و من كلام له عليه السّلام في ذم أهل البصرة
القسم الأول
كُنْتُمْ جُنْدَ الْمَرْأَةِ وَ أَتْبَاعَ الْبَهِيمَةِ- رَغَا فَأَجَبْتُمْ وَ عُقِرَ فَهَرَبْتُمْ- أَخْلَاقُكُمْ دِقَاقٌ وَ عَهْدُكُمْ شِقَاقٌ- وَ دِينُكُمْ نِفَاقٌ وَ مَاؤُكُمْ زُعَاقٌ- وَ الْمُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ مُرْتَهَنٌ بِذَنْبِهِ- وَ الشَّاخِصُ عَنْكُمْ مُتَدَارَكٌ بِرَحْمَةٍ مِنْ رَبِّهِ- كَأَنِّي بِمَسْجِدِكُمْ كَجُؤْجُؤِ سَفِينَةٍ- قَدْ بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهَا الْعَذَابَ مِنْ فَوْقِهَا وَ مِنْ تَحْتِهَا- وَ غَرِقَ مَنْ فِي ضِمْنِهَا وَ فِي رِوَايَةٍ وَ ايْمُ اللَّهِ لَتَغْرَقَنَّ بَلْدَتُكُمْ- حَتَّى كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مَسْجِدِهَا كَجُؤْجُؤِ سَفِينَةٍ- أَوْ نَعَامَةٍ جَاثِمَةٍ وَ فِي رِوَايَةٍ كَجُؤْجُؤِ طَيْرٍ فِي لُجَّةِ بَحْرٍ-
كأنّي أنظر إلى قريتكم هذه و قد طبّقها الماء حتّى ما يرى منها إلّا شرف المسجد كأنّه جؤجؤ طير في لجّة بحر فقام إليه الأحنف بن قيس فقال: يا أمير المؤمنين متى ذاك فقال إذا صارت أجمتكم قصورا، و اعلم أنّ بعد هذا الفصل من الخطبة فصول لا تعلّق لها بهذا الموضع و ربّما تعلّقت بفصول أوردها السيّد بعد هذا الفصل و سنذكرها معها إنشاء اللّه.
اللغة
أصل البصرة الحجارة البيض الرخوة، و صارت علما للبلدة لوجدان تلك الحجارة بها. قيل إنّها بالمربد كثيرة، و ائتفكت البلدة بأهلها انقلبت بهم، و المؤتفكة من الأسماء القديمة للبصرة كما سنذكره في تمام هذه الخطبة، و الرغا صوت الإبل خاصّة، و العقر الجرح، و الدّق من كلّ شيء حقيره و صغيره، و الشقاق الخلاف و الافتراق، و النفاق الخروج من الإيمان بالقلب و أصله أنّ اليربوع يرقق موضعا من الأرض من داخل جحره فإذا اوتى من قبل بابه و هو القاصعاء ضرب ذلك الموضع برأسه فاتفق أي خرج، و يسمّى ذلك النافقاء فاشتقّ لفظ النفاق منه و الرغاق المالح، و طبّقها الماء أي عمّا و أتى على جميعها و جؤجؤ السفينة صدرها و كذلك الطائر،
المعنى
و اعلم أنّه عليه السّلام ذكر في معرض ذمّهم امورا نبّه فيها على وجوه ارتكابهم الزلل،
أوّلها كونهم أهل المؤتفكة ائتفكت أهلها ثلاثا و معلوم أنّه ائتفاك البلد بأهلها و خسفها بهم إنّما يكون لفسادهم و استحقاقهم بذلك عذاب اللّه، و قوله و على اللّه تمام الرابعة دعاء عليهم بايقاع الخسف بهم.
الثاني كونهم جند المرأة و أراد عايشة فإنّهم جعلوها عقد نظامهم، و لمّا كانت قول النساء و آراؤهنّ امورا مذمومة بين العرب و سائر العقلاء لضعف آرائهنّ و نقصان عقولهنّ كما قال الرسول صلى اللّه عليه و آله: إنّهنّ ناقصات العقول ناقصات الدين ناقصات الحظّ أمّا نقصان عقولهنّ فلأنّ شهادة ثنتين منهنّ بشهادة رجل واحد لتذكّر إحداهما الاخرى، و أمّا نقصان دينهنّ فلأنّ إحديهنّ تقعد في بيتها شطرد هرها أي في أيّام حيضها لا تصوم و لا تصلّى، و أمّا نقصان حظّهنّ فلأنّ ميراثهنّ على النصف من ميراث الرجال، و كان مع ذلك مستشيرهنّ و بايعهنّ أضعف رأيا منهنّ كما هو شأن التابع بالنسبة إلى متبوعه لا جرم حسن توبيخه لهم بكونهم جندا و أعوانا.
الثالث كونهم اتباع البهيمة و أراد بالبهيمة الجمل الّذي كان تحت عايشة فإنّ حالهم شاهدة باتّباعه مجيبين لرغائه و هاربين لعقره، و هو أشنع من الأوّل و أدخل في الذمّ، و كنّى برغائه عن دعوتها لهم إلى القتال إذ قدمت عليهم راكبة له.
الرابع دقّة أخلاقهم و أشار بها إلى كونهم على رذائل الأخلاق دون حاقّ الوسط، و لمّا كانت اصول الفضائل الخلقيّة كما علمت ثلاثة: الحكمة و العفّة و الشجاعة و كانوا على طرف الجهل بوجوه الأراء المصلحيّة و هو طرف التفريط من الحكمة العمليّة و على طرف الجبن و هو طرف التفريط من الشجاعة، و على طرف الفجور و هو طرف الإفراط من ملكة العفّة و العدالة لا جرم صدق أنّهم على رذائل الأخلاق و دقاقها.
الخامس الشقاق في العهود و النكث لها و مصداق ذلك نكثهم لعهده و خلافهم لبيعته و ذلك من الغدر الّذي هو رذيلة بإزاء ملكة الوفاء.
السادس النفاق في الدين، و لمّا كانوا خارجين على الإمام العادل محاربين له لا جرم كانوا خارجين عن الدين، و ربّما كان ذلك خطابا خاصّا لبعضهم إذا المنافق العرفي هو الخارج من الإسلام بقلبه المظهر له بلسانه فيكون ذلك خطابا لمن كان منهم بهذه الصفة.
السابع ما يتعلّق بذمّ بلدهم و هو كون مائهم مالحا و سبب ملوحته قربه من البحر و امتزاجه به، و دخول ذلك في معرض ذمّهم ربّما يكون لسوء اختيارهم ذلك المكان و الإقامة به مع كون مائهم بهذه الحال المستلزمة لأمراض كثيرة في استعماله كسوء المزاج و البلادة و فساد الطحال و الحكّة و غير ذلك ممّا يذكره الأطبّاء، و لأنّ ذلك من أسباب التنفير عن المقام معهم و تكثير سوادهم.
الثامن كونها أنتن البلاد تربة و ذلك لكثرة ركوب الماء لها و تعفّنها به.
التاسع كونها أبعد البلاد عن السماء و سيجيء بيانه.
العاشر كونها بها تسعة أعشار الشرّ و يحتمل أن يريد به المبالغة في ذمّها دون الحصر و ذلك أنّه لمّا عدّد بها شرورا لا يكاد تجتمع في غيرها حكم بأنّ فيها تسعة أعشار الشرّ مبالغة كنّى به عن معظم الشرّ، و يحتمل أن يريد بالشرّ مجموع الرذائل الخلقيّة المقابلة لاصول الفضائل النفسانيّة الّتي هي العلم و الشجاعة و العفّة و السخاء و العدل و كلّ منها مقابل برذيلتين كما علمت فتلك عشر رذائل، و أشبه ما يخرج عنهم ما لا يناسب غرضه هاهنا ذمّهم به كالتبذير أو نحوه و هذا الاحتمال و إن كان لطيفا إلّا أنّ فيه بعدا.
الحادي عشر كون المقيم بين أظهرهم مرتهنا بذنبه و ذلك أنّ المقيم بينهم لا بدّ و أن ينخرط في سلكهم و يستعدّ لقبول مثل طباعهم و ينفعل عن رذائل أخلافهم و حينئذ يكون موثوقا بذنوبه.
الثاني عشر كون الشاخص عنهم متداركا برحمة من ربّه و ذلك لإعانة اللّه له بالخروج ليسلم من الذنوب الّتي يكتسبها المقيم بينهم و تلك رحمة من اللّه و أيّة رحمة، و كلّ ذلك في معرض التنفير عنهم، و المفهوم من الرواية الثانية و هي قوله المحتبس فيها بذنبه و الخارج منها بعفو اللّه غير ما ذكرناه إذ يفهم من قوله المحتبس فيها بذنبه أنّ احتباسة بينهم يجري مجرى العقوبة له بدنب سبق، منه و الخارج منها قد عفا اللّه عنه بخروجه، و قد راعى في هاتين القرينتين السجع المتوازي و كذلك في القرائن الأربع قبلهما. ثمّ أشار بعد ذلك إلى أنّ بلدتهم سيخربها الماء، و شبّه يقينه بذلك مشاهدته بنور بصيرته القدسيّة لمسجدهم مغمورا بالماء و قد طبّق أرضهم بمشاهدته الحسيّة في الجلاء و الظهور. و قد حكى توقيف الرسول صلى اللّه عليه و آله على أحوالهم في فصل آخر من هذه الخطبة و ذلك أنّه عقيب ذمّه لأهل البصرة و جوابه للأحنف في الفصل الّذي ذكرناه قال مادحا لهم يا أهل البصرة إنّ اللّه لم يجعل لأحد من أمصار المسلمين خطّة شرف و لا كرم إلّا و قد جعل فيكم أفضل ذلك و زادكم من فضله بمنّه ما ليس لهم أنتم أقوم الناس قبلة قبلتكم عن المقام حيث يقوم الإمام بمكّة، و قاريكم أقرء الناس، و زاهدكم أزهد الناس، و عابدكم أعبد الناس، و تاجركم أتجر الناس و أصدقهم في تجارته، و مصدّقكم أكرم الناس صدقه، و غنيّكم أشدّ الناس بدلا و تواضعا، و شريفكم أحسن الناس خلقا، و أنتم أكرم الناس جوارا و أقلّهم تكلّفا لما لا يعنيه و أحرصهم على الصلاة في جماعة، ثمرتكم أكثر الثمار و أموالكم أكثر الأموال و صغاركم أكيس الأولاد و نساؤكم أقنع النساء و أحسنهنّ تبعّلا، سخّر لكم الماء يغدو عليكم و يروح صلاحا لمعاشكم و البحر سببا لكثرة أموالكم فلو صبرتم و استقمتم لكانت شجرة طوبى لكم مقيلا و ظلّا ظليلا غير أنّ حكم اللّه فيكم ماض و قضائه نافذ لا معقّب لحكمه و هو سريع الحساب يقول اللّه «وَ إِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً»«»
و اقسم لكم يا أهل البصرة ما الّذي ابتدأتكم به من التوبيخ إلّا تذكيرا و موعظة لما بعد لكيلا تسرعوا إلى الوثوب في مثل الّذي و ثبتم و قد قال اللّه تعالى لنبيّه صلى اللّه عليه و آله «وَ ذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ»«» و لا الّذي ذكرت فيكم من المدح و النظرية بعد التذكير و الموعظة رهبة منّي لكم و لا رغبة في شيء ممّا قبلكم فإنّي لا اريد المقام بين أظهركم إنشاء اللّه لامور تحضرني قد يلزمني القيام بها فيما بيني و بين اللّه لا عذر لي في تركها و لا علم لكم بشيء منها حتّى بقع ممّا اريد أن أخوضها مقبلا و مدبرا فمن أراد أن يأخذ بنصيبه منها فليفعل فلعمري إنّه للجهاد الصافي صفّاه لنا كتاب اللّه، و لا الّذي أردت به من ذكر بلادكم موجدة منّي عليكم لما شافهتموني غير أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله قال لي يوما و ليس معه غيري: يا عليّ إنّ جبرئيل الروح الأمين حملني على منكبه الأيمن حتّى أراني الأرض و من عليها و أعطاني أقاليدها و علّمني ما فيها و ما قد كان على ظهيرها و ما يكون إلى يوم القيامة و لم يكبّر ذلك عليّ كما لم يكبّر على أبي آدم علّمه الأسماء و لم يعلّمه الملائكة المقرّبون و إنّي رأيت بقعة على شاطىء البحر تسمّى البصرة فإذن هي أبعد الأرض من السماء و أقربها من الماء و أنّها لأسرع الأرض خرابا و أخبثها ترابا و أشدّها عذابا، و لقد خسف بها في القرون الخالية مرارا و ليأتين عليها زمان، و إنّ لكم يا أهل البصرة و ما حولكم من القرى من الماء ليوما عظيما بلاؤه، و إنّي لأعرف موضع منفجره من قريتكم هذه ثمّ امور قبل ذلك تدهمكم عظيمة أخفيت عنكم و علمناها فمن خرج عنها عند دنوّ غرقها فبرحمة من اللّه سبقت له و من بقى فيها غير مرابط بها فبذنبه «و ما اللّه بظلّام للعبيد»، و أمّا تشبيه ما يخرج من الماء من شرفات المسجد بصدر السفينة و في الرواية الاخرى بالنعامة الجاثمة و في الرواية الثالثة بالطائر في لجّة البحر فتشبيهات ظاهرة، و أمّا وقوع ذلك الغرق المخبر فالمنقول أنّها غرقت مرّة في أيّام القادر باللّه، و مرّة في أيّام القائم بأمر اللّه غرقت بأجمعها و غرق من في ضمنها و خربت مع دورها و لم يبق منها إلّا علوّ مسجدها الجامع حسب ما أخبر به عليه السّلام و كان غرقها من قبل بحر فارس و من ناحية الجبل المعروف بجبل الشام، فكان ذلك مصداق كلامه عليه السّلام، و في ذلك نظر و ذلك لأنّه أشار إلى أنّ ذلك الماء ينفجر من أرضهم بقوله: و إنّي لأعرف موضع منفجره من قريتكم هذه، و ظاهر ذلك يقتضي أنّه لا يكون من ناحية اخرى و اللّه أعلم.
القسم الثاني
أَرْضُكُمْ قَرِيبَةٌ مِنَ الْمَاءِ بَعِيدَةٌ مِنَ السَّمَاءِ- خَفَّتْ عُقُولُكُمْ وَ سَفِهَتْ حُلُومُكُمْ- فَأَنْتُمْ غَرَضٌ لِنَابِلٍ وَ أُكْلَةٌ لِآكِلٍ وَ فَرِيسَةٌ لِصَائِلٍ
اللغة
أقول: السفه رذيلة تقابل الحلم و تعود إلى الطيش و عدم الثبات، و الاكلة اسم للمأكول،
المعنى
و قد علمت أنّ قوله أرضكم قريبة من الماء بعيدة من السماء ممّا حكاه عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله في الفصل المتقدّم أمّا قرب أرضهم من الماء فإشارة إلى أنّها موضعها بط مستقل من الأرض و قريب من البحر فهو بصدد أن يعلوها بملاقاه دجلة و ذلك مشاهد في دخول الماء حدائقهم و سقيه بساتينهم في كلّ يوم مرّة أو مرّتين، أمّا كونها بعيدة من السماء فبحسب استفالها عن غيرها من الأرض، و قيل إنّ من أبعد موضع في الأرض عن السماء الابلّة، و أنّ ذلك مما دلّت عليه الأرصاد و برهن عليه أصحاب علم الهيئة، و قال بعضهم: إنّ كون ذلك في معرض الذّم يصرفه عن مظاهره و إنّما الإشارة إلى أنّهم لمّا كانوا بالأوصاف المذمومة الّتي عددها فيهم كانوا بعداء عن نزول الرحمة عليهم من سماء الجود الإلهيّ مستعدّين لنزول العذاب، و يصدق في العرف أن يقال فلان بعيد من السماء إذا كان كما ذكرناه، قوله خفّت عقولكم إشارة إلى قلّة استعدادهم لدرك وجوه المصالح و ضعف عقولهم عن تدبير أحوالهم و تسرّعهم إلى مالا ينبغي لغفلتهم عمّا ينبغي و هو وصف لهم برذيلة الغباوة، قوله و سفهت حلومكم إشارة إلى وصفهم برذيلة السفه و الخفّة المقابلة للحلم،
قوله فأنتم غرض لنابل و اكلة لآكل و فريسة لصائل هذه الأوصاف الثلاثة لازمة عن خفّة عقولهم و سفه حلومهم و لذلك عقّبها بها لأنّ طمع القاصد لهم بأنواع الأذى إنّما ينشأ من العلم بقلّة عقليّتهم لوجوه المصالح و سفههم فيقصدهم بحسن تدبيره، و الأوّل من هذه الأوصاف كناية عن كونهم مقصدا لمن يريد أذاهم، و الثاني كناية عن كونهم في معرض أن يطمع في أموالهم و نعمتهم و يأكلها من يقصد أكلها، و الثالث عن كونهم بصدد أن يفترسهم من يقصد قتلهم و إهلاكهم، و استعار لفظ الغرض و الاكلة و الفريسة لهم، و وجوه المشابهة فيها ظاهرة. و قد راعى في هذه القرائن السجع ففي الاوليين السجع المطرّف و في الاخريين بعدهما و الثلاث السجع المتوازي.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحرانی)، ج 1 ، صفحهى 290