و من خطبة له عليه السّلام يجرى هذا المجرى.
القسم الأول
وَ ذَلِكَ يَوْمٌ يَجْمَعُ اللَّهُ فِيهِ الْأَوَّلِينَ وَ الْآخِرِينَ- لِنِقَاشِ الْحِسَابِ وَ جَزَاءِ الْأَعْمَالِ- خُضُوعاً قِيَاماً قَدْ أَلْجَمَهُمُ الْعَرَقُ- وَ رَجَفَتْ بِهِمُ الْأَرْضُ- فَأَحْسَنُهُمْ حَالًا مَنْ وَجَدَ لِقَدَمَيْهِ مَوْضِعاً- وَ لِنَفْسِهِ مُتَّسَعاً
اللغة
أقول: أشار باليوم إلى يوم القيامة. و نقاش الحساب: المناقشة و التدقيق فيه.
المعنى
و قد عرفت كيفيّة ذلك اليوم فيما سبق و نحوه قوله تعالى «يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ»«» الآية. و خضوعا كقوله تعالى «خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ»«» و قياما كقوله تعالى «يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ» و هما كناية عن كمال براءتهم من حولهم و قوّتهم إذن و تيقّنهم أن لا سلطان إلّا سلطانه. و ألجمهم العرق: بلغ منهم مكان اللجام، و هو كناية عن بلوغهم الغاية من الجهد. إذ كانت غاية التاعب أن يكثر عرقه.
و قوله: و رجفت بهم الأرض.
كقوله تعالى «يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ»«» و «إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا وَ بُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا»«» قال بعضهم: المراد بالأرض الراجفة و المرتجّة أرض القلوب عن نزول خشية اللّه عليها و شدّة أهوال يوم القيامة، و قال آخرون: إنّ ذلك صرف الكلام عن ظاهره من غير ضرورة فلا يجوز. إذ كلّ ما أخبر الصادق عنه من جزئيّات أحوال القيامة امور ممكنة، و القدرة الإلهيّة وافية بها.
و قوله: فأحسنهم حالًا من وجد لقدميه موضعا و لنفسه متّسعا.
قيل المراد من وجدت لقدما عقله موضعا من معرفة اللّه تعالى و عبادته، و من وجد لنفسه متّسعا في حظائر قدس اللّه وسعة رحمته. و ظاهر أنّ أولئك أحسن الخلق حالا يوم القيامة، و حمله على ظاهره موافقة لظاهر الشريعة ممكن.
القسم الثاني
و منها: فِتَنٌ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ- لَا تَقُومُ لَهَا قَائِمَةٌ وَ لَا تُرَدُّ لَهَا رَايَةٌ- تَأْتِيكُمْ مَزْمُومَةً مَرْحُولَةً- يَحْفِزُهَا قَائِدُهَا وَ يَجْهَدُهَا رَاكِبُهَا- أَهْلُهَا قَوْمٌ شَدِيدٌ كَلَبُهُمْ- قَلِيلٌ سَلَبُهُمْ- يُجَاهِدُهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَوْمٌ أَذِلَّةٌ عِنْدَ الْمُتَكَبِّرِينَ- فِي الْأَرْضِ مَجْهُولُونَ- وَ فِي السَّمَاءِ مَعْرُوفُونَ- فَوَيْلٌ لَكِ يَا بَصْرَةُ عِنْدَ ذَلِكِ- مِنْ جَيْشٍ مِنْ نِقَمِ اللَّهِ- لَا رَهَجَ لَهُ وَ لَا حَسَّ- وَ سَيُبْتَلَى أَهْلُكِ بِالْمَوْتِ الْأَحْمَرِ- وَ الْجُوعِ الْأَغْبَرِ
اللغة
أقول: يحفزها: يدفعها من خلف. و الكلب: الشرّ. و الأذّلة: جمع ذليل. و الرهج: الغبار. و الحسّ: الصوت الخفىّ.
و قد نبّه في هذا الفصل على ما سيقع بعده من الفتن، و يخصّ منها فتنة صاحب الزنج بالبصرة
و شبّه تلك الفتن بقطع الليل المظلم، و وجه الشبه ظاهر. و لا تقوم لها قائمة: أى لا يمكن مقابلتها بما يقاومها و يدفعها، و إنّما أنّث لكون القائمة في مقابلة الفتنة. و قيل: لا تثبت لها قائمة فرس، و استعار لفظ الزمام و الرحل و الحفز و القائد و الراكب و جهده لها ملاحظة لشبهها بالناقة، و كنّى بالزمام و الرحل عن تمام إعداد الفتنة و تعبيتها كما أنّ كمال الناقة للركوب أن تكون مزمومة مرحولة، و بقائدها عن أعوانها، و براكبها عن منشئها المتبوع فيها، و بحفزها و جهدها عن سرعتهم فيها، و أهلها إشارة إلى الزنج و ظاهر شدّة كلبهم و قلّة سلبهم. إذ يكونوا أصحاب حرب و عدّة و خيل كما يعرف ذلك من قصّتهم المشهورة كما سنذكر طرفاً منها فيما يستقبل من كلامه في فصل آخر، و قد وصف مقاتليهم في اللّه بكونهم أذلّة عند المتكبّرين، و كونهم مجهولين في الأرض: أى ليسوا من أبناء الدنيا المشهورين بنعيمها، و كونهم معروفين في السماء هو إشارة إلى كونهم من أهل العلم و الايمان يعرفهم ربّهم بطاعتهم و تعرفهم ملائكته بعبادة ربّهم ثمّ أردف ذلك بأخبار البصرة مخاطبا لها و الخطاب لأهلها بما سيقع بها من فتنة الزنج، و ظاهر أنّه لم يكن لهم غبار و لا أصوات. إذ لم يكونوا أهل خيل و لا قعقعة لجم فإذن لا رهج لهم و لا حسّ، و ظاهر كونهم من نقم اللّه للعصاة و إن عمّت الفتنة. إذ قلّما تخصّ العقوبة النازلة بقوم بعضهم كما قال تعالى «وَ اتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً»«»
و قوله: و سيبتلى أهلك بالموت الأحمر و الجوع الأغبر.
قيل: فالموت الأحمر إشارة إلى قتلهم بالسيف من قبل الزنج أو من قبل غيرهم، و وصفه بالحمرة كناية عن شدّته و ذلك لأنّ أشدّ الموت ما كان بسفك الدم. و أقول: قد فسّره عليه السّلام بهلاكهم من قبل الغرق كما نحكيه عنه و هو أيضا في غاية الشدّة لاستلزامه زهوق الروح، و كذلك وصف الأغبر لأنّ أشدّ الجوع ما أغبرّ معه الوجه و غبر السحنة الصافية لقلّة مادّة الغذاء أو ردائه فذلك سمّى أغبر، و قيل: لأنّه يلصق بالغبراء و هى الأرض، و قد أشار إلى هذه الفتنة في فصل من خطبته خطب بها عند فراغه من حرب البصرة و فتحها و هى خطبة طويلة حكينا منها فصولا تتعلّق بالملاحم.
من ذلك فصل يتضمن حال غرق البصرة. فعند فراغه عليه السّلام من ذلك الفصل قام إليه الأحنف بن قيس فقال له: يا أمير المؤمنين و متى يكون ذلك. قال: يا أبا بحر إنّك لن تدرك ذلك الزمان و إنّ بينك و بينه لقرونا و لكن ليبلغ الشاهد منكم الغائب عنكم لكى يبلغوا إخوانهم إذا هم رأوا البصرة قد تحوّلت أخصاصها دورا و آجامها قصورا فالهرب الهرب فإنّه لا بصيرة لكم يومئذ ثمّ التفت عن يمينه فقال: كم بينكم و بين الإبلّة. فقال له المنذر بن الجارود: فداك أبى و أمّى أربعة فراسخ. قال له صدّقت فو الّذى بعث محمّدا و أكرمه بالنبوّة و خصّه بالرسالة و عجّل بروحه إلى الجنّة لقد سمعت منه كما تسمعون منّى أن قال: يا علىّ هل علمت أن بين الّتى تسمّى البصرة و الّتى تسمّى الإبلّة أربعة فراسخ و قد يكون في الّتى تسمّى الإبلّة موضع أصحاب القشور يقتل في ذلك الموضع من امّتى سبعون ألفا شهيدهم يومئذ بمنزلة شهداء بدر فقال له المنذر: يا أمير المؤمنين و من يقتلهم فداك أبى و امى قال: يقتلهم إخوان الجنّ و هم اجيل كأنّهم الشياطين سود ألوانهم منتنة أرواحهم شديد كلبهم قليل سلبهم طوبى لمن قتلهم و طوبى لمن قتلوه ينفر لجهادهم في ذلك الزمان قوم هم أذلّة عند المتكبّرين من أهل ذلك الزمان مجهولون في الأرض معروفون في السماء تبكى السماء عليهم و سكّانها و الأرض و سكّانها ثمّ هملت عيناه بالبكاء ثمّ قال: ويحك يا بصرة ويلك يا بصرة من جيش لا رهج له و لا حسّ قال له المنذر يا امير المؤمنين: و ما الّذي يصيبهم من قبل الغرق ممّا ذكرت، و ما الويح، و ما الويل فقال: هما بابان فالويح باب الزحمة، و الويل باب العذاب يا ابن الجارود نعم ثارات عظيمة منها عصبة يقتل بعضها بعضا، و منها فتنة تكون بها خراب منازل و خراب ديار و انتهاك أموال و قتل رجال و سبى نساء يذبّحن ذبحا يا ويل أمرهن حديث عجب منها أن يستحلّ بها الدجّال الأكبر الأعور الممسوح العين اليمنى و الأخرى كأنّها ممزوجة بالدم لكأنّها في الحمرة علقة تأتى الحدقة كهيئة حبّة العنب الطافية على الماء فيتبعه من أهلها عدّة، من قتل بالإبلّة من الشهداء أناجيلهم في صدورهم يقتل من يقتل و يهرب من يهرب ثمّ رجف ثمّ قذف ثمّ خسف ثمّ مسخ ثمّ الجوع الأغبر ثمّ الموت الأحمر و هو الغرق.
يا منذر إنّ للبصرة ثلاثة أسماء سوى البصرة في الزبر الأوّل لا يعلمها إلّا العلماء منها الخريبة، و منها تدمر، و منها المؤتفكة يا منذر و الّذي فلق الحبّة و برىء النسمة لو أشاء لأخبرتكم بخراب العرصات عرصة عرصة و متى تخرب و متى تعمر بعد خرابها إلى يوم القيامة، و إنّ عندى من ذلك علما جمّا و إن تسألونى تجدونى به عالما لا أخطىء منه علما و لا وافيا، و لقد استودعت علم القرون الأولى و ما كائن إلى يوم القيامة. قال: فقام إليه رجل فقال يا أمير المؤمنين: أخبرنى من أهل الجماعة و من أهل الفرقة و من أهل السنّة و من أهل البدعة فقال: ويحك إذا سألتنى فافهم عنّى و لا عليك أن لا تسأل أحدا بعدى: أمّا أهل الجماعة فأنا و من اتّبعنى و إن قلّوا و ذلك الحقّ عن أمر اللّه و أمر رسوله، و أمّا أهل الفرقة فالمخالفون لى و لمن اتّبعنى و إن كثروا، و أمّا أهل السنّة فالمتمسّكون بما سنّه اللّه و رسوله لا العاملون برأيهم و أهوائهم و إن كثروا،و قد مضى الفوج الأوّل و بقيت أفواج و على اللّه قصمها و استيصالها عن جديد الأرض. و باللّه التوفيق.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحهى14