يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ رِجالٌ- لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ- إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى جَعَلَ الذِّكْرَ جَلاءً لِلْقُلُوبِ- تَسْمَعُ بِهِ بَعْدَ الْوَقْرَةِ وَ تُبْصِرُ بِهِ بَعْدَ الْعَشْوَةِ- وَ تَنْقَادُ بِهِ بَعْدَ الْمُعَانَدَةِ- وَ مَا بَرِحَ لِلَّهِ عَزَّتْ آلَاؤُهُ فِي الْبُرْهَةِ بَعْدَ الْبُرْهَةِ- وَ فِي أَزْمَانِ الْفَتَرَاتِ عِبَادٌ نَاجَاهُمْ فِي فِكْرِهِمْ- وَ كَلَّمَهُمْ فِي ذَاتِ عُقُولِهِمْ- فَاسْتَصْبَحُوا بِنُورِ يَقَظَةٍ فِي الْأَسْمَاعِ وَ الْأَبْصَارِ وَ الْأَفْئِدَةِ- يُذَكِّرُونَ بِأَيَّامِ اللَّهِ وَ يُخَوِّفُونَ مَقَامَهُ- بِمَنْزِلَةِ الْأَدِلَّةِ فِي الْفَلَوَاتِ- مَنْ أَخَذَ الْقَصْدَ حَمِدُوا إِلَيْهِ طَرِيقَهُ وَ بَشَّرُوهُ بِالنَّجَاةِ- وَ مَنْ أَخَذَ يَمِيناً وَ شِمَالًا ذَمُّوا إِلَيْهِ الطَّرِيقَ- وَ حَذَّرُوهُ مِنَ الْهَلَكَةِ- وَ كَانُوا كَذَلِكَ مَصَابِيحَ تِلْكَ الظُّلُمَاتِ- وَ أَدِلَّةَ تِلْكَ الشُّبُهَاتِ- وَ إِنَّ لِلذِّكْرِ لَأَهْلًا أَخَذُوهُ مِنَ الدُّنْيَا بَدَلًا- فَلَمْ تَشْغَلْهُمْ تِجَارَةٌ وَ لَا بَيْعٌ عَنْهُ- يَقْطَعُونَ بِهِ أَيَّامَ الْحَيَاةِ- وَ يَهْتِفُونَ بِالزَّوَاجِرِ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ فِي أَسْمَاعِ الْغَافِلِينَ- وَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ وَ يَأْتَمِرُونَ بِهِ- وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْهُ- فَكَأَنَّهُمْ قَطَعُوا الدُّنْيَا إِلَى الآْخِرَةِ وَ هُمْ فِيهَا- فَشَاهَدُوا مَا وَرَاءَ ذَلِكَ- فَكَأَنَّمَااطَّلَعُوا غُيُوبَ أَهْلِ الْبَرْزَخِ فِي طُولِ الْإِقَامَةِ فِيهِ- وَ حَقَّقَتِ الْقِيَامَةُ عَلَيْهِمْ عِدَاتِهَا- فَكَشَفُوا غِطَاءَ ذَلِكَ لِأَهْلِ الدُّنْيَا- حَتَّى كَأَنَّهُمْ يَرَوْنَ مَا لَا يَرَى النَّاسُ وَ يَسْمَعُونَ مَا لَا يَسْمَعُونَ- فَلَوْ مَثَّلْتَهُمْ لِعَقْلِكَ فِي مَقَاوِمِهِمُ الْمَحْمُودَةِ- وَ مَجَالِسِهِمُ الْمَشْهُودَةِ- وَ قَدْ نَشَرُوا دَوَاوِينَ اعْمَالِهِمْ- وَ فَرَغُوا لِمُحَاسَبَةِ أَنْفُسِهِمْ عَلَى كُلِّ صَغِيرَةٍ وَ كَبِيرَةٍ- أُمِرُوا بِهَا فَقَصَّرُوا عَنْهَا أَوْ نُهُوا عَنْهَا فَفَرَّطُوا فيهَا- وَ حَمَّلُوا ثقَلَ أَوْزَاِرِهمْ ظُهُورَهُمْ- فَضَعُفُوا عَنِ الِاسْتِقْلَالِ بِهَا- فَنَشَجُوا نَشِيجاً وَ تَجَاوَبُوا نَحِيباً- يَعِجُّونَ إِلَى رَبِّهِمْ مِنْ مَقَامِ نَدَمٍ وَ اعْتِرَافٍ- لَرَأَيْتَ أَعْلَامَ هُدًى وَ مَصَابِيحَ دُجًى- قَدْ حَفَّتْ بِهِمُ الْمَلَائِكَةُ- وَ تَنَزَّلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ- وَ فُتِحَتْ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَ أُعِدَّتْ لَهُمْ مَقَاعِدُ الْكَرَامَاتِ- فِي مَقْعَدٍ اطَّلَعَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِيهِ- فَرَضِيَ سَعْيَهُمْ وَ حَمِدَ مَقَامَهُمْ- يَتَنَسَّمُونَ بِدُعَائِهِ رَوْحَ التَّجَاوُزِ- رَهَائِنُ فَاقَةٍ إِلَى فَضْلِهِ وَ أُسَارَى ذِلَّةٍ لِعَظَمَتِهِ- جَرَحَ طُولُ الْأَسَى قُلُوبَهُمْ وَ طُولُ الْبُكَاءِ عُيُونَهُمْ- لِكُلِّ بَابِ رَغْبَةٍ إِلَى اللَّهِ مِنْهُمْ يَدٌ قَارِعَةٌ- يَسْأَلُونَ مَنْ لَا تَضِيقُ لَدَيْهِ الْمَنَادِحُ- وَ لَا يَخِيبُ عَلَيْهِ الرَّاغِبُونَ- فَحَاسِبْ نَفْسَكَ لِنَفْسِكَ فَإِنَّ غَيْرَهَا مِنَ الْأَنْفُسِ لَهَا حَسِيبٌ غَيْرُكَ من قرأ يسبح له فيها بفتح الباء- ارتفع رجال عنده بوجهين-
أحدهما أن يضمر له فعل يكون هو فاعله- تقديره يسبحه رجال- و دل على يسبحه يسبح- كما قال الشاعر-
ليبك يزيد ضارع لخصومة و مختبط مما تطيح الطوائحأي يبكيه ضارع و دل على يبكيه ليبك- . و الثاني أن يكون خبر مبتدإ محذوف- تقديره المسبحون رجال- و من قرأ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بكسر الباء فرجال فاعل- و أوقع لفظ التجارة في مقابلة لفظ البيع- إما لأنه أراد بالتجارة هاهنا الشراء خاصة- أو لأنه عمم بالتجارة المشتملة على البيع و الشراء- ثم خص البيع لأنه أدخل في باب الإلهاء- لأن البيع يحصل ربحه بيقين- و ليس كذلك الشراء- و الذكر يكون تارة باللسان و تارة بالقلب- فالذي باللسان نحو التسبيح و التكبير- و التهليل و التحميد و الدعاء- و الذي بالقلب فهو التعظيم و التبجيل و الاعتراف و الطاعة- .
و جلوت السيف و القلب جلاء بالكسر- و جلوت اليهود عن المدينة جلاء بالفتح- . و الوقرة الثقل في الأذن- و العشوة بالفتح فعله من العشا في العين- و آلاؤه نعمه- . فإن قلت أي معنى تحت قوله عزت آلاؤه- و عزت بمعنى قلت- و هل يجوز مثل ذلك في تعظيم الله- . قلت عزت هاهنا ليس بمعنى قلت- و لكن بمعنى كرمت و عظمت- تقول منه عززت على فلان بالفتح- أي كرمت عليه و عظمت عنده- و فلان عزيز علينا أي كريم معظم- .
و البرهة من الدهر المدة الطويلة و يجوز فتح الباء- . و أزمان الفترات ما يكون منها بين النوبتين- . و ناجاهم في فكرهم ألهمهم- بخلاف مناجاة الرسل ببعث الملائكة إليهم- و كذلك و كلمهم في ذات عقولهم فاستصبحوا بنور يقظة- صار ذلك النور مصباحا لهم يستضيئون به- .
قوله من أخذ القصد حمدوا إليهم طريقه- إلى هاهنا هي التي في قولهم أحمد الله إليك- أي منهيا ذلك إليك أو مفضيا به إليك و نحو ذلك- و طريقة العرب في الحذف في مثل هذا معلومة- قال سبحانه وَ لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً- أي لجعلنا بدلا منكم ملائكة- و قال الشاعر-
فليس لنا من ماء زمزم
شربة مبردة بانت على طهيان
أي عوضا من ماء زمزم- . قوله و من أخذ يمينا و شمالا أي ضل عن الجادة- . و إلى في قوله ذموا إليه الطريق مثل إلى الأولى- . و يهتفون بالزواجر يصوتون بها- هتفت الحمامة تهتف هتفا و هتف زيد بالغنم هتافا بالكسر- و قوس هتافة و هتفى أي ذات صوت- . و القسط العدل و يأتمرون به يمتثلون الأمر- . و قوله فكأنما قطعوا الدنيا إلى الآخرة- إلى قوله و يسمعون ما لا يسمعون- هو شرحقوله عن نفسه ع لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا- . و الأوزار الذنوب و النشيج صوت البكاء- و المقعد موضع القعود- .
و يد قارعة تطرق باب الرحمة و هذا الكلام مجاز- . و المنادح المواضع الواسعة- . و على في قوله و لا يخيب عليه الراغبون- متعلقة بمحذوف مثل إلى المتقدم ذكرها- و التقدير نادمين عليه- . و الحسيب المحاسب- . و اعلم أن هذا الكلام في الظاهر- صفة حال القصاص و المتصدين لإنكار المنكرات- أ لا تراه يقول يذكرون بأيام الله- أي بالأيام التي كانت فيها النقمة بالعصاة- و يخوفون مقامه من قوله تعالى- وَ لِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ- ثم قال فمن سلك القصد حمدوه- و من عدل عن الطريق ذموا طريقه و خوفوه الهلاك- ثم قال يهتفون بالزواجر عن المحارم في أسماع الغافلين- و يأمرون بالقسط و ينهون عن المنكر- .
و هذا كله إيضاح لما قلناه أولا- إن ظاهر الكلام شرح حال القصاص- و أرباب المواعظ في المجامع و الطرقات- و المتصدين لإنكار القبائح- و باطن الكلام شرح حال العارفين- الذين هم صفوة الله تعالى من خلقه- و هو ع دائما يكني عنهم و يرمز إليهم- على أنه في هذا الموضع قد صرح بهم في قوله- حتى كأنهم يرون ما لا يرى الناس- و يسمعون ما لا يسمعون- . و قد ذكر من مقامات العارفين في هذا الفصل الذكر- و محاسبة النفس و البكاء و النحيب- و الندم و التوبة و الدعاء و الفاقة و الذلة- و الحزن و هو الأسى الذي ذكر أنه جرح قلوبهم بطوله
بيان أحوال العارفين
و قد كنا وعدنا بذكر مقامات العارفين فيما تقدم- و هذا موضعه فنقول- إن أول مقام من مقامات العارفين- و أول منزل من منازل السالكين التوبة- قال الله تعالى وَ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ- لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وقال النبي ص التائب من الذنب كمن لا ذنب له وقال علي ع ما من شيء أحب إلى الله من شاب تائب- .
و التوبة في عرف أرباب هذه الطريقة- الندم على ما عمل من المخالفة- و ترك الزلة في الحال- و العزم على ألا يعود إلى ارتكاب معصية- و ليس الندم وحده عند هؤلاء توبة- و إن جاءفي الخبر الندم توبة- لأنه على وزان قوله ع الحج عرفة- ليس على معنى أن غيرها ليس من الأركان- بل المراد أنه أكبر الأركان و أهمها- و منهم من قال يكفي الندم وحده- لأنه يستتبع الركنين الآخرين- لاستحالة كونه نادما على ما هو مصر على مثله- أو ما هو عازم على الإتيان بمثله- .
قالوا و للتوبة شروط و ترتيبات- فأول ذلك انتباه القلب من رقد الغفلة- و رؤية العبد ما هو عليه من سوء الحالة- و إنما يصل إلى هذه الجملة بالتوفيق للإصغاء- إلى ما يخطر بباله من زواجر الحق سبحانه يسمع قلبه- فإنفي الخبر النبوي عنه ص واعظ كل حال الله في قلب كل امرئ مسلموفي الخبر أن في بدن المرء لمضغة- إذا صلحت صلح جميع البدن ألا و هي القلب- و إذا فسدت فسد جميع البدن ألا و هي القلب- .و إذا فكر العبد بقلبه في سوء صنيعه- و أبصر ما هو عليه من ذميم الأفعال- سنحت في قلبه إرادة التوبة و الإقلاع عن قبيح المعاملة- فيمده الحق سبحانه بتصحيح العزيمة- و الأخذ في طرق الرجوع و التأهب لأسباب التوبة- .
و أول ذلك هجران إخوان السوء- فإنهم الذين يحملونه على رد هذا القصد- و عكس هذا العزم- و يشوشون عليه صحة هذه الإرادة- و لا يتم ذلك له إلا بالمواظبة على المشاهد- و المجالس التي تزيده رغبة في التوبة- و توفر دواعيه إلى إتمام ما عزم عليه- مما يقوي خوفه و رجاءه- فعند ذلك تنحل عن قلبه عقدة الإصرار- على ما هو عليه من قبيح الفعال- فيقف عن تعاطي المحظورات- و يكبح نفسه بلجام الخوف عن متابعة الشهوات- فيفارق الزلة في الحال- و يلزم العزيمة على ألا يعود إلى مثلها في الاستقبال- فإن مضى على موجب قصده و نفذ على مقتضى عزمه- فهو الموفق حقا- و إن نقض التوبة مرة أو مرات-
ثم حملته إرادته على تجديدها- فقد يكون مثل هذا كثيرا- فلا ينبغي قطع الرجاء عن توبة أمثال هؤلاء- فإن لكل أجل كتابا- و قد حكي عن أبي سليمان الداراني أنه قال- اختلفت إلى مجلس قاص فأثر كلامه في قلبي- فلما قمت لم يبق في قلبي شيء- فعدت ثانيا فسمعت كلامه- فبقي من كلامه في قلبي أثر في الطريق ثم زال- ثم عدت ثالثا فوقر كلامه في قلبي- و ثبت حتى رجعت إلى منزلي- و كسرت آلات المخالفة و لزمت الطريق- . و حكيت هذه الحكاية ليحيي بن معاذ- فقال عصفور اصطاد كركيا- يعني بالعصفور القاص و بالكركي أبا سليمان- .
و يحكي أن أبا حفص الحداد ذكر بدايته- فقال تركت ذلك العمل يعني المعصية- كذا و كذا مرة ثم عدت إليها- ثم تركني العمل فلم أعد إليه- .و قيل إن بعض المريدين تاب- ثم وقعت له فترة و كان يفكر و يقول- أ ترى لو عدت إلى التوبة كيف كان يكون حكمي- فهتف به هاتف يا فلان أطعتنا فشكرناك- ثم تركتنا فأمهلناك- و إن عدت إلينا قبلناك فعاد الفتى إلى الإرادة- . و قال أبو علي الدقاق التوبة على ثلاثة أقسام- فأولها التوبة و أوسطها الإنابة و آخرها الأوبة- فجعل التوبة بداية و الأوبة نهاية و الإنابة واسطة بينهما- و المعنى أن من تاب خوفا من العقاب فهو صاحب التوبة- و من تاب طمعا في الثواب فهو صاحب الإنابة- و من تاب مراعاة للأمر فقط فهو صاحب الأوبة- .
و قال بو علي أيضا التوبة صفة المؤمنين- قال سبحانه وَ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ- و الإنابة صفة الأولياء- قال سبحانه وَ جاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ- و الأوبة صفة الأنبياء- قال سبحانه نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ- . و قال الجنيد دخلت على السري يوما فوجدته متغيرا- فسألته فقال دخل علي شاب فسألني عن التوبة- فقلت ألا تنسى ذنبك- فقال بل التوبة ألا تذكر ذنبك- قال الجنيد فقلت له إن الأمر عندي ما قاله الشاب- قال كيف قلت لأني إذا كنت في حال الجفاء- فنقلني إلى حال الصفاء- فذكر الجفاء في حال الصفاء جفاء- فسكت السري- . و قال ذو النون المصري- الاستغفار من غير إقلاع توبة الكذابين- . و سئل البوشنجي عن التوبة- فقال إذا ذكرت الذنب ثم لا تجد حلاوته عند ذكره- فذاك حقيقة التوبة- .
و قال ذو النون- حقيقة التوبة أن تضيق عليك الأرض بما رحبت- حتى لا يكون لك قرار ثم تضيق عليك نفسك- كما أخبر الله تعالى في كتابه- بقوله حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ- وَ ضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ- وَ ظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ- . و قيل لأبي حفص الحداد لم تبغض الدنيا- فقال لأني باشرت فيها الذنوب- قيل فهلا أحببتها لأنك وفقت فيها للتوبة- فقال أنا من الذنب على يقين- و من هذه التوبة على ظن- . و قال رجل لرابعة العدوية- إني قد أكثرت من الذنوب و المعاصي- فهل يتوب علي أن تبت- قالت لا بل لو تاب عليك لتبت- .
قالوا و لما كان الله تعالى يقول في كتابه العزيز- إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ- دلنا ذلك على محبته لمن صحت له حقيقة التوبة- و لا شبهة أن من قارف الزلة فهو من خطئه على يقين- فإذا تاب فإنه من القبول على شك- لا سيما إذا كان من شرط القبول محبة الحق سبحانه له- و إلى أن يبلغ العاصي محلا- يجد في أوصافه أمارة محبة الله تعالى إياه مسافة بعيدة- فالواجب إذا على العبد- إذا علم أنه ارتكب ما يجب عنه التوبة دوام الانكسار- و ملازمة التنصل و الاستغفار- كما قيل استشعار الوجل إلى الأجل- .
و كان من سنته ع دوام الاستغفار- و قال إنه ليغان على قلبي فاستغفر الله في اليوم سبعين مرة- .و قال يحيى بن معاذ- زلة واحدة بعد التوبة أقبح من سبعين قبلها- . و يحكي أن علي بن عيسى الوزير ركب في موكب عظيم- فجعل الغرباء يقولون من هذا من هذا- فقالت امرأة قائمة على السطح- إلى متى تقولون من هذا من هذا- هذا عبد سقط من عين الله فابتلاه بما ترون- فسمع علي بن عيسى كلامها فرجع إلى منزله- و لم يزل يتوصل في الاستعفاء من الوزارة حتى أعفي- و ذهب إلى مكة فجاور بها- .
و منها المجاهد و قد قلنا فيها ما يكفي فيما تقدم- . و منها العزلة و الخلوة- و قد ذكرنا في جزء قبل هذا الجزء- مما جاء في ذلك طرفا صالحا و منها التقوى و هي الخوف من معصية الله- و من مظالم العباد- قال سبحانه إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ وقيل إن رجلا جاء إلى رسول الله ص- فقال يا رسول الله أوصني- فقال عليك بتقوى الله فإنه جماع كل خير- و عليك بالجهاد فإنه رهبانية المسلم- و عليك بذكر الله فإنه نور لك- . و قيل في تفسير قوله تعالى اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ- أن يطاع فلا يعصى- و يذكر فلا ينسى و يشكر فلا يكفر- .
و قال النصرآباذي- من لزم التقوى بادر إلى مفارقة الدنيا- لأن الله تعالى يقول وَ لَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا- . و قيل يستدل على تقوى الرجل بثلاث- التوكل فيما لم ينل و الرضا بما قد نال- و حسن الصبر على ما فات- . و كان يقال- من كان رأس ماله التقوى كلت الألسن عن وصف ربحه- .
و قد حكوا من حكايات المتقين شيئا كثيرا- مثل ما يحكى عن ابن سيرين- أنه اشترى أربعين حبا سمنا- فأخرج غلامه فأرة من حب- فسأله من أي حب أخرجها- قال لا أدري فصبها كلها- . و حكي أن أبا يزيد البسطامي غسل ثوبه في الصحراء- و معه مصاحب له- فقال صاحبه نضرب هذا الوتد في جدار هذا البستان- و نبسط الثوب عليه- فقال لا يجوز ضرب الوتد في جدار الناس- قال فنعلقه على شجرة حتى يجف قال يكسر الأغصان- فقال نبسطه على الإذخر- قال إنه علف الدواب لا يجوز أن نستره منها- فولى ظهره قبل الشمس- و جعل القميص على ظهره حتى جف أحد جانبيه- ثم قلبه حتى جف الجانب الآخر- . و منها الورع و هو اجتناب الشبهات- وقال ص لأبي هريرة كن ورعا تكن أعبد الناسو قال بو بكر كنا ندع سبعين بابا من الحلال- مخافة أن نقع في باب واحد من الحرام- .
و كان يقال- الورع في المنطق أشد منه في الذهب و الفضة- و الزهد في الرئاسة أشد منه في الذهب و الفضة- لأنك تبذلهما في طلب الرئاسة- . و قال أبو عبد الله الجلاء- أعرف من أقام بمكة ثلاثين سنة- لم يشرب من ماء زمزم إلا ما استقاه بركوته و رشائه- . و قال بشر بن الحارث أشد الأعمال ثلاثة- الجود في القلة و الورع في الخلوة- و كلمة الحق عند من يخاف و يرجى- .
و يقال إن أخت بشر بن الحارث- جاءت إلى أحمد بن حنبل- فقالت إنا نغزل على سطوحنا- فتمر بنا مشاعل الطاهرية فيقع شعاعها علينا- أ فيجوز لنا الغزل في ضوئها- فقال أحمد من أنت يا أمة الله- قالت أخت بشر الحافي فبكى أحمد- و قال من بيتكم خرج الورع- لا تغزلي في ضوء مشاعلهم- . و حكى بعضهم- قال مررت بالبصرة في بعض الشوارع- فإذا بمشايخ قعود و صبيان يلعبون- فقلت أ ما تستحيون من هؤلاء المشايخ- فقال غلام من بينهم هؤلاء المشايخ قل ورعهم- فقلت هيبتهم- . و يقال إن مالك بن دينار مكث بالبصرة أربعين سنة- ما صح له أن يأكل من تمر البصرة و لا من رطبها- حتى مات و لم يذقه- و كان إذا انقضى أوان الرطب- يقول يا أهل البصرة هذا بطني ما نقص منه شيء- سواء علي أكلت من رطبكم أو لم آكل- .
و قال الحسن مثقال ذرة من الورع- خير من ألف مثقال من الصوم و الصلاة- . و دخل الحسن مكة- فرأى غلاما من ولد علي بن أبي طالب- قد أسند ظهره إلىالكعبة و هو يعظ الناس- فقال له الحسن ما ملاك الدين قال الورع- قال فما آفته قال الطمع- فجعل الحسن يتعجب منه- . و قال سهل بن عبد الله- من لم يصحبه الورع أكل رأس الفيل و لم يشبع- . و حمل إلى عمر بن عبد العزيز مسك من الغنائم- فقبض على مشمه و قال إنما ينتفع من هذا بريحه- و أنا أكره أن أجد ريحه دون المسلمين- .
و سئل أبو عثمان الحريري عن الورع- فقال كان أبو صالح بن حمدون عند صديق له و هو في النزع- فمات الرجل فنفث أبو صالح في السراج فأطفأه- فقيل له في ذلك- فقال إلى الآن كان الدهن الذي في المسرجة له- فلما مات صار إلى الورثة- . و منها الزهد و قد تكلموا في حقيقته- فقال سفيان الثوري الزهد في الدنيا قصر الأمل- . و قال الخواص الزهد أن تترك الدنيا فلا تبالي من أخذها- .
و قال أبو سليمان الداراني- الزهد ترك كل ما يشغل عن الله- . و قيل الزهد تحت كلمتين من القرآن العزيز- لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ- . و كان يقال من صدق في زهده أتته الدنيا و هي راغمة- و لهذا قيل لو سقطت قلنسوة من السماء- لما وقعت إلا على رأس من لا يريدها- . و قال يحيى بن معاذ الزهد يسعطك الخل و الخردل- و العرفان يشمك المسك و العنبر- .
و قيل لبعضهم ما الزهد في الدنيا- قال ترك ما فيها على من فيها- . و قال رجل لذي النون المصري- متى تراني أزهد في الدنيا- قال إذا زهدت في نفسك- . و قال رجل ليحيي بن معاذ- متى تراني أدخل حانوت التوكل- و ألبس رداء الزهد و أقعد بين الزاهدين- فقال إذا صرت من رياضتك لنفسك في السر إلى حد- لو قطع الله عنك القوت ثلاثة أيام- لم تضعف في نفسك و لا في يقينك- فأما ما لم تبلغ إلى هذه الدرجة- فقعودك على بساط الزاهدين جهل- ثم لا آمن أن تفتضح- . و قال أحمد بن حنبل الزهد على ثلاثة أوجه- ترك الحرام و هو زهد العوام- و ترك الفضول من الحلال و هو زهد الخواص- و ترك كل ما يشغلك عن الله و هو زهد العارفين- .
و قال يحيى بن معاذ الدنيا كالعروس- فطالبها كماشطتها تحسن وجهها و تعطر ثوبها- و الزاهد فيها كضرتها تسخم وجهها- و تنتف شعرها و تحرق ثوبها- و العارف مشتغل بالله لا يلتفت إليها و لا يشعر بها- . و كان النصرآباذي يقول في مناجاته- يا من حقن دماء الزاهدين- و سفك دماء العارفين- . و كان يقال إن الله تعالى جعل الخير كله في بيت- و جعل مفتاحه الزهد- و جعل الشر كله في بيت و جعل مفتاحه حب الدنيا- . و منها الصمت- و قدمنا فيما سبق من الأجزاء نكتا نافعة في هذا المعنى- و نذكر الآن شيئا آخر-قال رسول الله ص من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فلا يؤذين جاره- و من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فليكرم ضيفه- و من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فليقل خيرا أو فليصمت- .
و قال أصحاب هذا العلم الصمت من آداب الحضرة- قال الله تعالى- وَ إِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَ أَنْصِتُوا- . و قال مخبرا عن الجن فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا- . و قال الله تعالى مخبرا عن يوم القيامة- وَ خَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً- . و قالوا كم بين عبد سكت تصونا عن الكذب و الغيبة- و عبد سكت لاستيلاء سلطان الهيبة- . و أنشدوا-أرتب ما أقول إذا افترقنا و أحكم دائما حجج المقالفأنساها إذا نحن التقيناو أنطق حين أنطق بالمحال- . و أنشدوا-
فيا ليل كم من حاجة لي مهمة
إذا جئتكم لم أدر بالليل ماهيا
قالوا و ربما كان سبب الصمت و السكوت حيرة البديهة- فإنه إذا ورد كشف بغتة- خرست العبارات عند ذلك فلا بيان و لا نطق- و طمست الشواهد فلا علم و لا حس- قال الله تعالى- يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ- قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ- فأما إيثار أرباب المجاهدة الصمت- فلما علموا في الكلام من الآفات- ثم ما فيه من حط النفس و إظهار صفات المدح- و الميل إلى أن يتميز من بين أشكاله بحسن النطق- و غير ذلك من ضروب آفات الكلام- و هذا نعت أربابالرياضة- و هو أحد أركانهم في حكم مجاهدة النفس- و منازلتها و تهذيب الأخلاق- .
و يقال إن داود الطائي لما أراد أن يقعد في بيته- اعتقد أن يحضر مجلس أبي حنيفة- لأنه كان تلميذا له و يقعد بين أضرابه من العلماء- و لا يتكلم في مسألة على سبيل رياضته نفسه- فلما قويت نفسه على ممارسة هذه الخصلة سنة كاملة- قعد في بيته عند ذلك و آثر العزلة- .
و يقال إن عمر بن عبد العزيز- كان إذا كتب كتابا فاستحسن لفظه- مزق الكتاب و غيره- . و قال بشر بن الحارث- إذا أعجبك الكلام فاصمت فإذا أعجبك الصمت فتكلم- و قال سهل بن عبد الله- لا يصح لأحد الصمت حتى يلزم نفسه الخلوة- و لا يصح لأحد التوبة حتى يلزم نفسه الصمت- . و منها الخوف- قال الله تعالى يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَ طَمَعاً- . و قال تعالى وَ إِيَّايَ فَارْهَبُونِ- .
و قال يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ- . أبو علي الدقاق- الخوف على مراتب خوف و خشية و هيبة- . فالخوف من شروط الإيمان و قضاياه- قال الله تعالى فَلا تَخافُوهُمْ وَ خافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ- .و الخشية من شروط العلم- قال الله تعالى إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ- .و الهيبة من شروط المعرفة- قال سبحانه وَ يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ- .
و قال أبو عمر الدمشقي- الخائف من يخاف من نفسه- أكثر مما يخاف من الشيطان- . و قال بعضهم من خاف من شيء هرب منه- و من خاف الله هرب إليه- . و قال أبو سليمان الداراني- ما فارق الخوف قلبا إلا خرب و منها الرجاء- و قد قدمنا فيما قبل من ذكر الخوف و الرجاء طرفا صالحا- قال سبحانه مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ- . و الفرق بين الرجاء و التمني- و كون أحدهما محمودا و الآخر مذموما- أن التمني ألا يسلك طريق الاجتهاد و الجد- و الرجاء بخلاف ذلك- فلهذا كان التمني يورث صاحبه الكسل- .
و قال أبو علي الروذباري- الرجاء و الخوف كجناحي الطائر- إذا استويا استوى الطائر و تم طيرانه- و إذا نقص أحدهما وقع فيه النقص- و إذا ذهبا صار الطائر في حد الموت- . و قال أبو عثمان المغربي من حمل نفسه على الرجاء تعطل- و من حمل نفسه على الخوف قنط- و لكن من هذا مرة و من هذا مرة- . ومن كلام يحيى بن معاذ و يروى عن علي بن الحسين ع يكاد رجائي لك مع الذنوب- يغلب رجائي لك مع الأعمال- لأني أجدني أعتمد في الأعمال على الإخلاص- و كيف أحرزها و أنا بالآفة معروف- و أجدني في الذنوب أعتمد على عفوك- و كيف لا تغفرها و أنت بالجود موصوف- . و منها الحزن و هو من أوصاف أهل السلوك- .
و قال أبو علي الدقاق- صاحب الحزن يقطع من طريق الله في شهر- ما لا يقطعه من فقد الحزن في سنتين- .في الخبر النبوي ص إن الله يحب كل قلب حزين- . و في بعض كتب النبوات القديمة- إذا أحب الله عبدا نصب في قلبه نائحة- و إذا أبغض عبدا جعل في قلبه مزمارا- .
و روي أن رسول الله ص كان متواصل الأحزان- دائم الفكر- . و قيل إن القلب إذا لم يكن فيه حزن خرب- كما أن الدار إذا لم يكن فيها ساكن خربت- . و سمعت رابعة رجلا يقول وا حزناه- فقالت قل وا قلة حزناه- لو كنت محزونا ما تهيأ لك أن تتنفس- . و قال سفيان بن عيينة لو أن محزونا بكى في أمة- لرحم الله تلك الأمة ببكائه- . و كان بعض هؤلاء القوم- إذا سافر واحد من أصحابه يقول- إذا رأيت محزونا فأقرئه عني السلام- . و كان الحسن البصري لا يراه أحد- إلا ظن أنه حديث عهد بمصيبة- . و قال وكيع يوم مات الفضيل ذهب الحزن اليوم من الأرض- . و قال بعض السلف- أكثر ما يجده المؤمن- في صحيفته من الحسنات الحزن و الهم- .
و قال الفضيل- أدركت السلف يقولون- إن لله في كل شيء زكاة- و زكاة العقل طول الحزن- . و منها الجوع و ترك الشهوات و قد تقدم ذكر ذلك- . و منها الخشوع و التواضع قال سبحانه- الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ و
في الخبر النبوي عنه ص لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر- و لا يدخل النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان- فقال رجل يا رسول الله- إن المرء ليحب أن يكون ثوبه حسنا- فقال إن الله جميل يحب الجمال- إنما المتكبر من بطر الحق و غمص الناس وروى أنس بن مالك أن رسول الله ص- كان يعود المريض و يشيع الجنائز- و يركب الحمار و يجيب دعوة العبد- . و كان يوم قريظة و النضير على حمار- مخطوم بحبل من ليف- عليه إكاف من ليف- .
و دخل مكة يوم فتحها راكب بعير برحل خلق- و إن ذقنه لتمس وسط الرحل خضوعا لله تعالى و خشوعا- و جيشه يومئذ عشرة آلاف- . قالوا في حد الخشوع هو الانقياد للحق- و في التواضع هو الاستسلام و ترك الاعتراض على الحكم- . و قال بعضهم- الخشوع قيام القلب بين يدي الحق بهم مجموع- . و قال حذيفة بن اليمان- أول ما تفقدون من دينكم الخشوع- .
و كان يقال من علامات الخشوع- أن العبد إذا أغضب أو خولف أو رد عليه- استقبل ذلك بالقبول- . و قال محمد بن علي الترمذي- الخاشع من خمدت نيران شهوته- و سكن دخان صدره- و أشرق نور التعظيم في قلبه- فماتت حواسه و حيي قلبه- و تطامنت جوارحه- . و قال الحسن- الخشوع هو الخوف الدائم اللازم للقلب- . و قال الجنيد- الخشوع تذلل القلوب لعلام الغيوب- قال الله تعالى- وَ عِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً- أي خاشعون متواضعون- . و رأي بعضهم رجلا منقبض الظاهر- منكسر الشاهد- قد زوي منكبيه- فقال يا فلان الخشوع هاهنا- و أشار إلى صدره لا هاهنا- و أشار إلى منكبيه- .
وروي أن رسول الله ص رأى رجلا- يعبث بلحيته في صلاته- فقال لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه- . و قيل شرط الخشوع في الصلاة- ألا يعرف من على يمينه و لا من على شماله- . و قال بعض الصوفية- الخشوع قشعريرة ترد على القلب بغتة- عند مفاجأة كشف الحقيقة- . و كان يقال- من لم يتضع عند نفسه لم يرتفع عند غيره- . و قيل إن عمر بن عبد العزيز لم يكن يسجد إلا على التراب- .
و كان عمر بن الخطاب يسرع في المشي- و يقول هو أنجح للحاجة و أبعد من الزهو- . كان رجاء بن حيوة ليلة- عند عمر بن عبد العزيز و هو خليفة- فصعف المصباح فقام رجل ليصلحه- فقال اجلس- فليس من الكرم أن يستخدم المرء ضيفه- فقالأنبه الغلام- قال إنها أول نومه نامها- ثم قام بنفسه فأصلح السراج- فقال رجاء أ تقوم إلى السراج و أنت أمير المؤمنين- قال قمت و أنا عمر بن عبد العزيز- و رجعت و أنا عمر بن عبد العزيز- .
وفي حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله ص كان يعلف البعير و يقم البيت- و يخصف النعل و يرقع الثوب- و يحلب الشاة و يأكل مع الخادم- و يطحن معها إذا أعيت- و كان لا يمنعه الحياء أن يحمل بضاعته- من السوق إلى منزل أهله- و كان يصافح الغني و الفقير و يسلم مبتدئا- و لا يحقر ما دعي إليه و لو إلى حشف التمر- و كان هين المئونة لين الخلق- كريم السجية جميل المعاشرة- طلق الوجه بساما من غير ضحك- محزونا من غير عبوس- متواضعا من غير ذلة- جوادا من غير سرف- رقيق القلب رحيما لكل مسلم- ما تجشأ قط من شبع- و لا مد يده إلى طبع- .
و قال الفضيل- أوحى الله إلى الجبال- أني مكلم على واحد منكم نبيا- فتطاولت الجبال و تواضع طور سيناء- فكلم الله عليه موسى لتواضعه- . سئل الجنيد عن التواضع- فقال خفض الجناح و لين الجانب- . ابن المبارك- التكبر على الأغنياء- و التواضع للفقراء من التواضع- . و قيل لأبي يزيد متى يكون الرجل متواضعا- قال إذا لم ير لنفسه مقاما و لا حالا- و لا يرى أن في الخلق من هو شر منه- . و كان يقال التواضع نعمة لا يحسد عليها- و التكبر محنة لا يرحم منها- و العز في التواضع فمن طلبه في الكبر لم يجده- . و كان يقال الشرف في التواضع- و العز في التقوى و الحرية في القناعة- . يحيى بن معاذ التواضع حسن في كل أحد- لكنه في الأغنياء أحسن- و التكبر سمج في كل أحد- و لكنه في الفقراء أسمج- .
و ركب زيد بن ثابت- فدنا ابن عباس ليأخذ بركابه- فقال مه يا ابن عم رسول الله- فقال إنا كذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا- فقال زيد أرني يدك فأخرجها فقبلها- فقال هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا- . و قال عروة بن الزبير- رأيت عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى- و على عاتقه قربة ماء- فقلت يا أمير المؤمنين- إنه لا ينبغي لمثلك هذا- فقال إنه لما أتتني الوفود سامعة مهادنة- دخلت نفسي نخوة- فأحببت أن أكسرها- و مضى بالقربة إلى حجرة امرأة من الأنصار- فأفرغها في إنائها- . أبو سليمان الداراني- من رأى لنفسه قيمة- لم يذق حلاوة الخدمة- .
يحيى بن معاذ التكبر على من تكبر عليك تواضع- . بشر الحافي- سلموا على أبناء الدنيا بترك السلام عليهم بلغ عمر بن عبد العزيز- أن ابنا له اشترى خاتما بألف درهم- فكتب إليه- بلغني أنك اشتريت خاتما و فصه بألف درهم- فإذا أتاك كتابي فبع الخاتم- و أشبع به ألف بطن- و اتخذ خاتما من درهمين- و اجعل فصه حديدا صينيا- و اكتب عليه رحم الله امرأ عرف قدره- . قومت ثياب عمر بن عبد العزيز- و هو يخطب أيام خلافته باثني عشر درهما- و هي قباء و عمامة و قميص و سراويل- و رداء و خفان و قلنسوة- .
و قال إبراهيم بن أدهم- ما سررت قط سروري في أيام ثلاثة- كنت في سفينة و فيها رجل مضحك- كان يلعب لأهل السفينة- فيقول كنا نأخذ العلج من بلاد الترك هكذا- و يأخذ بشعر رأسي فيهزني فسرني ذلك- لأنه لم يكن في تلك السفينة أحقر مني في عينه- و كنت عليلا في مسجد- فدخل المؤذن و قال اخرج فلم أطق- فأخذ برجلي و جرني إلى خارج المسجد- و كنت بالشام و علي فرو- فنظرت إليه فلم أميز بين الشعر- و بين القمل لكثرته- . عرض على بعض الأمراء مملوك بألوف من الدراهم- فاستكثر الثمن- فقال العبد اشترني يا مولاي- ففي خصلة تساوي أكثر من هذا الثمن- قال ما هي- قال لو قدمتني على جميع مماليك- و خولتني بكل مالك- لم أغلظ في نفسي- بل أعلم أني عبدك فاشتراه- .
تشاجر أبو ذر و بلال- فعير أبو ذر بلالا بالسواد- فشكاه إلى رسول الله ص- فقال يا أبا ذر- ما علمت أنه قد بقي في قلبك شيء- من كبر الجاهلية- فألقى أبو ذر نفسه- و حلف ألا يحمل رأسه- حتى يطأ بلال خده بقدمه- فما رفع رأسه حتى فعل بلال ذلكمر الحسن بن علي ع بصبيان يلعبون- و بين أيديهم كسر خبز يأكلونها- فدعوه فنزل و أكل معهم- ثم حملهم إلى منزله فأطعمهم و كساهم- و قال الفضل لهم- لأنهم لم يجدوا غير ما أطعموني- و نحن نجد أكثر مما أطعمناهم- .
و منها مخالفة النفس- و ذكر عيوبها و قد تقدم ذكر ذلك- . و منها القناعة قال الله تعالى- مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى- وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً- قال كثير من المفسرين هي القناعة- . وفي الحديث النبوي و يقال إنه من كلام أمير المؤمنين ع القناعة كنز لا ينفدوفي الحديث النبوي أيضا كن ورعا تكن أعبد الناس- و كن قنوعا تكن أشكر الناس- و أحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمنا- و أحسن مجاورة من جاورك تكن مسلما- و أقل الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب- . و كان يقال الفقراء أموات- إلا من أحياه الله تعالى بعز القناعة- .
و قال أبو سليمان الداراني- القناعة من الرضا بمنزلة الورع من الزهد- هذا أول الرضا و هذا أول الزهد- . و قيل القناعة سكون النفس- و عدم انزعاجها عند عدم المألوفات- . و قيل في تفسير قوله تعالى- لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً أنه القناعة- . و قال أبو بكر المراغي- العاقل من دبر أمر الدنيا بالقناعة و التسويف- و أنكر أبو عبد الله بن خفيف- فقال القناعة ترك التسويف بالمفقود- و الاستغناء بالموجود- . و كان يقال خرج العز و الغنى يجولان- فلقيا القناعة فاستقرا- . و كان يقال- من كانت قناعته سمينة طابت له كل مرقة- . مر أبو حازم الأعرج بقصاب- فقال له خذ يا أبا حازم- فقال ليس معي درهم قال أنا أنظرك- قال نفسي أحسن نظرة لي منك- .
و قيل وضع الله تعالى خمسة أشياء في خمسة مواضع- العز في الطاعة و الذل في المعصية- و الهيبة في قيام الليل- و الحكمة في البطن الخالي- و الغنى في القناعة- . و كان يقال انتقم من فلان بالقناعة- كما تنتقم من قاتلك بالقصاص- . ذو النون المصري- من قنع استراح من أهل زمانه- و استطال على أقرانه- . و أنشدوا-
و أحسن بالفتى من يوم عار
ينال به الغنى كرم و جوع
و رأى رجل حكيما يأكل- ما تساقط من البقل على رأس الماء- فقال له لو خدمت السلطان لم تحتج إلى أكل هذا- فقال و أنت لو قنعت بهذا لم تحتج إلى خدمة السلطان- . و قيل العقاب عزيز في مطاره- لا تسمو إليه مطامع الصيادين- فإذا طمع في جيفة علقت على حباله- نزل من مطاره فنشب في الأحبولة- . و قيل لما نطق موسى بذكر الطمع- فقال لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً- قال له الخضر هذا فِراقُ بَيْنِي وَ بَيْنِكَ- و فسر بعضهم قوله هَبْ لِي مُلْكاً- لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي- فقال مقاما في القناعة لا يبلغه أحد- .
و منها التوكل- قال الله تعالى وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ- و قال سهل بن عبد الله- أول مقام في التوكل- أن يكون العبد بين يدي الله تعالى- كالميت بين يدي الغاسل- يقلبه كيف يشاء- لا يكون له حركة و لا تدبير- . و قال رجل لحاتم الأصم من أين تأكل- فقال وَ لِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ- وَ لكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ- . و قال أصحاب هذا الشأن التوكل بالقلب- و ليس ينافيه الحركة بالجسد- بعد أن يتحقق العبد أن التقدير من الله- فإن تعسر شيء فبتقديره- و أن تسهل فبتيسيره- .
وفي الخبر النبوي أنه ع قال للأعرابي- الذي ترك ناقته مهملة فندت- فلما قيل له قال توكلت فتركتها- فقال ع اعقل و توكل- . و قال ذو النون التوكل الانخلاع من الحول و القوة- و ترك تدبير الأسباب- و قال بعضهم- التوكل رد العيش إلى يوم واحد بإسقاط هم غد- .
و قال أبو علي الدقاق- التوكل ثلاث درجات- التوكل و هو أدناها- ثم التسليم ثم التفويض- فالأولى للعوام و الثانية للخواص- و الثالثة لخواص الخواص- . جاء رجل إلى الشبلي يشكو إليه كثرة العيال- فقال ارجع إلى بيتك- فمن وجدت منهم ليس رزقه على الله- فأخرجه من البيت- . و قال سهل بن عبد الله- من طعن في التوكل فقط طعن في الإيمان- و من طعن في الحركة فقد طعن في السنة- . و كان يقال المتوكل كالطفل- لا يعرف شيئا يأوي إليه إلا ثدي أمه- كذلك المتوكل لا يهتدي إلا إلى ربه- .
و رأى أبو سليمان الداراني رجلا بمكة- لا يتناول شيئا إلا شربة من ماء زمزم- فمضت عليه أيام فقال له يوما- أ رأيت لو غارت أي زمزم- أي شيء كنت تشرب- فقام و قبل رأسه- و قال جزاك الله خيرا حيث أرشدتني- فإني كنت أعبد زمزم منذ أيام ثم تركه و مضى- . و قيل التوكل نفي الشكوك- و التفويض إلى مالك الملوك- . و دخل جماعة على الجنيد- فقالوا نطلب الرزق- قال إن علمتم في أي موضع هو فاطلبوه- قالوا فنسأل الله ذلك- قال إن علمتم أنه ينساكم فذكروه- قالوا لندخل البيت فنتوكل- قال التجربة شك- قالوا فما الحيلة قال ترك الحيلة- .
و قيل التوكل الثقة بالله- و اليأس عما في أيدي الناس- . و منها الشكر- و قد تقدم منا ذكر كثير مما قيل فيه- . و منها اليقين و هو مقام جليل- قال الله تعالى وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ وقال علي بن أبي طالب ع لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا- . و قال سهل بن عبد الله- حرام على قلب أن يشم رائحة اليقين- و فيه شكوى إلى غير الله- . وذكر للنبي ص ما يقال- عن عيسى ابن مريم ع- أنه مشى على الماء- فقال لو ازداد يقينا لمشى على الهواءوفي الخبر المرفوع عنه ص أنه قال لعبد الله بن مسعود- لا ترضين أحدا بسخط الله- و لا تحمدن أحدا على فضل الله- و لا تذمن أحدا على ما لم يؤتك الله- و اعلم أن الرزق لا يسوقه حرص حريص- و لا يرده كراهة كاره- و أن الله جعل الروح و الفرج في الرضا و اليقين- و جعل الهم و الحزن في الشك و السخط- .
و منها الصبر- قال الله تعالى وَ اصْبِرْ وَ ما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وقال علي ع الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد
– . و سئل الفضيل عن الصبر- قال تجرع المرارة من غير تعبيس- . و قال رويم الصبر ترك الشكوى- .وقال علي ع الصبر مطية لا تكبو- . وقف رجل على الشبلي- فقال أي صبر أشد على الصابرين- قال الشبلي الصبر في الله تعالى فقال لا- قال فالصبر لله- فقال لا- قال فالصبر مع الله تعالى فقال لا- قال فأي شيء قال الصبر عن الله- فصرخ الشبلي صرخة عظيمة و وقع- .
و يقال إن الشبلي حبس في المارستان- فدخل عليه قوم- فقال من أنتم- قالوا محبوك جئناك زائرين- فرماهم بالحجارة فهربوا- فقال لو كنتم أحباي لصبرتم على بلائي وجاء في بعض الأخبار عن الله تعالى بعيني ما يتحمل المتحملون من أجليوقال عمر بن الخطاب لو كان الصبر و الشكر بعيرين- لم أبال أيهما ركبتوفي الحديث المرفوع الإيمان الصبر و السخاءوفي الخبر العلم خليل المؤمن- و الحلم وزيره و العقل دليله- و العمل قائده و الرفق والده- و البر أخوه و الصبر أمير جنوده- قالوا فناهيك بشرف خصلة- تتأمر على هذه الخصال- و المعنى أن الثبات على هذه الخصال- و استدامة التخلق بها إنما يكون بالصبر- فلذلك كان أمير الجنود- .
و منها المراقبة-جاء في الخبر عن النبي ص أن سائلا سأله عن الإحسان- فقال أن تعبد الله كأنك تراه- فإن لم تكن تراه فإنه يراك- . و هذه إشارة إلى حال المراقبة- لأن المراقبة علم العبد باطلاع الرب عليه- فاستدامة العبد لهذا العلم مراقبة للحق- و هو أصل كل خير- و لا يكاد يصل إلى هذه الرتبة- إلا بعد فراغه عن المحاسبة- فإذا حاسب نفسه على ما سلف- و أصلح حاله في الوقت-و لازم طريق الحق- و أحسن بينه و بين الله تعالى بمراعاة القلب- و حفظ مع الله سبحانه الأنفاس- راقبه تعالى في عموم أحواله- فيعلم أنه تعالى رقيب عليه- يعلم أحواله و يرى أفعاله و يسمع أقواله- و من تغافل عن هذه الجملة- فهو بمعزل عن بداية الوصلة- فكيف عن حقائق القربة- .
و يحكى أن ملكا كان يتحظى جارية له- و كان لوزيره ميل باطن إليها- فكان يسعى في مصالحها- و يرجح جانبها على جانب غيرها- من حظايا الملك و نسائه- فاتفق أن عرض عليها الملك حجرين من الياقوت الأحمر- أحدهما أنفس من الآخر بمحضر من وزيره- فتحيرت أيهما تأخذ- فأومأ الوزير بعينه إلى الحجر الأنفس- و حانت من الملك التفاته- فشاهد عين الوزير و هي مائلة إلى ذلك الجانب- فبقي الوزير بعدها أربعين سنة- لا يراه الملك قط إلا كاسرا عينه- نحو الجانب الذي كان طرفه مائلا إليه ذلك اليوم- أي كأن ذلك خلقة- و هذا عزم قوي في المراقبة- و مثله فليكن حال من يريد الوصول- .
و يحكى أيضا أن أميرا كان له غلام- يقبل عليه أكثر من إقباله على غيره من مماليكه- و لم يكن أكثرهم قيمة- و لا أحسنهم صورة فقيل له في ذلك- فأحب أن يبين لهم فضل الغلام في الخدمة على غيره- فكان يوما راكبا و معه حشمه- و بالبعد منهم جبل عليه ثلج- فنظر الأمير إلى الثلج و أطرق- فركض الغلام فرسه- و لم يعلم الغلمان لما ذا ركض- فلم يلبث إلا قليلا حتى جاء و معه شيء من الثلج- فقال الأمير ما أدراك أني أردت الثلج- فقال إنك نظرت إليه- و نظر السلطان إلى شيء لا يكون إلا عن قصد- فقال الأمير لغلمانه إنما أختصه بإكرامي و إقبالي- لأن لكل واحد منكم شغلا- و شغله مراعاة لحظاتي و مراقبة أحوالي- .
و قال بعضهم من راقب الله في خواطره- عصمه الله في جوارحه- . و منها الرضا- و هو أن يرضى العبد بالشدائد و المصائب- التي يقضيها الله تعالى عليه- و ليس المراد بالرضا رضا العبد- بالمعاصي و الفواحش- أو نسبتها إلى الرب تعالى عنها- فإنه سبحانه لا يرضاها- كما قال جل جلاله وَ لا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ- . و قال كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً- . قال رويم- الرضا أن لو أدخلك جهنم لما سخطت عليه- . و قيل لبعضهم متى يكون العبد راضيا- قال إذا سرته المصيبة- كما سرته النعمة- .
قال الشبلي مرة و الجنيد حاضر- لا حول و لا قوة إلا بالله- فقال الجنيد أرى أن قولك هذا ضيق صدر- و ضيق الصدر يجيء من ترك الرضا بالقضاء- . و قال أبو سليمان الدارني- الرضا ألا تسأل الله الجنة- و لا تستعيذ به من النار- . و قال تعالى فيمن سخط قسمته- وَ مِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ- فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا- وَ إِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ- .
ثم نبه على ما حرموه من فضيلة الرضا- فقال وَ لَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ- وَ قالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ- سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ رَسُولُهُ- إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ- و جواب لو هاهنا محذوف لفهم المخاطب و علمه به- .و في حذفه فائدة لطيفة- و هو أن تقديره لرضي الله عنهم- و لما كان رضاه عن عباده مقاما جليلا جدا حذف ذكره- لان الذكر له لا ينبئ عن كنهه و حقيقة فضله- فكان الإضراب عن ذكره أبلغ في تعظيم مقامه- . ومن الأخبار المرفوعة أنه ص قال اللهم إني أسألك الرضا بعد القضاء- قالوا إنما قال بعد القضاء- لأن الرضا قبل القضاء لا يتصور- و إنما يتصور توطين النفس عليه- و إنما يتحقق الرضا بالشيء بعد وقوع ذلك الشيء- .
وفي الحديث أنه قال لابن عباس يوصيه اعمل لله باليقين و الرضا- فإن لم يكن فاصبر- فإن في الصبر على ما تكره خيرا كثيراوفي الحديث أنه ص رأى رجلا من أصحابه- و قد أجهده المرض و الحاجة- فقال ما الذي بلغ بك ما أرى- قال المرض و الحاجة- قال أ و لا أعلمك كلاما- إن أنت قلته أذهب الله عنك ما بك- قال و الذي نفسي بيده ما يسرني بحظي منهما- أن شهدت معك بدرا و الحديبية- فقال ص- و هل لأهل بدر و الحديبية ما للراضي و القانع- .
و قال أبو الدرداء- ذروة الإيمان الصبر و الرضا- . قدم سعد بن أبي وقاص مكة بعد ما كف بصره- فانثال الناس عليه يسألونه الدعاء لهم- فقال له عبد الله بن السائب- يا عم إنك تدعو للناس فيستجاب لك- هلا دعوت أن يرد عليك بصرك- فقال يا ابن أخي- قضاء الله تعالى أحب إلي من بصري- . عمر بن عبد العزيز- أصبحت و ما لي سرور إلا في مواقع القدر- . و كان يقال- الرضا إطراح الاقتراح على العالم بالصلاح- و كان يقال إذا كان القدر حقا كان سخطه حمقا- .
و كان يقال من رضي حظي- و من اطرح الاقتراح أفلح و استراح- . و كان يقال كن بالرضا عاملا- قبل أن تكون له معمولا- و سر إليه عادلا و إلا سرت نحوه معدولا- . و قيل للحسن من أين أتى الخلق- قال من قلة الرضا عن الله- فقيل و من أين دخلت عليهم قلة الرضا عن الله- قال من قلة المعرفة بالله- . و قال صاحب سلوان المطاع في الرضا-
يا مفزعي فيما يجيء
و راحمي فيما مضى
عندي لما تقضيه ما
يرضيك من حسن الرضا
و من القطيعة أستعيذ مصرحا و معرضا- و قال أيضا-
كن من مدبرك الحكيم
علا و جل على وجل
و ارض القضاء فإنه
حتم أجل و له أجل
و قال أيضا-
يا من يرى حالي و أن ليس
لي في غير قربي منه أوطار
و ليس لي ملتحد دونه
و لا عليه لي أنصار
حاشا لذاك العز و الفضل
أن يهلك من أنت له جار
و إن تشأ هلكي فهب لي رضا
بكل ما تقضي و تختار
عندي لأحكامك يا مالكي
قلب كما أنعمت صبار
كل عذاب منك مستعذب
ما لم يكن سخطك و النار
و منها العبودية- و هي أمر وراء العبادة- معناها التعبد و التذلل- قالوا العبادة للعوام من المؤمنين- و العبودية للخواص من السالكين- . و قال أبو علي الدقاق- العبادة لمن له علم اليقين- و العبودية لمن له عين اليقين- . و سئل محمد بن خفيف متى تصح العبودية- فقال إذا طرح كله على مولاه- و صبر معه على بلواه- .
و قال بعضهم العبودية معانقة ما أمرت به- و مفارقة ما زجرت عنه- . و قيل العبودية أن تسلم إليه كلك- و تحمل عليه كلك- . وفي الحديث المرفوع تعس عبد الدينار و تعس عبد الخبيصة- . رأى أبو يزيد البسطامي رجلا- فقال له ما حرفتك قال خربنده- قال أمات الله حمارك- لتكون عبدا لله لا عبدا للحمار- .
و كان ببغداد في رباط شيخ الشيوخ- صوفي كبير اللحية جدا- و كان مغرى و معنى بها أكثر زمانه- يدهنها و يسرحها- و يجعلها ليلا عند نومه في كيس- فقام بعض المريدين إليه في الليل و هو نائم- فقصها من الإذن إلى الإذن- فأصبحت كالصريم- و أصبح الصوفي شاكيا إلى شيخ الرباط- فجمع الصوفية و سألهم- فقال المريد أنا قصصتها- قال و كيف فعلت ويلك ذلك- قال أيها الشيخ- إنها كانت صنمه و كان يعبدها من دون الله- فأنكرت ذلك بقلبي- و أردت أن أجعله عبدا لله لا عبدا للحية- .
قالوا و ليس شيء أشرف من العبودية- و لا اسم أتم للمؤمن من اسمه بالعبودية- و لذلك قال سبحانه في ذكر النبي ص ليلة المعراج- و كان ذلك الوقت أشرف أوقاته في الدنيا- سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا- و قال تعالى- فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى- فلو كان اسم أجل من العبودية لسماه به- . و أنشدوا-
لا تدعني إلا بيا عبدها
فإنه أشرف أسمائي
و منها الإرادة قال تعالى- وَ لا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ- بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ- . قالوا الإرادة هي بدء طريق السالكين- و هي اسم لأول منازل القاصدين إلى الله- و إنما سميت هذه الصفة إرادة- لأن الإرادة مقدمة كل أمر- فما لم يرد العبد شيئا لم يفعله- فلما كان هذا الشأن أول الأمر- لمن يسلك طريق الله سمي إرادة- تشبيها له بالقصد إلى الأمور التي هو مقدمتها- . قالوا و المريد على موجب الاشتقاق من له إرادة- و لكن المريد في هذا الاصطلاح من لا إرادة له- فما لم يتجرد عن إرادته لا يكون مريدا- كما أن من لا إرادة له على موجب الاشتقاق لا يكون مريدا- . و قد اختلفوا في العبارات الدالة- على ماهية الإرادة في اصطلاحهم- فقال بعضهم الإرادة ترك ما عليه العادة- و عادة الناس في الغالب التعريج على أوطان الغفلة-و الركون إلى اتباع الشهوة- و الإخلاد إلى ما دعت إليه المنية- و المريد هو المنسلخ عن هذه الجملة- . و قال بعضهم الإرادة نهوض القلب في طلب الرب- و لهذا قيل إنها لوعة تهون كل روعة- .
و قال أبو علي الدقاق الإرادة لوعة في الفؤاد- و لذعة في القلب و غرام في الضمير- و انزعاج في الباطن و نيران تأجج في القلوب- . و قال ممشاذ الدينوري- مذ علمت أن أحوال الفقراء جد كلها- لم أمازح فقيرا- و ذلك أن فقيرا قدم علي- فقال أيها الشيخ أريد أن تتخذ لي عصيدة- فجرى على لساني إرادة و عصيدة فتأخر الفقير و لم أشعر- فأمرت باتخاذ عصيدة و طلبته فلم أجده- فتعرفت خبره- فقيل إنه انصرف من فوره- و هو يقول إرادة و عصيدة إرادة و عصيدة- و هام على وجهه حتى خرج إلى البادية- و هو يكرر هذه الكلمة- فما زال يقول و يرددها حتى مات- .
و حكى بعضهم- قال كنت بالبادية وحدي فضاق صدري- فصحت يا أنس كلموني يا جن كلموني- فهتف هاتف أي شيء ناديت- فقلت الله فقال الهاتف كذبت- لو أردته لما ناديت الإنس و لا الجن- . فالمريد هو الذي لا يشغله عن الله شيء- و لا يفتر آناء الليل و أطراف النهار- فهو في الظاهر بنعت المجاهدات- و في الباطن بوصف المكابدات- فارق الفراش و لازم الانكماش- و تحمل المصاعب و ركب المتاعب- و عالج الأخلاق و مارس المشاق- و عانق الأهوال و فارق الأشكال فهو كما قيل-
ثم قطعت الليل في مهمه
لا أسدا أخشى و لا ذيبا
يغلبني شوقي فأطوى السرى
و لم يزل ذو الشوق مغلوبا
و قيل من صفات المريدين التحبب إليه بالتوكل- و الإخلاص في نصيحة الأمة- و الأنس بالخلوة- و الصبر على مقاساة الأحكام- و الإيثار لأمره و الحياء من نظره- و بذل المجهود في محبته- و التعرض لكل سبب يوصل إليه- و القناعة بالخمول- و عدم الفرار من القلب- إلى أن يصل إلى الرب- .
و قال بعضهم- آفة المريد ثلاثة أشياء التزويج- و كتبه الحديث و الأسفار- . و قيل- من حكم المريد أن يكون فيه ثلاثة أشياء- نومه غلبة و أكله فاقة و كلامه ضرورة- . و قال بعضهم نهاية الإرادة أن يشير إلى الله- فيجده مع الإشارة- فقيل له و أي شيء يستوعب الإرادة- فقال أن يجد الله بلا إشارة- . و سئل الجنيد- ما للمريدين و سماع القصص و الحكايات- فقال الحكايات جند من جند الله تعالى- يقوي بها قلوب المريدين- فقيل له هل في ذلك شاهد- فتلا قوله تعالى وَ كُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ- ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ- .
و قال أصحاب الطريقة بين المريد و المراد فرق- فالمريد من سلك الرياضة طلبا للوصول- و المراد من فاضت عليه العناية الإلهية ابتداء- فكان مخطوبا لا خاطبا- و بين الخاطب و المخطوب فرق عظيم- . قالوا كان موسى ع مريدا- قال رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي- و كان محمد ص مرادا- قال له أَ لَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ- و سئل الجنيد عنالمريد و المراد- فقال المريد سائر و المراد طائر- و متى يلحق السائر الطائر- .
أرسل ذو النون المصري رجلا إلى أبي يزيد- و قال له إلى متى النوم و الراحة- قد سارت القافلة- فقال له أبو يزيد قل لأخي- الرجل من ينام الليل كله- ثم يصبح في المنزل قبل القافلة- فقال ذو النون هنيئا له- هذا الكلام لا تبلغه أحوالنا- . و قد تكلم الحكماء في هذا المقام- فقال أبو علي بن سينا في كتاب الإشارات- أول درجات حركات العارفين ما يسمونه هم الإرادة- و هو ما يعتري المستبصر باليقين البرهاني- أو الساكن النفس إلى العقد الإيماني- من الرغبة في اعتلاق العروة الوثقى- فيتحرك سره إلى القدس- لينال من روح الاتصال- فما دامت درجته هذه فهو مريد- .
ثم إنه ليحتاج إلى الرياضة- و الرياضة موجهة إلى ثلاثة أغراض- الأول تنحيه ما دون الحق عن سنن الإيثار- . و الثاني تطويع النفس الأمارة للنفس المطمئنة- لتنجذب قوى التخيل و الوهم- إلى التوهمات المناسبة للأمر القدسي- منصرفة من التوهمات المناسبة للأمر السفلي- . و الثالث تلطيف السر لنفسه- .
فالأول يعين عليه الزهد الحقيقي- و الثاني يعين عليه عدة أشياء- العبادة المشفوعة بالفكرة- ثم الألحان المستخدمة لقوى النفس الموقعة- لما لحن بها من الكلام موقع القبول من الأوهام- ثم نفس الكلام الواعظ من قائل ذكي- بعبارة بليغة و نغمة رخيمة و سمت رشيد- و الثالث يعين عليه الفكر اللطيف- و العشق العفيف الذي تتأمر فيه شمائل المعشوق- دون سلطان الشهوة- .
و منها الاستقامة- و حقيقتها الدوام و الاستمرار على الحال- قال تعالى إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا- . و سئل بعضهم عن تارك الاستقامة- فقال قد ذكر الله ذلك في كتابه- فقال وَ لا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها- مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً وفي الحديث المرفوع شيبتني هود فقيل له في ذلك فقال قوله فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ- .
و قال تعالى وَ أَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ- لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً- فلم يقل سقيناهم بل أسقيناهم- أي جعلنا لهم سقيا دائمة- و ذلك لأن من دام على الخدمة دامت عليه النعمة- . و منها الإخلاص- و هو إفراد الحق خاصة في الطاعة- بالقصد و التقرب إليه بذلك خاصة- من غير رياء و من غير أن يمازحه شيء آخر من تصنع لمخلوق- أو اكتساب محمدة بين الناس أو محبة مدح- أو معنى من المعاني- و لذلك قال أرباب هذا الفن- الإخلاص تصفية العمل عن ملاحظة المخلوقين- . و قال الخواص من هؤلاء القوم- نقصان كل مخلص في إخلاصه رؤية إخلاصه- فإذا أراد الله أن يخلص إخلاص عبد- أسقط عن إخلاصه رؤيته لإخلاصه- فيكون مخلصا لا مخلصا- . وجاء في الأثر عن مكحول ما أخلص عبد لله أربعين صباحا- إلا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه- .
و منها الصدق و يطلق على معنيين- تجنب الكذب و تجنب الرياء- و قد تقدم القول فيهما- . و منها الحياء- و
في الحديث الصحيح إذا لم تستحي فاصنع ما شئتوفي الحديث أيضا الحياء من الإيمان- و قال تعالى أَ لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى- قالوا معناه أ لم يستحي- . وفي الحديث أنه قال لأصحابه استحيوا من الله حق الحياء- قالوا إنا لنستحيي و نحمد الله- قال ليس كذلك- من استحيا من الله حق الحياء- فليحفظ الرأس و ما وعى و البطن و ما حوى- و ليذكر الموت و طول البلى- و ليترك زينة الحياة الدنيا- فمن يعمل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء- .
و قال ابن عطاء- العلم الأكبر الهيبة و الحياء- فإذا ذهبا لم يبق خير- . و قال ذو النون- الحب ينطق و الحياء يسكت و الخوف يقلق- . و قال السري الحياء و الأنس يطرقان القلب- فإن وجدا فيه الزهد و الورع حطا و إلا رحلا- . و كان يقال تعامل القرن الأول من الناس- فيما بينهم بالدين حتى رق الدين- ثم تعامل القرن الثاني بالوفاء حتى ذهب الوفاء- ثم تعامل القرن الثالث بالمروءة حتى فنيت المروءة- ثم تعامل القرن الرابع بالحياء حتى قل الحياء- ثم صار الناس يتعاملون بالرغبة و الرهبة
و قال الفضيل خمس من علامات الشقاء- القسوة في القلب و جمود العين- و قلة الحياء و الرغبة في الدنيا و طول الأمل- . و فسر بعضهم قوله تعالى وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِها- لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ- أنها كان لها صنم في زاوية البيت- فمضت فألقت على وجهه ثوبا- فقال يوسف ما هذا قالت أستحيي منه- قال فأنا أولى أن أستحيي من الله- .
وفي بعض الكتب القديمة ما أنصفني عبدي يدعوني فأستحيي أن أرده- و يعصيني و أنا أراه فلا يستحيي مني
و منها الحرية- و هو ألا يكون الإنسان بقلبه رق شيء من المخلوقات- لا من أغراض الدنيا و لا من أغراض الآخرة- فيكون فردا لفرد لا يسترقه عاجل دنيا- و لا آجل منى و لا حاصل هوى- و لا سؤال و لا قصد و لا أرب- .
قال له ص بعض أصحاب الصفة- قد عزفت نفسي يا رسول الله عن الدنيا- فاستوى عندي ذهبها و حجرها قال صرت حرا- . و كان بعضهم يقول- لو صحت صلاة بغير قرآن لصحت بهذا البيت-أ تمنى على الزمان محالا أن ترى مقلتاي طلعة حر- و سئل الجنيد عمن لم يبق له من الدنيا- إلا مقدار مص نواه- فقال المكاتب عبد ما بقي عليه درهم- . و منها الذكر- قال الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا- اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراًوروى أبو الدرداء أن رسول الله ص قال أ لا أنبئكم بخير أعمالكم- و أزكاها عند خالقكم- و أرفعها في درجاتكم- و خير من إعطائكم الذهب و الفضة في سبيل الله- و من أن تلقوا عدوكم- فتضربوا أعناقهم و يضربوا أعناقكم- قالوا ما ذلك يا رسول الله قال ذكر اللهوفي الحديث المرفوع لا تقوم الساعة على أحد يقول الله الله- .
و قال أبو علي الدقاق- الذكر منشور الولاية- فمن وفق للذكر فقد أعطي المنشور- و من سلب الذكر فقد عزل- . و قيل ذكر الله تعالى بالقلب سيف المريدين- به يقاتلون أعداءهم و به يدفعون الآفات التي تقصدهم- و أن البلاء إذا أظل العبد- ففزع بقلبه إلى الله حاد عنه كل ما يكرهه- . وفي الخبر المرفوع إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا فيها- قيل و ما رياض الجنة قال مجالس الذكروفي الخبر المرفوع أنا جليس من ذكرني- . و سمع الشبلي و هو ينشد-
ذكرتك لا أني نسيتك لمحة
و أيسر ما في الذكر ذكر لساني
فكدت بلا وجد أموت من الهوى
و هام على القلب بالخفقان
فلما أراني الوجد أنك حاضري
شهدتك موجودا بكل مكان
فخاطبت موجودا بغير تكلم
و لاحظت معلوما بغير عيان
و منها الفتوة- قال سبحانه مخبرا عن أصحاب الأصنام- قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ- . و قال تعالى في أصحاب الكهف- إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَ زِدْناهُمْ هُدىً- . و قد اختلفوا في التعبير عن الفتوة ما هي- فقال بعضهم الفتوة ألا ترى لنفسك فضلا على غيرك- . و قال بعضهم الفتوة الصفح عن عثرات الإخوان- .
و قالوا إنما هتف الملك يوم أحد بقوله-لا سيف إلا ذو الفقار و لا فتى إلا علي- . لأنه كسر الأصنام- فسمي بما سمي به أبوه إبراهيم الخليل- حين كسرها و جعلها جذاذا- . قالوا و صنم كل إنسان نفسه- فمن خالف هواه فقد كسر صنمه- فاستحق أن يطلق عليها لفظ الفتوة- . و قال الحارث المحاسبي الفتوة أن تنصف و لا تنتصف- . و قال عبد الله بن أحمد بن حنبل سئل أبي عن الفتوة- فقال ترك ما تهوى لما تخشى- . و قيل الفتوة ألا تدخر و لا تعتذر- .
سأل شقيق البلخي جعفر بن محمد الصادق ع عن الفتوة- فقال ما تقول أنت- قال إن أعطينا شكرنا و إن منعنا صبرنا- قال إن الكلاب عندنا بالمدينة هذا شأنها- و لكن قل إن أعطينا آثرنا و إن منعنا شكرنا- .
و منها الفراسة- قيل في تفسير قوله تعالى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ- أي للمتفرسين- وقال النبي ص اتقوا فراسة المؤمن فإنها لا تخطئقيل الفراسة سواطع أنوار لمعت في القلوب- حتى شهدت الأشياء من حيث أشهدها الحق إياها- و كل من كان أقوى إيمانا كان أشد فراسة- . و كان يقال- إذا صحت الفراسة ارتقى منها صاحبها إلى المشاهدة- .
و منها حسن الخلق و هو من صفات العارفين- فقد أثنى الله تعالى به على نبيه- فقال وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ وقيل له ص- أي المؤمنين أفضل إيمانا- فقال أحسنهم خلقا و بالخلق تظهر جواهر الرجال- و الإنسان مستور بخلقه مشهور بخلقه- .
و قال بعضهم- حسن الخلق استصغار ما منك و استعظام ما إليك- . وقال النبي ص إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم- فسعوهم بأخلاقكم- . قيل لذي النون- من أكبر الناس هما قال أسوؤهم خلقا- . و كان يقال- ما تخلق أحد أربعين صباحا بخلق إلا صار ذلك طبيعة فيه- . قال الحسن في قوله تعالى وَ ثِيابَكَ فَطَهِّرْ- أي و خلقك فحسن- . شتم رجل الأحنف بن قيس و جعل يتبعه و يشتمه- فلما قرب الحي وقف- و قال يا فتى إن كان قد بقي في قلبك شيء فقله- كيلا يسمعك سفهاء الحي فيجيبوك- .
و يقال إن معروفا الكرخي نزل دجلة ليسبح- و وضع ثيابه و مصحفه- فجاءت امرأة فاحتملتهما فتبعها- و قال أنا معروف الكرخي فلا بأس عليك- أ لك ابن يقرأ قالت لا- قال أ فلك بعل قالت لا- قال فهاتي المصحف و خذي الثياب- . قيل لبعضهم ما أدب الخلق- قال ما أدب الله به نبيه- في قوله خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ يقال إن في بعض كتب النبوات القديمة يا عبدي اذكرني حين تغضب- أذكرك حين أغضب- .
قالت امرأة لمالك بن دينار يا مرائي- فقال لقد وجدت اسمي الذي أضله أهل البصرة- . قال بعضهم و قد سئل عن غلام سوء له لم يمسكه- قال أ تعلم عليه الحلم- . و كان يقال ثلاثة لا يعرفون إلا عند ثلاثة- الحليم عند الغضب و الشجاع عند الحرب- و الصديق عند الحاجة إليه- . و قيل في تفسير قوله تعالى- وَ أَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَ باطِنَةً- الظاهرة تسوية الخلق و الباطنة تصفية الخلق- . الفضيل لأن يصحبني فاجر حسن الخلق أحب إلي- من أن يصحبني عابد سيئ الخلق- . خرج إبراهيم بن أدهم إلى بعض البراري- فاستقبله جندي فسأله أين العمران- فأشار إلى المقبرة فضرب رأسه فشجه و أدماه- فلما جاوزه قيل له- إن ذلك إبراهيم بن أدهمزاهد خراسان- فرد إليه يعتذر- فقال إبراهيم- إنك لما ضربتني سألت الله لك الجنة- .
قال لم سألت ذلك- قال علمت أني أوجر على ضربك لي- فلم أرد أن يكون نصيبي منك الخير و نصيبك مني الشر- . و قال بعض أصحاب الجنيد- قدمت من مكة- فبدأت بالشيخ كي لا يتعنى إلي فسلمت عليه- ثم مضيت إلى منزلي- فلما صليت الصبح في المسجد- إذا أنا به خلفي في الصف- فقلت إنما جئتك أمس لئلا تتعنى- فقال ذلك فضلك و هذا حقك- .
كان أبو ذر على حوض يسقي إبله- فزاحمه إنسان فكسر الحوض- فجلس أبو ذر ثم اضطجع فقيل له في ذلك- فقال أمرنا رسول الله ص- إذا غضب الرجل و هو قائم فليجلس فإن ذهب عنه- و إلا فليضطجع- . دعا إنسان بعض مشاهير الصوفية إلى ضيافة- فلما حضر باب داره رده و اعتذر إليه- ثم فعل به مثل ذلك و ثانية و ثالثة- و الصوفي لا يغضب و لا يضجر- فمدحه ذلك الإنسان و أثنى عليه بحسن الخلق- فقال إنما تمدحني على خلق تجد مثله في الكلب- إن دعوته حضر و إن زجرته انزجر- .
مر بعضهم وقت الهاجرة بسكة- فألقى عليه من سطح طست رماد- فغضب من كان في صحبته فقال لا تغضبوا- من استحق أن يصب عليه النار فصولح على الرماد- لم تجز له أن يغضب- . كان لبغض الخياطين جار يدفع إليه ثيابا فيخيطها- و يدفع إليه أجرتها دراهم زيوفا- فيأخذها فقام يوما من حانوته و استخلف ولده- فجاء الجار بالدراهم الزائفة- فدفعها إلى الولد فلم يقبلها فأبدلها بدراهم جيدة- فلما جاء أبوه دفع إليه الدراهم- فقال ويحك هل جرى بينك و بينه أمر قال نعم- إنه أحضر الدراهم زيوفا فرددتها فأحضر هذه-فقال بئس ما صنعت- إنه منذ كذا و كذا سنة يعاملني بالزائف و أصبر عليه- و ألقيها في بئر كي لا يغر غيري بها و قيل الخلق السيئ هو أن يضيق قلب الإنسان- عن أن يتسع لغير ما تحبه النفس و تؤثره- كالمكان الضيق لا يسع غير صاحبه- . و كان يقال- من سوء الخلق أن تقف على سوء خلق غيرك و تعيبه به- .
قيل لرسول الله ادع الله على المشركين- فقال إنما بعثت رحمة و لم أبعث عذابادعا علي ع غلاما له مرارا و هو لا يجيبه- فقام إليه فقال أ لا تسمع يا غلام قال بلى- قال فما حملك على ترك الجواب- قال أمني لعقوبتك قال اذهب فأنت حر- .
و منها الكتمان-قال رسول الله ص استعينوا على أموركم بالكتمان- . و قال السري علامة الحب الصبر و الكتمان- و من باح بسرنا فليس منا- . و قال الشاعر-
كتمت حبك حتى منك تكرمة
ثم استوى فيك إسراري و إعلاني
كأنه غاض حتى فاض عن جسدي
فصار سقمي به في جسم كتماني
و هذا ضد ما يذهب إليه القوم من الكتمان- و هو عذر لأصحاب السر و الإعلان- و كان يقال المحبة فاضحة و الدمع نمام- . و قال الشاعر-
لا جزى الله دمع عيني خيرا
و جزى الله كل خير لساني
فاض دمعي فليس يكتم شيئا
و وجدت اللسان ذا كتمان
يقال إن بعض العارفين- أوصى تلميذه بكتمان ما يطلع عليه من الحال- فلما شاهد الأمر غلب- فكان يطلع في بئر في موضع خال فيحدثها بما يشاهد- فنبتت في تلك البئر شجرة- سمع منها صوت يحكي كلام ذلك التلميذ- كما يحكي الصدا كلام المتكلم- فأسقط بذلك من ديوان الأولياء- . و أنشدوا-
أبدا تحن إليكم الأرواح
و وصالكم ريحانها و الراح
و قلوب أهل ودادكم تشتاقكم
و إلى لقاء جمالكم ترتاح
وا رحمة للعاشقين تحملوا
ثقل المحبة و الهوى فضاح
بالسر إن باحوا تباح دماؤهم
و كذا دماء البائحين تباح
و قال الحسين بن منصور الحلاج
إني لأكتم من علمي جواهره
كي لا يرى العلم ذو جهل فيفتننا
و قد تقدمني فيه أبو حسن
إلى الحسين و أوصى قبله الحسنا
يا رب مكنون علم لو أبوح به
لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا
و لاستحل رجال صالحون دمي
يرون أقبح ما يأتونه حسنا
و منها الجود و السخاء و الإيثار- قال الله تعالى وَ يُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَ لَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وقال النبي ص السخي قريب من الله قريب من الناس-و البخيل بعيد من الله بعيد من الناس- و أن الجاهل السخي أحب إلى الله من العابد البخيل- .
قالوا لا فرق بين الجود و السخاء في اصطلاح أهل العربية- إلا أن الباري سبحانه لا يوصف بالسخاء- لأنه يشعر بسماح النفس عقيب التردد في ذلك- و أما في اصطلاح أرباب هذه الطريقة- فالسخاء هو الرتبة الأولى و الجود بعده ثم الإيثار- فمن أعطى البعض و أبقى البعض فهو صاحب السخاء- و من أعطى الأكثر و أبقى لنفسه شيئا فهو صاحب الجود- و الذي قاسى الضراء و آثر غيره بالبلغة فهو صاحب الإيثار- .
قال أسماء بن خارجة الفزاري- ما أحب أن أرد أحدا عن حاجة طلبها- إن كان كريما صنت عرضه عن الناس- و إن كان لئيما صنت عنه عرضي- . كان مؤرق العجلي يتلطف في بر إخوانه- يضع عندهم ألف درهم و يقول أمسكوها حتى أعود إليكم- ثم يرسل إليهم أنتم منها في حل- . و كان يقال الجود إجابة الخاطر الأول- . و كان أبو الحسن البوشنجي في الخلاء فدعا تلميذا له- فقال انزع عني هذا القميص و ادفعه إلى فلان- فقيل له هلا صبرت فقال لم آمن على نفسي- أن تغير علي ما وقع لي من التخلق معه بالقميص- .
رئي علي ع يوما باكيا فقيل له لم تبكي- فقال لم يأتني ضيف منذ سبعة أيام- أخاف أن يكون الله قد أهانني- . أضاف عبد الله بن عامر رجلا فأحسن قراه- فلما أراد أن يرتحل لم يعنه غلمانه فسئل عن ذلك- فقال إنهم إنما يعينون من نزل علينا- لا من ارتحل عنا- . و منها الغيرة-قال رسول الله ص لا أحد أغير من الله- إنما حرم الفواحش ما ظهر منها و ما بطن لغيرتهوفي حديث أبي هريرة أن الله ليغار و أن المؤمن ليغارقال و الغيرة هي كراهية المشاركة فيما هو حقك- . و قيل الغيرة الأنفة و الحمية- .
و حكي عن السري أنه قرئ بين يديه- وَ إِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ- جَعَلْنا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً- فقال لأصحابه أ تدرون ما هذا الحجاب- هذا حجاب الغيرة و لا أحد أغير من الله- . قالوا و معنى حجاب الغيرة- أنه لما أصر الكافرون على الجحود- عاقبهم بأن لم يجعلهم أهلا لمعرفة أسرار القرآن- . و قال أبو علي الدقاق- إن أصحاب الكسل عن عبادته- هم الذين ربط الحق بأقدامهم مثقلة الخذلان- فاختار لهم البعد و أخرهم عن محل القرب- و لذلك تأخروا- . و في معناه أنشدوا فقالوا-
أنا صب بمن هويت و لكن
ما احتيالي في سوء رأي الموالي
و في معناه قالوا سقيم لا يعاد و مريد لا يراد- . و كان أبو علي الدقاق- إذا وقع شيء في خلال المجلس يشوش قلوب الحاضرين- يقول هذا من غيرة الحق- يريد به ألا يتم ما أملناه من صفاء هذا الوقت- . و أنشدوا في معناه-
همت بإتياننا حتى إذا نظرت إلى المرأة نهانا وجهها الحسن- . و قيل لبعضهم أ تريد أن تراه قال لا- قيل لم قال أنزه ذلك الجمال عن نظر مثلي- و في معناه أنشدوا-
إني لأحسد ناظري عليك
حتى أغض إذا نظرت إليك
و أراك تخطر في شمائلك
التي هي فتنتي فأغار منك عليكا
و سئل الشبلي متى تستريح- قال إذا لم أر له ذاكرا- . و قال أبو علي الدقاق فيقول النبي ص عند مبايعته فرسا من أعرابي- و أنه استقاله فأقاله- فقال الأعرابي عمرك الله فمن أنت- قال ص أنا امرؤ من قريش- فقال بعض الصحابة من الحاضرين للأعرابي- كفاك جفاء ألا تعرف نبيك- فكان أبو علي يقول إنما قال امرؤ من قريش- غيرة و نوعا من الأنفة- و إلا فقد كان الواجب عليه- أن يتعرف لكل أحد أنه من هو- لكن الله سبحانه أجرى على لسان ذلك الصحابي- التعريف للأعرابي بقوله كفاك جفاء ألا تعرف نبيك- .
و قال أصحاب الطريقة- مساكنة أحد من الخلق للحق في قلبك- توجب الغيرة منه تعالى- . أذن الشبلي مرة فلما انتهى إلى الشهادتين- قال و حقك لو لا أنك أمرتني ما ذكرت معك غيرك- . و سمع رجل رجلا يقول جل الله- فقال أحب أن تجله عن هذا- . و كان بعض العارفين يقول- لا إله إلا الله من داخل القلب- محمد رسول الله من قرط الأذن- . و قيل لأبي الفتوح السهروردي- و قد أخذ بحلب ليصلب على خشبة- ما الذي أباحهم هذا منك- قال إن هؤلاء دعوني- إلى أن أجعل محمدا شريكا لله في الربوبية- فلم أفعل فقتلوني- .
و منها التفويض– قال الله تعالى وَ عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ- وَ عَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ- وَ اللَّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ- فاستوقف من عقل أمره عن الاقتراح عليه- و أفهمه ما يرضاه به من التفويض إليه- فالعاقل تارك للاقتراح على العالم بالصلاح- .
و قال تعالى فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً- وَ يَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً- فبعث على تأكيد الرجاء بقوله خَيْراً كَثِيراً- . و لما فوض مؤمن آل فرعون أمره إلى الله فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا- وَ حاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ- كما ورد في الكتاب العزيز- . و حقيقة التفويض هي التسليم لأحكام الحق سبحانه- و إلى ذلك وقعت الإشارة بقوله تعالى- قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا- هُوَ مَوْلانا وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ- فأس التفويض و الباعث عليه- هو اعتقاد العجز عن مغالبة القدر- و أنه لا يكون في الخير و الشر- أعني الرخص و الصحة و سعة الرزق و البلايا- و الأمراض و العلل و ضيق الرزق- إلا ما أراد الله تعالى كونه- و لا يصح التفويض ممن لم يعتقد ذلك و لم يعلمه علم اليقين- .
و قد بالغ النبي ص في التصريح به- و النص عليهبقوله لعبد الله بن مسعود ليقل همك ما قدر أتاك و ما لم يقدر لم يأتك- و لو جهد الخلق أن ينفعوك بشيء- لم يكتبه الله لك لم يقدروا عليه- و لو جهدوا أن يضروك بشيء- لم يكتبه الله عليك لم يقدروا على ذلكوفي صحيح مسلم بن الحجاج أنه قال لأبي هريرة في كلام له فإن أصابك شيء فلا تقل- لو فعلت كذا لكان كذا- فإن لو تفتح عمل الشيطان- و لكن قل ما قدر الله و ما شاء فعلوفي صحيح مسلم أيضا عن البراء بن عازب إذا أخذت مضجعك فقل كذا- إلى أن قال- وجهت وجهي إليك و ألجأت ظهري إليك- رغبة و رهبة إليك لا منجى و لا ملجأ منك إلا إليك- .
و كان يقال معارضة المريض طبيبه توجب تعذيبه- و كان يقال إنما الكيس الماهر من أمسى في قبضة القاهر- . و كان يقال إذا كانت مغالبة القدر مستحيلة- فما من أعوان تقوده إلى الحيلة- . و كان يقال إذا التبست المصادر ففوض إلى القادر- . و كان يقال- من الدلالة على أن الإنسان مصرف مغلوب- و مدبر مربوب- أن يتبلد رأيه في بعض الخطوب- و يعمى عليه الصواب المطلوب- . و إذا كان كذلك- فربما كان تدميره في تدبيره و اغتياله من احتياله- و هلكته من حركته- . و في ذلك أنشدوا-
أيا من يعول في المشكلات
على ما رآه و ما دبره
إذا أعضل الأمر فافزع به
إلى من يرى منه ما لم تره
تكن بين عطف يقيل الخطوب
و لطف يهون ما قدره
إذا كنت تجهل عقبى الأمور
و ما لك حول و لا مقدره
فلم ذا العنا و علام الأسى
و مم الحذار و فيم الشره
و أنشدوا في هذا المعنى-
يا رب مغتبط و مغبوط
بأمر فيه هلكه
و منافس في ملك ما
يشقيه في الدارين ملكه
علم العواقب دونه
ستر و ليس يرام هتكه
و معارض الأقدار بالآراء
سيئ الحال ضنكه
فكن امرأ محض اليقين
و زيف الشبهات سبكه
تفويضه توحيده
و عناده المقدار شركه
و منها الولاية و المعرفة و قد تقدم القول فيهما- .
و منها الدعاء و المناجاة– قال الله تعالى ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ وفي الحديث المرفوع الدعاء مخ العبادة- . و قد اختلف أرباب هذا الشأن في الدعاء- فقال قوم الدعاء مفتاح الحاجة- و مستروح أصحاب الفاقات- و ملجأ المضطرين و متنفس ذوي المآرب- . و قد ذم الله تعالى قوما فقال وَ يَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ- فسروه و قالوا لا يمدونها إليه في السؤال- .
و قال سهل بن عبد الله التستري- خلق الله الخلق و قال تاجروا في- فإن لم تفعلوا فاسمعوا مني- فإن لم تفعلوا فكونوا ببابي- فإن لم تفعلوا فأنزلوا حاجاتكم بي- . قالوا و قد أثنى الله على نفسه- فقال أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ- قالوا الدعاء إظهار فاقة العبودية- .
و قال أبو حاتم الأعرج- لأن أحرم الدعاء أشد علي من أن أحرم الإجابة- . و قال قوم- بل السكوت و الخمود تحت جريان الحكم- و الرضا بما سبق من اختيار الحكيم- العالم بالمصالح أولى- و لهذا قال الواسطي اختيار ما جرى لك في الأزل- خير لك من معارضة الوقت- . وقال النبي ص إخبارا عن الله تعالى من شغله ذكري عن مسألتي- أعطيته أفضل ما أعطي السائلين- .
و قال قوم يجب أن يكون العبد صاحب دعاء بلسانه- و صاحب رضا بقلبه ليأتي بالأمرين جميعا- . و قال قوم إن الأوقات تختلف- ففي بعض الأحوال يكون الدعاء أفضل من السكوت- و في بعض الأحوال يكون بالعكس- و إنما يعرف هذا في الوقت- لأن علم الوقت يحصل في الوقت- فإذا وجد في قلبه الإشارة إلى الدعاء فالدعاء أولى- و إن وجد بقلبه الإشارة إلى السكوت- فالسكوت له أتم و أولى- .
وجاء في الخبر أن الله يبغض العبد فيسرع إجابته بغضا لسماع صوته- و أنه يحب العبد فيؤخر إجابته حبا لسماع صوته- . و من أدب الدعاء حضور القلب-فقد روي عنه ص أن الله لا يستجيب دعاء قلب لاه- . و من شروط الإجابة طيب الطعمة و حل المكسب-قال ص لسعد بن أبي وقاص أطب كسبك تستجب دعوتك- .
و ينبغي أن يكون الدعاء بعد المعرفة-قيل لجعفر بن محمد الصادق ع- ما بالنا ندعو فلا يستجاب لنا- قال لأنكم تدعون من لا تعرفونه- . كان صالح المري يقول كثيرا- ادعوا فمن أدمن قرع الباب يوشك أن يفتح له- فقالت له رابعة العدوية ما ذا تقول- أغلق هذا الباب حتى يستفتح- فقال صالح شيخ جهل و امرأة علمت- . و قيل فائدة الدعاء إظهار الفاقة من الخلق- و إلا فالرب يفعل ما يشاء- .
و قيل دعاء العامة بالأقوال و دعاء العابد بالأفعال- و دعاء العارف بالأحوال- . و قيل خير الدعاء ما هيجه الأحزان و الوجد- . و قيل أقرب الدعاء إلى الإجابة دعاء الاضطرار- لقوله تعالى أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ- . قال أصحاب هذه الطريقة- ألسنة المبتدءين أرباب الإرادة منطلقة بالدعاء- و ألسنة المحققين الواصلين قد خرست عن ذلك- . و كان عبد الله بن المبارك يقول- ما دعوته منذ خمسين سنة- و لا أريد أن يدعو لي أحد- .
و قيل الدعاء سلم المذنبين- . و قال من قال بنقيض هذا الدعاء مراسلة- و ما دامت المراسلة باقية فالأمر جميل بعد- . و قالوا ألسنة المذنبين دموعهم- . و كان أبو علي الدقاق يقول- إذا بكى المذنب فقد راسل الله- . و في معناه أنشدوا
دموع الفتى عما يجن تترجم و أنفاسه تبدين ما القلب يكتم- .
و قال بعضهم لبعض العارفين ادع لي- فقال كفاك من الإجابة ألا تجعل بينك و بينه واسطة- . و منها التأسي- قال سبحانه لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ- أي في مصابه و ما نيل منه في نفسه و في أهله يوم أحد- فلا تجزعوا أن أصيب بعضكم- . وجاء في الحديث المرفوع لا تنظروا إلى من فوقكم- و انظروا إلى من دونكم- فإنه أجدر ألا تزدروا نعم الله عليكم- . و قالت الخنساء ترثى أخاها-
و لو لا كثرة الباكين حولي
على إخوانهم لقتلت نفسي
و ما يبكون مثل أخي و لكن
أعزي النفس عنه بالتأسي
و حقيقة التأسي- تهوين المصائب و النوائب على النفس- بالنظر إلى ما أصاب أمثالك- و من هو أرفع محلا منك- . و قد فسر العلماء قوله تعالى- وَ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ- أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ- قال إنه لا يهون على أحد من أهل النار عذابه- و إن تأسى بغيره من المعذبين- لأن الله تعالى جعل لهم التأسي نافعا في الدنيا- و لم يجعله نافعا لأهل النار مبالغة في تعذيبهم- و نفيا لراحة تصل إليهم- .
و منها الفقر و هو شعار الصالحين-قال رسول الله ص اللهم أحيني مسكينا و أمتني مسكينا- و احشرني مع المساكين
– . قال لعلي ع- إن الله قد زينك بزينة لم يزين العباد بأحسن منها- وهب لك حب المساكين- فجعلك ترضى بهم أتباعا و يرضون بك إماما- .
وجاء في الخبر المرفوع الفقراء الصبر جلساء الله يوم القيامة- . و سئل يحيى بن معاذ عن الفقر- فقال ألا تستغني إلا بالله- . وقال أبو الدرداء لأن أقع من فوق قصر فأتحطم- أحب إلي من مجالسة الغني- لأني سمعت رسول الله ص يقول- إياكم و مجالسة الموتى- فقيل له و ما الموتى قال الأغنياء- . قيل للربيع بن خثيم قد غلا السعر- قال نحن أهون على الله من أن يجيعنا- إنما يجيع أولياءه- .
و قيل ليحيى بن معاذ ما الفقر قال خوف الفقر- . و قال الشبلي أدنى علامات الفقير- أن لو كانت الدنيا بأسرها لواحد فأنفقها في يوم واحد- ثم خطر بباله لو أمسكت منها قوت يوم آخر- لم يصدق في فقره- . سئل ابن الجلاء عن الفقر فسكت ثم ذهب قليلا- و عاد فقال كانت عندي أربعة دوانيق فضة- فاستحييت من الله أن أتكلم في الفقر و هي عندي- فذهبت فأخرجتها ثم قعد فتكلم في الفقر- . و قال أبو علي الدقاق في تفسيرقوله ص من تواضع لغني ذهب ثلثا دينه- إن المرء بقلبه و لسانه و جوارحه- فمن تواضع لغني بلسانه و جوارحه ذهب ثلثا دينه- فإن تواضع له مع ذلك بقلبه ذهب دينه كله- .
و منها الأدب– قالوا في تفسير قوله تعالى ما زاغَ الْبَصَرُ وَ ما طَغى- حفظ أدب الحضرة- . قيل إنه ع لم يمد نظره فوق المقام- الذي أوصل إليه ليلة شاهد السدرة- و هي أقصى ما يمكن أن ينتهي إليه البشريون- . وفي الحديث المرفوع أدبني ربي فأحسن تأديبيو قيل إن الجنيد لم يمد رجله في الخلوة عشرين سنة- و كان يقول الأدب مع الله أولى من الأدب مع الخلق- .
و قال أبو علي الدقاق- من صاحب الملوك بغير أدب أسلمه الجهل إلى القتل- . ومن كلامه ع ترك الأدب يوجب الطرد- فمن أساء الأدب على البساط رد إلى الباب- و من أساء الأدب على الباب رد إلى ساحة الدواب- . و قال عبد الله بن المبارك- قد أكثر الناس في الأدب- و عندي أن الأدب معرفة الإنسان بنفسه- . و قال الثوري من لم يتأدب للوقت فوقته مقت- .
و قال أبو علي الدقاق في قوله تعالى حكاية عن أيوب- إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ- قال لم يقل فارحمني لأنه حفظ آداب الخطاب- و كذلك قال في قول عيسى- إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ- قال لم يقل لم أقل رعاية لأدب الحضرة- .
و منها المحبة و هي مقام جليل- قالوا المحبة أن تهب كلك لمن أحببت- فلا يبقى لك منك شيء- . قيل لبعض العرب ما وجدت من حب فلانة- قال أرى القمر على جدارها أحسن منه على جدران الناس- . و قال أبو عبد الرحمن السلمي- المحبة أن تغار على محبوبك أن يحبه غيرك- . و قال النصرآباذي المحبة نوعان- نوع يوجب حقن الدماء و نوع يوجب سفك الدماء- . و قال يحيى بن معاذ- المحبة الخالصة ألا تنقص بالجفاء و لا تزيد بالبر- . و قيل للنصرآباذي كيف حالك في المحبة- قال عدمت وصال المحبين- و رزقت حسراتهم فهو ذا أنا أحترق فيها- ثم قال المحبة مجانبة السلو على كل حال- . و أنشدوا-
و من كان في طول الهوى ذاق
سلوة فإني من ليلى لها غير ذائق
و أكثر شيء نلته من وصالها
أماني لم تصدق كلمحة بارق
وجاء في الحديث المرفوع المرء مع من أحب- و لما سمع سمنون هذا الخبر- قال فاز المحبون بشرف الدنيا و الآخرة- لأنهم مع الله تعالى- . وفي الحديث المرفوع لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله و رسوله- و يحبه الله و رسوله
و هذا يتجاوز حد الجلالة و الشرف- . و كان يقال الحب أوله ختل و آخره قتل- . قيل كتب يحيى بن معاذ إلى أبي يزيد- سكرت من كثرة ما شربت من محبته- فكتب إليه أبو زيد- غيرك شرب بحور السموات و الأرض- و ما روي بعد و لسانه خارج و هو يقول هل من مزيد- .و أنشد-
عجبت لمن يقول ذكرت حبي
و هل أنسى فأذكر ما نسيت
شربت الحب كأسا بعد كأس
فما نفد الشراب و لا رويت
و قيل المحبة سكر لا يصحو صاحبه إلا بمشاهدة محبوبه- ثم السكر الذي يحصل عند المشاهدة لا يوصف- . و أنشدوا-
فأسكر القوم دور كأس
و كان سكري من المدير
و منها الشوق-جاء في الخبر المرفوع أن الجنة لتشتاق إلى ثلاثة- علي و سلمان و عمار- . الشوق مرتبة من مراتب القوم- و مقام من مقاماتهم- سئل ابن عطاء الشوق أعلى أم المحبة- فقال المحبة لأن الشوق منها يتولد- . ومن الأدعية النبوية المأثورة- الدعاء الذي كان يدعو به عمار بن ياسر رضي الله عنه اللهم بعلمك بالغيب و قدرتك على الخلق- أحيني ما علمت الحياة خيرا لي- و توفني ما كانت الوفاة خيرا لي- اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب و الشهادة- و أسألك كلمة الحق في الرضا و الغضب- و أسألك القصد في الغنى و الفقر- و أسألك نعيما لا يبيد و قرة عين لا تنقطع- و أسألك الرضا بعد القضاء و برد العيش بعد الموت- و أسألك النظر إلى وجهك- و الشوق إلى لقائك من غير ضراء مضرة- اللهم زينا بزينة الإيمان و اجعلنا هداة مهتدين- . قالوا الشوق احتياج القلب إلى لقاء المحبوب- و على قدر المحبة يكون الشوق- و علامة الشوق حب الموت- .
و هذا هو السر في قوله تعالى- فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ- أي أن من كان صاحب محبة يتمنى لقاء محبوبه- فمن لا يتمنى ذلك لا يكون صادق المحبة- . قيل لبعض الصوفية هل تشتاق إليه- فقال إنما الشوق إلى غائب و هو حاضر لا يغيب- . و قالوا في قوله تعالى- مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ- إنه تطيب لقلوب المشتاقين- .
و
يقال إنه مكتوب في بعض كتب النبوات القديمة شوقناكم فلم تشتاقوا- و زمرنا لكم فلم ترقصوا- و خوفناكم فلم ترهبوا و نحنا لكم فلم تحزنواوقيل إن شعيبا بكى حتى عمي فرد الله إليه بصره- ثم بكى حتى عمي فرد عليه بصره ثم كذلك ثلاثا- فقال الله تعالى- إن كان هذا البكاء شوقا إلى الجنة فقد أبحتها لك- و إن كان خوفا من النار فقد أجرتك منها- فقال و حقك لا هذا و لا هذا و لكن شوقا إليك- فقال له لأجل ذلك أخدمتك نبيي و كليمي عشر سنين
– .
و منها الزهد و رفض الدنيا– قال سبحانه- وَ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ- زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا و
جاء في الخبر أن يوسف ع كان يجوع في سني الجدب- فقيل له أ تجوع و أنت على خزائن مصر- فقال أخاف أن أشبع فأنسى الجياعو كذلك قال علي ع و قد قيل له أ هذا لباسك- و هذا مأكولك و أنت أميرالمؤمنين- فقال نعم إن الله فرض على أئمة العدل- أن يقدروا لأنفسهم كضعفة الناس- كيلا يتبيغ بالفقير فقره- . و منع عمر بن الخطاب نفسه عام الرمادة الدسم- و قال لا آكله حتى يصيبه المسلمون جميعا- . و كان عمر بن عبد العزيز من أكثر الناس تنعما- قبل أن يلي الخلافة- قومت ثيابه حينئذ بألف دينار- و قومت و هو يخطب الناس أيام خلافته بثلاثة دراهم- .
و اعلم أن بعض هذه المراتب و المقامات- التي ذكرناها للقوم قد يكون متداخلا في الظاهر- و له في الباطن عندهم فرق يعرفه من يأنس بكتبهم- و قد أتينا في تقسيم مراتبهم- و تفصيل مقاماتهم في هذا الفصل بما فيه كفاية
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 11