و من كلام له عليه السّلام فى ذم اختلاف العلماء في الفتيا
تَرِدُ عَلَى أَحَدِهِمُ الْقَضِيَّةُ فِي حُكْمٍ مِنَ الْأَحْكَامِ- فَيَحْكُمُ فِيهَا بِرَأْيِهِ- ثُمَّ تَرِدُ تِلْكَ الْقَضِيَّةُ بِعَيْنِهَا عَلَى غَيْرِهِ- فَيَحْكُمُ فِيهَا
بِخِلَافِ قَوْلِهِ- ثُمَّ يَجْتَمِعُ الْقُضَاةُ بِذَلِكَ عِنْدَ الْإِمَامِ الَّذِي اسْتَقْضَاهُمْ- فَيُصَوِّبُ آرَاءَهُمْ جَمِيعاً وَ إِلَهُهُمْ وَاحِدٌ- وَ نَبِيُّهُمْ وَاحِدٌ وَ
كِتَابُهُمْ وَاحِدٌ- أَ فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِالِاخْتِلَافِ فَأَطَاعُوهُ- أَمْ نَهَاهُمْ عَنْهُ فَعَصَوْهُ أَمْ أَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ دِيناً نَاقِصاً- فَاسْتَعَانَ
بِهِمْ عَلَى إِتْمَامِهِ- أَمْ كَانُوا شُرَكَاءَ لَهُ فَلَهُمْ أَنْ يَقُولُوا وَ عَلَيْهِ أَنْ يَرْضَى- أَمْ أَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ دِيناً تَامّاً- فَقَصَّرَ الرَّسُولُ ص
عَنْ تَبْلِيغِهِ وَ أَدَائِهِ- وَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ يَقُولُ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ- وَ فِيهِ تِبْيَانُ كُلِّ لِكُلِّ شَيْءٍ- وَ ذَكَرَ أَنَّ الْكِتَابَ
يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضاً- وَ أَنَّهُ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ- فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ- لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً- وَ إِنَّ الْقُرْآنَ
ظَاهِرُهُ أَنِيقٌ وَ بَاطِنُهُ عَمِيقٌ- لَا تَفْنَى عَجَائِبُهُ وَ لَا تَنْقَضِي غَرَائِبُهُ- وَ لَا تُكْشَفُ الظُّلُمَاتُ إِلَّا بِه
اللغة
أقول: الأنيق الحسن المعجب،
المعنى
و في هذا الكلام تصريح بأنّه عليه السّلام كان يرى أنّ الحقّ في جهة و أن ليس كلّ مجتهد مصيبا، و هذه المسألة ممّا انتشر الخلاف فيها بين علماء أصول الفقه فمنهم من يرى أنّ كلّ مجتهد مصيب إذا راعى شرائط الاجتهاد و أنّ الحقّ بالنسبة إلى كلّ واحد من المجتهدين ما أدّى إليه اجتهاده و غلب في ظنّه فجاز أن يكون في جهتين أو جهات و عليه الإمام الغزّاليّ- رحمه اللّه- و جماعة من الاصوليّين، و منهم من ينكر ذلك و يرى أنّ الحقّ في جهة و المصيب له واحد و عليه اتّفاق الشيعة و جماعة من غيرهم، و ربّما فصّل بعضهم. و المسألة مستقصاة في اصول الفقه. و اعلم أنّ قوله ترد على أحدهم القضيّة إلى قوله فيصوّب آرائهم جميعا بيان لصورة حالهم الّتي ينكرها، و قوله و إلههم واحد و كتابهم واحد و نبيّهم واحد شروع في دليل بطلان ما يرونه، و هذه هي المقدّمة الصغرى من قياس الضمير، و تقدير كبراه و كلّ قوم كانوا كذلك فلا يجوز لهم أن يختلفوا في حكم شرعيّ، و قوله أ فأمرهم اللّه سبحانه بالاختلاف فأطاعوه إلى آخره حجّة في تقدير المقدّمة الكبرى إذ الصغرى مسلّمة، و تقريرها أنّ ذلك الاختلاف إمّا أن يكون بأمر من اللّه أطاعوه فيه، أو بنهي منه عصى فيه، أو بسكوت منه عن الأمرين، و على التقدير الثالث فجواز اختلافهم في دينه و الحاجة إلى ذلك إمّا أن يكون مع نقصانه أو مع تمامه و تقصير الرسول في أدائه، و على الوجه الأوّل فذلك الاختلاف إنّما يجوز على أحد وجهين: أحدهما أن يكون إتماما لذلك النقصان أو على وجه أعمّ من ذلك و هو كونهم شركاؤه في الدين فعليه أن يرضى بما يقولون و لهم أن يقولوا إذ شأن الشريك ذلك فهذه وجوه خمسة، و حصر الأقسام الثلاثة الأخير ثابت بحسب استقراء وجوه الحاجة إلى الاختلاف و الأقسام كلّها باطلة و أشار إلى بطلانها ببقيّة الكلام: أمّا بطلان الأوّل فلأنّ مستند الدين هو كتاب اللّه تعالى و معلوم أنّه يصدّق بعضه بعضا و أنّه لا اختلاف فيه و لا يتشعّب عنه من الأقوال و الأحكام إلّا ما يكون كذلك و لا شيء من أقوالهم المختلفة كذلك فينتج أنّه لا شيء ممّا استند إلى كتاب اللّه تعالى بقول لهم فلا يكون أقوالهم من الدين، و أمّا بطلان القسم الثاني فلأنّ عدم جواز المعصية للّه بالاختلاف مستلزم لعدم جواز الاختلاف و هو غنيّ عن الدليل، و أمّا بطلان الثالث و هو نقصان دين اللّه فلقولهتعالى «ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ»«» و قوله «وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ»«» و أمّا الرابع و الخامس فطاهر البطلان فلا يمكنهم دعواهما فلذلك لم يورد في بطلانهما حجّة ثمّ أردف بتنبيههم على أنّ الكتاب واف بجميع المطالب إذا تدبّروا معناه و لاحظوا أسراره و تطّلعوا على غوامضه فيحرم عليهم أن يتسرّعوا إلى قول ما لم يستند إليه و ذلك في قوله ظاهره أنيق حسن معجب بأنواع البيان و أصنافه و باطنه عميق لا ينتهى إلى جواهر أسراره إلّا اولو الألباب، و من ايّد من اللّه بالحكمة و فصل الخطاب و لا تفني الامور المعجبة منه و لا تنقضي النكت الغريبة فيه على توارد صوارم الأذهان و خواطف الأبصار و لا تكشف ظلمات الشبه الناشئة من ظلمة الجهل إلّا بسواطع أنواره و لوامع أسراره و قد راعى في هذه القرائن الأربع السجع المتوازي و باللّه التوفيق.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم)، ج 1 ، صفحهى 321