google-site-verification: googledc28cebad391242f.html
1-20 خطبه ها شرح ابن میثمخطبه ها شرح ابن میثم بحرانی(متن عربی)

خطبه1شرح ابن میثم بحرانی قسمت پنجم

الفصل الخامس منها. قوله: في ذكر الحج

وَ فَرَضَ عَلَيْكُمْ حَجَّ بَيْتِهِ الْحَرَامِ-  الَّذِي جَعَلَهُ قِبْلَةً لِلْأَنَامِ-  يَرِدُونَهُ وُرُودَ الْأَنْعَامِ وَ يَأْلَهُونَ إِلَيْهِ وُلُوهَ الْحَمَامِ-  وَ جَعَلَهُ سُبْحَانَهُ عَلَامَةً لِتَوَاضُعِهِمْ لِعَظَمَتِهِ-  وَ إِذْعَانِهِمْ لِعِزَّتِهِ-  وَ اخْتَارَ مِنْ خَلْقِهِ سُمَّاعاً أَجَابُوا إِلَيْهِ دَعْوَتَهُ-  وَ صَدَّقُوا كَلِمَتَهُ وَ وَقَفُوا مَوَاقِفَ أَنْبِيَائِهِ-  وَ تَشَبَّهُوا بِمَلَائِكَتِهِ الْمُطِيفِينَ بِعَرْشِهِ-  يُحْرِزُونَ الْأَرْبَاحَ فِي مَتْجَرِ عِبَادَتِهِ-  وَ يَتَبَادَرُونَ عِنْدَهُ مَوْعِدَ مَغْفِرَتِهِ-  جَعَلَهُ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى لِلْإِسْلَامِ عَلَماً-  وَ لِلْعَائِذِينَ حَرَماً فَرَضَ حَقَّهُ وَ أَوْجَبَ حَجَّهُ-  وَ كَتَبَ عَلَيْكُمْ وِفَادَتَهُ-  فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا-  وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ‏

اللغة

أقول: يألهون إليه أي يشتدّ وجدهم و شوقهم إليه و أصل الهمزة هاهنا الواو من و له إذا تحيّر من شدّة الوجد، و السماع جمع سامع كسامر و سماع و المبادرة المسارعة، و الوفادة القدوم للاسترفاد و الانتفاع،

المعنى

و اعلم أنّا لمّا بيّنا وجوب العبادات و أشرنا إلى وجه الحكمة فيها فبالحريّ أن نشير إلى وجه الحكمة في خصوص الحجّ من جملتها، و نؤخّر تفصيل باقيها إلى مواضعه، و إنشاء اللّه فأمّا الحجّ فإنّك لمّا عرفت أنّ الغرض الأوّل من العبادات هو جذب الخلق إلى جناب الحقّ بالتذكير له و دوام إخطاره بالبال لتجلّى لك الأسرار على طول التذكار، و ينتهى في ذلك من أخذت العناية بيده إلى مقام المخلصين فمن جملة أسرار اللّه سبحانه المنزلة على لسان رسوله تعيين موضع من البلاد أنّه أصلح المواضع لعبادة اللّه، و أنّه خاصّ له و لا بدّ أنّ تبنى مثل هذه الأوضاع على إشارات و رموز إلى مقاصد حقيقيّة يتنبّه لها من أخذ التوفيق بزمام عقله إليها، و لا بدّ من تعيين أفعال تفعل في ذلك المكان و أنّها إنّما تفعل في ذات اللّه سبحانه، و أنفع المواضع المعيّنة في هذا الباب ما كان مأوى الشارع و مسكنه فإنّ ذلك مستلزم لذكره، و ذكره مستلزم لذكر اللّه سبحانه و ذكر ملائكته و اليوم الآخر، و لمّا لم يمكن في المأوى الواحد أن يكون مشاهدا لكلّ أحد من الامة فالواجب إذن أن يفرض إليه مهاجرة و سفر و إن كان فيه نوع مشقّة و كلفة من تعب الأسفار و إنفاق المال و مفارقة الأهل و الولد و الوطن و البلد، و نحن نذكر فضيلته من جهة السمع ثمّ نشير إلى ما ينبغي أن يوظّف فيه من الآداب الدقيقة و الاعمال الباطنة عند كلّ حركة و ركن من أركان الحجّ مما يجرى من تلك الأركان مجرى الأرواح للأبدان فإذن

هاهنا أبحاث.

البحث الأوّل-  أمّا الفضيلة

فمن وجوه: الأوّل قوله تعالى «وَ أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَ عَلى‏ كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ»«» قال قتادة: لمّا أمر اللّه عزّ و جلّ خليله إبراهيم عليه السّلام أن يؤذّن في الناس و نادى أيّها الناس إنّ للّه بيتا فحجوّه، و قال تعالى «لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ»«» قيل: التجارة في المواسم و الأجر في الآخرة، و لمّا سمع بعض السلف هذا قال غفر لهم و ربّ الكعبة، الثاني قال عليه السّلام: من حجّ و لم يرفث و لم يفسق خرج‏ من ذنوبه كيوم ولدته امّه، و قد عرفت كيفيّة نفع العبادات في الخلاص من الذنوب. الثالث قال صلى اللّه عليه و آله: ما رأى الشيطان في يوم هو أصغر و لا أحقر و لا أغيض منه يوم عرفة، و ما ذلك إلّا لما يرى من نزول الرحمة و تجاوز اللّه عن الذنوب العظام إذ يقال من الذنوب ما لا يكفّرها إلّا الوقوف بعرفة. أسنده الصادق عليه السّلام إلى الرسول صلى اللّه عليه و آله و كان سرّ ذلك ما يحصل من رحمة اللّه و يفاض على أسرار العبادة الّتي قد صفت بشدّة الاستعداد الحاصل من ذلك الموقف العظيم الّذي يجتمع فيه العالم أشدّ اجتماع، فإنّ الاجتماع سبب عظيم في الانفعال و الخشية للّه و قبول أنواره كما سنبيّنه إنشاء اللّه. الرابع قال صلى اللّه عليه و آله: حجّة مبرورة خير من الدنيا و ما فيها، و حجّة مبرورة ليس لها أجر إلّا الجنّة قال صلى اللّه عليه و آله: الحجّاج و العمّار وفد اللّه و زوّاره إن سألوه أعطاهم، و إن استغفروه غفر لهم، و إن دعوه استجاب لهم، و إن شفعوا إليه شفّعهم. السادس روى عنه صلى اللّه عليه و آله من طرق أهل بيته عليهم السّلام أعظم الناس ذنبا من وقف بعرفة و ظنّ أنّ اللّه لم يغفر له، و في فضل جزئيّات الحجّ أخبار كثيرة تطلب من مظانّها.

البحث الثاني-  في الآداب الدقيقة

و هي عشرة: الأوّل أن تكون النفقة حلالا و يخلو القلب عن تجارة تشغله سوى اللّه تعالى، و في الخبر من طريق أهل البيت إذا كان آخر الزمان خرج الناس إلى الحجّ على أربعة أصناف سلاطينهم للنزهة، و أغنيائهم للتجارة، و فقراؤهم للمسألة و قرّاؤهم للسمعة، و في الخبر إشارة إلى جملة أغراض الدنيا الّتي يتصوّر أن يتّصل بالحجّ، فكلّ ذلك مانع لفضيلة الحجّ و مقصود الشارع منه، الثاني أن لا يساعد الصادّين عن سبيل اللّه و المسجد الحرام بتسليم المكوس إليهم فإنّ ذلك إعانة على الظلم و تسهيل لأسبابه و جرأة على سائر السالكين إلى اللّه، و ليحتل في الخلاص فإن لم يقدر فالرجوع أولى من إعانة الظالمين على البدعة و جعلها سنّة، الثالث التوسّع في الزاد و طيب النفس في البذل، و الإنفاق بالعدل دون البخل و التبذير، فإنّ بذل الزاد في طريق مكّة إنفاق في سبيل اللّه قال صلى اللّه عليه و آله: الحجّ المبرور ليس له أجر إلّا الجنّة فقيل يا رسول اللّه ما برّ الحجّ قال: طيب الكلام و إطعام الطعام، الرابع ترك الرفث و الفسوق و الجدال كما قال تعالى «فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِي الْحَجِّ»«» و الرفث كلّ لغو و فحش من الكلام،و يدخل في ذلك محادثة النساء بشأن الجماع المحرّم فإنّها تهيّج داعيته و هي مقدّمة له فتحرم، و من لطف الشارع إقامة مظنّة الشي‏ء مقام الشي‏ء حسما لمادّته، و الفسوق الخروج عن طاعة اللّه، و الجدال هو المماراة و الخصومة الموجبة للضغائن و الأحقاد و افتراق كلمة الخلق (الحقّ)، و كلّ ذلك ضدّ مقصود الشارع من الحجّ و شغل عن ذكر اللّه، الخامس أن يحجّ ماشيا مع القدرة و نشاط النفس فإنّ ذلك أفضل و أدخل للنفس في الإذعان لعبوديّة اللّه، و قال بعض العلماء: الركوب أفضل لما فيه من مئونة الإنفاق، و لأنّه أبعد من الملال و أقلّ للأذى و أقرب إلى السلامة و أداء الحجّ، و هذا التحقيق غير مخالف لما قلناه، و الحقّ التفصيل، فيقال: من سهل عليه المشى فهو أفضل فإن أضعف و أدّى إلى سوء خلق و قصور عن العمل فالركوب أفضل لأنّ المقصود توفّر القوى على ذكر اللّه تعالى و عدم المشتغلات عنه. السادس أن يركب الزاملة دون المحمل لاشتماله على زىّ المترفين و المتكبّرين و لأنّه أخفّ على البعير اللهمّ إلّا لعذر. حجّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله على راحلته و كان تحته رحل رثّ و قطيفة خلقة قيمته أربعة دراهم و طاف على الراحلة لينظر الناس إلى هيئته و شمائله، و قال: خذوا عنّي مناسككم. السابع أن بخرج رثّ الهيئة أقرب إلى الشعث غير مستكثر من الزينة و أسباب التفاخر فيخرج بذلك عن حزب السالكين و شعار الصالحين. و روى عنه صلى اللّه عليه و آله أنّه قال: إنّما الحاجّ الشعث التفث يقول اللّه تعالى لملائكته انظروا إلى زوّار بيتي قد جاءوني شعثا غيرا من كلّ فج. و قال تعالى «ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ» و التفث الشعث و الاغبرار و قضاؤه بالحلق و تقليم الأظفار. الثامن أن يرفق بالدابّة و لا يحملها ما لا تطيق كان أهل الورع لا ينامون على الدابّة إلّا عفوة من قعود قال صلى اللّه عليه و آله: لا تتّخذوا ظهور دوّابكم كرسيّ، و يستحبّ أن ينزل عن دابّته غدوّة و عشيّة يروّحها بذلك فهو سنّة، و سرّ ذلك مراعاة الرقّة و الرحمة و التخلّي عن القسوة و الظلم و لأنّه يخرج بالعسف عن قانون العدل و مراعاة عناية اللّه و شمولها فإنّها كما لحقت الإنسان لحقت سائر الحيوان التاسع أن يتقرّب بإراقه دم و يجتهد أن يكون سمينا ثمينا روى أنّ عمر أهدى نجيبة فطلبت منه بثلاثة مائة دينار فسأل رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله أن يبيعها و يشترى بثمنها بدنا فنهاه رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و قال: بل اهدها و ذلك لأنّ المقصود ليس تكثير اللحم و إنّما المقصود تزكية النفس و تطهيرها عن رذيلة البخل و تزيينها بجمال التعظيم للّه لن ينال اللّه لحومها و لا دماؤها و لكن يناله التقوى منكم قال صلى اللّه عليه و آله: ما من عمل آدميّ يوم النحر أحبّ إلى اللّه عزّ و جلّ من إهراقه دما و إنّها لتأتى يوم القيامة بقرونها و إطلافها و إنّ الدم ليقع من اللّه بمكان قبل أن يقع الأرض فطيّبوا بها نفسا. العاشر أن يكون طيّب النفس بما أنفقه من هدى و غيره، و بما أصابه من خسران و نقيصة مال إن أصابه ذلك فإنّه بذلك يكون مكتفيا إلى اللّه سبحانه عن كلّ ما أنفقه متعوّضا عنه ما عند اللّه و ذلك علامة لقبول حجّه.

البحث الثالث-  في الوظائف القلبيّة عند كلّ عمل من أعمال الحجّ.

اعلم أنّ أوّل الحجّ فهم موقع الحجّ في الدين ثمّ الشوق إليه ثمّ العزم عليه ثمّ قطع العلائق المانعة عنه ثمّ تهيئة أسباب الوصول إليه من الزاد و الراحلة ثمّ السير ثمّ الإحرام من الميقات بالتلبية ثمّ دخول مكّة ثمّ استتمام الأفعال المشهورة، و في كلّ حالة من هذه الحالات تذكرة للمتذكّر و عبرة للمعتبر و نيّة للمريد الصادق و إشارة للفطن الحاذق إلى أسرار يقف عليها بصفاء قلبه و طهارة باطنه إن ساعده التوفيق. أمّا الفهم فاعلم أنّه لا وصول إلى اللّه إلّا بتنحية ما عداه عن القصد من المشتهيات البدنيّة و اللذّات الدنيويّة و التجريد في جميع الحالات و الاقتصار على الضروريّات، و لهذا انفرد الرهبان في الأعصار السالفة عن الخلق في قلل الجبال توحّشا من الخلق و طلبا للانس بالخالق و اعرضوا عن جميع ما سواه، و لذلك مدحهم بقوله «ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَ رُهْباناً وَ أَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ» فلمّا اندرس ذلك و أقبل الخلق على اتّباع الشهوات و الإقبال على الدنيا و الالتفات عن اللّه بعث نبيّه صلى اللّه عليه و آله لإحياء طريق الآخرة و تجديد سنّة المرسلين في سلوكها فسأله أهل الملل عن الرهبانيّة و السياحة في دينه فقال: أبدلنا بها الجهاد و التكبير على كلّ شرف يعنى الحجّ. و سئل عن السائحين فقال: هم الصائمون فجعل سبحانه الحجّ رهبانيّة لهذه الامة فشرّف البيت العتيق بإضافته إلى نفسه و نصبه مقصدا لعباده و جعل ما حوله حرما لبيته تفخيما لأمره و تعظيما لشأنه، و جعل عرفات كالميدان على باب حرمه و أكدّ حرمة الموضع بتحريم صيده و شجره، و وضعه على مثال حضرة الملوك يقصده الزوّار من كلّ فجّ عميق شعثا غبرا متواضعين لربّ البيت مستكينين له خضوعا بجلاله و استكانة لعزّته مع الاعتراف بتنزيهه عن أن يحومه مكان ليكون ذلك أبلغ في رقّهم و عبوديّتهم، و لذلك وظّف عليهم فيها أعمالا لا تأنس بها النفوس و لا تهتدى إلى معانبها العقول كرمي الجمار بالأحجار و التردّد بين الصفا و المروة على سبيل التكرار، و بمثل هذه الأعمال يظهر كمال الرّق و العبوديّة بخلاف سائر العبادات كالزكاة الّتي هي إنفاق في وجه معلوم و للعقل إليه ميل، و الصوم الّذي هو كسر للشهوة الّتي هي عدوّ للّه و تفرّغ للعبادة بالكفّ عن الشواغل، و كالركوع و السجود في الصلاة الّذي هو تواضع للّه سبحانه بأفعال على هيئات التواضع و للنفوس انس بتعظيم اللّه تعالى. و أمّا أمثال هذه الأعمال فإنّه لا اهتداء للعقل إلى أسرارها فلا يكون للإقدام عليها باعث إلّا الأمر المجرّد و قصد امتثاله من حيث هو واجب الاتّباع فقط و فيه عزل للعقل عن تصرّفه و صرف النفس و الطبع عن محلّ انسه المعين على الفعل من حيث هو فإنّ كلّ ما أدرك العقل وجه الحكمة في فعله مال الطبع إليه ميلا تامّا فيكون ذلك الميل معينا للأمر و باعثا على الفعل فلا يكاد يظهر به كمال الرقّ و الانقياد، و لذلك قال صلى اللّه عليه و آله في الحجّ على الخصوص: لبّيك بحجّة حقّا تعبّدا و رقّا، و لم يقل ذلك في الصلاة و غيرها، و إذا اقتضت حكمة اللّه سبحانه ربط نجاة الخلق بكون أعمالهم على خلاف أهوية طباعهم و أن يكون أزّمتها بيد الشارع فيتردّدون في أعمالهم على سنن الانقياد و مقتضي الاستبعاد كان مالا يهتدى إلى معانيه أبلغ أنواع التعبّدات و صرفها عن مقتضي الطبع إلى مقتضي الاسترقاق، و لهذا كان مصدر تعجّب النفوس من الأفعال العجيبة هو الذهول عن أسرار التعبّدات، و أمّا الشوق فباعثه الفهم أنّ البيت بيت اللّه و أنّه وضع على مثال حضرة الملوك فقاصده قاصد اللّه تعالى و من قصد حضرة اللّه تعالى بالمثال المحسوس فجدير أن يترقّى منه بحسب سوق شوقه إلى الحضرة العلويّة و الكعبة الحقيقيّة الّتي هي في السماء و قد بنى هذا البيت على قصدها فيشاهد وجه ربّه الأعلى بحكم وعده الكريم، و أمّا العزم فليستحضر في ذهنه أنّه لعزمه مفارق للأهل و الولد، هاجر للشهوات و اللذّات مهاجر إلى ربّه، متوجّه إلى زيارة بيته و ليعظّم قدر البيت لقدر ربّ البيت و ليخلّص عزمه للّه و يبّعده عن شوائب الرياء و السمعة فإنّ ذلك شرك خفيّ، و ليتحقّق أنّه لا يقبل من عمله و قصده إلّا الخالص و أنّ من أقبح المقابح أن يقصد بيت الملك و حرمه مع اطّلاع ذلك الملك على خائنة الأعين و ما تخفى الصدور و يكون قصده غيره فإنّ ذلك استبدال للّذي هو أدنى بالّذي هو خير، أمّا قطع العلائق فحذف جميع الخواطر عن قلبه غير قصد عبادة اللّه و التوبة الخالصة له عن الظلم و أنواع المعاصي فكلّ مظلمة علاقة و كلّ علاقة خصم حاضر متعلّق به ينادى عليه و يقول أتقصد بيت الملوك و هو مطّلع على تضييع أمره لك في منزلك هذا و تستهين به و لا تلتفت إلى نواهيه و زواجره و لا تستحيى أن تقدم عليه قدوم العبد العاصي فيغلق دونك أبواب رحمته و يلقيك في مهاوي نقمته فإن كنت راغبا في قبول زيارتك فأبرز إليه من جميع معاصيك و أقطع علاقة قلبك عن الالتفات إلى ما وراءك لتتوجّه إليه بوجه قلبك كما أنت متوجّه إلى بيته بوجه ظاهرك، و ليذكر عند قطعه العلائق لسفر الحجّ قطع العلائق لسفر الآخرة فإنّ كلّ هذه أمثلة قريبة يترقّى منها إلى أسرارها، و أمّا الزاد فليطلبه من موضع حلال فإذا أحسّ من نفسه بالحرص على استكثاره و طيبه و طلب ما يبقى منه على طول السفر و لا يتغيّر قبل بلوغ المقصد فليذكر أنّ سفر الآخرة أطول من هذا السفر و أنّ زاده التقوى، و أمّا ما عداه لا يصلح زادا و لا يبقى معه إلّا رثيما هو في هذا المنزل و ليحذر أن يفسد أعماله الّتي هي زاده إلى الآخرة بشوائب الرياء و كدورات التقصير فيدخل في قوله تعالى «هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً»«» و كذلك فليلاحظ عند ركوب دابّته تسخير الحيوان له و حمله عنه الأذى، و يتذكّر منّته تعالى لشمول عنايته و رأفته حيث يقول «و تحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلّا بشقّ الأنفس إنّ ربّكم لرؤف رحيم»«» فيشكره سبحانه على جزيل هذه النعمة و عظيم هذه المنّة، و يستحضر نقلته من مركبه إلى منازل الآخرة الّتي لا شكّ فيه، و لعلّه أقرب من ركوبه الحاضر فتحتاط في أمره، و ليعلم أنّ هذه أمثلة محسوسة يترقّى منها إلى مراكب النجاة من الشقّة الكبرى و هي عذاب اللّه سبحانه، و أمّا ثوب الإحرام و شراؤه و لبسه فليتذكّر معه الكفن و درجه فيه و لعلّه أقرب إليه وليتذكّر منها التسربل بأنوار اللّه الّتي لا مخلص من عذابه إلّا بها فيجهد في تحصيلها بقدر إمكانه، و أمّا الخروج من البلد فليستحضر عنده أنّه يفارق الأهل و الولد متوجّها إلى اللّه سبحانه في سفر غير أسفار الدنيا، و يستحضر أيضا غايته من ذلك السفر و أنّه متوجّه إلى ملك الملوك. و جبّار الجبابرة في جملة الزائرين الّذين نودوا فأجابوا و شوّقوا ما اشتاقوا و قطعوا العلائق و فارقوا الخلائق و أقبلوا على بيت اللّه طلبا لرضى اللّه و طمعا في النظر إلى وجهه الكريم و ليحضر أيضا في قلبه رجاء الوصول إلى الملك و القبول له بسعة فضله و ليعتقد أنّه إن مات دون الوصول إلى البيت لقى اللّه وافدا عليه لقوله تعالى «وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ»«» و ليتذكّر في أثناء طريقه من مشاهدة عقبات الطريق عقبات الآخرة و من السباع و الحيّات حشرات القبر، و من وحشة البرارى وحشة القبر و انفراده عن الانس فإنّ كلّ هذه الامور جاذبة إلى اللّه سبحانه و مذكّرة له أمر معاده، و أمّا الإحرام و التلبية من الميقات فليستحضر أنّه إجابة نداء اللّه تعالى و ليكن في قبول إجابته بين خوف و رجاء مفوّضا أمره إلى اللّه متوكّلا على فضله. قال سفيان بن عيينة حجّ زين العابدين عليّ بن الحسين عليه السّلام فلمّا أحرم و استوت به راحلته اصفرّ لونه و وقعت عليه الرعدة و لم يستطع أن يلبّي فقيل له ألا تلبّي فقال: أخشى أن يقول لا لبّيك و لا سعديك فلمّا لبّى غشى عليه و سقط عن راحلته فلم يزل يعتريه ذلك حتّى قضى حجّه فانظر-  رحمك اللّه-  إلى هذه النفس الطاهرة حيث بلغ بها الاستعداد لإفاضة أنوار اللّه لم تزل الغواشي الإلهيّة و النفخات الربّانيّة تغشيها فيغيب عن كلّ شي‏ء سوى جلال اللّه و عظمته، و ليتذّكر عند إجابته نداء اللّه سبحانه إجابة ندائه بالنفخ في الصور و حشر الخلق من القبور و ازدحامهم في عرصات القيامة مجيبين لندائه منقسمين إلى مقرّبين و ممقوتين و مقبولين و مردودين و مردّدين في أوّل الأمر بين الخوف و الرجاء تردّد الحاجّ في الميقات حيث لا يدرون أيتيسّر لهم إتمام الحجّ أم لا، أمّا دخول مكّة.

فليستحضر عنده أنّه قد انتهى إلى حرم اللّه الأمن و ليرج عنده أن يأمن بدخوله من عقاب اللّه و ليخش أن لا يكون من أهل القرب، و ليكن رجاؤه أغلب فإنّ الكريم عميم و شرف البيت عظيم و حقّ الزائر مرعيّ و ذمام اللائذ المستجير غير مضيّع خصوصا عند أكرم‏ الأكرمين و أرحم الراحمين، و يستحضر أنّ هذا الحرم مثال للحرم الحقيقيّ لترقّي من الشوق إلى دخول هذا الحرم و الأمن بدخوله من العقاب إلى الشوق إلى دخول ذلك الحرم و المقام الأمين، و إذا وقع بصره على البيت فليستحضر عظمته في قلبه و ليترّق بفكره إلى مشاهدة حضرة ربّ البيت في جوار الملائكة المقرّبين و ليتشوّق أن يرزقه النظر إلى وجهه الكريم كما رزقه الوصول إلى بيته العظيم و ليتكثّر من الذكر و الشكر على تبليغ اللّه إيّاه هذه المرتبة، و بالجملة فلا يغفل عن تذكير أحوال الآخرة في كلّ ما يراه فإنّ كل أحوال الحجّ و منازله دليل يترقّي منه إلى مشاهدة أحوال الآخرة، و أما الطواف بالبيت. فليستحضر في قلبه التعظيم و الخوف و الخشية و المحبّة، و ليعلم أنّه بذلك متشبّه بالملائكة المقرّبين الحافيّن حول العرش الطائفين حوله و لا تظنّن أنّ المقصود طواف جسمك بالبيت بل طواف قلبك بذكر ربّ البيت حتّى لا تبتدى‏ء بالذكر إلّا منه و لا تختم إلّا به كما تبدأ بالبيت و تختم به، و اعلم أنّ الطواف المطلوب هو طواف القلب بحضرة الربوبيّة و أنّ البيت مثال ظاهر في عالم الشهادة لتلك الحضرة الّتي هي عالم الغيب كما أنّ الإنسان الظاهر مثال الظاهر في عالم الشهادة للإنسان الباطن الّذي لا يشاهد بالبصر و هو في عالم الغيب و أنّ عالم الملك و الشهادة مرقاة و مدرج إلى عالم الغيب و الملكوت لمن فتح له باب الرحمة و أخذت العناية الإلهيّة بيده لسلوك الصراط المستقيم، و إلى هذه الموازنة وقعت الإشارة الإلهيّة بأنّ البيت المعمور في السماء بإزاء الكعبة، و أنّ طواف الملائكة به كطواف الإنس بهذا البيت، و لمّا قصرت مرتبة أكثر الخلق عن مثل ذلك الطواف امروا بالتشبّه بهم بحسب الإمكان و وعدوا بأنّ من تشبّه بقوم فهو منهم ثمّ كثيرا ما يزداد ذلك التشبيه إلى أن يصير في قوّة المشبّه به و الّذي يبلغ تلك المرتبة فهو الّذي يقال إنّ الكعبة تزوره و تطوف به على ما رواه بعض المكاشفين لبعض أولياء اللّه، و أمّا الاستلام فليستحضر عنده أنّه مبائع للّه على طاعته مصمّم عزيمته على الوفاء ببيعته «فمن نكث فإنّما ينكث على نفسه و من أوفي بما عاهد عليه اللّه فسيؤتيه أجرا عظيما»«» و لذلك قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: الحجر الأسود يمين اللّه في الأرض يصافح بها خلقه كما يصافح الرجل أخاه، و لمّا قبّله عمر قال: إنّي لأعلم أنّك حجر لا تضرّ و لا تنفع و لو لا أنّي رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله يقبّلك لما قبّلتك فقال له عليّ عليه السّلام مه يا عمر بل يضرّ و ينفع فإنّ اللّه سبحانه لمّا أخذ الميثاق على بني آدم حيث يقول «و إذ أخذ ربّك من بني آدم من ظهورهم ذرّيتهم و أشهدهم على أنفسهم»«» الآية ألقمه هذا الحجر ليكون شاهدا عليهم بأداء أمانتهم و ذلك معنى قول الإنسان عند استلامه أمانتي أدّيتها و ميثاقي تعاهدته لتشهد لي عند ربّك بالموافاة، و أمّا التعلّق بأستار الكعبة و الالتصاق بالملتزم. فليستحضر فيه طلب القرب حبّا للّه و شوقا إلى لقائه تبرّكا بالمماسّة و رجاء للتحصّن من النار في كلّ جزء من البيت و لتكن النيّة في التعلّق بالستر الالحاح في طلب الراحة (الرحمة) و توجيه الذهن إلى الواحد الحقّ، و سؤال الأمان من عذابه كالمذنب المتعلّق بأذيال من عصاه المتضرّع إليه في عفوه عنه المعترف له بأنّه لا ملجاء إلّا إليه و لا مفزع له إلّا عفوه و كرمه، و أنّه لا يفارق ذيله إلّا بالعفو و بذل الطاعة في المستقبل، و أمّا السعي بين الصفا و المروة في فناء البيت فمثال التردّد العبد بفناء دار الملك جائيا و ذاهبا مرّة بعد اخرى إظهارا للخلوص في الخدمة و رجاء لملاحظته بعين الرحمة كالّذي دخل على الملك و خرج و هو لا يدري ما الّذي يقضي الملك في حقّه من قبول أوردّ فيكون تردّده رجاء أن يرحمه في الثانية إن لم يكن رحمه في الاولى، و ليتذّكر عند تردّده بين الصفا و المروة تردّده بين كفتّي الميزان في عرصة القيامة و ليمثّل الصفا بكفّه الحسنات و المروة بكفّه السيّئات و ليتذكّر تردّده بين الكفّتين ملاحظا للرجحان و النقصان متردّدا بين العذاب و الغفران، و أما الوقوف بعرفه.

فليتذكّر بما يرى من ازدحام الناس و ارتفاع الأصوات و اختلاف اللغات و اتّباع الفرق أئمتّهم في التردّدات على المشاعر اقتفاء لهم و سيرا بسيرتهم عرصات القيامة و اجتماع الامم مع الأنبياء و الأئمّة و اقتفاء كلّ امّة أثر نبيّها و طمعهم في شفاعتهم و تجرّهم في ذلك الصعيد الواحد بين الرّد و القبول، و إذا تذكّر ذلك فيلزم قلبه الضراعة و الابتهال إلى اللّه أن يحشره في زمرة الفائزين المرحومين، و لكن رجاؤه أغلب فإنّ الموقف شريف و الرحمة إنّما تصل من حضرة الجلال إلى كافّة الخلائق بواسطة النفوس الكاملة من أوتاد الأرض و لا يخلو الموقف عن طائفة من الأبدال و الأوتاد و طوائف من الصالحين و أرباب‏ القلوب فإن اجتمعت همّهم و تجرّدت للضراعة نفوسهم، و ارتفعت إلى اللّه أيديهم و امتدّت إليه أعناقهم يرمقون بأبصارهم جهة الرحمة طالبين لها فلا تظنّن أنّه يخيّب سعيهم من رحمة تغمرهم و يلوح لك من اجتماعهم الامم بعرفات و الاستظهار بمجاورة الأبدال و الأوتاد المجتمعين من أقطار البلاد و هو السرّ الأعظم من الحجّ و مقاصده فلا طريق إلى استنزال رحمة اللّه و استدرارها أعظم من اجتماع الهمم و تعاون القلوب في وقت واحد على صعيد واحد، و أمّا رمي الجمار. فليقصد به الانقياد لأمر اللّه و إظهار الرقّ و العبودية ثمّ ليقصد به التشبّه بإبراهيم عليه السّلام حيث عرض له إبليس في ذلك الموضع ليدخل على حجّه شبهة أو يفتنه بمعصية فأمره اللّه تعالى أن يرميه بالحجارة طردا له و قطعا لأمله فإن خطر له أنّ الشيطان عرض لإبراهيم عليه السّلام و لم يعرض له فليعلم أنّ هذا الخاطر من الشيطان و هو الّذي ألقاه على قلبه ليخيّل إليه أنّه لا فائدة في الرمي، و أنّه يشبه اللعب و ليطرده عن نفسه بالجدّ و التشمير في الرمي فيه يرغم فيه برغم أنف الشيطان فإنّه و إن كان في الظاهر رميا للعقبة بالحصى فهو في الحقيقة رمي لوجه إبليس و قصم لظهره إذ لا يحصل إرغام أنفه إلّا بامتثال أمر اللّه تعظيما لمجرد الأمر، و أمّا ذبح الهدى.

فليعلم أنّه تقرب إلى اللّه تعالى بحكم الامتثال فليكمل الهدى و أجزاه و ليرج أن يعتق اللّه بكلّ جزء منه جزءا من النار. هكذا ورد الوعد فكلّما كان الهدى أكثر و أوفر كان الفداء به من النار أتمّ و أعمّ و هو يشبه التقرب إلى الملك بالذبح له و إتمام الضيافة و القرى و الغاية منه تذكّر المعبود الأوّل سبحانه عند النيّة في الذبح و اعتقاد أنّه متقرب به بأجزائه إلى اللّه فهذه هي الإشارة إلى أسرار الحجّ و أعماله الباطنة.

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى المتن

قوله و فرض عليكم حجّ بيته الحرام

إشارة. إلى وجوب الحجّ على الخلق و هو معلوم بالضرورة من الدين و وصفه بالحرام لأنّه يحرم على الخلق أن يفعلوا فيه ما لا ينبغي من مناهي الشرع،

و قوله الّذي جعله قبلة للأنام

مستنده قوله تعالى «فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ»«»

و قوله يردونه ورود الأنعام

مبالغة في تشبيه ورود الخلق البيت بورود الأنعام، و وجه الشبه أنّ الخلق يردّون البيت‏ بازدحام عن حرص و شوق إليه كحال الأنعام عند ورودها الماء، و قيل: إنّ وجه الشبه هو ما بيّناه من عدم اطّلاع الخلق على أسرار الحجّ و على ما يشتمل عليه المناسك من الحكمة الإلهيّة، و لمّا كان العقل الّذي به تميّز الإنسان عن الأنعام و سائر الحيوان معزولا عن إدراك هذه الأسرار كاد أن لا يكون بين الإنسان و بين مركوبه فرق في الورود إلى البيت و سائر المناسك و فيه بعد، و قوله و يألهون إليه ولوه الحمام إشارة إلى شوق الخلق في كلّ عام إلى ورود البيت كما يشتاق إليه الحمام الّذي يسكنه، و قد راعى عليه السّلام في هذه القرائن الأربع السجع.

 

قوله جعله علامة لتواضعهم لعظمته و إذعانهم لعزّته

إشارة إلى ما ذكرنا من أنّ العقل لمّا لم يكن ليهتدي إلى أسرار هذه الأعمال لم يكن الباعث عليها إلّا الأمر المجرّد و قصد امتثاله من حيث هو واجب الإتّباع فقط، و فيه كمال الرقّ و خلوص الانقياد فمن فعل ما أمر به من أعمال الحجّ كذلك فهو المخلص الّذي ظهرت عليه علامة المخلصين و المذعن المتواضع لجلال ربّ العالمين، و لمّا كان الحقّ سبحانه عالم الغيب و الشهادة لم يمكن أن يقال إنّ تلك العلامة ممّا يستفيد بها علما بأحوال عبيده من طاعتهم و معصيتهم فإذن يتعيّن أن يكون معناها راجعا إلى ما به تتميّز النفوس الكاملة الّتي انقادت لأوامر اللّه و أخلصت له العبادة عمّا عداها فإنّ هذه العبادة من أشرف ما استعدّت به النفس الإنسانيّة و إفادتها كمالا تميّزت به عن أبناء نوعها فهي إذن علامة بها تميّز من اتّسم بها عن غيره،

 

و قوله و اختار من خلقه سماعا أجابوا إليه دعوته

إشارة إلى الحاج في قوله تعالى «وَ أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَ عَلى‏ كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ»«» و في الآثار أنّ إبراهيم عليه السّلام لمّا فرغ من بناء البيت جاءه جبرئيل عليه السّلام فأمره أن يؤذّن الناس بالحجّ فقال إبراهيم عليه السّلام: يا ربّ و ما يبلغ صوتى قال اللّه أذّن و عليّ البلاغ فعلا إبراهيم عليه السّلام المقام و أشرف به حتّى صار كأطول الجبال و أقبل بوجهه يمينا و شمالا و شرقا و غربا و نادى يا أيّها الناس كتب عليكم الحجّ إلى البيت العتيق فأجيبوا ربّكم فأجابه من كان في أصلاب الرجال و أرحام النساء لبيّك اللهمّ لبّيك، و في الأثر إشارات لطيفة فإنّه يحتمل أن يراد بقول إبراهيم و ما يبلغ صوتي إشارة إلى حكم الوهم الإنسانيّ باستبعاد عموم هذه الدعوة و انقياد الخلق لها و قصور الطبع عن ذلك، و بقول الحقّ سبحانه و علىّ البلاغ الإشارة إلى تأييد اللّه سبحانه بما أوحى إليه من العلم ببسط دعوته و إبلاغها إلى من علم بلوغها إليه، و بعلوّ إبراهيم المقام حتّى صار كأطول الجبال، و إقباله بوجهه يمينا و شمالا و شرقا و غربا و دعوته إشارة إلى اجتهاده في التبليغ للدعوة و جذب الخلق إلى هذه العبادة بحسب إمكانه و استعانته في ذلك بأولياء اللّه التابعين له، و أمّا إجابة من كان في أصلاب الرجال و أرحام النساء له فإشارة إلى ما كتبه اللّه سبحانه بقلم قضائه في اللوح المحفوظ من طاعة الخلق و إجابتهم لهذه الدعوة على لسان إبراهيم عليه السّلام و من بعده من الأنبياء و هم المراد بالسماع الّذين اختارهم اللّه سبحانه من خلقه حتّى أجابوا دعوته إلى بيته بحجّهم إليه بعد ما أهّلهم لذلك قرنا بعد قرن و امّة بعد اخرى،

 

و قوله و صدّقوا كلمته

إشاره إلى مطابقة أفعالهم لما جاءت به الأنبياء من كلام اللّه سبحانه و عدم مخالفتهم و تكذيبهم لهم، و قوله و وقفوا مواقف الأنبياء إشارة إلى متابعتهم لهم أيضا في مواقف الحجّ و في ذكر الأنبياء هاهنا استدراج حسن للطباع اللطيفة المتشوّقة إلى لقاء اللّه و التشبّه بأنبيائه عليهم السّلام و ملائكته

 

و قوله و تشبّهوا بملائكته المطيفين بعرشه

إشارة إلى ما ذكرناه من أنّ البيت المعمور بإزاء الكعبة في السماء و أنّ طواف الخلق بهذا البيت يشبه طواف الملائكة و إحداقهم بالبيت المعمور و العرش فهم متشبّهون بالملائكة في الطواف، و الغاية أن يترقّي من أخذ العناية بيده من هذا الطواف إلى أن يصير من الطائفين بالعرش و البيت المعمور،

 

و قوله يحرزون الأرباح في متجر عبادته و يبادرون عنده موعد مغفرته

شبّه عليه السّلام العبادة بالبضاعة الّتي يتّجر بها فالتاجر هو النفس و رأس المال هو العقل، و وجوه تصرّفاته حركاته و سكناته الحسيّة و العقليّة المطلوبة منه بالأوامر الشرعيّة و العقليّة و الأرباح هي ثواب اللّه و ما أعدّه للمحسنين في جنّات النعيم و أقبح بمملوك يعدّ تصرّفه في خدمة سيّده متجرا يطلب به التكسّب و الربح و أحسن به إذا نظر إلى أنّه أهل العبادة فحذف جميع الأعراض و الخواطر في خدمته عن درجة الاعتبار و جعلها خالصة له لأنّه هو فأمّا كلامه عليه السّلام بذكر الربح هاهنا فاستدراج حسن لطباع الخلق بما يفهمونه و يميلون إليه من حبّ الأرباح في الحركات ليشتاقوا فيعبدوا، و قوله و جعله للإسلام علما أي علما للطريق إلى اللّه و سلوك صراطه المستقيم، و هي الإسلام الحقيقيّ يهتدي عليها كما يهتدي بالعلم المرفوع‏ للعسكر و المارّة على مقاصدهم،

 

و قوله فرض عليكم حجّة و أوجب حقّه و كتب عليكم وفادته إلى آخره

تأكيد لما سبق و ذكر للخطاب الموجب للحجّ و هو قوله «وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا»«» و باللّه العصمة و التوفيق.

 

شرح ابن میثم بحرانی جلد اول

Show More

دیدگاهتان را بنویسید

نشانی ایمیل شما منتشر نخواهد شد. بخش‌های موردنیاز علامت‌گذاری شده‌اند *

این سایت از اکیسمت برای کاهش هرزنامه استفاده می کند. بیاموزید که چگونه اطلاعات دیدگاه های شما پردازش می‌شوند.

Back to top button
-+=