و من خطبة له عليه السّلام لما بويع بالمدينة
القسم الأول
ذِمَّتِي بِمَا أَقُولُ رَهِينَةٌ وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ- إِنَّ مَنْ صَرَّحَتْ لَهُ الْعِبَرُ عَمَّا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْمَثُلَاتِ- حَجَزَتْهُ التَّقْوَى عَنْ تَقَحُّمِ الشُّبُهَاتِ- أَلَا وَ إِنَّ بَلِيَّتَكُمْ قَدْ عَادَتْ كَهَيْئَتِهَا يَوْمَ بَعَثَ اللَّهُ نَبِيَّهُ- ص وَ الَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ لَتُبَلْبَلُنَّ بَلْبَلَةً- وَ لَتُغَرْبَلُنَّ غَرْبَلَةً وَ لَتُسَاطُنَّ سَوْطَ الْقِدْرِ- حَتَّى يَعُودَ أَسْفَلُكُمْ أَعْلَاكُمْ وَ أَعْلَاكُمْ أَسْفَلَكُمْ- وَ لَيَسْبِقَنَّ سَابِقُونَ كَانُوا قَصَّرُوا- وَ لَيُقَصِّرَنَّ سَبَّاقُونَ كَانُوا سَبَقُوا- وَ اللَّهِ مَا كَتَمْتُ وَشْمَةً وَ لَا كَذَبْتُ كِذْبَةً- وَ لَقَدْ نُبِّئْتُ بِهَذَا الْمَقَامِ وَ هَذَا الْيَوْمِ- أَلَا وَ إِنَّ الْخَطَايَا خَيْلٌ شُمُسٌ حُمِلَ عَلَيْهَا أَهْلُهَا- وَ خُلِعَتْ لُجُمُهَا فَتَقَحَّمَتْ بِهِمْ فِي النَّارِ- أَلَا وَ إِنَّ التَّقْوَى مَطَايَا ذُلُلٌ حُمِلَ عَلَيْهَا أَهْلُهَا- وَ أُعْطُوا أَزِمَّتَهَا فَأَوْرَدَتْهُمُ الْجَنَّةَ- حَقٌّ وَ بَاطِلٌ وَ لِكُلٍّ أَهْلٌ- فَلَئِنْ أَمِرَ الْبَاطِلُ لَقَدِيماً فَعَلَ- وَ لَئِنْ قَلَّ الْحَقُّ فَلَرُبَّمَا وَ لَعَلَّ وَ لَقَلَّمَا أَدْبَرَ شَيْءٌ فَأَقْبَلَ
قال السيد الشريف و أقول- إن في هذا الكلام الأدنى من مواقع الإحسان- ما لا تبلغه مواقع الاستحسان- و إن حظ العجب منه أكثر من حظ العجب به- و فيه مع الحال التي وصفنا زوائد من الفصاحة- لا يقوم بها لسان و لا يطلع فجها إنسان- و لا يعرف ما أقول إلا من ضرب في هذه الصناعة بحق- و جرى فيها على عرق- وَ ما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ أقول: في هذا الفصل فصول من الخطبة الّتي أشرنا إليها في الكلام الّذي قبله، و كذلك في الفصل الّذي بعده، و نحن نوردها بتمامها ليتّضح ذلك، و هي الحمد للّه أحقّ محمود بالحمد و أولاه بالمجد إلها واحدا صمدا أقام أركان العرش فأشرق لضوء شعاع الشمس خلق فأتقن و أقام فذلّت له وطاه المستمكن، و أشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله أرسله بالنور الساطع و الضياء المنير أكرم خلق اللّه حسبا و أشرفهم نسبا لم يتعلّق عليه مسلم و لا معاهد بمظلمة بل كان يظلم.
أمّا بعد فإنّ أوّل من بغى على الأرض عناق ابنة آدم كان مجلسها من الأرض جريبا و كان لها عشرون إصبعا، و كان لها ظفران كالمخلبين فسلّط اللّه عليها أسدا كالفيل و ذئبا كالبعير و نسرا كالحمار، و كان ذلك في الخلق الأوّل فقتلها و قد قتل اللّه الجبابرة على أسوء أحوالهم، و إنّ اللّه أهلك فرعون و هامان و قتل هارون بذنوبهم ألا و إنّ بليّتكم قد عادت كهيئتها يوم بعث اللّه نبيّكم صلى اللّه عليه و آله و الّذي بعثه بالحقّ لتبلبلنّ بلبلة و لتغربلنّ غربلة و لتساطنّ سوط القدر حتّى يعود أسفلكم أعلاكم و أعلاكم أسفلكم و ليسبقنّ سابقون كانوا قصّروا و ليقصّرنّ سبّاقون كانوا سبقوا و اللّه ما كتمت و شمة و لا كذبت كذبة و لقد نبّئت بهذا اليوم و هذا المقام ألا و إنّ الخطا يا خيل شمس حمل عليها أهلها و خلعت لجمها فتقحّمت بهم في النار فهم فيها كالحون ألا و إنّ التقوى مطايا ذلل حمل عليها أهلها فسارت بهم تأوّدا حتّى إذا جاءوا ظلّا ظليلا فتحت أبوابها و فال لهم خزنتها «سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين»«» ألا و قد سبقني هذا الأمر من لم اشركه فيه و من ليست له منه توبة إلّا بنبيّ مبعث و لا نبيّ بعد محمّد صلى اللّه عليه و آله أشفى منه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنّم أيّها الناس كتاب اللّه و سنّة نبيّة لا يرعى مرع إلّا على نفسه شغل من الجنّة و النار أمامه ساع نجا و طالب يرجو و مقصّر في النار و لكلّ أهل، و لعمري لئن أمر الباطل لقد يما فعل و لئن قلّ الحقّ لربّما و لعلّ، و لقلّما أدبر شيء فأقبل و لئن ردّ أمركم عليكم إنّكم السعداء و ما علينا إلّا الجهد قد كانت أمور مضت ملتم فيها ميلة كنتم عندي فيها غير محمودي الرأي و لو أشاء أن أقول لقلت عفى اللّه عمّا سلف سبق الرجلان و قام الثالث كالغراب همّه بطنه ويله لو قصّ جناحاه و قطع رأسه كان خيرا له شغل من الجنّة و النار أمامه ساعي مجتهد و طالب يرجو و مقصّر في النار ثلاثة و إثنان خمسة، و ليس فيهم سادس ملك طائر بجناحيه و نبى آخذ بضبعيه هلك من ادّعى و خاب من افترى اليمين و الشمال مضلّة و وسط الطريق المنهج عليه باقي الكتاب و آثار النبوّة ألا و إنّ اللّه قد جعل أدب هذه الامّة السوط و السيف ليس عند إمام فيهما هوادة فاستتروا بيوتكم و أصلحوا ذات بينكم، و التوبة من ورائكم من أبدأ صفحته للحقّ هلك ألا و إنّ كلّ قطعية أقطعها عثمان و ما أخذه من بيت مال المسلمين فهو مردود عليهم في بيت مالهم و لو وجدته قد تزوّج به النساء و فرّق في البلدان فإنّه إن لم يسعه الحقّ فالباطل أضيق عنه أقول قولي هذا و استغفر اللّه لي و لكم«». و لقد ذكرنا هذا الفصل فيما قبل و لنرجع إلى التفسير فنقول:
اللغة
الذّمة الحرمة و الذمّة أيضا العهد، و الرهينة المرهونة، و الزعيم الكفيل، و في الحديث الزعيم غارم، و المثلات العقوبات، و الحجز المنع، و قحّم في الأمر و تقحّمه رمى بنفسه فيه، و الهيئة الصفة، و البلبلة الاختلاط، و الغربلة نخل الدقيق و غيره و الغربلة القتل أيضا، و ساط القدر إذا قلّب ما فيها من طعام بالمحراك، و أداره، و الوشمة بالشين المعجمة الكلمة و بغير المعجمة العلامة و الأثر، و الشمس جمع شموس و هي الدابّة تمنع ظهرها، و التأوّد السير الثقيل بالثبات، و الذلول الساكنة، و الكلوح تكسّر في عبوس، و أمر الباطل بكسر الميم كثر و فلان يرعى على نفسه إذا كان يتفقّد أحوالها
المعنى
و اعلم أنّه أشار أوّلا في هذا الفصل إلى وجوب الاعتبار لوجوب التقوى و نبّه على أنّه وسيلة إليه و مستلزم له في صورة شرطيّة متّصلة و هي قوله من صرّحت له العبر عمّا بين يديه من المثلات حجزه التقوى عن تقحّم الشبهات، و بيان الملازمة أنّ من أخذت العناية بزمام عقله فأعدّت نور بصيرته لمشاهدة ما صرّحت به آفات الدنيا، و كشفت عبرها من تبدّل حالاتها و تغيّراتها على من أوقف عليها همّه و أتخذها دار الإقامة فشاهد أنّ كلّ ذلك امور باطلة و أطلال زائلة، فلا بدّ أن يفيض اللّه على قلبه صورة خشيته و تقواه فتستلزم تلك الخشية توقّفه و امتناعه عن أن يلقى نفسه في تلك الامور الزائلة و الشبهات الباطلة لإشراق نور الحقّ الواضح على لوح نفسه بالاعتبار، فالتقوى اللازم له هو الحاجز عن ذلك التقحّم، و أشار بالشبهات إلى ما يتوهّم كونه حقّا ثابتا باقيا من الامور الفانية الزائلة و اللذّات الدنيويّة الباطلة فالوهم يصوّرها و يشبّهها بالحقّ فلذلك سمّيتشبهات،
و العقل الخارج من أسر الهوى قوّى على نقد الحقّ و تمييزه عن الشبهة، و أكّد هذه الملازمة برهن ذمّته على صحّتها و كفالته بصدقها، و ذلك قوله ذمّتي بما أقول رهينة و أنا به زعيم و استعمال الرهن استعارة كقوله تعالى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ و اعلم أنّه ربّما التبس عليك حقيقة التقوى،
فنقول: التقوى بحسب العرف الشرعيّ يعود إلى خشية الحقّ سبحانه المستلزم للإعراض عن كلّ ما يوجب الالتفات عنه من متاع الدنيا و زينتها و تنحية مادون وجهه عن جهة القصد، و لمّا كان الترك و الإعراض المذكور هو الزهد الحقّقي كما علمت، و كان التقوى وسيلة إليه علمت أنّه من أقوى الجواذب إلى اللّه الرادعة عن الالتفات إلى ما سواه و قد ورد التقوى بمعنى الخشية من اللّه تعالى في أوّل النساء يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ و مثله في أوّل الحجّ، و في الشعراء إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَ لا تَتَّقُونَ و كذلك قول هود و صالح و لوط و شعيب لقومهم، و في العنكبوت و إبراهيم إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ اتَّقُوهُ و قوله اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ و قوله وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى و كذلك في سائر آيات القرآن و إن كان قد حمله بعض المفسّرين تارة على الإيمان كما في قوله تعالى وَ أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى و تارة على التوبة كما في قوله وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَ اتَّقَوْا و تارة على ترك المعصية كما في قوله يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَ و إذا عرفت ذلك فاعلم أنّه لمّا نبّههم على لزوم التقوى و أنّه مخلص من تقحّم الشبهات نبّههم بعده على أنّهم في الشبهات مغمورون بقوله ألا و إنّ بليّتكم قد عادت كهيئتها يوم بعث اللّه نبيّه، و أشار ببليّتهم إلى ما هم عليه من اختلاف الأهواء و تشتّت الآراء و عدم الالفة و الاجتماع في نصرة اللّه عن شبهات يلقيها الشيطان على الأذهان القابلة لوسوسته المقهورة في يده. و ذلك من أعظم الفتن الّتي بها يبتلى اللّه عباده وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ فِتْنَةً وَ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ و هي امور تشبه ما كان الناس عليه حال بعثة الرسول صلى اللّه عليه و آله و في ذلك تنبيه لهم على أنّهم ليسوا من تقوى اللّه في شيء إذ عرفت أنّ مجانبة الشبهة من لوازم التقوى فكان وقوعهم فيها مستلزما لسلب التقوى عنهم ثمّ لمّا بيّن وقوعهم في البليّة كما كانت أقسم بالقسم البارّ لينزلنّ بهم ثمرة ما هم فيه من عدم التناصر و اتّباع الأهواء الباطلة و ذكر امورا ثلاثة:
أحدها البلبلة و كنّى بها عمّا يوقع بنو اميّة و غيرهم من امراء الجور من الهموم المزعجة و خلط بعضهم ببعض و رفع أراذلهم و حطّ أكابرهم عمّا يستحقّ كلّ من المراتب.
الثاني الغربلة و كأنّها كناية عن التقاط آحادهم و قصدهم بالأذى و القتل كما فعل بكثير من الصحابة و التابعين و في ذلك تشبيه لفعلهم ذلك بغربلة الدقيق و نحوه لتمييز شيء منه عن شيء و لذلك استعير له لفظها و في هذين القرينتين السجع المتوازي.
الثالث أن تساطوا كما تساط القدر إلى أن يعود أسفلهم أعلاهم و بالعكس و استعار لفظ السوط هاهنا مع غايته المذكورة لتصريف أئمّة الجور لهم ممّن يأتي بعده بسائر أسباب الإهانة و تغيير القواعد عليها في ذلك الوقت و هو قريب من الأوّل.
قوله و ليسبقنّ سابقون كانوا قصّروا و ليقصّرنّ سبّاقون كانوا سبقوا إشارة إلى بعض نتائج تقلّب الزمان بهم قال بعض الشارحين: إنّه أشار بالمقصّرين الّذين يسبقون إلى قوم قصّروا عن نصرته في مبدء الأمر حين وفاة رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله ثمّ نصروه في ولايته و قاتلوا معه في سائر حروبه و بالسابقين الّذين يقصّرون إلى من كانت له في الإسلام سابقة ثمّ يخذله و ينحرف عنه و يقاتله و يشبه أن يكون مراده أعمّ من ذلك فالمقصّرون الّذين يسبقون كلّ من أخذت العناية الإلهيّة بيده و قاده زمام التوفيق إلى الجدّ في طاعة اللّه و اتّباع سائر أوامره و الوقوف عند نواهيه و زواجره بعد تقصيره في ذلك، و عكس هؤلاء من كان في مبدء الأمر مشمرا في سلوك سبيل اللّه ثمّ جذبه هواه إلى غير ما كان عليه و سلك به الشيطان مسالكه فاستبدل بسبقه في الدين تقصيرا و انحرافا عنه.
قوله و اللّه ما كتمت و شمة و لا كذبت كذبة أقسم أنّه لم يكتم أثرا سمعه من رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله في هذا المعنى و كلمة ممّا يتعيّن عليه أن يبوح به و أنّه لم يكذب قط، و هذا القسم شهادة لما قبله من الإخبار بما سيكرن أنّه كان قال، و توطية لما بعده أنّه كما هو ذلك قوله، و لقد نبّئت بهذا المقام أي مقام بيعة الخلق له و هذا اليوم أي يوم اجتماعهم عليه و كلّ ذلك تنفير لهم عن الباطل إلى الحقّ و تثبيت لهم على اتّباعه ثمّ لمّا أمرهم بالتقوى و أنبأهم بما سيكون عاقبة أمرهم في لزومهم لبلّيتهم و تورّطهم في الشبهات أردف ذلك بالتنفير عن الخطايا و الترغيب في التقوى بالتنبيه على ما يقود إليه كلّ منهما.
قوله ألا و إنّ الخطايا خيل شمس حمل عليها أهلها و خلعت لجمها فتقحّمت بهم في النار. استعمال لفظ الخيل للخطايا ثمّ وصفها بالوصف المنفر و هو الشموس و الهيئة المانعة لذي العقل من ركوبها و هي كونها مع شموسها مخلوعة اللجم، و وجه الاستعارة ظاهر فإنّ الفرس الشموس الّتي خلع لجامها لمّا كانت تتقحّم براكبها المهالك و تجري به على غير نظام فكذلك راكب الخطيئة لمّا جرى به ركوبها على غير نظام الشريعة و خلع بذلك لجام الأوامر الشرعية و حدود الدين لا جرم كانت غايته من ركوبه لها أن يتقحّم أعظم موارد الهلاك و هي نار جهنّم و ذلك من لطيف الاستعارة، قوله ألا و إنّ التقوى مطايا ذلل حمل عليها أهلها و اعطوا أزمّتها فأوردتهم الجنّة استعار أيضا لفظ المطايا بالوصف الحسن الموجب للميل إليها و هو كونها ذللا، و بالهيئة الّتي ينبغي للراكب و هو أخذ الزمام و أشار بالأزمّة إلى حدود الشريعة الّتي يلزمها صاحب التقوى و لا يتجاوزها، و لمّا كانت المطيّة الذلول من شأنها أن تتحرّك براكبها على وفق النظام الّذي ينبغي و لا يتجاوز الطريق المستقيم بل يصرفها بزمامها و تسير به على تؤودة فيصل بها إلى المقاصد كذلك التقوى فسهولة طريق السالك إلى اللّه بالتقوى و راحته عن جموح الهوى به في موارد الهلكة يشبه ذلّه المطيّة، و حدود اللّه الّتي بها يملك التقوى و يستقر عليه يشبه أزمّة المطايا الّتي بها تملك و كون التقوى موصلا لصاحبه بسلامة إلى السعادة الأبديّة الّتي هي أسنى المطالب يشبهه غاية سير المطيّ الذلول براكبها، و الاستعارة في الموضعين استعارة لفظ المحسوس للمعقول ثمّ لمّا بيّن أنّ هاهنا طريقين مركوبين مسلوكين طريق الخطايا و طريق التقوى ذكر بعده أنّهما حقّ و باطل فكأنّه قال و هما حقّ و هو التقوى و باطل و هو الخطايا، ثمّ قال و لكلّ أهل أي و لكلّ من طريقي الحقّ و الباطل قوم أعدّهم القدر لسلوكها بحسب ما جرى في اللوح المحفوظ بقلم القضاء الإلهيّ
كما قال الرسول صلى اللّه عليه و آله: كلّ ميسّر لما خلق له قوله فلئن أمر الباطل لقديما فعل و لئن قلّ الحقّ فلربّما و لعلّ، أردف لذلك بما يشبه الاعتذار لنفسه و لأهل الحقّ في قلّته، و ذمّ و توبيخ لأهل الباطل على كثرة الباطل، و قلّة الحقّ في ذلك الوقت ليس بديعا حتّى أجهد نفسي في الإنكار على أهله ثمّ لا يسمعون و لا ينتهون، و في قوله لربّما و لعلّ تنبيه على أنّ الحقّ و إن قلّ فربّما يعود يسيرا ثمّ أردف حرف التقليل و هو ربّما بحرف التمنّي، و كان في هذه الأحرف الوجيزة إخبار بقلّه الحقّ و وعد بقوّته مع نوع تشكيك في ذلك و تمنّى لكثرته. قوله و لقلّما أدبر شيء فأقبل استبعاد لرجوع الحقّ إلى الكثرة و القوّة بعد قلّته و ضعفه على وجه كلّي فإنّ زوال الاستعداد للأمر مستلزم لزوال صورته و صورة الحقّ إنّما افيضت على قلوب صفت و استعدّت لقبوله فإذا أخذ ذلك الاستعداد في النقصان بموت أهله أو بموت قلوبهم و تسوّد ألواح نفوسهم بشبه الباطل فلا بدّ أن ينقض نور الحقّ و تكثر ظلمة الباطل بسبب قوّة الاستعداد لها و ظاهر أنّ عود الحقّ و إصاءة نوره بعد إدباره و إقبال ظلمة الباطل أمر بعيد و قلّ ما يعود مثل ذلك الاستعداد لقبول مثل تلك الصورة للحقّ و لعلّه يعود بقوّة فيصبح ألواح النفوس و أرضها مشرقة بأنوار الحقّ و يكرّ على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق، و ما ذلك على اللّه بعزيز، و في ذلك تنبيه لهم على لزوم الحقّ و بعث على القيام به كيلا يضمحلّ بتخاذلهم عنه فلا يمكنهم تداركه، و باللّه التوفيق.
القسم الثاني
شُغِلَ مَنِ الْجَنَّةُ وَ النَّارُ أَمَامَهُ- سَاعٍ سَرِيعٌ نَجَا وَ طَالِبٌ بَطِيءٌ رَجَا- وَ مُقَصِّرٌ فِي النَّارِ هَوَى- الْيَمِينُ وَ الشِّمَالُ مَضَلَّةٌ وَ الطَّرِيقُ الْوُسْطَى هِيَ الْجَادَّةُ- عَلَيْهَا بَاقِي الْكِتَابِ وَ آثَارُ النُّبُوَّةِ- وَ مِنْهَا مَنْفَذُ السُّنَّةِ وَ إِلَيْهَا مَصِيرُ الْعَاقِبَةِ- هَلَكَ مَنِ ادَّعَى وَ خابَ مَنِ افْتَرى- مَنْ أَبْدَى صَفْحَتَهُ لِلْحَقِّ هَلَكَ وَ كَفَى بِالْمَرْءِ جَهْلًا أَلَّا يَعْرِفَ قَدْرَهُ- لَا يَهْلِكُ عَلَى التَّقْوَى سِنْخُ أَصْلٍ- وَ لَا يَظْمَأُ عَلَيْهَا زَرْعُ قَوْمٍ- فَاسْتَتِرُوا فِي بُيُوتِكُمْ وَ أَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ- وَ التَّوْبَةُ مِنْ وَرَائِكُمْ- وَ لَا يَحْمَدْ حَامِدٌ إِلَّا رَبَّهُ وَ لَا يَلُمْ لَائِمٌ إِلَّا نَفْسَهُ أقول: قد عرفت كون هذا الفصل من الخطبة الّتي ذكرناها،
اللغة
و الجادّة معظم الطريق، و الصفحة الجانب، و السنخ الأصل، و ذات البين حقيقته، و الخيبة عدم حصول المطلوب.
المعنى
و اعلم أنّ تقدير القضيّة الاولى أنّ من كانت النار و الجنّة أمامه فقد جعل له بهما شغل يكفيه عن كلّ ما عداه فيجب عليه أن لا يشتغل إلّا به، و أشار بذلك الشغل إلى ما يكون وسيلة إلي الفوز بالجنّة و النجاة من النار ممّا نطقت به الكتب المنزلة و حثّ على لزومه الرسل، و أشار بكون الجنّة و النار أمامه إلى أحد أمرين:
أحدهما أن يكون المراد كون الجنّة و النار ملاحظتين له متذكّرا لهما مدّة وقته فهما أمامه و نصب خياله و من كان كذلك فهو في شغل بهما عن غيرهما.
الثاني أن يكون كونهما أمامه أي أنّه لمّا كان الإنسان من مبدء عمره إلى منتهاه مسافرا إلى اللّه تعالى فهو في انقطاع سفره لا بدّ و أن ينتهى إمّا إلى الجنّة أو إلى النار فكانتا أمامه في ذلك السفر و غايتين يؤمّهما الإنسان و ينتهي إليهما و من كان أبدا في السفر إلى غاية معيّنة فكيف يليق به أن يشتغل بغير مهمّات تلك الغاية و الوسيلة إليهما،
و إنّما قال شغل بالبناء للمفعول لأنّ المقصود هاهنا ليس إلّا ذكر الشغل أو لأنّه لمّا كان الشاغل هو اللّه تعالى بإيجاد الجنّة و النار و الترغيب في إحداهما و الترهيب من الاخرى كان ترك ذكره للتعظيم و الإجلال أو لظهوره ثمّ أنّه لمّا نبّه على وجوب الاشتغال بالجنّة و النار عن غيرهما قسّم الناس بالنسبة إلى ذلك الاشتغال إلى ثلاثة أقسام و ذلك قوله ساع سريع نجا، و طالب بطىء رجا، و مقصّر في النار هوى، و وجه الحصر في هذه القسمة أنّ الناس بعد الأنبياء عليهم السّلام إما طالبون للّه أو تاركون و الطالبون إمّا بغاية جدّهم و اجتهادهم و بذل وسعهم و طاقتهم في الوصول إلى رضوانه أو بالبطؤ و التأنّي فهذه ثلاثةأقسام لا مزيد عليها و إن كان قسما الطالبين على مراتب و درجات متفاوتة،
و القسم الأوّل هم الفائزون بقصب السبق و الناجون من عذاب النار كما قال تعالى «إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ نَعِيمٍ فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَ وَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ» و هذا القسم يشمل الأنبياء لولا إفرازه لهم في قسم رابع إذ قسّم الخلق في الخطبة إلى خمسة أقسام، و الثالث المقصّر الّذي وقف به الشيطان حيث أراد آخذا بحجزته عن سلوك سبيل اللّه قاذفا به في موارد الهلاك و منازل الشقاء، و ظاهر أنّه في النار «فأمّا الّذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير و شهيق خالدين فيها ما دامت السماوات و الأرض إلّا ما شاء ربّك إن ربّك فعّال لما يريد»
أمّا القسم الثاني فذو وصفين يتجاذبانه من جهتي السفالة و العلوّ فطلب الجنّة إلى جهة بحركته و سلوكه إلى اللّه و إن ضعف جاذب له إلى جهة العلوّ، و يد الشيطان جاذبة إلى جهة السفالة إلّا أنّ رجاه لعفو اللّه و نظره إليه بعين رحمته إذا انضاف إلى حركته البطيئة كانت السلامة عليه أغلب وجهة العلوّ منه أقرب، و ينبغي أن نشير إلى حقيقة الرجاء ليتّضح ما قلناه، فنقول: الرجاء هو ارتياح النفس لانتظار ما هو محبوب عندها فهو حالة لها تصدر عن علم، و تقتضي عملا بيان ذلك أنّ ما يتصوره النفس من محبوب أو مكروه فإمّا أن يكون موجودا في الماضي أو في الحال أو يوجد في الاستقبال، و الأوّل يسمّى ذكرا و تذكيرا، و الثاني يسمّى وجدا لوجدان النفس له في الحال، و الثالث و هو أن يغلب على ظنّك وجود شيء في الاستقبال لنفسك به تعلّق فسمّى ذلك انتظارا و توقّعا فإن كان مكروها حدث منه في القلب تألّم يسمّى خوفا و إن كان محبوبا حصل من انتظاره و تعلّق القلب به لذّة للنفس و ارتياح بإخطار وجوده بالبال يسمّى ذلك الارتياح رجاء و لكن ذلك المتوقّع لا بدّ و أن يكون لسبب فإن كان توقّعه لأجل حصول أكثر أسبابه فاسم الرجاء صادق عليه، و إن كان انتظاره مع العلم بانتفاء أسبابه فاسم الغرور و الحمق عليه أصدق، و إن كانت أسبابه غير معلومة الوجود و لا الانتفاء فاسم التمنّى أصدق على انتظاره.
إذا عرفت ذلك، فاعلم أنّ أرباب العرفان قد علموا أنّ الدنيا مزرعة الآخرة فالنفس هي الأرض و بذرها حبّ المعارف الإلهيّة، و سائر أنواع الطاعات جارية مجرى إصلاح هذه الأرض من تقليبها و إعدادها للزراعة، و سياقة الماء إليها، و النفس المستغرقة بحبّ الدنيا و الميل إليها كالأرض السبخة الّتي لا تقبل الزرع و الإنبات لمخالطة الأجزاء الملحيّة، و يوم القيامة يوم الحصاد إلّا من زرع. و لا زرع إلّا من بذر، و كما لا ينفع الزرع في أرض سبخة كذلك لا ينفع إيمان مع خبث النفس و سوء الأخلاق، فينبغي أن يقاس رجاء العبد لرضوان اللّه برجاء صاحب الزرع، و كما أنّ من طلب أرضا طيّبة، و بذرها في وقت الزراعة بذرا غير متعفّن و لا يتكاهل ثمّ أمدّه بالماء العذب و سائر ما يحتاج إليه في أوقاته ثمّ طهّره عن مخالفة ما يمنع نباته من شوك و نحوه ثم انتظر من فضل اللّه رفع الصواعق و الآفات المفسدة إلى تمام زرعه و بلوغ زرعه غايته، كان ذلك رجاء في موضعه و استحقّ اسم الرجاء إذ كان في مظنّة أن يفوز بمقاصده من ذلك الزرع، و من بذر في أرض كذلك إلّا أنّه بذر في اخريات الناس و لم يبادر إليه في أوّل وقته أو قصّر في بعض أسبابه ثمّ أخذ ينتظر ثمرة ذلك الزرع و يرجو اللّه في سلامته له فهو من جملة الراجين أيضا، و من لم يحصل على بذر أو بذر في أرض سبخة أو ذات شاغل من الإنبات ثمّ أخذ ينتظر الحصاد فذلك الانتظار حمق. فكان اسم الرجاء إنّما يصدق على انتظار ما حصل جميع أسبابه أو أكثرها الداخلة تحت اختيار العبد و لم يبق إلّا ما لا يدخل تحت اختياره و هو فضل اللّه تعالى بصرف القواطع و المفسدات، كذلك حال العبد إن بذر المعارف الإلهيّة في أرض نفسه في وقته و هو مقتبل العمر و مبتدأ التكليف، و دام على سقيه بالطاعات و اجتهد في طهارة نفسه عن شوك الأخلاق الرديئة الّتي تمنع نماء العلم و زيادة الإيمان و انتظر من فضل اللّه تعالى أن يثبته على ذلك إلى زمان وصوله و حصاد عمله فذلك الانتظار هو الرجاء المحمود و هو درجة السابقين، و إن ألقى بذر الايمان في نفسه لكنّه قصّر في بعض أسبابه إمّا ببطؤه في البذر أو في السقي إلى غير ذلك ممّا يوجب ضعفه ثمّ أخذ ينتظر وقت الحصاد و يتوقّع من فضل اللّه تعالى أن يبارك له فيه و يعتمد على أنّه هو الرزّاق ذو القوّة المتين فيصدق عليه أيضا أنّه راج إذ أكثر أسباب المطلوب الّتي من جهته حاصلة و هذه درجة القسم الثاني و هو الطالب الراجى البطىء، و إن لم يزرع من قواعد الإيمان في نفسه شيئا أصلا أو زرع و لم يسقه بماء الطاعة أو ترك نفسه مشغولة بشوك الأخلاق الرديئة و انهمك في طلب آفات الدنيا ثمّ انتظر المغفرة و الفضل من اللّه فذلك الانتظار غرور و ليس برجاء في الحقيقة و ذلك هو القسم الثالث و هو المقصّر في أسباب الزراعة و تحصيل زاد الآخرة الهالك أسفا يوم الحسرة و الندامة يقول «يا ليتني قدّمت لحياتي فيومئذ لا يعذّب عذابه أحد و لا يوثق وثاقة أحد»«» و في المعنى ما قيل:
إذا أنت لم تزرع و عاينت حاصدا ندمت على التفريط في زمن البذر.
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: الأحمق من اتّبع نفسه هواها و تمنّى على اللّه. و قال «فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَ يَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا» و إنّما خصّص عليه السّلام القسم الثاني بالرجاء إذ كان كما علمت عمدته لضعف عمله و قلّة الأسباب من جهته، و إلى هذه الأقسام الثلاثة أشار القرآن الكريم بقوله «فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ»«» و إن اختلفت مبدء الرتبتين.
قوله اليمين و الشمال مضلّة و الطريق الوسطى هي الجادّة. لمّا قسّم الناس إلى سابقين و لا حقين و مقصّرين أشار لهم إلى الطريق الّتي أخذ اللّه عليهم سلوكها و نصب لهم عليها أعلام الهدى ليصلوا بها إلى جناب عزّته سالمين عن تخطّفات الشياطين، و ميّزها عن طريق الضلال.
و لمّا علمت أنّ طريق السالكين إلى اللّه إمّا العلم أو العمل، فالعلم طريق القوّة النظريّة، و العمل طريق القوّة العمليّة و كلّ منهما محتو برذيلتين هما طرفا التفريط و الإفراط كما علمته و الوسط منهما هو العدل و الطريق الوسطى و هي الجادّة الواضحة لمن اهتدى و هي الّتي عليها ما في الكتاب الإلهيّ من المقاصد الحكميّة عليها آثار النبوّة و منفذ السنّة أي طريقها و مبدءها الّذي منه تخرج و إليها مصير عاقبة الخلق في الدنيا و الآخرة فإنّ من العدل بدأت السنّة و انتشرت في الخلق، و إليه مرجع امورهم أمّا في الدنيا فلأنّ نظام امورهم في حركاتهم و سكناتهم مبنّى عليه في القوانين الشرعيّة و إلى تلك القوانين و القواعد ترد عواقب امورهم و عليها يحملون، و أمّا في الآخرة فبالنسبة إليه يتبيّن خسران الخاسرين و فوز الفائزين فتحكم لمن سلك و تمسّك به أوقات سفره إلى اللّه بجنّات النعيم و لمن انحرف عنه و تجاوزه بالعذاب الأليم في نار الجحيم و كلّ واحد من طرفي الإفراط و التفريط بالنسبة إليه هو المراد باليمين و الشمال من ذلك الوسط و هما طريقا المضلّة لمن عدل إليهما، و مورد الهلاك لمن سلكهما.
قوله هلك من ادّعى و خاب من افترى يحتمل أن يكون القضيّتان دعاء، و يحتمل أن يكون إخبارا أي هلك من ادّعى ما ليس له أهلا و عنى الهلاك الاخروى، و خاب من كذب أي لن يحصل مطلوبه إذا جعل الكذب وسيلة إليه، و أعلم أنّ الدعوى إمّا أن يكون مطابقة لما في نفس الأمر أو ليس كذلك، و الثانية محرّمة مطلقا، و أمّا الاولى فإمّا أن يدعو إليها حاجة أو ليس، و القسم الأوّل هو المباح فقط دون الثاني، و إنّما حرم هذان القسمان أمّا الأوّل و هي الدعوى غير المطابقة فلأنّها تصدر عن ملكة الكذب تارة و عن الجهل المركّب تارة كالجهل بالأمر المدّعى لحصوله عن شبهه رسخت في ذهنه و كلاهما من أكبر الرذائل و أعظم المهلكات في الآخرة، و أمّا الثانية و هي المطابقة لا عن حاجة فلأنّها تكاد لا تصدر عن الإنسان إلّا عن رذيلة العجب و ستعلم أنّه من المهلكات.
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: ثلاث مهلكات: شحّ مطاع، و هوى متّبع، و إعجاب المرء بنفسه. و أمّا خيبة المفترى فلأنّ الفرية اختلاف ما ليس بحقّ و ظاهر أنّ الكذب لا ثمرة له أمّا في الآخرة فظاهر و أمّا في الدنيا فقد يكون و قد لا يكون و إن كانت ففي معرض الزوال و مستلزمة لسخط اللّه فهي بمنزلة ما لم يكن و صاحبها أشدّ خيبة من عادمها و طالب الأمر بالفرية على كلّ تقدير خاسر خائب.
قال بعض الشارحين: أراد هلك من ادّعى الإمامة من غير استحقاق، و خاب عن افترى في دعواه لها لأنّ كلامه في هذه الخطبة كثيرا ما يعرض فيه بأمر الإمامة. قوله من أبدى صفحته للحقّ هلك [عند جملة (جهلة خ) الناس] و كفى بالمرء جهلا أن لا يعرف قدره. تنبيه على أنّ المتجرّد لإظهار الحقّ في مقابلة كلّ باطل ورد من الجهال، و حملهم على مرّ الحقّ و صعبه في كلّ وقت يكون في معرض الهلاك بأيديهم و ألسنتهم إذ لا يعدّ منهم من بوليه المكروه و يسعى في دمه، ثمّ أراد التنبيه على الجهل فذكر أدنى مراتبه و نبّه بها على أنّ أقلّ الجهل كاف في الرذيلة فكيف بكثيره و ذلك قوله و كفى بالمرء جهلا أن لا يعرف قدره و أراد مرتبته في الناس و عدم تصوّره لدرجة نفسه و منزلتها بالنسبة إلى آحادهم و كفى بهذا القدر مهلكا فإنّه منشأ كثير من الرذائل المهلكة كالكبر و العجب و قول الباطل و ادّعاء الكمال للناقصين و تعدّى الطور في أكثر الأحوال كما قال عليه السّلام في موضع آخر، رحم اللّه امرء عرف قدره و لم يتعدّ طوره، و في هذه الكلمة تنفير للسامعين عن الجهل بقدر ما يتصوّرونه من وجوب التجرّد للحقّ و نصرته، و ربّما يستفهم منها تعليم كيفيّة استجلاب طباع الجهّال و تأنيسهم و هو أنّهم لا ينبغي أن يقابلوا بالحقّ دفعة و يتجرّد في مقابلتهم به على كلّ وجه فإنّ ذلك ممّا يوحب نفارهم و عدم نظام أحوالهم بل ينبغي أن يؤنسوا به على التدريج قليلا قليلا. و ربّما لم يكن تأنيسهم بالحقّ في بعض الامور إمّا لغموض الحقّ بالنسبة إلى أفهامهم أو لقوّة اعتقادهم الباطل في مقابلته فينخدعوا عن ذلك بالحقّ في صورة الباطل و ظاهره و ذلك كما ورد في القرآن الكريم و السنن النبويّة من صفات التجسيم و ما لا يجوز أن يحمل على ظاهره في حقّ الصانع الحكيم فإنّ حمله على ظاهره كما يتصوّره جهّال الناس أمر باطل لكنّه لمّا كان سبب إيناسهم و جمع قلوبهم على اعتقاد الصانع و به نظام امورهم ورد الشرع به. قوله لا يهلك على التقوى سنخ أصل و لا يظمأ عليها زرع قوم. تنبيه على لزوم التقوى باعتبارين: أحدهما أنّ كلّ أصلل بنى على التقوى فمحال أن يهلك و يلحق بانيه خسران كما قال تعالى «أَ فَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَ رِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ»«» الثاني أنّ من زرع زرعا اخرويّا كالمعارف الإلهيّة في أرض نفسه مثلا أو دنيويّا كالأعمال الّتي بها تقوم مصالح الإنسان في الدنيا و سقاها ماء التقوى و جعله مادّتها فإنّه لا يلحق ذلك الزرع ظمأ بل عليه ينشأ بأقوى ساق و أزكى ثمرة، و استعمال الزرع و الأصل كناية عمّا ذكرناه. قوله فاستتروا ببيوتكم و أصلحوا ذات بينكم و التوبة من ورائكم. قد عرفت أنّ هذا الفصل مقدّم في الخطبة على قوله من أبدى صفحته للحقّ هلك، و هو مسبوق بالتهديد و وارد في معرضه و هو قوله ألا و إنّ اللّه قد جعل أدب هذه الامّة السوط و السيف ليس عند إمام فيهما هوادة أي مصالحة و سكون فاستتروا ببيوتكم و هو حسم لمادّة الفتنة بينهم بلزوم البيوت عن الاجتماع للمنافرات و المفاخرات و المشاجرات، و لذلك أردفه بقوله و أصلحوا ذات بينكم فإنّ قطع مادّة الفتنة سبب لإصلاح ذات البين قوله و التوبة من ورائكم تنبيه للعصاة على الرجوع إلى التوبة عن الجري في ميدان المعصية و اقتفاء أثر الشيطان و كونها وراء لأنّ الجواذب الإلهيّة إذا أخذت بقلب العبد فجذبته عن المعصية حتّى أعرض عنها و التفت بوجه نفسه. إلى ما كان معرضا عنه من الندم على المعصية و التوجّه إلى القبلة الحقيقيّة فإنّه يصدق عليه إذن أنّ التوبة ورائه أي وراء عقليّا و هو أولى من قول من قال من المفسّرين إنّ ورائكم بمعنى أمامكم. قوله و لا يحمد حامد إلّا ربّه و لا يعلم لائم إلّا نفسه.
تأديب لهم بالتنبيه على قصر الحمد و الثناء على اللّه دون غيره و أنّه مبدء كلّ نعمة يستحقّ بها الحمد كما سبقت إليه الإشارة، و على قصر اللائمة على النفس عند انحرافها عن جهة القبلة الحقيقيّة إلى متابعة إبليس و قبولها لدعوته من غير سلطان، و إلى أصل هاتين الكلمتين أشار القرآن الكريم «ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَ ما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ»«» فكلّ حسنة أصابت العبد من ربّه فهي مبدء لحمده و شكره، و كلّ سيّئة أصابته من نفسه فهو مبدء للائمّة نفسه، فأمّا قول السيّد- رحمه اللّه- إنّ في الكلام من مواقع الإحسان ما لا تبلغه مواقع الاستحسان إلى آخره، فالإحسان مصدر قولك أحسن الرجل إحسانا إذا فعل فعلا حسنا و مواقع الإحسان محاسن الكلام الّتي أجاد فيها و أحسن و مواقع الاستحسان إمّا سائر محاسن كلام العرب أي أنّ شيئا من محاسن كلام العرب و ما يقع عليه الاستحسان منها لا يوازي هذا الكلام و لا يبلغه، أو يشير بمواقع الاستحسان إلى الفكر من الناس فإنّها محالّ الاستحسان أيضا إذ الاستحسان من صفات المستحسن أي أنّ الفكر لا يصل إلى محاسن هذا الكلام، و قوله و إنّ حظّ العجب منه أكثر من حظّ العجب به يريد أنّ تعجّب الفصحاء من حسنه و بدائعه أكثر من عجبهم باستخراج محاسنه و ذلك لأنّ فيه من المحاسن وراء ما يمكنهم التعبير عنها امور كثيرة فهم يجدونها من أنفسهم و إن لم يمكنهم التعبير عنها فيكون تعجبّهم من محاسنه أكثر من إعجابهم من أنفسهم بما يقدرون على استخراجه منها. أو اريد بأكثر من عجبهم به أي أكثر من محبّتهم له و ميلهم إليه، و باقي كلامه ظاهر و باللّه التوفيق.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحرانی)، ج 1 ، صفحهى 297