الفصل الثاني في نسبة إيجاد العالم إلى قدرة اللّه تعالى جملا و تفصيلا و في كيفيّة ذلك و هو اقتصاص في معرض المدح.
خطبه1
أَنْشَأَ الْخَلْقَ إِنْشَاءً وَ ابْتَدَأَهُ ابْتِدَاءً- بِلَا رَوِيَّةٍ أَجَالَهَا وَ لَا تَجْرِبَةٍ اسْتَفَادَهَا- وَ لَا حَرَكَةٍ أَحْدَثَهَا وَ لَا هَمَامَةِ نَفْسٍ اضْطَرَبَ فِيهَا- أَحَالَ الْأَشْيَاءَ لِأَوْقَاتِهَا وَ لَأَمَ بَيْنَ مُخْتَلِفَاتِهَا- وَ غَرَّزَ غَرَائِزَهَا وَ أَلْزَمَهَا أَشْبَاحَهَا- عَالِماً بِهَا قَبْلَ ابْتِدَائِهَا- مُحِيطاً بِحُدُودِهَا وَ انْتِهَائِهَا عَارِفاً بِقَرَائِنِهَا وَ أَحْنَائِهَا: ثُمَّ أَنْشَأَ سُبْحَانَهُ فَتْقَ الْأَجْوَاءِ- وَ شَقَّ الْأَرْجَاءِ وَ سَكَائِكَ الْهَوَاءِ- فَأَجْرَى فِيهَا مَاءً مُتَلَاطِماً تَيَّارُهُ- مُتَرَاكِماً زَخَّارُهُ حَمَلَهُ عَلَى مَتْنِ الرِّيحِ الْعَاصِفَةِ- وَ الزَّعْزَعِ الْقَاصِفَةِ فَأَمَرَهَا بِرَدِّهِ- وَ سَلَّطَهَا عَلَى شَدِّهِ وَ قَرَنَهَا إِلَى حَدِّهِ- الْهَوَاءُ مِنْ تَحْتِهَا فَتِيقٌ وَ الْمَاءُ مِنْ فَوْقِهَا دَفِيقٌ- ثُمَّ أَنْشَأَ سُبْحَانَهُ رِيحاً اعْتَقَمَ مَهَبَّهَا- وَ أَدَامَ مُرَبَّهَا وَ أَعْصَفَ مَجْرَاهَا- وَ أَبْعَدَ مَنْشَأَهَا فَأَمَرَهَا بِتَصْفِيقِ الْمَاءِ الزَّخَّارِ- وَ إِثَارَةِ مَوْجِ الْبِحَارِ فَمَخَضَتْهُ مَخْضَ السِّقَاءِ- وَ عَصَفَتْ بِهِ عَصْفَهَا بِالْفَضَاءِ- تَرُدُّ أَوَّلَهُ إِلَى آخِرِهِ وَ سَاجِيَهُ إِلَى مَائِرِهِ حَتَّى عَبَّ عُبَابُهُ- وَ رَمَى بِالزَّبَدِ رُكَامُهُ- فَرَفَعَهُ فِي هَوَاءٍ مُنْفَتِقٍ وَ جَوٍّ مُنْفَهِقٍ- فَسَوَّى مِنْهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ- جَعَلَ سُفْلَاهُنَّ مَوْجاً مَكْفُوفاً- وَ عُلْيَاهُنَّ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَ سَمْكاً مَرْفُوعاً- بِغَيْرِ عَمَدٍ يَدْعَمُهَا وَ لَا دِسَارٍ يَنْظِمُهَا ثُمَّ زَيَّنَهَا بِزِينَةِ الْكَوَاكِبِ وَ ضِيَاءِ الثَّوَاقِبِ- وَ أَجْرَى فِيهَا سِرَاجاً مُسْتَطِيراً وَ قَمَراً مُنِيراً- فِي فَلَكٍ دَائِرٍ وَ سَقْفٍ سَائِرٍ وَ رَقِيمٍ مَائِرٍ. ثُمَّ فَتَقَ مَا بَيْنَ السَّمَوَاتِ الْعُلَا- فَمَلَأَهُنَّ أَطْوَاراً مِنْ مَلَائِكَتِهِ- مِنْهُمْ سُجُودٌ لَا يَرْكَعُونَ وَ رُكُوعٌ لَا يَنْتَصِبُونَ- وَ صَافُّونَ لَا يَتَزَايَلُونَ وَ مُسَبِّحُونَ لَا يَسْأَمُونَ- لَا يَغْشَاهُمْ نَوْمُ الْعُيُونِ وَ لَا سَهْوُ الْعُقُولِ- وَ لَا فَتْرَةُ الْأَبْدَانِ وَ لَا غَفْلَةُ النِّسْيَانِ- وَ مِنْهُمْ أُمَنَاءُ عَلَى وَحْيِهِ وَ أَلْسِنَةٌ إِلَى رُسُلِهِ- وَ مُخْتَلِفُونَ بِقَضَائِهِ وَ أَمْرِهِ- وَ مِنْهُمُ الْحَفَظَةُ لِعِبَادِهِ وَ السَّدَنَةُ لِأَبْوَابِ جِنَانِهِ- وَ مِنْهُمُ الثَّابِتَةُ فِي الْأَرَضِينَ السُّفْلَى أَقْدَامُهُمْ- وَ الْمَارِقَةُ مِنَ السَّمَاءِ الْعُلْيَا أَعْنَاقُهُمْ- وَ الْخَارِجَةُ مِنَ الْأَقْطَارِ أَرْكَانُهُمْ- وَ الْمُنَاسِبَةُ لِقَوَائِمِ الْعَرْشِ أَكْتَافُهُمْ- نَاكِسَةٌ دُونَهُ أَبْصَارُهُمْ مُتَلَفِّعُونَ تَحْتَهُ بِأَجْنِحَتِهِمْ- مَضْرُوبَةٌ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ مَنْ دُونَهُمْ حُجُبُ الْعِزَّةِ- وَ أَسْتَارُ الْقُدْرَةِ- لَا يَتَوَهَّمُونَ رَبَّهُمْ بِالتَّصْوِيرِ- وَ لَا يُجْرُونَ عَلَيْهِ صِفَاتِ الْمَصْنُوعِينَ- وَ لَا يَحُدُّونَهُ بِالْأَمَاكِنِ وَ لَا يُشِيرُونَ إِلَيْهِ بِالنَّظَائِرِ بئ
اللغة
بئأقول: لم أجد لأهل اللغة فرقا بين الإنشاء و الابتداء و هو الإيجاد الّذي لم يسبق بمثله إلّا أنّه يمكن أن يفرق هاهنا بينهما صونا لكلامه عليه السّلام عن التكرار بأن يقال: المفهوم من الإنشاء هو الإيجاد الّذي لم يسبق غير الموجد إليه و المفهوم من الابتداء هو الإيجاد الّذي لم يقع من الموجد قبل، و الرويّة الفكر، و همامة النفس اهتمامها بالامور و من روى همامة نفس فالمراد ترديد العزوم مأخوذ من الهمهمة و هى ترديد الصوت الخفيّ، و روى أيضا همّة نفس، و الإحالة التحويل و النقل و التغيير و الانقلاب من حال إلى آخر، و روى أجال بالجيم، و روى أيضا أجلّ أي وقّت، و الملائمة الجمع، و الغرائز جمع غريزة و هى الطبيعة الّتي طبع عليها الإنسان كأنّها غرّزت فيه، و النسخ الأصل، و روى أشباحها جمع شبح و هو
الملائك مئالك بتقديم الهمزة من الألوك و هى الرسالة ثمّ قلّبت و قدّمت اللام، و قيل ملأك ثمّ تركت همزته لكثرة الاستعمال فقيل ملك فلمّا جمعوه ردّوها إليه فقالوا ملائكة و ملائك، و السأم الملال، و السدنه جمع سادن و هو الخازن، و مرق السهم من الرمية إذا خرج من الجانب الآخر، و القطر الناحية، و الركن الجانب، و تلفع بثوبه التحف به، و النظائرالشخص، و القرائن جمع قرينة و هى ما يقترن بالشيء، و الأحناء جمع حنو و هي الناحية، و الأجواء جمع جوّ و هو الفضاء الواسع، و فتقها شقّها، و الأرجاء جمع رجاء مقصور و هى الناحية، و السكائك جمع سكاكة كذؤابة و ذوائب و هى الفضاء ما بين السماء و الأرض و كلّ مكان خال فهو هواء، و أجار أى أجرى و من روى أحار أي أدار و جمع، و تلاطم الماء تراد أمواجه و ضرب بعضها بعضا، و الزخّار مبالغة في الزاخر و هو الممتلي، و متن كلّ شيء ما صلب منه و اشتدّ، و عصف الريح شدّة جريانها، و ريح زعزع تحرّك الأشياء بقوّة و تزعزعها، و الريح العاصفة الشديدة كأنّها لشدّتها تكسّر الأشياء و تقصفها، و سلّطها أي جعل لها سلاطة و هى القهر، و الفتيق المنفتق و الدقيق المندفق. و الاعتقام الشدّ و العقد و اعتقم الأرض مهبّها أي جعله خاليا لا نبت به من قولهم عقمت الرحم إذا لم يقدر بها ولد، و روى بغير تاء أي جعلها عقيمة لا تلقح شجرا و لا سحابا، و المربّ المجمع، و العصف الجري بشدّة و قوّة، و الصفق و التصفيق الضرب المترادّ المصوّت، و إنارة الموج رفعه و هيّجه، و أصل البحر الماء المتّسع الغمر، و ربّما خصّص في العرف بالمالح، و تموّج البحر اضطرابه و توجّه ما ارتفع منه حال هيجانه و حركته، و الخض التحريك، و السقاء وعاء اللبن و الماء أيضا، و المائر المتحرّك، و العباب بالضمّ معظم الماء و عبّ أي علا و تدفّق، و الركام الماء المتراكم، و المنفهق الواسع، و التسوية التعديل، و المكفوف الممنوع من السقوط الجوهري، السقف اسم للسماء، و سمك البيت سقفه و السموك الارتفاع، و العمد جمع كثرة لعموم البيت و عامة البيت عموده و ما يمنعه من السقوط، و الدسار كلّ شيء أدخلته في شيء لشدّة كمسمار و حبل و نحوهما، و المستطير المنتشر، و الفلك من أسماء السماء قيل مأخوذ من فلكة المغزل في الاستدارة، و الرقيم اسم للفلك أيضا و اشتقاقه من الرقم و هو الكتابة و النقش لأنّ الكواكب به تشبه الرقوم، و الأطوار الحالات المختلفة و الأنواع المتبائنة قال الكسائي: أصل الأمثال،
و لنرجع إلى المعنى
فنقول:
أنشأ الخلق إنشاء و ابتدئه ابتداء
انشاء الخلق إنشاء و ابتدئه ابتداء يشير إلى كيفيّة، إيجاد الخلق على الجملة عن قدرة اللّه تعالى بعد أن ينبّه على أصل الإيجاد بقوله فطر الخلائق بقدرته و أتى بالمصدرين بعد الفعلين تأكيدا لنسبة الفعلين إلي اللّه تعالى و صدق هاتين القضيّتين ظاهر فإنّ الباري تعالى لمّا لم يكن مسبوقا بغيره لا جرم صدق الإنشاء منه، و لمّا لم يكن العالم موجودا قبل وجوده لا جرم صدق ابتداؤه له.
قوله بلا رويّة أجالها و لا تجربة استفادها و لا حركة أحدثها و لا همامة نفس اضطرب فيها.
أقول: لمّا كانت هذه الكيفيّات الأربع من شرائط علوم الناس و أفعالهم الّتي لا يمكن حصولها إلّا بها أراد تنزيه اللّه سبحانه عن أن يكون إيجاده للعالم موقوفا على شيء منها أمّا الرويّة و الفكر فلمّا كانت عبارة عن حركة القوّة المفكّرة في تحصيل مبادئ المطالب و الانتقال منها إليها أو عن تلك القوّة أيضا نفسها كان ذلك في حقّ اللّه تعالى محالا لوجهين: أحدهما أنّ القوّة المفكّرة من خواصّ نوع الإنسان، الثاني أنّ فائدتها تحصيل المطالب المجهولة و الجهل على اللّه تعالى محال، و أمّا التجربه فلمّا كانت عبارة عن حكم الفعل بأمر على أمر بواسطة مشاهدات متكرّرة معدّة لليقين بسبب انضمامه قياس خفيّ إليها و هو أنّه لو كان هذا الأمر اتّفاقيّا لمّا كان دائما و لا أكثريّا كان توقّف فعل اللّه تعالى على استفادة الأحكام منها محالا لوجهين: أحدهما أنّها مركّبة من مقتضى الحسّ و العقل، و ذلك أنّ الحسّ بعد مشاهدته وقوع الإسهال مثلا عقيب شرب الدواء مرّة و مرّة ينتزع العقل منها حكما كليّا بأنّ ذلك الدواء مسهل، و معلوم أنّ اجتماع الحسّ و العقل من خواصّ نوع الإنسان، الثاني أنّ التجربة إنّما يفيد علما لم يكن فالمحتاج إلى التجربة لاستفادة العلم بها ناقص بذاته مستكمل بها و المستكمل بالغير محتاج إليه فيكون ممكنا على ما مرّ و ذلك على اللّه محال، و أمّا الحركة فقد عرفت أنّها من خواصّ الأجسام و الباري سبحانه منزّه عن الجسميّة فيمتنع صدق المتحرّك عليه و إن صدق أنّه محرّك الكلّ لأنّ المتحرك ما قامت به الحركة و المحرّك أعمّ من ذلك، و أمّا الهمامة أو الهمّة فلمّا كانت مأخوذة من الاهتمام، و حقيقته الميل النفسانيّ الجازم إلى فعل الشيء مع التألّم و الغمّ بسبب فقد كان ذلك في حقّ اللّه تعالى محالا لوجهين: أحدهما أنّ الميل النفسانيّ من خواصّ الإنسان طلبا لجلب المنفعة و الباري سبحانه منزّه عن الميول النفسانيّة و جلب المنافع، الثاني أنّه مستلزم للتألّم المطلوب و التألّم على اللّه تعالى محال، و إذ ليس إيجاده تعالى للعالم على أحد الأنحاء المذكورة فهو إذن بمحض الاختراع و الإبداع البريء من الحاجة إلى أمر من خارج ذاته المقدّسة بديع السماوات و الأرض وَ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، فاعلم أنّه عليه السّلام أردف كلّا من هذه الامور بما هو كيفيّة في وجوده فأردف الرويّة بالإحالة و التجربة بالاستفادة و الحركة بالإحداث و الهمامة بالاضطراب لتنتفي الكيفيّة بانتفاء ما هى له عن ذاته المقدّسة و باللّه التوفيق.
قوله أحال الأشياء لأوقاتها و لائم بين مختلفاتها و غرّز غرائزها و ألزمها أشباحها.
أقول: لمّا نبّه على نسبة إيجاد العالم إلى اللّه تعالى جملة أشار بعده إلى أنّ ترتيبه و ما هو عليه من بديع الصنع و الحكمة كان مفصّلا في علمه و على وفق حكمته البالغة قبل إيجاده، و المراد بقوله أجال الأشياء لأوقاتها الإشارة إلى ربط كلّ ذي وقت بوقته بحسب ما كتب في اللوح المحفوظ بالقلم الإلهيّ بحيث لا يتأخّر متقدّم و لا يتقدّم متأخّر منها، و معنى الإجالة نقل كلّ منها إلى وقته، و تحويله من العدم و الإمكان الصرف إلى مدّته المضروبة لوجوده، و اللام في لأوقاتها لام التعليل أي لأجل أوقاتها إذ كلّ وقت يستحقّ بحسب قدرة اللّه و علمه أن يكون فيه ما لا يكون في غيره، و على النسخة الاخرى فمعنى تأجيلها جعل أوقاتها أجلالها لا تتقدّم عليها و لا تتأخّر عنها كما قال «وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ» و نبّه بقوله و لائم بين مختلفاتها على كمال قدرة اللّه تعالى، و بيان ذلك في صورتين: إحداهما أنّ العناصر الأربع متضادّة الكيفيّات، ثمّ إنّها إذا اجتمعت بقدرة اللّه تعالى و على وفق حكمته حتّى انكسرت صورة كلّ واحد منها بالآخر و هو المسمّى بالتفاعل حصلت كيفيّة متوسّطة بين الأضداد متشابهة و هي المزاج فامتزاج اللطيف بالكثيف على ما بينهما من تضادّ الكيفيّات و غاية البعد بقدرته التامّة من أعظم الدلائل الدالّة على كمالها، الثانية أنّ الملائمة بين الأرواح اللطيفة و النفوس المجرّدة الّتي لا حاجة بها في قوامها في الوجود إلى مادّة أصلا و بين هذه الأبدان المظلمة الكثيفة و اختصاص كلّ نفس ببدن منها و تدبيره و استعماله فيما يعود إليها من المصالح على النظام الأقصد و الطريق الأرشد ممّا يشهد بكمال قدرته و لطيف حكمته، و قوله و غرّز غرائزها إشارة إلى ركن القويّ الجسمانيّة النفسانيّة فيما هي قوي له و خلق كلّ ذي طبيعة على خلقه و مقتضى قواه الّتي غرّزت فيه من لوازمه و خواصّه مثلا كقوّة التعجّب و الضحك للإنسان، و قوّة الشجاعة للأسد و الجبن للأرنب، و المكر للثعلب و غير ذلك، و عبّر عن إيجادها فيها بالغرز و هو الركز استعارة لما يعقل من المشابهة بينها و بين العود الّذي يركز في الأرض من جهة المبدأ و من جهة الغاية، و ذلك أنّ اللّه سبحانه لمّا غرّز هذه الغرائز في محالّها و اصولها و كانت الغاية من ذلك ما يحصل منها من الآثار الموافقة لمصلحة العالم أشبه ذلك غرز الإنسان العود في الأرض لغاية أن يثمر ثمرة منتفعا بها، و قوله و ألزمها أسناحها إشارة إلى أنّها لا تفارق اصولها و لا يمكن زوالها عنها لأنّ اللازم هذا شأنه، و من روي أشباحها بالشين المعجمة فالمراد أنّ ما غرّز في الأشخاص من اللوازم و الغرائز لا تفارقها سواء كانت تلك الغرائز من لوازم الشخص كالذكاء و الفطنة بالنسبة إلى بعض الناس و البلادة و الغفلة لآخر أو من لوازم المهيّات و طباعها لوجود المهيّات في أشخاصها هذا إن قلنا إنّ الضمير في قوله و ألزمها عائد إلى الغرائز أمّا إن قلنا إنّه عائد إلى الأشياء كان المراد أنّ اللّه سبحانه لمّا أجال الأشياء لأوقاتها و لائم بين مختلفاتها و غرّز غرائزها في علمه و قضائه ألزمها بعد كونها كلّيّة أشخاصها الجزئيّة الّتي وجدت فيها. لا يقال: إنّ لوازم المهيّات مقتضى المهيّات فكيف يمكن نسبة إلزامها لاصولها إلى قدرة اللّه تعالى لأنّا نقول: المستند إلى مهيّة الملزوم ليس إلّا مهيّة لازمه، و أمّا وجوده له فبقدرة اللّه تعالى فيكون معنى إلزامها لأصولها إيجادها في اصولها تبعا لإيجاد اصولها على تقدير وجودها.
قوله عالما بها قبل ابتدائها محيطا بحدودها و انتهائها عارفا بقرائنها و أحنائها.
أقول: المنصوبات الثلاثة و هي قوله عالما و محيطا و عارفا منصوبة على الحال، و العامل فيها قوله ألزمها إعمالا للأقرب، و الأحوال الثلاثة مفسّرة لمثلها عقيب الأفعال الثلاثة الأول إذ كانت صالحة لأن يكون أحوالا عنها، و المراد في القضيّة الاولى إثبات الأفعال الأربعة له حال كونه عالما بالأشياء قبل إيجادها حاضرة في علمه بالفعل كلّيها و جزئيّها، و في القضيّة الثانية نسبة تلك الأفعال إليه حال إحاطة علمه بحدودها و حقائقها المميّزة لبعضها عن بعض و إنّ كلّا منته بحدّه واقف عنده و هو نهايته و غايته، و يحتمل أن يريد بانتهائها انتهاء كلّ ممكن إلى سببه و انتهاء الكلّ في سلسلة الحاجة إلى اللّه، و في القضيّة الثالثة نسبة الأفعال إلى قدرته حال علمه بما يقترن بالأشياء من لوازمها و عوارضها، و علمه بكلّ شيء يقترن بشيء آخر على وجه التركيب أو المجاورة كاقتران بعض العناصر ببعض في أحيازها الطبيعيّة على الترتيب الطبيعي، و علمه بأحنائها و جوانبها الّتي بها تنتهي و تقارن غيرها، و بيان هذه الأحكام له تعالى ببيان أنّه عالم بكلّ المعلومات من الكلّيّات و الجزئيّات و ذلك ممّا علم في العلم الإلهيّ فإن قلت: إطلاق اسم العارف على اللّه تعالى لا يجوز لقول النبيّ صلى اللّه عليه و آله: إنّ للّه تسعة و تسعين اسما من أحصاها دخل الجنّة، و إجماع علماء النقل على أنّ هذا الاسم ليس منها قلت: الأشبه أنّ أسماء اللّه تعالى تزيد على التسعة و التسعين لوجهين أحدهما قول النبيّ صلى اللّه عليه و آله أسئلك بكلّ اسم سميّت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علّمته أحدا من خلقك و استأثرت به في علم الغيب عندك فإنّ هذا صريح في أنّه استأثر ببعض الأسماء، الثاني أنّه صلى اللّه عليه و آله قال في رمضان: إنّه اسم من أسماء اللّه تعالى و كذلك كان الصحابة يقولون فلان اوتى الاسم الأعظم و كان ذلك ينسب إلى بعض الأنبياء و الأولياء و ذلك يدلّ على أنّه خارج من التسعة و التسعين، فإذا كان كذلك كان كلّ الكلام في قوله صلى اللّه عليه و آله إنّ للّه تسعة و تسعين اسما من أحصاها دخل الجنّة قضيّة واحدة معناها الإخبار بأنّ من أسماء اللّه تعالى تسعة و تسعين من أحصاها يدخل الجنّة و يكون تخصيصها بالذكر لاختصاصها بمزيد شرف لا يكون لباقي الأسماء و هي كونها مثلا جامعة لأنواع من المعاني المنبئة عن الكمال بحيث لا يكون لغيرها لا لنفي أن يكون اللّه تعالى اسم غيرها، و إذا كان كذلك جاز أن يكون العارف من تلك الأسماء. لا يقال: إنّ الاسم الأعظم غير داخل فيها لاشتهارها و اختصاص معرفته بالأنبياء و الأولياء و إذا كان كذلك فكيف يصدق عليها أنّها أشرف الأسماء. لأنّا نقول: يحتمل أن يكون خارجا منها و يكون شرفها حاصلا بالنسبة إلى باقي الأسماء الّتي هى غيره و يحتمل أن يكون داخلا فيها إلّا أنّا لا نعرفه بعينه و يكون ما يختصّ به النبيّ أو الوليّ إنّما هو تعيينه منها.
قوله ثمّ أنشأ سبحانه فتق الأجواء إلى قوله فسوّى منه سبع سماوات
أقول: لمّا أشار عليه السّلام في الفصل المتقدّم إلى نسبة خلق العالم إلى قدرة اللّه تعالى على سبيل الإجمال شرع بعده في تفصيل الخلق و كيفيّة إيجاده و الإشارة إلى مباديه و لذلك حسن إيراد ثمّ هاهنا. و في هذا الفصل أبحاث:
البحث الأوّل
– اعلم أنّ خلاصة ما يفهم من هذا الفصل أنّ اللّه قدّر أحيازا و أمكنة أجرى فيها الماء الموصوف و خلق ريحا قويّة على ضبطه و حفظه حمله عليها و أمرها بضبطه، و يفهم من قوله الهواء من تحتها فتيق و الماء من فوقها دفيق أنّ تلك الأحياز و الأمكنة تحتها و أنّها امرت بحفظه و ضبطه لتوصّله إلى تلك الأحياز، و ربّما فهم منه أنّ تلك الأحياز تحتها للماء و هى سطح الريح الحاوي له، و أنّ تحت تلك الريح فضاء آخرا واسعا و هي محفوظة بقدرة اللّه تعالي كما ورد في الخبر ثمّ خلق سبحانه ريحا آخرا لأجل تموّج ذلك الماء فأرسلها و عقدّ مهبّها أى أرسلها بمقدار مخصوص علي وفق الحكمة و المصلحة الّتي أرادها بإجرائها و لم يرسلها مطلقا، و من روى بالتاء فالمراد أنّه أخلى مهبّها عن العوائق أو أنّه أرسلها بحيث لا يعرف مهبّها و أدام حركتها و ملازمتها لتحريك الماء و أعصف جريانها و أبعد مبتداهما ثمّ سلّطها على تموّج ذلك الماء فلمّا عبّ عبابه و قذف بالزبد رفع تعالى ذلك الزبد في الفضاء و كوّن منه السماوات العلى.
البحث الثاني–
أنّ هذه الإشارة وردت في القرآن الكريم
فإنّه اشير فيه إلى أنّ السماوات تكوّنت من الدخان كقوله تعالى «ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَ هِيَ دُخانٌ» و المراد بخار الماء كذلك وردت في أقوال كثيرة:«» ما روي عن الباقر محمّد بن علي عليهما السلام قال: لمّا أراد اللّه سبحانه و تعالى أن يخلق السماء أمر الرياح فضربن البحر حتّى أزبد فخرج من ذلك الموج و الزبد دخان ساطع من وسطه من غير نار فخلق اللّه منه السماء (ب) ما نقل أنّه جاء في السفر الأوّل من التورية أنّ مبدء الخلق جوهر خلقه اللّه ثمّ نظر إليه نظر الهيبة فذابت أجزاؤه فصارت ماء فثار من الماء بخار كالدخان فخلق منه السماوات و ظهر على وجه الماء زبد البحر فخلق منه الأرض ثمّ أرسلها بالجبال و في رواية اخرى فخلق منه أرض مكّةثمّ بسط الأرض من تحت الكعبة و لذلك تسمّى مكة امّ القرى (ج) نقل عن كعب ما يقرب من ذلك قال إنّ اللّه تعالى خلق ياقوتة خضراء ثمّ نظر إليها بالهيبة فصارت ماء يرتعد ثمّ خلق الريح فجعل الماء على متنها ثمّ وضع العرش على الماء كما قال تعالى «وَ كانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ» (د) ما نقل عن تاليس الملطي و كان من مشاهير الحكماء القدماء فإنّه نقل عنه بعد أن وحّد الصانع الأوّل للعالم و تنزّهه أنّه قال: لكنّه أبدع العنصر الّذي فيه صور الموجودات و المعلومات كلّها و سمّاه المبدع الأوّل، ثمّ نقل عنه أنّ ذلك العنصر هو الماء قال: و منه أنواع الجوهر كلّها من السماء و الأرض و ما بينهما و هو علّة كلّ مبدع و علّة كلّ مركّب من العنصر الجسمانيّ فذكر أن من جمود الماء تكوّنت الأرض و من انحلاله تكوّن الهواء و من صفوته تكوّنت النار و من الدخان و الأبخرة تكوّنت السماء، و قيل: إنّه أخذ ذلك من التوراة (ه) ما وجدته في كتاب بلينوس الحكيم الّذي سمّاه الجامع لعلل الأشياء قريبا من هذه الإشارة و ذلك أنّه قال: إنّ الخالق تبارك و تعالي كان قبل الخلق و أراد أن يخلق الخلق فقال: ليكن كذا و كذا فكان ما أراد بكلمته فأوّل الحدث كلمة اللّه المطاعة الّتي كانت بها الحركة ثمّ قال: بعده إنّ أوّل ما حدث بعد كلام اللّه تعالى الفعل فدلّ بالفعل على الحركة و دلّ بالحركة على الحرارة ثمّ لمّا نقصت الحرارة جاء السكون عند فنائها فدلّ بالسكون على البرد، ثمّ ذكر بعد ذلك أنّ طبائع العناصر الأربعة إنّما كانت من هاتين القوّتين أعنى الحرّ و البرد قال: و ذلك أنّ الحرارة حدث منها اللين و من البرودة أ ليس فكانت أربع قوى مفردات فامتزج بعضها ببعض فحدث من امتزاجها الطبائع الأربع و كانت هذه الكيفيّات قائمة بأنفسها غير مركّبة فمن امتزاج الحرارة و اليبس حصلت النار و من الرطوبة و البرودة حدث الماء و من الحرارة و الرطوبة حدث الهواء و من امتزاج البرد و اليبس حصلت الأرض ثمّ قال: إنّ الحرارة لمّا حرّكت طبيعة الماء و الأرض تحرّك الماء للطفه عن ثقل الأرض و أثقلت ما أصابه من الأرض فصار بخارا لطيفا هوائيّا رقيقا روحانيّا و هو أوّل دخان طلع من أسفل الماء و امتزج بالهواء فسما إلي العلو لخفّته و لطافته و بلغ الغاية في صعوده على قدر قوّته و نفرته من الحرارة فكان منه الفلك الأعلى و هو فلك زحل، ثمّ حرّكت النار الماء أيضا فطلع منه دخان هو أقلّ لطفا ممّا صعد
أوّلا و أضعف فلمّا صار بخارا سما العلوّ بجوهره و الطاقته و لم يبلغ فلك زحل لعلّة لطافته عمّا قبله فكان منه الفلك الثاني و هو فلك المشتري و هكذا بيّن في طلوع الدخان مرّة مرّة و تكون الأفلاك الخمسة الباقية عنه. فهذه الإشارات كلّها متطابقة على أنّ الماء هو الأصل الّذي تكوّنت عنه السماوات و الأرض و ذلك مطابق لكلامه عليه السّلام.
البحث الثالث
قوله و أدام مربّها
قال قطب الدين الراوندي: أي أدام جمع الريح للماء و تسويتها له. قلت: تقرير ذلك أنّ الماء لمّا كان مقرّ الريح الّذي انتهت إليه و عملت في تحريكه كان ذلك هو مربَّها أي الموضع الّذي لزمته و أقامت به، فقوله و أدام مربّها أي أدام حركة الماء و اضطرابه، و محتضه و هو محلّ إربابها و يحتمل أن يكون قد استعمل اسم الموضع استعمال المصدر، و التقدير أدام إربابها أي ملازمتها لتحريك الماء و أيضا فيحتمل أن يكون قد شبّهها في كونها سببا للآثار الخيريّة و في كثرتها و قوّتها بالديمة فكان محلّها و مقرّها الّذي تصل إليه و تقيم بها قد أدامه اللّه أى سقاه اللّه ديمة، و قوله و أبعد منشأها قال: أي أبعد ارتفاعها قلت: المنشأ محلّ النشو و هو الموضع الّذي أنشأها منه فلا يفهم منه الارتفاع اللهمّ إلّا على تقدير استعماله لموضع الإنشاء استعمال المصدر أي بلغ بإنشائها غاية بعيدة، و الأقرب أنّه يشير إلى أنّها نشأت من مبدء بعيد و لا يمكن الوقوف على أوّله و هو قدرة الحقّ سبحانه وجوده، و قوله و أمرها. قال- رحمه اللّه- : أمر المؤكلّين بها من الملائكة بضرب الماء بعضه بعضا و تحريكه كمحض اللبن للزبد و أطلق الأمر عليها مجازا لأنّ الحكيم لا يأمر الجماد. قلت: بل حمله على أمر الريح أولى لأنّ في التقدير الّذي ذكره يكون التجوّز في لفظ الأمر لعدم القول المخصوص هناك فيحمل على قهر ملائكتها و في نسبته الى الريح أيضا مجاز إذا اريد ملائكتها أمّا إذا حملناه على ظاهره كان التجوّز في لفظ الأمر دون النسبة فكان أولى، و قوله مخض السقاء و عصفها بالفضاء أي مثل مخض السقاء و مثل عصفها فحذف المضاف الّذي هو صفة المصدر و أقام المضاف إليه مقامه فلذلك نصبه نصب المصادر، و اعلم أنّ اللام في قوله بتصفيق الماء للمعهود السابق في قوله ماء متلاطما لأنّ المائين واحد، و مثل هذا التكرار جاز في الكلام الفصيح كقوله تعالى «كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ»
فإن قلت: إنّ الأجواء و الأرجاء و سكائك الهواء امور عدميّة فكيف يصحّ نسبتها إلى الإنشاء عن القدرة. قلت: إنّ هذه الأشياء عبارة عن الخلاء و الأحياز، و الخلاف في أنّ الخلاء و الحيّز و المكان هل هي امور وجوديّة أو عدميّة مشهور فإن كانت وجوديّة كانت نسبتها إلى القدرة ظاهرة، و يكون معنى فتقها و شقّها و نسبتها إلى القدرة تقديرها و جعلها أحيازا للماء و مقرّا له لأنّه لمّا كان تمييزها عن مطلق الهواء و الخلاء بإيحاد اللّه فيها الماء صار تعيّنها له بسبب قدرته تعالى فيصحّ نسبتها إلى إنشائه فكأنّه سبحانه شقّها و فتقها بحصول الجسم فيها، روي أنّ زرارة و هشاما اختلفا في الهواء أهو مخلوق أم لا فرفع بعض موالي الصادق جعفر بن محمّد عليهما السلام إليه ذلك و قال: إنّي متحيّر و أرى أصحابنا يختلفون فيه فقال عليه السّلام: ليس هذا بخلاف يؤدّي إلى الكفر و الضلال، و اعلم أنّه عليه السّلام إنّما أعرض عن بيان ذلك لأنّ أولياء اللّه الموكّلين بإيضاح سبيله و تثبيت خلقه على صراط المستقيم لا يلتفتون بالذات إلّا إلى أحد أمرين، أحدهما ما يؤدّي إلى الهدى أداء ظاهرا واضحا، و الثاني ما يصرف عن الضلال و يردّ إلى سواء السبيل، و بيان أنّ الهواء مخلوق أو غير مخلوق لا يفيد كثير فائدة في أمر المعاد فلا يكون الجهل به ممّا يضرّ في ذلك فكان ترك بيانه و الاشتغال بما هو أهمّ منه أولى.
البحث الرابع
أنّ القرآن الكريم نطق بأنّ السماء تكوّنت من الدخان
و كلامه عليه السّلام ناطق بأنّها تكوّنت من الزبد و ما ورد في الخبر أنّ ذلك الزبد هو الّذي تكوّنت منه الأرض فلا بدّ من بيان وجه الجمع بين هذه الإشارات. فنقول: وجه الجمع بين كلامه عليه السّلام و بين لفظ القرآن الكريم ما ذكره الباقر عليه السّلام و هو قوله فيخرج من ذلك الموج و الزبد دخان ساطع من وسطه من غير نار فخلق منه السماء و لا شكّ أنّ القرآن الكريم لا يريد بلفظ الدخان حقيقته لأنّ ذلك إنّما يكون عن النار و اتّفق المفسّرون على أنّ هذا الدخان لم يكن عن نار بل عن تنفّس الماء و تبخيره بسبب تموّجه، فهو إذن استعارة للبخار الصاعد من الماء و إذا كان كذلك فنقول: إنّ كلامه عليه السّلام مطابق للفظ القرآن الكريم و ذلك أنّ الزبد بخار يتصاعد على وجه الماء عن حرارة حركته إلّا أنّه ما دامت الكثافة غالبة عليه و هو باق على وجه الماء لم ينفصل فإنّه يخصّ باسم الزبد و ما لطف و غلبت عليه الأجزاء الهوائيّة فانفصل خصّ باسم البخار، و إذا كان الزبد بخارا و البخار هو المراد بالدخان
في القرآن الكريم كان مقصده و مقصد القرآن واحد فكان البخار المنفصل هو الّذي تكوّنت عنه السماوات و الّذي لم ينفصل هو الّذي تكوّنت عنه الأرض و هو الزبد، و أمّا وجه المشابهة بين الدخان و البخار الّذي صحّت لأجله استعارة لفظه فهو أمران: أحدهما حسّي و هو الصورة المشاهدة من الدخان و البخار حتّى لا يكاد يفرق بينهما في الحسّ البصري، و الثاني معنويّ و هو كون البخار أجزاء مائيّة خالطت الهواء بسبب لطافتها عن حرارة الحركة كما أنّ الدخان كذلك و لكن عن حرارة النار فإنّ الدخان أيضا أجزاء مائيّة انفصلت من جرم المحترق بسبب لطافتها عن حرّ النار فكان الاختلاف بينهما ليس إلّا بالسبب فلذلك صحّ استعارة اسم أحدهما للآخر و باللّه التوفيق.
البحث الخامس
قال المتكلّمون: إنّ هذه الظواهر من القرآن و كلام عليّ عليه السّلام لمّا دلّت على ما دلّت عليه من كون الماء أصلا تكوّنت عنه السماوات و الأرض و غير ذلك و ثبت أنّ الترتيب المذكور في المخلوقات أمر ممكن في نفسه و ثبت أنّ الباري تعالى فاعل مختار قادر على جميع الممكنات ثمّ لم يقم عندنا دليل عقليّ يمنع من أجزاء هذه الظواهر على ما دلّت عليه بظاهرها وجب علينا القول بمقتضي تلك الظواهر و لا حاجة بنا إلى التأويل.
لا يقال: إنّ جمهور المتكلّمين يتّفقون على إثبات الجواهر الفرد و أنّ الأجسام مركّبة عنه فبعضهم يقول: إنّ الجوهر كانت ثابتة في عدمها و الفاعل المختار كساها صفة التأليف و الوجود، و بعضهم و إن منع ثبوتها في العدم إلّا أنّه يقول: إنّ اللّه تعالى يوجد أوّلا تلك الجواهر ثمّ يؤلّف بينها فيوجد منها الأجسام فكيف يقال إنّ السماوات و الأرض تكوّنت من الماء لأنّا نقول: هذا ظاهر لأنّه يجوز أن يخلق اللّه تعالى أوّل الأجسام من تلك الجواهر ثمّ تكوّن باقي الأجسام عن الأجسام الأول، و أمّا الحكماء فلمّا لم يكن الترتيب الّذي اقتضته هذه الظواهر في تكوين الأجسام موافقا لمقتضي أدلّتهم لتأخّر وجود العناصر عندهم عن وجود السماوات لا جرم عدل بعضهم إلى تأويلها توفيقا بينها و بين مقتضي أدلّتهم و ذكروا من التأويل وجهين:
الوجه الأوّل
– قالوا: العالم عالمان عالم يسمّى عالم الأمر و هو عالم الملائكة الروحانيّة و المجرّدات، و عالم يسمّى عالم الخلق و هو عالم الجسمانيّة و على ذلك حملوا قوله تعالى
«أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ» ثمّ قالوا: ما من موجود في عالم الجسمانيّة إلّا و له نسبة إلى عالم الروحانيّة و هو مثال له بوجه ما و لو لا ذلك لأنسدّ طريق الترقّي إلى العالم الروحانيّ و تعذّر السفر إلى الحضرة الإلهيّة، ثمّ كان من بحثهم أن بيّنوا أنّ قدرة اللّه سبحانه ترجع إلى كون ذاته عاملة بالكلّ علما هو مبدء الكلّ مبدئيّة بالذات غير مأخوذة عن شيء و لا متوقّفة على وجود شيء، ثمّ لمّا دلّ دليلهم على أنّ رتبة صدور عالم الأمر أعلى في الوجود و أسبق نسبة إلى قدرة المبدع الأوّل من عالم الخلق إذ كان صدور عالم الخلق إنّما هو بواسطة عالم الأمر كان اعتبار إيجاد عالم الأمر عن القدرة أمرا أوّلا و اعتبار إيجاد عالم الخلق عنها أمرا ثانيا متأخّرا عنه فعند ذلك قالوا: إنّ الّذي أشار إليه عليه السّلام هاهنا موافق لما أصّلناه و متناسب له، و ذلك أنّه أشار بالأجواء و الأرجاء و سكائك الهواء إلى سلسلة وجود الملائكة المسمّاة بالعقول الفعّالة على مراتبها متنازلة، و بإنشائها إلى إيجادها، و و بفتقها و شقّها إلى وجودها، و بالماء المتلاطم المتراكم إلى الكمالات الّتي وجبت عنه سبحانه و بإجرائها فيها إلى افاضته على كلّ واحد منها ما استحقّه بواسطة ما قبله، و بالريح العاصف إلى الأمر الأوّل الّذي أشرنا إليه عن القدرة، و أمّا وجه المناسبة بين هذه الامور و بين ما ذكره فأمّا في التعبير عن العقول بالأرجاء و الأجواء و السكائك فمن جهة أنّها قابلة للفيض و الكمالات عن مبدئها الأوّل كما أنّ الأرجاء و الأجواء و سكائك الهواء قابلة للماء عمّا يخرج عنه من سحاب أو ينبوع، و أمّا في تشبيه الفيض بالماء فلأنّه لمّا لم يكن بحيث يتوقّف إلّا على تمام القابل فحيث وجد سال بطبعه إليه كذلك الفيض الإلهيّ لا يتوقّف صدوره عن واهبه إلّا على تمام القابل لكون الفاعل تامّ الفاعليّة في ذاته، و لأنّ الماء لمّا كان به قوام كلّ حيّ جسمانيّ في عالم الكون كذلك الفيض الإلهيّ هو مبدء قوام كلّ موجود قالوا: و مثل هذا التشبيه جاء في القرآن الكريم قال جمهور المفسّرين و منهم ابن عباس- رضى اللّه عنه- في قوله تعالى «أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها»«»: إنّ المراد بالماء هو العلم، و بالأودية قلوب العباد، و بإنزاله إفاضته على القلوب، و بقوله فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها أنّ كلّ قلب منها يصل إليه مقدار ما يستحقّه و يقبله.
قالوا: و ذلك أنّ اللّه سبحانه أنزل من سماء الكبرياء و الجلالة و الإحسان ماء بيان القرآن و علومه على قلوب العباد لأنّ القلوب يستقرّ فيها أنوار علوم القرآن كما أنّ الأودية يستّقر فيها المياه النازلة من السماء و كما أنّ كلّ واد فإنّما يحصل فيه من مياه الأمطار ما يليق بسعته و ضيقه فكذلك هاهنا كلّ قلب إنّما يحصل فيه أنوار علم القرآن ما يليق بذلك القلب من طهارته و خبثه و قوّة فهمه و بصره و تمام التشبيه في الآية مذكور في التفاسير، و أمّا تشييه الأمر الأوّل بالريح العاصفة فلأنّ وقوعه لمّا كان دفعة غير منسوب إلى زمان يتوقّف عليه كان أنسب ما يشبه به من الأجسام في السرعة و النفوذ و هو الريح العاصف لكونها أسرع الأجسام حركة و لذلك أكّدها بوصف العصف تقريرا للسرعة التامّة و ما أمرنا إلّا واحدة كلمح بالبصر و بوصف الزعزعه و القصف تحقيقا للقوّة العالية و الشدّة الشديدة، و أمّا أمره لها بردّه و تسليطها على شدّة فلأنّه لمّا صوّرها بصورة الريح ساغ أن يقال: إنّه أمرها و هو عبارة عن نسبة ذلك الأمر إلى ذاته تعالى النسبة الّتي تحدثها عقولنا الضعيفة، و فائدة الردّ و الشدّ هاهنا ضبط أمره سبحانه على وفق حكمته الكمالات الفائضة عنه على كلّ مورد مورد بحسب نوعه المستلزم لردّه عمّن ليس له ذلك الكمال المعيّن، و أمّا قرنها إلى حدّه فإشارة إلى إحاطة أمره سبحانه بما لتلك القوابل من الكمالات الفائضة و اشتماله عليها، و قوله الهواء من تحتها فتيق إشارة إلى قبول القوابل المذكورة، و الماء من فوقها دفيق إشارة إلى ما يحمله أمر اللّه من الفيض المذكور و يلقيه على تلك القوابل و كلّ ذلك بترتيب عقليّ لأزمان تلحقه فيعقل فيه التراخي، و أمّا الريح الثانية فأشار بها عليه السّلام إلى الأمر الثاني و وصفها باعتقام مهبّها إشارة إلى عقد ذلك الأمر و إيقاعه على وفق الحكمة الإلهيّة و إلى عدم مانع لجريان ذلك الأمر، و بإدامة مربّها إلى إفاضة مقارّ ذلك الأمر فكأنّه شبّه الفيض الصادر بهذا الأمر على هيولى الأجسام الفلكيّة بالديمة الهاطلة على الأماكن الّتي يجتمع بها و يقيم، أو أراد أنّ المحالّ القابلة لذلك الأمر المستلزمه له ذاتيّة دائمة، و أشار بعصف مجراها إلى سرعة ذلك الأمر كما وصف به الريح الاولى، و ببعد منشأها إلى عدم أوّليّة مبدؤه، و بأمره لهذه الريح إلى نسبة ذلك الأمر إلى ذاته كما مرّ، و بتصفيق الماء الزخّار و إثارة أمواج البحار إلى نسبة فيضان صور الأفلاك و كمالاتها إلى أمره سبحانه
بواسطة تلك الكمالات الفعليّة للملائكة و أنّها غير مستقلّة بإيجاد شيء بل على شرائط بعضها لبعض و لغيرها، و بالبخار إلى تلك الملائكة و بمخضها له مخض السقاء و عصفها به كعصفها بالفضاء و ترديد بعضه على بعض و إلى قوّة أمر اللّه عليها و تصريفها على حسب علمه بنظام الكلّ و تقدير ما لكلّ فلك من الكمالات في ذات كلّ مبدء من تلك المباديء، و قوله حتّى عبّ عبابه إشارة إلى بلوغ كمالات تلك الملائكة الحاصلة لها بالفعل عن أمر اللّه إلى رتبة أن يعطى بواسطتها الفيض لغيرها، و كذلك قوله ورمى بالزبد ركامه إشارة إلى إعطاء صور الأفلاك و كمالاتها بواسطتها، و لمّا كانت صور الأفلاك محتاجة في قيامها في الوجود إلى الهيولى كانت نسبتها إلى الملائكة المجرّدة نسبة أخسّ إلى أشرف فبالحريّ أن اطلق عليها اسم الزبد و لأنّ هذه الصور حاصلة من تلك الكمالات العقليّة و فائضة عنها كما أنّ الزبد منفصل عن الماء و مكوّن عنه فتشابها، و أمّا رفعه في أهواء منفتق و جوّ منفهق فإشارة إلى إلحاق صور الأفلاك بموادّها المستعدّة أو إلى تخصيص وجودات الأفلاك بأحيازها و رفعها إليها، و قوله فسوّى عنه سبع سماوات إشارة إلى كمال الأفلاك بما هى عليه من الوضع و التعديل و الترتيب، و أمّا تخصيصه بالسبع فلأنّ الفلكين الباقيين في الشريعة معروفان باسمين آخرين و هما العرش و الكرسيّ، ثمّ قالوا: و إلى هذا أشار الحكماء السابقون أيضا فإنّ مرادتا ليس الملطي بالعنصر الأوّل هو المبدع الأوّل و كونه هو الماء لأنّ المبدع الأوّل واسطة في باقي الموجودات و فيه صورها و عنه تفاض كمالاتها كما أنّ بالماء قوام كلّ حيّ عنصريّ و بواسطته تكوّن و كذلك سرّ ما جاء في التوراة فإنّ المراد بالجوهر المخلوق للّه أوّلا هو المبدع الأوّل و كونه تعالى نظر إليه نظر الهيبة، و ذوبان أجزائه إشارة إلى صدور الفيض عنه بأمر اللّه سبحانه و قدرته، و الزبد الّذي تكوّنت منه الأرض و الدخان الّذي تكوّنت منه السماوات إشارة إلى كمالات السماوات و الأرض و صورها الصادرة عن كمالات عللها صدور البخار و الزبد عن الماء و كلّ هذا تجوّزات و استعارات يلاحظ في تفاوت حسنها قرب المناسبة و بعدها.
الوجه الثاني
– قالوا: يحتمل أن يكون مراده بالريح الأولي هو العقل الأوّل فإنّه الحامل للفيض الإلهىّ إلى ما بعده و هو المحيط بصور الموجودات، و يؤيّد ذلك قوله الهواء من تحتها فتيق و الماء من فوقها دفيق فإنّ الهواء إشارة إلى القوابل بعده و بواسطته، و بالماء إشارة إلى الفيض الصادر عن الأوّل سبحانه فإنّ التدفّق لمّا كان مستلزما لسرعة حركة الماء و جريانه عبر به عن الفيض الّذي لا توقّف فيه، و الريح الثانية عن العقل الثاني فإنّه هو الواسطة في إفاضة أنوار اللّه سبحانه على ما بعده من العقول الّتي بواسطتها تصوّر السماوات السبع، و وصف الريحين بالعصف و القصف إشارة إلى ما يخصّ هذين المبدئين من القدرة، و أمره للريح الثانية بتصفيق الماء الزخّار و إثارة موج البحار إشارة إلى تحريك العقل الثاني للعقول الّتي بعده إلى إفاضة كمالات الأفلاك بأمر اللّه تعالى و باقي التأويل كما في التأويل الأوّل.
قوله جعل سفلاهنّ مفوفا إلى قوله و سقف سائر و رقيم مائر.
أقول: هاهنا أبحاث.
البحث الأوّل- هذا الكلام يجري مجرى الشرح و التفسير لقوله فسوّى
لانّ التسوية عبارة عن التعديل و الوضع و الهيئة الّتي عليها السماوات إنّما فيهنّ، و الغرض بهذا التفصيل تنبيه الأذهان الغافلة عن حكمة الصانع سبحانه في ملكوت السماوات و بدائع صنعه و ضروب نعمه ليتذكّروا نعمة ربّهم فيواظبوا على عبادته و حمده على تمام ذلك الإحسان كما قال تعالى «لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَ تَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَ»«» فإنّ كلّ هذه نعم على العباد و هى إن كان فيها ما يبعد عن الأذهان الضعيفة كونه نعمة على العباد كحركات السماوات مثلا فإنّي أحسب أنّ كثيرا من الغافلين يقولون: و ما فائدة حركة السماء في حقّنا لكنّه إذا انتبهت أذهانهم لذلك علمت أنّه لو لا تلك الحركة لم يحصل شيء من المركّبات في هذا العالم أصلا فلم يكن العبد في نفسه فضلا عمّا يجرى عليه من النعم الخارجة عنه إلّا أنّ تلك الحركة قد تستلزم نعمة هى أقرب إلى العبد من غيرها كالاستضاءة بنور الكواكب و الاهتداء بها في ظلمات البرّ و البحر و إعدادها الأبدان للصحّة و نحو ذلك، و قد يستلزم نعما اخرى إلى أن يتّصل بالعبد كإعدادها الأرض مثلا لحصول المركّبات الّتي منها قوام حياة العبد، و اعلم أنّ اللّه سبحانه ذكر أمر السماوات في كتابه في مواضع كثيرة، و لا شكّ أن إكثاره من ذكرها دليل عظم شأنها و على أنّ له سبحانه فيها أسرار لا تصل إليها عقول البشر إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ قوله عليه السّلام: و علياهنّ سقفا محفوظا كقوله تعالى «وَ جَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً»«» و قوله تعالى «وَ حَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ»«» و قوله «وَ حِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ»«» و قوله: و سمكا مرفوعا بغير عمد تدعمها و لا دسار ينتظمها كقوله تعالى «خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها»«» و قوله «وَ يُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ»«» و قوله: ثمّ زيّنها بزينة الكواكب و ضياء الثواقب كقوله تعالى «إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ» و قوله: فأجرى فيها سراجا مستطيرا و قمرا منيرا كقوله «وَ جَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَ جَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً»«»
البحث الثاني– في هذا الفصل استعارات:
الأولى قوله: جعل سفلاهنّ موجا مكفوفا. استعار لفظ الموج للسمكة لما بينهما من المشابهة في العلوّ و الارتفاع و ما يتوهّم من اللون، و قال بعض الشارحين: أراد أنّها كانت في الاولى موجا ثمّ عقدها و كفّها أي منعها من السقوط، و الثانية قوله: سقفا محفوظا استعار لفظ السقف من البيت للسماء في الأصل لما بينهما من المشابهة في الارتفاع و الإحاطة ثمّ كثر ذلك الاستعمال حتّى صار اسما من أسماء السماء و يحتمل أن لا يكون منقولا، و أراد بقوله محفوظا أى من الشياطين قال ابن عبّاس- رضي اللّه عنه- : كانت الشياطين لا تحجب عن السماوات و كانوا يدخلونها و يختبرون أخبارها فلمّا ولد عيسى عليه السّلام منعوا من ثلاث سماوات فلمّا ولد محمّد صلى اللّه عليه و آله منعوا من السماوات كلّها فما منهم أحد استرق السمع إلّا رمى بشهاب فلذلك معنى قوله تعالى «وَ حَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ» و سنشير إلى سرّ ذلك إنشاء اللّه تعالى.
قوله بغير عمد تدعمها و لا دسار ينتظمها.
أقول: لمّا كان مقتضى قدرة العبد و غايتها إذا تمكّن من بناء بيت و إنشاء سقف أنّه لا بدّ له من أساطين و عمد يقوم عليها ذلك السقف و روابط تشدّ بعضه إلى بعض و كانت قدرة الحقّ سبحانه و تعالى أجلّ و أعلى من الحاجة إلى أمثال ذلك أراد أن يشير إلى عظمته سبحانه و قوّة قهره بسلب صفات المخلوقين عنه و شرائط آثارهم عن قدرته و المعنى أنّ هذه الأجرام العظيمة بقيت واقعة في الجوّ العالي و يستحيل أن يكون وقوفها هناك لذواتها لأنّ الأجسام متساوية في الجسميّة فلو وجب حصول جسم في حيّز لوجب حصول كلّ جسم في ذلك الحيّز و لأنّ الأحياز و الخلاء متشابهة فلا اختصاص فيه لموضوع دون آخر و لا يجوز أن يقال: إنّها معلّقة بجسم آخر و إلّا لكان الكلام في وقوف ذلك الجسم في الجوّ كالكلام في الأوّل و يلزم التسلسل فلم يبق إلّا أن يقال: إنّ وقوفها بقدرة الصانع الحكيم القادر المختار، و إن قلت: قوله تعالى تَرَوْنَها يفهم منه أنّ هناك عمد و لكنّها غير مرئيّة لنا و ذلك ينافي سلبه عليه السّلام للعمد مطلقا قلت: الجواب عنه من وجوه.
أحدها أنّه يحتمل أن يكون قوله تَرَوْنَها كلاما مستأنفا و التقدير غير عمد و أنتم ترونها كذلك. الثاني يحتمل أن يكون في الكلام تقديم و تأخير كما نقل عن الحسن البصريّ أنّه قال: التقدير ترونها بغير عمد. الثالث و هو الألطف ما ذكره الإمام فخر الدين- رحمه اللّه- فقال: إنّ العماد هو ما يعمد عليه و السماوات معتمدة و قائمة على قدرة اللّه تعالى فكانت هي العمد الّتي لا ترى و ذلك لا ينافي كلامه عليه السّلام الرابع و هو الأحقّ ما ذكرته و هو أنّه قد ثبت في اصول الفقه أنّ تخصيص الشيء بحكم لا يدلّ على أنّ حكم غيره بخلاف ذلك الحكم فتخصيص العمد المرئيّة للسماوات بالسلب لا يستلزم ثبوت العمد غير المرئيّة لها. الثالثة الثواقب استعارة في الأصل للشهب عن الأجسام الّتي يثقب جسما آخر و ينفذ فيه، و وجه المشابهة الّتي لأجلها سمّى الشهاب ثاقبا أنّه يثقب بنوره الهواء كما يثقب جسم جسما لكنّه لكثرة الاستعمال فيه صار إطلاقه عليه حقيقة أو قريبا منها. الرابعة قوله: سراجا مستطيرا استعارة للشمس و وجه المشابهة أنّ السراج القويّ المستطير لمّا كان من شأنه أن يضيء ما حوله و ينتشر في جميع نواحي البيت و يهتدي به من الظلمة كذلك الشمس مضيئة لهذا العالم و يهتدي بها المتصرّف فيه. الخامسة رقيم استعارة أصليّة للفلك تشبيها له باللوح المرقوم فيه ثمّ كثر استعمال هذا اللفظ في الفلك حتّى صار اسما من أسمائه.
البحث الثالث- اعلم أنّ هذه الاستعارات تستلزم ملاحظة اخرى
و هو تشبيه هذا العالم بأسره ببيت واحد فالسماء كقبّة خضراء نصبت على الأرض و جعلت سقفا محفوظا محجوبا عن أن تصل إليه مردة الشياطين كما تحمى غرف البيت بالسهام و الخراب عن مردة اللصوص، ثمّ هو مع غاية علوّه و ارتفاعه غير محمول بعمد يدعمه و لا منظوم بدسار يشدّه بل بقدرة صانعه و مبدعه، ثمّ إنّ القبّة متزيّنة بالكواكب و ضيائها الّذي هو أحسن الزينة و أكملها فلو لم يحصل صور الكواكب في الفلك ليبقى سطحا مظلما فلمّا خلق اللّه تعالى هذه الكواكب المشرقة في سطحه لا جرم استنار و ازدان بذلك النور و الضوء كما قال ابن عبّاس في قوله بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ أي بضوئها و أنت إذا تأمّلت هذه الكواكب المشرقة المضيئة في سطح الفلك وجدتها عند النظر إليها كجواهر مرصوصة في سطح من زمرّد على أوضاع اقتضتها الحكمة أو كما قال:
و كأنّ أجرام النجوم لوامعا درر نثرن على بساط أزرق
ثمّ جعل من جملتها كوكبين هما أعظم الكواكب جرما و أشدّها إشراقا و أتمّها ضياء مع اشتمالهما على تمام الحسن و الزينة جعل أحدهما ضياء للنهار و الآخر ضياء للّيل ثمّ لم يجعل ذلك السقف ساكنا بل جعله متحرّكا ليكون أثر صنعه فيه أظهر و صنع حكمته فيه أبدع و لم يجعل ذلك السقف طبقا واحدا بل طباقا أسكن في كلّ طبق ملاء من جنوده و خواصّ ملكه الّذين ضربت بينهم و بين من دونهم حجب العزّة و أستار القدرة فلا يستطيع أحد أن ينظر إليهم فضلا عن أن يتشبّه بمالكهم و خالقهم سبحانه و تعالى عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا هذا هو الحكمة الظاهرة الّتي يتنبّه لها من له أدنى فطنة فيحصل منها عبرة شاملة لأصناف الخلق بحيث إذا لاحظوا مع جزئيّ من جزئيّات آثار هذه القدرة أيّ أثر كان استعظم و استحسن من أيّ ملك فرض من ملوك الدنيا لم يكن بينهما من المناسبة إلّا خيال ضعيف، فإنّ أيّ ملك فرض إذا همّ بوضع بنيان و بالغ في تحسينه و تزريق سقوفه و ترصيعها بأنواع الجواهر و تزيينه بالأوضاع المعجبة لأبناء نوعه و بذل فيه جهده و استفرغ فيه فكره لم يكن غايته إلّا أن يلحظ ممّا عمله نسبة خياليّة بعيدة إلى ظاهر هذا الصنع العجيب و الترتيب اللطيف هذا مع ما اشتمل عليه من الحكم الخفيّة و الأسرار الإلهيّة الّتي يعجز القوى البشريّة عن إدراكها و يحتاج فيها لاح منها إلى لطف قريحة و توقدّ ذهن فسبحان الّذي بيده ملكوت كلّ شيء و إليه ترجعون فانظر أيّها المستبصر بعين بصيرتك المناسبة بين بيتك الّتي تبنيه و هذا البيت العظيم و قس سراجك إلى سراجه و زينتك إلى زينته ثمّ لاحظ مع ذلك أنّه إنّما خلقه لك و لأبناء نوعك ليكون فيه و منه قوام حياتكم و وجودكم و لتستدلّوا بملكوت ما خلق على كمال قدرته و حكمته لترجعوا بذلك إلى حضرته طاهرين من الرجس متشبّهين بسكّان سقف هذا البيت و غرفه لا أنّ له حاجة إليه فإنّه الغنيّ المطلق الّذي لا حاجة به إلى شيء، و العجب من الإنسان أنّه ربما رأى خطّا حسنا أو تزريقا على حائط فلا يزال يتعجّب من حسنه و حذق صانعه ثمّ يرى هذا الصنع العجيب و الإبداع اللطيف فلا يدهشه عظمة صانعه و قدرته و لا يحيّره جلال مبدعه و حكمته.
البحث الرابع
الشرع و البرهان قد تطابقا على أنّ هاهنا تسع أفلاك بعضها فوق بعض
فمنها سبع سماوات ثمّ الكرسيّ و العرش بعبارة الناموس الإلهي ثمّ أكثرها يشتمل على الكواكب و هي أجرام نورانيّة مستديرة مصمتة مركوزة في أجرام الأفلاك فأوّل الأفلاك ممّا يلينا ليس فيه من الكواكب إلّا القمر، و ليس في الثاني إلّا عطارد، و ليس في الثالث إلّا الزهرة، و ليس في الرابع إلّا الشمس، و ليس في الخامس إلّا المريّخ، و ليس في السادس إلّا المشتري، و ليس في السابع إلّا زحل، و هذه هي المسمّاة بالكواكب السبعة السيارة و ما سواها من الكواكب فيشتمل عليها الفلك الثامن، و أمّا التاسع فخال عن الكواكب و إن كان فليس بمدرك لنا، ثمّ قد دلّ البرهان على أنّ الأفلاك هي المتحرّكة بما فيها من الكواكب و أنّ تلك الحركة دوريّة و كان كلامه عليه السّلام مطابقا لذلك حيث قال: في فلك دائر و سقف سائر و رقيم مائر. إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ اللّه سبحانه خلق الموجودات كلّها على أتمّ أنحاء الوجود و أكمله فجميع الموجودات من الأفلاك و مقاديرها و أعدادها و حركاتها المختلفة و هيئاتها و هيئة الأرض و ما عليها من حيوان و نبات و معدن و نحوه إنّما وجد على الوجه الّذي وجد عليه لحصول النظام الكلّي للعالم و لو كان بخلاف ما عليه لكان شرّا، و ناقصا فخلق الأفلاك و الكواكب و ما هي عليه من الحركات و الأوضاع و جعلها أسبابا لحدوث الحوادث في عالم الكون و الفساد بواسطة كيفيّات تحدثها فيها من حرارة و برودة و رطوبة و يبوسة يوجب ذلك امتزاج بعضها ببعض امتزاجات مختلفة و مستعدّة لقبول صور مختلفة من حيوان و نبات و معدن، و أظهر الكواكب تأثيرا هو الشمس و القمر فإنّ بحركة الشمس اليوميّة يحصل النهار و الليل فالنهار هو زمان طلوعها يكون زمان التكسب و الطلب للمعاش الّذي به يحصل قوام الحياة و يكون سببا إلى السعادة الاخرويّة ثمّ إنّها في مدّة حركتها اليوميّة لا تزال تدور فتغشى جهة بعد جهة حتّى تنتهى إلى المغرب و قد أخذت كلّ جهة من الجهات حظّا من الإشراق و الاستعداد به، و أمّا الليل و هو زمان غروبها فإنّ فيه هدوء الخلق و قرارهم الّذي به تحصل الراحة و انبعات القوّة الهاضمة و تنفيذ الغذاء إلى الأعضاء كما قال تعالى «هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَ النَّهارَ مُبْصِراً»«» «وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً وَ جَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً»«» ثمّ كانت الشمس من جهة ضوئها كسراج يرتفع لأهل كلّ بيت بمقدار حاجتهم ثمّ يرفع عنهم فصار النور و الظلمة على تضادّها متظاهرين على ما فيه مصلحة هذا العالم، و أمّا بحسب حركاتها الجنوبيّة و الشماليّة فقد جعل سبحانه ذلك سببا لإقامة الفصول الأربعة ففي الشتاء تغور الحرارة و النبات فيتولّد منها موادّ البحار و يكثر السحاب و الأمطار و يقوى أبدان الحيوانات بسبب احتقان الحرارة الغريزيّة في البواطن، و في الربيع تتحرّك الطبائع و تظهر الموادّ المتولدّة في الشتاء فيطلع النبات و ينوّر الشجر و يهيجّ الحيوان للفساد، و في الصيف يحتدم الهواء فينضج الثمار و تنحلّ فضول الأبدان و يجفّ وجه الأرض و يتهيّيء للبناء و العمارة، و في الحزيف يظهر اليبس و البرد فينتقل فيه الأبدان على التدريج إلى الشتاء فإنّه لو وقع الانتقال دفعة لهلكت و فسدت، و أمّا القمر فإنّ بحركته تحصل الشهور و الأعوام كما قال سبحانه «لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَ الْحِسابَ»«» فيتمكّن العبد بالحساب من ترتيب معاشه بالزراعة و الحراثة و إعداد مهمّات الشتاء و الصيف، و باختلاف حاله في زيادته و نقصانه يختلف أحوال الرطوبات في هذا العالم، فلو أنّه سبحانه خلق الأفلاك دون الكواكب لكان إن خلقها مظلما لم يحصل ما ذكرنا من اختلاف الفصول و الحرّ و البرد فلم يتمّ في هذا العالم ما كانت أسبابا فيه من الاستعدادات و لم يتميّز لها فصل عن فصل كما قال تعالى «وَ عَلاماتٍ وَ بِالنَّجْمِ، هُمْ يَهْتَدُونَ»«» و قوله: وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ و ان خلقها مضيئة تشابه أثرها في الأمكنة و الأزمنة. بل خلق فيها الكواكب و لم يخلقها ساكنة و إلّا لأفرط أثرها في موضع بعينه فيفسد استعداده و يخلو موضع آخر عن التأثيرات، و لمّا تميزّت فصول السنة و لمّا حصل البرد المحتاج إليه و الحرّ المحتاج إليه فلم يتمّ نشو النبات و الحيوان، و على الجملة فالنظام الكليّ لا يحصل إلّا بهذا الوجه فهو أكمل أنحاء الوجود كلّ ذلك يدلّ على كمال رحمة اللّه بخلقه و شمول عنايته لهم إذ كان جميع ما ذكرناه من المنافع الحاصلة في هذا العالم مستندة إلى علوّ تدبيره و كمال حكمته كما قال تعالى «وَ سَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَ سَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ وَ آتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ«» لا يقال: السؤال علي ما ذكرتم من وجهين أحدهما أنّ الترتيب الّذي ذكرتموه في تخصيص كلّ فلك ببعض الكواكب يشكل بقوله تعالى «إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ»«» و قوله تعالى «وَ لَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ»«» الثاني أنّ الشهب الثواقب الّتي جعلت رجوما للشياطين على ما نطق به القرآن الكريم إمّا أن يكون من الكواكب الّتي زيّنت بها السماء أو لا تكون، و الأوّل باطل لأنّ هذه الشهب تبطل بالانقضاض و تضمحلّ فكان يلزم من ذلك على مرور الزمان فناء الكواكب و نقصان أعدادها، و معلوم أنّه لم يوجد ذلك النقصان البتّة، و الثاني أنّه يشكل بقوله تعالى «وَ لَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَ جَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ» فإنّه نصّ على كون الشهب الّتي جعلت رجوما للشياطين هى تلك المصابيح و الكواكب الّتي زيّنت بها السماء لأنّا نجيب عن الأوّل بأنّه لا تنافي بين ظاهر الآية و بين ما ذكرناه، و ذلك أنّ السماء الدنيا لمّا كانت لا تحجب ضوء الكواكب و كانت أوهام الخلق حاكمة عند النظر إلى السماء و مشاهدة الكواكب بكونها مزيّنة بها لا جرم صحّ قوله تعالى «إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ» لأنّ الزينة بها إنّما هى بالنسبة إلي أوهام الخلق للسماء الدنيا، و عن الثاني أنّا نقول: هذه الشهب غير تلك الثواتب الباقية فأمّا قوله: «وَ لَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَ جَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ» فنقول: كلّ مضيء حصل في الجوّ العالى أو في السماء فهو مصباح لأهل الأرض إلّا أنّ تلك المصابيح منها باقية على طول الزمان و هو الثوابت و منها متغيّرة و هي هذه الشهب الّتي يحدثها اللّه تعالى و يجعلها رجوما للشياطين و يصدق عليها أنّها زينة للسماء أيضا بالنسبة إلى أوهامنا و باللّه التوفيق.
قوله ثمّ فتق ما بين السماوات و العلى إلى قوله و لا يشيرون إليه بالنظائر
قوله ثمّ فتق ما بين السماوات و العلى إلى قوله و لا يشيرون إليه بالنظائر، و فيه أبحاث.
البحث الأوّل- هذا الفصل أيضا من تمام التفسير
لقوله فسوّى منه سبع سماوات إذ كان ما أشار إليه هاهنا من فتق السماوات إلى طبقاتها و إسكان كلّ طبقة منها ملاء معيّنا من ملائكته هو من تمام التسوية و التعديل لعالم السماوات فإن قلت: لم أخّر ذكر فتق السماوات و إسكان الملائكة لها عن ذكر إجراء الشمس و القمر فيها و تزيينها بالكواكب، و معلوم أنّ فتقها متقدّم على اختصاص بعضها ببعض الكواكب. قلت: إنّ إشارته عليه السّلام إلى تسوية السماوات إشارة جمليّة فكأنّه قدّر أوّلا أنّ اللّه خلق السماوات كرة واحدة كما عليه بعض المفسّرين لقوله تعالى «أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا» ثمّ ذكر علياهنّ و سفلاهنّ لجريانهما مجرى السطحين الداخل و الخارج لتلك الكرة، ثمّ أشار إلى بعض كمالاتها و هى الكواكب و الشمس و القمر جملة، ثمّ بعد ذلك أراد التفصيل فأشار إلى تفصيلها و تمييز بعضها عن بعض بالفتق، و إسكان كلّ واحدة منهنّ ملاء معيّنا من الملائكة ثمّ عقّب ذلك بتفصيل الملائكة، و لا شكّ أنّ تقديم الإجمال في الذكر و تعقيبه بالتفصيل أولى في الفصاحة و البلاغة في الخطابة من العكس. إذا عرفت ذلك فنقول: قوله عليه السّلام ثمّ فتق ما بين السماوات العلى كقوله تعالى «أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما»«» و قوله: فملأهنّ أطوارا من ملائكته منهم سجود لا يركعون كقوله تعالى «وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» و قوله: وَ لَهُ يَسْجُدُونَ و نحوه و قوله: و صافّون لا يتزايلون كقوله تعالى «وَ إِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَ الصَّافَّاتِ صَفًّا» و قوله: و مسبّحون لا يسأمون كقوله تعالى «يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ هُمْ لا يَسْأَمُونَ» و قوله: و لافتراة الأبدان كقوله تعالى «لا يَفْتُرُونَ» و قوله: و منهم امناء على وحيه كقوله تعالى «نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ» و قوله: و ألسنة إلى رسله كقولة تعالى «جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا» و قوله: مختلفون بقضائه و أمره كقوله «تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ»«» و قوله تعالى «تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ فِيها… مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ» و قوله: و منهم الحفظة لعباده كقوله تعالى «يُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً»«» و قوله: «وَ إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ»، و قوله: «لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ»، و قوله: و السدنة لأبواب جنانه كقوله تعالى «وَ قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها» و قوله: و المناسبة لقوائم العرش أكنافهم كقوله تعالى «وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ»«» و قوله: بأجنحتهم كقوله تعالى «الْحَمْدُ لِلَّهِ»
البحث الثاني
اعلم أنّ للناس في تفسير قوله «أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما» أقوالا: أحدها قال ابن عبّاس و الضحّاك و عطاء و قتادة: إنّ السماء و الأرض كانتا شيئا واحدا ملتزمتين ففصّل اللّه بينهما في الهواء، الثاني قال كعب: خلق اللّه السماوات و الأرض بعضها على بعض ثمّ خلق ريحا توسّطها ففتحها بها، الثالث قال مجاهد و السدي: كانت السماوات طبقة واحدة ففتقها و جعلها سبع سماوات و كذلك الأرض، الرابع قال عكرمة و عطيّة و ابن عبّاس برواية اخرى عنه: إنّ معنى كون السماء رتقا أنّها كانت لا تمطر و كانت الأرض رتقا أي لا تنبت نباتا ففتق اللّه السماء بالمطر و الأرض بالنبات، و يؤيّد ذلك قوله تعالى بعد ذلك «وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ» و نظيره قوله تعالى «فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ» و قوله: «وَ الْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ» و قوله تعالى «أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا» الآية، الخامس قال بعض الفضلاء: إنّ معنى قوله كانَتا رَتْقاً أي كانت امورا كليّة في علم اللّه تعالى و في اللوح المحفوظ، و قوله فَفَتَقْناهُما إشارة إلى تشخّصاتها في الوجود الخارجيّ و تمييز بعضها عن بعض، و هذا القول مناسب للأقوال الثلاثة الاول و يصحّ تحقيقا لها و يحمل الريح الّتي ذكرها كعب على أمر اللّه تعالى استعارة لما بينهما من المشابهة في السرعة، السادس قال بعضهم: إنّ معنى الرتق في هذه الآية هو انطباق دائرة معدّل النهار على ذلك البروج ثمّ إنّ الفتق بعد ذلك عبارة عن ظهور الميل قالوا: و ممّا يناسب ذلك قول ابن عبّاس و عكرمة فإنّهم لمّا قالوا إنّ معنى كون السماء رتقا أنّها لا تمطر و معنى كون الأرض رتقا أنّها لا تنبت كان الفتق و الرتق بالمعنى الّذي ذكرناه إشارة إلى أسباب ما ذكروه إذ انطباق الدائرتين و هو الرتق يوجب خراب العالم السفلى و عدم المطر، و ظهور الميل الّذي هو الفتق يوجب وجود الفصول و ظهور المطر و النبات و سائر أنواع المركّبات. إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ قوله عليه السّلام ثمّ فتق ما بين السماوات العلى إنّما هو موافق للأقوال الثلاثة الاول مع القول الخامس و التحقيق به أليق، و أمّا القول السادس فهو بعيد المناسبة لقوله عليه السّلام و بيان ذلك أنّ قوله ثمّ فتق ما بين السماوات العلى إنّما هو في معرض بيان كيفيّة تخليق العالم الأعلى و لذلك أردفه و عقّبه بالفاء في قوله فملأهنّ أطوارا من ملائكته، و الرتق و الفتق في هذا القول متأخّر عن كلام الأجرام العلويّة بما فيها و ما يتعلّق بها و لا يقبل تقدّم ظهور الميل بوجه ما على وجود الملائكة السماويّة و إسكانها أطباق السماوات و باللّه التوفيق.
البحث الثالث- الملائكة على أنواع كثيرة و مراتب متفاوتة
فالمرتبة الاولى الملائكة المقرّبون كما قال تعالى «لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَ لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ»«»
الثانية الملائكة الحاملون للعرش كقوله «الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ» و قوله «وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ» الثالثة الحافّون حول العرش كما قال تعالى «وَ تَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ»«» و قوله «و من حوله» الرابعة ملائكة السماوات و الكرسيّ، الخامسة ملائكة العناصر، السادسة الملائكة الموكلّون بالمركّبات من المعدن و النبات و الحيوان، السابعة الملائكة الحفظة الكرام الكاتبين كما قال تعالى «وَ إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ» و يدخل فيهم المعقّبات المشار إليه بقوله تعالى «لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ»، الثامنة ملائكة الجنّة و خزنتها كما قال تعالى «وَ قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ»، التاسعة ملائكة النار كما قال تعالى «عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ» و قال «عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ» و قال وَ ما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً» إذا عرفت ذلك فنقول اتّفق الكلّ على أنّ الملائكة ليس عبارة عن أشخاص جسمانيّة كثيفة تجىء و تذهب كالناس و البهائم بل القول المحصّل فيها قولان: الأوّل هو قول المتكلّمين إنّها أجسام نورانيّة إلهيّة خيّرة سعيدة قادرة على التصرّفات السريعة و الأفعال الشاقّة ذوات عقول و أفهام و بعضها أقرب عند اللّه من البعض و أكمل درجة كما قال تعالى حكاية عنهم «وَ ما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ»«»، و القول الثاني قول غيرهم و هي أنّها ليست بأجسام لكنّ منها ما هو مجرّد عن الجسميّة و عن تدبير الأجسام، و منها من له الأمر الأوّل دون الثاني، و منها من ليس بمجرّد بل جسمانيّ حالّ في الأجسام و قائم بها و لهم في تنزيل المراتب المذكورة على قولهم تفصيل، أمّا المقرّبون فإشارة إلى الذوات المقدّسة عن الجسميّة و الجهة و عن حاجتها إلى القيام بها و عن تدبيرها، و أمّا حملة العرش فالأرواح الموكّلة بتدبير العرش، و قيل هم الثمانية المذكورة في القرآن الكريم «و يحمل عرش ربّك فوقهم يومئذ ثمانية» و هم رؤساء الملائكة المدّبرين للكرسيّ و السماوات السبع، و ذلك أنّ هذه الأجرام لها كالأبدان فهى بأبدانها أشخاص حاملون للعرش فوقهم، و أمّا الحافّون حول العرش هى الأرواح الحاملة للكرسي، و الموكّلة و المتصرّفة فيه، و أمّا ملائكة السماوات فالأرواح الموكّلة بها و المتعرّفة فيها بالتحريك و الإرادة بإذن اللّه عزّ و جلّ، كذلك ملائكة العناصر و الجبال و البحار و البراري و الغفار و سائر المركّبات من المعدن و النبات و الحيوان المسخّر كلّ منها لفعله المخصوص على اختلاف مراتبها، فأمّا الملائكة الحافظون الكرام الكاتبون فلهم فيها أقوال. أحدها قال بعضهم: إنّ اللّه تعالى خلط الطبائع المتضادّة و مزّج بين العناصر المتنافرة حتّى استعدّ ذلك الممتزج بسبب ذلك الامتزاج لقبول النفس المدبّرة و القوى الحسيّة و المحرّكة، فالمراد بتلك الحفظة الّتي أرسلها اللّه هى تلك النفوس و القوى الّتي يحفظ تلك الطبائع المقهورة على امتزاجاتها و هى الضابطة على أنفسها أعمالها، و المكتوب في ألواحها صور ما تفعله لتشهد به علي أنفسها يوم القيامة كما قال تعالى «قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَ غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَ شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ»«» و هى المعقّبات من بين يدي الإنسان و من خلفه الحافظون له من أمر اللّه، و قيل: الحفظة للعباد غير الحفظة على العباد و الكاتبين لأعمالهم، و سنشير إلى ذلك. و الثاني قال بعض القدماء: إنّ هذه النفوس البشريّة و الأرواح الإنسانيّة مختلفة بجواهرها، فبعضها خيّرة و بعضها شريرة، و كذا القول في البلادة و الزكاء و الفجور و العفّة و الحريّة و النذالة و الشرف و الدنائة، و غيرها من الهيئات، و لكلّ طائفة من هذه الأرواح السفليّة روح سماويّ هو لها كالأب المشفق و السيّد الرحيم يعينها على مهمّاتها في يقظتها و مناماتها تارة على سبيل الرؤيا و اخرى على سبيل الإلهامات، و هى مبدء لما يحدث فيها من خير و شرّ، و تعرف تلك المباديء في مصطلحهم بالطياع التامّ يعنى أنّ تلك الأرواح الفلكيّة في تلك الطباع و الأخلاق تامّة كاملة بالنسبة إلى هذه الأرواح السفليّة و هى الحافظة لها و عليها كما قال تعالى «فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرامٍ بَرَرَةٍ»«» الثالث قول بعضهم: إنّ للنفوس المتعلّقة بهذه الأجساد مشاكله و مشابهة مع النفوس المفارقة عن الأجساد فيكون لتلك المفارقة ميل إلى النفوس الّتي لم تفارق فيكون لها تعلّق أيضا بوجه ما بهذه الأبدان بسبب ما بينها و بين نفوسها من المشابهة و الموافقة فتصير معاونة لهذه النفوس على مقتضى طباعها، و شاهدة عليها كما قال تعالى:
«ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ…- وَ جاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَ شَهِيدٌ»«»، و أمّا ملائكة الجنّة فاعلم أنّ الجنان المذكورة في القرآن ثمان، و هى جنّة النعيم و جنّة الفردوس و جنّة الخلد و جنّة المأوى و جنّة عدن و دار السلام و دار القرار و جنّة عرضها السماوات و الأرض اعدّت للمتّقين، و من وراء الكلّ عرش الرحمن ذى الجلال و الإكرام. إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ لهذه الجنان سكّانا و خزّانا من الملائكة، أمّا السكّان فهم الّذين عند ربّك لا يستكبرون عن عبادته و لا يستحضرون يسبّحون الليل و النهار لا يفترون و هم الّذين يتلّقون عباد اللّه الصالحين المخلصين بالشفقة و البشارة بالجنّة، و ذلك أنّ الإنسان الطائع إذا اكملت طاعته و بلغ النهاية في الصورة الإنسانيّة و استحقّ بأعماله الصالحة و ما اكتسبه من الأفعال الزكيّة صورة ملكيّة و رتبة سماويّة تلقّيه الملائكة الطيّبون بالرأفة و الرحمة و الشفقة، و تقبّلوه بالروح و الريحان، و قبلوه كما تقبل القوابل و الدايات أولاد الملوك بفاخر امور الدنيا و طيّبات روائحها من مناديل السندس و الإستبرق، و بالفرح و السرور مرّوا به إلى الجنّة فيعاين من البهجة و السرور ما لا عين رأت و لا اذن سمعت و لا خطر على قلب بشر، و يبقي معهم عالما درّاكا ما شاء ربّك عطاء غير مجذوذ، و يتّصل بإخوانه المؤمنين في الدنيا أخباره و أحواله و يتراءى لهم في مناماتهم بالبشارة و السعادة و حسن المنقلب، و إذا كان يوم القيامة الكبرى عرجت به ملائكة الرحمة إلى جنان النعيم و السرور المقيم لا يذوقون فيها الموت إلّا الموتة الاولى في غرف من فوقها غرف مبنيّة تجري من تحتهم الأنهار و آخر دعويهم أن الحمد اللّه ربّ العالمين.
قال بعض حكماء الإسلام: إنّ تلك الملائكة المتلّقية له بالروح و الريحان هى روحانيّات الزهرة و المشتري و كأنّ القائل يقول: إنّ النفوس الإنسانيّة السعيدة إذا فارقت أبدانها و حملت القوّة المتوهّمه معها و الهيئات المتخيّلة الّتي حصلت من الوعد الكريم في دار الدنيا من الجنان و الحدائق و الأنهار و الأثمار و الحور العين و الكأس المعين و اللؤلؤ و المرجان و الولدان و الغلمان فإنّه يفاض عليها بحسب استعدادها و طهارتها و رجاء ثواب الآخرة صور عقليّة في غاية البهاء و الزينة مناسبة لما كانت متخيّلة من الامور المذكورة مناسبة ما، و لمّا كان لهذين الكوكبين أثر تامّ في إعداد النفوس
للمتخيّلات البهيّة الحسنة و للفرح و السرور كما ينسب في المشهور إلى روحانيّتهما من الأفعال الحسنة نسب تلقّى الإنسان بعد المفارقة بالرأفة و الرحمة و الشفقة إلى روحانيّتهما، و اللّه أعلم، و أمّا الخزنة للجنان فيشبه أن يكون هم السكّان لها أيضا باعتبار آخر، و ذلك أنّه لمّا كان الخازن هو المتولّي لأحوال أبواب الخزانه بفتحها و تفريق ما فيها على مستحقّها بإذن ربّ الخزانة و مالكها و غلقها و منعها عن غير مستحقّها و كانت الملائكة هم المتولّون لإفاضة الكمالات و تفريق ضروب الإحسان و النعم على مستحقيّها و حفظها و منعها من غير مستحقّيها و المستعدّين بالطاعة لها بإذن اللّه و حكمته لا جرم صدق أنّهم خزّان الجنان بهذا الاعتبار، و هم الّذين يدخلون على المؤمنين من كلّ باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار. قال بعض الفضلاء: إنّ العبد إذا راض نفسه حتّى استكمل مراتب القوّة النظرية و مراتب القوّة العمليّة فإنّه يستعدّ بكلّ مرتبة من تلك المراتب لكمال خاصّ يفاض عليه من اللّه تعالى و يأتيه الملائكة فيدخلون عليه من كلّ باب من تلك الأبواب فالملك الّذي يدخل على الإنسان منه رضاء اللّه كما قال تعالى «رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ» هو رضوان خازن الجنان و اللّه أعلم، و أمّا ملائكة النار فقال بعض الفضلاء: هي تسعة عشر نوعا من الزبانية لا يعصون اللّه ما أمرهم و هم الخمسة الّذين ذكرنا أنّهم يوردون عليه الأخبار من خارج، و رئيسهم و الخازنان و الحاجب و الملك المتصرّف بين يديه بإذن ربّه، و ملكا الغضب و الشهوة، و السبعة الموكّلون بأمر الغذاء و ذلك أنّه إذا كان يوم الطامّة الكبرى و كان الإنسان ممّن طغى و آثر الحياة الدنيا حتّى كانت الجحيم هي المأوى كانت اولئك التسعة عشر من الزبانية هم الناقلين له إلى الهاوية بسبب ما استكثر من المشتهيات، و اقترف من السيّئات و أعرض عن قوله تعالى «وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى وَ أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى وَ أَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى» و اعلم وفّقك اللّه أنّ هؤلاء الّذين ذكر هذا القائل أنّهم ملائكة النار ربّما كانوا أيضا مع إنسان آخر من ملائكة الجنان و ذلك إذا استخدمهم ذلك الإنسان في دار الدنيا على وفق أوامر اللّه و أوفقهم على طاعة اللّه دون أن يطلب منهم فوق ما خلقو الأجله و امروا به من طاعته و يعبّر بهم إلى معصية اللّه و ارتكاب نواهيه و محارمه و باللّه التوفيق.
البحث الرابع- أنّه عليه السّلام ذكر من الملائكة أنواعا
و أشار بالسجود و الركوع و الصفّ و التسبيح إلى تفاوت مراتبهم في العبادة و الخشوع، و ذلك أنّ اللّه سبحانه قد خصّ كلّا منهم بمرتبة معيّنة من الكمال في العلم و القدرة لا يصل إليها من دونه، و كلّ من كانت نعمة اللّه عليه أكمل و أتمّ كانت عبادته أعلى و طاعته أو في ثمّ إنّ السجود و الركوع و الصفّ و التسبيح عبادات متعارفة بين الخلق و متفاوتة في استلزام كمال الخضوع و الخشوع، و لا يمكن حملها على ظواهرها المفهومة منها لأنّ وضع الجبهة على الأرض و انحناء الظهر و الوقوف في خطّ واحد و حركة اللسان بالتسبيح امور مبنيّة على وجود هذه الآلات الّتي هي خاصّة ببعض الحيوانات فبالحريّ أن يحمل تفاوت المراتب المذكورة لهم على تفاوت كمالاتهم في الخضوع و الخشوع لكبرياء اللّه و عظيمته إطلاقا للّفظ الملزوم على لازمه على أنّ السجود في اللغة هو الانقياد و الخضوع كما مرّ. إذا عرفت ذلك فنقول: يحتمل أن يكون قوله عليه السّلام منهم سجود إشارة إلى مرتبة الملائكة المقرّبين لأنّ درجتهم أكمل درجات الملائكة فكانت نسبة عبادتهم و خضوعهم إلى خضوع من دونهم كنسبة خضوع السجود إلى خضوع الركوع. فإن قلت إنّه قد تقدّم أنّ الملائكة المقرّبين مبرّؤن عن تدبير الأجسام و التعلّق بها فكيف يستقيم أن يكونوا من سكّان السماوات و من الأطوار الّذين ملئت بهم. قلت: إنّ علاقة الشيء بالشيء و إضافته إليه يكفي فيها أدنى مناسبة بينهما، و المناسبة هاهنا حاصلة بين الأجرام السماويّة و بين هذا الطور من الملائكة و هي مناسبة العلّة للمعلول أو الشرط للمشروط فكما جاز أن ينسب الباري جلّ جلاله إلى الاختصاص بالعرش و الاستواء عليه في لفظ القرآن الكريم مع تنزيهه تعالى و تقدّسه من هذا الظاهر و لم يجر في الحكمة أن يكشف للخلق من عظمة الحقّ سبحانه أكثر من هذا القدر فكذلك جاز أن ينسب الملائكة المقرّبون إلى الكون في السماوات بطريق الأولى و إن تنزّهوا عن الأجسام و تدبيرها لأنّ عليّا عليه السّلام قاصد قصد الرسول صلى اللّه عليه و آله و قصد القرآن الكريم و ناطق به فليس له أن يفصح بما تنبوا عنه الأفهام، و باللّه التوفيق.
قوله و ركوع يشبه أن يكون
إشارة إلى حملة العرش إذا كانوا أكمل ممّن دونهم فكانت نسبة عبادتهم الى عبادة من دونهم كنسبة خضوع الركوع إلى خضوع الصفّ.
قوله و صافّون يحتمل أن يكون إشارة إلى الملائكة الحافّين من حول العرش قيل:
إنّهم يقفون صفوفا لأداء العبادة كما أخبر تعالى عنهم «وَ إِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ» و تحقيق ذلك أنّ لكلّ واحد منهم مرتبة معيّنة و درجة معيّنة من الكمال يخصّه و تلك الدرجات باقية غير متغيّرة و ذلك يشبه الصفوف، و ممّا يؤيّد القول بأنّهم الحافّون حول العرش ما جاء في الخبر أنّ حول العرش سبعين ألف صفّ قيام قد وضعوا أيديهم على عواتقهم رافعين أصواتهم بالتهليل و التكبير و من ورائهم مائة ألف صفّ قد وضعوا الأيمان على الشمائل ما منهم أحد إلّا و هو يسبّح.
قوله و مسبّحون يحتمل أن يكون المراد بهم الصافّون و غيرهم من الملائكة، و الواو العاطفة و إن اقتضت المغائرة إلّا أن المغائرة حاصلة إذ هم من حيث هم صافّون غيرهم من حيث هم مسبّحون و تعدّد هذه الاعتبارات يسوّغ تعديد الأقسام بحسبها و عطف بعضها على بعض، و يؤيّد ذلك الجمع بين كونهم صافّين و بين كونهم مسبّحين في قوله تعالى «وَ إِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَ إِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ» و يحتمل أن يريد نوعا و أنواعا اخر من ملائكة السماوات، فأمّا سلب الركوع عن الساجدين، و سلب الانتصاب عن الراكعين، و سلب المزائلة عن الصافّين، و سلب السأم عن المسبّحين فإشارة إلى كمال في مراتبهم المعينّة كلّ بالنسبة إلى من هو دونه و تأكيد لها بعدم النقصانات اللاحقة فإنّ الركوع و إن كان عبادة إلّا أنّه نقصان بالنسبة إلى السجود، و الانتصاب نقصان في درجة الراكع بالنسبة إلى ركوعه، و كذلك التزايل عن مرتبة الصفّ نقص فيها، و كذلك السأم في التسبيح نقصان فيه و إعراض عن الجهة المقصودة به و أيضا فالسأم و الملال عبارة عن إعراض النفس عن الشيء بسبب كلال بعض القوى الطبيعيّة عن أفعالها، و ذلك غير متصوّر في حقّ الملائكة السماويّة، و أمّا سلب غشيان النوم عنهم في قوله لا يغشاهم نوم العيون فهو ظاهر الصدق، و بيانه أنّ غشيان النوم لهم مستلزم لصحّة النوم عليهم و اللازم باطل في حقّهم فالملزوم مثله أمّا الملازمة فظاهرة، و أمّا بطلان اللازم فلأنّ النوم عبارة عن تعطيل الحواسّ الظاهرة عن أفعالها لعدم انصباب الروح النفسانيّ إليها و رجوعها بعد الكلال و الضعف، و الملائكة السماويّة منزّهون عن هذه الأسباب و الآلات، فوجب أن يكون النوم غير صحيح في حقهم فوجب أن لا يغشاهم، و أمّا سلب سهو العقول و غفلة النسيان، فاعلم أنّ الغفلة عبارة عن عدم التفطّن للشيء و عدم تعقّله بالفعل و هى أعمّ من السهو و النسيان و كالجنس لهما، بيان ذلك أنّ السهو هو الغفلة عن الشيء مع بقاء صورته أو معناه في الحيال أو الذكر بسبب اشتغال النفس و التفاتها إلى بعض مهّماتها، و أمّا النسيان فهو الغفلة عنه مع انمحاء صورته أو معناه عن إحدى الخزانتين بالكلّية و لذلك يحتاج الناسي للشيء إلى تجشّم كسب جديد و كلفة في تحصيله ثانيا، و بهذا يظهر الفرق بين الغفلة و السهو و النسيان، و إذا عرفت ذلك ظهر أنّ هذه الامور الثلاثة من لواحق القوى الإنسانيّة فوجب أن تكون مسلوبة عن الملائكة السماويّة لسلب معروضاتها عنهم، و لمّا ذكر سهو العقول و نفاه عنهم أردفه بسلب ما هو أعمّ منه و هو الغفلة لاستلزام سلبها سلب النسيان، و قد كان ذلك كافيا في سلب النسيان إلّا أنّه أضاف الغفلة إليه ليتأكّد سلبه بسلبها،
و أمّا قوله و لا فترة الأبدان، فلأنّ الفترة هي وقوف الأعضاء البدنيّة عن العمل و قصورها بسبب تحلّل الأرواح البدنيّة و ضعفها و رجوعها للاستراحة، و كلّ ذلك من توابع المزاج الحيوانيّ فلا جرم صدق سلبها عنهم. قوله و منهم امناء على وحيه و ألسنة إلى رسله مختلفون بقضائه و أمره يشبه أن يكون هذا القسم داخلا في الأقسام السابقة من الملائكة، و إنّما ذكره ثانيا باعتبار وصف الأمانة على الوحي و الرسالة و الاختلاف بالأمر إلى الأنبياء عليهم السلام و غيرهم لأنّ من جملة الملائكة المرسلين جبرئيل عليه السلام و هو من الملائكة المقربّين، و اعلم أنّه لمّا ثبت أنّ الوحى و سائر الإفاضات من اللّه تعالى على عباده إنّما هو بواسطة الملائكة كما علمت كيفيّة ذلك لا جرم صدق أنّ منهم امناء على وحيه و ألسنة إلى رسله إذ كان الأمين هو الحافظ لما كلّف بحفظه على ما هو عليه ليؤدّيه إلى مستحقّه، و إفاضة الوحي النازل بواسطه الملائكة محفوظة نازلة كما هي مبرّاة عن الخلل الصادرة عن سهو لعدم معروضات السهو هناك أو عن عمد لعدم الداعي إليه و لقوله تعالى «يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ»«» و أمّا كونهم ألسنة إلى رسله فهي استعارة حسنة إذ يقال: فلان لسان قومه أي المفصح عن أحوالهم و المخاطب عنهم فيطلق عليه اسم اللسان لكونه مفصحا عمّا في النفس، و لمّا كانت الملائكة وسائط بين الحقّ سبحانه و بين رسله في تأدية خطابه الكريم إليهم لا جرم حسن استعارة
هذا اللفظ لهم لمكان المشابهة، و المراد هاهنا بالاختلاف التردّد بأمر اللّه و ما قضى به مرّة بعد اخرى و بالقضاء الامور المقضيّة إذ يقال: هذا قضاء اللّه أي مقضيّ اللّه، و لا يراد به المصدر فإنّ معنى ذلك هو سطر ما كان و ما يكون في اللوح المحفوظ بالقلم الإلهي و ذلك أمر قد فرغ منه كما قال صلى اللّه عليه و آله: جفّ القلم بما هو كائن، فإن قلت: كيف يصحّ أن يكون هذا القسم داخلا في السجود لأنّ من كان أبدا ساجدا كيف يتصورّ أن يكون مع ذلك متردّدا في الرسالة و النزول و الصعود مختلفا بالأوامر و النواهي إلى الرسل عليهم السلام قلت: إنّا بيّنا أنّه ليس المراد بسجود الملائكة هو وضع الجبهة على الأرض بالكيّفية الّتي نحن عليها، و انّما هو عبارة عن كمال عبوديّتهم للّه تعالى و خضوعهم تحت قدرته و ذلّتهم في الإمكان و الحاجة تحت ملك وجوب وجوده، و معلوم أنّه ليس بين السجود بهذا المعنى و بين تردّدهم بأوامر اللّه تعالى و اختلافهم بقضائه على وفق مشيئته و أمره منافاة بل كلّ ذلك من كمال عبوديّتهم و خضوعهم لعزّته و اعترافهم بكمال عظمته. قوله و منهم الحفظة لعباده. فاعلم أنّ في هذا القسم مطلوبين أحدهما ما الحفظة، و الثاني ما المراد منهم ثمّ الحفظة منهم حفظة للعباد كما قال تعالى «لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ»«» و منهم حفظة على العباد كما قال تعالى «وَ يُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً» و المراد من الأوّلين حفظ العباد بأمر اللّه تعالى من الآفات الّتي تعرض لهم و من الآخرين ضبط الأعمال و الأقوال من الطاعات و المعاصي كما قال «كِراماً كاتِبِينَ يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ» و كقوله «ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ» قال ابن عبّاس: إنّ مع كلّ إنسان ملكين أحدهما على يمينه و الآخر على يساره فإذا تكلّم الإنسان بحسنة كتبها من على يمينه، و إذا تكلّم بسيّئة قال من على اليمين لمن على اليسار: انتظر لعلّه يتوب منها فإن لم يتب كتبت عليه قال المفسّرون: فائدة ذلك أنّ المكلّف إذا علم أنّ الملائكة موكلّون به يحضرون عليه أعماله و يكتبونها في صحائف تعرض على رؤس الأشهاد في موقف القيامة كان ذلك أزجر له عن القبائح، و اعلم أنّه يحتمل أن يكون التعدّد المذكور في الحفظة تعدّدا بحسب الذوات، و يحتمل أن يكون بحسب الاعتبار.
قال بعض من زعم أنّ الحفظة للعباد هي القوى الّتي أرسلها اللّه تعالى من سماء جوده على الأبدان البشريّة: يحتمل أن يكون الحفظة على العباد هي مبادئ تلك القوى، و يكون معنى كتبه السيّئات و الحسنات و ضبطهما على العباد إمّا باعتبار ما يصدر و يتعدّد عن العبد من السيّئات و الحسنات في علم تلك المباديء أو يكون معناها كتبه صور الأفعال الخيريّة و الشرية إلى العبد بقلم الإفاضة في لوح نفسه بحسب استعدادها لذلك قال: و يشبه أن تكون إشارة ابن عبّاس بانتظار ملك اليسار كاتب السيّئات توبة العبد إلى أنّه ما دامت السيّئة حالة غير ممكنة من جوهر نفس العبد فإنّ رحمة اللّه تعالى تسعه فإذا تاب من تلك السيّئة لم تكتب في لوح نفسه، و إن لم يتب حتّى صارت ملكة راسخة في نفسه كتبت و عذّب بها يوم تقوم الساعة. قال: و يحتمل أن يكون الحفظة على العباد هم بأعيانهم من الحفظة لهم فإنّ النفس تحفظ في جوهرها ما يفعله من خير و شرّ و تحصيه يوم البعث على نفسها إذا زالت عنها الغواشي البدنيّة و تجده مصوّرا مفصّلا لا تغيب عنها منه شيء كما قال تعالى «يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَ بَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً»«» و كما قال تعالى «وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً»«» و كما قال «إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ وَ حُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ»«» و قال: و أمّا معنى كونهم من ملائكة السماء فلأنّ أصلهم من ملائكة السماء ثمّ ارسلوا إلى الأرض، و اللّه اعلم، و أمّا السدنة لأبواب جنانه فقد عرفت ما قيل فيهم.
قوله فمنهم الثابتة في الأرضيين السفلى أقدامهم المارقة من السماء العليا أعناقهم و الخارجة من الأركان أقطارهم و المناسبة لقوائم العرش أكنافهم:
فاعلم أنّ هذه الأوضاف وردت في صفة الملائكة الحاملين للعرش في كثير من الأخبار فيشبه أن يكونوا هم المقصودون بها هاهنا، و روى عن ميسرة أنّه قال: أرجلهم في الأرض السفلى رؤسهم قد خرقت العرش و هم خشوع لا يرفعون طرفهم و هم أشدّ خوفا من أهل السماء السابعة، و أهل السماء السابعة أشدّ خوفا من أهل السماء السادسة و هكذا إلى سماء الدنيا، و عن ابن عباس قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: لا تتفكرّوا في عظمة ربّكم و لكن تفكّروا فيما خلق من الملائكة فإنّ خلقا منهم يقال له إسرافيل زاوية من زوايا العرش على كاهله و قدماه في الأرض السفلى و قد مرق رأسه من سبع سماوات و أنّه ليتضاءل من عظمة اللّه حتّى يصير كأنّه الوصع، و الوصع طائر صغير، و عن ابن عبّاس أيضا أنّه قال: لمّا خلق اللّه تعالى حملة العرش قال لهم احملوا عرشي فلم يطيقوا فقال لهم: قولوا لا حول و لا قوّة إلّا باللّه فلمّا قالوا ذلك استقل فنفذت أقدامهم في الأرض السابعة على متن الثرى فلم تستقرّ فكتب في قدم كلّ ملك منهم اسما من أسمائه فاستّقرت أقدامهم، و وجه هذا الخبر أنّ وجودهم و بقائهم و حولهم و قوّتهم الّتي بها هم على ما هم إنّما هو من حوله و قوّته و هيبته فلو أنّه سبحانه خلقهم و قال لهم: احملوا عرشي و لم تكن لهم استعانة و لا مدد بحول اللّه و قوّته و معونة لم ينتهضوا بحمل ذرّة من ذرّاة مبدعاته و مكوّناته فضلا عن تدبير العرش الّذي هو أعظم الأجرام الموجودة في العام.
إذا عرفت ذلك فنقول: أمّا من قال بأنّ الملائكة أجسام كان حمل صفاتهم المذكورة في هذه الأخبار في كلامه عليه السلام على ظاهرها أمرا ممكنا و أنّه تعالى قادر على جميع الممكنات، و أمّا من نزههم عن الجسميّة فقال إنّ اللّه سبحانه لمّا خلق الملائكة السماويّة مسخّرين لأجرام السماوات مدبّرين لعالمنا عالم الكون و الفساد و أسبابا لما يحدث فيه كانوا محيطين بإذن اللّه علما بما في السماوات و الأرض فلا جرم كان منهم من ثبت في تخوم الأرض السفلى أقدام إدراكاتهم الّتي ثبتت و استقرّت باسم اللّه الأعظم و علمه الأعزّ الأكرم و نفذت في بواطن الوجودات الموجودات خبر او مرقت من السماء العليا أعناق عقولهم و خرجت من أقطارها أركان قواهم العقلّيّة، و قوله المناسبة لقوائم العرش أكتافهم يريد أنّهم مشبّهون و مناسبون لقوائم العرش في بقائهم و ثباتهم عن الزائل من تحته أبدا إلى ما شاء اللّه. فإن قلت: فهل هناك قوائم غير الحاملين للعرش الّذي أشار إليهم، و تكون هذه الطائفة من الملائكة مناسبة لتلك القوائم أم لا. قلت: قد جاء في الخبر أنّ العرش له قوائم، روى عن جعفر بن محمّد الصادق عن أبيه عليه السلام عن جدّه صلى اللّه عليه و آله أنّه قال: إنّ بين القائمين من قوائم العرش و القائمة الاخرى خفقان الطير المسرع ثمانين ألف عام قال بعض المحقّقين: إنّ هناك قوائم ثمان قد فوّض اللّه تعالى إلى كلّ ملك من الملائكة الثمانية الحاملين للعرش تدبير قائمة منها و حملها و وكلّه بها. إذا عرفت ذلك فنقول: يحتمل أن يكون قد أشار عليه السلام بقوله تلك القوائم و وجه المناسبة أنّ الكتف لمّا كان محلّ القوّة و الشدّة استعاره عليه السلام هاهنا للقوّة و القدرة الّتي يخصّ كلّ ملك من تلك الملائكة و بها يدبّر تلك القوائم من العرش، و لا شكّ أنّ بين كلّ قائمة من تلك القوائم و بين كلّ قدرة من تلك القدرة مناسبة ما لأجلها خصّ اللّه سبحانه ذلك الملك بحمل تلك القائمة و ذلك معنى قوله المناسبة لقوائم العرش أكتافهم و يحتمل أن يكون كما استعار لهم لفظ الأقدام استعار لهم أيضا لفظ الأكتاف ثمّ شبّه قيامهم بأمر اللّه في حملهم للعرش بقيام الأساطين الّتي يبني عليها الواحد منّا عرشه فهم مناسبون مشابهون لقوائم العرش الّتي يبنى عليها من غير أن يكون هناك تعرّض لإثبات قوائم بل ما يشبه القوائم.
قوله ناكسة دونه أبصارهم متلفعّون تحته بأجنحتهم:
الضميران في دونه و تحته راجعان إلى العرش و قد جاء في الخبر عن وهب ابن منبّه قال: إنّ لكلّ ملك من حملة العرش و من حوله أربعة أجنحة أمّا جناحان فعلى وجهه مخافة أن ينظر إلى العرش فيصعق و أمّا جناحان فيفهوا بهما ليس لهم كلام إلّا التسبيح و التحميد، و كنى عليه السلام بنكس أبصارهم عن كمال خشيتهم للّه تعالى و اعترافهم بقصور أبصار عقولهم عن إدراك ما وراء كمالاتهم المقدّرة لهم و ضعفها عمّا لا يحتمله من أنوار اللّه و عظمته المشاهدة في خلق عرشه و ما فوقهم من مبدعاته فإنّ شعاع أبصارهم منته واقف دون حجب عزّة اللّه. و عن بريد الرقاشيّ أنّ للّه تعالى ملائكة حول العرش يسموّن المخلخلين تجري أعينهم مثل الأنهار إلى يوم القيامة يميدون كأنّما تنقضهم الرياح من خشية اللّه تعالى فيقول لهم الربّ جل جلاله ملائكتي ما الّذي يخيفكم فيقولون: ربّنا لو أنّ أهل الأرض اطّلعوا من عزّتك و عظمتك على ما اطّلعنا عليه ما ساغوا طعاما و لا شرابا و لا انبسطوا في فرشهم و لخرجوا إلى الصحراء يخورون كما يخور الثور، و اعلم أنّه لمّا كان الجناح من الطائر و الإنسان عبارة عن محل القوّة و القدرة و البطش صحّ أن يستعار للملائكة على سبيل الكناية عن كمالهم في قدرتهم و قوّتهم الّتي يطيرون في بيداء جلال اللّه و عظمته و تصدر بواسطتهم كمالات ما دونهم من مخلوقات اللّه، و صحّ أن توصف تلك الأجنحة بالقلّة و الكثرة في آحادهم، و يكون ذلك كناية عن تفاوت قرابتهم و زيادة كمال بعضهم على بعض، و لمّا استعار لفظ الأجنحة استلزم ذلك أن يكون قد شبّههم بالطائر ذي الجناح، ثمّ لمّا كان الطائر عند قبض جناحه يشبه المتلفّع بثوبه و الملتحف به و كانت أجنحة الملائكة الّتي هي عبارة عن كما لهم في قدرهم و علومهم مقبوضة قاصرة عن التعلّق بمثل مقدورات اللّه و مبدعاته واقفة دون جلاله و عظمته في صنعه لا جرم أشبه ذلك قبض الأجنحة المشبّه للتلفّع بالثوب فاستعار عليه السلام لفظ التلفّع أيضا و كنّى به عن كمال خضوعهم و انقهارهم تحت سلطان الله و قوّته و المشاهدة في صورة عرشه. فإن قلت: إنّك بيّنت أنّ المراد بالركوع هم حملة العرش فكيف يستقيم مع ذلك أن يقال إنّ هذا القسم هم حملة العرش أيضا فإنّ من كان أقدامهم في تخوم الأرضين، و أعناقهم خارجة من السماوات السبع و من الكرسيّ و العرش كيف يكون مع ذلك راكعا قلت: الجواب عنه قد سبق في قوله و منهم امناء على وحيه فإنّ الركوع أيضا المقصود منه الخشوع لعزّ اللّه و عظمته و ذلك غير مناف للأوصاف المذكورة هاهنا، و باللّه التوفيق.
قوله مضروبة بينهم و بين من دونهم حجب العزّة و أستار القدرة
إشارة إلى أنّ الآلات البشريّة قاصرة عن إدراكهم و الوصول إليهم، و ذلك لتنزّههم عن الجسميّة و الجهة و قربهم من عزّة مبدعهم الأوّل جلّ جلاله، و بعد القوى الإنسانيّة عن الوقوف على أطوارهم المختلفة و مراتبهم المتفاوتة، و إذا كان الحال في الملك العظيم من ملوك الدنيا إذا بلغ في التعزّز و التعظيم إلى حيث لا يراه إلّا أجلاء خواصّه، و كان الحال أيضا في بعض خواصّه كذلك كالوزير و الحاجب و النديم فإنّهم لا يصل إليهم كلّ الناس بل لا يصل إليهم إلّا من كانت له إليهم وسيلة تامّة و علاقة قويّة و كان منشأ ذلك إنّما هو عظمة الملك و هيبته و قربهم منه فكان الحائل بينهم و بين غيرهم إنّما هو حجب عزّة الملك و أستار قدرته و قهره، فكيف الحال في جبّار الجبابرة و مالك الدنيا و الآخرة، و حال ملائكته المقرّبين و من يليهم من حملة العرش الروحانييّن، فبالحريّ أن ينسب عدم وصول قوانا الضعيفة إليهم و إدراكها لمراتبهم إلى حجب عزّة اللّه و عظمته لهم و كمال ملكه و تمام قدرته و ما أهلّهم له من قربه و مطالعة أنوار كبريائه عزّ سلطانه و لا إله إلّا هو.
قوله و لا يتوهّمون ربّهم بالتصوير
إشارة إلى تنزيههم عن الإدراكات الوهميّة و الخياليّة في حقّ مبدعهم عزّ سلطانه إذ كان الوهم إنّما يتعلّق بالامور المحسوسة ذات الصور و الأحياز و المحالّ الجسمانيّة فالوهم و إن أرسل طرفه إلى قبلة وجوب الوجود و بالغ في تقليب حدقه فلن يرجع إلّا بمعنى جزئيّ يتعلّق بمحسوس حتّى أنّه لا يقدر نفسه و لا يدركها إلّا ذات مقدار و حجم، و لمّا كان الوهم من خواصّ المزاج الحيوانيّ لا جرم سلب التوهّم عن هذا الطور من الملائكة لعدم قوّة الوهم هناك فإنّ هذه القوّة لمّا كانت موجودة للإنسان لا جرم كان يرى ربّه في جهة و يشير إليه متحيّزا ذا مقدار و صورة، و لذلك وردت الكتب الإلهيّة و النواميس الشرعيّة مشحونة بصفات التجسيم كالعين و اليد و الإصبع و الاستواء على العرش و نحو ذلك خطابا للخلق بما تدركه أوهامهم و توطينا لهم و إيناسا حتّى أنّ الشارع لو أخذ في مبدء الأمر بيّن لهم أنّ الصانع الحكيم ليس داخل العالم و لا خارجة و لا في جهة و ليس مجسم و لا عرض لاشتدّ نفار أكثرهم من قبول ذلك و عظم إنكارهم له فإنّ الوهم في طبيعته لا يثبت موجودا بهذه الصفة و لا يتصوّره، و من شأنه أن ينكر ما لا يتصوّر فكان منكرا لهذا القسم من الموجودات و الخطابات الشرعيّة و إن وردت بصفات التجسيم إلّا أنّ الألفاظ الموهمة لذلك لمّا كانت قابلة للتأويل محتملة له كانت وافية بالمقاصد إذ ال عاميّ المغمور في ظلمات الجهل يحمله على ظاهره و يحصل بذلك تقييده عن تشتّت اعتقاده و ذو البصيرة المترقّي عن تلك الدرجة يحمله على ما يحتمله عقله من التأويل، و كذلك حال من هو أعلى منه، و الناس في ذلك على مراتب فكان إيرادها حسنا و حكمة. قوله و لا يجرؤن عليه صفات المصنوعين. أقول: إجراء صفات المصنوعين عليه إنّما يكون بمناسبته و مما ثلثته مع مصنوعاته و مكوّناته و كلّ ذلك بقياس من الوهم و محاكاة من المتخيّلة له بصورة المصنوع، فكان الوهم يحكم أوّلا يكون الباري عزّ سلطانه مثلا لمصنوعاته الّتي يتعلّق إدراكه بها من المتحيّزات و ما يقوم بها و يخيّله بصورة منها ثمّ يساعده العقل في مقدّمة اخري هي أنّ حكم الشيء حكم مثله فيجري حينئذ عليه صفات مصنوعاته التي حكم بمثليّته لها، و لما كانت الملائكة السماويّة منزّهين عن الوهم و الخيال لا جرم وجب تنزيههم عن أن يجروا عليه صفات مصنوعاته سبحانه و تعالى عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا، و كذلك قوله و لا يحدّونه بالأماكن و لا يشيرون إليه بالنظائر فإنّ الحاكم بحدّه في مكان و تحيّزه فيه و المشير إليه بالمثل المتصوّر له بالقياس إلى نظير يشاكله و يشابهه إنّما هو الوهم و الخيال، و لمّا عرفت أنّهما يخصّان للحيوان العنصريّ لا جرم كانت هذه الأحكام مسلوبة عن الملائكة السماويّة مطلقا و باللّه التوفيق.
شرح نهج البلاغه ابن میثم بحرانی جلد1